العودة الى الصفحة السابقة
المسيح مخلص العالم

المسيح مخلص العالم

تفسير إنجيل لوقا

عبد المسيح وزملاؤه


Bibliography

المسيح مخلص العالم. عبد المسيح وزملاؤه. Copyright © 2006 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى. 1973. SPB 3600 ARA. English title: Christ the Saviour of the World (Luke, combined volume). German title: Christus der Heiland der Welt (Sammelband Lukas) . Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 70007 Stuttgart Germany http://www.call-of-hope.com .

المسيح مخلص العالم

(مقدمة لإنجيل لوقا)

إن لغتنا البشرية لا تتسع غنى مخلص العالم. فلهذا قاد الروح القدس بعض الرجال ليوضحوا الإنجيل الفريد بطرق متنوعة، ليصوروا الشخص يسوع المسيح من جهات مختلفة، ويعلنوا انتصاره على الضيقات والأمراض والخطايا والموت والشيطان وغضب الله.

وفي إرشاد الروح الموحى وضح البشير متى لليهود، ان يسوع الناصري من الجليل المحتقرة هو بالحقيقة المسيح الموعود في العهد القديم، الذي أتم بسيرته وقيامته وعود ونواميس الله.

والبشير مرقس تلميذ بطرس، فسر للمؤمنين في روما المحاطين بألوف الآلهة والأصنام، ان المسيح يسوع هو ابن الله الحق ورب الأرباب المالك على كل السلطات المضادة لله.

ولوقا الطبيب اليوناني، أبرز المسيح مخلصا رحيما لكل البشر، الذي أسس بمجيئه سلام الله على الأرض وعصرا جديدا للمسكونة.

والبشير يوحنا أعلن في كلمات الفلسفة اليونانية أعماق محبة الله المتجسدة في المسيح، لنحصل على الحياة الأبدية بواسطة الإيمان الحي.

فكل واحد من هؤلاء البشيرين الأربعة شهد لحلقة معينة من أشخاص وأحوال محدودة، ان يسوع المسيح هو جواب الله القاطع لأسئلتهم العديدة ومشاكلهم العنيفة.

من هو البشير لوقا؟

كان البشيرون الثلاثة الآخرون من مؤمني اليهود، المتكلمين باللغة الآرامية، وذوي الفكر العبراني. وثلاثتهم ترجموا كلمات يسوع وحوادث حياته الى اللغة اليونانية. أما لوقا البشير فكان يونانيا وثنيا من الأصل، وغير مرتبط بحضارة العهد القديم فالطبيب الخبير والمسافر المثقف أجاد بإيضاح رسالة الإنجيل في لغة يونانية قوية، حيث فاقت بلاغة لوقا وبلاغة الرسول بولس أحيانا.

ربما عاش لوقا مدة طويلة في مدينة أنطاكية، واشترك في نهوض الكنيسة المؤلفة من مؤمنين أصلهم وثنيون (أعمال الرسل 11: 20-24) فعرف بولس منذ بداية رحلاته التبشيرية، ورافقه شخصيا في رحلته الثانية من ترواس إلى فيلبي، حيث بقي هناك لتقوية الكيسة الجديدة (أعمال الرسل 16: 10) ولما عاد بولس من رحلته الثالثة ومر بمدينة فيلبي (أعمال الرسل 20: 5) أخذ أخاه في الروح معه بسفرته الطويلة إلى أورشليم (أعمال الرسل 21: 17) حيث وجد أخاه لوقا خلال مدة سجن بولس سنة 58-60 وقتاً وفيراً ليجمع التاصيل لإنجيله. وأخيرا رافق الطبيب لوقا الرسول بولس في سفرته الأخيرة الهائجة الى روما (أعمال الرسل 27-28) وبقي عنده حتى موته شهيدا. والأحداث أثناء هذه الفترات الثلاث في شركته مع الرسول بولس وضحها بصيغة «نحن» كطالب وشاهد عيان ورفيق لبولس.

وبولس نفسه ذكر اسم لوقا في رسائله ثلاث مرات وسماه حبيبه ومعاونه الأمين (كولوسي 4: 14 فيلبي 2: 4 و1تيموثاوس 4: 11) وهذا يوضح لنا ان أفكار بولس الأساسية عن تبريرنا بالنعمة أثرت تأثيرا عميقا في انجيل لوقا، الذي شهد بالخلاص الكامل لكل الشر (2: 14 و3: 4-6 و24: 26) وامتياز النعمة هذا نحصل عليه بالإيمان فقط (7: 50 و15: 1 و17: 10 و18: 14 و19: 1-10 و23: 34 و43) ومن يدخل الى هذه النعمة يجد فيها ينبوع الفرح السرمدي (1: 46 و47 و6: 23 و13: 17 و15: 5-10 و23 و19: 6 و24: 41 و52).

كيف ألف لوقا انجيله؟

لقد أراد الطبيب الحكيم أن يعرف حياة المسيح بدقة تامة، أكثر مما سمع من بولس والمسيحيين الأولين في انطاكية، فرافق معلمه سنة 58 إلى أورشليم والتقى بيعقوب أخي يسوع، الذي عاشره كطفل في عائلة واحدة. واستفهم البشير أيضا بطرس والرسل الآخرن ومن شهود العيان الكثيرين غيرهم لحياة يسوع عن تفصيلات من اختباراتهم مع الرب الرحيم (لوقا 24: 48 أعمال الرسل 1: 8 و21 يوحنا 15: 26).

وقبل كل شيء وجد لوقا في أورشليم مجموعة كتابية من أقوال وحوادث يسوع، التي جمعت بإشراف الرسل وترجمت سابقا ربما من متى واندراوس وفيلبس الى اليونانية لأجل تثبيت المؤمنين من الأصل اليهودي المتغربين الذين لم يتعلموا الآرامية في مواطنهم لبعيدة (أعمال الرسل 2: 42 يوحنا 12: 20 لوقا 1: 1-4). واستخرج لوقا حرفيا كثيرا مما تضمنه هذا النبع المشترك للأناجيل الثلاثة الأولى والذي للأسف لا نملكه اليوم ولكنه يظهر أمامنا جلياً في هذه الأناجيل الثلاثة الأولى. فلهذا يتفق خبر لوقا بدقة م الإنجيليين الأولين.

وميزة انجيل لوقا هي أن واصف شخص يسوع هو طبيب مختبر. فكان لديه الاهتمام الزائد لمعرفة أعجوبة حبل يسوع من الروح القدس وولادته من مريم العذراء، التي قابلها شخصياً، على الأغلب واستفهم منها هذه الأحداث. فهذه النعمة خصوصية، ان الروح القس أرشد طبيبا ليكتشف بجهوده هذا السر الكبير، ويغطي الحلقة المجهولة في تاريخ يسوع المسيح.

ونجد عند لوقا أيضاً وصفاً خبيراً لمعجزات يسوع لأن هذا بالتمام ما لم يقدر الطبيب الحكيم أن يعمله تلقائيا: شفاء العمي، تطهير البرص وإقامة الموتى. وبعين بصيرة يلفت لوقا أنظارنا الى شفقة المسيح الكبيرة ورحمته اللطيفة لنرى مصدر سلطانه لنابع من الرحمة الإلهية فقط.

والاهتمام الزائد لدى الطبيب لوقا كان بجسد المقام من بين الأموات حتى استفهم من شهود العيان تفاصيل غريبة لم نجدها في الأناجيل الأخرى بهذا الوضوح: ان المسيح طلب من تلاميذه لمسه ليشعروا بأيديهم انه ليس شبحا بل له جسد ودم. وأكل أمام أعنهم، ليغلب عدم إيمانهم.

من هو مستلم هذه الرسالة؟

ويوضح لوقا اسم آخذ الرسالة وهو ثاوفيلوس (محب الله) ويلقبه (عزيز). ويعني في اليونانية آنذاك نائب وسعادة وبك، كما يسمى فيلكس الوالي الروماي في سوريه. وفستوس بعده أيضا (أعمال الرسل 23: 20 و24: 3 و26: 25) ربما كان ثاوفيلوس موظفاً رومانيا كبيراً وحكم مدة أنطاكية وعرف هذه المنطقة وإيطالية بدقة. ولكنه كان محتاجاً إلى إيضاحات واسعة، لكل محلات فلسطين واليونان وعاداتها وتقاليدها الغريبة له. وربما كان ثاوفيلوس قريباً للكنيسة الأولى في أنطاكية ومنحها استخدام قصوره لاجتماعات الؤمنين كما نجد في سيرة الأحاديث. وبعدئذ نقل إلى روما واشتاق للمعرفة بدقة عن تطور الإنجيل من أورشليم إلى روما العاصمة. وهذا هو الشعار التاريخي لخبر لوقا الذي يتألف من جزئين أولهما إنجيله. وفيه يخبرنا كيف كمل مخلص العالم طريقه من بيت لحم لى الناصرة، إلى كفرناحوم إلى أورشليم وهناك تم خلاص العالم.

وفي الجزء الثاني لأخباره - أعمال الرسل - يرينا لوقا كيف انتشر ملكوت الله فجأة من أورشليم إلى سماريه، إلى أنطاكية إلى آسيا الصغرى فاليونان فروما. وكان مستعدا أن يصل إلى أسبانيا أيضا.

وبهذه المقاصد، لم ينشئ لوقا إنجيلا محدودا للمؤمنين من الأمة اليهودية، بل بشر كل الشعوب بالخلاص الإلهي، بأوسع طريقة كما فعل بولس في دوره. فلم يبرز لوقا يسوع مسيحاً موعوداً لليهود فقط، بل مخلصا ومنشئاً ومالكاً للعالم، معطياً السلام لمسكونة كلها، ومبشراً بمسرة الله للخطاة التائبين. لأن المخلص الحق الوحيد، غلب كل الضيقات والأمراض وسلطة الموت مع علته التي هي الخطية، وتجارب الشيطان التي تدفعنا لنعصي الله، فالمسيح هو المنتصر ورب السلام لكل الشعوب. هذا هو شعار إنجيل لوق.

ومن العجيب أن انجيل لوقا وأعمال الرسل، لم يكتبا لأجل نشر عام، بل لبنيان شخص واحد وتثبيته في الإيمان، ولكي ينال هذا الموظف العالي بصيرة جديدة لواجباته الاجتماعية، ويعمل بالحق والرحمة تجاه الفقراء والمساكين، ويحدد طيش الأغنياء، الذي يستحقون غضب الله لقساوة قلوبهم. فيرينا لوقا أن المسيح لا يخلصنا من خطايانا فقط، بل يؤهلنا لممارسة المحبة والمساعدة للمساكين أيضا. فنعلم أن إنجيل لوقا له ميزة اجتماعية عملية.

تنظيم انجيل لوقا

  • ظهور المسيح (1: 1-4: 13)

  • عمله في منطقة الجليل (4: 14-9: 50)

  • سفرته إلى أورشليم (9: 51-18: 30)

  • عمله في أورشليم والحوادث حتى موته (18: 31-23-56)

  • أخبار قيامته (24)

إن اتبعت بواسطة تعمقك في إنجيل لوقا خطوات يسوع تنال قوة عظيمة ودافعا إلهيا لتبشير الأمم لأن لوقا كان بشيرا مع الرسول بولس ممتلئ المحبة والروح القدس. فصل واصغ لما يقوله لك روح الرب بواسطة خادمه لوقا.

الافتتاحية

الأصحاح الأول: 1 إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي ٱلأُمُورِ ٱلْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، 2 كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا ٱلَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ ٱلْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ، 3 رَأيْتُ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ ٱلأَّوَلِ بِتَدْقِيقٍ، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى ٱلتَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، 4 لِتَعْرِفَ صِحَّةَ ٱلْكَلامِ ٱلَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ.

إن مخلص العالم، ولد حقاً وعاش بيننا وصلب علناً وقام من بين الأموات وصعد إلى السماء. هذه هي الأمور المتيقنة عند أتباعه، الذي حصلوا بإيمانهم على هبة الروح القدس العظيم.

وهذا الروح نبع منهم، ودفعهم إلى نشر بشرى الخلاص لكل أنحاء العالم. فكثيرون كتبوا رسائل وألفوا كتباً، ليوضحوا الشخص الفريد يسوع المسيح لمستمعيهم. وكل خبر حق عن يسوع يعني إنجيلاً، أكثر من المعنى الأصلي للكلمة: الخبر المفرح في بيت القصر عند ولادة ابنه، أو نصرة جيشه على الأعداء. فلك الحق والامتياز أن تنشر الخبر عن ولادة وانتصار المسيح في العالم.

وبعدما سمع الوالي الروماني ثاوفيلوس كثيراً عن ملك الملوك ورب الأرباب أراد أن يعرف كل شيء بدقة عن كل التواريخ الحادثة بين ولادة الرب وموته وقيامته الفريدة على التوالي. فسافر لوقا الطبيب اليوناني لمقابلة شهود العيان في شركة المسيح، استفهم منهم عن كل التفاصيل. ولم يبتدئ بإنجيله من وقت معمودية المسيح على يد يوحنا المعمدان، بل تقصى أسرار ولادة المسيح بدقة وتابع حياته بانتباه كبير. فإيماننا ليس مبنياً على المثل والآراء الفلسفية، بل على شخص حي أثر على تاريخ البشر تأثيراً مكشوفاً واضحاً.

ووجد لوقا مجموعة من أقوال يسوع التي جمعها الرسل خدام الكلمة وترجموها من الآرامية إلى اليونانية بكل دقة وانتباه. ولا يوجد لدينا اليوم أم الأناجيل هذه في اللغة الآرامية، ولكنه تظهر في الأناجيل الثلاثة الأولى جلية بقوة ومجد عظيم. وأضف لوقا إلى هذه الأقوال الاخبار والأمثلة من الشهود المعاينين، الذين زارهم وفتش عنهم، حتى استخرج بواسطة اجتهاده كلمات المسيح الثمينة والتي لم توجد في الأناجيل الأخرى.

ونشكر يسوع المسيح ربنا أنه أرشد بروحه القدوس الطبيب لوقا اليوناني، ليكتب إنجيله، لأن في عمله المجتهد يتحد العمل الموضوعي بدقة مع قوة الوحي، وبصيرة المسافر العالمي مع الإيمان البسيط في رحمة الله، الذي هو أساس سلام المسيح لكل الناس.

وكتب لوقا إنجيله ليثبت الوالي الطالب الروحي في أحداث المسيح، ليس تاريخياً فقط، بل روحياً أولاً، ليمتلئ بمسرة الله وفرحه. وهذا ما تكسبه بدراسة الإنجيل إن قرأته بصلاة متواصلة.

الصلاة: أيها الرب يسوع نشكرك لأنك قمت من بين الأموات، وأنت حي ومالك مع الآب في جوهر واحد. ونعظمك لأنك أرشدت عبدك لوقا وكثيرين ليكتبوا إنجيلك بدقة. ساعدنا لنسمعك في أقوالهم، ونفهم مقاصدك، ونؤمن بلطفك، ونتمم إرادتك، وننق الخلاص للآخرين. ونخبرهم أنك أنت مخلص العالم، الذي يبشرنا شخصيا في إنجيله الفريد.

أولاً: الحوادث التاريخية حول ولادة المسيح (لوقا 1: 5 - 2: 52)

1 - إعلان ولادة يوحنا المعمدان (1: 5 - 25)

1: 5 كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ ٱلْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ ٱسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، وَٱمْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هٰارُونَ وَٱسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ. 6 وَكَانَا كِلاهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ ٱللّٰهِ، سَاِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا ٱلرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلا لَوْمٍ. 7 وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ، إِذْ كَانَتْ أَلِيصَابَاتُ عَاقِراً. وَكَانَا كِلاهُمَا مُتَقَدِّمَيْنِ فِي أَيَّامِهِمَا.

هيرودس الأول ملك دموي دكتاتوري، جاء من أدوم وملك على اليهود. وقد ساعد الرومان في معركتهم ببلاد مصر بحيلة وخيانة. فقووه كعميل لهم، فأبغضه شعبه بغضة الموت. وهيرودس اشتهر عند موظفي الرومان، إذ داهن القيصر وبنى مدناً باسمه على النمط ايوناني، ماصاً أموال شعبه الذين أرهبهم رغم بنائه الهيكل المجيد، ليداهنهم أيضاً.

وفي وسط أيام البغضة والاستعمار والتيارات الصاخبة عاش كهنة الله بتواضع. وقدموا الذبائح اليومية إلى الله، ليصالحوا الأمة الخاطئة معه عالمين أن غضب القدوس معلن على كل فجور الناس. وقد عين الملك داود قبل المسيح بألف سنة أربعاً وعشرين فقة. وكل واحدة منها، تقوم أسبوعاً كاملاً ليلاً نهاراً بالخدمات أمام الله للتكفير عن الخاطئين. وفرقة أبيا هي الفرقة الثامنة المعتدلة الرتبة، وغير المسؤولة عن إدارة كل الطقوس الكهنوتية.

فزكريا الكاهن واسمه يعني الله يتذكر، كان قد تزوج بامرأته أليصابات ومعنى اسمها، الله حلف في أمانته. وهي من أرومة كهنوتية أصيلة، ترجع إلى هرون رئيس الكهنة، الذي كان أخاً لموسى. فعاشت عائلة زكريا ببركات من تبرير الذبائح اليومية، لأنه ليس إنسان باراً من تلقاء نفسه.

وتقواهما ومحبتهما لله، ظهرت في سلوك حكيم حسب الناموس وتفسيره. وهكذا عاشا متواضعين مصليين خادمين، فأكرمهما الجيران وأحبوهما شاعرين أن هذه العائلة تصدر منها بركة الرب إلى الآخرين. وحيث يكون الرب محور الزواج، فهناك تنبع نعمة فوق نعمةمن الزوجين إلى من حولهما.

ولا يتحقق التقديس في الإنسان، بلا حفظ الوصايا ولا بر بلا ذبيحة. وبواسطة هذين المبدأين من العهد القديم التقديس والتبرير، يقودنا لوقا إلى الإيمان في العهد الجديد، الذي هو أمام القديم، لأن المسيح بررنا في ذبيحته. والروح القدس، يقدسنالحفظ الوصايا.

وقد ابتدأ لوقا إنجيله منطلقاً من قصة حول الهيكل، وأنهاها بالأصحاح 24: 53 ضمن الهيكل أيضاً، خاشعاً تجاه مسكن الله في العهد القديم، إلى أن رفض اليهود المصالحة في المسيح. فدمر الرومان الهيكل نهائياً. بعدما فارقه الله حسب النبوة في سفر حزقيال.

وشعر زكريا وأليصابات خلال صلواتهما بغضب الله الآتي مراراً كثيرة. لأنه لم يمنحهما أولاداً، فتألما من عزلتهما في شخيوختهما، واعتبرا عقمهما عاراً عليهما. ولكن على الخصوص في هذا الانكسار اليومي، بقيا بارين ولم يتبخترا ببرهما الشخصي، بل ألقيا رجاءهما بالتمام على النعمة. ولا يترك الله الراجي المتواضع، بل يعرف صراخ قلبه ويستجيب له في حينه.

الصلاة: أيها الرب، نشكرك لأجل قديسيك في العهد القديم، الذين سلكوا أمامك منكسري القلوب، وآمنوا بتقديسهم بواسطة الذبائح. اغفر لنا استكبارنا وساعدنا في غضبك الآتي، لأجل ذبيحة المسيح وقوة الروح القدس.

1:8 فَبَيْنَمَا هُوَ يَكْهَنُ فِي نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ أَمَامَ ٱللّٰهِ، 9 حَسَبَ عَادَةِ ٱلْكَهَنُوتِ، أَصَابَتْهُ ٱلْقُرْعَةُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى هَيْكَلِ ٱلرَّبِّ وَيُبَخِّرَ. 10 وَكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ ٱلشَّعْبِ يُصَلُّونَ خَارِجاً وَقْتَ ٱلْبَخُورِ. 11 فَظَهَرَ لَهُ مَلاكُ ٱلرَّبِّ وَاقِفاً عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ ٱلْبَخُورِ. 12 فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا ٱضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ. 13 فَقَالَ لَهُ ٱلْمَلاكُ: «لا تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا، لأَنَ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَٱمْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ٱبْناً وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا. 14 وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَٱبْتِهَاجٌ، وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلادَتِهِ، 15 لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيماً أَمَامَ ٱلرَّبِّ، وَخمْراً وَمُسْكِراً لا يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. 16 وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ إِلَهِهِمْ. 17 وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُّوَتِهِ، لِيَرُدَّقُلُوبَ ٱلآبَاءِ إِلَى ٱلأَبْنَاءِ، وَٱلْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ ٱلأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْباً مُسْتَعِدّاً».

كانت تعقد عبادات جمهورية في هيكل الرب كل يوم في التاسعة صباحاً، قبل تقديم ذبيحة المحرقة. وفي الثالثة ظهراً بعد الانتهاء من الذبيحة نفسها (أعمال الرسل 3: 1). واجتمع في هاتين المناسبتين كثير من المصلين ليمجدوا معاً جلال القدوس. وليسكوا أمامه قلوبهم. وحدث أن الفرقة الكهنوتية الثامنة، قامت أسبوعاً كاملاً في أورشليم ليؤدوا كل خدمات الهيكل.

واختار الرب زكريا بواسطة القرعة للخدمة المحترمة ليقوم بتقديم ذبيحة البخور. فتقدم الشيخ إلى قدس الهيكل، وأوقد على تراتيل الصلوات الجمهورية ذبيحة البخور، رمزاً لصلواتهم وتسبيحاتهم المتصاعدة إلى الرب (مزمور 141: 2 ورؤيا 5: 8 و8: 3 و4) أما الكاهن الخادم، فارتمى إلى الأرض ساجداً لله القريب السميع، ملخصاً بكلمات طقسية الطلبات الجمهورية. وكان له الامتياز أن يقدم طلبات شخصية مقدسة أمام وجه الرب. وقد استجاب الله تنوحات الشيخ بطريقة عجيبة، لأنه فجأة رأى ملاكاً نورانياً في بها مجد واقفاً عن يمين المذبح الفائحة منه رائحة البخور، وسط عتمة الغرفة المقدسة. فاضطرب الكاهن، لأن كل ظهور لشخص روحاني يعني عقوبة ودينونة. فليس بار صالحاً أمام الله من تلقاء نفسه. فلا تطلبن من ربك ظهور الملائكة أو المسيح، بل تب ما دام الوت. وآمن بالمسيح فيملأك بروحه القدوس، الذي هو الله بالذات.

والملاك لم يأت للدينونة، بل بشر زكريا بإجراء عصر نعمة الله. وليس إنسان يستطيع إدراك التغيير المبدئي في خطة ربه. لهذا أرسل الله ملاكاً، ليدرك زكريا الانقلاب الروحي الآتي. فعزى الملاك البهي الكاهن المضطرب، وأمره بعدم الخوف. ونجد هذه العبارة «لا تخف» أو لا تخافوا 365 مرة في الكتاب المقدس. وهي كافية لكل يوم في بحر السنة لكيلا نخاف البتة.

وأثبت المخبر أن الله يستجيب الصلوات ربما متأخراً حسب شعورنا. ولكن بدقة حسب مشيئته المحبة الحكيمة. فاطمئن إذ ليست كلمة أو عبارة من صلواتك منساة. كما لا يهمل الآب الصالح طلبات أولاده الملحة. بل يستجيب في حكمته وحينه. فهل تؤمن باستجاة كل كلمة من طلباتك حسب مشيئة رحمة ربك؟

وكان الملاك شخصاً متكلماً بعبارات مفهومة. وبشرنا بأيام الفرح والابتهاج، لأن معنى الاسم يوحنا المعلن هو «الرب ممتلئ الحنان». وشفى الخالق جسد إليصابات المريض، لتقدر على الحبل. فليت الرب يلمس أجساد الكنائس الجافة، لتمتلئ ويكثر فيها ألاد الله.

وقد تمت بمجيء يوحنا المعمدان كثير من وعود العهد القديم (ملاخي 3: 1 و23 و24 وإشعياء 40: 1-4) ففرح بمجيئه كل الملائكة والمؤمنين، لأن ظهوره يدل على عصر جديد في خليقة الله كلها. وكان يوحنا منذ ولادته منذوراً ومكرساً ومخطوباً لله القدوس، الذي ملأ ساعي ابنه بالروح القدس من بطن أمه، ليستطيع القيام بخدمته الصعبة. فأصبح يوحنا الأعظم من بين كل الذين ولدوا من النساء. وفاق الفلاسفة والملوك والأنبياء. ولكنه لم يكن رغم امتيازه هذا مولوداً من الروح القدس، بل بالطريقة الطبيعية من زكريا أبيه. فالأصغر في ملكوت الله أكبر من يوحنا العظيم.

وقد حضر الله للمعمدان خدمتين. فكان عليه أن يدعو أولاً الجماهير إلى التوبة، لاكتشاف ذنوبهم، وليعمد المنكسرين في الروح بمعمودية الغفران في نهر الأردن. فحرث يوحنا الشعب كله بكلمته الحادة، وأعد القلوب للزرع الجديد. فأضرم نار حركة التوة الكبيرة. وهنا ابتدأ خدمته الثانية أنه لا يسمي نفسه مسيحاً أو مؤسس عصر جديد، بل اعترف بأنه ساع بين يدي الرب الآتي، ليدل الناس عليه. وعلم اليهود كلهم، أن المسيح لا يأتي قبل أن يظهر قبله نبي بروح إيليا. فشهد يسوع بعدئذ جهراً أن روح وقوة يليا عملت في المعمدان علامة لحقيقة المسيح (متى 17: 11-13).

وقاد الروح القدس المستعدين من الشيوخ المتأصلين في تقاليد الناموس إلى تغيير الذهن وانقلاب الفكر، ليتبعوا الجيل الجديد التابع للمسيح داخلين معاً في الأبواب المفتوحة لعصر النعمة.

وكسر الروح القدس بنفس الوقت عناد الشباب العصاة، وقادهم إلى خوف الله والتواضع والإطاعة. وعلى هذا النمط يدعوك روح الرب إلى التوبة وإلى تغيير افكارك، لترضي الله بقبول الإنجيل. فمن يدرك خطاياه ويعترف بها نادماً ويتركها بقبول خلاص المسح، هذا يصبح عضواً حياً في شعب الله، الذي يمتد في كل الشعوب واللغات، ويسمى اليوم المسيحية. فهل أنت خادم الرب في محيطك بارزاً بالتواضع والعمل الفعال؟

الصلاة: نشكرك أيها الرب لإرسال يوحنا المعمدان وافتتاح عصر النعمة بواسطته. قدنا إلى التوبة الحقة لنتغير في أذهاننا ونمتلئ بروحك ونصبح أعضاء حية لشعبك المقدس.

1:18 فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلاكِ: «كَيْفَ أَعْلَمُ هٰذَا، لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَٱمْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟» 19 فَأَجَابَ ٱلْمَلاكُ: «أَنَا جِبْرَائِيلُ ٱلْوَاقِفُ قُدَّامَ ٱللّٰهِ، وَأُرْسِلْتُ لأُكَلِّمكَ وَأُبَشِّرَكَ بِهٰذَا. 20 وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتاً وَلا تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ، إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي يَكُونُ فِيهِ هٰذَا، لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلامِي ٱلَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ». 21 وَكَانَ ٱلشَّعْبُ مُنْتَظرِينَ زَكَرِيَّا وَمُتَعجِّبِينَ مِنْ إِبْطَائِهِ فِي ٱلْهَيْكَلِ. 22 فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، فَفَهِمُوا أَنَّهُ قَدْ رَأَى رُؤْيَا فِي ٱلْهَيْكَلِ. فَكَانَ يُومِئُ إِلَيْهِمْ وَبَقِيَ صَامِتاً. 23 وَلَمَّ كَمِلَتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ مَضَى إِلَى بَيْتِهِ. 24 وَبَعْدَ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ حَبِلَتْ أَلِيصَابَاتُ ٱمْرَأَتُهُ، وَأَخْفَتْ نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ قَائِلَةً: 25 «هٰكَذَا قَدْ فَعَلَ بِيَ ٱلرَّبُّ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي ِيهَا نَظَرَ إِلَيَّ، لِيَنْزِعَ عَارِي بَيْنَ ٱلنَّاسِ».

إن الخالق القدوس يكرم المصلين، ويكلمهم بواسطة الكتاب المقدس وشهوده الأمناء وملائكته الخدام. فهل تؤمن بتكلم العلي، وهل تخضع لدعوته، وهل تقبل مواعيده فرحاً؟ إن الله نفسه يأتي إليك في كلمته. ومن يشك في عباراته يجعل الله كاذباً. ومن يفض كلمته، يرفض الضابط الكل نفسه.

هل تؤمن باستجابة صلواتك. إن زكريا صلى، ولكن خدمته صارت عادة كهنوتية، ولم يصدق بكل قلبه باستجابة طلباته، وآمن باختباراته ومبادئ الطبيعة أكثر من ثقته بالخالق الضابط الكل. فشك الكاهن بكلمة الرب، ولم يدرك مباشرة أن ظهور الملاك هو الكفلة لتحقيق وعد الله. وهكذا لا يثق كثير من المؤمنين بكلمة المسيح كاملة، لأنهم لا يدركون أن المصلوب هو الكفالة الفريدة لإتمام مواعيد أبيه. ليتنا لا نرفض مواعيد الله، فتكون قلوبنا عندئذ كالأحجار الرافضة ما يأتيها من الماء، بل نقبلها ونقبلهاونستلمها رأساً ونشكر لأجلها مؤمنين إيماناً لا يتزعزع أبداً.

وعندما ظهر الشك في نفس الكاهن، غضب الملاك في قداسته قائلاً هأنذا حاضر، ألا تراني وتلاحظ أن الله يكلمك شخصياً بواسطتي، وقد اختارك وفوضك مانحاً لك علامة تفوق عقل الإنسان. إني أمثل جبروت الله آتياً من العرش المجيد إليك أيها الشيخ الخطئ في وسط ظلمات عالمك، لأبشرك بفرح عظيم أفلا تؤمن؟! فهذا يظهر أنك كاهن بقلب قاس رغم ظهور تقواك وصلواتك.

أيها الأخ هل تؤمن بكلام الرب الموجه إليك، أو تقسي قلبك لجذب محبته؟ آمن ولا تتأخر لكيلا تتغير نعمة الله إلى غضب ينسكب على الشاكين البطيئي الإيمان.

وضرب المخبر بالفرح لسان الكاهن الشاك بالخرس ولكنه لم يبده، بل قاصصه بالنعمة ليبقي له فرصة التأمل بمعنى إعلانات سفير الله إليه. وكلمة الله مفعمة النعمة وتخلق حياة من المحبة، وتقاصص العصاة بعنف. ولكن هدف رحمة الله لا تسقط إلى الأبد.فالقدوس ينفذ خطة محبته بدقة. ومخلصك يكمل طريقه معك إن كرست حياتك له ولم تعارضه قصداً.

وبينما كانت المكالمة بين الملاك والكاهن المرتعب، كان الشعب منتظراً في الساحة الخارجية بركة الكاهن، لأن من يعش بدون بركة الوسيط بين العلي والبشر، يسقط في التجرية والدينونة. أما الكاهن المسكين فلم يقدر أن يتكلم بسبب عدم إيمانه. ولم ستطع أن يعطي البركة لأن الله قاصصه. وللأسف فإننا واجدون اليوم كثيراً من خدام الرب، متكلمين بالبلاغة. ولكن كلامهم فارغ وميت لأجل عدم إيمانهم بكلمة الله الكاملة. وبركاتهم مجرد غشاوة طقسية بدون قوة، لأن يد المسيح لا تعضدهم قصاصاً لريائهم ونانيتهم وشكوكهم. فهل تجري منك قوة الله للفرح، أو تشبه كاهناً أخرس صامتاً ضعيفاً، خالياً من روح الله.

الصلاة: أيها الرب حدثني بكلمتك تطلب إيماني بلا قيد ولا شرط اغفر لي كل تأخر بقبول كلمتك وقوِ إيماني القليل لكي أثق بك ثقة كاملة بأنه يولد لك أولاد روحيون كثيرون من أمتنا وينضجون في بركاتك.

2 - إعلان ولادة يسوع المسيح (1: 26 - 38)

1: 26 وَفِي ٱلشَّهْرِ ٱلسَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ ٱلْمَلاكُ مِنَ ٱللّٰهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ ٱسْمُهَا نَاصِرَةُ، 27 إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ ٱسْمُهُ يُوسُفُ. وَٱسْمُ ٱلْعَذرَاءِ مَرْيَمُ. 28 فَدَخَلَ إِلَيْهَا ٱلْمَلاكُ وَقَالَ: «سَلامٌ لَكِ أَيَّتُهَا ٱلْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ». 29 فَلَمَّا رَأَتْهُ ٱضْطَرَبَتْ مِنْ كَلامِهِ، وَفَكَّرَتْ مَا عَسَىأَنْ تَكُونَ هٰذِهِ ٱلتَّحِيَّةُ! 30 فَقَالَ لَهَا ٱلْمَلاكُ: «لا تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ ٱللّٰهِ. 31 وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. 32 هٰذَا يَكُونُ عظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، 33 وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلا يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ».

لا يذكر العهد القديم اسم مدينة الناصرة قط، لأن نصر الله اتضح في العهد الجديد. وسمى اليهود الأتقياء بلاد الجليل باحتقار دائرة الأمم الوثنيين المتخلفين (إشعياء 8: 23 و9: 1). ولكن الله بقصده شاء أن يعلن جلاله في ظلمات كثيفة. فلم يحدث ميء المسيح في الهيكل وضجيجه، بل في البيت البسيط بأطراف البلاد. وملاك الرب لا يعلن قصد القدوس اليوم في العواصم والكنائس فقط بل بنفس الدرجة في أكواخ القرى وخيم البدو ويجد عند المتواضعين البسطاء غالباً إطاعة الإيمان أكثر مما عند الأذكياء والأغنياء والمتدينين.

وكانت مريم عذراء من سبط داود، ولا نعرف كثيراً عن ماضيها. ولكن اسمه يعني بالعبرانية مرارة وحزن. ربما سماها أبوها بذلك حزناً لعدم ولادتها صبي. فهو لم يكن يدرك أن موعد الله أعلن منذ البدء، أن المنتظر الإلهي سيولد من امرأة لا من رجل (تكوين 3: 16) فكانت مريم إنسانة حقاً ممثلة ضيقاتنا وخلاصة أحزاننا. كلنا ضللنا وليس من يعمل صلاحاً ولا واحد. وقال المسيح «ليس أحد صالحاً إلا الله».

ولكن فرق كبير بيننا وبين مريم، لأن قلوبنا قاسية أما قلبها فكان مستعداً للإيمان، ومهيئاً لسماع كلة الله ومطيعاً لروحه. فاستخرجت القوة من التوراة، لتثبت عذراء طاهرة منتظرة هدى الله. ووافقت على خطبتها من يوسف النجار في مدينة الناصرة،الذي هو أيضاً من سلالة الملك داود مثلها. فاستحقا كلاهما المشاركة بمواعيد الله في هذه الأرومة (2 صموئيل 7: 12 و14) ودخل ملاك الله إلى بيت مريم وأعدها لقبول أعجوبة الأعاجيب، لتصغي إلى كلمة الرب وتؤمن بها وتقبلها، لأن المسيح هو مولود من كلم الله فقط التي آمنت العذراء بها.

والكلمتان الأولتان للمبشر الإلهي، تشبه فتح باب السماء على مصراعيه. لأن رسول الله شهد «بالسلام والنعمة» للعالم أساساً للعهد الجديد، ككل الرسل المبشرين بالمسيح في افتتاحات رسائلهم. فأنعم الله على مريم واختارها من كل النساء القابلات لموت، أن تحمل الأزلي تحت قلبها. فكل بركات السماء وملء اللاهوت تمركز وحل في جنينها. فليس المسيح ممتلئاً بالروح القدس في بطن أمه كيوحنا المعمدان ومختاراً من كل البشر، بل أن المسيح مولود مباشرة من الروح القدس وهو الروح المتجسد بالذات بدون دخل رجل. فكان الله مع مريم عملياً. وإلى هذا الحين، كان الله قريباً من البشر ولكن مستتراً. أما مريم فابتدأت الشركة الجديدة القوية مع الله، التي تدلنا على الشهادة أن المسيح يسكن في قلوبنا بواسطة الإيمان.

ولم تكن مريم كاملة في نفسها، كالمسيح الذي تكلم مع الملائكة كخدامه، بل اضطربت وفزعت، لأن نور الله كشف إنسانيتها تماماً. ولكنها لم تتكلم بسرعة، بل صمتت، وفكرت سريعاً كالبرق ماذا تعني هذه التحية العجيبة. ليت كل الناس يسمعون دعوة اللهبسرعة ويتأملون فيها مصلين. فينالوا من القدوس جواباً أعمق وأوضح مما سمعوا في الدعوة الأولى.

وقد علم الملاك أفكار العذراء واثبت لها أنها وجدت نعمة عند القدوس. فلم تكن هي ينبوع كل النعم ولكن نعمة الله تجسدت في طفلها. فلهذا اقترح الملاك عليها ألا تخاف من الملاك الجبار المنتقم الديان بل تطرح كل الخوف وتتمسك بنعمته ومحبته. فمريم بحثت في كل حياتها عن الله الحي، إلى أن حصلت على ثمار صلواتها وأشواقها.

وأكملت مريم ثقتها في الله، وألقت رجاءها تماماً على النعمة واثقة في محبة الله الطاهرة وحمايته المقدسة.

عند هذا الإيمان اليقيني، أعلن لها الملاك أسراراً سبعة عن ولدها الآتي:

  1. إنه ليس بنتاً بل صبي معروف قبل ولادته وسبب لفرحها العظيم.

  2. اسمه يسوع الذي يعني عون الله وخلاصه الدال على شعار العصر الجديد.

  3. ليس هو عظيم أمام الله كيوحنا المعمدان بل أنه عظيم في ذاته كأحد أقانيم الله.

  4. هو ابن الله شخصياً، إله من إله نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق ذو جوهر واحد مع الآب.

  5. تعيينه برتبة ملك كالمواعيد المعطاة لداود المغني الممسوح بروح الله.

  6. كان يسوع من سلالة أرومة داود شرعياً وجسدياً، لأن لوقا يطلق اسم والد مريم أنه والد يوسف (لوقا 3: 23) فنرى أن مريم ويوسف آتيا من الملك. فكان يسوع إنساناً حقاً من إنسان حق، وليس شبحاً، أو روحاً عابراً الآفاق.

    وليست مملكة المسيح زمنية أو دنيوية كمملكة داود، بل روحية سرمدية كما اعترف يسوع أمام بيلاطس «مملكتي ليست من هذا العالم، لأشهد للحق. كل من هو من الحق يسمع صوتي» (يوحنا 18: 36 و37). فلم يسمع أكثرية اليهود صوت الله، بل صلبوا ملكهم.ولكن الرب يستطيع أن يخضع لنفسه هذا الشعب العنيد ليجثوا أمامه وليسجدوا لمن طعنوه.

الصلاة: أيها الرب يسوع، أنت ملكي وأنا مواطنك عبدك الباطل.اغفر لي كل عدم إيمان، وعلمني الإيمان الحق بألوهيتك وولادتك وإنسانيتك. لأدرك كلماتك وأقبلها رأساً عند سماعها، لتعظم قوتك في ضعفي.

1: 34 فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاكِ: «كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟» 35 فَأَجَابَ ٱلْمَلاكُ: «اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُّوَةُ ٱلْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذٰلِكَ أَيْضاً ٱلْقُدُّوسُ ٱلمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ. 36 وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضاً حُبْلَى بِٱبْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهٰذَا هُوَ ٱلشَّهْرُ ٱلسَّادِسُ لِتِلْكَ ٱلْمَدْعُّوَةِ عَاقِراً، 37 لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ ممْكِنٍ لَدَى ٱللّٰهِ». 38 فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ ٱلرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ». فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا ٱلْمَلاكُ.

لما ألقى الملاك الوعد لزكريا، شك وتساءل كيف أعلم هذا؟ (1: 18) رغم أنه رأى المخبر المجيد وسمع كلماته الواضحة. أما مريم فسألت الملاك كيف يكون هذا ولم تشك، بل آمنت وفهمت وارتجفت في إنسانيتها من المستحيل. فلم يحسب جبرائيل سؤالها تشككاً بل سؤالاً عن الكيفية التي تتم بها المعجزة. فهذا السؤال يستحق الإجابة من الله. فليس من غير الجائز أن تسأل الله ليوضح طرقه في حياتك، إن لم تعارض مقاصده.

فلهذا الاستعداد المطيع عند مريم، أعلن الملاك سر تجسد الروح القدس في المسيح وهو أن روح الله بالذات بكل قواه وإمكانياته وأمجاده عزم أن يحل جنيناً فيها. فملء اللاهوت حل في الابن، والروح القدس نفسه كان جوهره. أيها الإنسان هل تدرك أن اثالوث الأقدس بكليته، كان مشتركاً ساعة حلول مخلص العالم في مريم العذراء؟ فلغتنا تعجز أن تعبر عن هذه الذروة لتاريخ البشر، وعقلنا أصغر من أن يدرك كيف أحبنا الله، حتى ألبس ابنه آلام العالم وتجسد إنساناً. اسجد للآب والابن والروح القدس الإله لواحد، وأحبه من كل قلبك، لأن محبته للبشر الفاسدين، هي الدافع الوحيد للحبل بالمسيح.

ولم يوجد في هذه الأعجوبة شهوة أو خطية أو أنانية أو دنس، لأن الله القدوس ظهر في المسيح القدوس، الذي كان في حد ذاته ممتلئ القداسة بدون خطية موروثة. حتى أن كل الدوافع الخاطئة من سلالة أبيه داود وأتباعه الموجودة في مريم، غلبت إلى طهار كاملة وقوة إلهية وحق سرمدي.

لا يقدر الإنسان، أن يدرك سر هذه اللحظة بدون الروح القدس. فالذين لا يولدون من محبة الله، يجدفون على المسيح، قائلين أنه مولود من رجل بشري. ولكن من تجدد في التوبة وحصل على الحياة الأبدية من كلمة الإنجيل يسجد لله الآب الذي أرسل لنا ابنه في هيئة جسد الإنسان.

فربنا يسوع المسيح هو إنسان حق من إنسان حق، وإله حق من إله حق، غير محتاج إلى ولادة روحية ثانية. إنه المحيي الذي يمنحنا نحن المتبررين حياته في الإيمان به، لنصبح بقوته أولاد الله متجهين إلى مجيئه القريب، الذي هو رجاؤنا الأكيد.

وقد منح الملاك القوي لمريم المرتعبة علامة واضحة. لكي يصبح إيمانها بالمستحيل ممكناً. لأن المباركة فكرت كيف يعقل، أن المخلوقة تحمل خالق العالم في بطنها. فأراها الملاك الأعجوبة الإلهية في أليصابات قريبتها من جهة النساء وليست من صلب دود، التي أصبحت حبلى وهي عاقر. فهذه علامة مشجعة، أعدت مريم لكلمة الرب القاطعة.

هل عند الله مستحيل؟ أيها الأخ، هل تؤمن بقدرة الله غير المحدودة في حياتك وكنيستك وأمتك؟ فلا تجعلن الله كاذباً ولا تخدعن نفسك بأفكار بشرية. هل تؤمن بقدرة الله المطلقة؟ وهل وضعت نفسك وعقلك وأمراضك وأصدقاءك وأعداءك أمام عرش النعمة مسلاً حياتك بين يدي العلي؟ فأين محبتك له وكيف مقدار إيمانك؟ تمسك وتعلق بالله لأنه هو القادر على كل شيء ويريد الخلاص ويستطيع تنفيذ الخلاص ويخلص عملياً حسب إيمانك. فأنت الباب الذي تريد نعمة الله أن تدخل منه إلى محيطك.

وآمنت مريم بقدرة ربها ففتحت نفسها لمشيئة المحبة ولم يحل المسيح فيها بدون موافقتها، بل هي أتمت بتسليمها المتواضع مقاصد العلي. لو ترددت مريم في هذه الساعة أو شكت أو رفضت كلمة الله لسقط العالم وبقينا في خطايانا مهلكين. ولكن العذراء كنت متمكنة في التوراة، ومطيعة لإرشاد الروح القدس في حياتها، وآمنت بالنبوات، فقدرت على قبول المسيح هدية الله للعالم.

وبموافقتها الروحية، غسلت مريم العار الملصق بالإمرأة منذ سقوط حواء، وحولت ضعفها إلى مجد. وقد تألمت العذارء كثيراً لأجل ابن الله الموضوع في قلبها، ولكنها احتملت عار الاتهام بصبر وإيمان وشكر لربها كل حياتها.

الصلاة: أبانا الذي في السماوات نسجد لك، لأنك ولدت بكل قداسة محبتك المسيح في أَمتك مريم. ونعجب مبتهلين من أعجوبة حلولك، ونطلب اليك أن تجددنا كلنا لنؤمن رأسا بكلمتك الموجهة إلينا، مؤمنين انك تغير وتجدد بواسطة إيماننا محينا الظالم.

3 - زيارة مريم لأليصابات (1: 39 - 56)

1: 39 فَقَامَتْ مَرْيَمُ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ وَذَهَبَتْ بِسُرْعَةٍ إِلَى ٱلْجِبَالِ إِلَى مَدِينَةِ يَهُوذَا، 40 وَدَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا وَسَلَّمَتْ عَلَى أَلِيصَابَاتَ. 41 فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ سَلام مَرْيَمَ ٱرْتَكَضَ ٱلْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا، وَٱمْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، 42 وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ: «مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! 43 فَمِنْ أَيْن لِي هٰذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ 44 فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلامِكِ فِي أُذُنَيَّ ٱرْتَكَضَ ٱلْجَنِينُ بِٱبْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي. 45 فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ».

التجأت مريم العذراء بقلبها الفائض إلى صديقتها الكبيرة الحنون في مدينة غير معروفة لنا الآن، لتخبرها بأسرارها وتجد تقوية لإيمانها في صلوات مشتركة. فلم تقدر أن تتكلم مع أحد في بلدتها الناصرة عن أعجوبتها. وكانت شاكرة الملاك، الذي أراه منفذاً في ضيقها. فأسرعت إلى أليصابات الساكنة في مدينة جنوبي أورشليم، على بعد مائة كيلومتر تقريباً من بلدها الناصرة. وأثبت الروح القدس لمريم إطاعة إيمانها، وعزاها تعزية حارة عند وصولها إلى بيت الكاهن. وأعلن بنفس الوقت لأليصابات الشيخة إضاحاً لأعجوبة العجائب، قبل أن أعلنت العذراء سرها. فامتلأت زوجة الكاهن من الروح القدس الذي أعطاها قوة التنبؤ. وأعلن لها اسراراً، لا تخطر على بال الإنسان.

وأطلق روح النبوة لسان أليصابات بتحية رائعة لمريم، التي حيتها: سلام لك. ولم تسمع أليصابات لوحدها هذه الكلمات المفعمة بقوة الله، بل تحرك جنينها أيضاً ممتلئ الفرح، لأن يوحنا المعمدان كان مفعم الروح القدس منذ كان في بطن أمه. وشعر بالميح الروح الإلهي المتجسد مقبلاً إليه. فالروح القدس لا يحتاج إلى آذان وأعين وحواس بشرية أخرى للمعرفة والشهادة، بل يشعر مباشرة بأعماق لا ندركها. ويعلن أسراراً لا تدخل أذهاننا. فعرفت أليصابات فجأة بجلاء الروح كل أسرار مريم، بدون أن يخبرها أد.

عندئذ انفجرت قوة الله بواسطة كلمات النبية، وصرخ لسانها بدون وعي وضبط عقلي وشهد روح الله بواسطتها وقال: أنت مريم الصغيرة أعظم مني. ولست أنت كبيرة في نفسك، ولكن بهاء جنينك يضيئك وبركاته تجعلك مباركة أكثر من كل النساء. ولكن هذه البرات ليست منها بل من ابنها، ينبوع كل البركات.

وسمت أليصابات يسوع رأساً رباً، لأن الروح القدس أعلن لها أن الله الرب سكن في مريم. فارتجفت أليصابات في قلبها لأجل تقارب الله، لأن الروح القدس فيها شعر بوحدته بالابن. فانحنت الشيخة الكبيرة أمام العذراء المتواضعة، لأن الروح القدس يكش الأسرار للمؤمن حيث يفتح نفسه لإرشاداته. فأعلن المخبر الإلهي لأليصابات الاستحقاق الجوهري في مريم، الذي صارت بواسطته لنا قدوة. إن العذراء آمنت بكلمة الله بلا قيد أو شرط. فبواسطة إطاعة إيمانها، صار المستحيل ممكناً. هذا هو شرفها وامتيازها حقها. فإيمان مريم هو الباب، الذي أتى به إلى الله عالمنا الوخيم.

وإيمانك اليوم هو الوسيلة التي ينتصر المسيح بها فيك وحولك. فهل تتبع أم يسوع حسب إيمانها الفعال؟ عندئذ تسمع نفس كلمات أليصابات التي أنبأت بها مريم، أن يتم ما قاله الله سابقاً. فليس عليك أن تتم مشيئة الله بضعفك، بل هو يكملها بواسطة تليم إيمانك. فاسمح للروح القدس، بأن يحررك من شكوك وخطاياك وقدرتك الشخصية، فتثبت في ثقة وفي عفة وقوة ربك. التصق بالمسيح، فيجري قوة روحه فيك، كما يجري عصير الكرمة إلى الأغصان، منشئاً أوراقاً وثماراً. نعم طوبى للذي يؤمن، ويتحد بالمسيح برباطالمحبة في قلبه. فهذا هو التطويب الأول في الكتاب المقدس.

الصلاة: أيها الرب القدوس، نسجد لك لأنك تدفع المؤمنين بروحك كما تشاء وترتب طرقهم. وتعلن لهم أسرارك. اغفر لنا كل نميمة، أو اغتياب وشهادة زور. وساعدنا إلى طهارة وحق في شركة القديسين.

1: 46 فَقَالَتْ مَرْيَمُ: تُعَظِّمُ نَفْسِي ٱلرَّبَّ، 47 وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِٱللّٰهِ مُخَلِّصِي، 48 لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى ٱتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ ٱلآنَ جَمِيعُ ٱلأَجْيَالِ تُطَّوِبُنِي، 49 لأَنَّ ٱلْقَدِيَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَٱسْمُهُ قُدُّوسٌ، 50 وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ ٱلأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ.

إن تسبيحات مريم، هي تاج مزامير العهد القديم، وبداية مجيدة لكل ابتهاجات العهد الجديد. فالروح القدس، قد تكلم بواسطة مريم، وأعلن في كلمات العذراء البسيطة أسرار حكم الله. إن ماضي البشر قد تجمع في هذه الكلمات. ومستقبلنا يتضح بواسطة كلمت الروح القدس. وكنيسة الله، تنسجم في كل مكان في نشيد مريم بالشكر. لأن هدف كل رؤيا وتحقيق الخلاص، هو تمجيد الله القدوس من قلب غير مستقيم.

وإنا لواجدون أن كلمات مريم في العهد الجديد التي وصلتنا كانت قليلة (لوقا 1: 34 و38 و2: 2 و48 ، ويوحنا 2: 3 و5). فلهذا يستحق قولها هذا كل انتباهنا، ونجد فيه عبارات معروفة من التوراة والمزامير، الأمر الذي يدلنا على أن العذراء تعمقت كثيرً في كلمة ربها، وحفظت آياته وعاشتها. فالروح القدس وحد الكنوز المستترة فيها، لتسبيح عظيم لله.

أتسمع صوت الروح القدس؟ فهو يعظم الله ويعلن أن الإنسان صغير. ففرح معرفة محبة الله كبير، حتى أنه يلقي الإنسان المؤمن إلى الغبار شاكراً منيباً، لأن سلام الله يشمله. فلا تتحرك النفس باستكبار بل تعظم الرب. وهكذا يفرح الروح، لأن مسرة اله معلنة له، ولا حزن يثقله. هل تفرح في ذهنك، أو أنت حزين؟ إن الحزين يهتم بنفسه، أما الفرحان فيعيش لله، ويتحرر من أنانيته، لأن الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه.

أيها الأخ، تعال إلى ربك، فيملأك بروحه فلا يوجد الروح القدس في إنسان من طبيعته. وقد اعترفت مريم جهاراً، بأن الله مخلصها من ضيقات كونها. فليست مريم مخلصة الأنام، بل الله هو خلص أم يسوع. والروح القدس لا يكذب. وكل الذين يكبرون أنفسهم أنفس الآخرين أغبياء، لأن المنير السماوي يرينا في إنسانيتنا الفساد، ويجذبنا بنفس الوقت إلى العلاء إلى محبة الله المخلصة.

فلسنا مستحقين أن ندعى عبيد الله لأننا خطاة. ولكن الروح القدس، يؤكد لنا أن الرب قبلنا، وغلب الخطية الموروثة فينا بالنعمة. فكل منعم عليه ينحني إلى الغبار، ويسجد لمخلصه، ويقبل رجليه. ويضع نفسه تحت تصرفه، لخدمة أزلية. فهل أنت سيد ورب ستقل في حياتك، أو عبد متواضع لربك؟ تواضع كمريم التي سمت نفسه أَمة الرب. إن الروح القدس، يشاء انكسار كبرياءك وتحرير نفسك من التشامخ.

وكل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع. وقد اختبرت مريم هذا المبدأ لروح الله، لأنها بعدما اعترفت باحتياجها إلى خلاص الله، معترفة بصفتها كأَمة للرب، رفعها الله لتزداد سعادة فوق سعادة، ونعمة فوق نعمة.

أما طريقها في هذه الحياة الدنيا، فكان مفعماً بالمرارة والاحتقار والاتهام. لأن خطيبها ووالديها لم يعرفوا شيئاً من حبلها بالروح القدس. ولكن الله بالذات بررها وأرشدها (متى 1: 18). وابنها ولد في اسطبل كريه، بينما شقت الملائكة السماء بعصفة تسايبحها. وسجد المجوس أمام المولود في المذود، الذي هرب بعد قليل مع أبويه إلى مصر لاجئاً. ووقفت مريم تحت صليب ابنها متألمة، ولكنها رأت أيضاً المقام من بين الأموات منتصراً مالكاً الأكوان. وبقيت بين التلاميذ المنتظرين موعد الآب، وامتلأ معهم بروح الله القدوس في عيد العنصرة، وثبتت في المسيح إلى الأبد، لأن كل من آمن به، ولو مات فسيحيا. وكل من كان حياً وآمن به، فلن يموت إلى الأبد. فنطوب مريم مع كل المتجددين في المسيح، لأنهم يعيشون أولاداً لله في سعادة سرمدية بلا انقضاء.

فيا أيها الأخ، أتستطيع أن تلفظ كلمات مريم بالإيمان؟ تجاسر وانطق بالإيمان كلمات الروح القدس: القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه.

لم تدرس مريم دروساً لاهوتية، ولكن الروح القدس أعلن لها جوهر الله كقدوس رحيم، على أساس اختباراتها الخاصة. ليت كل الشعوب تقبل إعلان الروح القدس هذا من فم العذراء. فإلهنا نار آكلة الذي يحرق كل الذنوب والبشر غير التائبين. ولكن لب قداسه هو محبة وليس إلا محبة. فمن يهتد ويستلسم لروح الله قابلاً المسيح مخلصاً، يجتذب إلى قداسة محبة الله لأن ولادة المسيح ليس لها هدف آخر إلا أن تعمل منك قديساً ممتلئاً محبة الله (رومية 5: 5 وأفسس 1: 4).

الصلاة: أيها الآب القدوس، نحمدك ونسجد لك ونحبك ونعظمك لأجل عظائمك العديدة. ولأنك خلصتنا في ابنك يسوع المسيح، ولم ترفضنا لأجل عيوبنا. بل قدستنا، وملأتنا بمحبتك. احفظنا في تواضع المسيح، لكيلا نسقط من النعمة الفائقة كل العقول.

1: 51 صَنَعَ قُّوَةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. 52 أَنْزَلَ ٱلأَعِّزَاءَ عَنِ ٱلْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ ٱلْمُتَّضِعِينَ. 53 أَشْبَعَ ٱلْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ ٱلأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ. 54عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً، 55 كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإِبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى ٱلأَبَدِ. 56 فَمَكَثَتْ مَرْيَمُ عِنْدَهَا نَحْوَ ثَلاثَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا.

إن الله ليس روحاً جباراً بعيداً غير مفهوم، بل إنه يتدخل في تاريخ العالم. وليست صفاته تصوراً منطقياً، بل هي ظاهرة عملياً في حياة البشر. فالله لا ينام، بل يعمل. ومنذ سقوط الناس في الخطية لا يرتاح القدوس، بل يخلص ويطلب، ويعمل لخلاص اعالم.

ادرس حكم الله للعالم، على لسان مريم. وتعمق في قدرة عمله حسب الأفعال التسعة، المذكورة في الجزء الثاني من تسبيح العذراء. فتدرك أكثر مما لو حصلت على شهادة من الجامعة، في درس الاجتماع أو العلوم.

إن الله هو القوة، كما شهد المسيح بجوهر أبيه أثناء المحاكمة الأخيرة أمام اليهود (متى 26: 64). فلا توجد في العالم قوة بناءة إيجابية، إلا هو. فبقدرته أوجد الكون. فمن الحكمة سجودك للخالق إن تعمقت في أسرار خلقه أثناء الدروس الفيزيائية ولكيميائية وعلم الأحياء، لأن كل العلوم هي إعلان عن قدرة قوة الله، الجميلة العظمى.

ولكن الإنسان استكبر في تجارب الشيطان، فطرده الله عن قربه. لأن كل إنسان يستقل عن مصدره، يصبح عدواً للخالق في ذهنه. طوبى لك إن أدركت أن كل الناس عصاة، لأن روح الشيطان، يعمل فيهم (أفسس 2: 1-5). ولهذا أصبحنا أبناء الغضب، مسلمين إلى شهوت قلوبنا. فتاريخ البشر، هو إعلان عن موجات غضب الله علينا (رومية 1: 18 رؤيا 6: 19).

ودينونة الله على كل استكبار وشهوات، هي أكثر فعالية مما تعرف. فلقد أعطى القدوس للإنسان فرصة، ليحيا في خوف الله حسب خطة خلاصه. ولكن من يستكبر ولا يضع مواهبه ونقوده وقدرته تحت تصرف الله، يسقط من كرسيه الموهوم إلى العار والبغضة والإباة. هل تدرك كيف أن العذراء البسيطة بين البشر، أدانت الملوك والزعماء والكبار والمتخيلين بواسطة كلماتها الموحى بها من الروح القدس؟

وقد اعترفت في بصيرته، كيف أن المتواضع يشترك بتدبير ملك الله معه، والوديع يمتلك الأرض. فالله يرحمك إن تثبت صبوراً لطيفاً، معتبراً أعداءك أفضل منك. فطريق المسيح هو التواضع. لهذا رفعه الله جداً (فيلبي 2: 5-11) وإن رفعك الله، وأعطاك نعة ومواهب ونجاحاً، فهل تثبت متصاغراً بسيطاً كطفل الرب؟ أو ترتفع كسائر المخلوقات، ظاناً أنك شيء؟ أن الروح القدس يعلمك مت لنفسك وعش لله وحده.

وتذكرون جيداً، كيف الله يباركك ويمنحك أنت العاصي خبزاً وفيراً. إنه أبونا وعائلنا، ولا يهلكنا بسرعة، رغم أننا نستحق غضبه. فليت الناس يرجعون إلى خالقهم، فيروا بركاته ويضعفوها. ويا للأسف المرير، فإن الدول تصنع من هذه البركات أسلحة باظة التكاليف، علماً يقيناً أن ثمن طائرة حربية واحدة تكفي لإشباع ملايين الجنس البشري. وهكذا فإن البشر، يتلفون مواهب الوهاب، الذي يغنينا بغناه. ولكن الأنانية تجعل الأغنياء فقراء، لأنهم يهلكون أنفسهم، مستسلمين إلى شهواتهم حسب غضب الله.

وقد علم شعب البرية كيف أن الله أشبعه بعنايته، وأنزل عليه المن والسلوى. ولكنهم تذمروا ضد المنعم عليهم، ولم يفهموا اجتذاب روحه، ليصبحوا شعباً مقدساً. فسقطوا في غضبه. ولكن الرب لم يهلك العنيدين نهائياً رغم عقوباته المستمرة عبر القرونالطويلة، علامة لنا أنه لا يفك ولا يلغي نعمته معنا. لأنه يبقى رحيماً، وسط عدله وقداسته وغضبه.

إن الله أمين لمواعيده، التي أعطاها لإبراهيم وآباء الإيمان وأتباعهم. فما كان استحقاق هؤلاء الآباء؟ أنه إيمانهم! فقد سمعوا كلمة الله، وتمسكوا بوعده مؤمنين واثقين. فحسب هذا الإيمان براً لهم، ولأجل هذا الإيمان تعامل الله معهم. وهو لا غير كلماته أبداً وذلك لأنه أمين.

هل أدركت عمق الأسرار التي بلورها الروح القدس في مريم؟ افتح نفسك لصوت الله، بلا بغضة أو استكبار. فتتعقل وترى الله، يعمل وسط فوضى عالمنا السحيق.

وإذ جاء الوقت لتلد أليصابات النبية ابنها، عادت مريم واصقة بالله أنه يحميها ويرشدها ويهتم بها اهتماماً كبيراً. وقد اختبرت عنايته الفائقة الإدراك، ولكن رغم ذلك بقي طريق مريم طريق الكفاح وصبر الإيمان لتكمل قوة الله في ضعفنا.

الصلاة: أيها الرب العلي، إني غبي ولا أدرك طرق حكمك للعالم كما تراها أنت. اغفر لي الحكمة الناقصة، وأنرني بروحك القدوس للتواضع. لكي أسلك حسب محبتك وحقك، وأتجنب غضبك ثابتا في إرشاداتك ومطيعا لكلمتك يومياً.

4 - ولادة يوحنا المعمدان (1: 57 - 80)

1:57 وَأَمَّا أَلِيصَابَاتُ فَتَمَّ زَمَانُهَا لِتَلِدَ، فَوَلَدَتِ ٱبْناً. 58 وَسَمِعَ جِيرَانُهَا وَأَقْرِبَاؤُهَا أَنَّ ٱلرَّبَّ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا، فَفَرِحُوا مَعَهَا. 59 وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ جَاءُوا لِيَخْتِنُا ٱلصَّبِيَّ، وَسَمَّوْهُ بِٱسْمِ أَبِيهِ زَكَرِيَّا. 60 فَقَالَتْ أُمُّهُ: «لا بَلْ يُسَمَّى يُوحَنَّا». 61 فَقَالُوا لَهَا: «لَيْسَ أَحَدٌ فِي عَشِيرَتِكِ تَسَمَّى بِهٰذَا ٱلاسْمِ». 62 ثُمَّ أَوْمَأُوا إِلَى أَبِيهِ، مَاذَا يُريدُ أَنْ يُسَمَّى. 63 فَطَلَبَ لَوْحاً وَكَتَبَ: «ٱسْمُهُ يُوحَنَّا». فَتَعَجَّبَ ٱلْجَمِيعُ. 64 وَفِي ٱلْحَالِ ٱنْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ ٱللّٰهَ. 65 فَوَقَعَ خَوْفٌ عَلَى كُلِّ جِيرَانِهِمْ. وَتُحُدِّثَ ِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ جَمِيعِهَا فِي كُلِّ جِبَالِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، 66 فَأَوْدَعَهَا جَمِيعُ ٱلسَّامِعِينَ فِي قُلُوبِهِمْ قَائِلِينَ: «أَتَرَى مَاذَا يَكُونُ هٰذَا ٱلصَّبِيُّ؟» وَكَانَتْ يَدُ ٱلرَّبِّ مَعَهُ.

إن نعمة الله تتطور شيئاً فشيئاً وبالتأكيد في حياة المختارين. ولا يقدر أحد على منعها. هكذا ولد يوحنا الممتلئ بالروح من أم عاقر. فوجد ساعي المسيح الذي يعد طريق ربه. واعظم إنسان بين مولودي النساء قد ظهر. وفرح الأقرباء والجيران ملياً رحمة الله، الذي منح الكاهن الأخرس نسلاً ليخلفه. وعظموا الله وفرحوا لنعمته هذه. وحسب طقوس الدين قبل الصبي في أمته بواسطة طقس الختان وتعيين اسمه. فتعجب المجتمعون لما طلبت الأم نيابة عن زوجها المربوط اللسان أن يكون اسم الصبي يوحنا، بدلاً م زكريا. وهذا كان مخالفاً للعوائد المتبعة. فلماذا تكسر هذه المرأة نظام الشعب. واسم زكريا كان جميلاً فمعناه الله يذكرنا. فاستاء الأقرباء استياء شديداً وطلبوا من الأب الأخرس، أن ينطق أو يشير برأيه. وهذا المسكين كان له تسعة شهور صامتاً في مرسة الروح القدس، حاملاً أسراره في قلبه. لكنه كتب منذ بداية خرسه لامرأته على اللوح بإيجاز مثلما قال الملاك له ليفعل. فكانا فرحين لما حبلت الأم. وهكذا صار يوحنا قبل ولادته كارز التوبة لأبيه. فالبركة أصبحت توبيخاً. وقد تعمق زكريا في التوار كثيراً وصلى باستمرار، مدركاً أن مرضه يعني عقوبة من الله لعدم إيمانه.

وعلم زكريا أيضاً أن لسانه سيحل عند ولادة ابنه المعطى من الله ولكنه لما ولد الصبي وبقي لسانه مربوطاً، داخله الشك. ألم يكن إيمانه صحيحاً؟ وصلواته أليست مستجابة؟ ولكن الطفل المولود جاء تعبيراً لعلم النعمة. فقرر الآب حسب أمر الملاك أنيتجنب كل الآراء البشرية، ويلقي رجاءه بالتمام على النعمة فكتب على اللوح أن اسم بكره يوحنا، رمزاً لعصر النعمة المقبل.

ولما تمسك زكريا بمواعيد الله وأمره، نجح في امتحان الإيمان الأخير فانفكت عقدة لسانه، وانطلق صوته المحبوس متفجراً بتسابيح من صميم قلبه. فعظم زكريا الله، وأعلن أسرار ولادة ابنه، وأخبر الحاضرين عن الملاك وكلماته وأراهم كيف تدخل الله ف حياته.

وفزع الناس عند ذاك، عالمين من تاريخ شعبهم أن الله كان يخلق قبل التغييرات الجذرية في سيرة أمتهم أولاداً بطرق غريبة، كما خلق اسحق وموسى وصموئيل. وبما أن شعار إعلان الملاك، كان هو مجيء المسيح الذي يعد يوحنا طريقه، ارتعب الأتقياء والساسيون لأجل مقاصد الله المقبلة عليهم. فالبعض تمنوا التوبة والتجديد والعدل وإقامة الموتى لأنفسهم وأمتهم في مجيء المسيح. بينما الآخرون تهللوا في أنفسهم متمنين تحريرهم من نير الاستعمار ولم يدركوا البتة أن المسيح لا يبني ملكوته على أسلحة وجند بل بانسكاب الروح القدس الذي خلق التوبة وتغيير الأذهان وتجديد القلوب بنعمته. فولادة المعمدان، سببت حركة عميقة في البلادة المقدسة، قبل أن ابتدأ بنطق رسالته.

الصلاة: أيها الرب علمني الإيمان، خاصة حين تغمض علي إرشاداتك. وساعدني لشهادة حسب كلمتك إن ضادني الناس، لكي أسبحك بلا نهاية. لأن خلاصك آت، ومملكتك ظاهرة وروحك يجدد ملايين. فنشكرك لأنك ولدتنا في عصر النعمة.

1: 67 وَٱمْتَلأَ زَكَرِيَّا أَبُوهُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَتَنَبَّأَ قَائِلاً: 68 مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ ٱفْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ، 69 وَأَقَامَ لَنَا قَرْنَ خَلاصٍ فِي بَيْتِ دَاوُد فَتَاهُ. 70 كَمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلَّذِينَ هُمْ مُنْذُ ٱلدَّهْرِ. 71 خَلاصٍ مِنْ أَعْدَائِنَا وَمِنْ أَيْدِي جَمِيعِ مُبْغِضِينَا. 72 لِيَصْنَعَ رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ ٱلْمُقَدّسَ. 73 ٱلْقَسَمَ ٱلَّذِي حَلَفَ لإِبْرَاهِيمَ أَبِينَا: 74 أَنْ يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلا خَوْفٍ، مُنْقَذِينَ مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا، نَعْبُدُهُ 75 بِقَدَاسَةٍ وَبِرٍّ قُدَّامَهُ جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا.

نقرأ في الأصحاح الأول من إنجيل لوقا الذي يشرح الفترة التمهيدية لولادة المسيح كلمة الروح القدس أربع مرات (15 و33 و41 و67). فالطبيب لوقا أدرك بكل وضوح أن الدور الأول في مجيء المسيح، هو لله وليس للبشر. لأن روحه أعلن المقاصد الإلهية طرد الشكوك، وأرشد المطيعين، وملأ الضعفاء بقدرته. هل أدركت كيف تخلق محبة الله معرفة وإيماناً وثماراً في الذين يصطفون طوعاً في خطة خلاص الله؟ افتح نفسك لروح المسيح فتختبر عجائب في انكسار كبريائك لتمجيد ربك في محيطك.

وقد صمت زكريا تسعة شهور طوالاً، وتعمق في كلمات الملاك. ودخلت مريم بيت زكريا آنذاك، فصرخت امرأته في فرح الروح القدس. وشهدت العذراء للكاهن الشيخ كيف ظهر الملاك جبرائيل أمامها.

عندئذ أدرك زكريا، أنه ليس هو ولا امرأته أو ولده أو مريم، هم محور تاريخ الله ومركز كل هذه التحركات السماوية، بل جنين مريم وحده هو الموعود الأزلي. عندئذ عرف الكاهن المدرب بكلمات التوراة، أن المسيح آت! فهذه المعرفة كانت كصدمة كهربائي في عقله، فنسي نفسه وبيته وعظم الله لمجيء روحه للتجسد.

عظيم هو نشيد الشيخ المنطلق اللسان، الذي صالح طيلة حياته الشعب الشرير مع القدوس بواسطة ذبائحه. فأدرك أن المجيد البعيد، كان مقبلاً عليهم في المسيح ليزور المعذبين. وحقاً قد وصل إليهم.

وهذا المجيء الإلهي لعند البشر لا يعني دينونة وإهلاكاً وإفناء في نوره الساطع، بل نعمة لطيفة وخلاصاً حنوناً وفداء أبدياً. وهذا المبدأ، اختبره الشيخ المتشكك في نفسه. لأن الله قد غفر عدم إيمانه وعمق شكوكه وملأه بروحه القدوس. فعظم النعة، وجذب مستمعيه إلى قوة محبة الله. فيا أيها الأخ هل أنت لسان معقود، أو متحرر مسبح لنعمة الله؟

والعبارة قرن خلاص تدلنا على الحلقة في مذبح المحرقة، التي يتعلق بها الناس الهاربون من المنتقمين، ليجدوا رحمة وأمناً في الحرم القدسي. وبينما كانت الذبيحة تحترق كان اللاجئون يقفون تحتها، معتبرينها نائبة عنهم، لينالوا الحياة. هكذا أدر الكاهن الخبير، أن يسوع هو قرن الخلاص لكل الخطاة. ومن يتمسك به، لا يهلك في غضب الله المنتقم من كل خطية. بل يتبرر ناظراً للذبيح النائب عنا على الجلجثة. فهل تتمسك بقرن الخلاص؟

وكل هذه المواهب الروحية لم تنصب علينا فجأة بل لها قصة طويلة وسبب عميق قد أنبأ به الأنبياء من قبل، لأنهم رأوا بالروح القدس المسيح المقبل كشخص فريد مخلص العالم. وشهادتهم هي حق ومتحققة تدريجياً ومتبلورة فينا، مكملة في مجيء المسيح الميد.

ووثق آباء الإيمان بالله الحي، وهم راؤون الآن ثمار إيمانهم. لأن إلهنا ليس إله الأموات بل الأحياء. فتهللوا في الفردوس يوم ولادة المسيح، وعظموا الله تعظيماً كثيراً على قيامة المصلوب. واستقبلوا الصاعد إلى السماء، وهتفوا لجلوسه على العش. لقد رأوا أن المسيح، هو الضامن العهد مع الله، لأنه ليس إنسان أو شعب يقدر أن يقطع عهداً مع الله القدوس، ولكن دم ابن الله يطهرنا ويؤهلنا، لنقترب من الله، ونعيش معه في عهد جديد يشملنا إلى الأبد بالنعمة والبراءة.

وقد تحقق في المسيح قسم الله أمام ابرهيم البدوي المؤمن، لما كان مستعداً أن يضحي ببكره اسحق مطيعاً لله. فكان بهذا الاستعداد متقارباً لمحبة الله، الذي بذل ابنه الوحيد على الصليب لأجلنا. فحلف الله للمنكسر المطيع أن المسيح سيكون من نسل، وتتبارك بواسطته كل الأمم (تكوين 22: 17 و17).

وقد فهم زكريا هذه الخطة الروحية في العهد القديم حقاً، لأنه كاهن مطلع على التعاليم. ولكنه بتفكيره اليهودي أخطأ، إذ ظن أن المسيح الآتي سينشئ ملكوت الله بالقوة. ويجعل أورشليم مركز عاصمة العالم، حيث اشتاق زكريا الكاهن إلى شيئين: أولهم تطهير الشعب الخاطئ، وثانيهما انتصار الأمة على العدو الدخيل.

ورغم هذا الشوق الدنيوي الأخير، فإنه لم يشتق إلى الغنى والرفاهية والشرف، بل إلى حرية العبادة الجمهورية وهداية أمته، فأدرك هدف مجيء المسيح الفريد كعبادة للأمة كلها، في سبيل الإصلاح، ليقترب الجميع من الله. بتوبة وتطهير وتقديس وابتهال في قداسة حقه وبر إلهي. وقد أتى المسيح إلينا بهاتين الصفتين الفائقتين عقلنا البشري. فمن يتعلق بابن الله، يتبرر براً إلهياً. ومن يثبت فيه، يمتلئ من الروح القدس قداسة كاملة إلى الأبد.

الصلاة: نعظمك أيها الآب السماوي لأجل المسيح المتجسد، الذي أتى برجاء وخلاص عام للبشر. أفدنا من كل اشتياقاتنا الدنيوية وثبتنا في برك وقداستك لكي نحمدك بكل حياتنا.

1: 76 وَأَنْتَ أَيُّهَا ٱلصَّبِيُّ نَبِيَّ ٱلْعَلِيِّ تُدْعَى، لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ وَجْهِ ٱلرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ. 77 لِتُعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ ٱلْخَلاصِ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ، 78 بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِٰلهِنَا ٱلَّتِي بِهَا ٱفْتَقَدَنَا ٱلْمُشْرَقُ مِنَ ٱلْعَلاءِ. 79 لِيُضِيءَ عَلَى ٱلْجَالِسِينَ فِي ٱلظُّلْمَةِ وَظِلالِ ٱلْمَوْتِ، لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ ٱلسَّلامِ. 80 أَمَّا ٱلصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيتَقَّوَى بِٱلرُّوحِ، وَكَانَ فِي ٱلْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ.

كاد الكاهن الشيخ في تسبيحه لله، أن ينسى ابنه لأن بصيرة تاريخ محبة الله وأهدافها أنعشت روحه. ثم التفت إلى ابنه يوحنا رمز نعمة الرب وتنبأ عن جوهره ووظيفته وقوته وثماره.

إن يوحنا ليس ابن العلي بل نبيه ومخلوقاً من التراب، وممتلئاً بالروح القدس كما سائر الأنبياء قبله. وامتيازه هو مجيئه في زمن اقتراب مجيء يسوع المسيح. فصار المعمدان ساعي الرب ومعداً طريقه وخادم معموديته وشاهد مجده.

فأدرك زكريا بالروح القدس بكل بيان، أن طفل مريم هو الرب بالذات. فالتمهيدات من الملاك ودوافع الروح القدس أنارته لهذه الشهادة المخطرة التلفظ بها بين اليهود، أن الرب يزور الأرض ويتجول بين الناس، وأن يوحنا يعد طريقه. هذه هي الثورة الكبى في الخلق، لأن الخالق الآن يأتي إلى ملخوقاته امتحاناً وخلاصاً وتكميلاً. فهل مستعد أنت لتستقبله؟ وكيف علاقتك بالله؟ هل انت أهل للالتقاء به؟ فاستحضر نفسك لحضوره عاجلاً.

وعلم زكريا ألا إنسان مستحق للالتقاء بالله وليس إنسان قادراً أن يسجد حقاً للمسيح في المزود لأننا جميعاً خطاة. فأهم شيء في خدمة المعمدان كانت قيادة الشعب للتوبة الأصلية، ليدركوا أنه ليس لهم خلاص إلا بغفران الخطايا. فهل غفرت خطاياك أها الأخ؟ وهل أصبحت قديساً طاهراً مقبولاً؟ امتحن نفسك في إرشاد الروح القدس، واعترف بأكاذيبك وسرقاتك وكسلك وكل أنواع ظلمك وعارك. إن معرفة نفسك والاعتراف جهراً بخطاياك هذه هي الطريقة الوحيدة التي تعد بها طريق الله إلى قلبك. تعال وانحن أمامخالقك، ولا تخدعن نفسك، لأنك فاشل. اعترف بذنوبك واستغفر ربك.

عندئذ تعرف أعجوبة محبة الله، لأن الابن أتى من عليائه إلى ظلمتنا الدنسة، وأشرقت تباشير بره، كشمس بهية في ليلنا الأسود. افتح ذهنك وشعورك الباطني تماماً لرأفة الله الظاهرة في المسيح، فتصح وتقوم وتسبح الله بكرة وأصيلاً.

وفي المسيح وحده، ينتهي الخلاف والخصومة بينك وبين الله في قلبك. ويبتدئ السلام الإلهي، وتعيش في انسجام كلي مع إرادة ربك. عندئذ لا تركض كحمار بري في دوافع شهواتك الأشرة، عنيداً في براري الحياة. ولا تخاصم كل إنسان لأجل حساسيتك الزائدة بل تتنازل عن حقوقك وتسامح أعداءك جهاراً، وتحتمل الصعبين بصبر. لأن فداء المسيح يمنحك الاقتدار، لتعمل المستحيل فتموت أنت لشخصك ويحيا الله فيه.

وكبر يوحنا في السنين جسدياً وروحياً، واعتزل العالم السطحي بتجاربه وسطحيته المرة، واستعد مصلياً لله. ولربما اشترك مع فرقة الاسنيين في قمران، ليكون مستعداً ماشرة لصوت العلي، إذ يدعوه شاهداً لشعبه. وهكذا نتمنى لك نمواً في الجسد والرو والنفس في شمس بر إلهنا، لتصبح شاهداً بسلطان المسيح، وتدل محيطكم إلى مخلص العالم.

الصلاة: نشكرك أيها الرب لأنك جهزت يوحنا خادما لك، وأرسلته لإعداد الطريق لابنك. طهرنا من خطايانا وجدد أذهاننا، لكي نعد طريقه في محيطنا، ونستعد لمجيئه الثاني القريب.

5 - ولادة يسوع في بيت لحم (2: 1 - 20)

الأصحاح الثاني: 1 وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ ٱلْمَسْكُونَةِ. 2 وَهٰذَا ٱلاِكْتِتَابُ ٱلأَّوَلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. 3 فَذَهَبَ ٱلْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ. 4 فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضاً مِنَ ٱلْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ ٱلنَّاصِرَةِ إِلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ ٱلَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاودَ وَعَشِيرَتِهِ، 5 لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ ٱمْرَأَتِهِ ٱلْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى. 6 وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ. 7 فَوَلَدَتِ ٱبْنَهَا ٱلْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي ٱلْمِذْوَدِ، إِذْ َمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي ٱلْمَنْزِلِ.

تحتاج كل دولة إلى المال الوفير، لتعد جيشاً قوياً، وتنظم الدوائر الحكومية في كل المناظق وبناء قصور فخمة. ولهذا نظمت الدولة الرومانية قانون الإحصاء كل أربع عشرة سنة مرة واحدة، حيث يكتتب كل الناس وممتلكاتهم في البلدان التابعة للأمبراورية، ليأخذوا منهم الجزية. فسجل الحكام كل شجرة وبيت وحمار، وكل إنسان بإجبار وتعنيف وبثوا جواسيسهم ليقبضوا على كل من تمنع عن إعطاء أرقام صحيحة. ليستخرجوا في السنوات التالية ضرائب أكثر، بدون نظر إلى حالة موسم الحصاد أو الموت والحوادث الأخرى. فارتفعت تجديفات كثر وشتائم من أفواه الناس، بسبب هذه المظالم زمن ولادة المسيح. لأن كل المواطنين كرهوا هذا الإحصاء، فاسودت القلوب وركض الجميع إلى مدن عائلاتهم للتسجيل، خوفاً من العقوبة والقصاص الشديد.

مثلما جاء يوسف النجار من الناصرة مع خطيبته مريم مذعناً لأمر قيصر، واتجها نحو الجنوب إلى مدينة بيت لحم ومعناها آنذاك بيت خبز، رمزاً للمسيح، الذي هو خبر الله للعالم آتياً من بيت لحم.

وهكذا تجشم يوسف وخطيبته مشقة السفر الطويل مسافة مئة وسبعين كيلومتراً، بين الجبال والهضاب واللصوص والمتربصين للانقضاض وسلب المسافرين وقتلهم. وما كان يوسف يرغب بهذه السفرة مع خطيبته الحبلى في أيامها الأخيرة ولكن ذلك كان أمراً لازماً من قبل الحكومة ولا بد منه.

ولكننا نجد هنا ميزة لقصة ميلاد المسيح، وهي أن الله استخدم القيصر العظيم أغسطس، الذي سمى نفسه مخلص العالم الباهر، ليحرك موظفي دولته في كل المسكونة، ليتم الوعد المختصر بجملة قصيرة في سفر النبي ميخا، إن مخلص العالم الحق سيولد في بيت لحم وليس في رومية الباهرة ولا الناصرة ولا القدس التقية ولا الهيكل المقدس، بل في قرية محتقرة، في عزلة العالم. وهكذا فإن الله يبتدئ عظائمه بهدوء وبأمور صغرى. ويستخدم ملوكاً ودولاً لإكمال خطة خلاصه، ويصل إلى هدف مقاصده بعيداً عن كبراء وعظماء المجتمعات البشرية.

ولما وصل يوسف إلى بلدته متأخراً، كانت كل البيوت والفنادق ممتلئة بسب تزاحم القادمين من المهاجر للاكتتاب. فلم يجد مكاناً لمنامه، لأنه في أوقات الشدة لا يجد إلا الأغنياء والوجهاء منزلاً وغذاء لاستبقالهم وإعالتهم. فولد ابن مريم في اسطبل كريه، وأشبه من أول يوم ميلاده اللاجئين، الذين لا يجدون مأوى. وابتدأ من أول أيامه يواجه كوراث دنيانا. ونجد في هذه الولادة المحتقرة علامة على أنه ليس لله مكان في عالم البشر. لأن بغضة الأنانيين تطرد محبة الأزلي إلى المحل الذي لا يليق أن ولد فيه، كالاسطبل المفعم بالجراثيم والروائح الكريهة. ولكن الام كانت قد اعتنت بطفلها، وحضرت أقمطة ولفت المحبوب لحفظه ودفئه. ولا ريب أن يوسف قد وضع تبناً في المذود، وغطاه ليلين قبل أن يضع الوليد فيه. فتغير الاسطبل إلى موطن محبة، تضيء كل فر وضيق وتغلبه.

ووصول ابن الله إلى الاسطبل، لا يعني تعزية للبشر فقط، بل كذلك رجاء للحيوانات، لأن كل المخلوقات منتظرة إعلان ابن الله، وظهور الخليقة الجديدة (رومية 8: 19-23). فنزل ابن الله من مجد سمائه رأساً إلى درجة حيث يشمل في فدائه كل الخليقة حتى الحيوانات.

هكذا ولد ابن العلي، وانتهت تسعة أشهر مليئة بكفاح روحي حول الإيمان والثقة في مريم ويوسف لأن المستحيل العجيب وهو تجسد روح الله، فاق عقل العذراء وخطيبها. ولكن الملاك والروح القدس أكدا كلاهما بكل وضوح أن الجنين في مريم كان حقاً ابن اله الحي. فلم يكن بنتاً بل ابناً بكراً. أي فرح وشكر ورجاء انبعث حول المذود الحقير؟!

فقد كمل الزمان وزار الله العالم، مصالحاً البشر لنفسه. فلا تنس أن نزول الله تحقق في اسطبل، وليس في قصر، لكي يدرك كل الناس أن الله ينزل إلى الأسفل. ولا يطلب منا صعوداً إلى العلاء. أن القدوس يطلب الخطاة الضالين الفاشلين التائبين، لا المكتفين والأذكياء والأغنياء والمتكبرين والأتقياء.

كيف يستبين قلبك؟ أيشبه اسطبلاً مفعم الأخطاء والخطايا، بدون تعزية وفائح الرائحة المستكرهة؟ أو أصبحت مذوداً حقيراً محضراً ليسوع؟ فمما لا ريب فيه، أن كل الناس ممتلئون بالوحل، ولكن حيث يدخل المسيح القلب يبتدئ التطهير الإلهي. وابن الله يضع فينا المحبة والشكر والرجاء ويكون فرح في السماء بكل خاطئ يتوب، أكثر من تعسة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة. فأعد قلبك كما هو، ليحل المسيح فيك ويقدسك لينير حضوره ذهنك فيمتلئ قلبك بالروح القدس.

الصلاة: نشكرك أيها المسيح، لأنك أصبحت إنساناً. ونطلب الغفران، لأننا لم يكن لدينا إلا اسطبلاً وسخاً. امتلكني وطهر قلبي، لكي يصبح مذوداً لك وتثبت فيّ بألوهيتك إلى الأبد.

2: 8 وَكَانَ فِي تِلْكَ ٱلْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ ٱللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ، 9 وَإِذَا مَلاكُ ٱلرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ ٱلرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ، فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً. 10 فَقَال لَهُمُ ٱلْمَلاكُ: «لا تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ: 11 أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ. 12 وَهٰذِهِ لَكُمُ ٱلْعَلامةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ».

كان بعض البدو يصطلون حول نار مشتعلة في الليل الدامس المخيم على أكمة بيت لحم، بينما خرافهم تجتر الأعشاب مزدحمة في الحوش. وأخذ الرعاة يتفكهون بأحاديث ذات شجون، خصوصاً عن اغتصاص مدينهم بالناس المنسلين إليها من كل حدب وصوب، لأجل تسجيلأسمائهم وعائلاتهم في الإحصاء الحكومي. وقد شاهد هؤلاء الرعاة كثيراً من أصدقائهم وأقربائهم، الذين قدموا إلى البلد مع القادمين. وابتدأ بعض هؤلاء السامرين في سخطهم يلعنون نير الاستعمار متمنين مجيء المخلص. وعند ذاك تناول أحدهم الربابة، وراح عزف عليها مرتلاً ومتشوقاً للمسيح الآتي قريباً.

وانتصب في وسطهم فجأة كصاعقة بارقة ملاك الرب وبهاؤه أضاء الظلمة وأشعته اخترقت قلوبهم فخافوا خوفاً عظيماً، حتى تيبست أفواههم، واتضحت لهم خطاياهم بكل وضوح. وأنبتهم ضمائرهم على سرقاتهم وأكاذيبهم ونجاساتهم، وكل ظلماتهم الكبيرة والصغيرة فظنوا أن القيامة قد وقعت وابتدأ الحشر والحساب والدينونة الكبرى.

لكن صوتاً لطيفاً، خرج من ملء النور الساطع، قائلاً: لا تخافوا ولا ترهبوا. ولا ريب أن الرعاة، كانوا كغيرهم من بني الإنسان لصوصاً بنسبة قداسة الله. ولكن الجواد المنعم لم يقرر إهلاكهم كما ظنوا، بل أراد خلاصهم فشجعهم الملاك بكلمات قويةإلى الفرح، لا بل إلى الفرح العظيم، وهو فرح الله. إن كل مؤمن حق يسبح في بحر الغبطة لأنه قد وصلته بشرى الخلاص من الخالق الرحيم. فالله يحبنا وينجينا وينصرنا، فالظلمة تتبدد والضيق ينتهي.

إن التبشير في سبيل المسيح، معناه بشرى الانتصار وخبر السلام الإلهي وإجراءات قوة الروح القدس وحضور المسيح. فهل أنت مبشر أو منذر؟ هل تسبب باسم الله تعزية ورجاء ونهوضاً روحياً، أو تكسر أصدقاءك بثقل النواميس والفرائض، التي لا يقدرون عل إتمامها ولا أنت أيضاً؟

ولقد ولد المسيح لأجلنا جميعاً والقدوس الأزلي، لم يعد كما كان بعيداً قاضياً منتقماً منا، بل وهبنا نفسه بلا قيد ولا شرط، رغم أننا خطاة. فمحبة الله، تفوق عقلنا. فآمن ببشرى الملاك، لأن المسيح ولد لك أيضاً والله بالذات يهديك نفسه.

وكلمة اليوم التي قالها الملاك للرعاة، عنيت لهم حداً فاصلاً في تاريخ البشرية. وتعني لنا دخول الألوهية إلى حياتنا، أي الولادة الثانية. لأنه حيث يجتذب الإنسان إلى بحر محبة الله، تبتدئ فيه حياة جديدة. فهل ولد لك المسيح اليوم؟ وهل قبلتهدية الله للعيد العظيم؟ أو أنك لا تزال عائشاً، بلا هدف ولا معنى في الحياة؟ أن المخلص ولد لك اليوم. آمن وادرك واسجد، متمسكاً بحقك السماوي. ووصف الملاك للرعاة المرتعبين بدقة، ماذا يعني مجيء ابن الله إلى البشر:

  1. ولد في مدينة داود كخليفته حسب الوعد في 2 صموئيل 7: 12 و13 فطفل المذود هو الملك الإلهي وقد اقترب ملكوته.

  2. والمولود في اسطبل هو مخلص العالم البطل الذي لا يخلصنا بأساليب السياسة والسلام بل يفدينا من سلاسل الخطية وقدرة الموت وتجارب الشيطان وغضب الله في الدينونة الأخيرة.

  3. وابن مريم هو المسيح الحق، الممسوح بملئ الروح القدس كلمة الله المتجسدة والمخبر الإلهي، غافر الذنوب بالتمام، والمقام من بين الأموات بعدما ضحى بنفسه فدية لكثيرين. فالمسيح هو حمل الله المذبوح، الذي يستحق كل العبادة والسجود والتسبي، لأنه صالحنا مع الآب على الصليب، فمتى تعظم أسماءه المقدسة، مسلماً نفسك إليه في عهد جديد أبدي؟

  4. والمسيح المخلص هو الرب بالذات، الذي خلق الكون، وضابط تاريخ البشر والمتعاهد في العهد القديم. وهو اليوم جالس عن يمين الآب مالك معه في وحدة الروح القدس ويباركنا بملء البركات في السماوات. هل أدركت معنى ولادة المسيح. أن القدوس البا هو محبة، ويحبك ويقصد حلوله في نفسك ليثبت فيك لتصبح إنساناً إلهياً، ممتلئاً بروح المحبة وتتحقق فيك كلمة أحد المبشرين إذ قال: لو ولد المسيح في بيت لحم ألف مرة ولم يولد فيك، فتبقى إلى الأبد هالكاً.

الصلاة: أيتها المحبة الإلهية قد تجسدت آتية إلينا مخلصة وفادية ورباً املئي قلبي بجوهرك لكي أعيش لك وأنت فيّ. أشكرك مع كل القديسين لولادتك ومجيئك إلينا.

2: 13 وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ ٱلْمَلاكِ جُمْهُورٌ مِنَ ٱلْجُنْدِ ٱلسَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ ٱللّٰهَ وَقَائِلِينَ: 14 «ٱلْمَجْدُ لِلّٰهِ فِي ٱلأَعَالِي، وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلامُ، وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ».

وإذ استمع الرعاة ألقاب المسيح من فم الملاك جمدت عقولهم اندهاشاً، واخترقت عبارات المخبر الإلهي قلوبهم. ولكن لكي يفهموا قصد الله من ولادة ابنه أعطاهم الملاك البراق علامة واضحة، لكي يستطيعوا لمسها بأيديهم وتظهر لأعينهم: طفل مولود حال مقمط بأقمطة عادية ومضجع في مذود حقير.

وكان من الضروري أن يدرك هؤلاء الرعاة البسطاء، أن الرب العظيم صار طفلاً وديعاً. فلم يبق روحاً مجيداً، بل أصبح جسداً مشحوناً بضعفات كياننا، حتى احتاج إلى أقمطة طفل. ولم يقدر التكلم في المذود، بل كان مستودعاً بين يدي أمته. فابن العليأصبح صغيراً فقيراً متواضعاً. هذا هو معنى نزول الله في العهد الجديد، وهذا عكس الاستكبار. ولم يبق العظيم كبيراً جباراً متكبرا، بل أصبح قريباً منا، متواضعاً. هذا هو إلهنا المحبة المتجسدة.

ولما دخل هذا الفكر المبدئي إلى عقول الجهلاء، خروا وارتموا إلى الأرض، لأن السماوات اتسعت والنور سطع بشدة، وظهر جمهور من الملائكة ربوات وألوف مرتلين ومبتهجين ومتهللين فرحاً وغبطة، لأن المخلص الحق قد دخل الآن إلى العالم الشرير رغماً نه. وسمع الرعاة فجأة عاصفة من التسبيح، تهب من السماء صادحة مرنمة في أنوار المجد، لأن الأصوات الإلهية انطلقت بكل وضوح معلنة أن المجد والجلال والبهاء لإلهنا. له الملك والقوة والكرامة والحكمة والسجود والشكر. وله الكل، والكل يرجع إليه. الشمس موطئ قدميه، والقديسون يرتلون أمامه.

ورؤيا مجد القدوس لم يحرق هؤلاء الرعاة الجامدين بل فتح لهم رجاء ووعداً أكيداً لكل رؤى الله، أي السلام على الأرض كما هو في السما، السلام الإلهي الأزلي بدون خلاف ولا بغضة ولا حرب.

وقد أرسل الله مسيحه ممثلاً السلام على أرضنا المرضى المتعبة. والروح القدس يحقق اليوم هذا السلام الحق في أتباع يسوع. هل عرفت أن سلام القدوس قد ابتدأ في العالم في الذين فتحوا أنفسهم لمسرته. ولكن من يقفل نفسه لرسالة المذود والصليب، يضرب ويتيه، لأنه ليس سلام للملحدين. ولكن حيث يحل غفران الخطايا وتعمل قوة الروح القدس، هناك يبتدئ سلام المسيح على الأرض.

فقصد نعمة الله يتحقق في كل الذين أصبحت قلوبهم مهداً ليسوع وجاوبوا على رسالة الخلاص بشكر وابتهال. هل أدركت مسرة الله المقدمة لكل الناس وتبعت رئيس السلام وأصبحت من صانعي السلام؟ إن مسرة القدوس، تنسكب عليك، وتحل فيك. ولربما قلت متسائاً: كيف تنسكب عليك؟ إن طفل المذود هو برهان لأجلك. فالله معك، ويريد الحلول فيك ليبتدئ السلام الأزلي في حياتك.

الصلاة: ايها الآب السماوي، نسجد لك لأن مجدك أعظم من الشمس التي خلقتها بكلمتك. فارفع يديّ نحو أشعة محبتك، لكي أمتلئ بسلامك وحقك. لأن مسرتك مقبلة إليّ، وتقصد الحلول في كثيرين.

2: 15 وَلَمَّا مَضَتْ عَنْهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، قَالَ ٱلرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لِنَذْهَبِ ٱلآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هٰذَا ٱلأَمْرَ ٱلْوَاقِعَ ٱلَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ ٱلرَّبُّ». 16 فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَٱلطِّفْلَ مُضْجَعاً فِي ٱلْمِذْوَدِ. 17 فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِٱلْكَلامِ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ عَنْ هٰذَا ٱلصَّبِيِّ. 18 وَكُلُّ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَلَهُمْ مِنَ ٱلرُّعَاةِ. 19 وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هٰذَا ٱلْكَلامِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا. 20 ثُمَّ رَجَعَ ٱلرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ َمَا قِيلَ لَهُمْ.

ولما تضاربت واصطفقت أمواج الليل الدامس حول البدو، لم تدخل الظلمة إلى قلوبهم، لأن كلمة الله جعلت نور الرجاء فيهم. وقد رأوا أمجاد السماء وسمعوا بشرى الخلاص من أفواه الملائكة.

فقفز الرعاة وركضوا مسرعين. وربما تعثروا أثناء السير بالحجارة في الليل، واستمروا منطلقين إلى بيت لحم، وتساءلوا وبحثوا حتى وجدوا يسوع. وعندئذ لم يروا إلا مذوداً حقيراً، وأقمطة عادية، وطفلاً في اسطبل، مع الحيوانات، وامرأة بسيطة ورجلا فقيراً. ولم يروا ملائكة ولا مجداً ولا حالة تدل على الرفاهية أو الألوهية، بل شموا نفس رائحة الخراف التي عندهم.

فجثوا عند ذلك خاضعين وأدركوا أن الله قد جاء إلى الدنيا، وخصوصاً إليهم، هم الرعاة المحتقرين الجهلاء. وكانوا من الأولين الذين رأوا الطفل، الذي يغير العالم. ولم يتأخروا عن أن يؤمنوا بكلام الملاك فرأوا الملك في المذود وأدركوه رغم الأحال المفتقرة.

وأنت ايها الأخ، هل سمعت دعوة الرب، وأدركتها تماماً؟ فتمسك بها وأتمها. عندئذ تلتقي بربك شخصياً، وتجده وترىأنه وديع ومتواضع القلب. ويجعلك متواضعاً فترى راحة لنفسك.

ولما جثا الرعاة أمام ربهم في شكر الإيمان، شهدوا بفرح عظيم بما شاهدوه في الحقول. وهكذا تعجب كل السامعين، وخصوصاً مريم ويوسف، اللذان حصلا بواسطة هذا الخبر مرة أخرى على تثبيت إلهي لإطاعة إيمانهما. ولم تتكلم مريم بشيء، بل سمعت وآمنت وكرت وقارنت أسماء ابنها المعلنة الجديدة، مع الألقاب المسمى بها سابقاً. وحفظت جواهر الروح القدس هذه في قلبها. ولربما أخبرت شخصياً لوقا الطبيب بهذه الحوادث، التي تفرد بكتابتها. وصار بذلك الناطق والبوق المعبر عن أخبار مريم.

ولما غادر الرعاة الاسطبل ملأوا القرية بأخبارهم العجيبة. فكان استغراب أهلها عجباً، وظنوا أن ذلك من تخيلات الرعاة. فلم يعيروا الأمر اهتمامهم، ولم يكن لديهم رغبة أو وقت لزيارة الاسطبل. خصوصاً لكثرة الأشغال والطمع بكسب المال، من السيا المزدحمين والمالئين كل البيوت. ولهذا لم يركض أهل بيت لحم إلى المذود، ولم يسجدوا للملك، الذي هو في وسطهم. ولم يأت مختار القرية إلى المسيح ولا التجار والوجهاء، ولا المعلمون، ولا الصبيان، ولا الأمهات ليس أحد طلب يسوع. الكل انشغلوا بكسب القود، وخدموا المال. فبقوا في ظلماتهم يعمهون.

أما الرعاة فأعطوا للناس السطحيين ظهورهم ومضوا معظمين ومسبحين الله، وراجعين إلى مقرهم على الأكمة وانطلقوا راجعين إلى قطعانهم، وهم يسبحون الله ويرتلون له. لقد سمعوا كلمته وآمنوا بها، ورأوا الموعود وأكرموه وشهدوا له. فعظموا الله، وثبوا في النعمة.

ما هو موقفك ومن تشبه في هذه القصة يا أخي القارئ؟ أما زلت في ليل الخطايا كما كان الرعاة، قبل أن يظهر لهم الملاك؟ هل لا زلت أيضاً سطحياً كأهل بيت لحم، عند استماعهم بشرى الخلاص؟ أو ْأنك سمعت كلمة ربك الحية، فآمنت بها وركضت وأسرعت إلىمحور العالم، ووجدت المسيح حياً؟ عندئذ يملأك بسلامه، ويرسلك إلى العالم لتصبح شاهداً لتواضعه. فهل تشهد لمحبة الله المتجسدة بين الناس؟ وهل تعظم أبا ربنا يسوع المسيح. هل أصبحت راعياً تشهد لغنى نعمة الله؟ عظم أباك السماوي بإيمانك وأمانتك لأن ولد لك اليوم المخلص، الذي هو المسيح الرب. فهل تؤمن به مسلماً ذاتك له، شاكراً مهللاً؟

الصلاة: نهتف إليك، أيها الملك المولود في اسطبل. ونشكرك لوصولك إلى اتضاعنا. ادفعنا بروحك القدوس إليك، واملأنا بشكر فرحك، لكي نسلم تيار قوتك إلى الآخرين ولا نحب المال بل نلتصق بك مؤمنين ساجدين.

6 - ختن يسوع وتقديمه إلى الله في الهيكل (2: 21 - 38)

2: 21 وَلَمَّا تَمَّتْ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ لِيَخْتِنُوا ٱلصَّبِيَّ سُمِّيَ يَسُوعَ، كَمَا تَسَمَّى مِنَ ٱلْمَلاكِ قَبْلَ أَنْ حُبِلَ بِهِ فِي ٱلْبَطْنِ. 22 وَلَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا، حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى، صَعِدوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ، 23 كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ: أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ فَاتِحَ رَحِمٍ يُدْعَى قُدُّوساً لِلرَّبِّ. 24 وَلِكَيْ يُقَدِّمُوا ذَبِيحَةً كَمَا قِيلَ فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ، زَوْجَ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ.

إن ابن الله متحرر من الناموس، لأنه في وحدته مع الآب والروح القدس وضع كل النواميس وأحكامها منذ الأزل ليقود الخطاة إلى التوبة والإيمان بالذبيحة. فالمسيح هو المشرع ورب يوم السبت، وله الحق بتغيير الأحكام وإتمامها. ولكن في كونه ابن الإسان ونائب البشر، خضع لفرائض الناموس، وحمل خطايانا. وتألم من غضب الله، كما كتب بولس في غلاطية 4: 4 و5 عن ولادته.

فالختان يعني في العهد القديم ثلاثة أشياء:

  1. اعتراف الإنسان بفساده منذ ولادته، لأن كل إنسان خاطئ منذ صغره مستحق الموت والهلاك المباشر.

  2. قبول المختون في العهد مع الله، والدخول إلى شعب النعمة، لأن الذبيحة الطاهرة، كفرت عن خطية المختون (رومية 3: 25).

  3. الانفصال الطوعي عن الإرادة الذاتية والحياة المنفصلة عن الله، إلى تسليمه نفسه لخدمة الرب عضواً في الأمة المقدسة.

وإن طابقنا هذه المبادئ الثلاثة على يسوع نرى أنه قد قبل بممارسة هذا الطقس إمكانية الموت في غضب الله، لأجل خطايانا وكممثل لنا فتح باب الدخول إلى العهد مع الله، لأنه وهو المختار منذ البدء قد ثبت في عهده مع أبيه ولم يحتج إلى قبول جديد وكذلك أثبت بختانه تسليم إرادته الذاتية طوعاً إلى خدمة الحمد لأبيه، في مختاريه الذين هم عائلة الله الجديدة (يوحنا 4: 12 و1 بطرس 1: 8-22).

ادرس هذه الأسرار الشرعية تجد خلاصتها في اسم يسوع، الذي سمي به أثناء هذا الطقس. ويعين اسمه أن الله لا يساعد العالم إلا بواسطة المصالحة في المسيح، التي ابتدأت في يوم الختان. والناس لم يسموه باسمه يسوع إلا بعد ما وضع حمل الفداء عليه،فظهر اسم القدوس.

وقد قام يوسف بواجبات ختن ابنه المتبنى يسوع، وتعيين اسمه، بعد ولادته بثمانية أيام في بيت لحم. أما مريم أمه، فكان عليها أن تمارس فريضة التطهير حسب العهد القديم. فسافرت العائلة المقدسة بعد عزلتها بأربعين يوماً إلى أورشليم حيث قدمت مرم عن نفسها حمامتين إحداها لذبيحة المحرقة والأخرى لذبيحة الخطية (لاويين 12: 8) فذبيحة الخطية رمز لكل الناس أنهم يولدون بالخطايا ويحتاجون إلى غفران الله. وبهذا التقديم بان أن والدي يسوع فقيران، لأن الأغنياء كان عليهم أن يقدموا حملاً لذبيحةالمحرقة. أما الفقراء فلهم الحق أن يذبحوا حمامتين. وقد قدمت مريم هذه الذبيحة طوعاً، رغم أن حبلها كان بلا دنس. لكنها عرفت حالتها كإنسانة، وقدمت ذبيحة الخطية عن ذاتها.

وفي هذه الكلمات نقرأ أيضاً إتمام فريضة ثالثة من الناموس وهي افتداء يسوع من واجب الكهنوتية، لأن كل بكر في شعب العهد القديم كان تلقائياً مكرساً لله، لأن الرب حفظ في ليلة الفصح كل بكر في شعبه. فحسب كل واحد من الأبكار مقدساً للرب ومكراً للخدمة المؤبدة في الهيكل. ولكن كل الأبكار تحرروا من هذه الخدمة بواسطة تعيين اللاويين في خدمة الكهنوت (عدد 3: 13 و40) ولكن لذكرى هذه الحقيقة وهي أن كل بكر يخص الله تلقائياً، كان عليه ان يقدم في الهيكل أمام وجه الله. وكان على أوليائه أ يدفعوا عنه افتداء أربع قطع نقدية، تعادل تقريباً أجرة نجار لمدة أربعين يوماً (عدد 3: 47).

ورغم فدية يسوع من خدمة الكهنوت، بقي رئيس الكهنة لكل الناس، وكرس نفسه دائماً لله، لأنه لم تتم فيه منذ طفوليته كل أحكام الناموس فقط، بل كان بنفسه يتممها بمحبته وحقه وذبحيته أكثر من كل الناس، وأعمق مما تتكلم أحرف الناموس.

الصلاة: نشكرك أيها الرب يسوع، لأنك أتممت الناموس بختنك وافتدائك في الهيكل، وحررتنا من أحكام العهد القديم إلى خدمة محبة الله تحت رش دمك المقدس.

2: 25 وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورُشَلِيمَ ٱسْمُهُ سِمْعَانُ، كَانَ بَارّاً تَقِيّاً يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ، وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ. 26 وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أَنَّهُ لا يَرَى الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ ٱلرَّبِّ. 27 فَأَتَى بِٱلرُّوحِ إِلَى ٱلْهَيْكَلِ. وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِٱلصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ، لِيَصْنَعَا لَهُ حَسَبَ عَادَةِ ٱلنَّامُوسِ، 28 أَخَذَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَبَارَكَ ٱللّٰهَ َقَالَ: 29 «ٱلآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلامٍ، 30 لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاصَكَ، 31 ٱلَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ. 32 نُورَ إِعْلانٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْداً لِشَعِْكَ إِسْرَائِيلَ». 33 وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ. 34 وَبَارَكَهُمَا سِمْعَانُ، وَقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ: «هَا إِنَّ هٰذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ، وَلِعَلامَةٍ تُقاوَمُ. 35 وَأَنْتِ أَيْضاً يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ».

الروح القدس يعد أنبياءه، كما يشاء. وقد كان في أورشليم شيخ اسمه سمعان، الذي واظب على الصلوات في الهيكل وتبرر بواسطة إيمانه بالذبائح اليومية، وسلك بتواضع في طرق الرب. وبصلواته الكثيرة فتح الرب له عينيه لأعماق التوراة. فأدرك مسبقاً جهر المسيح، واشتاق إلى الآتي. لأن كل الذين يتعمقون في المسيح المخلص يشتاقون إلى وصوله.

وقد حصل الشيخ القديس على إعلان خاص من الله. أنه يعاين المسيح قبل موته. فقاده الروح الإلهي إلى الهيكل، لما دخل يوسف ومريم مع الطفل لتقديمه للرب. وما كان لباسهم فاخراً، وما ظهر الطفل كبطل. ولكن لما اقترب سمعان من العائلة المقدسة هزهالروح القدس هزة كضربة كهربائية وأنار عينيه حتى شاهد بين ازدحام الناس الفريد، الذي كان إلهاً وإنساناً بنفس الوقت. فتقدم الشيخ مؤمناً وفرحاً بسلطان الله إلى عائلة يسوع، وأخذ الطفل من بين ذراعي أمه المتعجبة وانحنى له خاضعاً، وسبح الله تسبياً محتوياً على أعماق التوراة. ومجازاً نقول أنه في شخص سمعان الشيخ انحنى كل آباء الإيمان ساجدين للطفل الإلهي مسبحين الله تسبيحاً كثيراً. وفي هذا رمز كبير أن العهد القديم كله يخضع لمؤسس العهد الجديد.

وكلمة الآن عنيت لكل المنتظرين وصول الله ونهاية الانتظار المرتقب. فالله قد اتصل بالبشر، وهذا بيان للشيخ أنه قد وصل إلى هدف حياته. فكان مستعداً ليموت فرحاً، لأن عينية تكحلتا برؤية المخلص. ولم يسمه مخلصاً بل رأى مباشرة الخلاص الكامل جري فيه. فأبصر كل القوى والبركات النابعة منه، واعترف بسلام الله على كل الخليقة. فلم يطلب سمعان سلام نفسه الخاصة فقط، بل اشتاق إلى خلاص العالم كله فكان تقياً حقاً شاملاً في محبة الله كل الضالين.

وهذا الشيخ سمعان كان أول يهودي حسب إثباتات العهد الجديد الذي أدرك بواسطة تعمقه في العهد القديم أكثر من كل الكتبة والفريسيين أن المسيح ليس مخلصاً لشعبه الخاص فقط بل لكل الأمم أيضاً (إشعياء 52: 10) والمفسرون اليهود صمتوا عن شرح هذه اآية وبيان معناها كما أنهم أهملوا الحق أن يسوع سيفتح أعين وقلوب كل الأمم ليشفيهم بخلاصه. فأعلن الروح القدس بكلمة سيف الله الروحي ذي الحدين، أن المسيح هو مخلص العالم تعزية لنا وحقاً وقوة أزلية.

ولكن الروح المنعم، لم يرفض أهل العهد القديم بل شهد لهم أنهم بلا قيمة، إلا في المسيح لأن كل الناس خطاة ولكن المخلص يستطيع أن يرجع مجد الله في الضالين. لأن الابن هو مجد الله المتجسد. فاليهود بدون المسيح خالون من مجد الله وبركاته، وسقطون في الدينونة والغضب.

ولم يفهم والدا يسوع هذه الكلمات القوية، فتعجبا جداً. أما مريم فقد تمرنت في حفظ نبوات الروح القدس وهي مستعدة لقبول المرارة بجانب علو إرسال المخلص. فالنبي سمعان، بارك الكبيرين، لكي يدركا إعلانات الروح القدس ويحملاها وأكمل ببصيرته قالاً:

لا تظنوا أن مسيح الله يأتي بمحبة لينة طروبة مفرحة. لأن مجيئه يعني حرباً روحياً وانفصالاً جذرياً وبغضة ومصارعة بين السماوات وجهنم. فالمسيح يشبه الصخرة واقفاً في نهر الشعوب العريض فيقطعه إلى فرقتين: الفرقة الأولى ترفض ابن الله وتسقطإلى الهلاك والسعير. والفريق الآخر يرون الفادي ويخلصون به ويقومون روحياً الآن وجسدياً من الأموات بعدئذ. وهذا المبدأ تحقق زمن المسيح في شعبه إلى يومنا هذا بين الأمم جمعاء. فليس أحد يستطيع إهمال المسيح. فأما يرفضه ساقطاً إلى جهنم أو يحبه فصبح عضواً في جسده الروحي ويدخل السماء. فما هو موقفك نحو المسيح. هل تخضع له أو تعصى محبته؟

وكان على مريم احتمال امواج البغضة المسكوبة على ابنها. لم تمت بسيف يقطع جسدها. ولكن آلام ابنها على الصليب، كسرت رجاءها الأخير وإيمانها بذاتها. فسألت نفسها هل كانت نبوات الملائكة وكلمات أليصابات وقول الرعاة وبصيرة سمعان خاطئة؟ أو ماهو معنى ألوهية ابني؟ ولكن المقام من بين الأموات أعلن لها، أنه كان ينبغي أن يتألم فدية لأجلنا، وأن كل المؤمنين صلبوا معه لكيلا يفخروا بشرفهم الذاتي بل يعيشوا من فيضان خلاص المخلص ففي الصليب تم الموت الروحي لمريم وتجديدها في قيامة المنتصر وآمنت بالحقيقة ولكن الصليب لا يعني كشف الأفكار المخيفة في مريم فقط بل فينا جميعاً. فانكشف يهوذا وبطرس وقيافا وبيلاطس والشعب كله أثناء محاكمة يسوع. فأمام قداسته تظهر قلوبنا جلية. فلا نقدر إلا الاعتراف أن القلب أخدع من كل شيء. هو نجيس منيعرفه.

الصلاة: أيها الله القدوس، نسجد لك لأنك دعوتنا بابنك، وخلصتنا وقدستنا. فنطلب اليك أن تثير أذهاناً كثيرة، لكي يدخلوا إلى خلاصك ولا يهلكوا. اغلب فينا كل استكبار وأنانية وكل فكر شرير ونية سيئة لكي نعيش قديسين أمامك بلا عصين.

2: 36 وَكَانَتْ نَبِيَّةٌ، حَنَّةُ بِنْتُ فَنُوئِيلَ مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ، وَهِيَ مُتَقدِّمَةٌ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، قَدْ عَاشَتْ مَعَ زَوْجٍ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ بُكُورِيَّتِهَا. 37 وَهِيَ أَرْمَلَةٌ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لا تُفَارِقُ ٱلْهَيْكَلَ، عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطِلْبَاتٍ لَيْلاً وَنَهَاراً. 38 فَهِيَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ وَقَفَتْ تُسَبِّحُ ٱلرَّبَّ، وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ ٱلْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ.

لا يحل الروح القدس في الرجال فقط، بل في النساء أيضاً. وليس في العذارى وحدهن بل المتزوجات والأرامل أيضاً. فجاءت من الشمال الشرقي أرملة، أدركت بعد نهاية اطمئنانها في حياتها الزوجية، أن الحياة زائلة كضباب متبخر. فعند الله وحده، نجد لراحة لأنفسنا والسرور القلبي.

وهكذا بقيت الأرملة ليلاً نهاراً قرب بيت الله، مصلية لأجل مجيء المسيح وطالبة استعداد شعبه لاستقباله. ولما رأت أن صلواتها لم تغير كثيراً في الأمة، صامت لكي تمثل أعصاب بطنها الجائعة صراخاً مستمراً إلى الله الحي المجيب. ثم قاد الروح اقدس خادمة الرب هذه إلى يسوع، فأدركت في الولد الرب المتجسد وعظمته. لا نعرف ما هي الكلمات التي سبحت بها الله كما نقل عن زكريا وسمعان. ولكننا نجد الخبر العذب أنها لم تكتف بالتسبيحات والتحميدات، بل نقلت معرفة الله في المسيح إلى جميع الذين يتظرون مجيئه. تصور هذا الأمر الغريب أن الروح القدس جعل عجوزاً عمرها أربع وثمانون سنة مبشرة فعالة، كما أن هذا الروح المبارك، استخدم الرعاة المحتقرين كمخبري الفرح الإلهي. فأين فمك ورجلاك وقلبك لتعظم الله عند كل الذين يطلبونه.

وقد دخل ابن الله الهيكل، ولكن الكتبة والزعماء والكهنة لم يلاحظوه البتة. لأن موهبة النبوة منطفئة فيهم. ولكن الشيوخ الكبار في السن المترقبين مجيء الرب أكرمهم الله برؤية ابنه المتواضع. وقادهم الروح القدس إلى الإيمان والتسبيح.

7 - طفولة يسوع (2: 39 - 52)

2: 39 وَلَمَّا أَكْمَلُوا كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ نَامُوسِ ٱلرَّبِّ، رَجَعُوا إِلَى ٱلْجَلِيلِ إِلَى مَدِينَتِهِمُ ٱلنَّاصِرَةِ. 40 وَكَانَ ٱلصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَّوَى بِٱلرُّوحِ، مُمْتَلِئاً حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ ٱللّهِ عَلَيْهِ.

بعد أن تممت مريم ويوسف أحكام الناموس، رجعا إلى الناصرة مع الطفل يسوع. وكان لهما شهران تقريباً وهما مسافران عن بلدهما. وما اعجب ما حدث في خلال هذه المدة القصيرة من الزمن. فقد انشقت السماوات. وولد ابن الله. ورجعت الأم مع طفلها، وحافظت عليه بكل اعتنائها ومحبتها وصلواتها.

وإننا عارفون قليلاً عن أحداث طفولة يسوع وصبوته. وبالتأكيد أنه لم يكّون خلائق من طين وينفخ فيها لتحيا. ولم يستنزل المواد الغذائية من السماء. إنما ولد بطريقة عجيبة أما نموه فكان بطريقة بشرية طبيعية. فروح الله والملائكة حفظته، لكي تغلب الصفات الروحية على المؤثرات الجسدية الموروثة. فلا يصير مصاباً بعاهة من جراء مؤامرات الشيطان، بل بقي صحيح الجسد والنفس والروح. وبان ككل أولاد محيطه، معتدل القامة بشعر أسود وعينين غامقتين وجسد أملس رفيع، وليس ضعيف العضلات. ولكن الميزة البارزة في فتوته هي الحكمة البالغة. فظهر أنه ممتلئ الحكمة الإلهية المتجسدة.

وكل الناس رأوا طهارته وصدقه ومحبته وقوته، لأن نعمة الرب ظللته. وأبوه السماوي حارسه كحدقة عينه. لأن ابن الإنسان هذا كان ابن الله الوحيد إله من إله نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق ذو جوهر واحد مع الآب. لم يحمل هالة مذهبةحول رأسه، ولم يستكبر البتة، فمرن نفسه في الوداعة وكان متواضع القلب.

الصلاة: أيها الآب القدوس نسجد لك لأن روحك الطاهر يملأ كل الناس المستعدين لأجلك ليقودهم إلى يسوع، الذي ملأته بحكمتك وظللته بالنعمة. اسمح لكل شاب مستعد للالتقاء بك أن يمتلئ بفضائل روحك القدوس.

2: 41 وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ ٱلْفِصْحِ. 42 وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ ٱلْعِيدِ. 43 وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا ٱلأَيَّامَ بَقيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا ٱلصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا. 44 وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ ٱلرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ ٱلأَقْرِبَاءِ وَٱلْمَعَارِفِ. 45 وَلَمّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ. 46 وَبَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي ٱلْهَيْكَلِ، جَالِساً فِي وَسْطِ ٱلْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. 47 وَكُلُّ ٱلَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمهِ وَأَجْوِبَتِهِ. 48 فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ ٱنْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: «يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هٰكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!» 49 فَقَالَ لَهُمَا: «لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَنِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟». 50 فَلَمْ يَفْهَمَا ٱلْكَلامَ ٱلَّذِي قَالَهُ لَهُمَا. 51 ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى ٱلنَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعاً لَهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفظُ جَمِيعَ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ فِي قَلْبِهَا. 52 وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْقَامَةِ وَٱلنِّعْمَةِ، عِنْدَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ.

أمر الناموس كل عضو في العهد القديم يبلغ الثاني عشر من عمره فما فوق أن يحج إلى أورشليم، ثلاث مرات في السنة، في عيد الفصح وعيد العنصرة وعيد المظال (خروج 23: 14-17 و34: 23 وتثنية 16: 16) ولكن لبعد المسافات لم يقدر الكثير أن يسافروا إلا مرة واحدة في السنة فصار عيد الفصح هو العيد الكبير في الأمة كلها.

ولما بلغ يسوع اثنتي عشرة سنة، توجب عليه لأول مرة أن يذهب إلى القدس محور العالم، حيث يسكن الله الواحد، الذي لا إله إلا هو. فإليه اشتاقت كل أفكار الصبي وهو هدف قلبه وغاية أمانيه.

ماذا رأى في القدس؟ ألوف الحملان المذبوحة! لأن كل الحجاج ذهبوا إلى أورشليم ليتذكروا غضب الله المار بهم. ففكرة (حمل الله) أثرت بعمق في نفس الصبي. ففهم المبدأ أن ليس أحد يستطيع الاقتراب من الله بدون دم. فالذبيحة أصبحت شعار حياته لأنهكان معيناً حمل الله. فاتحاً لنا الباب إلى الآب.

وعاش يسوع بلا خطية قدوساً دواماً. فانجذب بكل حبال قلبه إلى الله مصدره ونسي أمه وأباه بالتبني، ونسي العالم والطبيعة وامتص العلم من معلمي البر الذين فسروا في أروقة الهيكل التوراة والأنبياء للحجاج. وكانوا مستعدين أن يجاوبوا الفتيان أيضاً، إن سألوهم أسئلة هامة.

فسأل يسوع الكتبة بكل اهتمام، وجاوب على أسئلتهم بطريقة لفتت الانتباه إليه. فتراكض المعلمون إليه، ليباحثوه. فصار الصبي محور الهيكل، بدون استكبار. لأن الناضجين شعروا تلقائياً أن حكمة الله، كانت متكلمة من الصبي النادر. وبعضهم تأثر بشصيته، فأخذوه معهم إلى بيوتهم، وأعطوه طعاماً وأكملوا المباحثة معه إلى الليل، لأن نفس الصبي عاشت متعمقة في كلمة الله.

كان والداه عند ذاك يظنان أنه مسافر في القافلة مع أصدقائه إلى الناصرة، عن طريق وادي سهل نهر الأردن. واضطربا فزعاً عندما علما أنه لم يكن مع العشيرة، ولم يعلم أعمامه وخالاته أين كان. فركض والداه صاعدين في الصحراء المنحدرة إلى أورشليم خائفين عليه. وطلباه عند أقربائهم، فلم يجدوه. وأخيراً توجها إلى الهيكل فوجداه وسط المعلمين المحترمين المزدحمين حوله. ففزعا عليه لأنهما ما كانا مثقفين كثيراً. وكانا قرويين ساكنين منطقة جبلية، غير معتادة على ضجيج العواصم.

ولم يقل يوسف شيئاً لئلا ينفجر غضباً، أو لأنه لم يكن الشخص القوي في العائلة. فمريم لم ترد أن تعارض غيرة الصبي إلى كلمة الله، ولا أن تقلل من اللوم لعصيانه. فأوضحت ضيقهما ودلت خصوصاً على أبيه يوسف، الذي خاف معها كثيراً على الصبي، لئل يخطفه الخاطفون أو يضيع في الصحراء، أو يموت وتفترسه الوحوش. عندئذ طعن الروح القدس بواسطة يسوع عدم إيمان والديه. فسألهما لماذا تطلبانني؟ الم تتأكدا أن الله يحفظني!؟ لقد أتيت إلى بيته لأسجد له، فلا يتركني، هو حمايتي وحصني وصخرتي.

وأكثر من ذلك، فقد تأكد يسوع بدراسته التوراة أن الله العظيم الخالق وضابط الكل، ليس بعيداً عنه وغريباً، بل هو أبوه الحق والجوهري. فلم يتجاسر إنسان في العهد القديم إلا يسوع، أن يسمي الله أباه الشخصي. لأن هذا القول كان امتياز المسيح امنتظر فقط (2 صموئيل 7: 14 مزمور 2: 7 و89: 27). نعم كان الشعب يعتبر نفسه فتى الله، ويسمي الأزلي أباه، ولكن هذا لا يعني ولادة حقة من الله بل مجازاً.

فنطق يسوع بالإعلان الأسمى للعهد الجديد وعمره اثنتا عشرة سنة إن الله ليس مخيفاً بعيداً بل هو ابوه. فعرف في هذا العمر بكل وضوح سر الثالوث الأقدس وبنوته الخاصة وابوة الله له بلا شك. وبهذه الكلمة غلب العهد القديم وكل الأديان مبدئياً، فتح لنا الطريق إلى الله، لكي نستطيع بعد مصالحتنا أن نسمي الله أبانا الذي في السموات. أن لحما ًودماً لم يعلن هذه الحقيقة له. بل أبوه القريب منه.

والله سبحانه وتعالى، لم يعطه معرفة أبوته فقط، بل أيضاً القوة ليثبت فيه. فعلم يسوع أنه ينبغي عليه أن يثبت بلا انقضاء فيما لأبيه. فمحبته وفرحه وسلامه ولطفه وحقه وقوته، كانت كلها الرحاب الروحي الذي عاشه يسوع. فسلطان الله والوهيته الكملة، ظهرت في الصبي وعمره اثنتا عشر سنة. هل أدركت شعار حياتك هل بقيت في ماضيك فيما لأبيك؟ أو أنك لم تدرك الله أباك بعد؟ تعمق في كلمة يسوع فتحيا إلى الأبد.

وتكلمت مريم إلى يسوع أن يوسف هو أبوه. وجاوبها الصبي بصواب أن الله هو أبوه لا غيره. فلم يتكلم بهذه الكلمات صوت الفتى البالغ اثنتي عشرة سنة، بل الروح القدس الساكن فيه ببرهان الحق. ولكن هذا الروح عينه أرشد المولود من الله لإطاعة مباشة تجاه والده بالتبني فلم يذهب معه مستاء بل متواضعاً مطيعاً وموافقاً. فنزلوا معاً إلى وادي الأردن العميق دليلاً على نزوله من شركته بالله إلى مستوى الحياة البشرية في العائلة والقرية والمهن التي تعلمها، وساعد أباه الذي كان نجاراً.

وبقي يسوع من هذا الوقت إلى سن الثلاثين مستتراً عن التاريخ نامياً في قوة الله أبيه غير تارك رحابه. ولما مات أبوه بالتبني يوسف، بقي أيضاً في حالة الخفاء وأخذ مهمة إعالة العائلة على كتفيه. واشتغل بيديه ووثق بعناية أبيه، كما نقرأ ذلك في متى 6: 19-34. فلم يصر يسوع مثقفاً أو فيلسوفاً بل صانعاً ثابتاً في قوة الروح القدس، ومحبوباً عند كل الناس. أليس هذا الشعار الثاني لحياتك إلا تستكبر متمنياً الصعود في درجات الحياة، بل تبقى متواضعاً مجتهداً في المهنة التي وضعك الله فيها.

الصلاة: أيها الإله القدوس أنت الأزلي البار الجبار. نحن بطالون ولكن بالمسيح يسوع أصبحت أبانا الحق اغفر لنا ذنوبنا واملأنا بروحك القدوس لنقدس اسمك الأبوي، قولاً وفكراً وعملاً بصلواتنا وإيماننا.

المسابقة الأولى: كيف وُلد المسيح؟

إن درست معنا الأصحاحين الأولين من إنجيل لوقا مع المقدمة، تقدر أن تجاوب بسهولة على 24 سؤالا من الأسئلة الثلاثين التي مرت بنهاية التفسيرات اليومية.

  1. ما هي مميزات الأناجيل الأربعة المختلفة؟

  2. ماذا تعرف عن حياة البشير لوقا؟

  3. كيف ألف لوقا إنجيله؟

  4. من هو مستلم أسفار لوقا؟

  5. ما هي كيفية تقسيم انجيل لوقا؟

  6. ما هي الأسس التي اعتمدها لوقا في كتابة بشارته؟ (1: 1-14).

  7. كيف رتب لوقا إنجيله مرتبطا بالعهد القديم؟ (1: 5-7).

  8. كيف ظهر الملاك لزكريا؟ (1: 8-16).

  9. ما هي المواعيد في العهد القديم لأجل يوحنا المعمدان؟ (1: 8-16).

  10. ما هي مبادئ خدمته؟ (1: 8-16).

  11. كيف ربى الله كاهنه إلى الثقة الكاملة؟ (15: 18-25).

  12. ماذا تعني تحية الملاك لمريم؟ (1: 26-33).

  13. ما الفرق بين يسوع ويوحنا؟ (1: 26-33).

  14. كيف حبلت العذراء بالمسيح؟ (1: 34-38).

  15. لماذا طوبت أليصابات مريم؟ (1: 32-45).

  16. بماذا تعرف تواضع المسيح؟ (1: 46-50).

  17. أي أسماء وصفات الله أبرزت العذارء في نشيدها؟ (1: 46-50).

  18. ماذا يعمل الله في تدبيره العالم؟ (1: 51-56).

  19. لماذا توجب على زكريا أن ينتظر حتى يُشفى من انعقاد لسانه ليسمي ابنه يوحنا؟ (1: 57-66).

  20. ما هي اصول وأهداف خلاصنا؟

  21. ماذا أنبأ زكريا زيادة عما أخبره به الملاك عن ابنه؟

  22. لِمَ وُلد المسيح في اسطبل؟

  23. لِمَ منع الملاك الرعاة من الخوف وأمرهم بالفرح؟

  24. ماذا تعني ألقاب المسيح في قول الملاك؟

  25. كيف أعلن طفل المذود مجد الله؟

  26. ماذا تعني لأجلنا حركة الرعاة إلى المذود وانطلاقهم منه إلى العالم؟

  27. كيف أتم والدا يسوع النواميس من العهد القديم؟

  28. ماذا اعلن الروح القدس بواسطة الشيخ سمعان عن يسوع المخلص؟

  29. ما هي صفات ومزايا الصبي يسوع وكيف تحققها فيك أيضا؟

  30. لماذا قال يسوع «ينبغي أن أكون فيما لأبي». وماذا يعني هذا؟

إن جاوبت على 24 من هذه الأسئلة بدقة وشرح واف نرسل لك الكتاب الذي تختاره من قائمة مطبوعاتنا المرفقة مع هذا الكتاب. ونرجو أن تكون المسابقات التي ترسلها إلينا مستقلة دون أن تضع فيها أي خطاب أو ملاحظات أو أسئلة أو أشياء أخرى.

ثانياً: التمهيد لعمل المسيح علانية (لوقا 3: 1 - 4: 13)

1 - إظهار وكرازة التوبة وأعمال يوحنا المعمدان (3: 1 - 20)

الاصحاح الثالث: 1 وَفِي ٱلسَّنَةِ ٱلْخَامِسَةِ عَشْرَةَ مِنْ سَلْطَنَةِ طِيبَارِيُوسَ قَيْصَرَ، إِذْ كَانَ بِيلاطُسُ ٱلْبُنْطِيُّ وَالِياً عَلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ، وَهِيرُودُسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى ٱلْجَلِيلِ، وَفِيلُبُّسُ أخُوهُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى إِيطُورِيَّةَ وَكُورَةِ تَرَاخُونِيتِسَ، وَلِيسَانِيُوسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى ٱلأَبِلِيَّةِ، 2 فِي أَيَّامِ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ حَنَّانَ وَقَيَافَا، كَانَتْ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ عَلَى يُوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّافِي ٱلْبَرِّيَّةِ، 3 فَجَاءَ إِلَى جَمِيعِ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ بِٱلأُرْدُنِّ يَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا، 4 كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ إِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ: «صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، ٱصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً. 5 كُلُّ وَادٍ يَمْتَلِئُ، وَكُلُّ جَبَلٍ وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ، وَتَصِيرُ ٱلْمُعْوَجَّاتُ مُسْتَقِيمَةً، وَٱلشِّعَابُ طُرُقاً سَهْلَةً، 6 وَيُبْصِرُ كُلُّ بَشَرٍ خَلاصَ ٱللّٰهِ».

يدور دولاب التاريخ إلى هدفه. وفي تلك الأثناء كان القيصر أوغسطس قد توفي في سنة 14 بعد المسيح، بعدما حكم 45 سنة على حوض البحر المتوسط مسمياً نفسه مخلص العالم (31 ق م إلى 14 ب م). وخلفه في روما القيصر طيباريوس، الممتلئ حقداً وكراهية كل الناس وشكا بهم. وملك ابتداء من سنة 14 ب م إلى 37 ب م. فحدثت في أيام حكمه كل الحوادث المدونة في الإنجيل.

وركز الطبيب لوقا على السنة 28م29 ب م بدقة، لأنه في هذه السنة خرج يوحنا المعمدان ساعي المسيح من عزلته الزاهدة في البرية. وكانت الأحوال السياسية والدينية آنذاك سيئة تماماً، لأن الشياطين ملكت في البلاد كلها.

وكان في هذا الزمن هيرودس الدموي العنيف قاتل أولاد بيت لحم قد مات من زمن. وأبناء هيرودس أنتيباس وفيلبس قد قسما مع ليسيانوس مملكة الملك الذي كان عميلاً لروما. فلم يكونا أقل من والدهما في العجرفة والتباهي والزنى، الذي ملأ قصورهم الفخة.

وقد ألغت روما في الفوضى التي أعقبت موت هيرودس حرية اليهودية، وعينت ولاة سلطان مطلق. والوالي الثاني فيها، كان بيلاطس البنطي حاكماً عنيفاً وبارداً بلا ضمير، الذي خلط مرة دم أعدائه بدم الذبائح المقدمة في الهيكل، لإهانة الطقوس والنوامس وإيمان الشعب.

والوالي الذي كان قبله، عزل في سنة 15 ب م رئيس الكهنة حنان. وعين بدلاً منه بعض أقربائه، وعزلهم أيضاً بعد ذلك. حتى وجد في قيافا الماهر المدعي العالم شخصية مطواعة له، وتتمم إرادته. فأفتى قيافا الماكر بفتاو توافق سياسة بيلاطس مع شريعة اليهود وتقاليدهم. وهكذا عاش في زمن واحد رؤساء كهنة عديدون معاً، مما يخالف أمر الناموس مخالفة تامة.

وهكذا ساءت الأحوال، وأشبهت قلوب العالم برية محتقرة بلا ماء. ولكن خصوصاً في غمرة الفساد العام ابتدأ الله خلاص البشر، ليس في الهيكل بل في الوعر والصحراء. هناك أتت كلمة الرب إلى يوحنا ابن زكريا، وليس العكس بالعكس، لأن الإنسان لا يقدرأن ينشئ الخلاص بواسطة صلواته وأعماله الخاصة. إنما الله يخترق حائط خطايانا بكلمته، وينير غباوة عقولنا بإنجيله. وهذه هي التعزية في بداية السنة وفي كل الأوقات. إن كلمة الله تأتي إليك وتملأك، لكي تشبه عربة مقدسة مشحونة بكلمة ربك، منطلقة إلى العالم لإشراق عصر جديد.

ويوحنا أعظم الأنبياء، بشر العطاش إلى البر بكلمة صغيرة مؤلفة من حرفين: تب، ارجع إلى ربك، التفت من أهدافك الدنيوية طالباً الله. غيّر ذهنك وأدرك القدوس، فتعرف خطاياك الشنيعة. كل إنسان يبقى سطحياً وطائشاً، إن عاش بدون ربه، رغم شهاداته العليا وسلوكه المهذب. تعمق في الإنجيل واعترف بكل خطاياك، مستغفراً العلي، فتحل قوة الرب فيك.

إن يوحنا قد جاء باسم الله بالمعمودية، رمزاً للتوبة، لأن الغرق في نهر الأردن يرمز إلى إغراق اللص ودفنه بينما خروجه من الماء يعني إقامة المطهر لخدمة الله المقدسة. فهل أدركت معنى معموديتك؟ وهل مت لنفسك وقمت في روح ربك؟

ولكن يا للعجب! فإن الإنجيل لا يأمرك بالتوبة وإنكار النفس فقط، بل يدلك قبل كل شيء على النبوة القديمة في إشعياء 4: 3-5 التي يكتبها لوقا في الترجمة السبعينية. فالدافع في هذه النبوة، هو إعلان مجيء الرب. فكرازة التوبة والمعمودية لغفران لخطايا، كانت عند يوحنا إعداد طريق الرب، لأن القدوس زار البشر في ابنه. فهل أنت مستعد، أن تلتقي بربك، ومعد قلبك لاستقباله؟

إنك لا تقدر أن تتقدم إلى ربك، وأنت نجس. فالروح القدس، يقودك إلى تجليس طرقك المعوجة، وتحطيم جبل استكبارك، وملء أودية رجاساتك، وتعبئة خنادق ضلالك بنعمة الله. ولكن إن جربت إصلاح نفسك، تختبر أنك لا تستطيع إعداد طريق الرب حقاً. فننصحك ن تسلم نفسك الخاطئة بين يدي المسيح من أول يوم في هذه السنة. فيمنحك قوة الروح القدس، الذي يمارس فيك التوبة النافعة، ويغلب خطاياك الفاسدة، ويملأك بخلاص الله. تب أيها الأخ لأن ربك يأتي إليك.

الصلاة: أيها القدوس، لست أستحق سماع كلمتك. طهّر سمعي وقدس فؤادي، لكي أفهم قولك وأنعزل عن العالم الفاسد، لأعد نفسي لخدمتك. شق طريقك إلى قلبي، واملأ ذهني بإنجيلك، لكي أمتلئ ببشرى خلاصك، داعياً العالم إليك.

3: 7 وَكَانَ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ ٱلَّذِينَ خَرَجُوا لِيَعْتَمِدُوا مِنْهُ: «يَا أَوْلادَ ٱلأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ ٱلْغَضَبِ ٱلآتِي؟ 8 فَٱصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِٱلتَّوْبَةِ. ولا تَبْتَدِئُواتَقُولُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةِ أَوْلاداً لإِبْرَاهِيمَ. 9 وَٱلآنَ قَدْ وُضِعَتِ ٱلْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ ٱلشَّجَرِ، فَكُلُ شَجَرَةٍ لا تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّارِ». 10 وَسَأَلَهُ ٱلْجُمُوعُ: «فَمَاذَا نَفْعَلُ؟» 11 فَأَجَابَ: «مَنْ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيُعْطِ مَنْ لَيْسَ لَهُ، وَمَنْ لَهُ طَعَامٌ فَلْيَفْعَلْ هٰكَذَا». 12 َجَاءَ عَشَّارُونَ أَيْضاً لِيَعْتَمِدُوا وَسَأَلُوهُ: «يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا نَفْعَلُ؟» 13 فَأَجَابَ: «لا تَسْتَوْفُوا أَكْثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكُمْ». 14 وَسَأَلَهُ جُنْدِيُّونَ أَيْضاً: «وَمَاذَا نَفْعَلُ نَحْنُ؟» فَأجَابَ: «لا تظْلِمُوا أَحَداً، وَلا تَشُوا بِأَحَدٍ، وَٱكْتَفُوا بِعَلائِفِكُمْ».

كل من ينتمي إلى عائلة شريفة، يفتخر بأرومته. فسمى أعضاء العهد القديم أنفسهم أولاد إبراهيم، ظانين أنهم يتبررون من بركاته، ويتقوون من روحه. أما يوحنا فسمى المتراكضين إليه من كل الجوانب أولاد الأفاعي، وقصد بذلك الشيطان الذي يصب من روحه إلى البشر، ويضلهم للشك بمحبة الله. والاستقلال عنه في استكبار عنيد. فكل إنسان لا يرجع إلى مصدره وهو مسمم بروح الرياء ويغر نفسه. فمن أنت؟ أخاطئ تائب أو مراء شرير؟ أي روح يملك فيك، الكبرياء أو التواضع؟

ويل للمذاهب والأديان والكنائس، التي تعلم أتباعها بأن التعصب والصلوات والصوم والأعمال الذاتية تبرر التقي. فكل بان نفسه على استحقاقه الذاتي يسقط في الدينونة الأخيرة، لأننا جميعنا بطالون، لا بل مجرمون في أشعة محبة الله القدوس. ويوم احساب لا بد يأتي، حيث يكشف الرب القدوس أخطاءك كلها. وساعة غضبه قريبة، كما شهد كل الأنبياء المخلصين (ملاخي 4: 1-5). عندئذ تقف خجلاً وبلا حجة، لأن قلبك يشبه وكر الحية ممتلئ الأفكار الشريرة والتذكرات الرديئة.

ولا تظن أن تخيلات توبتك أو حزن نفسك يرضي الله، لأن القاضي الأزلي لا يطلب منك شعوراً وأمنية وصلوات فقط، بل تغييراً جذرياً، صادرة منه أعمال صالحة. فالله مستعد في رحمته أن يغير حياتك كلها، عالماً أنك عاجز عن إصلاح نفسك. فلا تظن بلا مالاة، أن الرب سيهمل أخطاءك. فلا يخلصك أي نبي حتى إبراهيم بالذات.

وقال يوحنا مخاطباً شعب العهد: لا يحتاج الله إليكم، لأنه قادر أن يقيم من الحجارة الكثيرة في هذه البرية أولاداً عديدين له. وإن لم تتوبوا وترجعوا إليه مسنحقين، فإنكم ستهلكون. فكل إنسان يقسي قلبه لنداء الله، يتحجر في ضميره. ولكن من يصي لكلمة الخالق، يحصل على قلب جديد وقوة إلهية. حمداً لله الذي يغير أناساً كثيرين، ويجدد ملايين في كل أنحاء العالم.

وكل أمة وشعب لا يرجع إلى الله، يشبه شجرة خالية من الثمار. ومالكها يقف بجانبها، وبلطته في يده المرتفعة، ليقطع الشجرة الباطلة.فأي ثمار طيبة وصالحة، يجد الله فيك وفي أمتك؟ هل تسقط الفأس القاطعة عليك، أو تتأخر لأن العلي يرى استعدادك لتوبة ويعرف اشتياقك إلى الطهارة والحق؟

كثيرون من مستمعي يوحنا تابوا حقاً، معترفين بخطاياهم جهراً، ومارسوا معمودية الغفران رمزاً لدينونة الله عليهم. فقال المعمدان لهؤلاء المنحسقي القلوب، إن المحبة هي تكميل الناموس. فإن كنت تحب الله فاقسم ملابسك معطياً للفقراء، وشاركهم ببزك ومالك، وحضر لأجلهم عملاً، واعط للضعفاء في صفك دروساً إضافية مجاناً. وإن كان عليك أن تطلب مالاً باسم الشركة، أو تبيع بضاعة وتتاجر فلا تطلب أكثر من الحق. واكتف بالكفاف لكيلا تسقط في غرور الغنى. وقد قال المعمدان للجنود الحافظين لبلادهم ألا يكونوا عنيفين أو شاهدي زور، وأن يعيشوا في قناعة لا أبهة فيها. فلم يدعهم ساعي المسيح لترك مهنتهم، ليخدموا المسيح في انطوائية البرية. بل أرسلهم إلى وظائفهم المختلفة آمرهم بممارسة المحبة والحق والتواضع. ليعدوا طريق الرب في حياتهم العمية.

الصلاة: يا رب أنت تعلم إذا كنت ابن روحك، أو ابن الأفعى الخبيثة، اغفر لي كل استكباري، واشفني من غرور النفس والرياء. أعترف قدامك بكل خطاياي، طالباً منك الغلبة على عنادي وشهواتي لكي أعيش قنوعاً متواضعاً قديساً في قوة كلمت.

3: 15 وَإِذْ كَانَ ٱلشَّعْبُ يَنْتَظِرُ، وَٱلْجَمِيعُ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ عَنْ يُوحَنَّا لَعَلَّهُ ٱلْمَسِيحُ، 16 قَالَ يُوحَنَّا لِلْجَمِيعَ: «أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ، وَلٰكِنْ يَأْتِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، ٱَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَنَارٍ. 17 ٱلَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ ٱلْقَمْحَ إِلَى مَخْزَنِهِ، وَأَمَّا ٱلتِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لا تُطْفَأُ». 18 وَبِأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ كَانَ يَعِظُ ٱلشَّعْبَ وَيُبَشِّرُهُمْ. 19 أَمَّا هِيرُودُسُ رَئِيسُ ٱلرُّبْعِ فَإِذْ تَوَبَّخَ مِنْهُ لِسَبَبِ هِيرُودِيَّا ٱمْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، وَلِسَبَبِ جَمِيعِ ٱلشُّرُورِ ٱلَّتِي كَانَ هِيرُودُسُ يَفْعَلُهَا، 20 زَادَ هٰذَا أَيْضاً عَلَى ٱلْجَمِيعِ أَنَّهُ حَبَسَ يُوحَنَّا فِي ٱلسِّجْنِ.

كان ليوحنا المعمدان تأثير كبير على مستمعيه، لأنه كرز كمن له سلطان من الله، ولم يخف من أي بشر. وندد بأعمال الملك هيرودس أنتيباس، ووبخه على خطية الزنى مع امرأة أخيه، مظهراً لشعبه قدوة سيئة رديئة.

فتعجب الشعب من جرأته واعتقدوا بأنه المسيح الآتي. ولكن يوحنا ثبت في أمانته ولم يستغل المناسبة، وما أخذ لنفسه مركز المسيح، رغم أن الشعب كله كان مترقباً مجيء الموعود لإصلاح الأوضاع جذرياً.

فأعلن المعمدان للشعب جوهره وطبيعة رسالته وهي إعداد طريق المسيح بواسطة إنكار النفس في التوبة الحقة. وفي المقارنة بين يوحنا والمسيح، قال إنه غير مستحق أن يحل حذاءه، وارشد تابعيه من ذاته إلى المسيح، فأعطى أكبر مثال في التواضع لخدام ارب.

ثم وضح للجماهير أن معمودية الماء لا تكفي للخلاص البتة، إنما هي دلالة لمعمودية الروح القدس والنار، التي سيجريها المسيح بقوته الإلهية. فهل حل الروح القدس فيك بواسطة إيمانك بالمخلص؟ هل تعرف القوة الوحيدة، التي تجدد القلوب والأذهان؟ ل تخف من الروح القدس، لأنه ليس ناراً آكلة بل نعيماً مصفياً قلبك ومعزياً ذهنك. وهذا الروح اللطيف هو الله بالذات. وأن الآب والابن يشاء السكن فيك وفي كل مؤمن. وقد أتى المسيح ليصالحنا مع أبيه، ليقدر الروح القدس أن يحل في المتبررين ويثبتهم فيشركة مع الله إلى الأبد. عندئذ يأتي المؤمن بثمار تليق بالتوبة، لأننا لا نقدر على إتمام الناموس إلا إذا ولدنا من الله، وثبتت محبته فينا بواسطة الروح القدس. وهذه هي الوسيلة الوحيدة، لتأتي بثمر صالح كثير ويدوم ثمرك.

ورأى يوحنا المسيح كالحصاد في بيدر العالم، الذي يفصل في عاصفة دينونة الله القمح الوازن من القش المتطاير. وهكذا سيفصل المسيح في نهاية الزمان المؤمنين العاملين في المحبة عن غير الممتلئين بالروح القدس، العائشين بطيش لأن قوة روح المسيحوحدها تجعلنا صالحين مقبولين، وبدونها نحن أشرار وهباء، وعلينا أن نحترق في نار دينونة الله. فافتح نفسك اليوم لروح الرب لكي ينقيك في نار محبته الإلهية، فتتواضع كيوحنا، وتعظم سلطان المسيح وتنحني أمامه، وتسجد له، شاكراً منيباً.

إن الشيطان وأتباعه أبغضوا يوحنا لأجل شهادته الصريحة، وثماره القوية، وسلوكه القويم. ولما أكمل يوحنا شهادته، سمح الله أن يلقي رسوله إلى سجن هيرودس الزاني، لكي يمتحن إيمان النبي، ويظهر أمانته ثابتة إلى الموت. فأصبح حتى في آلامه، ساعيً ورمزاً للمسيح الآتي.

الصلاة: يا رب، أنت الروح. وقد أتيت إلى عالمنا، لتعمدنا بروحك القدوس. اخرج كل الأرواح الشريرة من أنفسنا، وطهرنا تماماً لكي نمتلئ بمحبتك، ونظهر في يوم الدين بثمار قوتك، التي تتضح اليوم بالتواضع والإيمان والرجاء، خصوصاً ف الأيام الحرجة.

2 - معمودية المسيح وتكريسه مسيحاً وأرومته (3: 21 - 38)

3: 21 وَلَمَّا ٱعْتَمَدَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ ٱعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضاً. وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي ٱنْفَتَحَتِ ٱلسَّمَاءُ، 22 وَنَزَلَ عَلَيْهِ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّماءِ قَائِلاً: «أَنْتَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ، بِكَ سُرِرْتُ!».

إن ديان الكل ورب العالمين، الذي تنبأ عنه يوحنا المعمدان، هو يسوع من الناصرة الذي اختلط بجماهير الشعب المتجمع على ضفاف الأردن، دون أن يلحظه أحد. والعجيب في أمره، أنه وهو القدوس الحق اختار العماد مع الخطاة، كأنه محتاج للتطهير من الخطايا. ولكن المسيح وهو القدوس الطاهر، قد عاش دائماً بدون خطية، ثابتاً في المحبة والصبر. فمارس المعمودية في نهر الأردن عوضاً عنا، لأنه حمل خطايانا. فبان من أول ظهوره أنه حمل الله. وفي معموديته وضح لنا مسبقاً ما هو مزمع أن يكمله على الصليب.

والمولود من الروح القدس لم يخرج من عزلته بواسطة أعجوبة مثيرة أو خطاب مصقع، بل في رمز معمودية الفداء لكل الناس. فأثبت معنى إرساله وانسجامه مع قصد الله. وبعد المعمودية تكلم مع أبيه عن هذا الهدف الخلاصي، مصلياً ومخلياً نفسه. فانشقت السماوات المغلقة، وانفتحت فوق الأرض، ونزل منها الروح القدس، ليس كصاعقة مبيدة للبشر الفاسدين. بل بهيئة حمامة السلام، دلالة على المصالحة مع الله. فلم يحتج المسيح إلى معمودية بالروح القدس، لأنه هو روح الله المتجسد بالذات. ولكن أباه بثه بملء وحه إثباتاً وتجهيزاً لوظيفته الفادية، وإعلاناً لانسجامه بالروح القدس في وحدة الثالوث الأقدس. فلا يشاء الله بكليته إلا خلاصنا. فهل شكرته لهذا الإعلان الفريد؟

ولم يظهر الله مجده لأعين يسوع والمعمدان فقط بل لآذانهم أيضاً، لأن كلمة الله تحوي كل سلطانه معبرة عن معان مفهومة لعقولنا. فشهد الآب بأبوته الخاصة، وببنوة يسوع وبوحدتهما الكاملة في المحبة الممتلئة بالسرور. وهكذا فإن الكلمات القليلة لمعلنة بعد معمودية المسيح، تظهر لنا مجد جوهر الثالوث الأقدس أكثر من كل الفلسفات البشرية. فليس خصومة أو اضطراب أو حزن بين الآب والابن. لأن المسيح عمل دائماً مشيئة أبيه. فإلهنا هو إله السلام وإله المحبة وإله المسرّة.

وتعلن لنا هذه المبادئ هدف فداء المسيح، لأنه يشاء أن يشرك كل المؤمنين به بصفات جوهره، ليصبح الله أبانا السماوي، ونمتلئ بروحه القدوس، منسجمين مع إرادته لمسرة الآب، وثابتين في محبته وسلامه. فأي روح يعمل فيك؟ هل اعتمدت بالروح القدس حقً؟ وهل حققت قصده في قوته المقتدرة؟ عندئذ يقول الله لك: أنت ابني الحبيب، الذي به سررت.

الصلاة: أيها الآب والابن والروح القدس، ليتقدس اسمك بواسطة معموديتنا بمحبتك وامتلائنا بسلامك وثباتنا في مسرتك. اغفر لنا أنانيتنا واستقلالنا عنك، وادفعنا لننكر أنفسنا ونضعها لأجل خدمة المصالحة عن كثيرين. لتنشق السماوات فوق أمتنا، ماطرة علينا النعم الكثيرة.

3: 23 وَلَمَّا ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاثِينَ سَنَةً، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ٱبْنَ يُوسُفَ بْنِ هَالِي، 24 بْنِ مَتْثَاتَ بْنِ لاوِي بْنِ مَلْكِي بْنِ يَنَّا بْنِ يُوسُفَ، 25 بْنِ مَتَّاثِيَا بْنِ عَامُوص بْنِ نَاحُومَ بْنِ حَسْلِي بْنِ نَجَّايِ، 26 بْنِ مَآثَ بْنِ مَتَّاثِيَا بْنِ شِمْعِي بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَهُوذَا، 27 بْنِ يُوحَنَّا بْنِ رِيسَا بْنِ زَرُبَّابِلَ بْنِ شَأَلْتِيئِيلَ بْنِ نِيرِي، 28 بْنِ مَلْكِي بْنِ أَدِّي بْنِ قُصَمَ ْبنِ أَلْمُودَامَ بْنِ عِيرِ، 29 بْنِ يُوسِي بْنِ أَلِيعَازَرَ بْنِ يُورِيمَ بْنِ مَتْثَاتَ بْنِ لاوِي، 30 بْنِ شِمْعُونَ بْنِ يَهُوذَا بْنِ يُوسُفَ بْنِ يُونَانَ بْنِ أَلِيَاقِيمَ، 31 بْنِ مَلَيَا بْنِ مَيْنَانَ بْنِ مَتَّاثَا بْنِ نَاَثانَ بْنِ دَاوُدَ، 32 بْنِ يَسَّى بْنِ عُوبِيدَ بْنِ بُوعَزَ بْنِ سَلْمُونَ بْنِ نَحْشُونَ، 33 بْنِ عَمِّينَادَابَ بْنِ آرَامَ بْنِ حَصْرُونَ بْنِ فَارِصَ بْنِ يَهُوذَا، 34 بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ تَارَحَ بْن نَاحُورَ، 35 بْنِ سَرُوجَ بْنِ رَعُو بْنِ فَالَجَ بْنِ عَابِرَ بْنِ شَالَحَ، 36 بْنِ قِينَانَ بْنِ أَرْفَكْشَادَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحِ بْنِ لامَكَ، 37 بْنِ مَتُوشَالَحَ بْنِ أَخْنُوخَ بْنِ يَارِدَ بْنِ مَهْلَلْئِيلَ بْنِ قِينَانَ، 38بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيتِ، بْنِ آدَمَ، ٱبْنِ ٱللّٰهِ.

إن سلسلة نسب يسوع، الحاوية سبعة وسبعين اسماً، تصرح بأنه ابن آدم وابن الله. وقد كانت معمودية يسوع خطاً بارزاً تحت بنوته الإلهية. أما سلسلة نسبه فقد كتبت لبنيان أصله البشري. والأمران معاً ألهما الكنيسة عقيدتهما بأنه إله حق وإنسان حق

وبما أن يسوع كان شريك الناس في الدم واللحم، كان مثلنا، واستجاب لصوت الدم، كأي إنسان آخر. وتذوق فرح الربط العائلية، وشعر بأثقالها أيضاً. وكان متعلقاً بمصير شعبه لغة وتقاليد وتاريخاً وإيماناً وتعاهداً مع الله.

وقد أظهر لوقا لنا بوضوح أن يسوع ليس ابن يوسف، بل حسبه الجيران هكذا. وبالحقيقة فقد كان الله أباه. كما أن البشير أكمل نسبه إلى آدم الذي هو لله. وبهذا يظهر أن يسوع لا يخص شعب العهد القديم فقط، بل البشر كلهم. فشخصية المسيح عالمية لا شعوبية.

وسمى بولس المسيح آدم الثاني مبتدئاً جيلاً جديداً مكوناً من أبناء الله، لأن آدم الأول وهو مخلوق حسب صورة الله المجيدة فقد امتيازه لأجل استكباره وتمرده، وأصبح فانياً مائتاً. أما يسوع الإنسان المولود من الروح القدس، فقد كان ابن الله الحق، وثبت في التواضع مخلياً مجده ليخلص البشر الأشرار، وصالحهم مع الله، ليشركهم في بنوته وبحياة قيامته. فبالمسيح وحده، نستطيع أن نصبح أولاد الله.

وابتدأ المسيح خدمته الخلاصية، وهو في الثلاثين من عمره تقريباً. وامتنع عن الزواج والعائلة والراحة وشرف الوجاهة في القرية، مختاراً الاحتقار ومحبة الأعداء، وحمل خطاياهم. فضحى بنفسه في ملء قوة حياته كشاب ذبيحة مرضية لله. أليس هذا أعلى مثل لأجلك، أن لا تعيش لنفسك، بل تصنع حياتك في خدمة مصالحة العالم مع الله، الذي يرسلك إلى نشر خلاصه؟

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، أنت إله حق وإنسان حق. ساعدنا ونحن خطاة، لنصير أولاد الله ونتبعك ونضحي بحياتنا في سبيل الخلاص للكثيرين. اغلب كل مواريثنا من الأصول البشرية. وقدس أخلاقنا، لنأتي بثمر روحك الكثير.

3 - تجربة يسوع (4: 1 - 14)

الأصحاح الرابع: 1 أَمَّا يَسُوعُ فَرَجَعَ مِنَ ٱلأُرْدُنِّ مُمْتَلِئاً مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَكَانَ يُقْتَادُ بِٱلرُّوحِ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ 2 أَرْبَعِينَ يَوْماً يُجَرَّبُ مِنْ إِبْلِيسَ. وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئاً فِي تِلكَ ٱلأَيَّامِ. وَلَمَّا تَمَّتْ جَاعَ أَخِيراً. 3 وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: «إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ، فَقُلْ لِهٰذَا ٱلْحَجَرِ أَنْ يَصِيرَ خُبْزاً». 4 فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «مَكْتُوبٌ أَنْ لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ ٱللّٰهِ».

لقد كان يسوع ممتلئاً بالروح القدس بعد معموديته. واشتاق إلى العزلة مع أبيه السماوي، ليتكلم معه عن أسرار خدمته الخلاصية على الأرض. لأن الابن لم يعمل شيئاً، إلا ما أراه الآب. وكان هذا التكلم مع أبيه في برية عالمنا مهما بالنسبة إليه بقدار، أنه لم يهتم بالأكل والشرب، لأن الشركة مع الله تجعل حتى الصحراء فردوساً. والروح القدس اقتاد في كل لحظة أفكار الابن وكلامه مع الله، وختم مباشرته لخدمته، بينما كان يصلي ويصوم في عزلة الصحراء أربعين يوماً وليلة.

وانسل الشيطان اللئيم إلى حرمة يسوع، بقصد أن يجد فيه نقطة ضعف، لينتزعه من شركة أبيه، وليبطل الصليب وفداء العالم. ولم يجد الشرير ثغرة، يهجم منها على المسيح، إلا جسده الجائع. ففتح للابن الساغب عينيه لملايين الحجارة، التي حوله وألهمه ن يخلق منها خبزاً. وآمن الشيطان بسلطان الابن، إنه خالق الكون، قادر أن يغير المادة إلى غيرها.

ولكن سم الشيطان كان في السؤال وليس في غاية التجربة لوحدها. فلم يقل الشرير أنت ابن الله، بل إن كنت ابن الله، فاعمل... واضعاً بنوة المسيح وأبوة الآب محل تساؤل، كأنه غير متأكد، وفي حاجة إلى برهان. أما الابن فأدرك صوت الماكر العبقري، لم يشك في محبة أبيه له، ولا في ولادته من الروح القدس، وامتنع عن التجاوب مع صوت الشيطان، ولم يطعه ولم يرد كسب العالم بواسطة الخبز بل اختار طريق الصليب.

فأصاب يسوع الشيطان بالكلمة «مكتوب» رغم أنه كان قادراً أن يأتي بكلمة بليغة خاصة. لكنه تواضع تحت وحي الله السابق وأرانا من ذلك أن الإنسان يعيش من كلمة الله جوهرياً. لأن هذه الكلمة تؤكد لنا شركتنا مع القدوس. فالمسيح تواضع جداً وسمى فسه إنساناً حقاً محتاجاً إلى الخبز اليومي، لدوام الحياة، ومحتاجاً أكثر إلى كلمة الله، التي هي الغذاء الروحي للنفس.

هل أدركت انتصار المسيح على الشيطان؟ لم يشك في بنوته الروحية، ولم يطع صوت المجرب البتة، بل رفض إرضاء العالم بأعمال خيرية وعجائب مثيرة، واختار السماع لكلمة الله المكتوبة كالطريق الوحيد للثبات في الحياة الأبدية. فلا تسمع أيها الأخ إل ألوف الأصوات في عالمنا، ولا تستسلم لأهداف البشرية، بل اقرأ يومياً كلمة الله بدقة. فلا تسقط إلى تجربة. لأن هذا الغذاء السماوي، هو الذي يمنحك القوة لغلبة الشيطان. طوبى لك، إن عينت في كل صباح ومساء ما بين خمس دقائق إلى خمس عشرة، لتصلي وتقأ في الكتاب المقدس. عندئذ تغنى روحياً، وتتقدس بتواضعك وتدرك أنه ليس حل لمشاكل عالمنا إلا بصليب المسيح، الذي يقودنا إلى الشركة مع الله الآب ويثبتنا فيه.

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، نشكرك لأنك قاومت الشيطان من أول لحظة. ولم تشك في أبوة الله وبنوتك الأكيدة له، بل اخترت طريق الصليب، مصغياً إلى الكلمة المكتوبة. فافتح آذاننا لنصغي لصوت هداك، ونطيعك ونتقوى لنغلب كل التجار الروحية والنفسية والجسدية.

4: 5 ثُمَّ أَصْعَدَهُ إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ ٱلْمَسْكُونَةِ فِي لَحْظَةٍ مِنَ ٱلّزَمَانِ. 6 وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: «لَكَ أُعْطِي هٰذَا ٱلسُّلْطَانَ كُلَّهُ وَمَجْدَهُنَّ، لأَنَّهُ إِلَيَّ قَدْ دُفِعَ، وَأَنَا أُعْطِيهِ لِمَنْ أُرِيدُ. 7 فَإِنْ سَجَدْتَ أَمَامِي يَكُونُ لَكَ ٱلْجَمِيعُ». 8 فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «ٱذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! إِنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ». 9 ثُمَّ جَاَ بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَأَقَامَهُ عَلَى جَنَاحِ ٱلْهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ فَٱطْرَحْ نَفْسَكَ مِنْ هُنَا إِلَى أَسْفَلَ، 10 لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلائِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ، 1 وَأَنَّهُمْ عَلَى أَيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لا تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ». 12 فَأَجَابَ يَسُوعُ: «إِنَّهُ قِيلَ: لا تُجَرِّبِ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ». 13 وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ.

لم يكف الشيطان عند أول تجربة بل أكثر من مغريات عروضه لقطع الابن عن شركة أبيه، وليبطل خلاص العالم. فقاد الشرير القدوس إلى جبل عال، واستعرض أمامه كل البلدان والبيوت والكنوز والحيوانات والجيوش والتكنيك والقدرة وقوة الأرض، حتى أن يسوع سماه بعدئذ رئيس هذا العالم، الذي دفع إليه الجميع.

وادعى أبو الكذابين، أن له حق التصرف في العالم كله. وأنه مستعد، ليعطي يسوع ما يشاء، إن خرّ أمامه سجداً. لقد أتى يسوع ليرجع العالم الفاسد إلى الله وليصالح العصاة مع أبيه. فالآن تلألأت هذه الإمكانية قريبة، لكسب العالم بلا آلام ولا موت بشرط بسيط أن يخضع أحد أقانيم الثالوث الأقدس لروح الشرير عبداً.

فلم يتأخر يسوع لحظة، ورفض كل غنى وشهرة وسلطة، واختار الكلمة المكتوبة والتصق بأبيه، الذي كان معه في شركة المحبة بلا انقطاع. وأمر بسلطان إلهي العدو أن يسلم نفسه لله ويسجد للخالق، وينتهي من عدواته ويتوب حقاً. في هذه اللحظة توقفت السمء عن التنفس، وارتجفت طبقات جهنم كلها، لأن ابن الله أمر الشيطان بإطاعة الإيمان.

ولكن الشيطان تظاهر بالصمم، وقسى قلبه ضد أمر الله العلي، مبدياً استعداده لمرافقة المسيح إلى الهيكل ليسجد لله. وأوقف ابن العلي على جناح الهيكل، مشرفاً على ضجيج الأتقياء في الحرم الشريف. وعند ذاك وسوس اللعين المكار في أذن المسيح، قائلاً: إن كنت ابن الله فاعلن الآن مجدك الكامل، وألق نفسك من ها هنا فتتراكض ملائكة الله، وتحيطك بأحضانها وأذرعها، وتظهر قدرة الله، حسب إيمانك، وتتعجب الجماهير، وتصرخ معترفة هوذا المسيح بالحقيقة! ويسجدون لك مختارين، وراجين قيامة الأموات. ولا يحدث لك شيء لأن إيمانك يخلصك.

ولكن المسيح قد اختار طريق الصليب، عارفاً أن مجيئه المجيد الثاني، لا يتم بدون الصليب، لأن الله لا يشاء أن يدين الهالكين بمجده، بل يخلص التائبين. ويسوع لم يرد أن يسحر البسطاء بأعاجيب خارقة، بل أن يقودهم إلى انقلاب أفكارهم وتجديد أذهنهم. ورفض المسيح تجربة الشيطان، لئلا يفقد شركته مع أبيه السماوي. ويقيم ملكوته قبل نضوج الفكر في المؤمنين. وهذا التفكير المضاد لمشيئة القدوس، سماه المسيح تجربة لله. فثبت المسيح مطيعاً، واختار طريق الصليب، ورفض صنع الخبز، ولبس السلطة وإظهار المجد.

فماذا تعمل أنت في تجربة الشيطان؟ هل تتجاوب مع شهوات جسدك. عبداً لأفكارك؟ هل تسقط إلى غرور الغنى، وتعبد المال بشعورك الباطني؟ هل تريد تحقيق طرق الله بقوتك الذاتية، بدون إرشاده؟ فعندئذ تصبح من تابعي الشيطان. وتفقد شركتك مع الله. أيه الأخ، اختر يومياً قراءة كلمة الله. واقنع بما عندك، واطلب من ربك فهم كلمته بحكمة إلهية وتحقيقها في سيرتك الاجتماعية، لأن الشيطان يعرف الكتاب المقدس أيضاً، ويلهمك كلمات الله بطريقة ملتوية. فكافح لفهم كلمة ربك، حسب الحقيقة. واثبت في بنوتك لكيلا يفصلك شيء عن الله أبيك، الذي ملأك بروحه اللطيف لتكمل طريق الإيمان.

الصلاة: أيها الرب القدير، أنا ضعيف لأعارض حيل الشيطان. فلا تدخلني في تجربة، بل ثبتني في رحاب المسيح. ونجني من الشيطان، لكيلا يجد العدو الشرير سلطة فيّ، بل أمكث في الشركة، معك ومع أبينا السماوي إلى الأبد.

ثالثاً - أعمال يسوع في الجليل (4: 14 - 9: 50)

1 - كرازة يسوع في الناصرة ورفضه من أهلها (4: 14 - 30)

4: 14 وَرَجَعَ يَسُوعُ بِقُّوَةِ ٱلرُّوحِ إِلَى ٱلْجَلِيلِ، وَخَرَجَ خَبَرٌ عَنْهُ فِي جَمِيعِ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ. 15 وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ مُمَجَّداً مِنَ ٱلْجَمِيعِ.

16 وَجَاءَ إِلَى ٱلنَّاصِرَةِ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَرَبَّى. وَدَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ ٱلسَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ، 17 فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ ٱلسِّفْرَ وَجَدَ ٱلْموْضِعَ ٱلَّذِي كَانَ مَكْتُوباً فِيهِ: 18 «رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاقِ ولِلْعُمْيِ بِٱلْبَصرِ، وَأُرْسِلَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ فِي ٱلْحُرِّيَّةِ، 19 وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ ٱلرَّبِّ ٱلْمَقْبُولَةِ». 20 ثُمَّ طَوَى ٱلسِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى ٱلْخَادِمِ وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَجْمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَة إِلَيْهِ. 21 فَٱبْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّهُ ٱلْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ».

صعد المسيح من وادي الأردن العميق إلى جبال الجليل، ماراً بأورشليم العاصمة. واختار منطقة كورته المحتقرة. ودخل هناك إلى مجامعهم، حيث كان يفسر الناضجون في حلقات صغيرة التوراة بعضهم لبعض. وأصبح يسوع معلماً شهيراً، رغم أنه لم يكن تجاوز عد الثلاثين، لأن قوة الله خرجت منه، وحركت القلوب.

ودخل يوم السبت إلى مجمع بلدته الناصرة، حيث كانت القراءة المحددة لذلك اليوم قد وصلت إلى نبوة إشعياء 61: 1 و2 إذ يفسر النبي جوهر المسيح بالتدريج وأعماله. ولما قرأ يسوع هذه الفقرة، شخص الكل فيه، لأنهم عرفوه منذ حداثته. وكلهم كانوا مرتبين المخلص السياسي، الذي يحرر البلاد اجتماعياً وروحياً وليس روحياً فقط.

ورأى ابن الله في هذه النبوة الموجزة إظهار قلبه ووظائفه ومبادئه وحقوقه جلياً واضحاً، حتى صرح بعزم: اليوم تمت هذه الوعود بحقيقتها أمامكم. وفسر صفات المسيح السبع الواردة في هذا النص، ليس بطريقة سياسية خاطئة، بل بنسبة خلاص الله، حسب إعلان الروح القدس في كل أوان. قال:

  1. روح الرب علي. وبما أن روح الله هو الله بالذات، فقد حل ملء اللاهوت في الإنسان يسوع جسدياً. وظهر فيه الثالوث الأقدس. وحصل على سلطانه، بمسح الروح. لأن اسم المسيح يعني الممسوح. وفي العهد القديم مسح الأنبياء والملوك ورؤساء الكهنة بلزيت المكرس، بأمر الله، لكي تثبت كل الوظائف الهامة في العهد القديم متصلة بالله. وجمع المسيح كل الوظائف والقوى والمعارف والسلطات في شخصيته، لأن العلي نفسه تكلم وملك بواسطته. فالمسيح هو النبي الحق، وملك الملوك، ورئيس الكهنة، الذي صالحنا مع الله ببذل نفسه. كل هذه المعاني تجدها في اسم المسيح.

  2. لم يأت المسيح إلى الأغنياء والأذكياء والمتعجرفين والمكتفين ببرهم، بل تقدم إلى المساكين والتائبين والجهلاء والغوغائيين. لأنهم محتاجون إليه. أما الآخرون فهم مكتفون بأنفسهم خصوصاً الأتقياء الظانون أنهم مستقيمون. فأولئك هم المراءون حقاً. ولم يأت ابن الله للدينونة، ولإهلاك الخطاة، بل للتشجع والتعزية، وسبباً للفرح والرجاء عند المؤمنين.

  3. ويشفي المسيح القلوب المنكسرة. إنه شفى مرضى وأقام موتى. ولكنه عرف أن الضرر والخسارة الكبرى في الإنسان، هي قلبه الشرير. وحيثما يفقد الإنسان أمله، ويعرف خطيته ويضطرب من نفسه، وينكسر في كبريائه، يرحمه المسيح رحمة كبرى. فإن اعترفت فشلك، يرفعك المسيح. ويقيمك في نعمته، مقاماً ثابتاً أميناً.

  4. والمسيح يدعونا للإيمان بإمكانية التحرير، من سجن الخطايا وسلاسل الموت. ولا يحررنا فوراً من هذه العبودية، بل يعطينا وعده، متطلباً منا الإيمان بكلمته. ويؤكد لنا الحرية من كل الارتباطات والنواميس لكي نقر ونعزم ونريد الحرية، لأن المسيح لا يعمل منك عبداً مستعبداً، بل يجعلك حراً مشاركاً في المسؤولية. فهل أنت مستعد لقبول خلاص المسيح، وتتكل على مخلصك، مسلماً إرادتك له؟

  5. المسيح يفتح أعين العمي جسدياً وروحياً. ولم يكن إنسان قادر لفتح أعين العمي، إلا يسوع بكلمة قدرته. هكذا يفتح أعيننا الروحية الملتصقة بالخطية، لكي نرى الله َأبانا. والمسيح ينير ظلمتنا الدامسة بمحبته البهية، لأنه، هو نور العالم.

  6. والمسيح يرسل المعذبين في الحرية، لأن من يدخل في رعاية ومعالجة يسوع، يتطور في ذهنه تدريجياً إلى حرية حقة من عبودية الشيطان. وحيث كان الإنسان معقداً معذباً، عقلاً ونفساً وذهناً بروح شرير من دين مضاد للمسيح، هناك ينتهي كيانه المسعبد بتدخل المسيح، ويصبح هذا الإنسان حراً في قلبه، وفرحاناً في روحه، لأن الرب هو روح، وحيث روح الرب هناك حرية.

  7. وصوت محبة الله في المسيح، حقق سنة الرب المقبولة، فنعيش الآن في عصر النعمة. وقد ابتعد غضب الله، وانفتحت محبته للكل. وفي العهد القديم، كان النظام، إنه كل مرة بعد مرور خمسين سنة، تأتي سنة يتحرر فيها العبيد ويغاثون وتعود الأملاك امرهونة إلى أصحابها الأصليين. ويتمتع كل الشعب بثمار الحقول سواسية كأسنان المشط. وفي العهد الجديد، يأتي عصر النعمة بتحريرنا من الخطية والموت. ويشركنا بالقوى وحقوق الله. ويمنحنا غذاء روحياً من ثمار الروح القدس. وكما ابتدأت السنة الخمسون في العهد القديم بعيد التكفير العظيم، هكذا ابتدأ عصر النعمة بموت المسيح على الصليب. فهل اشتركت بسنة الرب المقبولة؟ وهل يكون روح الرب عليك؟ لأنه مسحك؟

الصلاة: أيها الرب، نعظمك لأنك إله حق من إله حق، ممسوح بملء الروح القدس. وتحرر البشر من عبودية الذنوب والموت. وتطور الأذهان المعقدة، إلى ملء محبة الله. ساعدنا لكي نتوب ونسلم أنفسنا إلى معالجة لطفك حقاً.

4: 22 وَكَانَ ٱلْجَمِيعُ يَشْهَدُونَ لَهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَلِمَاتِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلْخَارِجَةِ مِنْ فَمِهِ، وَيَقُولُونَ: «أَلَيْسَ هٰذَا ٱبْنَ يُوسُفَ؟» 23 فَقَالَ لَهُمْ: «عَلَى كُلِّ حَالٍ تَقُولُونَ لِي هٰذَا ٱلْمَثَل: أَيُّهَا ٱلطَّبِيبُ ٱشْفِ نَفْسَكَ. كَمْ سَمِعْنَا أَنَّهُ جَرَى فِي كَفْرِنَاحُومَ، فَٱفْعَلْ ذٰلِكَ هُنَا أَيْضاً فِي وَطَنِكَ، 24 وَقَالَ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ مَقْبُولاً فِي وَطَنِهِ. 25 وَبِالْحَّق أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ أَرَامِلَ كَثِيرَةً كُنَّ فِي إِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِ إِيلِيَّا حِينَ أُغْلِقَتِ ٱلسَّمَاءُ مُدَّةَ ثَلاثِ سِنِينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ، لَمَّا كَانَ جُوعٌ عَظِيمٌ فِي ٱلأَرْضِ كُلِّهَا، 26 وَلَمْ يُرْسَلْ إِيلِيَّا إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا، إِلَّا إِلَى أَرْمَلَةٍ، إِلَى صِرْفَةِ صَيْدَاءَ. 27 وَبُرْصٌ كَثِيرُونَ كَانُوا فِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ أَلِيشَعَ ٱلنَّبِيِّ، وَلَمْ يُطَهَّرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَّا نُعْمَانُ ٱلسُّرْيَانِيُّ». 8 فَٱمْتَلأَ غَضَباً جَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَجْمَعِ حِينَ سَمِعُوا هٰذَا، 29 فَقَامُوا وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ ٱلْمَدِينَةِ، وَجَاءُوا بِهِ إِلَى حَافَّةَ ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي كَانَتْ مَدِينَتُهُمْ مَبْنِيَّةً عَلَيْهِ حَتَّى يَطْرحُوهُ إِلَى أَسْفَلُ. 30 أَمَّا هُوَ فَجَازَ فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى.

إن عقول أهل الناصرة غير المستنيرة، لم تستطع إدراك ولادة المسيح من الروح القدس. فكان الرجال والفتية الذين في المجمع طبيعيين لا روحيين. فسموا يسوع ابن يوسف وليس ابن الله. وكانوا عمياً بدون الروح القدس فاسدين ومستكبرين في روح مدينتهمالشرسة.

وقد تألموا من احتقار المدن الشهيرة لهم، ككفرناحوم وأورشليم، وتمنوا أن يروا من يسوع عجيبة عظيمة، يجلب إليهم الشهرة والغنى. وكذلك كانوا مستعدين ليحملوا ابن بلدتهم على أكتفاهم، إن حقق رغبتهم في تحسين أوضاعهم ورفع صيتهم.

ربما كان يوسف أبوه بالتبني، قد مات آنذاك. فانتقلت مريم وبيتها إلى مرحلة فقيرة فقال الناصريون: حسن حالك أولاً. ابن قصراً، اجعل أقرباءك مشهورين، زين بلدتك بالطرق الواسعة والماء، وارفع حالتنا المدنية لا الروحية، هلم! عندئذ نجعلك محورحضارتنا وملك وطنك، ونعترف أنك أنت المسيح الحق. فماذا عندك لنتبعك؟

ولكن يسوع، لم يكن عنده مال وملك وجيوش، إلا الروح والرحمة والنور. فلم يأت بسلطة وتطور المدنية وشرف دنيوي، بل قدم للعالم القداسة والتعزية وتجديد القلوب. فامتنع المسيح من غرور الغنى وضالة الشهرة، واختار إنكار النفس والتواضع والوداعة.وكان شعب العهد القديم بأكثريته الساحقة، غير مستعد ليمشي على طريق الروح القدس هذا. فرفضوا يسوع، لأنه لم يغنهم، وأبغضوه إذ دعاهم للتوبة وانكسار القلوب.

وهذا ما حدث دائماً، إن الناس كانوا يهتفون للمسيح في البداية بكلمة أوصنا، لما شعروا بلطفه ولسانه وتواضعه. ولكن لما لم يعطهم مالاً وانتصاراً سياسياً وشرفاً لامعاً، صرخوا اصلبه اصلبه! فاختاروا في النهاية باراباس القاتل والثائر، ورفضو يسوع حمل الله الوديع. فمن تختار أنت؟ فكر ملياً بأهداف حياتك، وقرر مصيرك.

والانقلاب الغريب من التحمس إلى البغضاء، سببه يسوع نفسه عمداً، ليعلن ما يكمن في قلوب الناس. فقال لأهل الناصرة، إن روح الرب فيّ، أي أنه نبي حق، لا يوافق على مطاليب بلدته. والتاريخ قد برهن في أكثر فتراته، أن عون الله، وصل بمنتهى السهلة إلى الوثنيين المحتقرين وغير المختارين، أكثر من تحققه في أتقياء العهد القديم غير التائبين. فلم يقدر المسيح أن يساعد ويخلص إذا لم تنكسر القلوب، وتهاب النفوس من قداسة ربها، مدركة أنها غير مستحقة آية رحمة. إنما الناصريون الغوغائيون، طلبوا الظفر لا التوبة. وتمنوا الأبهة لا الاعتراف. فاغتاظوا وحنقوا، ودفعوا يسوع دفعاً. وأخرجوه من المجمع، ليلقوه من حافة الجبل ليموت مهشماً.

وعرف أهل الناصرة باللصوصية، وقطع الطرق واللامبالاة سواء بالدين أو الدولة، وإن تظاهروا بالتقوى رياء. فلما وضح المسيح لهم أن روح الله لا يحل في بلدة يلبسها مثل هذا الروح اللصوصي، ودعاهم لانكسار كبريائهم، داخلهم الشيطان ليقتلوا مخلص العالم قبل أن يتم فداءه الأنام على الصليب.

وذهب يسوع معهم إلى حافة الهوة. وإذ ذاك التفت إليهم ونظر فيهم، واخترق قلوبهم ببصيرته، ودانهم بنظرته الثاقبة دون ان ينطق ببنت شفة. فانفضحت القلوب، وتجلدت الأجسام بإدراكها عندئذ أنه الله. وأما يسوع فترك قاتليه وأقرباءه واقفين، واجتاز من وسطهم. وهذه كانت العجيبة المدهشة في الناصرة، أنه أعلن بجلاله الروحي دنسهم الشيطاني.

واستبانت بهذه المناسبة أعجوبة أخرى، وهي أن ابن الله تربى كفتى بين شياطين. وبقي رغم ذلك قدوساً وبلا خطية. فالله حفظ ابنه، حتى أكمل رسالته على الصليب. فيا أيها الأخ، هل تعيش في بلدة ممتلئة بالشياطين؟ فلا تخف بل سلم نفسك إلى ربك، الذ يحفظك ويقدسك ويكمل رسالتك للمنتهى، فلا يقدرن أحد عليك.

الصلاة: أيها الرب، قد عرفت قلبي. اغفر لي شبقي إلى المال والشهرة، والأمنيات الدنيوية. واهدني إلى التوبة والاعتراف، وإنكار النفس. ولا ترفضني من وجهك، وروحك القدوس لا تنزعه مني. خلص كثيرين في محيطي، ليخلصوا أنفسهم العتيقة ويحل روحك القدوس فيهم، بالغنى والفرح.

2 - أعمال يسوع في كفرناحوم ومحيطها (4: 31 - 44)

4: 31 وَٱنْحَدَرَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ، مَدِينَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ، وَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي ٱلسُّبُوتِ. 32 فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ، لأَنَّ كَلامَهُ كَانَ بِسُلْطَانٍ. 33 وَكَانَ فِي ٱلْمَجْمَعِ رَجُلٌ بِهِ رُوحُ شَيْطَان نَجِسٍ، فَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ 34 قَائِلاً: «آهِ مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ! أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ ٱللّٰهِ». 35 فَٱنْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: «ٱخْرَسْ وَٱخْرُجْ مِنهُ». فَصَرَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فِي ٱلْوَسَطِ وَخَرَجَ مِنْهُ وَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئاً. 36 فَوَقَعَتْ دَهْشَةٌ عَلَى ٱلْجَمِيعِ، وَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: «مَا هٰذِهِ ٱلْكَلِمَةُ! لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ وَقّوَةٍ يَأْمُرُ ٱلأَرْوَاحَ ٱلنَّجِسَةَ فَتَخْرُجُ». 37 وَخَرَجَ صِيتٌ عَنْهُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ فِي ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ.

لم يميز أبناء الناصرة صوت الروح القدس اللطيف، ولم يفهموا كرازة المخلص، وأقفلوا أنفسهم عن تعليمه وشخصيته، وأبغضوه لأنه وبخ قساوتهم. وأرادوا قتله، فترك يسوع مدينته نهائياً واختار كفرناحوم، القائمة على شاطئ بحيرة طبريا مركزاً لأعماله وسكن في بيت بطرس، تلميذه الأكبر. وكان يسوع يذهب كل يوم سبت إلى المجمع، حيث يجتمع طالبو الله المصلون. وعلمهم بسلطان فائق، لأن الله نفسه الساكن فيه، تكلم بواسطته. فالجميع شعروا بتزعزع في قلوبهم. والكلمات المعروفة والاعتيادية في التوراة، ارت في فمه ممتلئة نوراً وقوة، مخترقة القلوب بدينونة الله. وعزت اليائسين بمحبة العلي. فلم يكن تعليم يسوع منطقياً موضوعياً أو تقليدياً، بل روحياً مباشراً. وقد أصاب أساس الشعور الباطني.

وأحد الناس سكنه روح شيطان. فأتى هذا الإنسان إلى المجمع. ولم يقدر أحد ما أن يحرره. وهذا الروح الشرير شعر بقرب الله. وصرخ مستفزعاً، ماذا تريد مني؟ لا أريد التعلق بك، ابق بعيداً عني! فلم يحن الوقت للدينونة بعد، لماذا تجيء مسبقاً؟ أناأعرفك بالضبط أيها الإنسان يسوع، من مدينة الناصرة الشريرة. أنت قدوس الله! إن الشياطين يعرفون يسوع ويؤمنون به مرتجفين من قداسته. وجهنم كلها، تخاف من هذا الاسم الفريد «يسوع» إنسان الله. ولم يروا محبته ولطفه وعونه وخلاصه، لأن رحمته المجيدة ستترت عليهم. فارتجفوا من جلاله، القاطع القدوس، لأن قداسة الله تحجب مجد محبته. فلم ير الشيطان لب جوهر يسوع، ولكن أدرك فقط أشعة حقه الساطع.

وما سمح يسوع للشيطان أن يتكلم أكثر، لأن قوله كذب مبدئي، ولو بان أصدق الأقاويل. نعم يسوع هو القدوس وقاضي العالم. ولكن قلبه مفعم المحبة للخلاص والشفاء والتحرير والتعزية والإحياء. فروح الرب في المسيح، قصد فداء العالم، لا إبادته. ولكنهذه الحقيقة لم يعلنها الشيطان. وأراد إسقاط البشر إلى الخوف من يسوع، كما لم يكن هو إلا خوفاً مضطرباً منه أيضاً.

ورحم يسوع المعذب الملبوس، وأمر الروح النجس بكلمة واحدة أن يخرج. وحيثما يقرر الله، فلا معارضة. فبصرخة الفزع خرج الروح الشرير من بيته، الذي سرقه. وصرع الإنسان، كأنما يبغي تحطيمه إشلاء. فلم يقدر على إضراره، لأن ابن الله أحاط المسكين سلطانه الحنون.

وعند ذاك جمد الحاضرون، وتنملت أعصاب ظهورهم، معاينين الصراع بين السماء وجهنم. وأدركوا الوسيلة القاطعة في يسوع وهي كلمته القوية. فهل أدركت بأي طريقة يأتي سلطان المسيح إلينا؟ إنه يأتي بإنجيله وحده. فافتح نفسك تماماً لأقوال المسيح، فتل فيك قوى الله كلها، كاشفة خطاياك غافرة ذنوبك وغالبة كل روح نجس فيك. إن المسيح هو المنتصر، وحتى على أفكارك وروحك وجسدك إن فتحت نفسك له طوعاً.

الصلاة: أيها الرب، أقترب إليك بقلب مضطرب نجس. اشفني طهرني، اغفر لي أفكاري وأعمالي. واخرج كل روح نجس من داخلي، لكي لا يرجع إليّ. وحل بروحك القدوس فيّ، لكي أسلم نفسي لك خالصة إلى الزمن والأبد. ولا أريد إلا خدمتك وتعظيمك شكرك.

4: 38 وَلَمَّا قَامَ مِنَ ٱلْمَجْمَعِ دَخَلَ بَيْتَ سِمْعَانَ. وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ قَدْ أَخَذَتْهَا حُمَّى شَدِيدَةٌ. فَسَأَلُوهُ مِنْ أَجْلِهَا. 39 فَوَقَفَ فَوْقَهَا وَٱنْتَهَرَ ٱلْحُمَّى فَتَرَكَتْهَا! وَفِي ٱلْحَال قَامَتْ وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ. 40 وَعِنْدَ غُرُوبِ ٱلشَّمْسِ، جَمِيعُ ٱلَّذِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ سُقَمَاءُ بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدَّمُوهُمْ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَشَفَاهُمْ. 41 وَكَانَتْ شَيَاطِينُ أَيْضاً تَخْرُجُ مِنْ كَثِيرِينَ وَهِيَ تَصْرُخُ وَتَقُولُ: «أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ!» فَٱنْتَهَرَهُمْ وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ أَنَّهُ ٱلْمَسِيحُ.

رجع يسوع من وسط المعركة الروحية في المجمع إلى بيت تلميذه الأكبر بطرس، الذي أصله من بيت صيداء (يوحنا 1: 44). ولكنه أخذ عائلته وذهب إلى كفرناحوم، متبعاً المسيح. ولم يطلب يسوع من تلميذه أن يطلق امرأته لما آمن به، بل بارك بيته كله، وملأه بقوة روحه.

ولما غزت الحمى الخطرة حماة بطرس الساكنة معه، طلب بطرس وامرأته مع كل التلاميذ من يسوع، أن يشفيها، فإيمانهم المشترك وطلبهم المتواضع، حرك ذراع الله. فهل أدركت سر قدرة الصلاة المشتركة أمام يسوع؟

عندئذ وقف يسوع فوق سرير المريضة المحرورة، وأخذ بيدها، وأمر الميكروب أن يخرج من خلاياها. وكلمة الخالق تتضمن القوة ألا تبقى مريضاً. لأنه حيث يتقدم المسيح تبتدئ الحياة الأبدية والشفاء والفردوس. ففي حضوره تصح القلوب والأجساد والأذهان.فتعال إلى يسوع بكل ضيقاتك. وسلم نفسك إليه فتكمل قوته في ضعفك.

ولقد اختبرت حماة بطرس انتصار المسيح وقدرته، لأنها قامت رأساً موقنة، وخدمت الرجال المجتمعين. فأصبحت رمز المخلصين، لأن من شفاه المسيح في أحشاء قلبه وتجدد، يصبح مباشرة خادمه وخادم كل الناس. كما أن يسوع جعل نفسه خادماً للبشر. فهل أنت مريض أو خادم؟

وتراكض الناس إلى بيت بطرس، حاملين المرضى على فرشهم. وأتت الأمهات بأولادهن على أذرعهن، طالبات من يسوع شفاءهم بقوته. ولم يطرد المسيح منهم أحداً. بل وضع يديه المباركتين الإلهيتين على كل منهم، وحررهم من سلطة المرض. وشفاؤه لم يكن سحراً بل قوة الله التي جرت من قلبه الحنون إلى صميم المؤمن.

فغروب الشمس في نهاية يوم السبت، منح المقيدين بالناموس الحرية، أن يجلبوا مرضاهم إلى يسوع أخيراً. فأتوا بهم على حمير وعربات وخيل، لأنهم عرفوا أن الشفاء قريب ومعطى مجاناً للعموم.

وبان أن قسماً كبيراً من المرضى، لم يكونوا مصابين بجراثيم مرضية، بل بلبس الشياطين. ويل للذي يذهب إلى العراف. ويستشير الأموات، ويطلب تحريك الدولة، ويشتري خرزة زرقاء لحماتيه، أو يزين سيارته بعين مسهومة! فهذه التصرفات المقيتة تعلقه مبشرة بالشياطين، لأنه يؤمن بقدرتها الفاعلة. تعال إلى يسوع، بروحك الشرير وقيودك الضخمة. لأنه يحررك من سلطان الشيطان وينقلك إلى رحابه، ويحفظك في حماية الله الحي.

ويعرف الأبالسة يسوع بالتمام، لعلمهم أنه ابن الله، فلا بحث أو تساؤل عندهم، بل ارتجاف وفزع. وإن أكثر الناس، لعمي عن حقيقة الله وابنه. ولا يعرفون الآب، ولا المولود من روحه. فيشبهون المكفوفين الذين لا يجدون الباب المؤدي إلى الحياة. ولا يسلمون أنفسهم للمبصرين، الذين يأخذون بأيديهم إلى النجاة. فمن ير المسيح ير الله أباه. لأن الابن واحد معه وثابت فيه.

وانتهر يسوع الشياطين، لكيلا يعلنوا سره. إنه المسيح الحق. فلا يشعلوا نار الحماس السياسي في الجماهير، لأنه أراد أن يترك لهم الفرصة ليدركوا صورته الحقة، كما أعلنها في مجمع الناصرة شعاراً لكل خدماته. فلم يبن المسيح إيمان أتباعه على شهدة الشياطين، بل على محبته وحقه ورحمته. فحرر المعذبين من عبوديتهم، ونقلهم إلى حرية مفديي الرب. فهل ثبت في رحابه؟

الصلاة: يا رب الأرباب نسجد لك. لأنك إله حق من إله حق، ونور من النور الأزلي. اغفر خطايانا وميولنا، إلى أرواح نجسة. وحررنا من حمى شهواتنا، وفك سلاسل عبوديتنا للأرواح الشريرة، وثبتنا في ملكوتك الرحيم.

4: 42 وَلَمَّا صَارَ ٱلنَّهَارُ خَرَجَ وَذَهَبَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاءٍ، وَكَانَ ٱلْجُمُوعُ يُفَتِّشُونَ عَلَيْهِ. فَجَاءُوا إِلَيْهِ وَأَمْسَكُوهُ لِئَلَّا يَذْهَبَ عَنْهُمْ. 43 فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّهُ يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ ٱلْمُدُنَ ٱلأُخَرَ أَيْضاً بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، لأَنِّي لِهٰذَا قَدْ أُرْسِلْتُ». 44 فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِ ٱلْجَلِيلِ.

لقد كان يسوع إنساناً حقاً، وتعب من مجهوداته وأعماله الخلاصية. وجرب للاستكبار من أجل نتائجه الباهرة وإعلانات الشياطين القاهرة. فتخلى عن الجماهير، تاركاً تلاميذه لينفرد بأبيه. وصلى إليه، صاباً ومفرغاً قلبه أمامه. طالباً منه الهدى واحكمة والقوة والسلطان والصبر والمحبة واللطف الدائم. وصلى يسوع في الصباح، ليضع نهاره الطويل تحت تصرف أبيه. فلم يرد إجراء أعجوبة من تلقاء نفسه، بل فعل كل شيء منسجماً مع أبيه، قائلاً: الحق الحق أقول لكم، لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً،إلا ما ينظر الآب يعمل. لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك. لأن الآب يحب الابن ويريه جميع ما هو يعمله (يوحنا 5: 19 و20).

فكان في صلاة يسوع، ما علمنا نحن إياه: اسألوا تعطوا اطلبوا تجدوا اقرعوا يُفتح لكم. ولم يقل لنا «الله يجبركم أن تأخذوا النعمة راغمين. اذهبوا واحتضنوا مقدار ما تشاؤون من الكنوز، فكل الأبواب مفتوحة لكم». كلا لم يقل كذلك. بل إنه يوقظ ينا جهد الصلاة وكفاح الإيمان وصبر الابتهال. فالجماهير الضالة، والضيقات المتراكمة عليهم، والعقد المكبلة نفوسهم وعبودية أذهانهم للأرواح، لم تكن بالنسبة إليه موضوعاً لأفكار متفلسفة وسبباً للانتقاد والاحتقار. بل إنه أحب المساكين وصلى لأجلهم ووقف في سيول كوارث العالم وغلبها. إن يسوع كان مصلياً أميناً. وهذا هو سبب انتصاره على كل السلطات الشريرة، لأن الله ثبت فيه لأجل شكره وصلاة إيمانه. فبدون صلاة ليست شركة مع العلي. فكيف تصلي؟ وهل تبتهل باستمرار لأجل الآخرين أو تذكر نفسك وحها؟

واتبع أهل كفرناحوم المسيح إلى عزلته في البرية. وأرادوا أن يمسكوه، لأنهم اختبروا قدرة سلطانه، وتمنوا تأمين أنفسهم. فبان فيهم نفس الروح، كأهل الناصرة. إلا أن المسيح، لم يقدر أن يعين سكان الناصرة لعدم إيمانهم. ورغم الطموح الدنيوي عندأهالي كفرناحوم أعلن المسيح لهم دافع قلبه، محبة الله، لأنه قد ترك السماء، وأصبح إنساناً ليخلص التائبين. فمحبة القدوس التي فيه جعلت تبشيره ضرورة وفريضة مقدسة. ولا ريب أن الله غير مجبور، بل حر. ولكن جوهره يلزمه تحقيق إرادته. لأن قداسته عليها أن تدين الأشرار. كما أن محبته تدفعه إلى ذبيحة نفسه عوضاً عنهم. فالمسيح عاش في التزام الضرورة الإلهية، التي لا يفهمها كثير من الناس. لأنهم لا يعرفون جوهر الله حقاً، في محبته وقداسته.

فذهب يسوع إلى مدن كثيرة، يشركها بقوة الله، ويقدم لها بشرى الخلاص. وليس شفاء المرضى شعار خدمته، بل البشرى الغريبة عن ملكوت الله الحاضر بين البشر. فأبوه السماوي مالك الكل، وليس الشيطان الكذاب. وقد كافح الابن، ليرجع الناس إلى الله، لتركوا طوعاً عبودية الخطية ويمتلئوا بمحبة العلي. وكانت إمكانيات ملكوت الآب متضمنة ومستترة في المسيح، كما البذور تحتوي على أرواقها وزهورها وثمارها. واليوم كذلك تستتر مملكة النعمة في المؤمنين. والله يدعو كل المخلوقات للخضوع طوعاً، لأن الله محبة، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه. هل أصبحت مواطناً لملكوت الله، وسلمت نفسك لصاحبها؟

وكما أرسل الآب ابنه، لينشر ملكوت الحق، هكذا يدعوك ملك الملوك ليجهزك بقوته ويشركك في تنفيذ دستوره، كما أعلنها في الناصرة في الأصحاح 4: 18 و19. فهل أدركت برنامج المسيح وحفظته غيباً وتنفذه؟

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، أنت ربي وملكي ومالكي. اغفر لي أنانيتي وطموحي، إلى الإستقلال وعصياني. وعلمني الخضوع الروحي، ليملأني روح محبتك. ويدفعني إلى تبشير العالم، كما انك أنت كنت مبشراً عظيماً.

3 - كرازة المسيح في السفينة وصيد السمك الكثير ودعوة التلاميذ الأول (5: 1 - 11)

اَلأَصْحَاحُ ٱلْخَامِسُ: 1 وَإِذْ كَانَ ٱلْجَمْعُ يَزْدَحِمُ عَلَيْهِ لِيَسْمَعَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ، كَانَ وَاقِفاً عِنْدَ بُحَيْرَةِ جَنِّيسَارَتَ. 2 فَرَأَى سَفِينَتَيْنِ وَاقِفَتَيْنِ عِنْدَ ٱلْبُحَيْرَةِ، وَٱلصَّيَّادُون قَدْ خَرَجُوا مِنْهُمَا وَغَسَلُوا ٱلشِّبَاكَ. 3 فَدَخَلَ إِحْدَى ٱلسَّفِينَتَيْنِ ٱلَّتِي كَانَتْ لِسِمْعَانَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُبْعِدَ قَلِيلاً عَنِ ٱلْبَرِّ. ثُمَّ جَلَسَ وَصَارَ يُعَلِّمُ ٱلْجُمُوعَ مِنَ ٱلسَّفِينَةِ. 4 وَلَمَا فَرَغَ مِنَ ٱلْكَلامِ قَالَ لِسِمْعَانَ: «ٱبْعُدْ إِلَى ٱلْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ». 5 فَأَجَابَ سِمْعَانُ: «يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا ٱللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئاً. وَلٰكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ ألْقِي ٱلشَّبَكَةَ». 6 وَلَمَّا فَعَلُوا ذٰلِكَ أَمْسَكُوا سَمَكاً كَثِيراً جِدّاً، فَصَارَتْ شَبَكَتُهُمْ تَتَخَرَّقُ. 7 فَأَشَارُوا إِلَى شُرَكَائِهِمُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّفِينَةِ ٱلأُخْرَى أَنْ يَأْتُوا وَيُسَاعِدُوهُمْ. فَأَتَوْا وَمَلأُوا ٱلسَّفِينَتَيْنِ حَتَّى أَخَذَتَا فِي ٱلْغَرَقِ. 8 فَلَمَّا رَأَى سِمْعَانُ بُطْرُسُ ذٰلِكَ خَرَّ عِنْدَ رُكْبَتَيْ يَسُوعَ قَائِلاً: «ٱخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَارَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ». 9 إِذِ ٱعْتَرَتْهُ وَجمِيَع ٱلَّذِينَ مَعَهُ دَهْشَةٌ عَلَى صَيْدِ ٱلسَّمَكِ ٱلَّذِي أَخَذُوهُ. 10 وَكَذٰلِكَ أَيْضاً يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ٱبْنَا زَبْدِي ٱللَّذَانِ كَانَا شَرِيكَيْ سِمْعَانَ. فَقَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ: «لا تَخَفْ! مِنَ ٱلآنَ تَكُون تَصْطَادُ ٱلنَّاسَ!» 11 وَلَمَّا جَاءُوا بِٱلسَّفِينَتَيْنِ إِلَى ٱلْبَرِّ تَرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعُوهُ.

يجوع الناس كلهم إلى روح كلمة الله وخلاصه. وكل فرد يتعطش إلى غفران خطاياه في عمق كيانه. فلهذا افتح فمك، وبشر بالنعمة، وارسم المسيح أمام أعين زملائك، لأنهم مفعمو الشوق إلى الجنة، ولو تظاهروا بعكس ذلك. كل إنسان يتشوق بقلبه إلى بيت أبه السماوي.

ولما تراكضت الجماهير إلى المسيح، وازدحموا عليه حتى كادوا يلقونه إلى البحيرة، دخل يسوع إحدى السفن، وطلب سمعان. وبتواضع سأله أن يساعده في عمل تبشيره مبتعداً قليلاً عن الجماهير ليرى الجميع، وليسمعوه كلهم. فجلس، دلالة أنه المعلم الإله، الذي يعلم البشر الجهال، كيف يدخلون إلى ملكوت الله بواسطة تغيير ذهنهم ورجوع قلوبهم إلى قوة المحبة الأزلية. فالجماهير الكثيرة جلست على شاطئ البحيرة، مصغية بهدوء إلى هذا الصوت الفريد. فلم يسمع شيء، إلا كلمات يسوع ووشوشة الأمواج.

وبعد انتهاء يسوع من كلامه، أمر بطرس أن يصطاد في الظهيرة، على خلاف ما اعتاده الصيادون. لأن السمك، تنزل إلى الأعماق، إذا توسطت الشمس السماء. ولكن بطرس تأثر كثيراً عن موعظة يسوع، وسماه معلماً. وخضع لإرادته رأساً. إلا أنه أظهر تضايقاًحيث تعب الليل كله، ولم ينل شيئاً. إنما من أجل أمر المسيح، كان مستعداً أن يعمل كل شيء، ولو لم يفقه له معنى. حتى ولو شارف، أن يستهزئ به زملاؤه. أما المسيح فأراد أن يكسر عبده في خبرته. ويظهر له، أن مهارته المهنية لا تنفعه شيئاً في ملكوت اله، حيث تجري نواميس وقوى الروح القدس.

والمسيح يدعو اليوم أناساً، أن يجروا إلى عمق بحر البشر. ويلقوا فيه شبكة كلمة الله. وربما في الوقت الذي لا يبدو أنه مناسب مطلقاً. ولكن المسيح يرى التطورات المستترة في أعماق الشعوب. اصغ إلى أمر المسيح، واحترز لشيء واحد، أن تلقي شبكة لمة الله الكاملة، وليس جزءاً فقط، وإلا يكون لشبكتك ثقوب في العقيدة، لكيلا تهرب منها السمكة. نظف شبكتك واستعد للصيد.

وقد أطاع التلاميذ أمر المسيح. وفي إطاعة الإيمان هذه، تجد سبباً لانتصار الله. لو لم يطع بطرس كلمة المسيح، لم يصبح تلميذه. أما الآن فدفعت إرادة يسوع سرباً من السمك إلى شبكة الصياد الخبير، حتى كادت أن تتمزق. أيها الأخ، اليوم يوم الصي في أمتنا. اليوم يسلك سرب السمك إلى كلمة الله. أين تكون أنت، لتكسب عدداً كبيراً من أصدقائك، بواسطة شهادتك وكلماتك ورسائلك؟ أطع المسيح بتواضع وتشجع مصغياً إلى هدى المخلص، فتسحب كثيرين إلى نوره ليدخلوا إلى الحياة الأبدية، من الموت في الظلمة. اليوم إن سمعتم صوته، فلا تقسوا قلوبكم!

لم يكن بطرس عنيداً وطماعاً، بل قسم صيده على الجميع. وأشار لزملائه أن يتعاونوا. وهذا هو واجب المؤمنين اليوم، إنهم لا يملأون سفينتهم فقط، بل كذلك سفن الآخرين. فلا تحزن إن دخل عضو من كنيستك في كنيسة أخرى، لأن المسيح سيمنحكم أعضاء جدد كثيرين، إن تنشروا ملء كلمة الله بوضوح.

وفي هذا الصيد أدرك بطرس أن يسوع هو الله. ربما صلى خلال الليل، ورتل مع زملائه، داعين الله أن يملأ شباكهم. ولكن لما لم يحصلوا على شيء، تذمروا وجدفوا كثيراً. فالآن استجاب يسوع صلواتهم بطريقة أخرى. وأعظم مما فكروا. فخجل بطرس لأجل عدم يمانه وتذمره وعناده وتجديفه. وخر أمام ابن الله، مرتجفاً معترفاً بخطاياه. لأن الروح القدس أعلن فساده وخبثه في إظهار المسيح، إنه ضابط الكل، والموجه للسمك في أعماق البحر، والمبصر أسرار القلوب. فلم يشكر بطرس لأجل السمك الموهوب له، بل خجل لأل قلبه الشرير. فهل تهتز نعمة الله في حياتك؟ لأنه باركك حيث تستحق الضربات. ومنحك نعمة، حيث توجب عليك الموت لأجل جرمك.

وطعن يسوع خوف بطرس الأناني، وأمره لتغيير الفكر، حتى لا يفكر بنفسه. ودعاه إلى خدمة الله، وخدمة الناس أيضاً. واصبح بطرس بانكساره مستعداً للدخول إلى ملكوت الله. وهكذا يدعوك ابن الله، أن تموت لاهتمامك بنفسك، وتلتفت إلى أخيك الإنسان، لصطاده ليس بحيلة ومكر، بل بتواضع ومحبة، ولا ليموت على الشاطئ، بل ليدخل إلى ملء قوة الله وحياته. وبالحقيقة، فكل إنسان ميت في الخطايا. ولكن من يدخل إلى شبكة كلمة الله يحيا.

وبطرس وزملاؤه، سمعوا دعوة المسيح الفاصلة. وكانوا مستعدين في قلوبهم بواسطة كرازة يوحنا المعمدان. وتركوا في لحظة حصولهم على السمك الكثير كل غناهم. واختاروا طريقة فقر المسيح والاضطهاد معه، ليشركوا البشر بمجد ابن الله. إن المسيح دعاك لى خدمته، فصل وأطع لكل ما يأمرك به.

الصلاة: أيها الرب، لا أستحق أن تكون معي. لأني رجل خاطئ في كل كياني. شكراً لنعمتك لأنك تكرمني بنعمة فوق نعمة. تحفظني في نعمتك، ولا تخرجني خارجاً. أرسل كثيرين إلى صيد الناس في أمتنا، وفي كل العالم اليوم.

4 - شفاء أبرص واختلاء المسيح في البرية (5: 12 - 16)

5: 12 وَكَانَ فِي إِحْدَى ٱلْمُدُنِ. فَإِذَا رَجُلٌ مَمْلُوءٌ بَرَصاً. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ قَائِلاً: «يَا سَيِّدُ، إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي». 13 فَمَدَّ يَدَهُ وَلَمَسَهُ قائِلاً: «أُرِيدُ فَٱطْهُرْ». وَلِلْوَقْتِ ذَهَبَ عَنْهُ ٱلْبَرَصُ. 14 فَأَوْصَاهُ أَنْ لا يَقُولَ لأَحَدٍ. بَلِ «ٱمْضِ وَأَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ، وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ كَمَا أَمَرَ مُوسَى شَهَادَةً لَهُمْ». 15 فَذَاعَ ٱلْخَبرُ عَنْهُ أَكْثَرَ. فَٱجْتَمَعَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ لِكَيْ يَسْمَعُوا وَيُشْفَوْا بِهِ مِنْ أَمْرَاضِهِمْ. 16 وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَعْتَزِلُ فِي ٱلْبَرَارِي وَيُصَلِّي.

اعتبر البرص في العهد القديم قصاصاً من الله، لذنوب مستترة في الإنسان. فالجماهير كانوا يحتقرون البرص، ويطردونهم من المجتمع، ويخافون من العدوى. فعاش المساكين كأموات وهم أحياء. واعتنى أقرباؤهم بهم، ولكن بخجل وخوف. وإن اقترب إنسان سليم نحوهم كان عليهم أن يصرخوا من بعيد: النجاسة النجاسة!

وأحد هؤلاء المصابين. سمع عن قدرة المسيح العجيبة. واقترب منه بحذر، وقام فوراً، فابتعدت عنه الجماهير غاضبين، مستعدين ليطردوه. ولكنه ارتمى أمام يسوع، عالماً أن ليس إنسان قادراً، أن يساعده. لأن البرص وصل فيه إلى القمة. وقد تساقطت بعض أعضائه.

واعترف الأبرص جهراً بإيمانه بيسوع إنه القادر على كل شيء، حتى على البرص. هل تؤمن بقدرة المسيح في حياتك؟ ولكن المريض، لم يكن متأكداً إذا قبل قدوس الله أن يساعده رغم خطاياه الظاهرة في برصه. فسأل يسوع بتواضع، إن كان يقبل أن يشفيه. ووض كل رجائه وشوقه الملتهب بهذا الطلب. وجاوبه المسيح جواباً إلهياً واحتضنه كما يقول النص اليوناني الأصلي. لم يخف يسوع من العدوى والموت البطيء، لأنه كان رئيس الحياة. وقد احتضن بتجسده كل البشر الفاسد. فتبين لهذا المسكين، أن المسيح يدخله إلى محبة الله. هل تأتي إلى يسوع بضيقاتك، وتعترف بإيمانك جهراً؟ فلا يرفضك لأجل خطاياك، بل يحتضنك ويحيطك بكل محبته.

وشهد بعدئذ ابن الله بسر إرادته المخلصة، قائلاً أريد خلاصك أشاء شفاءك وأعزم أن أطهرك. فإن تسأل نفسك، هل يريد الله عوني وخلاصي؟ فيجيبك المسيح أريد. هل تؤمن بجوابه؟ كلنا نعيش في عصر النعمة. ادخل إلى مسرة الله وأرد ما يريد هو، فتستلم لء قدرته. ولا يقصد الرب تحسين أحوالك المالية، أو همومك المهنية أولاً، بل هدفه قلبك الشرير. فحيث تستسلم إلى يدي يسوع نهائياً. يساعدك أيضاً في قضايا صحتك ومشاكل مدرستك وتطورات مهنتك. لأن اتجاه مشيئة الله الرئيسي هو المحبة والبركة والتقوية والانعاش الاجتماعي.

عندئذ أمر يسوع الأبرص أن يتعافى ودفعه لينشط بإرادة قصوى وبقوله منحه القوة أن يصح. فأمر الخالق كسر سلطة المرض وفك قيود الخطية في عمق باطن المريض. ومحبة المسيح، غلبت كل الضيق في هذا المسكين، الذي استودع نفسه بين يدي يسوع. فالآن سرى يار إلهي في أعضائه وجلده، فرجعت ونمت وسقط البرص كقشور من جلده. وليس تدريجياً بل رأساً. ومرة واحدة صار المطرود من المجتمع سليماً.

وأرسل يسوع المشفي إلى الكهنة حسب الناموس، لكي يقدم في الهيكل الذبيحة (لاويين 13: 49 و14: 10) ولكي يثبت هؤلاء الوسطاء بين الله وشعب العهد رسمياً، إن المسيح هو الطبيب الإلهي، الذي حرر الناس من أمراض غير قابلة للشفاء.

وشعرت الجماهير بحضور الرسول الإلهي، الذي حررهم من قيود الخطية ونتائجها فتجمعوا، وسمعوا الإنجيل، وشربوا من ملء المسيح. وشعروا أن ملكوت الله قد ابتدأ، وأضمحلت الخطية ونتائجها، بواسطة المسيح وقدرته.

انتبه أن يسوع كلما ازدادت عجائبه، كلما ازداد صلاة مخلياً الميل إلى الشهرة ودفع كل المجد إلى أبيه. فلم يكن منعزلاً بل صلى بلا انقضاء. لأن ُإيمانه لم يكن إلا صلاة. ولم يعمل شيئاً مستقلاً عن الله، بل كل حركات يده ونطق كلماته تمت بانسام مع روح أبيه. هل تصلي وتتكلم مع أبيك السماوي عن كل أمور حياتك؟ لا تقدر أن تعمل شيئاً بدونه. وحيث يثبت فيك وأنت فيه، تأتي بثمر كثير.

الصلاة: أيها الرب يسوع، نعظمك لأنك شفيت الأبرص من مرضه وخطاياه. طهرني أيضاً من كل خطاياي، وقدسني للتمام. وأنا أؤمن بمشيئتك واستعدادك لشفائي. فأسلم نفسي اليك، واشكرك لمحبتك ولخلاصك كل البشر.

5 - الاصطدامات مع الزعماء الدينيين المتزمتين (5: 17 - 6: 1)

5: 17 وَفِي أَحَدِ ٱلأَيَّامِ كَانَ يُعَلِّمُ، وَكَانَ فَرِّيسِيُّونَ وَمُعَلِّمُونَ لِلنَّامُوسِ جَالِسِينَ وَهُمْ قَدْ أَتَوْا مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ وَٱلْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ. وَكَانَتْ قُّوَةُ ٱلرَّبِّ ِشِفَائِهِمْ. 18 وَإِذَا بِرِجَالٍ يَحْمِلُونَ عَلَى فِرَاشٍ إِنْسَاناً مَفْلُوجاً، وَكَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا بِهِ وَيَضَعُوهُ أَمَامَهُ. 19 وَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُونَ بِهِ لِسَبَبِ ٱلْجَمْعِ، صَعِدُوا علَى ٱلسَّطْحِ وَدَلَّوْهُ مَعَ ٱلْفِرَاشِ مِنْ بَيْنِ ٱلأَجُرِّ إِلَى ٱلْوَسْطِ قُدَّامَ يَسُوعَ. 20 فَلَمَّا رَأَى إِيمَانَهُمْ قَالَ لَهُ: «أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». 21 فَٱبْتَدَأَ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلفَرِّيسِيُّونَ يُفَكِّرُونَ قَائِلِينَ: «مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلَّا ٱللّٰهُ وَحْدَهُ؟» 22 فَشَعَرَ يَسُوعُ بِأَفْكَارِهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: «مَاذَا تُفَكِّرُونَ فِي قُلُبِكُمْ؟ 23 أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ قُمْ وَٱمْشِ. 24 وَلٰكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لاِبْنِ ٱلإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ ٱلْخَطَايَا» - قَالَ لِلْمَفَلُوجِ: «لَكَ أَقُولُ قُمْ وَٱحْمِلْ فِرَاشَكَ وَٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ». 25 فَفِي ٱلْحَالِ قَامَ أَمَامَهُمْ، وَحَمَلَ مَا كَانَ مُضْطَجِعاً عَلَيْهِ، وَمَضَى إِلَى بَيْتِهِ وَهُوَ يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ. 26 فَأَخَذَتِ ٱلْجَمِيعَ حَيْرَةٌ وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ، وَٱمْتَلأُوا خَوْفاً قَائِلِينَ: «إِنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا ٱلْيَوْمَ عَجَائِبَ!».

الله هو القوة. والمسيح هو قوة الرب. وجرت منه أنهر البركة، قولاً وعملاً وصلاة. وكثيرون ابتدأوا يتبعونه.

فاستيقظ المسؤولون في الهيئات الدينية، شاكين في شخصيته. لأن يسوع لم يدرس التوراة رسمياً في مدارسهم. ولم ينضم إلى أحد أحزابهم. فارسلوا إليه جواسيس، ليمسكوه بأقواله وأعماله. والفريسيون المتكبرون كانوا مشهورين بحفظ النواميس بقساوة. واكتبة كانوا هم فقهاء التوراة. فأرادوا أن يعرفوا أعجوبة قوة يسوع. دققوا في كل كلمة من كلماته، كأنهم مفتشون في الامتحانات المدرسية النهائية.

وشاءت حكمة الله في هذه اللحظة، أن يأتي رجال بمفلوج إلى يسوع. فكان هذا أجمل وأقوى رمز للتبشير. ولما صادفوا صعوبات من التقدم إلى يسوع، صعدوا إلى السطح ونقبوه، ودلوا المفلوج إلى الغرفة، أمام قدمي يسوع، بدون أي كلام. ولكن عملهم الواضحكان صرخة واحدة مفعمة الإيمان والطلبة والرجاء. وفرح يسوع من إزعاجه أثناء تعليمه، لأنه يحب الإيمان. ورأى فيه رجاء المؤمنين الخارق للصعوبات. فهل تأتي في ابتهالاتك مباشرة؟ هل تكون عنيداً في محبتك، ليخلص يسوع رفيقك المفلوج روحياً؟

ويعرف المسيح سبب كل أمراض خطايانا. ولا تسبب خطية معينة عادة مرضاً معيناً، بل حياتنا البعيدة عن الله هي سبب ضيقاتنا وعلة كوارث العالم كلها. ففك يسوع القيود النفسانية في الشاب المريض مقدمة لشفاء جسده. فهل سمعت كلمة يسوع: مغفورة لك خاياك؟ اسجد واحن رأسك أمام ابن الله، وتمسك بوعده مباشرة. هذه الكلمة الجوهرية تخص كل إنسان يشتاق إلى طهارة وبر وسلام مع الله. مغفورة لك خطاياك. آمن بهذا الإنجيل فتخلص. والمسيح يكلمك شخصياً، ويحل ربط خطاياك. آمن بكلمة ربك واشكره فتتعاهد مع، ويجري فيك سلامه. والمسيح نفسه هو الضامن لقوله الإلهي المختص بكل البشر.

ولما سمع جواسيس الهيئات الدينية هذه الكلمة الغافرة، فكروا أنه لا يقدر ان يغفر الذنوب إلا الله. كان الحق معهم. وفكروا أن هذه العبارة على لسان يسوع، هي تجديف. ولهذا فهو مستحق الموت. فكانوا عمياً عن ألوهيته. ولم يشعروا بقوة الروح القس النابع من شخص يسوع، بل أبغضوه، لأنه كان مختلفاً عنهم. لقد كان من فوق وهم من أسفل.

وشعر يسوع بأفكارهم، وقرأ بغضتهم بأعينهم. وفضح كبرياءهم المدين. وبيّن قصر بصرهم بكل جلاء. وسألهم لماذا يفكرون بهذه الأفكار الشريرة في قلوبهم؟ وجذب أعداءه إلى التوبة، وأعطاهم برهاناً لقدرته. ليتعلموا الإيمان ويحبوه، ويحصلوا أيضاً عل غفران خطاياهم.

والإنسان يسوع شهد بسلطانه أن له الحق والقوة، ليحل الخطايا ويغفرها. ولم يتنبأ في العهد القديم نبي بهذه الصفات عن المسيح. أما الآن فأعلن ابن الله امتيازه، أنه يشترك بقدرة الله. وبيّن بهذه أنه واقف بنفس المستوى مع الله. واحد معه، وثابت فيه. وهذه الشهادة، تفجر عقولنا. ولكن المسيح، حجب ألوهيته. وسمى نفسه ابن الإنسان ليدرك مستمعوه الأعجوبة الأعظم، إن الله وقف بينهم متجسداً، حالاً خطاياهم بنعمته.

وبعد هذا البحث الأساسي أعطى يسوع للجمهور الفزع والمبغضين المعارضين برهاناً ملموساً، أعلنه لهم، قبل أن يتممه. وأمر المفلوج بكلمة واحدة، أن يقوم. فتوقفت أنفاس الحاضرين، لما شاهدوا المتحرر من الخطية قد قام. لأنه شعر بمحبة المسيح، وتمسك بكلمة الغفران. ودخل فرح الله في قلبه، فقفز باسم المسيح من فراشه. وجرب أطرافه المتجمدة من سنين، وحمل سريره المبتل بالدموع. ومشى على رجليه حقاً. وسبح الله وهلل بلسانه، وعظم يسوع مخلصه.

وارتعبت الجماهير، وصلوا في قلوبهم. وسكت فقهاء التوراة. لأن قوة الرب انتصرت على خطايا وأمراض علانية. ففار الدم في المغلوبين، وفكروا بقتل المسيح في غيظهم. لأنه في هذه المناسبة، أظهر المسيح حقيقته وجوهر عمله أمام هؤلاء الجواسيس. فكرازته المبدئية في الناصرة عن النبوة في إشعياء 61 تمت أكثر فأكثر. واهتزت قلوب الناس بزلزال روحي. هل لمستك قوة الله؟ هل تأكدت من غفران خطاياك؟ اسجد لربك، لأنه هو هو أمس واليوم وإلى الأبد.

الصلاة: أيها الرب يسوع مخلصي وربي، أشكرك لأنك غفرت كل ذنوبي. وكفرت عن خبثي، من فرط نعمتك وإحسانك، أُقبّل رجليك، وأسجد لك، وأحبك وأشكرك. لأنك أدخلتني إلى الحياة الأبدية احفظني في برك، واجعل حياتي حمداً لإلهنا وخدمة النا.

5: 27 وَبَعْدَ هٰذَا خَرَجَ فَنَظَرَ عَشَّاراً ٱسْمُهُ لاوِي جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ ٱلْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: «ٱتْبَعْنِي». 28 فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ. 29 وَصَنَعَ لَهُ لاوِي ضِيَافَةً كَبِيرَةً فِي بَيْتِه. وَٱلَّذِينَ كَانُوا مُتَّكِئِينَ مَعَهُمْ كَانُوا جَمْعاً كَثِيراً مِنْ عَشَّارِينَ وَآخَرِينَ. 30 فَتَذَمَّرَ كَتَبَتُهُمْ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ عَلَى تَلامِيذِهِ قَائِلِينَ: «لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخطَاةٍ؟» 31 فَأَجَابَ يَسُوعُ: «لا يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى. 32 لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ».

اضطرب كثير من الناس في حضرة يسوع متأثرين بسلطانه ومبكتين في ضمائرهم. والجابي الغشاش المسمى لاوي أصيب أيضاً بكلمة المسيح في صميمه. فكره غشه، وأراد التحرر من خطيته. وآمن بكلمة يسوع وغفران ذنوبه، وتعلق في قلبه بالمخلص. ولكن مهنته وصيها أبعدته عن البار، لأن العشارين الموظفين من سلطة الاستعمار حسبوا من مصاصي الدماء النجسين المجرمين. ورفضوا رسمياً من الأمة واحترامها.

أما المسيح فيعرف الأفكار في قلوب الناس. ورأى كيف انفتح قلب العشار لاوي لبشرى الإنجيل تماماً. فتقدم يسوع ونظره، وأمره بكلمة واحدة: اتبعني. وحيث يتكلم الله، يخلق شيئاً جديداً. وهذه الكلمة جعلت من لاوي الخاطئ البشير متى، الذي جمع أقول وأحداث يسوع التاريخية. لأنه كان عشاراً ماهراً باللغات، فكتب أصل الأناجيل باللغة الآرامية بإشراف الرسل الأخر. ثم ترجمه إلى اللغة اليونانية. فالمسيح أخذه من مصنع الخطايا إلى حرية الرب. فهل سمعت صوت يسوع أو لا زلت عبداً للمال والأهداف النيوية؟ هل تتبع المسيح بقلب غير منشق؟ قم، واتبع مخلص العالم، فتصبح شجرة نعمة ممتلئة ثماراً كما أصبح متى سبباً لخلاص الكثيرين.

والمدعو ترك ماله وسجلاته ومكان عمله مرة واحدة، لأنه أدرك ان ابن الله قد دعاه، فتمسك بجلبابه الإلهي لما مر به المسيح. واعتبر كل شيء آخر في الدنيا نفاية. ودعا العلي إلى بيته، وحضر وليمة عظيمة، وأظهر رأساً روحه الرسولي، ودعا كل زملائه ليدخل المسيح إلى قلوبهم القاسية. وحقاً فإن كثيرين من المرفوضين المحتقرين قد أتوا مستعجبين من الشرف العظيم المعطى لهم من رجل الله.

ولكن الأتقياء والناموسيين أبغضوا يسوع، لأنه كسر العادة الصالحة، وتعامل مع العشارين عملاء الاستعمار، وقبلهم علانية، إذ تعشى معهم في وليمة ضخمة. والمتعصبون والفقهاء نصبوا لتلاميذ المسيح فخاً، ليكتشفوا دوافع وأهداف عمله. فكانوا عمياًلرحمة يسوع ولم يروا قلبهم القاسي. فطعن يسوع كبرياءهم، وأعلن رياءهم في عبارتهم الخاصة، كما درجوا في أمثلتهم على القول، لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. فالعشارون كانوا حقاً مرضى في الروح والنفس محتاجين إلى المخلص وقدرته ولم يدركوا ذل. أما عدم التكلم مع الفاسدين فهو ذنب، لأنهم بحاجة ماسة أكثر إلى الخلاص والانقاذ والتعليم.

وكذلك كشف يسوع رياء الأتقياء الظانين بأنهم غير محتاجين إلى الغفران والمخلص، إذ رأوا في أنفسهم الصلاح والصحة في التعليم واستقامة السلوك. فويل للمكتفين والأبرار المتكبرين، حيث أنهم لا يعرفون الله ولا هم يخشون لأنه لا أحد صالح أمام اقدوس. الكل زاغوا وفسدوا معا، ليس من يعمل صالحة بعد، وبارة مستقيمة من ذاتها؟ فهذا أبشع خداع للنفس. ادرس قداسة الله ومحبته، فتعرف حالتك الخاصة، إنك خاطئ مذنب. وكلما اقتربت من نور مجد الله، تكتشف قلبك الشرير وذهنك المرفوض. اعترف أمام المسيح بخطاياك الشنيعة، واشهد بكل أعمالك الشريرة، سرقة وكذباً ونجاسة وكبرياء، وبكل لحظة تسببت فيها بأضرار إنسان ما. فتعرف حاجتك إلى خلاص المسيح وتصرخ: ارحمني يا رب، حسب رحمتك وحسب كثرة رأفتك لا ترفضني. عندئذ تدرك محبة المسيح ولطفه الحنان، وتخبر كيف أنه يطهر شعورك الباطني، ويمنحك سلاماً وبراً إلهياً.

ولكن إن أمعنت في ظنونك أنك صالح ومقبول لأجل صلواتك وتضحياتك وصومك، فتكون مخادعاً لنفسك، ولا تتبرر في ضميرك، ولا تدخلن السماء، لأن الله لا يقبل إلا التائب المطهر والخاطئ المتبرر المتخلص بدم المسيح والمتكمل بواسطة شفاعته. فاصغ أيها الأخ لقد جاء المسيح، وهو حاضر ويخلص عملياً، ويفديك حقاً، إن انكسرت أمامه، واعترفت بكل فسادك. فلا تتأخرن، بل اكشف أفكار داخلك أمامه، والتجئ إلى رحمته.

الصلاة: أيها الرب يسوع قد عرفتني وكل أفكاري النجسة وكلماتي القاسية وأعمالي الشريرة. لا ترفضني من وجهك، ولا تنزع روحك القدوس مني. طهرني من كل خطية، وقدس شعوري الباطني. لكي أخلص برش دمك الكريم، وأكمل أمانة شفاعتك. اجذبني بكلمتك إلى اتباعك المستمر.

5: 33 وَقَالُوا لَهُ: «لِمَاذَا يَصُومُ تَلامِيذُ يُوحَنَّا كَثِيراً وَيُقَدِّمُونَ طِلْبَاتٍ، وَكَذٰلِكَ تَلامِيذُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ أَيْضاً، وَأَمَّا تَلامِيذُكَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟» 34 فَقَالَ لَهُمْ: «أَتَقْدِرُوَ أَنْ تَجْعَلُوا بَنِي ٱلْعُرْسِ يَصُومُونَ مَا دَامَ ٱلْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ 35 وَلٰكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ». 36 وَقَالَ لَهُمْ أَيْضاً مَثَلاً: «لَيسَ أَحَدٌ يَضَعُ رُقْعَةً مِنْ ثَوْبٍ جَدِيدٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، وَإِلَّا فَٱلْجَدِيدُ يَشُقُّهُ، وَٱلْعَتِيقُ لا تُوافِقُهُ ٱلرُّقْعَةُ ٱلَّتِي مِنَ ٱلْجَدِيدِ. 37 وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَة لِئَلَّا تَشُقَّ ٱلْخَمْرُ ٱلْجَدِيدَةُ ٱلّزِقَاقَ، فَهِيَ تُهْرَقُ وَٱلّزِقَاقُ تَتْلَفُ. 38 بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ، فَتُحْفَظُ جَمِيعاً. 39 وَلَيْسَ أَحَدٌ إِذَا شَرِبَ ٱلْعَتِيقَ يُرِيدُ لِلْوقْتِ ٱلْجَدِيدَ، لأَنَّهُ يَقُولُ: ٱلْعَتِيقُ أَطْيَبُ».

لم يأت المسيح نبياً مكتئباً محضراً الناس لله بأصوام ونواميس. بل أن يسوع يشبه العريس الذي يسبب الفرح العام لكل أتباعه ومريديه. فجاء ابن الله من السماء ليتحد مع البشر اتحاداً روحياً طاهراً. فمحبة الله هي دافعة، وقداسته لباسه، ووداعت شعاره وصبره قوته.

والعريس الإلهي طلب عروسه غير الملتفتة إليه والمسترسلة بزناها مع أرواح هذه الدنيا الدنية. أما المحب فإنه لم يرفض الخاطئة، بل طهرها بدمه، وقدسها بروحه. فالكنيسة هي عروس مطهرة لابن الله. فكيف لا يعم الفرح في البشر وقد اتحدت السماء بالأرض والله بالناس؟

ولقد صام التائبون سابقاً، وجلدوا أجسادهم، ليجبروا الله أن ينعم عليهم إنعاماً غزيراً. لكن الآن، فإن الله قد حضر في المسيح بين البشر، وأتى بفرط محبته إلى العصاة العنيدين، وأدخل فيهم الفرح السرمدي. فكذلك انتهى الصوم. ولم تعد الصلوات لكئيبة للوجوه المكشرة تتصاعد إلى السماء، بل أعظم زغردات الغبطة لأن الله وصل إلى الأرض. فهل يشترك قلبك في الفرح السماوي، لأن الأزلي حضر حقاً بين البشر الفاني؟

والفريسيون المتعصبون لم يدركوا سر ابن الإنسان. إنما انتقدوا فرح تلاميذه. وأتباع يوحنا المعمدان أيضاً قطبوا جباههم، وأنغضوا رؤوسهم للتقوى الجديدة في المسيحيين، إذ عاشوا طبيعيين واقعيين، وأكلوا وشربوا بالكفاية ككل الناس. ولم يعذبوا نفسهم ليربحوا ملكوت الله.

وهؤلاء المتعصبون للناموس، مع أنهم يعملون لمرضاة الله، لم يدركوا المسيح، إن فيه حل ملء بركات السماوات مجاناً بيننا، بل أرادوا الاستمرار بأعمالهم الصالحة البشرية. وتصرفاتهم الناموسية، وبرهم الكئيب ليتبرروا ويتقدسوا. وهذا مستحيل.

والفرق بين التقوى في العهد القديم والبر في العهد الجديد، كبير جداً. اعتبر الناس أنفسهم صالحين في السابق. وأرادوا تزيين ذواتهم بأعمال خاصة كثوب مياس متلألئ. ولكن هذا الثوب، سرعان ما يتخرق ويعتق. إذ كل امرئ خاطئ وممتلئ ذنوباً أمام ربه. أما المسيح، فقد أتى إلينا ببره الخاص. وطهرنا بدمه، وزيننا بثمار روحه. فلانعامه يلبس كل مسيحي ثوب العرس الأبيض الطاهر الأبدي. ومن المستحيل أن نخلط بين هذين الثوبين البشري والسماوي. فأما أن تستعد نفسك لعرس الله بثوبك العتيق الممزق المصوع من برك الذاتي الخاطئ، أو تتقدس بدم المسيح وحده تقديساً كاملاً.

وشبه المسيح روح عهده بالخمر الجديد. الذي لا تناسبه الزقاق العتيقة المحبوكة بألوف الخيطان الناموسية. فمحبة المسيح تمزق كل الأحكام البشرية السطحية، وتحرر الإنسان لخدمة الله والناس المحتاجين. فالحرية المقدسة لخدمة المحبة هي التقوى الديدة في عهد المسيح، حيث لا يكسرنا روح الرب بممانعات ووصايا وأحكام، بل يشجعنا إلى حياة جديدة، حيث تكون المحبة تكميل الناموس. إنما التقليديون تعودوا على أحكامهم القاسية وتوبتهم المكتئبة. ولا يريدون أن يتركوا هذا الجو، بل يمصون نواميسهم كخر معتق، وينعشون منه، فلا يعرفون قوة محبة الله، ولا الخمر الجديد الداخل إلى العالم في دم المسيح، الذي يعمل في بطوننا وعقولنا طارداً كل الأقذار منا. وهكذا دعا المسيح تلاميذه إلى طرق جديدة في الحياة وإلى قوة إلهية فريدة. وحررهم من الطقوس اجافة ومن الأحكام الخيالية. فهل استعددت للعرس من ابن الله، وترافقه في خدمته للمحتاجين والغوغاء؟ فادخل إلى فرح ربك واطلب المساكين فتجد العريس الإلهي عندهم.

الصلاة: أيها الرب روحك القدوس يحررنا من ذواتنا، ومن مقاييس البشر. ودمك الثمين يلبسنا ببرك وطهارتك وجلالك. ساعدنا لنثبت في محبتك وسلامك، لنصبح أعضاء أحياء في كنيستك عروسك. وزيّنا بكل الأعمال الصالحة، النابعة من نعمتك الظيمة.

اَلأَصْحَاحُ ٱلسَّادِسُ: 1 وَفِي ٱلسَّبْتِ ٱلثَّانِي بَعْدَ ٱلأَّوَلِ ٱجْتَازَ بَيْنَ ٱلّزُرُوعِ. وَكَانَ تَلامِيذُهُ يَقْطِفُونَ ٱلسَّنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ وَهُمْ يَفْرُكُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ. 2 فَقَالَ لَهُمْ قَوْمٌ منَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ: «لِمَاذَا تَفْعَلُونَ مَا لا يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي ٱلسُّبُوتِ؟» 3 فَأَجَابَ يَسُوعُ: «أَمَا قَرَأْتُمْ وَلا هٰذَا ٱلَّذِي فَعَلَهُ دَاوُدُ، حِينَ جَاعَ هُوَ وَٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، 4 كَيْفَ دَخَلَ بَيْت ٱللّٰهِ وَأَخَذَ خُبْزَ ٱلتَّقْدِمَةِ وَأَكَلَ، وَأَعْطَى ٱلَّذِينَ مَعَهُ أَيْضاً، ٱلَّذِي لا يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلَّا لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ؟» 5 وَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ ٱلسَّبْتِ أَيْضاً». 6 وَفِي سَبتٍ آخَرَ دَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ وَصَارَ يُعَلِّمُ. وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ ٱلْيُمْنَى يَابِسَةٌ، 7 وَكَانَ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِي فِي ٱلسَّبْتِ، لِكَيْ يَجِدُوا عَلَيْهِ شِكَايَةً. 8 أَمَّا ُوَ فَعَلِمَ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي يَدُهُ يَابِسَةٌ: «قُمْ وَقِفْ فِي ٱلْوَسَطِ». فَقَامَ وَوَقَفَ. 9 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَسْأَلُكُمْ شَيْئاً: هَلْ يَحِلُّ فِي ٱلسَّبْتِ فِعْلُ ٱلْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ ٰلشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ إِهْلاكُهَا؟». 10 ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: «مُدَّ يَدَكَ». فَفَعَلَ هٰكَذَا. فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَٱلأُخْرَى. 11 فَٱمْتَلأُوا حُمْقاً وَصَارُوا يَتَكَالَمُون فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَاذَا يَفْعَلُونَ بِيَسُوعَ؟

مشى يسوع وتلاميذه وسط حقول السنابل الذهبية في يوم سبت. فجاع التلاميذ لأن ربهم لم يكن غنياً في المال، بل طلب من أبيه السماوي الخبز اليومي الكافي بكل بساطة وتواضع. وبعض هؤلاء التلاميذ، اختطفوا سنابل وفركوها بين أيديهم وأخذوا يأكلون حبوبها الملذة. وفي شريعة العهد القديم، كان خطف السنابل مسموحاً به للفقراء المعوزين بكل وضوح. فلم يشتك الأتقياء على التلاميذ لأجل السرقة بل بسبب العمل المحرم يوم السبت. وقد عدوا فرك السنابل عملاً، كالحصاد.

أما المسيح فقد فسر معنى الناموس لهؤلاء المتطرفين بإدلاله على داود الملك الممسوح، الذي دخل إلى خيمة الاجتماع المقدسة. وأكل مع رفاقه الجائعين الخبز المكرس لله وكهنوته، لأن شبعهم كان أهم من حفظ الطقوس. فالنواميس لخدمة الإنسان، وليس اإنسان عبدها. وهكذا غير المسيح معنى الناموس جذرياً، وأظهر نفسه المشرع الإلهي، الذي فسر المبادئ العتيقة بطريقة جديدة ولخصها في وصية المحبة الفريدة. فبهذا العمل الجبار، حررنا المسيح من حفظ الناموس الشكلي، إلى فكر المحبة وعملها، كما قال بول عدة مرات أن ليس إنسان بقادر أن يحفظ الناموس من تلقاء نفسه حقاً، أما البار في دم المسيح فينال قوة الروح القدس، الذي يقوده لحفظ الوصايا. فلا يتدلى سيف الناموس في العهد الجديد، فوق رأسك ليهلكك، بل أصبح محرك القوة والفرح فيك.

ويا للأسف! فإن السبتيين ومن على شاكلتهم يسبتون إلى اليوم في الروح اليهودي، لأنهم يحتفلون بسبوتهم، كرمز ليوم راحة الله بعد خلقه الخلق، غير مدركين أن المسيح تعب لخلاصنا، وأوجد خلقاً جديداً، مظهراً حياته الأزلية في قيامته. ولم يأمرنا ربنا في العهد الجديد. أن نقدس يوماً معيناً البتة، بل أنه قدس الإنسان نفسه، لتكون كل أيامه مقدسة. فالمسيحي يشترك براحة الله في ضميره يومياً، لأن حياة المسيح، حلت فيه. وهكذا أصبحنا متبررين بالنعمة في الإيمان مجاناً. وليس بحفظ الناموس.

ولكن الناموسيين ليس لهم آذان يسمعون بها أصوات حياة النعمة، بل تجسسوا على المسيح ليحكموا عليه. ولكن الرب أراهم عماهم بصواب قائلاً لهم: ما الأهم، حفظ السبت بلا رحمة أو كسر السبت لرحمة الناس؟ فاخترق يسوع المسيح الأموات الناموسيين فرداً فرداً بثاقب نظره. وأبطل بسؤاله مبادئهم المعوجة، مبرزاً ضرورة الأعمال الصالحة في كل الأيام بلا استثناء، وترك عمل الشر كل الأيام بلا استثناء. وبهذا أرانا أن السبت، ليس له في العهد الجديد ميزة على غيره، لأن المحبة وحدها هي جاعلة كل الأيام لله، كقول بولس كل ما تعملون فاعملوه من القلب كما للرب، وليس للناس. وهكذا تصير حياة الإنسان كلها لخدمة الله حمداً لخلاصه المجيد، وليس يوم معين من الأسبوع فقط.

ولما شفى يسوع بهذا الروح الجديد بكلمة فمه اليد اليابسة وسط اجتماع يوم السبت في المجمع، اغتاظ الناموسيون أحمق الغيظ، لأنهم أدركوا بذكائهم رأساً، أن المسيح لم يمزق شبكة أحكامهم بمحبته الإلهية فقط، بل أيضاً أدانهم شخصياً بنفس الوقت، أنهم عرفوا الخير، وحجزوه بنواميسهم.

كثير من الكنائس والأديان المتعددة في دنيانا تجرب إدخال أتباعها إلى السماء بواسطة حفظ النواميس. وبالحقيقة أنهم لمسقطوهم إلى أسفل سافلين. فليس حفظ الناموس يخلصنا بل المسيح وحده. وهو يغرز ناموسه في قلوبنا، بواسطة روحه القدوس، لكي ترشنا حساسية محبته ونعيش في كل حين قديسين. فهل تحررت من الناموس، أو لا زلت عبده البخيس؟ وهل حل ناموس المسيح فيك، وسلكت في ملء محبته، متواضعاً كل أيام حياتك.

الصلاة: أيها الآب السماوي نحن مفعمو الخطايا والنجاسة والعمى والتعصب المقيت. اغفر لنا قلوبنا القاسية، وحررنا من برنا الذاتي. واكسر روحنا الناموسي، لكي نحمدك بالحمد والمحبة والخدمة لكل الناس في كل حين.

6 - دعوة الرسل الإثني عشر والشفاءات الكثيرة (6: 12 - 19)

6: 12 وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ خَرَجَ إِلَى ٱلْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. وَقَضَى ٱللَّيْلَ كُلَّهُ فِي ٱلصَّلاةِ لِلّٰهِ. 13 وَلَمَّا كَانَ ٱلنَّهَارُ دَعَا تَلامِيذَهُ، وَٱخْتَارَ مِنْهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِينَ سَمَّاهُمْ َيْضاً «رُسُلاً»: 14 سِمْعَانَ ٱلَّذِي سَمَّاهُ أَيْضاً بُطْرُسَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ. يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا. فِيلُبُّسَ وَبَرْثُولَمَاوُسَ. 15 مَتَّى وَتُومَا. يَعْقُوبَ بْنَ حَلْفَى وَسِمْعَانَ ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلْغَيُورَ. 16 يَهوذَا بْنَ يَعْقُوبَ، وَيَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ ٱلَّذِي صَارَ مُسَلِّماً أَيْضاً. 17 وَنَزَلَ مَعَهُمْ وَوَقَفَ فِي مَوْضِعٍ سَهْلٍ، هُوَ وَجَمْعٌ مِنْ تَلامِيذِهِ، وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلشَّعْبِ، مِنْ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِيّةِ وَأُورُشَلِيمَ وَسَاحِلِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، ٱلَّذِينَ جَاءُوا لِيَسْمَعُوهُ وَيُشْفَوْا مِنْ أَمْرَاضِهِمْ، 18 وَٱلْمُعَذَّبُونَ مِنْ أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ. وَكَانُوا يَبْرَأُونَ. 19 وَكُلُّ ٱلْجَمْعِ طَلَبُوا أَنْ يَلْمِسُوهُ، لأَنَ قُّوَةً كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَشْفِي ٱلْجَمِيعَ.

وصل يسوع بخدمته إلى مرحلة قاطعة، لأن أعداءه الناموسيين، نظموا أنفسهم لإهلاكه، بينما شهرته انتشرت خارج البلاد. فتراكضت إليه الجماهير من العاصمة أورشليم ومن كل القرى اليهودية، وحتى من المناطق الفينيقية في صور وصيداء، جاءوا جميعاً ليمعوا حكمته، ويشفوا بقدرته، وليلتسموا قوة منه، لأنه يشفي جميع المؤمنين به.

فماذا عمل المسيح في هذه المرحلة الفارقة؟ لقد صلى! وانفصل عن الجماهير التي طلبته، وترك تلاميذه. ولم يهتم بأعدائه، بل التجأ إلى الله أبيه، ومكث عنده في الصلاة. وسمى لوقا هذه الصلاة العميقة في النص اليوناني (صلاة الله) ولا نجد مثل هذ العبارة مرة أخرى في كل العهد الجديد. وتمت هذه الصلاة بأروع انسجام مع أبيه، وانتجت توضيحاً تاماً للمستقبل. فهل وقعت أزمات خانقة، أو تراكمت عليك أعمال ثقيلة متزايدة؟ فانفصل بنفسك إلى عزلة الصلاة، لأنك من الصلاة وحدها تنال الهدى والإرشاد والحكمة والسلطان.

فما هي الهداية التي اتضحت في الابن بواسطة صلاته وتكلمه مع أبيه؟ فبعدما عاد من صلاة ليل طويل اختار اثني عشر رسولاً. وكان من قبل قد تبعته جماهير غاصة. أما الآن فعيّن مخلص العالم اثني عشر تلميذاً، ليرافقوه دائماً، ويعرفوا تجاربه، ويروا صبره، ويدركوا حكمته، ويعتادوا على أهدافه. وهكذا ابتدأ يدرب نخبة القادة لكنيسته المستقبلة، الذين يحملون حياته الأبدية إلى العالم.

فقد عرف المسيح أنه ينبغي أن يموت، فأراه الله حاملي قوته فرداً فرداً، لنشر ملكوت الله إلى انقضاء العالم. ولم يسأل يسوع كثيرين، هل تريدون أن تصبحوا رسلاً؟ بل دعا كل فرد باسمه من الجماهير. ودعوة الله غيرتهم إلى رسل المسيح. فلم يكونواأحسن من الجماهير، ولكن الروح القدس وجد فيهم نقطاً انطلاقية ليستعدوا، فيتغيروا إلى صورة المسيح.

كانوا جميعاً فاشلين، ولكن الروح القدس جعلهم سلاطين قوة الله، الذين غيروا العالم. وإننا نعيش حتى اليوم من دعوة المسيح إياهم. فهل تعرف أسماءهم غيباً؟ لأنك تؤمن بإيمانهم، وتعرف المسيح بشهادتهم، وتتقوى بصلاتهم، التي قدموها إلى الله، لا كانوا في دنيانا هذه.

والعدد 12 مقدس في العهد القديم، ويعني التحام السماء مع الأرض. إذ الثلاثة ترمز إلى الله الثالوث الأقدس، والأربعة إلى أربع جهات العالم. فإن ضربت 3 4 ينسجم العددان الدالان على ملء الله ممزوج في أرضنا الحقيرة. فأصبح الاثنا عشر آباء شع العهد القديم.

والمسيح لم يجهز مدعويه بالقوة رأساً، ولم يرسلهم إلى العالم الشرير فوراً، إنما علمهم النظر البصير. فماذا رأوا؟ يسوع. ولا شيء إلاه.

هل أدركت شخصية المسيح؟ فانظر كيف تراكض الناس إليه. فإنه لم يضع منذ هذه الصلاة الليلية يديه على المرضى. بل كل الذين يؤمنون به لمسوه بثوبه، وشفوا بواسطة هذا اللمس. والطبيب لوقا استفهم بكل دقة عن تفاصيل هذه الحادثة وشهد بها. فكل المصئب الحالة في البشر زالت عنهم بكلمته وقوته. تعال إلى يسوع، وامكث معه في صلاة شاكرة. فإنه يشاء دعوتك ولمسك وإرسالك.

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، اغفر لي صلاتي المستضعفة، علمني أن أراك وأؤمن بك، وأحبك وأسجد لك، لتخصك حياتي. علمني الطاعة واملأني بصبرك، لكي أعمل ما تريد. وأقف حيث تدعوني. وأذهب إلى من يرشدني روحك إليه، واشكرك لأنك لا تحتقرني، بل تدعوني إلى اتباعك وخدمتك. آمين.

7 - عظة الجبل (6: 20 - 49)

6: 20 وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلامِيذِهِ وَقَالَ: طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلْمَسَاكِينُ، لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ. 21 طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلْجِيَاعُ ٱلآنَ، لأَنَّكُمْ تُشْبَعُونَ. طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلْبَاكُونَ ٱْآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَضْحَكُونَ. 22 طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ ٱلنَّاسُ، وَإِذَا أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ، وَأَخْرَجُوا ٱسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ. 23 اِفْرَحُوا فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ وَتَهَلَّلُوا، فهُوَذَا أَجْرُكُمْ عَظِيمٌ فِي ٱلسَّمَاءِ. لأَنَّ آبَاءَهُمْ هٰكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِٱلأَنْبِيَاءِ.

بعد ما أرانا لوقا المرحلة الأولى في سيرة المخلص يسوع. يوقفنا الآن وسط كرازة ابن الله، الذي كلم الناس، ناظراً خصوصاً إلى تلاميذه المدعوين حديثاً. فهل ترى أيها الأخ عيني المسيح ناظرتين إليك. وهل تسمع كلامه المقدس موجهاً نحوك شخصياً؟إنه يطوبك لأنك فقير ومسكين، لأن كل الناس فقراء مساكين بالنسبة لمجد الله. كلنا نموت أما هو فحي. كلنا محدودون، وهو الكامل. نحن الأشرار، وهو الصلاح، جميعنا نجسون، وهو قدوس. إننا مرضى روحاً وجسداً، لكنه منبع الصحة والسلامة. أغبياء نكون وأماهو فحكيم. خونة صفاتنا، وأمين اسمه. قارن حياتك بالله أيها الإنسان، واعترف بخطاياك ونقصانك وشرك وفجورك، فتصلك كلمة المسيح طوباكم أيها المساكين! فلا يطوب يسوع فقراء المال والعقل فقط، بل الناس أجمعين، لأننا شحاذون، عائشون من فتات نعمة الله.

أما الآن حضر المسيح بيننا وحل ملء اللاهوت فيه جسدياً، وقوى السماء تخرج منه. فلمسته الجماهير. وغنى محبة الله تجري منه إلى كل الناس. وهو باذل نفسه للعالم الشرير المفتقر. وفيه نحصل على بركات السموات كلها. هو الملك المالك في ملكوت الل ومملكته موجودة فيه كنبتة في بذرتها. فالذي يقبله يصير غنياً صالحاً ومباركاً كالله. هل تريد أن تغنى كالخالق، فانظر إلى المسيح. وتمسك به تمسكاً أزلياً، فيطوبك حقاً.

كل الناس يجوعون إلى الله، ولا يعرفون حقيقة ذلك، فيطلبون إطفاء غليلهم إلى السلام في اللهو والأفلام والمخدرات. هل سمعت أغاني الحب في الراديو؟ فكلها صرخة واحدة إلى محبة حقة، وجوع إلى رحمة، وشوق إلى الله المستتر عليهم. إن البشر جميعاً يطلبون العلي. ولكنهم عمي، ولا يعرفون طلبهم. فانحرفوا إلى الضلال المبين. وكادوا يموتون متعطشين إلى السلام. طوباك إن أدركت أن نفسك عطشى إلى كلمة الله. وقلبك جائع إلى روح النعمة. إنك تطلب غفران خطاياك، والصلح مع ربك، والتعزية من يأسك. والمسيح يؤكد لك السعادة السماوية، إن طلبت الله. لأنه يشاء، أن يكون شخصياً غذاءك الروحي، كما يهبك نفسه في العشاء الرباني. وبكلمته يشبع جوعك إلى معرفة البر، ويمنح نفسك سرورها. إن جوع الجسد، إلى زمن. أما جوع القلب فأزلي. فكل يسوع، تشبع. إنه خبز الحياة لكثيرين.

هل بكيت مرة على خطاياك؟ وهل اشمأززت على وحل نفسك؟ هل تتألم من كبريائك؟ وهل ترتعب من الدينونة المقبلة على العالم؟ طوبى لك إن عذبتك ذنوبك؟ وشعرت بدينونة الله في أحشائك. فتنكسر عندئذ لذاتك، وتصرخ النجدة النجدة! فأما المسيح فينحني علي، قائلاً: مغفورة لك خطاياك. قد تبررت وتقدست في النعمة. آمن بربك يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك. اقبل ما يقدمه لك من الصلح والكفارة والتطهير، فتتحرر من سلطة الخطية وتخوض إلى سلام الله وفرحه السرمدي. وإننا لنشهد لك، أن صليب المسيح هو الست لاطمئنانا. فنضحك في الضيق. ونتعزى في الموت. لأن الله معنا، والمسيح يتمركز في قلوبنا.

إن محبته هي التي دفعتنا لاتباعه. وقوته قد أهلتنا للخدمة. هل تريد، أن تصبح عبداً للمسيح؟ عندئذ الفقر ينتظرك. والاحتقار والبغضة والاستهزاء يهاجمك. وأما أصدقاؤك القدامى فإنهم يتركونك، بينما عائلتك ربما تطردك. لا بأس بذلك، لأن يسوع السيح يأمرك أن تقفز فرحاً وتثبت في غبطة، إذ مكافأتك هو الله بذاته. وإن مجده يكون لباسك. فانشرح لفضائله حيث محبته جعلتك محباً. وصبره جددك إلى حمل وديع. وإذ ذاك، لا بد أنك تترقب مجيء يسوع الآتي لفدائك الكامل. هل تنتظرن هذه اللحظة الفريدة. لحظة الابتهال والابتهاج. إنه آت سريعاً.

الصلاة: أيها الرب لست مستحقاً أن تدخل بيتي ولكن قل كلمة، فتبرأ نفسي. وكلنا لا نستحق زيارتك، ولكن قل كلمة واحدة، فتمتلئ بسلامك وقدرة محبتك.

6: 24 وَلٰكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلأَغْنِيَاءُ، لأَنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ. 25 وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلشَّبَاعَى، لأَنَّكُمْ سَتَجُوعُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلضَّاحِكُونَ ٱلآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَحْزَنُون وَتَبْكُونَ. 26 وَيْلٌ لَكُمْ إِذَا قَالَ فِيكُمْ جَمِيعُ ٱلنَّاسِ حَسَناً. لأَنَّهُ هٰكَذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ بِٱلأَنْبِيَاءِ ٱلْكَذَبَةِ.

ويل للذين يفكرون أنهم أغنياء مالاً وروحاً وخبرة، لأنهم بالحقيقة أغبياء مستكبرون وسراقون. فالله وحده هو الغني والمالك والحكيم. وكل إنسان لا يتوب أمام الله وينكسر لتشامخه. يخص الأغنياء الظانين بأنفسهم أنهم أغنياء ولكنهم مساكين.

وحقاً ماذا تطلب لعينك اليمنى، إن جاءك أعمى طالباً عينك ليصح؟ هل تسلم عينك بألف ليرة أو بألف الألوف؟ هل تدرك لأي مقدار صنعك. فكلنا خاصة الله ووكلاء ممتلكاته. ومن يعش بدون الله يسقط إلى جهنم، لأنه سارق، ولم يسلم ما استودعه لصاحبه. ول من يعش بدون الله، لا يجد راحة لضميره، ولا تعزية لقلبه، لأن المال صار إلهه. وصحته تضمحل، والموت يترصده. ويل للأغنياء الفقراء! وطوبى للفقراء الأغنياء في المسيح! فلمن تخص من الفرقتين؟

ويقول المسيح ويل لكل نهم وسكير يخنق الخمور واللحوم المشوية صوت نفسه الجائعة، ولا يصغي إلى طلبة الشحاذ المسكين. فويل للزناة واللوطيين، الذين تطفو من بطونهم المتخمة الشهوات الدنسة. فيدوسون ضمائرهم وضمائر الآخرين. فسيركضون وراء كلمة لله ولا يجدونها. ويبحثون عن التعزية عند الشياطين والأموات والعرافين، ويسقطون إلى اليأس تدريجياً أكثر فأكثر. والطاولات الممتلئة بالطعام والمستودعات الملئ بالحبوب والمعادن، ليست هي غنى الشعب، بل كلمة الله وحدها. وإن بركة هذه الكلمة تستطيع أن تفتح الشعوب الفقيرة، فإن الجائعين سيهاجمونهم قريباً، ويربطون الشبعانين على الصلبان ويتمتعون أمامهم بأرزاقهم.

هل سمعت مرة سكيراً يتضاحك؟ إنه يتصرف بلا ضابط فيظهر فساد داخله. وهل أصغيت لضحك أصدقائك وزملائك، للنكت الدنسة؟ فكل قصة نجسة تشبه مسماراً داخلاً إلى نفسك، وستعذبك لأنك لا تستطيع التخلي عن وسخك، من تلقاء نفسك. وهل سمعت استهزاء الأقويء وابتسام الاحتقار من المنتصرين على المغلوبين؟ كلهم مائت حتماً. فيتوقف ضحكهم في حنجرتهم، إذ يدركون أن بذرة الموت كانت فيهم كل حين. هل استعددت لوفاتك؟ فقد علمنا موسى الصلاة الحكيمة فقال إحصاء أيامنا، هكذا علمنا، فنؤتى قلب حكمة.

وأشنع خداع في البشر هو الرياء. فيقول الناس بعضهم لبعض، إنهم أذكياء وصالحون وموهوبون وأتقياء. ويؤمنون بهذا الاطراء المداهن، ويبتسمون في وجوه بعض وينحنون لبعض، لأن كلا منهم يظن نفسه إلهاً مصغراً. أبالسة هم، ولا يدرون خطاياهم، لأنه لس أحد صالحاً جميلاً وحكيماً، إلا الله ومسيحه. فتب وناد بالتوبة، ليضب الطواويس ريشهم، ويخلع الذئاب لبوسهم فراء الحملان، طالبين موت قلبهم الذئبي. ليصبحوا ممتلئي روح الحملان الودعاء. فمن أنت، مستكبر أو متواضع في النعمة؟

الصلاة: اللهم ارحمني أنا الخاطئ. خلصني من خداع نفسي، وحررني من سرقاتي، وعلمني إحصاء أيامي، وقدني إلى التوبة بروحك القدوس. وأمت قلبي الشرير، لأكسب وداعتك وتواضعك وملء محبتك اللطيفة.

6: 27 لٰكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلسَّامِعُونَ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، 28 بَارِكُوا لاعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ. 29 مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَٱعْرضْ لَهُ ٱلآخَرَ أَيْضاً، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلا تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضاً. 30 وَكُلُّ مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَخَذَ ٱلَّذِي لَكَ فَلا تُطَالِبْهُ. 31 وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ ٱلنَّاسُ بِكُمُ ٱفْعَلُوا أنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ هٰكَذَا. 32 وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ ٱلْخُطَاةَ أَيْضاً يُحِبُّونَ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ. 33 وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى ٱلَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ، َأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ ٱلْخُطَاةَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هٰكَذَا. 34 وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ ٱلَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا مِنْهُمْ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ ٱلْخُطَاةَ أَيْضاً يُقْرِضُونَ ٱلْخُطَاةَ لِكَيْ يَسْتَرِّدوا مِنْهُمُ ٱلْمِثْلَ. 35 بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لا تَرْجُونَ شَيْئاً، فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيماً وَتَكُونُوا بَنِي ٱلْعَلِيِّ، فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ ٱلشَّاكِرِينَ وَٱلأَشرَارِ. 36 فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضاً رَحِيمٌ.

في بعض فلسفات وأديان العالم تجد المحبة لله والناس دستوراً. ولكن مسامحة الأعداء بلا قيد أو شرط لا تجدها، لأن أتباع تلك المعتقدات لم يتأكدوا من غفران خطاياهم عند الله، بل هم في شك من رحمته. وصورة إلههم تختم حضارتهم وتصبغ تصرفاتهم.

أما إلهنا فهو محبة، وليس لرحمته حدود. وقد بذل ابنه لكي يغفر ذنوبنا، فنتحرر نحن لبنوته. وفداء إلهنا هذا غير بصيرتنا وقلب مبادئنا. فنحب كما يحبنا، ونغفر كما يغفر لنا. وقد صبر علينا، لما تركناه ضالين. ولم يبدنا، لما جدفنا عليه ساخطين فأحسن إلينا، لما أغضبناه. باركنا لما تجاوزنا حدوده.

إن المسيح هو صورة إلهنا، فضرب وبقي صامتاً. وقد كلل بتاج الشوك، فبارك معذبيه، وسال دمه وبصق في وجهه، فأحب الفاجرين، وصلى وهو معلق على خشبة العار: با أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون. ألا تظن أن المسيح هو القدوة الصالحة لك الناس؟ ولكن يا للأسف، فليس أحد صالحاً منا. إذ كلنا فاسدون أشرار خبثاء. ولكن المسيح مات لأجلنا لنشفى بموته. ومنحنا روحه، لتحل محبة الله في قلوبنا. وشاركنا بحق بنوته، لنسمي الله أبانا. هل تدرك امتيازك؟ فالله يحبك، رغم انك عدوه، بمقدار بذله ابنه الوحيد، لتصبح أيها العاصي ابنه الحبيب. فمتى تشكر محبته، وتجاوب عليها بتسليم نفسك كاملة، وبإطاعة شكرك الأبدي له؟

واستمع أيها الأخ المؤمن. إن المسيح ينزعك من فساد إنسانيتك إلى أعلى درجة شكرك. لأنه يأمرك: كن رحيماً مثلما أن أباك هو رحيم. ألا تفزعن من هذه الوصية؟ لا تخف لأن رحمة أبيك عظيمة بمقدار، أنه يهبك القوة لترحم الكل كما أن أباك رحيم. فكي يتم هذا؟ ليس إلا بالإيمان بالمسيح وتبريره، فيحل الروح القدس في قلبك. وهذا الروح الرحيم هو روح أبيك، جوهر من جوهره، ونور من نوره. فهل يسكن روح الله فيك؟ فتقدم إلى المسيح طالباً منه الروح القدس، ليبدل قلبك المتحجر بقلب رحيم. عندئذ تحب كل الناس، وتغفر لأعدائك، وتحتمل الصعبين في صبر أبيك. إن رحمة الله في قلبك ليست شعوراً عاطفياً فقط. بل تدفعك إلى عمل التضحية. فالكلام رخيص غالباً. ولكن النقود والخبز والملابس ثمينة. فكم تضحي شهرياً؟ إن تضحيتك بالنسبة لمدخولك هي التي تبين محتك. ولست مجبراً لتساعد الفقراء أو تتبرع لكنيستك، لأن المحبة لا تعرف الواجب، بل الامتياز في التضحية. فإن سكن روح أبيك فيك تحضر عملاً للعاطلين، وتقرض المتضايقين، وتصلي للقيام بطرق عملية لمساعدة الغوغاء. وإن خدمت باسم المسيح كنيستك، تحصل عى أجرة عظيمة. لأن ربك يزيد قوتك للخدمة، ويضاعف احتقار الناس لك. ويزيد آلامك لكي تصبح أكثر قرباً لصورة محبته وغفرانه. فالله بالذات هو أجرة حاملي الصليب.

وفي كل اجتهاداتك في تربية النشأ الجديد وفي عون المساكين، سرعان ما تعرف أن الأعمال الخيرية مهمة، ولكن الخلاص القلبي أهم. وكثيراً ما يقل رأسمال المؤمنين، ولكن قوة صلاتهم عظيمة. والتبرعات المستمرة من الفقراء المرافقة بصلواتهم أقوى منتبرعات ضخمة يمكن أن يقدمها الأغنياء. فالله يعلم قلبك. فهل أنت رحيم، كما أن أباك أيضاً هو رحيم؟

الصلاة: أيها الرب يسوع، قلبي كحجر، وأحب نفسي أولاً. اغفر أنانيتي، وغير قلبي، وجدد ذهني. لكيلا يكون المال إلهي، بل أنت المصلوب. اصبغ أخلاقي بوداعتك، واختم داخلي، لأراك متعلقاً على الصليب مدمياً. لكي أصبح أيضاً، باذلاً في سبيل المحبة. ارحمني لأصبح رحيماً أيضاً.

6: 37 وَلا تَدِينُوا فَلا تُدَانُوا. لا تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلا يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ. 38 أَعْطُوا تُعْطَوْا، كَيْلاً جَيِّداً مُلَبَّداً مَهْزُوزاً فَائِضاً يُعْطُونَ فِي أَحْضَانِكُمْ. لأَنَّهُ بِنفْسِ ٱلْكَيْلِ ٱلَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. 39 وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلاً: هَلْ يَقْدِرُ أَعْمَى أَنْ يَقُودَ أَعْمَى؟ أَمَا يَسْقُطُ ٱلاثْنَانِ فِي حُفْرَةٍ؟ 40 لَيْسَ ٱلتِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنْ مُعَلِّمِهِ، بَلْ كُّلُ مَنْ صَارَ كَامِلاً يَكُونُ مِثْلَ مُعَلِّمِهِ. 41 لِمَاذَا تَنْظُرُ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا ٱلْخَشَبَةُ ٱلَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلا تَفْطَنُ لَهَا؟ 42 أَوْ كَيْفَ تَقْدِرُ أَنْ تَقُولَ لأَخِيكَ: يَا أَخِي َعْنِي أُخْرِجِ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عَيْنِكَ، وَأَنْتَ لا تَنْظُرُ ٱلْخَشَبَةَ ٱلَّتِي فِي عَيْنِكَ. يَا مُرَائِي! أَخْرِجْ أَّوَلاً ٱلْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عيْنِ أَخِيكَ.

كل إنسان غبي في أحيان كثيرة إذ يظن أن بإمكانه أن يدرك كل شيء. ما أروع السطحية! من يعرف قلب الإنسان الآخر، وماضيه وإرثه الخلقي وتأثير محيطه على تطوره وتجاربه مع الأبالسة وحاضره المتأزم؟ فلا تدن إنساناً، ولا ترفض خاطئاً، لأنك لا تعل ماذا يفيض منك لو كنت في مثل حالته.

وإن أرغمت أن تقول رأيك في إنسان ما، فاحترس من النقد الجارح والخالي من المحبة. واعرف مواهبه الصالحة والسلبية في آن واحد. وكون فكرة عنه لنفسك عالماً أن الله وحده هو أعلم به، لكنك أنت لن ترى إلا قشور نفسه الخارجية. فهل تعرف نفسك بالألى؟ فكيف ببالك تدين الغوغاء والأعداء. وأنت لم تعط علم الأسرار. ولا تعلم حقيقة الحياة والموت. فيا أيها الإنسان، اعرف حدودك، واعترف بغباوتك، فتكسب قلبك حكمة وتواضعاً. وتسأل ربك في كل الأمور، ماذا يريده هو، وماذا عليك أن تقول وتعمل، حسب إنيل محبته البناءة.

إن الله رحمة وتسامح وغفران ووهاب ومحبة، ومعطياً لنا نعمة فوق نعمة. وإن ثبت فيه، تحب الكل في عاطفة أبيك. وروحه القدوس يدفعك إلى الرأفة والحنان. وفي هذا العمق لا يجد النقد الجارح محلاً في قلبك، ولا رفض المساكين. لأن أباك في السماء ق غفر ذنوبهم، لما بذل ابنه على الصليب. فكم بالحري تدين المعفي عنهم؟ وفي العالم لا توجد ذنوب غير مغفورة، إلا رفض المسيح وبره.

ورغم هذا، علينا أن ندين الروح الشرير العامل في الناس والشعوب والمذاهب. ولكن الإنسان المكبوس بهذا الروح نحبه، لأن الله يريد أن كل الناس يخلصون. وبحر المحبة يجري من الله ليحل عبيد الشرير. هل أنت من الروح الشرير وتحتقر أناساً آخرين؟ إنك بنفسك في حاجة إلى تحرير. أو هل انكسرت لاستكبارك وتساعد الله لتحرر المقيدين من الشيطان؟

وكيل رحمة الله الذي يريد أن يجسده فيك، يشبه فيضاناً، لأن الله محبة ويعزم أن يضع ملء محبته فيك، لتصبح ينبوع اللطف في محيطك.

ولكن إن بقيت أعمى لغباوة خبثك، لا تستطيع أن تقود إنساناً آخر إلى الله مطلقاً، ولا يحق لك أن تعلم الناس علوماً أو لاهوتاً، لأنك لم تدرك بعد، أن كل امرئ طبيعي هو أعمى وجاهل ومسكين. ولكن حيث فتح لك غفران المسيح أعين قلبك واشتركت في فضان قوته ومعرفة محبته أصبحت منارة في محيطك الظالم. فلا تفكرن إنك شيء، لأن الخير هو فيك من الله. فلا يبقى لنا فخر، إلا الشكر. أنت عدم أما ربك فهو الكل. وهو يعزم أن يجعلك نظيراً لصورته.

ومن يعش قريباً من إخوة وأخوات في المسيح، فإنه سرعان ما يرى أغلاطهم الصغيرة. ومن يظن أنه خبير في طرق الروح القدس، ويتفاخر كأنه مقتدر لخلاص الإخوة، ويبتدئ أن يخرج القذى من عيونهم، فهذا يسبب وجعاً كثيراً. فيا للأسف! فإن الأتقياء خاصة هم الذين لا يرون إلا نادراً أنهم أشرار في نفسوهم وأن يسبب الكبرياء الروحية طمس على أعينهم. فلا يرون خطاياهم العديدة. وننصحك أيها الأخ، ألا تنتقد أخطاء الآخرين. بل صلح نفسك أولاً، وبعدئذ صل مستمراً لأجل أعدائك. واعرف أنك أنت الأصغر والأثر احتياجاً في جمعيتك. والاعتراف بضعفك ليس منقصة بل قوة إلهية. فانقد نفسك وأدن خطاياك. ولا تدنها بسطحية، فتصبح رحيماً لضعفات أخيك.

الصلاة: أيها الرب القدوس، قد عرفت قلبي وذهني، وأدنت استكباري وقساوة نفسي. أنب الروح الشرير النقاد فيّ. واغفر لي ذنوبي، واملأني بمحبتك وصبرك وحكمتك وورح التمييز. لأشهد بالحق، وأحب الضالين كما تحبني. واغفر ذنوبهم كما تغفر لي. نشكرك لبحر محبتك الفائضة علينا.

6: 43 لأَنَّهُ مَا مِنْ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تُثْمِرُ ثَمَراً رَدِيّاً، وَلا شَجَرَةٍ رَدِيَّةٍ تُثْمِرُ ثَمَراً جَيِّداً. 44 لأَنَّ كُلَّ شَجَرَةٍ تُعْرَفُ مِنْ ثَمَرِهَا. فَإِنَّهُمْ لا يَجْتَنُونَ مِنَ ٱلشَّوْكِ تِيناً، وَلا َقْطِفُونَ مِنَ ٱلْعُلَّيْقِ عِنَباً. 45 اَلإِنْسَانُ ٱلصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ ٱلصَّالِحِ يُخْرِجُ ٱلصَّلاحَ، وَٱلإِنْسَانُ ٱلشِّرِّيرُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ ٱلشِّرِّيرِ يُخْرِجُ ٱلشَّرَّ. فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ ٱلْقَلبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ. 46 وَلِمَاذَا تَدْعُونَنِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، وَأَنْتُمْ لا تَفْعَلُونَ مَا أَقُولُهُ؟

لقد فسر لنا بولس معنى ثمار الجسد وثمار الروح القدس (غلاطية 5: 19-26). ومما لا ريب فيه، أن ليس إنسان صالحاً وآتياً بثمار صالحة. هل تعرف الأعمال النجسة، حتى في الإنسان المهذب والمؤدب؟ وهل شممت رائحة الكبرياء النتنة في أتقياء كل الأدين؟ فإن الإنسان الطبيعي فاسد أمام الله، وغير صالح البتة. فيشبه شجرة بلا ثمر نافع، ومستحق أن يقطع ويلقى في النار.

ولكن حيث يطهرنا المسيح بكلمته، وينقي قلوبنا بدمه، فهناك تحل قوة الروح القدس فينا وتجعلنا صالحين. وفي تواضع محبة المسيح يصبح الإنسان الباطل نافعاً، لأن فرح الرب وسلامه، يدفعاننا إلى الصبر. أدرس ثمار الروح القدس ملياً، فتعرف ماذا يشاء الرب أن يعمل منك.

ولا تغرن نفسك، فليس امرء صالحاً في ذاته. إذا الكل قد زاغوا وفسدوا معاً، وفقدوا مجد الله الموهوب لهم. طبعاً إن قارنت نفسك بآخرين، فإنك لن تكون أردأ منهم أو أحسن، ولكن إن اتخذت المسيح مقياساً لحياتك فلا بد أن ترى حقيقة بشاعة نفسك. فلتعليم عن الإنسان الصالح أكبر كذب في الحاضر والماضي. وإبليس يوسوس هذا الخداع في الكنائس والأديان والفلسفات والمدارس، كأن الإنسان قابل للتهذيب والإصلاح. وحقاً فإنه في أحسن حالاته، ليشبه وحشاً مروضاً، ولكن في داخله مفعم الرفض والكراهية واحقد.

ليس أحد صالحاً إلا الله والمسيح والروح القدس والذين يميتون أنانيتهم في التوبة ليمتلئوا بمحبة الأزلي. فالصلاح في المؤمن ليس منه هو، بل من الله، الذي يثير مواهبك، ويجند قواك ليستخدمها في نهر محبته.

هل أصبحت شجرة إلهية صالحة أو لا زلت نبتة سامة فاسدة؟ والجواب لا بد أنك تعرفه من كلامك وكتابتك. أي نوع من القول يخرج منك؟ أمحبة وطهارة وصدق وضبط للنفس وقوة إلهية؟ أو تخيلات وأكاذيب وغرام واستهزاء وبغضة؟ فامتحن نفسك، لتعرف نضوجك أو لحكم عليك في دينونة الله.

هل تخاطب المسيح ربك، فما هي تصرفاتك التي تدل جيرانك على هذه الحقيقة أن يسوع هو ربك وملكك؟ هل تنفذ مشيئته؟ هل تعظم قوته في ضعفك؟ وكيف تخضع لمحبته؟ وهل أنت سائر حقاً في ضبط روحه؟ إن المسيح يطلب منك تحقيق إيمانك عملياً، لأن الاعتقاد دون نتيجة باطل. ولكن حين المسيح يتمركز في قلبك، فإنك تصبح وديعاً وصالحاً وعفيفاً. ليس من قدرتك، بل من طاقة ربك.

إن الإيمان بدون الأعمال الصالحة هو ميت. ولكن محبة الله تغلب أخلاقنا. ونؤمن أن المسيح يخلقنا خليقة جديدة مختبرين تقديسه. لأن الله بالذات، يكملنا بلا لوم ثابتين في المحبة إلى مجيء المسيح القريب.

الصلاة: أيها الرب أنا عبد باطل. لا ترفضني من جوارك، بل غير ذهني إلى حقك. واملأ فؤادي برحمتك، لكي أشكرك على تثبيتي فيك، وآتي بثمر كثير. ونعظمك. لأن خلاصك هو رجاؤنا الحي.

6: 47 كُلُّ مَنْ يَأْتِي إِلَيَّ وَيَسْمَعُ كَلامِي وَيَعْمَلُ بِهِ، 48 يُشْبِهُ إِنْسَاناً بَنَى بَيْتاً، وَحَفَرَ وَعَمَّقَ وَوَضَعَ ٱلأَسَاسَ عَلَى ٱلصَّخْرِ. فَلَمَّا حَدَثَ سَيْلٌ صَدَمَ ٱلنَّهْرُ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتَ، فَلَم يَقْدِرْ أَنْ يُزَعْزِعَهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى ٱلصَّخْرِ. 49 وَأَمَّا ٱلَّذِي يَسْمَعُ وَلا يَعْمَلُ، فَيُشْبِهُ إِنْسَاناً بَنَى بَيْتَهُ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنْ دُونِ أَسَاسٍ، فَصَدَمَهُ ٱلنَّهْرُ فَسَقَطَ حَالاً، وَكانَ خَرَابُ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ عَظِيماً.

كان يسوع نجاراً بنّاء وساهم في إنشاء بيوت كثيرة، ورأى بعين اختباره، أي بيت متين وأيها واهن. فرأى مسبقاً بيوتاً هابطة، وبيوتاً راسخة وسط الطوفان الكاسح.

فشبه يسوع حياة الإنسان ببيت يبنى تدريجياً، ويزين بزينة جميلة، ويفرض بأثاث ثمين. ولكن هذه المظاهر الفخمة باطلة، إن لم يكن لهذا البيت أساس متين، ليثبت في أيام الكوارث. فما هو أساس بيت حياتك؟

إن المسيح هو الأساس الأزلي لكل مؤمن، ويأتي إلينا بكلمته. وهنا يبتدئ الفرق بين الحكيم والجاهل. المؤمن الحكيم يسمع إنجيل المسيح ويفتح قلبه لقوله. يحركه هذا القول في قلبه، وينكسر كبرياؤه ويتوب حقاً. عندئذ تستطيع كلمة المسيح أن تغير ذنه خالقة إنساناً جديداً، مبنياً على المسيح. الذي يملأه بقوته ومحبته، ليعمل ما يشاء الروح القدس. فهذا الإنسان صار حكيماً، لأنه بنى ذاته على قوة الله. فصار المسيح أساس كيانه في الحاضر، وشفيعه في يوم الدينونة. وكذلك أصبح الروح القدس محرك دافعه. فارتباط الإنسان مع الله الآب والابن والروح القدس، ليس سطحياً، بل متيناً ويثبت في الموت وإلى الأبد، لأن دم المسيح برنا، وروحه تعزيتنا.

والإنسان الجاهل لربما يسمع أيضاً كلمة المسيح ولكنه لا يهتم بها كثيراً، لأن قلبه ملآن بأفكار ومشاكل، وهو يقبل بعض أفكار ابن الله لبناء حياته، ولكنه لا يتوب أصلياً ولا يتغير خلقياً جذرياً. فيبقى إيمانه سطحياً تقليدياً وبدون أعمال محة الله. وفي أيام الضيق والشيخوخة، لا يجد هذا الإنسان قوة وتعزية. فيبتسم الموت له كغول مخيف رغم معموديته، وتتربص دينونة الله عليه كأسد جائع. فيسقط هذا الإنسان سقوطاً عظيماً، لأنه قد سمع كلمة الله، ولكنه لم يفتح نفسه لوسيلة قوة ربه حقاً، ل أهمل فضله.

ولا بد من إتيان طوفان غضب الله. والدينونة لا شك قريبة. فهل تأسست في المسيح، أو لا زلت معتمداً على نفسك؟ هل ينشئ الروح القدس فيك ثمار صلاحه، أو تشبه برميل وسخ مفعم القذارة؟ التجئ إلى المسيح، وتب حقاً، ليكون وحده ربك، فتغلب محبته ذنبك. أسرع إلى مخلص العالم، ليخلصك ويقدسك ما دام وقت.

الصلاة: أيها الرب، نسجد لك لأنك أصبحت أساس حياتنا، وأصلتنا فيك وغيرتنا وساعدتنا لنسمع كلمتك وندركها. احفظنا في محبتك وقونا في طهارتك وارشدنا إلى حقك فنثبت فيك ونعمل ما تقول بعونك.

8 - شفاء عبد الضابط الروماني (7: 1 - 10)

الأصحاح الثامن : 1 وَلَمَّا أَكْمَلَ أَقْوَالَهُ كُلَّهَا فِي مَسَامِعِ ٱلشَّعْبِ دَخَلَ كَفْرَنَاحُومَ. 2 وَكَانَ عَبْدٌ لِقَائِدِ مِئَةٍ، مَرِيضاً مُشْرِفاً عَلَى ٱلْمَوْتِ، وَكَانَ عَزِيزاً عِنْدَهُ. 3 فَلَمَّا سَمِعَ عَنْ يَسُوعَ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ شُيُوخَ ٱلْيَهُودِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَأْتِيَ وَيَشْفِيَ عَبْدَهُ. 4 فَلَمَّا جَاءُوا إِلَى يَسُوعَ طَلَبُوا إِلَيْهِ بِٱجْتِهَادٍ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُفْعَلَ لَهُ هٰذَا، 5 لأَنَّهُ يُحِبُّ أُمَّتَنَا، وَهُو بَنَى لَنَا ٱلْمَجْمَعَ». 6 فَذَهَبَ يَسُوعُ مَعَهُمْ. وَإِذْ كَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ عَنِ ٱلْبَيْتِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ أَصْدِقَاءَ يَقُولُ لَهُ: «يَا سَيِّدُ، لا تَتْعَبْ. لأَنِّي لَسْتُ مُسْتَحِقّاً أَنْ تَدْخُل تَحْتَ سَقْفِي. 7 لِذٰلِكَ لَمْ أَحْسِبْ نَفْسِي أَهْلاً أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ. لٰكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَيَبْرَأَ غُلامِي. 8 لأَنِّي أَنَا أَيْضاً إِنْسَانٌ مُرَتَّبٌ تَحْتَ سُلْطَانٍ، لِي جُنْدٌ تَحْتَ يَدِي. وَأَقُولُ لِهٰذَا: ٱذْهَب فَيَذْهَبُ، وَلآخَرَ: ٱئْتِ فَيَأْتِي، وَلِعَبْدِي: ٱفْعَلْ هٰذَا فَيَفْعَلُ». 9 وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ هٰذَا تَعَجَّبَ مِنْهُ، وَٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْجَمْعِ ٱلَّذِي يَتْبَعُهُ وَقَالَ: «أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ أَجِدْ وَلا فِي إسْرَائِيلَ إِيمَاناً بِمِقْدَارِ هٰذَا». 10 وَرَجَعَ ٱلْمُرْسَلُونَ إِلَى ٱلْبَيْتِ، فَوَجَدُوا ٱلْعَبْدَ ٱلْمَرِيضَ قَدْ صَحَّ.

كانت كفرناحوم مدينة خاضعة للملك هيرودس أنتيباس، ولكن الرومان وضعوا فرقة من الجنود في هذا المركز التجاري الهام، لكيلا يثور اليهود فجأة. وكان قائد هذه الفرقة ضابط حكيم، لم يتلسط على الأمة الغريبة العدوة بالعنف. بل فهمهم وأحبهم، لأنهأدرك أن دينهم، الذي يدعو للإيمان بالله الواحد، هو دين صحيح مفعم بالقوة. فأكرم هذا الاعتقاد، وبنى لهم معبداً حديثاً متسعاً وصار مشتهراً ومكرماً في السموات وعلى الأرض أكثر من الهيكل في القدس، لأن المسيح تمركز ها هنا وعلم فيه، وشفى المرضى.وأخرج شياطين من الملبوسين.

وبعدما تجند أعداء المسيح لإهلاكه. وإذ كان قد اختار تلاميذه للتبشير، أتى إليه ممثل القائد الوثني طالباً عونه. وكان هذا القائد قد سمع منذ زمن عن مدهشات يسوع. وأرسل جواسيسه إليه، وعلم بدقة أن يسوع ليس ثائراً مخيفاً، ولا يقود الجماهيرالمتراكضة إليه لشغب، بل هو مفعم المحبة، وممتلئ قوة الله. وشفاءاته وإخراجه الشياطين أكدا للقائد نبل مقاصده.

فالقائد الوثني الحذر أدرك صوت الله أكثر من الفريسيين العمي، الذين أصبحوا بتعصبهم الناموسي بعيدين عن الحق. وآمن القائد بيسوع بدون أن يراه، ولكنه حصل على أقواله مترجمة، وفتشها بدقة وفهم ماذا يريد رئيس السلام. وعلم أن مملكته ليست من ذا العالم. وغير مبنية على السيوف والجباية.

وفكر القائد الصالح ظهر أيضاً في عطفه على عبده المريض. فلم يتركه مهملاً، بل اعتنى به. ولما دنا من الموت لم يجد سيده القائد وسيلة وعوناً إلا الطبيب العظيم يسوع. ولكنه كوثني، كان محرماً على معلمي الدين أن يدخلوا بيته. فأرسل إلى يسوع رسلاً وشيوخ المجمع، لكي يتوسطوا لديه لأجل عبده المريض. وأسرع هؤلاء بسرور لينفذوا رغبة القائد. وأخبروا يسوع أنه مستحق أن يساعده، رغم أنه نجس حسب دينهم. ولما لم يجبهم المسيح سريعاً إلى طلبهم، ألحوا عليه بشدة، وشهدوا عنده مكرراً بإحسان وفضل ذلك القائد المسؤول. وحقاً فإن محبة الله، تستجيب لكل خدمة إنسانية مستقيمة. فذهب يسوع رغم أن زيارة الوثني، كانت حسب الناموس ممنوعة عليه. وكان عازماً على أن يدخل بيت القائد، حتى ولو حسب اليهود ذلك خطية.

إنما كانت للقائد حساسية أشعرته باستحالة دخول يسوع إلى بيته. فعبر عن إيمانه الكبير بالكلمات: لست مستحقاً أن تدخل بيتي! تصور أن قائد السلطة الاستعمارية تواضع وخضع بهذا المقدار لأحكام الأمة اليهودية، وسمى نفسه غير مستحق بكل معنى لهذه الكلمة. وذلك رغماً عن شهادة الشيوخ لاستحقاقه: إنه مستحق. وهذا سر عظمة أي شخص كبير، إنه وهو مستحق يحسب نفسه غير مستحق. ويا للأسف الشنيع! إننا نجد العكس اليوم. فغير المستحق ينادي بنفسه أنه مستحق. فكيف ترين نفسك أيها الإنسان.

وهكذا فقد اعترف القائد بإيمانه بسلطان يسوع مؤمناً أنه يستطيع أن يأمر الملائكة ليغلبوا الشياطين والمرض، كما يأمر الضابط جنوده، ليبيدوا الأعداء والثائرين. فهذا القائد الغريب أدرك بعمق من هو يسوع وجوهره. ولم يسمه سيداً فقط، بل سماه رمياً رباً، كما نجد ذلك صريحاً في النص الأصلي اليوناني. ولم يتجاسر يهودي آنذاك أن يتلفظ بهذا اللقب، لأن هذه الشهادة تعني اعترافاً بلاهوت المسيح في كيانه الإنساني.

وقبل يسوع هذا الإيمان مباشرة متعجباً من عمل الروح القدس في هذا الإنسان الغريب. كما استعجب أيضاً لعدم وجود الإيمان في الناصرة (مرقس 6: 6). فأعلن ابن الله جهاراً بداية عصر التبشير للأمم، لما بان إيمان القائد الوثني أعظم وأقدس وأعمق وكثر فعالية من إيمان كل تلاميذه وأتباعه والجماهير المتدينة. فشفى الغلام في الحال، لأن قوة المسيح اتضحت بكاملها بواسطة إيمان القائد، حتى ولو على البعد.

فكيف يظهر إيمانك؟ هل تؤمن لنفسك فقط أو تصلي لأجل الآخرين؟ فحيث تقترب محبتك وإيمانك بانسجام مع عدم استحقاقك ليسوع وتخضع له تماماً، تظهر قوة ابن الله بأعظم بيان في خلاص أصدقائك حتى ولو كانوا ساكنين بعيداً عنك. فكيف تتضح صلاتك الآن. بأنانية أو بإيثار؟

الصلاة: أيها الرب، لست مستحقاً أن تقترب مني لأنني أناني نجس. اغفر لي ذنوبي وقلة محبتي للآخرين، واشفني وخلصني واشفهم وخلصهم. وأنا أؤمن أن قوتك تغلبني، وأصدقائي الذين أسماءهم قدامك. أنت ربنا ومخلصنا نسجد لك.

9 - إقامة ابن أرملة نايين (7: 11 - 17)

7: 11 وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي ذَهَبَ إِلَى مَدِينَةٍ تُدْعَى نَايِينَ، وَذَهَبَ مَعَهُ كَثِيرُونَ مِنْ تَلامِيذِهِ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ. 12 فَلَمَّا ٱقْتَرَبَ إِلَى بَابِ ٱلْمَدِينَةِ، إِذَا مَيْتٌ مَحْمُولٌ ٱبْنٌ وَحِيدٌ لأُمِهِ، وَهِيَ أَرْمَلَةٌ وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ. 13 فَلَمَّا رَآهَا ٱلرَّبُّ تَحَنَّنَ عَلَيْهَا وَقَالَ لَهَا: «لا تَبْكِي». 14 ثُمَّ تَقَدَّمَ وَلَمَسَ ٱلنَّعْشَ، فَوَقَفَ ٱلْحَامِلُونَ. فَقَالَ: «أَيُّهَا ٱلشَابُّ، لَكَ أَقُولُ قُمْ». 15 فَجَلَسَ ٱلْمَيْتُ وَٱبْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ. 16 فَأَخَذَ ٱلْجَمِيعَ خَوْفٌ، وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ قَائِلِينَ: «قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَٱفْتَقَدَ ٱللّٰهُ شَعْبَهُ».17 وَخَرَجَ هٰذَا ٱلْخَبَرُ عَنْهُ فِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَفِي جَمِيعِ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ.

وبإرشاد الروح القدس ذهب يسوع إلى مدينة نايين البعيدة عن كفرناحوم 50 كيلو متراً. ومعنى كلمة نايين هي ناعمة. ولكن الموت هجم على هذه البلدة الجميلة كشبح مستقبح، وأصاب شاباً. وموت الإنسان في ريعان الشباب يعد عند اليهود دينونة إلهية (مزمور 55: 24 و102: 25) ومع هذا فقد كان الشاب وحيداً لوالدته الأرملة. ورجاء عشيرته في استمرار نسلهم. وهكذا حسب موته عقوبة على كل بيته. وقد تألمت أمه قبلاً لوفاة بعلها. فضربت ضربتين قاصمتين، ورأت في هذه المصائب إعلان غضب دينونة الله عليها. وكنت منسحقة مؤمنة خائفة الله. ورافقها في جنازة وحيدها كثيرون وكثيرات من أهل بلدتها، فبكيت الأم مدراراً. ولطمت رأسها، وحلشت شعرها. وانطلق موكب الموت إلى القبر المفتوح لتلقي جثمان الشاب.

ومعاكساً لهذا الموكب اليائس جاء موكب الحياة برئيس الحياة. ورأى يسوع القلب التائب في الأم، الذي ما شكا ولا جدف على الله، بل اشتكى على نفس صاحبته، فبكيت بمرارة وندامة. وبكاء التائبة حرك قلب الله، فقال المسيح لها الكلمة المعزية: لا تكي. هذه الكلمة اللطيفة الحانية والقوية، يقولها ابن الله لكل الباكين في العالم، إذا تابوا. لأنه يأتي إليهم، بملء تعزية قوة الله الحاضرة في شخصه.

وتقدم يسوع المسيح بصمت إلى ناحية النعش ولمسه، فوقف موكب الموت. وبعدئذ اتبع المسيح كلمته المعزية الحنونة بعمله السلطاني الخلاصي. فلم يدع المسيح الله، ليعينه وينصره، بل أمر الميت حالاً باسمه وبسلطانه الخاص: أنا أقول لك قم! فهذه الكلة اخترقت مملكة الأموات. فسمع الميت دعوة ربه. فبثت كلمة الخالق قوى الحياة في الجسد الموات فانتصب ولم يحتج لمن يسنده، وعادت روحه ونفسه إليه. وتكلم وعاش كأنما هو ما مات قط. فإن المسيح قد أقام الشاب من تابوته بسرعة، كما يقيم الآب ابنه من السرير وهو نائم. إن سلطان المسيح عظيم جداً.

والجماهير من أتباعه ارتعبت. وأما مرافقو موكب الموت فتجمدوا شاخصين إلى فم المسيح لما سمعوا الكلمتين ورأوا إقامة الميت. وشعر الكل بحضور الله بينهم. وارتجفوا وعظموا القدوس قائلين: حقاً لقد جاء النبي الموعود من موسى (تثنية 18: 15 و18).الذي يقطع عهداً جديداً مع إلهنا، ويرشد شعبه الضال إلى الخلاص. وفكروا أن يسوع هو المسيح بالذات، لأن كل يهودي عالم أن إقامة الموتى هي من علامات المسيح. فتجاسر بعضهم وقالوا، إن الله نفسه حاضر بيننا في الإنسان يسوع، لأنه زار شعبه المحتقر. فبر إقامة الميت انتشر كبرق إلى كل النواحي، وأهاج القلوب والعقول.

فيا أيها الأخ، هل أدركت معنى إقامة الميت بيد المسيح؟ كل من يدرك هذا ويعترف أن يسوع هو رب على الموت، عليه بالتجاسر والشهادة أن يقول، إنه إله حق وابن العلي، ممتلئ الروح، لأن الله وحده، يستطيع إقامة الموتى.

فهل أدركت معنى إقامة الشاب أمام أسوار نايين بالنسبة لشخصك؟ إنك تشبه الشاب في نعشه، مليئاً بالأفكار الفاسدة والذنوب النتنة. وناشبة فيك بذرة الموت. ولكن الآن. فإن يسوع المسيح هو واقف أمامك شخصياً ويعترض طريقك إلى القبر المفتوح، ويلمك قائلاً: أيها الشاب، إني أقول لك قم. فتقوم وتعيش مفعماً بقوة الله، وتخدم ربك ومخلصك شاكراً وحياً إلى الأبد.

الصلاة: نعظمك أيها الرب، ونحمدك بغبطة وتهلل. لأنك أقمت الشاب في نايين، وأحييتنا من موت الخطايا، ومنحتنا الحياة الأبدية. نسجد لك أيها المنتصر، ونشرب من مياه حياتك. ادع ألوف الشباب من أمتنا إلى موكب نصرتك. آمين.

10 - وفد يوحنا المعمدان وجواب يسوع وشهادته بالمعمدان (7: 18 - 35)

7: 18 فَأَخْبَرَ يُوحَنَّا تَلامِيذُهُ بِهٰذَا كُلِّهِ. 19 فَدَعَا يُوحَنَّا ٱثْنَيْنِ مِنْ تَلامِيذِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى يَسُوعَ قَائِلاً: «أَنْتَ هُوَ ٱلآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» 20 فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ ٱلرَّجُلانِ قالا: «يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ قَدْ أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ قَائِلاً: أَنْتَ هُوَ ٱلآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» 21 وَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ شَفَى كَثِيرِينَ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَدْوَاءٍ وَأَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ، وَوَهَبَ ٱلْبَصَرَ لِعُميَانٍ كَثِيرِينَ. 22 فَأَجَابَ يَسُوعُ: «ٱذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ ٱلْعُمْيَ يُبْصِرُونَ، وَٱلْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَٱلْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَٱلصُّمَّ يَسْمَعُونَ، وَٱلْمَوْتَى يَقُومُون، وَٱلْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ. 23 وَطُوبَى لِمَنْ لا يَعْثُرُ فِيَّ».

انتشرت الأخبار عن أعمال يسوع المدهشة، حتى إلى الزنزانات الدامسة في سجن هيرودس. ويوحنا المعمدان، الذي عمد يسوع، ورأى نزول الروح على حمل الله، فكر كثيراً بالمسيح الممسوح من الروح. وانتظر متشوقاً ومرتقباً ظهوره كمنتصر وملك يصلح الأمة ويغير وجه العالم. وبنفس الوقت أمل أن يطلقه من السجن المميت، لأنه رأى مستحيلاً أن يترك الرب ساعيه، الذي اعترف جهراً به، في الحين الذي لم يكن أحد من الناس يعرفه. أي أن يوحنا انتظر بادرة شكر من يسوع.

وكل أعضاء العهد القديم ارتقبوا المسيح. فبعضهم أرادوه بطلاً سياسياً، والآخرون غيوراً متديناً. فدارت أفكار الجميع حول شخصية المسيح المقبل، قاضي الأنام، ومقيم الأموات. وقد أراد يوحنا أن يستدرج يسوع للإعلان والإفصاح عن ذاته بسؤاله عن ذلك، لأنه آمن به، ولكن بغير ثبات. فأراد إطفاء شكوكه الطافية منه أثناء انتظاره الطويل في السجن العميق.

أما يسوع فبشر وشفى كثيرين من الناس. ونجد هذه الكلمة (كثيرين) مكررة في قراءتنا، التي تدل على عظمة محبة المسيح ولطفه الحنون وسلطانه الجبار الذي لا يكل. هل تأملت مرة ماذا يعني أن يسوع شفى كثيرين من العمي بمجرد كلمته وبدون عملية؟ الخاق وحده يستطيع فتح أعين البشر ومنحهم البصر بعد الليل الطويل. تصور مقدار الفرح الذي حل في المكفوفين المفتحين. وكيف عظم الناس الله بصوت عال، وكيف تشربت الأعين صورة يسوع وامتصت عذوبته الفائقة المؤثرة، في أعماقها الباطنية لأول وهلة من تفتحها فيا أيها الأخ، هل يكون لصورة المسيح في نفسك أعمق التأثير؟ وهل تراه في محبته ولطفه وقوته ورحمته وجهده، كمخلص العالم وخادم الكل؟ هل أصبح المسيح قدوة حياتك وشعار مستقبلك وفاديك المخلص؟

فأجاب المسيح وفد يوحنا: أخبروا المسجون كل ما ترونه وتسمعونه. لأن هذا هو حقيقة ملكوت الله الناشئ بينكم. إنني لست آت بالسيف والمال والشرف، بل بغفران الذنوب وطرد الشياطين وإقامة الموتى. ففكر أيها الأخ مرة أخرى. من هو الذي يغفر الذنوب ومن هو الأقوى من الشيطان. ومن ينتزع من الموت غنيمته من بين يديه. إن الله وحده هو القادر على كل شيء. والمسيح واقف أمامك في سلطان أبيه، إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق، ذو جوهر واحد مع الآب.

لقد انتظر يوحنا مسيحاً آخر، بطلاً قاضياً ومدبراً. ولكن المسيح كان المحبة المتجسدة. وعظمت قوته في إيمان الضعفاء. فالمساكين يسمعون الإنجيل، والتصاقهم بالمخلص يخصهم، ويدخلهم إلى ملكوت الله غالباً فيهم تجارب جهنم. وأوضح المسيح لوفد يونا أكثر، أنه لا يغير الأحوال، بل القلوب في التائبين. ويصالح المستعدين مع الله، ولا يجبر الفاجر إلى الحياة الأبدية. فمن يرد الحصول على مخلص دنيوي. عليه أن يختار القيصر أو الملك أو الزعيم. ويسقط معه إلى الهلاك. ولكن من يشتاق إلى مسيح سماو، فهذا يشترك باحتقاره وموته وحياته. ويكون منذ اليوم معه في الفردوس.

لم يطوب يسوع يوحنا المعمدان بل كل الذين يقبلون وداعة حمل الله. فكل الذين يطلبون من المسيح تقدماً في الوظيفة والمدرسة والرواتب الزائدة والشهرة، يعثرون سراعاً في المسيح. ولكن من يتب ولا يرد المحبة، وينس نفسه، يدخل ملكوت الله ويثبت ف قوة محبته. هكذا أوقف يسوع يوحنا أمام الاختيار، ليؤمن بألوهيته، خصوصاً إن لم يحرره من السجن.

الصلاة: أيها الرب، اغفر لنا إن اهتممنا بالأمور الدنيوية أكثر من اهتمامنا بملكوتك وبرك. افتح أعيننا للطف محبتك وفرح مجدك، لكي نراك ونسجد لك. ونخبر كل الناس أنك أنت الرب الإله، الذي يقودنا إلى إنكار النفس.

7: 24 فَلَمَّا مَضَى رَسُولا يُوحَنَّا، ٱبْتَدَأَ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ عَنْ يُوحَنَّا: «مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا ٱلرِّيحُ؟ 25 بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَانا لابِساً ثِيَاباً نَاعِمَةً؟ هُوَذَا ٱلَّذِينَ فِي ٱللِّبَاسِ ٱلْفَاخِرِ وَٱلتَّنَعُّمِ هُمْ فِي قُصُورِ ٱلْمُلُوكِ. 26 بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ! 27 هٰذَا هُو ٱلَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاكِي ٱلَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ! 28 لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ بَيْنَ ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ مِنْ يُوحَنَّا ٱلْمَعمَدَانِ، وَلٰكِنَّ ٱلأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ أَعْظَمُ مِنْهُ». 29 وَجَمِيعُ ٱلشَّعْبِ إِذْ سَمِعُوا وَٱلْعَشَّارُونَ بَرَّرُوا ٱللّٰهَ مُعْتَمِدِينَ بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا. 30 وَأَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلنَّامُوسِيُونَ فَرَفَضُوا مَشُورَةَ ٱللّٰهِ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، غَيْرَ مُعْتَمِدِينَ مِنْهُ.

ويسوع لم يجنب ويبعد كفاح الإيمان عن يوحنا، لأن عملية الإيمان تبرر، وليس التوبة والمعرفة والتقوى. وقد أحب المسيح ساعيه، وشهد باحترامه له جهاراً. وقال عن المعمدان، إنه غير متقلب كالقصبة في الرياح، بل كان قاسياً تجاه المستكبرين والخطة، وشديداً ضد المتعجرفين اللينين، وحاداً تجاه الملك الزاني، واخترق قلوبهم. فكان يوحنا المنذر الحق، والحارس الأمين لأمته، الذي دعا الكل إلى التوبة والرجوع.

ويوحنا ما تكلم قط بفمه فقط ضاغطاً على مستمعيه بأحمال ثقيلة، لم يحفظها بنفسه، بل عاش ما قال وأنكر نفسه. ولم يسلم ذاته إلى الحياة المريحة. ولم يرد الفرح وسط طوفان الخطية في شعبه، بل تاب عوضاً عن الجميع، ولبس وبر الإبل، وعاش من الجرا وعسل النحل في البرية فكان هو النداء المتجسد للتوبة.

ومع هذا لم يكن يوحنا أعظم الأنبياء في تاريخ البشر فقط، بل أهم من كل الزعماء والكهنة في العهد القديم. ففاق موسى وداود، وكل الفلاسفة ومؤسسي الأديان في العالم، لأنه سعى للرب مباشرة قبيل مجيئه، وأعد طريقه، وفلح بقدرة ملاك سماوي قلوب اشعب، ليستعدوا لقبول زرع الإنجيل. فالمسيح شهد لقوته وأثبت أنه أعد طريقه بصواب، وعاش في أمانة وتواضع وسلطان. وهذا يعني مدحاً واضحاً من فم المسيح. فليتنا نسمع نحن في نهاية سعينا مدح المسيح المقام من بين الأموات لأمانة خدمتنا.

وقد وضح المسيح لمستمعيه بالنسبة لملكوت الله وبره أن أصغر المولودين من الروح القدس، هو أعظم من يوحنا، الذي هو أعظم المخلوقين من التراب. ومن البديهي أن المؤمنين في العهد الجديد، ليسوا بأنفسهم أفضل أو أعظم من يوحنا. ولا يستطيعون أن يملوا شيئاً صالحاً من تلقاء أنفسهم. وإنما الله أصبح أباً لهم بواسطة صلح المسيح. والروح القدس أشركهم في الحياة الأبدية. فإن آمنت بالمسيح حقاً، أصبحت بالنعمة أعظم من نبي، أي تكون ابناً لله بكل الحقوق والقوة الموهوبة لك. ولكنك مدعو أيضاً لتاهم بآلام المسيح، وتنكر نفسك وتحمل يومياً صليبك بصبر. ولا تتشكك في محبة أبيك المعتنية بك على الدوام.

فإن جماهير الخطاة قد اعترفوا بذنوبهم علناً خلال المعمودية في النهر الأردني، وانحنوا تحت دينونة الله، معترفين باستحقاقهم الهلاك، وطالبين الغفران لأجل النعمة فقط. أما الأتقياء والكتبة، فتمسكوا ببرهم الخاص وشرفهم المهلهل. ورفضوا معمودية يوحنا، ولم يدخلوا إلى خطة خلاص الله. وأخفوا خطاياهم في أنفسهم ظانين أن أعمالهم الصالحة، تسبب بركة الله إلى الأبد. فبهذا المبدأ، تعدوا على خطة نعمة الله. وحرضوا الشعب ضد يوحنا ويسوع، لكيلا يتزعزع تعليمهم الخادع عن الناموس، ويبقى الناس أسرى في شباك خداعهم.

7: 31 ثُمَّ قَالَ ٱلرَّبُّ: «فَبِمَنْ أُشَبِّهُ أُنَاسَ هٰذَا ٱلْجِيلِ، وَمَاذَا يُشْبِهُونَ؟ 32 يُشْبِهُونَ أَوْلاداً جَالِسِينَ فِي ٱلسُّوقِ يُنَادُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا. نحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَبْكُوا. 33 لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ لا يَأْكُلُ خُبْزاً وَلا يَشْرَبُ خَمْراً، فَتَقُولُونَ: بِهِ شَيْطَانٌ. 34 جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَتَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ. 35 وَٱلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ جَمِيعِ بَنِيهَا».

لقد شبه المسيح المسؤولين قساة القلوب بأولاد عنيدين فخورين. يدعون غيرهم إلى اللعب. ويختصمون مع كل واحد، لا يرقص حسب مزمارهم. ويعتدون بأنفسهم إن لهم الرأي الصواب والكلمة العليا للبكاء أو الفرح. ولما طلب يوحنا الزاهد بكاء التوبة المسحقة، رفض الناموسيون دعوته. لأن نعمة مزاميرهم الفريسية كانت الفرح بحفظ الناموس. فسموا المنادي بالتوبة شيطاناً. ولما أتى يسوع الإنسان الكامل، داعياً البشر إلى فرح النعمة، وعاش في روح لطفه عيشة اعتيادية، وأحب كل الناس، ورحم الخطاة الأشرار،كرهه الناموسيون. لأن محبته فاقت تعاليمهم، وبره جاءهم بالنعمة من الله، وليس من أعمالهم المرائية. فسموه بطراً، ومشاركاً اللصوص. فلو قبل يوحنا ويسوع أيدي زعماء الشعب وعملا ما طلب منهما، لحصلا على شرف عظيم. ولكنهما ناديا بالتوبة لجميع الناس فاستاء رؤساء الشعب وأقفلوا أذهان قلوبهم لدعوة الرب. وأشبهوا الأولاد العنيدين، الذين لا يطيعون دعوة آبائهم.

ولكن كل المتعقلين كسبوا من يوحنا ويسوع أعظم حكمة، تعلمنا طلب الرب وبغض الخطايا والتبرر بالمسيح مجاناً. فمن يتجاوب هكذا بحكمة الله يمتلئ بقوى ومشيئة أبينا السماوي إله كل الحكمة. فهل أصبحت أهلاً لملكوت الرب أو تشبه الأولاد العنيدين لذي يطلبون من الآخرين الرقص حسب مبادئهم؟

الصلاة: يا رب لست مستحقاً أن أكون لك ابناً. ولكنك هديتني بإنجيلك للتوبة. وقدستني بدم ابنك. وولدتني ثانية بروحك. فأشكرك شكراً قلبياً، وأطلب إليك أن تحرر تفكيري من عبودية الناموس لكيلا أرفض إنساناً وأدينه. بل أحب الجميع في روحك القدوس.

11 - مسح يسوع في بيد الخاطئة (7: 36 - 50)

7: 36 وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ ٱلْفَرِّيسِيِّ وَٱتَّكَأَ. 37 وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِ ٱلْفَرِّيسِيِ، جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ 38 وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَٱبْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِٱلدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِٱلطِّيبِ. 39 َلَمَّا رَأَى ٱلْفَرِّيسِيُّ ٱلَّذِي دَعَاهُ ذٰلِكَ، قَالَ فِي نَفْسِهِ: «لَوْ كَانَ هٰذَا نَبِيّاً لَعَلِمَ مَنْ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئِةٌ». 40 فَقَالَ يَسُوعُ: «يَا سِمْعَانُ عِنْدِي شَيءٌ أَقُولُهُ لَكَ». فَقَالَ: «قُلْ يَا مُعَلِّمُ». 41 «كَانَ لِمُدَايِنٍ مَدْيُونَانِ. عَلَى ٱلْوَاحِدِ خَمْسُ مِئَةِ دِينَارٍ وَعَلَى ٱلآخَرِ خَمْسُونَ. 42 وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَا يُوفِيَانِ سَامَحَهُمَا جَمِيعاً. فَقُلْ: أَّيهُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ حُبّاً لَهُ؟» 43 فَأَجَابَ سِمْعَانُ: «أَظُنُّ ٱلَّذِي سَامَحَهُ بِٱلأَكْثَرِ». فَقَالَ لَهُ: «بِٱلصَّوَابِ حَكَمْتَ». 44 ثُمَّ ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْمَرْأَةِ وَقَالَ لِسِمْعَانَ: «أَتَنْظُرُ هٰذِهِ ٱلْمَرأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِٱلدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. 45 قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُّف عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. 46 بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِٱلطِّيبِ رِجْلَيَّ. 47 مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أَقُولُ لَكَ: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا ٱلْكَثِيرَةُ لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيراً. وَٱلَّذِي يُغْفَرُ لَهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلاً». 48 ثُمَّ قَالَ لَهَا: «مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ». 49 فَٱبْتَدَأَ ٱلْمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: «مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أَيْضاً؟». 50 فَقَالَ لِلْمَرْأَة: «إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ! اِذْهَبِي بِسَلامٍ».

أحب يسوع أعداءه فلم يرفض دعوة الفريسي المتكبر النقاد، ليأكل معه، رغم أنه علم أن حزبه يريد به الشر.

ولربما كان الداعي قد اشتاق إلى أعجوبة، يجربها المسيح في بيته. أو أراد اختبار يسوع، من هو. أو قصد التوسط بينه وبين فرقته المتعصبة. وعلى كل حال فإنه لم يعامل يسوع كصديق. ولم يعطه ماء ليغسل رجليه من غبار الطريق، إذ دخل مقر بيته. ولم قبله كأخ بار. وما دهن رأسه بزيت الطيب لإكرامه كضيف كريم. بل بقي متحفظاً معه. كوسط بين فريقين.

وبعد ما اتكأ الضيوف وابتدأت الوليمة، قاد الروح القدس إحدى الخاطئات النجسات، التي يحتقرها أهل المدينة. فدخلت البيت لتقترب من المخلص، لأنها سمعت كرازته سابقاً، وحصلت على غفران خطاياها بالإيمان. ففاض قلبها شكراً ومحبة. وانسكبت دموعها خجلاً وندماً على قدمي يسوع. وسرعان ما نشفتهما بشعرها المنحل وقبلتهما، رمزاً لعبادة ربها القدوس. وكسرت المرأة أيضاً قارورة طيب، لتقدم تقدمة الشكر والحمد لله، لأنها قد عرفت من هو، الذي عزى قلبها بإنجيله المبارك.

وعندئذ انزعج سمعان الطاهر، صاحب البيت. لما رأى كيف يسمح يسوع للنجسة، أن تلمس رجليه ظاناً أنه يتنجس بملامستها، ويسقط من شركته الإلهية. وكان هذا امتحاناً فريسياً ليسوع من قبل سمعان، الذي اعتقد في قلبه أن الناصري ليس نبياً، لأنه لم يرك أسرار قلوب الناس. ولكن المسيح قرأ أفكار الرجل المتكبر، وأراه كيف يستطيع ابن الله قراءة أفكار القلوب جميعاً، ويصيبها بجواب مخترق دان المتكبر وعزى التائبة.

وقاد يسوع الفريسي إلى الحكم على نفسه، لأنه ظن أن خطاياه قليلة وغير محتاج إلى مخلص. فلم يحب يسوع. لكن الخاطئة الكبيرة التي حررها من قيود الخطية فاض قلبها شكراً. هل تحب يسوع؟ إن مقدار محبتك يظهر في شكرك لغفران خطاياك. أو لعل قلبك مازال قاسياً، ولم تعلم بعد أنك مجرم فاسد معدوم.

فعلم المسيح الرجل التقي أن يدرك في الزانية المتبررة ما هو سبب المحبة الحقة. فقد حصلت على غفران خطاياها، ليس لبر عملته، بل بالعكس لأنها أحبت مخلصها، الذي حررها من خبثها.

ليس ضرورياً أن ترتكب خطايا كبرى لتحب الله بعد غفرانها لك، بل اطلب من ربك ليفتح عينيك، فتعرف أفكار قلبك أنك زان وسارق ومغرور، وعاص متعد على الله، ومستحق الهلاك المباشر. كلنا خطاة من جنس الخطية الوسخة. فطوبى لك إن قبلت تبريرك في الميح. وتقدست بإيمانك، فتحب المسيح بفرح، وتخدمه بابتهاج.

وعلم يسوع الناموسيين مبدأ الروح القدس هذا بوضوح. فابن الله غفر الذنوب في حالة رجوع الناس إليه، مدفوعين بقوة كرازته. ولم يقدر أن يقول للتقي المحب نفسه مغفورة لك خطاياك، لأنه لم يتب. أما الخاطئة التائبة، فمنحها ملء الخلاص مجاناً، لأ إيمانها خلصها. ويسوع أثبت إيمانها وفضلها على صاحب البيت، غير التائب. فرجعت متبررة بسرور، بينما اغتاظ التقي المغرور، وبقي محروماً من تعزية الله. فإلي أين توصلت في معرفة المسيح وخلاصه؟

أتشكره لغفران خطاياك؟ وماذا تعمل لإظهار محبتك له؟

الصلاة: أيها الرب، أنت المحبة، فلا تحتقرني. بل ترفعني إليك، وأنا خجلان من خطاياي. اغفر لي ذنوبي، وفك قيود نفسي، وقدسني في شركتك لأبشر الجميع بخلاصك، وأقبّل رجليك في مجيئك الثاني. أنت ربي وإلهي، ليس سواك.

12 - رفقاء يسوع الدائمون (8: 1 - 3)

الأصحاح الثامن: 1 وَعَلَى أَثَرِ ذٰلِكَ كَانَ يَسِيرُ فِي مَدِينَةٍ وَقَرْيَةٍ يَكْرِزُ وَيُبَشِّرُ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَمَعَهُ ٱلاِثْنَا عَشَرَ. 2 وَبَعْضُ ٱلنِّسَاءِ كُنَّ قَدْ شُفِينَ مِنْ أَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ وَأَمْرَاضٍ: مَرْيَمُ ٱَّتِي تُدْعَى ٱلْمَجْدَلِيَّةَ ٱلَّتِي خَرَجَ مِنْهَا سَبْعَةُ شَيَاطِينَ، 3 وَيُوَنَّا ٱمْرَأَةُ خُوزِي وَكِيلِ هِيرُودُسَ، وَسُوسَنَّةُ، وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ كُنَّ يَخْدِمْنَهُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ.

ينفرد لوقا البشير بالأخبار عن الطريقة، التي كان يسوع المسيح يحصل منها على المال لمعيشته ولبسه هو وتلاميذه. فقد امتنع الرب عن صناعة الخبز بطريقة عجيبة من الحجارة. فأصبحت النساء اللواتي شفاهن من الأمراض يقدمن له من أموالهن، ليسهلن لرب ورسله الخدمة. وبعضهن رافقن موكب الخلاص، دون أن يرفضهن الرب. لأن جلال قوته وقداسة شخصيته حفظتهن وتلاميذه في طهارة. فلم تنشب النجاسة في قرب المسيح. وهذا يدل على نوعية المحبة في السماء، حيث لا توجد علاقة جنسية بل شكر ومحبة مقدسة، وفرح الروح القدس.

وإن هذا لامتياز عظيم، أنه في الديانة المسيحية ليس الرجال هم المخلصون وحدهم بل النساء أيضاً يخلصن. وهولاء الخادمات الشريفات لم يتكلمن كثيراً، بل اعتنين بذهنهن العملي لأجل الغذاء النافع واللباس النظيف.

فالكثيرات من النساء في العالم تحررن بواسطة المسيح من احتقارهم كمخلوقات على درجة أدنى من الرجال، لأن المسيح يغفر لهن خطاياهن سوياً كالذكور، ووضعهن بنفس المستوى في الخلاص الفدائي. وحتى اليوم فإن المسيح يقدم لكل النساء والبنات ملء النجيل، وهذا يعني نصف البشر. ومن يسمع صوته يأت إليه ويتطهر ويخدمه بطريقة عملية، كما خدمته السيدات المحترمات آنذاك.

13 - مثل الزارع والحقل بأنواعه الأربعة (8: 4 - 15)

8: 4 فَلَمَّا ٱجْتَمَعَ جَمْعٌ كَثِيرٌ أَيْضاً مِنَ ٱلَّذِينَ جَاءُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَدِينَةٍ، قَالَ بِمَثَلٍ: 5 «خَرَجَ ٱلّزَارِعُ لِيَزْرَعَ زَرْعَهُ. وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى ٱلطَّرِيقِ، فَٱنْدَاسَ َأَكَلَتْهُ طُيُورُ ٱلسَّمَاءِ. 6 وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلصَّخْرِ، فَلَمَّا نَبَتَ جَفَّ لأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ رُطُوبَةٌ. 7 وَسَقَطَ آخَرُ فِي وَسَطِ ٱلشَّوْكِ، فَنَبَتَ مَعَهُ ٱلشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. 8 وَسَقَطَ آخَرُ فِي ٱلأَرْض ٱلصَّالِحَةِ، فَلَمَّا نَبَتَ صَنَعَ ثَمَراً مِئَةَ ضِعْفٍ». قَالَ هٰذَا وَنَادَى: «مَنْ لَهُ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!».

هل تريد أن تسمع أكثر عن أنواع الأراضي في أمثلة المسيح أو هل فهمت قوله تماماً؟ فإن تلاميذه لم يفهموا أقوال المسيح تماماً وبآخر عمق. فطلبوا من معلمهم أن يشرح لهم أكثر. أما العوام فقد اكتفوا بالقصة الجميلة، وتركوا يسوع الزارع، ولم يفموا زرعه ولا قلبهم الخاص. فالإنسان السطحي يقسي قلبه تلقائياً ولا يأتي بثمر.

8: 9 فَسَأَلَهُ تَلامِيذُهُ: «مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هٰذَا ٱلْمَثَلُ؟». 10 فَقَالَ: لَكُمْ قَدْ أُعْطِيَ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَأَمَّا لِلْبَاقِينَ فَبِأَمْثَالٍ، حَتَّى إِنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لا يُبْصرُونَ، وَسَامِعِينَ لا يَفْهَمُونَ.

فهذا يا أخي حال أولئك الجماهير. ولكنك أنت، مشوق للاستماع أكثر عن بشارة المسيح، وتطلب منه بتواضع وحكمة. فيفتح عينيك ويحرث قلبك لتستطيع قبول زرع كلمة الله. اسمع تفسير المسيح مصلياً، فترى الخطر المشارف عليك والمواعيد التي قدم لك ابن لله لنجاتك.

8: 11 وَهٰذَا هُوَ ٱلْمَثَلُ: ٱلّزَرْعُ هُوَ كَلامُ ٱللّٰهِ، 12 وَٱلَّذِينَ عَلَى ٱلطَّرِيقِ هُمُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ثُمَّ يَأْتِي إِبْلِيسُ وَيَنْزِعُ ٱلْكَلِمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِئَلَّا يُؤْمِنُوا فَيَخْلُصُوا. 13 وٱلَّذِينَ عَلَى ٱلصَّخْرِ هُمُ ٱلَّذِينَ مَتَى سَمِعُوا يَقْبَلُونَ ٱلْكَلِمَةَ بِفَرَحٍ. وَهٰؤُلاءِ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ، فَيُؤْمِنُونَ إِلَى حِينٍ، وَفِي وَقْتِ ٱلتَّجْرِبَةِ يَرْتَدُّونَ. 14 وَٱلَّذِي سَقَطَ بَيْنَ ٱلشَّوْكِ هُمُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ فَيَخْتَنِقُونَ مِنْ هُمُومِ ٱلْحَيَاةِ وَغِنَاهَا وَلَذَّاتِهَا، وَلا يُنْضِجُونَ ثَمَراً. 15 وَٱلَّذِي فِي ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ هُوَ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ٱلْكَلِمَةَ فَيَحْفَظُونهَا فِي قَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ وَيُثْمِرُونَ بِٱلصَّبْرِ.

هل أصبح قلبك قاسياً كالشارع من كثرة سماع الراديو أو الأفكار الخاصة المشغولة؟ فلا يبقى مكان لكلمة الله في نفسك. هل تشبه حجراً وسط النهر، لا تدخل إليه الرطوبة؟ اطلب من ربك انكسار قلبك القاسي، لكيلا تشبه طريق الاسمنت بل أرضاً خصبة جية لزرع كلمة الله. وإن لم تتب يأتي الشيطان شخصياً، وينزع منك الزرع المقدس. فالشرير يريد منك قبل كل شيء أن تنسى كلمة الله القوية فيشغلك بعد استماعك للعظات بأحاديث باطلة وضجيج مثير ولهو زائد وتخيلات للسراب. فيكون سماعك الكلمة عبثاً. انتبه يف تسمع! احفظ كلمة الرب بعزم وثبات واحفظ آيات كثيرة غيباً. ولا تظنن أنك تعرف مشورة الرب كافياً. إنك مبتدئ بسيط.

وامتنع عن التحمس في اتباع المسيح. فلست صالحاً وماهراً كافياً. ولا مستحقاً لخدمته. إنه يريد تغيير قلبك أولاً، وسحق ذهنك تماماً. لكي تتعمق في كلامه، وتستخرج منه قوة. فلا تكونن من السطحيين. بل افتح قلبك تماماً لنعمة الله. لأن قدرتها ستطيع حفظك في أيام الشدة. فتصبر وتحب أعداءك. اطلب من ربك انكسار سطحيتك وتخيلاتك وظنك الصلاح بنفسك. فتصبح صالحاً.

هل تحب المال والرب معاً؟ هل تحاول كسب الشرف وإنكار النفس بنفس الوقت؟ هل تتكل على ضابط الكل وتريد تدبير حياتك معاً؟ هل تكتفي بفرح المسيح أو تبحث أيضاً في وحل اللهو؟ فالمسيح يريدك كاملاً له، ولا يتوج قلباً منشقاً. وإن لم تسلم ذاتك لمسيح تماماً وإلى الأبد، يخنقك روح العالم. وتتراكم فوقك الهموم، ولا تجدن قوة في نفسك، لأن المسيح هو المنجي والمخلص الوحيد.

ليس إنسان ذا قلب صالح نقي «كالأرض الجيدة» ولكن كلمة المسيح تجعلنا نافعين وتعدنا للاستماع والإيمان والعمل الصالح. واعلم أن ثمار الروح القدس لا تنمو في يوم واحد في قلب امتلأ شراً من قبل. فتحتاج لتقوية إيمانك إلى صبر وطول أناة وثقة متمرة في رحمة الله. فهو الذي يحملك. فاثبت فيه، وهو فيك، فتأتي بثمر كثير.

الصلاة: يا رب أنت عالم بقلبي. افلحه عميقاً، كسّر اللامبالاة فيّ، وفجر السطحية. وانزع مني الميل للمال واللهو. واغلب الهموم والشكوك، وازرع فيّ محبتك، وعلمني الصبر في النظر إليك.

14 - أسرار عائلة الله (8: 16 - 21)

8: 16 «وَلَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجاً وَيُغَطِّيهِ بِإِنَاءٍ أَوْ يَضَعُهُ تَحْتَ سَرِيرٍ، بَلْ يَضَعُهُ عَلَى مَنَارَةٍ، لِيَنْظُرَ ٱلدَّاخِلُونَ ٱلنُّورَ. 17 لأَنَّهُ لَيْسَ خَفِيٌّ لا يُظْهَرُ، وَلا مَكْتُومٌ لا يُعْلَمُ وَيُعْلَنُ. 18 فَٱنْظُرُوا كَيْفَ تَسْمَعُونَ! لأَنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَٱلَّذِي يَظُنُّهُ لَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ».

لقد أنار المسيح ذهن تلاميذه بإنجيله ليصبحوا نوراً ساطعاً في ظلمات العالم قولاً وعملاً وسلوكاً. فدين المسيح ذو دعوة ليست عائشة لنفسها، بل مستعدة لتنشر غنى معرفة محبة الله وقوة الروح القدس إلى كل الناس.

ولكن بعض المرات لا تسمح الأحوال بالتبشير على الطرق وساحات المدن. فيدلنا المسيح على صورة العائلة التي تجتمع داخل البيت حول سراج الإنجيل. وهذا يعني أنه إن زارك أحد في بيتك، فليلاحظ أن تعزية الإنجيل هي مجد بيتكم.

وقد سمى المسيح أتباعه نور العالم وملح الأرض وخميرة العجين. فمن المستحيل أن تخبئ إيمانك أمام جيرانك. إنهم يشعرون بمحبتك وسلامك وفرحك، إلا إذا مات إيمانك وأصبح تقليداً مجففاً. ولا تجبرن أحداً في محيطك ليقبل اعتقادك جبراً، لكن استعد لى الدوام للإجابة بصراحة وحكمة وتواضع إن سألك أحد عن إيمانك، لأن ديننا ليس حلقات سرية، بل مفتوح لكل مهتد.

كل الناس مدعوون لسماع أسرار ملكوت الله، ولكن لا يفهمها الكل. المسيح يدعو الجميع وقليلون هم الذين يأتون. وإنارة الإنسان إنما تكون بتدخل الله مباشرة. فمن هو الذي يفتح الله قلبه لمعنى كلماته؟ ليس الأذكياء المتكبرون ولا الأتقياء المتمكون بالتقليد، بل المستمعون بالتواضع والعطاش إلى البر. فيقول المسيح بصراحة انظروا كيف تسمعون. فمن يصغ إلى كلمة الله، ويفكر بها، ويحركها في قلبه، ويبحثها مع الآخرين، فإنه يستنير بقوة الله، وإن صلى حسب المعاني الجديدة عليه ينال قوة إلهية. يعيش في شركة مع الله. لانه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله. فمن يسمع للمسيح متيقظاً يستغني أكثر فأكثر، إذ أنه يوجد في ملكوت الله مبدأ النمو التلقائي في المحبة ومعرفة الله وقوة الروح. فهذا التطور الإيجابي في الممن يتوقف على سماع الإنجيل فقط.

ويا للأسف! فإن مبدأ التقصير التلقائي موجود أيضاً، حيث تضعف قوة الإدراك ويقل ذكر الإنجيل. فمن يهمل كلمة الله ينسى ربه ويفرغ من قوة الله ويفقد كل ما كان عنده من مواد روحية. وأما إذا استمع الإنسان للإنجيل متكبراً، واستهزأ بالمسيح، واتقد كلامه بسخرية، فيرفض الإنجيل عمداً، ويفقد النعمة، ويمتلئ بروح نجس، فساء سبيلا. فلا تنس أن الشيطان يقصد أمراً واحداً فقط، فهو يشاء أن يمحو الكلمة منك ويأخذ رغبتك للصلاة والقراءة. ويساعدك لتنسى تأثيراتها سراعاً. فانتبه كيف تسمع كلام يسوع. لأن خلاصك يتوقف على استماعك للإنجيل.

هل تسمعه وتفهمه وتعمل به وتخبر الآخرين عنه؟

8: 19 وَجَاءَ إِلَيْهِ أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ لِسَبَبِ ٱلْجَمْعِ. 20 فَأَخْبَرُوهُ: «أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً يُرِيدُونَ أَنْ يَرَوْكَ». 21 فَأَجَابَ: «أُمِّي وَإِخْوَتِي همُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا».

عاش يسوع في شركة تلاميذه تاركاً أمه وإخوته الأحباء. ولما نبذه أعداؤه كمضل، وحذروا الناس من اتباعه، ورفضوا رسمياً رسالته، جاءته عائلته، وألحوا عليه أن يكف عن التبشير، لكيلا يطرد هو وإياهم من الأمة. ولكن المسيح قطع بسيف الروح تجربة لدم، وسمى كل المستمعين كلمة روح الله، إخوته وأخواته، إن عملوا ما سمعوه منه. وبهذه الكلمات أعلن المخلص سر عائلة الله، لأن لحماً ودماً لا يرثان الملكوت الإلهي، بل المولودون من كلمة ربهم.

وقد سمعت مريم هذه الكلمة القاطعة بقلب جريح. ولكنها فهمت معناها بعدما امتلأت بالروح القدس في عيد العنصرة. ولربما أخبرت بهذا الحادث الطبيب لوقا شخصياً، الذي أحاطنا بأخبار أُخر عن طريق مريم.

الصلاة: أيها الرب المخبر، نشكرك لكلمتك المقدسة غذائنا الروحي. علمنا قراءة كلمتك باستمرار وفهمها لكي نشتاق إلى سماع أكثر لننمو بالسلام والإيمان. وأحلل منا رباط الخطية حتى لا يفصلنا شيء من كلمتك التي هو قوة حياتنا.

مسابقة بداية أعمال المسيح

إن درست معنا في إنجيل لوقا الأصحاح الثالث حتى الثامن تقدر أن تجاوب بسهولة على 24 سؤالاً من الأسئلة الإثنين والثلاثين.

  1. متى ابتدأ يوحنا المعمدان خدماته وما هو معنى معموديته؟

  2. لماذا سمى يوحنا الناس أولاد الشيطان وما هي الثمار الحقة التي تليق بالتوبة؟

  3. ما هي معمودية الروح القدس؟

  4. ماذا نتعلم من معمودية المسيح؟

  5. ما هي الغاية من كتابة سلسلة نسب يسوع في إنجيل لوقا؟

  6. لِمَ لَمْ يصنع يسوع خبزاً من الحجارة في البرية؟

  7. لِمَ رفض يسوع قبول غنى العالم وإظهار نفسه في مجد أبيه وسط الهيكل؟

  8. ما هو جوهر المسيح وأعماله التي انمت النفوس بالتدريج؟

  9. لماذ أبغض الناصريون السطحيون الأشقياء يسوع ابن بلدتهم؟

  10. كيف ولِمَ أخرج يسوع الروح النجس من الملبوس؟

  11. لِمَ منع المسيح الأرواح الشريرة أن تتكلم وكيف شفى المرضى؟

  12. ما هي أسرار فعالية خدمة المسيح؟

  13. لماذا ارتجف بطرس من المسيح؟

  14. ما هي مشيئة الله؟

  15. لِمَ غفر يسوع خطايا المفلوج؟

  16. لِمَ لا يقدر المسيح أن يخلص غير التائبين؟

  17. لماذا سمى المسيح نفسه عريساً ورفض نظام الصوم من العهد القديم؟

  18. ماذا تعني العبارة المسيح هو رب البيت. ولِمَ يحتفل المسيحيون بيوم الأحد بفرح بدل السبت؟

  19. لماذا دعا المسيح الاثني عشر رسولاً وكيف اختارهم؟

  20. من هم المساكين والجياع والباكون في تطويبات المسيح وبماذا وعدهم؟

  21. لِمَ يدعو المسيح بالويل على الإنبياء والبطون المتخمة والضاحكين وخاصة المرائين؟

  22. لماذا يحب المسيحيون كل أعدائهم؟

  23. لِمَ يمنعنا المسيح من انتقاد الآخرين؟

  24. من هو صالح؟

  25. كيف نؤسس بيت حياتنا أميناً رغم كوارث الزمن والدينونة الأخيرة؟

  26. لماذا عظم يسوع إيمان القائد؟

  27. كيف أمكن ليسوع أن يقيم الشاب الميت؟

  28. ماذا نتعلم من أعمال يسوع واقواله؟

  29. لِمَ سمى يسوع يوحنا أعظم من كل الأنبياء والمخلوقين من البشر. ولِمَ يكون أصغر عضو في ملكوت الله أعظم من يوحنا؟

  30. لماذا قال المسيح للمرأة المحبة إيمانك خلصك؟

  31. ما هي الأنواع الأربعة لقلوب الناس التي وجدها يسوع عند المستمعين إليه. ولماذا يكون نوع واحد منها هو الذي يأتي بالثمار الطيبة؟

  32. كيف نغنى بالله؟

إن جاوبت على 24 من هذه الأسئلة بدقة وشرح وافٍ نرسل لك الكتاب الذي تختاره من جدول مطبوعاتنا المذكور في آخر هذا الكتاب. ونرجو أن تكون المسابقة التي ترسلها إلينا مستقلة دون أن تضع فيها أي خطاب أو ملاحظات أو اسئلة أو اشياء أخرى.

15 - سلطان المسيح على العاصفة والأرواح الشريرة والموت (8: 22 - 56)

8: 22 وَفِي أَحَدِ ٱلأَيَّامِ دَخَلَ سَفِينَةً هُوَ وَتَلامِيذُهُ، فَقَالَ لَهُمْ: «لِنَعْبُرْ إِلَى عَبْرِ ٱلْبُحَيْرَةِ». فَأَقْلَعُوا. 23 وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ نَامَ. فَنَزَلَ نَوْءُ رِيحٍ فِي ٱلْبُحَيْرَةِ، وَكَانُوا يَمتَلِئُونَ مَاءً وَصَارُوا فِي خَطَرٍ. 24 فَتَقَدَّمُوا وَأَيْقَظُوهُ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ، يَا مُعَلِّمُ، إِنَّنَا نَهْلِكُ!». فَقَامَ وَٱنْتَهَرَ ٱلرِّيحَ وَتَمَّوُجَ ٱلْمَاءِ، فَٱنْتَهَيَا وَصَارَ هُدُوءٌ. 25 ثُمَّ قَالَ لهُمْ: «أَيْنَ إِيمَانُكُمْ؟» فَخَافُوا وَتَعَجَّبُوا قَائِلِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: «مَنْ هُوَ هٰذَا؟ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ ٱلرِّيَاحَ أَيْضاً وَٱلْمَاءَ فَتُطِيعُهُ!».

أكمل يسوع طريقه بجانب كفرناحوم، لأن أعداءه أرادوا قتله. فابتدأ بتجولات غير مستقرة. ومر في كل قرى المنطقة. ونام في البرية، حتى لا يعلم أحد مكانه. لأن ساعة موته لم تأت بعد. والمسيح نفسه عيّن المكان والزمان لانتصاره.

ولما عبر يسوع البحيرة في سفينة، جرب الشيطان إهلاك ابن الله وأتباعه بواسطة إغراقه في الأمواج الهائجة. ولكن يسوع نام مطمئناً في حفظ أبيه، لأنه لم يرتكب خطية ما. فكان ضميره مرتاحاً، وروحه سكن في الله، وإرادته انسجمت مع مشيئة أبيه تمااً. فلم يخف الموت، ولم يرتعب من خطره. ومع هذا تعب من خدماته. وقد سار كليومترات كثيرة، وجاهدت نفسه جهاداً كبيراً بصلوات وإيمان ومحبة واحتمال للصعبين. فنام الإنسان يسوع مطمئناً رغم الأمواج التي كانت تلطم الزورق.

أما التلاميذ فقد بذلوا آخر قوة، وحاولوا اعتراض سلطة العاصفة بخبرتهم كصيادين. ولكن هجوم الشيطان فاق قدرتهم البشرية. فملأ الماء السفينة رويداً رويداً. وقد حاول التلاميذ أن يفرغوا السفينة من الماء الذي تسرب إليها. ولكن الأمواج تعالت جداً. ومغ ذلك فقد ظل المسيح نائماً. وعصفت الريح، وحل بهم خوف عظيم، وتشقق الشراع. فاطمئن المسيح في أبيه رغم ذلك.

وعندئذ تقدم التلاميذ إلى النائم، وأيقظوه واعترفوا بعدم قدرتهم. وصرخوا وسط العاصفة فزعين من الموت، لأن موجة كبيت عال أقبلت عليهم لتبتلعهم. فقام المسيح. ولم يكرز لليائسين نصف ساعة أو أكثر. ولم يباحثهم عن سبب العاصفة، بل صرخ بكلمة واحدة على قهقهة الشياطين. فسكنت الأرواح، وهدأت الأمواج فوراً. فلقد أمر الخالق مخلوقاته فأطاعته. ورب الأرواح أمر الريح فسكتت.

وفي هدوء جهنم المرتعبة ابتدأ يسوع الكلام إلى تلاميذه ووبخ خوفهم، وسأل عن إيمانهم. ولكنهم تراجعوا عنه كشبح. لأنهم شعروا أن رب الأرواح واقف أمامهم. ولكن يسوع ليس شيطاناً، بل محبة الله المتجسدة. وهو ليس على عهد مع إبليس، بل إنه مخلص لعالم، الذي يطلب منا الإيمان بألوهيته. وبدون هذا الإيمان لا نخلص، ولا نجد عوناً وبركة، لأن الإيمان الحي يعني ارتباطاً بيسوع وتعهداً معه إلى الأبد. فهل تؤمن بابن الله؟ فعندئذ تطرد قواه المقدسة يأسك، وتكسب نفسك قدرة سماوية. لأن ليس إيمانن عقيدة يابسة، ولا حججاً منطقية من الكتب، بل التصاق بالرب المقام من بين الأموات، المنتصر على كل القوة الخطيرة.

وشركة الصيادين المخلصين في سفينة المسيح هي الرمز للكنيسة في كل زمان. ونحن لا نعيش اليوم في هدوء السماء، بل نعبر بحر البشر الهائج. والشيطان يعزم على إهلاك كل المؤمنين بالمسيح. ولكن إذا عشنا مع المسيح في زورق واحد، يضمنا. لأنه غفر ذوبنا وقدس أخلاقنا. فلا نسقط في شركة أبيه. ويتيح لنا طلب العون في ساعات الخطر والضيق لا خوفاً ولا يأساً، بل بثقة وشكر. لأنه يحمينا في هيجان العناصر، ويحفظنا من بغضة وغيظ جهنم. هل تثبت في شركة المسيح وفي سفينة الكنيسة، وتختبر حضور راحة اله في قلبك بعدما هدأ سلام المسيح الأمواج المضطربة في نفسك؟

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح نسجد لك. لأنك رب الأرباب والسيد على كل القوى والعناصر والأرواح. اغفر لنا قلة إيماننا وخوفنا ويأسنا. وعلمنا الثبات في الإيمان والاطمئنان في هدوء الروح القدس. لنثبت في شركة القديسين. ونختبر ضورك معنا إلى الأبد.

8: 26 وَسَارُوا إِلَى كُورَةِ ٱلْجَدَرِيِّينَ ٱلَّتِي هِيَ مُقَابِلَ ٱلْجَلِيلِ. 27 وَلَمَّا خَرَجَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ كَانَ فِيهِ شَيَاطِينُ مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيلٍ، وَكَانَ لا يَلْبَسُ ثَوباً وَلا يُقِيمُ فِي بَيْتٍ بَلْ فِي ٱلْقُبُورِ. 28 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ صَرَخَ وَخَرَّ لَهُ وَقَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ! أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ لا تُعَذِّبَنِي». 29 لأَنَّهُ َمَرَ ٱلرُّوحَ ٱلنَّجِسَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ ٱلإِنْسَانِ. لأَنَّهُ مُنْذُ زَمَانٍ كَثِيرٍ كَانَ يَخْطَفُهُ، وَقَدْ رُبِطَ بِسَلاسِلٍ وَقُيُودٍ مَحْرُوساً، وَكَانَ يَقْطَعُ ٱلرُّبُطَ وَيُسَاقُ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱلْبَرَارِي.30 فَسَأَلَهُ يَسُوعُ: «مَا ٱسْمُكَ؟» فَقَالَ: «لَجِئُونُ». لأَنَّ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً دَخَلَتْ فِيهِ. 31 وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ لا يَأْمُرَهُمْ بِٱلذَّهَابِ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ. 32 وَكَانَ هُنَاكَ قَطِيعُ خَنَازِيرَ كَثِيرَةٍ تَرعَى فِي ٱلْجَبَلِ، فَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ بِٱلدُّخُولِ فِيهَا، فَأَذِنَ لَهُمْ. 33 فَخَرَجَتِ ٱلشَّيَاطِينُ مِنَ ٱلإِنْسَانِ وَدَخَلَتْ فِي ٱلْخَنَازِيرِ، فَٱنْدَفَعَ ٱلْقَطِيعُ مِنْ عَلَى ٱلْجُرُفِ إِلَى ٱلبُحَيْرَةِ وَٱخْتَنَقَ. 34 فَلَمَّا رَأَى ٱلرُّعَاةُ مَا كَانَ هَرَبُوا وَذَهَبُوا وَأَخْبَرُوا فِي ٱلْمَدِينَةِ وَفِي ٱلضِّيَاعِ، 35 فَخَرَجُوا لِيَرَوْا مَا جَرَى. وَجَاءُوا إِلَى يَسُوعَ فَوَجَدُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي كَانَتِ ٱلشَّيَاطِينُ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهُ لابِساً وَعَاقِلاً جَالِساً عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ، فَخَافُوا. 36 فَأَخْبَرَهُمْ أَيْضاً ٱلَّذِينَ رَأَوْا كَيْفَ خَلَصَ ٱلْمَجْنُونُ. 37 فَطَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ جُمْهُورِ كُورَةِ ٱلْجَدَرِيِّينَ َنْ يَذْهَبَ عَنْهُمْ، لأَنَّهُ ٱعْتَرَاهُمْ خَوْفٌ عَظِيمٌ. فَدَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ وَرَجَعَ. 38 أَمَّا ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ ٱلشَّيَاطِينُ فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ، وَلٰكِنَّ يَسُوعَ صَرَفَهُ قَائِلاً: 39 «ٱرْجِعْ إِلَى بَيْتِكَ وَحَدِّثْ بِكَمْ صَنَعَ ٱللّٰهُ بِكَ». فَمَضَى وَهُوَ يُنَادِي فِي ٱلْمَدِينَةِ كُلِّهَا بِكَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ.

كان يسوع روح الله المتجسد، وحل فيه ملء قوة الخالق. وحضرت فيه قداسة الروح القدس، وحركته محبة الثالوث الأقدس.

ولما وصل يسوع إلى الشاطئ الشرقي من بحيرة طبرية عند منطقة الوثنيين ليرتاح، ويصلي مع تلاميذه بلا انزعاج، أسرع إليه ملبوس، مجتذباً إليه كقطعة حديد ممغنطة. وكان المجنون مزعجاً لكل الكورة، ومتعباً لنفسه بلا نهاية. ولم يعش في بيت عادي، ل التجأ إلى القبور مع الأموات. وركض عارياً في الحقول وكسر كل السلاسل التي ربطه الناس بها. والأرواح الشريرة في المعذب عرفت يسوع رأساً. وصرخت فزعة: ويلنا لقد جئت قبل الوقت. أنت ابن الله، مولود غير مخلوق، ممتلئ قوة قداسة الله. أنت سلطان اللي. لقد هلكنا. فلك القوة والحق بتعذيبنا.

فليت قشور العمى تتساقط عن عيون البشر الأغبياء، وتطير أقفال آذان الطرش، وتنفجر القلوب المتحجرة. فتدرك أن يسوع المسيح هو ابن الله الحي، وليس مجرد نبي. فقد طعم الشيطان ملايين بروحه المضاد للمسيح، وأدخل عدم الاعتراف بألوهية يسوع إلى عقولهم وشعورهم الباطني. فتجمدوا في بغضتهم ورفضهم. وهذا الروح المضل، أبو الكذابين، يعرف بدقة أن عقيدته كذب، ويضل الجماهير عمداً. فسماه يسوع رئيس العالم. ولكن حيث يأتي المسيح شخصياً، وحينما يصلي رسل روحه القدوس في تواضع المحبة، ويكرزون بصومطوعاً، فهناك تضمحل سلطة الشيطان وتنكسر قوته، لأن المسيح هو مخلص العالم، واسمه يطرد كل شيطان بدون بحث. التجئ إلى الظافر الإلهي، فتطمئن إلى الأبد.

وسكن في المسكين ألوف من أجناد الشر، التي سمت نفسها لجئون. ويعني في لغة الرومان فرقة مؤلفة من أربعة إلى ستة ألاف جندي. وهذه الأرواح النجسة تعوي ككلاب، خائفة من القاضي الأزلي، لكيلا يطردهم رأساً إلى الهوة، لأنهم مستقبل الهالكين. فتبما دام الوقت، لكيلا تلقى مع أتباع الشيطان إلى بحيرة النار المعدة لعدو الله وملائكته. إن المسيح يحبك ويشاء خلاصك. آمن بربك واثبت في بشرى خلاصه، فتتقدس وتهرب من روح الشيطان وتثبت سالماً تحت رش دم المسيح.

والأرواح المضطربة النجسة تبحث عن أجساد حية تتفيأ بها، ولكنها تهلك ملجأها تلقائياً، لأنه مهلكة لا محالة. فأخرجهم المسيح من المريض، وسمح لهم بالدخول في قطيعه من الخنازير. فسقوط القطيع إلى الهوة والبحيرة هو رمز للدينونة النهائية. فهلتخص أنت الجماعة التي تتصرف كالخنازير أو تجلس عاقلاً مهندماً عند قدمي يسوع؟

ما أجمل تصوير الحادثة، حيث أن المشفي قد جلس عند رجلي يسوع مؤمناً هادئاً عاقلاً مرتباً إنساناً حقاً! وهذا نتيجة انتصار المسيح. فإن تر اليوم أفواجاً من الشباب، مضطربين ثائرين خنافس أشراراً، فتعرف أنهم منقادون بأرواح نجسة. ولكن إن رأت شباباً مرتبين سائلين يسوع من فضله وعاقلين بفرح إلهي عظيم، فهؤلاء تراهم منقادين من الروح القدس، مطمئنين في رحاب المسيح. فهل تخصهم؟

عندئذ يرسلك يسوع رمزاً وشاهداً لعمله الخلاصي، لكي تشهد لكل الناس في وطنك، إن المسيح قد طرد كل الأرواح النجسة من صدرك بكلمته المقدسة. وتكون شاهداً للمخلص حتى ولو رفض كل أهل منطقتك المسيح! والرب يمضي حيثما يرفضه الناس، ولكنه يحب الرفضين رغم جهلهم ويرسل إليهم شهوده. هل أنت مرسل الله العظيم في محيطك الحقير؟

الصلاة: يا رب أنت مخلصي. أشكرك لأنك خلصتني من سلطة كل روح شرير. فروحك القدوس يسكن فيّ. اغفر لي ذنوبي، وساعدني لكي ألبس لباساً يليق بك، وأترتب في كل سلوكي لأصبح شاهداً لكلمتك ونوراً في محيطي الوثني.

8: 40 وَلَمَّا رَجَعَ يَسُوعُ قَبِلَهُ ٱلْجَمْعُ لأَنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعُهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ. 41 وَإِذَا رَجُلٌ ٱسْمُهُ يَايِرُسُ قَدْ جَاءَ - وَكَانَ رَئِيسَ ٱلْمَجْمَعِ - فَوَقَعَ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَطَلَبَ إِلَيْهِ َنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، 42 لأَنَّهُ كَانَ لَهُ بِنْتٌ وَحِيدَةٌ لَهَا نَحْوُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ فِي حَالِ ٱلْمَوْتِ. فَفِيمَا هُوَ مُنْطَلِقٌ زَحَمَتْهُ ٱلْجُمُوعُ. 43 وَٱمْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ ٱثْنَتَيْ عَشرَةَ سَنَةً، وَقَدْ أَنْفَقَتْ كُلَّ مَعِيشَتِهَا لِلأَطِبَّاءِ، وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تُشْفَى مِنْ أَحَدٍ، 44 جَاءَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَلَمَسَتْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. فَفِي ٱلْحَالِ وَقَفَ نَزْفُ دَمِهَا. 45 فَقَالَ يَسُوعُ: «مَنِ ٱلَّذِي لَمَسَنِي!» وَإِذْ كَانَ ٱلْجَمِيعُ يُنْكِرُونَ، قَالَ بُطْرُسُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، ٱلْجُمُوعُ يُضَيِّقُونَ عَلَيْكَ وَيَزْحَمُونَكَ، وَتَقُولُ مَنِ ٱلَّذِي لَمَسَنِي!» 46 فَقَالَ يَسُوعُ: «قَدْ لَمَسَنِي وَاحِدٌ،لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ قُّوَةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي». 47 فَلَمَّا رَأَتِ ٱلْمَرْأَةُ أَنَّهَا لَمْ تَخْتَفِ جَاءَتْ مُرْتَعِدَةً وَخَرَّتْ لَهُ، وَأَخْبَرَتْهُ قُدَّامَ جَمِيعِ ٱلشَّعْبِ لأَيِّ سَبَبٍ لَمَسَتْهُ، وَكَيْفَ بَرِئَتْ في ٱلْحَالِ. 48 فَقَالَ لَهَا: «ثِقِي يَا ٱبْنَةُ. إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. اِذْهَبِي بِسَلامٍ». 49 وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، جَاءَ وَاحِدٌ مِنْ دَارِ رَئِيسِ ٱلْمَجْمَعِ قَائِلاً لَهُ: «قَدْ مَاتَتِ ٱبْنَتُكَ. لا تُتْعِبِ ٱلمُعَلِّمَ». 50 فَسَمِعَ يَسُوعُ وَأَجَابَهُ: «لا تَخَفْ. آمِنْ فَقَطْ، فَهِيَ تُشْفَى». 51 فَلَمَّا جَاءَ إِلَى ٱلْبَيْتِ لَمْ يَدَعْ أَحَداً يَدْخُلُ إِلَّا بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَأَبَا ٱلصَّبِيَّةِ وَأُمَّهَا. 52 وَكَنَ ٱلْجَمِيعُ يَبْكُونَ عَلَيْهَا وَيَلْطِمُونَ. فَقَالَ: «لا تَبْكُوا. لَمْ تَمُتْ لٰكِنَّهَا نَائِمَةٌ». 53 فَضَحِكُوا عَلَيْهِ، عَارِفِينَ أَنَّهَا مَاتَتْ. 54 فَأَخْرَجَ ٱلْجَمِيعَ خَارِجاً، وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا وَنَادَى قَائِلا: «يَا صَبِيَّةُ قُومِي». 55 فَرَجَعَتْ رُوحُهَا وَقَامَتْ فِي ٱلْحَالِ. فَأَمَرَ أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ. 56 فَبُهِتَ وَالِدَاهَا. فَأَوْصَاهُمَا أَنْ لا يَقُولا لأَحَدٍ عَمَّا كَانَ.

أبعد الوثنيون يسوع مخلص العالم عن دائرة بلدتهم خوفاً وفزعاً، ولكن المؤمنين من العهد القديم انتظروه. ورئيس المجمع آمن به، وطلبه وتقدم إليه، وخر أمامه وسجد له، واضعاً جبينه على الأرض. لقد سمع كثيراً من أقوال المسيح، ورأى عجائبه في امجمع، وتجاسر أن يؤمن بأن قوة الله تخرج من هذا الإنسان، والعلي حاضر فيه مستحق السجود. فطلب الرئيس من يسوع المخلص، أن يأتي إلى بيته ليشفي ابنته المشرفة على الموت. ورافقه يسوع رأساً.

وفي هذه اللحظة، اقتربت امرأة مريضة إلى المخلص لتستخرج منه قوة بلمس ثوبه. وكبر إيمانها بمقدار، أن قوة المسيح جرت فيها كضربة كهربائية، فشفت جسدها المريض في الحال. فتوقف نزيف الدم. كانت هذه المرأة لسنين عديدة تحتمل آلامها وضيقها وخجلا أمام أطباء كثيرين، فحسبت هكذا مضروبة من الله. لكنها الآن قد شفيت بلمسه. فهللت وقد أثلج صدرها، لأن آلامها منذ اثنتي عشرة سنة قد انتهت.

أما المسيح فقد أراد بعد شفائها، أن يرفعها إلى إيمان رفيع. فبحث عن الشخص المجهول، الذي لمسه عمداً بالإيمان جاذباً قوة الروح القدس منه إلى نفسه.

فقاد في حكمته المرأة إلى الاعتراف بإيمانها والشهادة عن ضيقها وبيان عمل المسيح بكلمات الشكر. وفوق ذلك فإن الرب قد قوى ثقتها. وقال لها الكلمة الغريبة: إيمانك شفاك. ولم يقل أنا شفيتك، بل رد الشفاء إلى الإيمان. وهذه الصلة بينها وبينه علت السماء تدخل إلى قلبها. فمنحها سلام الله وتقديس الذهن، وقال لها: الآن أوجه لك سلام العلي، اقبلي شفاء أزلياً وفيض البركات. اذهبي بسلام.

وخلال هذه الحادثة انتصب رئيس المجمع كأنما هو على جمر نار، لأن ابنته الوحيدة كانت في سكرة الموت. والطبيب الوحيد تأخر لأجل امرأة نجسة، كأنها أفضل منه وهو رئيس المجمع البار. ولما جاءه النذير بوفاة ابنته، أراد في تألمه العميق واستيائه أن يطلب إلى يسوع ألا يكمل طريقه إلى بيته. ولكن الرب في لطفه سبقه، ورفعه إلى آخر درجة في الإيمان. ومنع المنسحق من الخوف، كما أنه يمنعك من كل خوف، ويطلب منك زيادة الإيمان. والمسيح يكفل لك الخلاص إن آمنت ويؤمن لك النصر فيك وحولك إن استمرر في تواضع ثقتك.

واختار يسوع ثلاثة من تلاميذه، لترى هذه النخبة مجده، ويزدادوا إيماناً مع إيمانهم. ولكن الحزن كان عاماً في بيت المتوفاة. ودب الصراخ، وعم البكاء. ووجوه الحاضرين كانت تنم عن الكآبة. وفجأة ضحك جمهور الباكين، لما قال يسوع، إن البنت نائم فقط. لأنهم كانوا متأكدين قبلئذ، أن الحياة كانت قد فارقت جسدها. أما المسيح فمنعهم من البكاء، لأنه رئيس الحياة وهو حاضر بينهم. لماذا يبكي الناس في حالة الموت؟ ألا يعرفون الحياة الأبدية؟ لقد وقف أسقف على الحائط مستعداً لإطلاق النار عليه م الملحدين، الذي حكموا بإعدامه. فصرخ آخر كلمة للجنود المساكين: مع السلامة أيها الأموات، أنا أنطلق إلى الأحياء! فكل مسيحي حق، يعلم أن الموت باب إلى الحياة. هل تخاف من الموت. أو تعيش مطمئناً في المسيح؟

ليس الموت هو النهاية المطلقة. وبالنظر لأجسادنا فإن الموت يشبه النوم، لأن روح نفسنا تبقى ساهرة للدينونة، أما باضطراب لأجل الخطايا أو هادئة في حضن المخلص.

المسيح الحي من الأزل إلى الأبد أخذ يد الفتاة في يده الخالقة، وقال بصوت لطيف: يا بنت قومي. هذه هي كلمة المسيح في إقامة الأموات، التي ستسمعها أنت لما يجيء المسيح ثانية، إن كنت من محبيه سابقاً. عندئذ يخرج جسدك سريعاً مقاماً في المجد،وستعيش مع ربك إلى الأبد، بمنتهى الفرح والسلام.

وكانت البنت ما زالت على الأرض، وعادت روحها من عالم الأرواح، ودخلت مرة أخرى إلى الجسد الميت. ولم تكن مريضة أو ضعيفة بعد ذلك، بل فتحت باستغراب عينيها مندهشة، وقامت رأساً من الفراش. ويا عجباً! إذ المسيح لم يقل آنذاك: اسجدي لربك، وسلم نفسك لي أنا المخلص، بل التفت إلى والديها المضطربين الضائعين وأمرهما، أن يطعموها طعاماً لتتقوى. فالخالق أثبت الحياة الدنيوية وحاجاتها بكل اتضاح.

وأمر المسيح بعدئذ الوالدين بالهدوء الطويل، ليمجدا الله ويدركا جيداً من هو الذي يغلب الشيطان والأمراض والموت.

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، نشكرك لأنك رئيس الحياة. وتجري منك أنهر محيية. افتح قلبي لمحبتك وذهني لقوتك، كي أعيش اليوم مؤمناً مع كل الملتصقين بك. وساعدني لأسمع في مجيئك، صوتك الخارق إن دعوتنا إلى مجدك.

16 - المسيح يرسل تلاميذه الإثني عشر للتبشير (9: 1 - 9)

الاصحاح التاسع: 1 وَدَعَا تَلامِيذَهُ ٱلاِثْنَيْ عَشَرَ، وَأَعْطَاهُمْ قُّوَةً وَسُلْطَاناً عَلَى جَمِيعِ ٱلشَّيَاطِينِ وَشِفَاءِ أَمْرَاضٍ، 2 وَأَرْسَلَهُمْ لِيَكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ وَيَشْفُوا ٱلْمَرْضَى. 3 وَقَال لَهُمْ: «لا تَحْمِلُوا شَيْئاً لِلطَّرِيقِ، لا عَصاً وَلا مِزْوَداً وَلا خُبْزاً وَلا فِضَّةً، وَلا يَكُونُ لِلْوَاحِدِ ثَوْبَانِ. 4 وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَهُنَاكَ أَقِيمُوا، وَمِنْ هُنَاكَ ٱخْرُجُوا. 5 وَكُلُّ مَنْ لا يَقْبَلُكُمْ فَٱخْرُجُوا مِنْ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ، وَٱنْفُضُوا ٱلْغُبَارَ أَيْضاً عَنْ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ». 6 فَلَمَّا خَرَجُوا كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ يُبَشِّرُونَ وَيَشْفُونَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ.

جمع يسوع تلاميذه وفوضهم بقوته، بعدما سمعوا لمدة طويلة كلماته، ورأوا أعماله وتقوى إيمانهم في حضوره، حتى نالوا قوته، وفهموا أهدافه. فأراد المسيح أن يضاعف مجد محبته. فأمر أتباعه ليس بالكرازة فقط، بل أيضاً بإخراج شياطين، وشفاء أمراض. أعطاهم سلطاناً على كل الأرواح النجسة وعلى كل الأمراض، وأرسلهم كما أرسله الآب، مفعمين بقوى الروح القدس، لتحقيق ملكوت الله، حيث يكون المسيح بذاته ملكاً ومحوراً ومصدراً لكل القوة، لأن منه جرت القوة لغير المقتدرين والنعمة لغير المستحقين.

فيا أيها الأخ، أن لأمر ملكنا ضرورة. والوقت الذي نستطيع التصرف فيه جهراً قصير. فمن يسمع دعوة المسيح للخدمة؟ ومن يأت إليه مستعداً؟ هل ينمو إيمانك، ليستطيع المسيح إرسالك وتجهيزك مفوضاً إلى محيطك؟ لا تبشر بفلسفات بل انقل قوة المسيح للموات في الخطايا ليقوموا حقاً وصدقاً. وحرر باسم يسوع أسرى الشيطان ليدخلوا إلى النور، تاركين الظلام. وملء الملكوت يحل في كل الذين يطيعون الإنجيل. وكل أتباع المسيح المتواضعين، مع كل القديسين الراقدين، هم ملكوت الله، العابر في الزمان والحاض بيننا.

والمسيح أعطى ملاحظات عملية لخدامه، ليعرفوا التصرفات الحكيمة لخدماتهم. أولاً منعهم من الهموم لأجل المال والخبز، أوصاهم ألا يحملوا كنوزاً وأثقالاً وأسلحة في رحلاتهم التبشيرية، ليستطيعوا السفر بسهولة، ولا يطمع اللصوص بهم. فملكوت المسيح ليس من هذا العالم، بل مملكة روحية. لهذا فإن مواهب المسيح روحية لا مادية. فلم يعط المسيح لرسله معاشات أو سيارات أو تجهيزات دنيوية، بل قال لهم حيث تكونون فكلوا واشربوا ما يقدمه لكم المستمعون إليكم. وهذه الوصية تخص شعب العهد القديم بالدرة الأولى، لأن هناك كان الشعب متعوداً على الاعتناء بخدام الرب رزقاً وقوتاً.

وقد أفهم المسيح تلاميذه مسبقاً، أنهم سيختبرون كما اختبر. فبعض السامعين سيقبلونهم وآخرون سيرفضونهم ببغضة. فمن الحكمة أن يحفظوا الأمانة لباكورة الإيمان في كل قرية يمرون بها حتى ولو تجدد بعدئذ أصدقاء أغنياء وأذكياء، وقدموا لهم منامة ريحة أكثر. فالأمانة هي الأساس في خدمة المؤمنين.

ولكن حيث تقسي بغضة جهنم القلوب، فهناك يكون على الرسل، ألا يجبروا الرافضين لقبول النعمة، بل يمضوا بكل بساطة نافضين كل الغبار عن ثيابهم، رمزاً للمعرفة أنهم لا يشتركون في دينونة الله الحالة على كل الذين يرفضون الإنجيل. ويل للبيت والقية والمدينة والبلاد، التي ترفض المسيح وخلاصه. فدينونة الرب والحروب القاتلة ستفتك بهم.

وأطاع الرسل كلمات ربهم وساروا إلى القرى، اثنين اثنين. وأعلنوا انتصار المسيح وبشروا بما رأوه وسمعوه، ووضعوا أيديهم على المرضى وشفوهم باسم المسيح. واختبروا أن الرب نفسه رافقهم خفياً عليهم، وكملت قوته في ضعفهم.

9: 7 فَسَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ ٱلرُّبْعِ بِجَمِيعِ مَا كَانَ مِنْهُ، وَٱرْتَابَ لأَنَّ قَوْماً كَانُوا يَقُولُونَ: «إِنَّ يُوحَنَّا قَدْ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ». 8 وَقَوْماً: «إِنَّ إِيلِيَّا ظَهَرَ». وَآخَرِينَ: «إِنَّ نبِيّاً مِنَ ٱلْقُدَمَاءِ قَامَ». 9 فَقَالَ هِيرُودُسُ: «يُوحَنَّا أَنَا قَطَعْتُ رَأْسَهُ. فَمَنْ هُوَ هٰذَا ٱلَّذِي أَسْمَعُ عَنْهُ مِثْلَ هٰذَا!» وَكَانَ يَطْلُبُ أَنْ يَرَاهُ.

في ذلك الوقت كان هيرودس قد قتل المعمدان، الذي انتهت خدمته الإعدادية. فالآن أرسل المسيح رسله لينشر ملكوت الله. ولكن الملك القاتل وبخه ضميره. ولما سمع عن يسوع، فكر أنه لربما قد عادت روح يوحنا إلى قصره لتنتقم منه. وحاشيته جربت تهدئته قائلين له أن المسيح هو النبي، الذي أشار إليه موسى، أو هو إيليا المنتظر. فتساءل الجميع حول سر شخصية ابن الله العظيم. وأراد هيرودس أن يقابله. ولكن المسيح لم يتنازل إلى الأجواء السياسية. ولم يطلب مسايرة الوجوه. أما تلاميذه فقد شهدوا بقوته قولاً وعملاً. فلم يعلموا أفكارأ جافة، بل دلوا مستمعيهم على يسوع الناصري المنتصر الإلهي.

الصلاة: يا رب نشكرك من كل قلوبنا، لأنك تدعو اليوم رسلك اليك. وتدربهم وتجهزهم، وتؤدبهم بقوتك. وترسلهم وترافقهم، وتقويهم لخدمات متنوعة. لينشروا مملكة محبتك العظيمة في أمتنا وفي كل العالم. تكلم يا رب لأن عبدك سامع.

17 - نهاية عمل المسيح في منطقة الجليل الجبلية (9: 10 - 50)

9: 10 وَلَمَّا رَجَعَ ٱلرُّسُلُ أَخْبَرُوهُ بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوا، فَأَخَذَهُمْ وَٱنْصَرَفَ مُنْفَرِداً إِلَى مَوْضِعٍ خَلاءٍ لِمَدِينَةٍ تُسَمَّى بَيْتَ صَيْدَا. 11 فَٱلْجُمُوعُ إِذْ عَلِمُوا تَبِعُوهُ، فَقَبِلَهُمْ وَكَلَّمَهمْ عَنْ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَٱلْمُحْتَاجُونَ إِلَى ٱلشِّفَاءِ شَفَاهُمْ. 12 فَٱبْتَدَأَ ٱلنَّهَارُ يَمِيلُ. فَتَقَدَّمَ ٱلاِثْنَا عَشَرَ وَقَالُوا لَهُ: «ٱصْرِفِ ٱلْجَمْعَ لِيَذْهَبُوا إِلَى ٱلْقُرَى وَٱلضِّيَاعِ حَوَالَيْنَ فَيَبِيتُوا وَيَجِدُوا طَعَاماً، لأَنَّنَا هٰهُنَا فِي مَوْضِعٍ خَلاءٍ». 13 فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». فَقَالُوا: «لَيْسَ عِنْدَنَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَيْنِ، إِلَّا أَنْ نَذْهَبَ وَنبْتَاعَ طَعَاماً لِهٰذَا ٱلشَّعْبِ كُلِّهِ». 14 لأَنَّهُمْ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلافِ رَجُلٍ. فَقَالَ لِتَلامِيذِهِ: «أَتْكِئُوهُمْ فِرَقاً خَمْسِينَ خَمْسِينَ». 15 فَفَعَلُوا هٰكَذَا وَأَتْكَأُوا ٱلْجَمِيعَ. 16 فَأَخَذَ ٱلْأرْغِفَةَ ٱلْخَمْسَةَ وَٱلسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ وَبَارَكَهُنَّ، ثُمَّ كَسَّرَ وَأَعْطَى ٱلتَّلامِيذَ لِيُقَدِّمُوا لِلْجَمْعِ. 17 فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جَمِيعاً. ثُمَّ رُفِعَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنَ ٱلكِسَرِ: ٱثْنَتَا عَشْرَةَ قُفَّةً.

ازدحمت الحوادث وعاد التلاميذ. فأخبروا المسيح عن عجائب قوته الجارية من كلماتهم وأيديهم عند ذكرهم اسمه. وقد وصل الخبر بنفس الوقت إلى ملك البلاد قاتل يوحنا ساعي المسيح. وهذا الملك لربما كان قد ابتدأ البحث والتفتيش في منطقته عن كل الذن اعتمدوا من المعمدان سابقاً.

فأخذ يسوع رسله عندئذ، وترك بلاده، ماشياً إلى مملكة فيلبس، أخي هيرودس أنتيباس القاتل. وأراد يسوع هناك في الهدوء أن يعمق اختبارات تلاميذه، ويقودهم إلى الصلاة والشكر، لكي يتواضعوا ويمجدوا الله وحده. مدركين أنهم هباء وربهم هو كل شيء.

ولكن لما لاحظ الجماهير في كفرناحوم، أن مخلص العالم يهم أن يترك بلدهم مع حاشيته، تبعوه أفواجاً. وبينما كان المسيح ينتقل في السفينة، ليجتاز إلى الضفة الأخرى من البحيرة، مشى خمسة ألاف رجل على أقدامهم وفي سفنهم وراءه، ليشتركوا في قوة ركاته. وألفوا يسوع بعدئذ في البرية، واصغوا بدون انزعاج إلى رسالته عن المملكة الإلهية حيث يعم السلام والحق، ولا تدخل الخطية والظلم والقتل. فملكوت الله هذ يبتدئ اليوم في كل من تاب إلى يسوع المالك، الذي أهلنا بدمه لننال قوة روحه. وهي تثبتن في خدمات المحبة الإلهية وفي رعوية المملكة الإلهية. فهل أصبحت عضواً عاملاً فيها، أم تستمع لأقوال المسيح وأنت على الحياد فقط، وخارج ملكوت الله؟

وحين غربت الشمس جاعت الجماهير وبان عليهم قلق وتساؤل. فاضطرب التلاميذ لأجلهم أيضاً، وخافوا من الاختلاس والزعل والهجومات والبغضاء. فطلبوا إلى يسوع أن ينهي الكرازة والشفاء، ويرسل الرجال الخمسة آلاف إلى بيوتهم. ولكن الرب نظر إلى رسله،وعزم أن يعلمهم درساً قاطعاً لن ينسوه، أنهم عبيد بطالون، رغم ما صنعوا من المعجزات لكيلا ينتفخوا مطلقاً بسبب اختباراتهم في التبشير.

فأمر المسيح هؤلاء النخبة من التلاميذ أن يطعموا هذا الجمع الكثير من الناس. فاعترفوا عاجزين أنه ليس لديهم شيء إلا القليل. فهذا الاعتراف الساحق هو الأساس المبدئي لكل خادم للرب. فاعلم أنني وأنت أيضاً لا شيء، ولا نملك شيئاً، ولا نعلم شئاً، إلا قليلاً من العلم الذي وهبتنا إياه نعمة الخالق. فكل الأطباء والفلاسفة والعلماء والعباقرة، لا يعرفون شيئاً، ولا يفهمون شيئاً، ولا يقدرون على شيء، إلا ما سمحت به نعمة ربهم وأتاحته لهم. فهل عرفت أنك لا شيء إلا نسمة من نعمة ربك؟

وبعد تعجيز المسيح لهم، ابتدأت جماجمهم تفكر وتحسب، كيف يستطيعون أن يدبروا أمور الجماهير وينهوا ضيقهم ويطعموهم شبعاً بطريقة ممكنة بشرية. فألقوا نظرهم على الصندوق، وحسبوا عدد الجمال والحمير والسفن اللازمة لنقل الأغذية إليهم. فأدركوا ستحالة إنقاذ الموقف، لأنهم فكروا بطاقتهم الدنيوية. ولكن فكر المسيح كان سماوياً. فأمر الرجال من الجماهير، أن ينقسموا إلى مئة فرقة، في كل واحدة منها خمسون رجلاً، لأن ملكوت الله لا يقبل الفوضى. فاتكأوا كما أمرهم ونظروا إلى يسوع شاخصين ما عى أن يعمل وبطونهم تقرقر جوعاً.

فأخذ يسوع المسيح بيديه الخبز القليل والسمكتين الصغيرتين ووضعها أمام وجه الله وشكر لأجل هذه الهبة. وهذا الشكر والتطلع إلى أبيه، مع ثقته في عنايته الكبرى ومحبته للمستمعين الضالين الممزوجة بحمد وتسبيح دائم. كان سر الأعجوبة وقوة تحقيقا. فتضاعف الخبز بين يديه، وكذلك السمكات تلقائياً، حتى أكل الجميع فشبعوا. فاندهش التلاميذ والجماهير جميعاً، وبعضهم تمتم بصلوات شكراً لربه. فماذا تعمل أنت؟ أتشكر ربك للقليل الموهوب لك؟ أتوزع منه للآخرين أو تبخل به؟ هل تتعلق بربك المعتني بك؟ أين إيمانك، وأين شكرك وأين محبتك؟

ولقد امتنع المسيح في بداية خدمته عن الموافقة على تجربة الشيطان ليصنع من الحجارة خبزاً لنفسه. ولكن لما جاع أتباعه، الذي تعذبوا طويلاً لأجل الغذاء الروحي. واستمعوا إلى المسيح مدة كبيرة، فأشفق عليهم وكان مستعداً بعد أن تعمقوا روحياً،أن يشبع بطونهم أيضاً بعد ذلك، وليس العكس بالعكس. فالمسيح ليس ملك الخبز، ولكن الذي يطلب ملكوته وبره أولاً تزاد له البركات الجسدية. ولم يصنع الرب لمستمعيه كعكة ودجاجة محمرة وخمراً، بل خبزاً وسمكاً فقط. فشربت الجماهير الماء القراح من البحية والينابيع القريبة. وبعد أن امتلئوا بالطعام، فضل عنهم اثنتا عشرة سلة ملآنة خبزاً وسمكاً، أكثر مما كان لديهم أولاً. فأمرهم المسيح بجمع البقايا، لكيلا يتلف شيء من النعمة.

وعندئذ أدرك الرسل الكرام وجماهير العوام أن المسيح هو الخالق، ذو الجلالة، القادر على كل شيء، وغالب العناصر كلها، الذي بمحبته يزيد الموجود أضعافاً. فهو وحده المقتدر أن يحل مشاكل مستقبل البشر. ولكن هذا التدبير لا يتم بواسطة مساعدات خرية دولية، بل يتم بالعشاء الرباني الروحي، حيث وهب يسوع لتلاميذه التائبين جسده ودمه غذاء لطريقهم في صحراء العالم. فكان إشباع الخمسة آلاف رجل في الجليل رمزاً للعشاء الرباني في كل مكان. حيث يضحي ابن الله بنفسه ويطعم الجماهير العطاش إلى البر بذاته ويحييهم بروحه. هل اشتركت في غذاء الله الروحي، إذ يقدم الملك نفسه، ليشبع مواطنيه المختارين من العالم.

الصلاة: أيها الرب، ما أعظمك! أنا خاطئ مفعم التذمر والهموم والشك وعدم الإيمان. افتح عيني لمحبتك وقدرتك، لأؤمن بإمكانيتك. وأنقل من ملئك، إلى كل الجياع إلى البر فننال نعمة فوق نعمة.

9: 18 وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي عَلَى ٱنْفِرَادٍ كَانَ ٱلتَّلامِيذُ مَعَهُ. فَسَأَلَهُمْ: «مَنْ تَقُولُ ٱلْجُمُوعُ إِنِّي أَنَا؟» 19 فَأَجَابُوا: «يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ إِنَّ نَبِيّاً مِنَ ٱلْقُدَمَاءِ قَامَ». 20 فَقَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ بُطْرُسُ: «مَسِيحُ ٱللّٰهِ». 21 فَٱنْتَهَرَهُمْ وَأَوْصَى أَنْ لا يَقُولُوا ذٰلِكَ لأَحَدٍ، 22 قَائِلاً: «إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ٱبْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيراً، وَيُرْفَضُ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ».

بعد ذروة خدمات المسيح في الجليل بإشباع الخمسة آلاف رجل من سمكتين وخمسة أرغفة، انفرد ابن الله مع تلاميذه للصلاة. فهل أدركت أن يسوع كان مصلياً، ولم يعمل أو يقل شيئاً بدون صلوات متواصلة؟ وبهذا الروح القائد فحص الرب تلاميذه، وجذبهم إلى الاعتراف بجوهره. وأثناء هذه المكالمة اتضح، أن الجماهير من مستمعيه لم يدركوا حقيقته، لأنهم اعتبروه أحد أنبياء العهد القديم الكبار، أو إيليا سابق المسيح، أو حسبوه يوحنا المعمدان الذي قتله هيرودس أبان هذه الحادثة. فكانت معرفة الشعب لا تزال سطحية ومتعلقة بالخوف من الأموات والأرواح.

لكن المسيح أراد أن يرشد تلاميذه إلى اتخاذ قرار حاسم فاخترق قلوبهم، وسألهم مواجهة: ماذا تقولون أنتم أنني أنا؟ وإن سألك الرب المسيح هكذا، فماذا تقول له؟ وماذا تقول لصديقك؟ من هو المسيح؟ لقد كتبت فتاة في درس الدين عن هذا السؤال على دفترها الجملة القاطعة الملخصة: إنه مخلصي. فهذا الجواب كان الأكثر صواباً. ولا نقدر أن نجاوب بأفضل من ذلك، لأن هذه الكلمة تحمل اختبار الخلاص وقوة المسيح. فهل اختبرت خلاص مخلصك شخصياً؟

وقبل موت المسيح لم يكن هذا الجواب ممكناً، لأنه لم يكن قد تم الخلاص بعد. فتجاسر بطرس مضاداً لآراء الشعب، ومعارضاً لجواسيس الفريسيين، وقال باسم التلاميذ كلهم: أنت المسيح المنتظر ابن الله الحي. ففي نشوء هذه المعرفة محا الروح القدس في بطرس كل شكوك وأسئلة، وأوجد فيه الإيمان، الذي ما صدر من الناس بل من ربهم. وليس أحد يقدر أن يسمي يسوع رباً ومسيحاً إلا بواسطة الروح القدس. والنعمة تتحقق، كلما عرف خاطئ جوهر يسوع وتمسك بألوهيته.

ماذا فهم بطرس حين نطق بهذا الاسم الفريد «المسيح»؟ فالعهد القديم يقول عنه، أنه الممسوح من الروح القدس، حاملاً كل قوى الله فيه، وموحداً كل وظائف العهد القديم في نفسه. وأنه موعود من الله، أن ينشئ ملكوتاً أبدياً على الأرض، مركزه أورشلم. فترقب اليهود مجيء هذا الموعود ليحقق مملكة السلام، ويقيم الأموات، ويغلب الظلم، وينشر الحرية في البلاد الرازحة تحت عبودية الاستعمار. فأصبحت هذه الانتظارات سياسية دنيوية وليست روحية. فرفض أكثرية الشعب كرازة يوحنا المعمدان، لأنه كرز بمسيح قاض شديد مقبل عليهم، يطلب تغيير الذهن والتوبة الجذرية.

وزعم الفريسيون أن المسيح لن يأتي إلا إذا حفظ كل اليهود وصية السبت بلا غلط. أما الغيورون على الوطنية فانتظروا مسيحاً محارباً بالسيف لطرد الرومان، ومنفذاً الحق بالعنف والقوة.

وقد منع المسيح تلاميذه لهذه الأسباب من التكلم عن مسيحيته، لكيلا تنشب انتصارات خاطئة متعلقة بشخصه. ولم يرفض شهادة بطرس، بل أثبتها بموافقته الصامتة، طالباً منه استمرار الإيمان دون إعطائه برهاناً وموافقة ظاهرية. فما قال له: نعماً يا طرس معك حق، إني أنا المسيح المنتظر. ولكنه منعه أن يعترف بهذا الإيمان جهراً، قبل موته على الصليب.

وابتدأ يسوع مع هذا ينشر معرفة المسيح الحق في قلوب التلاميذ فابن العلي قد أتى لينشئ ملكوت الله. ولكنه لا يقدر أن ينشئ هذه المملكة المقدسة من خطاة في العيوب والذنوب، لأن ملكوت القدوس مؤلف من قديسين، كما قال: كونوا قديسين لأني أنا قدس. والمسيح أوضح لنا هذه الكلمة بقوله: كونوا رحماء كما أن أباكم رحيم أيضاً. فهذه المملكة الإلهية ملكوت أبوي مؤلف من أولاد روحه القدوس.

وليس إنسان في العالم ممتلئاً من هذا الروح، لأن الخطية قد فصلت بيننا وبين ربنا. فأتى المسيح ليطهر أهل ملكوته ويبررهم ويقدسهم. فلم يستطع الملكوت أن يأتي قبل ان يتم الصليب. فابتدأ يسوع يخبر رسله، أن المسيح الحق، أتى ليتألم ويموت، ويكر عن خطية العالم كحمل الله. فلم يستطع أن يبني ملكوته من خطاة على الأرض إلا أن يتقدسوا.

وهذه المعرفة الهامة، لم تدخل عقول التلاميذ. فانتظروا مسيحاً ناصراً باهراً خطيباً مهيجاً للجماهير ومالكاً على الأرواح والعناصر. فامتلأت أفكارهم بسلطان يسوع، ولم يدركوا طريقة النازل إلى الموت. ولم يخطر ببالهم أن زعماء الأمة الروحانين يسببون ويشتركون في قتل مسيح الله. فأصبح شعار كرازة المسيح بعد إشباع الخمسة آلاف رجل، وبعد شهادة بطرس، أن يقول لنخبة أتباعه، أن ابن الإنسان ينبغي أن يموت، ليثبت لأتباعه أنه متأكد من انتصاره ومنسجم مع إرادة الله.

الصلاة: أيها الرب يسوع، نسجد لك لأنك مسيح الله. ويحل فيك ملء اللاهوت جسدياً. اغفر لنا إيماننا السطحي، وعلمنا ضرورة آلامك وموتك، لكي نشترك في إطاعة إيمانك وقيامتك الظافرة.

9: 23 وَقَالَ لِلْجَمِيعِ: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي. 24 فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهٰذَا يُخَلِّصُهَا. 25 لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟ 26 لأَنَّ مَنِ ٱسْتَحَى بِي وَبِكَلامِي، فَبِهٰذَا يَسْتَحِي ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِهِ وَمَجْدِ ٱلآبِ وَٱلْمَلائِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ. 27 حَقّاً أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ ٱلْقِيَامِ هٰهُنَا قَوْماً لا يَذُوقُونَ ٱلْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ».

هل تريد اتباع المسيح وتصبح عضواً في ملكوته؟ هل تشتاق للتغيير إلى صورته، لتكون ابناً لله، ويتقدس اسم أبيك في سلوكك؟ عندئذ تتضح في حضور المسيح خطاياك. ونقرأ في هذه النصوص مرات أربع كلمة «النفس» ومرات أربع أخر ضمير النسبة للمسيح. وهكا فإنك تجد نفسك مقابل المسيح وجهاً لوجه، وقداسته تعلن نجاستك. فاعترف بفسادك جهاراً. وانكر نفسك وابغض أخلاقك الفاجرة، ولا تعترفن بذاتك، بل ابتعد عنها. ولا تستمعن لصراخ الجسد. بل اغلب حساسيتك الأنانية، واطعن شفقتك على نفسك. واعتبر ذاتك لا شيء ليصبح المسيح كل شيء.

كيف يتم إنكار النفس عملياً؟ لقد قال المسيح: احمل صليبك. ولم يقل: احمل صليبي الخاص. فقصده أن يعدك لقبول الحكم عليك بالإعدام لخطاياك، لأن «الصليب» يعني أشنع قصاصات الموت وهو معد للعبيد الفارين والمجرمين المحتقرين. ويقترح المسيح عليك أيها العبد للخطية والفار من رحاب الله إلى شركة العاصين، أن تحني رأسك لاستحقاقات الموت، ليدينك روح الله بلا شفقة. عندئذ لا تحب نفسك الفاسدة بل تحتقرها، وتعرف أنك قد خسرتها خسراناً مبيناً. فلم يعد لها أي قيمة، بل أنها داخلة الموت المهلك.

وهذا الانكسار للنفس بقيادة روح الله لا يتم لمرة واحدة، بل يتحقق في اتباع المسيح يومياً، لأن ربك لم يقل: انكر ذاتك مرة واحدة فتتخلص بل أنه يطلب منك أن تمارس إنكارك نفسك يومياً وتثبت في إدانة ذاتك دائماً، وتحمل الحكم عليك بالموت باسمرار.

حقاً فإنه ليس إنسان قادراً أن ينكر ويميت نفسه، ويعيش بنفس الوقت، إلا من اتبع المسيح. ففيه نتعلم، أن نرفض خطايانا، وندوس استكبارنا، ونسمع في الآن ذاته دعوته إلى الحياة الحقيقية، المفعمة بالفرح والسعادة والمحبة.

إن اتباع يسوع يشبه رحلة على قمة سلسلة الجبال. وعن اليمين والشمال مهاو فاغرة الأجواف. ولكن بالإيمان نكون متعلقين بقائدنا، ونتبعه خطوة خطوة لا أسرع ولا أبطأ منه ولا قدامه ولا متخلفين عنه، بل بنفس السرعة، حسب إرادته، ناظرين إليه. فلا نهتم بأنفسنا، بل اهتمامنا كله يتجه نحوه هو فننسى ذواتنا ونكسبه.

والمسيح يطعنك أكثر في ذات نفسك، قائلاً لك: إن أردت التغني بأخلاقك ودوام رفاهيتك وإبراز شرف أرومتك فإنك تزول وتفسد بسبب هذه الأنانية. كما زالت كل الشعوب الغنية الذكية في مباهاتها. ولكن إن عبدت المسيح، وافتقرت من أجل خدمته، ولم تطلبنفسك بل طلبته هو، فإن قوته وروحه عند ذلك تجريان فيك، وحياته تعوض نفسك الخاسرة، وتمنحك كياناً أزلياً.

وللأسف فإن الناس ليظنون أنهم يصلحون المجتمع بمدارسه وتربيته وآدابه، وبالحقيقة أنهم يخدعون لنفسهم خداعاً كبيراً. فما نحتاجه بالواقع هو موت «الأنا» وعدم الافتخار بالآداب المتعارفة، ورفض الإنسانية الكاذبة، لكي نربح المسيح وحده. فمن اممكن أن ينجح إنسان أو عائلة أو شعب، فيصبح غنياً ذكياً شهيراً عظيماً، ويجلب كل العالم غنيمة وراءه، ولكنه إذ ذاك يصل إلى قمة المنحدر، ثم يبدأ بالسقوط، لأن من يلتفت إلى ذاته ليغنم العالم بأسره ينحرف عن الله، ويبتعد عنه، ويفقد الحياة الأبدي حتماً. لأن المسيح قال: ليس أحد يقدر أن يخدم سيدين. وقد فهم المسيح من البداية تجربة الشيطان المكارة هذه. ورفض امتلاك العالم واختار الصليب. فلهذا هو يمتلك اليوم العالم والسماويات ويحيا إلى الأبد. (قارن أيضاً يوحنا 12: 25 - لوقا 17: 23 ومتى10: 33).

أتحب المسيح؟ فتقدم إليه طالباً شفاء نفسك الخاسرة. إنه مخلص العالم ومستعد أن يهتم بك، فتشفى وتتبعه. أدرك خسارة نفسك المطلقة، معترفاً بها أمام المسيح طالباً منه خلاصك، فيبدل سقوطك إلى رفعة وفسادك يبدله بقداسة. أسرع وخلص نفسك، لأن المسيح مخلصك.

هل تحب يسوع؟ فكلم الآخرين بمخلصك، لأن العريس الذي لا يتكلم عن عروسه المحبوبة أو يكاتبها، فإنه لا يحبها. والمسيح الذي لا يقرأ يومياً رسائل المسيح ويخبر الآخرين بأخباره، فلا يحب مخلصه أبداً. هل تخجل من كلمة ربك أمام زملائك؟ فمن هو الأكبر المسيح أم الناس؟ أتحب نفسك أو ربك؟

المسيح سيأتي بمجد مزدوج، لأنه أنكر نفسه على الصليب. فكسبها إذ أعطاه أبوه كل السلطان في السماء وعلى الأرض. فيأتي الابن في مجد حمل الله، وفي ملء مجد الآب وكل الملائكة معه. عندئذ يظهر ملكوت الله جهراً، ويتحقق عملياً. هل أنكرت نفسك، وأصبحت أهلاً لملكوت الله بدم المسيح وروحه؟

ويعلم المسيح، أنه لا يوجد إنسان يستحق الدخول إلى ملكوت الله. ولكن من يشترك في تجديد الكون ينل قوة الحياة الأبدية وسط عصرنا السحيق، وينتقل من الموت إلى الحياة الأبدية. ومنذ يوم عيد العنصرة يعيش ملايين من الناس حياة سماوية ولا يجد الموت سلطة عليهم، لأنهم قد أنكروا أنفسهم، وأدانوا ذواتهم، وما اعترفوا بشيء إلا بالمسيح الفادي المحبوب. وهم منتظرون مجيئه بترقب وصلوات.

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، أنت مخلصي ومقياسي وهدفي. اغفر أنانيتي، وأمت بلطفك نفسي الفاسدة. واخلق فيّ قلباً جديداً، وروحاً مستقيماً في داخلي. اربطني بنفسك، لكي أتبع روحك، حيثما تشاء.

9: 28 وَبَعْدَ هٰذَا ٱلْكَلامِ بِنَحْوِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، أَخَذَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَيَعْقُوبَ وَصَعِدَ إِلَى جَبَلٍ لِيُصَلِّيَ. 29 وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً، وَلِبَاسُهُ مُبْيَضّاً لَمِعاً. 30 وَإِذَا رَجُلانِ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ، وَهُمَا مُوسَى وَإِيلِيَّا، 31 ٱَللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ، وَتَكَلَّمَا عَنْ خُرُوجِهِ ٱلَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يُكَمِّلَهُ فِي أُورُشَلِيمَ. 32 وَأَمَّا بُطْرُسُ وَٱللَّذَانِ معَهُ فَكَانُوا قَدْ تَثَقَّلُوا بِٱلنَّوْمِ. فَلَمَّا ٱسْتَيْقَظُوا رَأَوْا مَجْدَهُ، وَٱلرَّجُلَيْنِ ٱلْوَاقِفَيْنِ مَعَهُ. 33 وَفِيمَا هُمَا يُفَارِقَانِهِ قَالَ بُطْرُسُ لِيَسُوعَ: «يَا مُعَلِّمُ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هٰهُنَا. فلْنَصْنَعْ ثَلاثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً، وَلِمُوسَى وَاحِدَةً، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً». وَهُوَ لا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ. 34 وَفِيمَا هُوَ يَقُولُ ذٰلِكَ كَانَتْ سَحَابَةٌ فَظَلَّلَتْهُمْ. فَخَافُوا عِنْدَمَا دَخَلُوا فِي ٱلسَّحَابَةِ. 35 وَصَارَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّحَابَةِ قَائِلاً: «هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ. لَهُ ٱسْمَعُوا». 36 وَلَمَّا كَانَ ٱلصَّوْتُ وُجِدَ يَسُوعُ وَحْدَهُ، وَأَمَّا هُمْ فَسَكَتُوا وَلَمْ يُخْبِرُوا أَحَداً فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ بِشيْءٍ مِمَّا أَبْصَرُوهُ.

دعا يسوع تلاميذه لإماتة ذواتهم وحمل الصليب باستمرار لأنه اختار هذا الطريق لنفسه مخلياً ذاته، ومات على خشبة العار لأجلنا. فلا طريقة أخرى للخلاص إلا طريقة حمل الله.

وهذه الطريقة ليست إلا مرحلة مرور. والهدف منها هو مجد الله في وحدانية المحبة. فاختار يسوع تلاميذه الناضجين، وأراهم المجد الحق في شركة الله، لكي يدركوا هدف إنكار أنفسهم جلياً. فهذا هو شعار كل المؤمنين الناضجين: بالصليب إلى المجد.

وهذا المجد لم يتحقق بهبة أو تمليك من الله، بل بالصلاة المتواضعة. ولوقا البشير أرانا أكثر من غيره، أن يسوع كان مصلياً قدوساً وقدوة كل المصلين. فأثناء تكلمه مع أبيه تغير وجهه، لأن الله قبلة المصلي، وقد خلق الإنسان على صورته. فلهذا يحقق المشابه لصورته بأسهل وسيلة في الصلاة.

ففي انسجام المسيح مع الله تغيرت هيئته ولباسه إلى نور. وموسى مؤسس العهد القديم حصل بعد التقائه بالله على جلد لامع. ولكن يسوع مؤسس العهد الجديد، كان هو القدوس بالذات. فظهر المجد فيه كاملاً بوجه غير مستتر (قابل 2 كورنثوس 3: 4-18).

فافتح عينيك وأدرك المستحيل المستغرب، إن الأموات أحياء. فموسى مؤسس الناموس وإيليا رمز الأنبياء. وهذا يدل على أن المسيح انسجم تماماً بنبواته عن موته مع كل مبادئ العهد القديم، لأن المسيح لم ينشء مملكته بقوة وقدرة بشرية، بل بالآم وصلي وقيامة.

وربما كان على رسولي الله المجيدين، أن يخبرا الابن المتجسد بأسرار صعوبات موته الكفاري عن كل العالم المزمع أن يحدث. لأن جسد الإنسان العادي، لا يقدر أن يحتمل هذه المعاني الغيبية بكل تفاصيلها ونتائجها المقبلة على الكون. فاستعد الابن لموت مكللاً في العار عمداً وعزماً، ليصالح البشر مع القدوس.

وهذا التجلي جرى للتلاميذ الثلاثة أيضاً ليفهموا طريق الصليب كطريق وحيد إلى المجد المذخر. ولكن بطرس لم ير الصليب، بل المجد وحده. وبينما كان ربه يتكلم عن ساعة موته لكل الناس، تمتم الشعور الباطني في بطرس بأمنيته، أن يستمسك بهؤلاء الرجل الثلاثة المقدسين، لكي يصبح الفردوس داخل الدنيا. فيدخله بدون آلام وهموم. ومع أن رؤية مجد المسيح الباهرة، لم تكن سهلة على التلاميذ، لأنهم ناموا في غيبوبة من أشعة ملء النور والجمال الساطعة عليهم. ولم تسطع أرواحهم البشرية احتمال ظهور مجد لله. كما أنهم ناموا كذلك في جسثيماني عندما حل ملء عضب الله وكل تجارب الشيطان على يسوع. ولكن على جبل التجلي وهب لشهود العيان الثلاثة، أن يسهروا قليلاً، ليروا بأعين مفتوحة وباندهاش إله النور، الذي بهرهم أكثر من الشمس في بهائها (يوحنا 1: 14).

وفي هذه الحالة المترددة بين النوم والصحو اقتربت سحابة نور الله، التي رافقت الشعب في البرية، ورآها حزقيال بارتعاب، لأنها حجاب مجد القدوس. فسقط الفزع على هؤلاء المخلوقين، واحترقت ذنوبهم في ضمائرهم. ولكن الخالق ما جاء لدينونة شهود ابه، لأن إيمانهم خلصهم. أنه بشر الخائفين، وأراهم الطريق إلى الخلاص الكامل. فليس عندنا في الكتاب المقدس كلمات إلهية كثيرة، خاطب بها الله عباده البشر مباشرة. فمن الضروري أن نتعمق بكل حرف من أقواله ونصلي بها إلى الله.

وسمى الإله القدوس يسوع ابنه، لأنه تواضع وأنكر نفسه، واختار الطريق إلى الصليب. هذه كانت إرادة الآب. وفي وداعة الابن يظهر جوهر الآب. فالمسيح ليس نبياً مخلوقاً، بل انبثق من الآب قبل كل الدهور. وكان أحد الأقانيم الثلاثة أزلياً قدوساً جيداً.

وتجسد ابن الله لأجل حالتنا الدنسة، وحفظه أبوه منذ طفولته كحدقة عينه. والروح القدس طور مواهبه البشرية بسلطته السماوية. فأصبح الإنسان يسوع الإنسان الكامل، الذي عزم في محبته أن يموت لأجل الآخرين، لأنه كان الوحيد المستحق ليموت عوضاً عا.

وهو كان كلمة الله المتجسدة، وافضل إعلان لمشيئته السرمدية الحقة. والله يأمرك أن تسمع كلمات يسوع يومياً وتقبلها، لأنها ممتلئة القوة الخالقة والسلطان الإلهي والتعزية الروحية. فكلمة المسيح تمنحك الحياة الأبدية.

والتلاميذ لما سمعوا إعلان الله ووصيته وقبلوها أدركوا من هو يسوع، وعلموا أنه ليس مخلصاً سياسياً، بل ابن الله في الجسد، وحملاً معيناً للصليب. وفي هذه اللحظة انتهت الرؤية وصمت الصوت. فلم يعودوا يرون إلا يسوع وحده. هذه خلاصة إيماننا. ننا لا نحتاج إلى ملائكة وقديسين واساقفة وكنائس، لأن يسوع هو مخلصنا. والإيمان به ينجينا. فلا تجد في حياتك إنساناً، يقدر أن يساعدك حقاً، إلا المسيح، فاربط نفسك به والله يقول لك: هذا هو ابني الحبيب، فاستمع له.

الصلاة: أيها الآب، نشكرك لأنك أرسلت ابنك إلى عالمنا الشرير لتنقذنا. نظف آذاننا وقلوبنا، لنصغي إلى كلماته ونحفظها. وندرك ألوهيته، ونتجاوب مع أبوتك، ونعظمك لأجل موته على الصليب بسلوك طاهر وحكيم.

9: 37 وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي إِذْ نَزَلُوا مِنَ ٱلْجَبَلِ، ٱسْتَقْبَلَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ. 38 وَإِذَا رَجُلٌ مِنَ ٱلْجَمْعِ صَرَخَ: «يَا مُعَلِّمُ، أَطْلُبُ إِلَيْكَ. اُنْظُرْ إِلَى ٱبْنِي، فَإِنَّهُ وَحِيدٌ لِي. 39 وَهَا روحٌ يَأْخُذُهُ فَيَصْرُخُ بَغْتَةً، فَيَصْرَعُهُ مُزْبِداً، وَبِٱلْجَهْدِ يُفَارِقُهُ مُرَضِّضاً إِيَّاهُ. 40 وَطَلَبْتُ مِنْ تَلامِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا». 41 فَأَجَابَ يَسُوعُ: «أَيُّهَا ٱلْجِيلُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمنِ وَٱلْمُلْتَوِي، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ وَأَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمِ ٱبْنَكَ إِلَى هُنَا». 42 وَبَيْنَمَا هُوَ آتٍ مَّزَقَهُ ٱلشَّيْطَانُ وَصَرَعَهُ، فَٱنْتَهَرَ يَسُوعُ ٱلرُّوحَ ٱلنَّجِسَ، وَشَفَى ٱلصَّبِيَّ وَسَلَّمَهُ إِلى أَبِيهِ. 43 فَبُهِتَ ٱلْجَمِيعُ مِنْ عَظَمَةِ ٱللّٰهِ.

نزل المسيح مع تلاميذه من علو التجلي في جبل حرمون. إلى وادي الاردن الغميق، في أودية الكوارث والضيق والذنوب. فدخل مجدداً إلى شركة البشر حيث تتسلط الأرواح النجسة.

وكان أتباع المسيح أنفسهم ضعفاء الإيمان، رغم أنهم طردوا باسم المسيح في السابق شياطين (لوقا 10: 17). فلم يقدروا أن يشفوا الصبي الملبوس والمريض بالصرع. وقد وصف الطبيب لوقا هذا المرض بدقة، أنه تلبس بالروح. ولكن ليس كل الأمراض هكذا. لذل علينا التحفظ لكي لا نحكم على كل مرض سطحياً. فبواسطة الصلوات الأمينة في شركة المسيح والصوم الصامت، يضطر الروح الشرير أن يستعلن ويترك لسلطان المسيح الهيكل، الذي كان يستحله قبلا.

فحزن يسوع حزناً كبيراً، إذ بعد اقترابه من أبيه، وثباته في مجد محبته، اشتم الروح النجس، ورأى ضعف تلاميذه، واخترق عدم إيمانهم. ونسمع في تبكيته إياهم صوت الروح القدس حزيناً لخبثنا، معلناً التواءنا وعدم إيماننا. فروح الرب يقاوم قلوبناالقاسية، ويحزن لثقتنا الناقصة. لقد كان الله مع الناس، فلم يؤمنوا بقدرته الحاضرة. والمسيح يبقى معنا كل الأيام. فمن يثبت فيه وينتصر باسمه؟ والروح القدس يحل بملئه في المؤمنين. فأين فيهم فيض محبته؟

وقداسة الله تدفعه لتركنا وإهلاكنا، لأن عدم إيماننا هو أكبر خطية. ولكن محبته صبورة ترحمنا وتشفي قلوبنا الشريرة. وجدير بك أن تميز بين نفسك والمسيح بدقة. فهو من السماء أما نحن فعرضة للسقوط في جهنم. هو قدوس ونحن فاسدو الأذهان. إنه المحبة ونحن أنانيون أشرون. ويسوع قد أخلى نفسه حاصلاً على سلطان أبيه. أما نحن فلا ننكر أنفسنا. وهكذا نسقط فاشلين ضعفاء باستمرار. فاعلم أن الله يطلب منك أن تقرر الإيمان وتكمل تسليمك لشركته الأزلية. دع العالم وابتعد عن الأرواح الكاذبة وغرور الال وسطحية المدنية. وبذلك تربح المسيح ابن الله. تعلق به، لانه يحبك ويلاشي ظلماتك.

لقد شعر الروح الشرير في المريض كذلك باقتراب المسيح، فاغتاظ وفزع، لأن مجد الله أقبل عليه. ولما جاء التلاميذ بالمريض الهائج إلى يسوع، حاول إبليس تمزيق هذا الملبوس. فأمر إذ ذاك يسوع الروح الشرير بأن يترك فريسته. وهكذا ربح الفتى المري لله الحي. هل لاحظت اهتمام المسيح بهذا الفتى المسكين؟ وكيف استخدم قوته لانقاذه؟ وهل أدركت معنى هذا العمل؟ فإن يسوع المسيح يهتم حتى اليوم بكل فتى مريض في بلدتك وسائر بلاد العالم. إن صرخ أب روحي بصوت عال، يا رب ارحم بنيّ. هل تصرخ بالنعمة من أجل الآخرين، أو ما زلت مصلياً لنفسك فقط؟

طوبى للمبتهلين لأجل الآخرين، لأن عظمة الله تظهر بواسطة محبة إيمانهم. والمسيح يشاء أن ينتصر بواسطة إيمانك أيضاً. فتعال إلى ربك، ليشفيك من عنادك ويملأك بإيمانه. فتكمل قوته في بساطتك.

الصلاة: أيها الآب محبتك عظيمة. ولا نهاية لقوتك. اغفر لي عدم إيماني الشنيع وكل أنانية مستقبحة. واغلبني لإطاعة الإيمان. لكي أصلي لأجل كثيرين. خلص كل بنت وصبي في محيطنا، ويشتاقون إلى التحرر من نجاستهم وأكاذيبهم وقدسنا تمااً بنعمتك.

9: وَإِذْ كَانَ ٱلْجَمِيعُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ كُلِّ مَا فَعَلَ يَسُوعُ، قَالَ لِتَلامِيذِهِ: 44 «ضَعُوا أَنْتُمْ هٰذَا ٱلْكَلامَ فِي آذَانِكُمْ: إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ». 45 وَأَمَّاهُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا هٰذَا ٱلْقَوْلَ، وَكَانَ مُخْفىً عَنْهُمْ لِكَيْ لا يَفْهَمُوهُ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ هٰذَا ٱلْقَوْلِ.

لقد أرانا لوقا في الأمثلة الثلاثة تفسيراً لكلمات يسوع عن الجيل الملتوي وغير المؤمن أن التلاميذ أنفسهم لم يقدروا على الإيمان، وكان تفكيرهم عكس مشورة الله. فكانوا عمياً وأغبياء، ولم يفهموا طريق الله. فقال المسيح لهم، افتحوا آذانكم للامي. لكن عقولهم كانت كأحجار صماء وأوتار فهمهم لم تنسجم لنغمة روح الله. وقد كانوا قريبين من يسوع ومختارين، ومع ذلك لم يفهموا ضرورة صليب المسيح البتة. ولم يقدروا أن يدركوا، أن ابن الله سيدان من البشر في هيئته كابن الإنسان المرفوض. ورغم ذك، كانوا عالمين معنى الكلمة «ابن الإنسان». أن هذا اللفظ يختص بالقاضي الأزلي حسب سفر دانيال. فكيف يمكن أن يحاكم المدعى عليهم قاضيهم؟ وكيف سمح القادر على كل شيء أن يعذبه عبيده المخلوقون الفانون؟ فهذا السر العظيم لا يدركه عقل دنيوي قط حتى ليوم، إن لم يساعده الروح القدس ويفتح ذهنه، معلناً له تواضع المسيح، كاشفاً خطة محبة الله في ابنه الحبيب.

وكان التلاميذ آنذاك جهلاء ملتوين وغير متأكدين. فكيف حالتك؟ أتتجاسر وتعترف أمام ربك بتجديد فهمك، سائلاً إعلان طريقه وهدفه لك ولكنيستك؟ أو تبقى أصماً وغبياً لذكر الله؟

9: 46 وَدَاخَلَهُمْ فِكْرٌ: مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ فِيهِمْ؟ 47 فَعَلِمَ يَسُوعُ فِكْرَ قَلْبِهِمْ، وَأَخَذَ وَلَداً وَأَقَامَهُ عِنْدَهُ، 48 وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ قَبِلَ هٰذَا ٱلْوَلَدَ بِٱسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قبِلَنِي يَقْبَلُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي، لأَنَّ ٱلأَصْغَرَ فِيكُمْ جَمِيعاً هُوَ يَكُونُ عَظِيماً»

فلم يكن التلاميذ فقراء المعرفة فقط، بل كانوا مستكبرين أيضاً. وظنوا أنهم شيء عظيم. فهذه هي الخطية المخربة ضمن الكنائس، إن بعض الإخوة يظنون أنهم أذكى وأكثر موهبة وأهم من الآخرين. ولكن المسيح يبغض هذا الروح الشرير الأصلي. وقد أوقف أولاً بين هؤلاء الرجال، مفسراً لهم أن الصبي، رغم صغر سنه، أعظم منهم جميعاً. ومن المعلوم قطعاً، أن الصبي لم يكن نافعاً في ذاته، لأنه كان خاطئاً مثل غيره. وإنما لمحبة المسيح هذا الولد وتجاوبه معه، أصبح لحياته قيمة ومعنى. فليست الأهمية لما تكنه وتمتلكه، بل المهم هو هذا الأمر بالذات، أن الله يحبك وأن المسيح قد مات لأجلك، وروحه يدفعك للصلاح. فقيمتك ليست فيك بل من خارجك، إذ هي في نعمة الله.

وإقامة الولد وسط الرجال، دل على احتياجه إلى من يقوم بتربيته. وربما كان يتيماً. فيرينا المسيح بمثل هذا المثل، إننا بحاجة ماسة إلى أبينا السماوي. ولا نقدر أن نعيش بدون الله. فاتكال الولد على أبيه الدنيوي يمثل تواضع الإيمان في المؤمن المتكل على أبيه السماوي.

والمسيح في محبته اعتنى بهذا المتروك، ودبر له ملجأ ومبيتاً. وكلمة المسيح هذه، أوجدت لألوف من المتروكين مآوي، لأن كثيرين من المؤمنين الفقراء ضحوا بحياتهم، ليقبلوا مشردين. فلا يربحون بهذا العمل مكافأة ما، بل أن المسيح وأباه في الوحدةالمقدسة يحل فيهم، حيث أن الله يحب الصغار، وكل الذين يعتبرون أنفسهم صغاراً ومحتاجين. فويل للمتكبرين! إنهم لفي الجحيم مع الشياطين. فما هو هدف حياتك؟ أخادم بسيط في اجتماعاتكم، أو متكبر منفوخ؟ إن الخادم الأمين أفضل من الكبار المغرورين بأنفسم.

9: 49 فَقَالَ يُوحَنَّا: «يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِداً يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ بِٱسْمِكَ فَمَنَعْنَاهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُ مَعَنَا». 50 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لا تَمْنَعُوهُ، لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعنَا».

لسنا والتلاميذ أغبياء مستكبرين فقط، بل كذلك أنانيون عنيفون. فغضب يوحنا الذي أصبح رسول محبة الله بعدئذ، إذ شاهد أحد المؤمنين بالمسيح يشفي المرضى ويخرج الشياطين باسم المخلص، دون أن يكون تابعاً لنخبة الرسل المختارين. فكان يوحنا حريصا على امتياز اختياره ومنع الرجل المؤمن من أن يستعمل سلطة اسم يسوع لشفاء المرضى. فكسر يسوع المسيح الأنانية التي كانت محور التلميذ الصغير، وسمح بإنشاء خدمات كثيرة باسمه خارج المراكز والمؤسسات التي يعينها، لأنه ليس اختصاص العلاقة بكنيسة معنة هو الذي يعطينا الحق والسلطان للخدمات الروحية، بل الإيمان بالمسيح وحده. وهكذا فقد أعطانا ابن الله مقياساً عظيماً للتصرف حيال المؤمنين بألا نعارضهم في أعمالهم الحسنة: فكل أخ عامل باسم المسيح، ويعيش خادماً للعالم، فهو أخ حقيقي ومقبول عندالمسيح، ولو لم يكن من أتباعنا وجمعياتنا الخاصة. احترس أيها الأخ من التدين الناموسي، لأن ملكوت الله لا ينتهي عند باب كنيستك، بل يعمل في كل مكان يذكر فيه اسم المسيح بالمحبة.

الصلاة: أيها الرب، أعترف بغباوتي في فهم طرقك، وأخجل باستكباري على الآخرين. وأندم بتحزبي لجمعيتي، كأننا أفضل من المؤمنين الآخرين. فحررني إلى محبتك وتواضعك وبصيرتك الواسعة، لكي أسمع كلماتك. وأحقق الرحمة شاكراً إياك لكل ولد متروك، وُد باسمك، لأجل هذه الكلمة المباركة مأوى ومقاماً. آمين.

رابعاً: أعمال المسيح خلال سفرته إلى أورشليم (9: 51 - 19: 27)

1 - السامريون الأشحاء في بداية سفر الرب (9: 51 - 56)

9: 51 وَحِينَ تَمَّتِ ٱلأَيَّامُ لاِرْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، 52 وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً، فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. 53 فَلَمْ يَقْبَلُهُ لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهاً نَحْوَ أُورُشَلِيمَ. 54 فَلَمَّا رَأَى ذٰلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، قَالا: «يَا رَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيّا أَيْضاً؟» 55 فَٱلْتَفَتَ وَٱنْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! 56 لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ ٱلنَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ». فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى.

لم يكن المسيح قد انتهى تدريب تلاميذه بعد، لما حانت الساعة المقبلة عليه، والتي قررتها مشيئة الله أن يتألم، ويموت لفداء العالم. وقد علم ابن العلي، أن تلاميذه لم يفهموه تماماً لأن الخطية كانت لا تزال مقيدة لقلوبهم، والروح القدس لم يثت فيهم بعد. فاتجه إلى أورشليم ليصالح على الصليب البشر مع الله، وليصعد بانتصاره على الجلجثة، مرتفعاً إلى السموات لينزل علينا نحن المحتاجين قوة أبيه، لكي تغلبنا إلى معرفة وتواضع ومحبة وصبر.

وابتداء من هذه القراءة فصاعداً يحدثنا لوقا كيف ترك يسوع وطنه الجليل. وشرع بسفره الطويل عالماً أنه لن يعود، بل يموت هنالك. وكان إذ ذاك شاباً بعمر الثلاثين، والعالم في حاجة إلى كلامه وشفاءاته. ولكن ابن الإنسان عرف أن موته أهم من حياه على الأرض. فأنكر نفسه، وحمل صليبه وبذل ذاته فدية لكثيرين.

ولم يسمح المسيح أن تخيم عليه الأحزان، بل نظم موكب محبته، وأرسل الرسل إلى القرى ليعدوا النوم والغذاء. ومن هذا نرى أن الإرشاد بالروح لا يتجنب التنظيم في حياة الأفراد والكنائس، لأن إلهنا ليس إله الفوضى، بل هو رب النظام والتدبير.

والمسافر من منطقة الجليل إلى أورشليم آنذاك بطريق مستقيم، كان لا بد له من المرور بالسامرة، حيث عاش أناس ممزوجون بدم بقايا أسباط إسرائيل والأقوام الذين أسكنهم الأشوريون في أرض الميعاد. فأصبحت ديانتهم أيضاً ممتزجة، مما دفع اليهود إلىاحتقارهم. واعتبروهم نجسين، كما احتقر السامريون أيضاً اليهود بالمقابلة. وأصابوا المسافرين والماكثين منهم في بلادهم أذى كبيراً. فقام بين شعب الفريقين خصام شديد، وبغضاء شاملة متأصلة.

وهذه الأحقاد قد انفجرت في يوحنا رسول المحبة وأخيه يعقوب، لما رفض السامريون المسيح رب العالم وحاشيته ومنعوهم من المرور والنوم. وربما كان ذلك خوفاً من العدد الضخم للحجاج أن يدخلوا القرية ويسلبوها، ويهلكوا بروح التحمس للحج آلهة الساميين المحبوبة.

وأجاب يوحنا على هذا الاحتقار بنقمة مقدسة. وأنتج رفض السكان القرويين استقبالهم في نفسه غضباً مدلهماً. وأراد الانتقام لابن الله، وغسل الإهانة التي لحقت به. وذلك باستنزال النيران من السماء لتحرقهم مفتكراً بغيرة إيليا ودينونة غضبه علىأعداء الله. أما يسوع فانتهر يوحنا وأخاه في حضور التلاميذ كلهم، كما انتهر الحمى في المريض سابقاً وبنفس القوة، وكما أسكت العاصفة وطرد الشياطين. ففي كل هذه الحوادث نجد الكلمة «انتهر» معلنة غضب الله الملتهب. فنعلم أن المسيح، لم يصب غضبه المدس على السامرين الخطاة الجهلاء، بل انتهر تلميذيه اللذين انفتحا لروح الانتقام والأحقاد، لأن كل الذين يجازون الشر بالشر، ينتسبون للعهد القديم. أما يسوع فإنه يجازي الشر بالخير، ويغفر لأعدائه كل ذنوبهم. ويحب لاعنيه، ليتوبوا ويرجعوا إليه، فيلصهم.

إن ابن العلي يعمل ما يريد أبوه أي أنه يخلص ويبارك ويحتمل ولا يدين ولا يبيد ولا يرفض، حتى ولو لحقت إهانة بشخصه. فمحبة الله أعظم من عقولنا. فأنت ابن لأي روح من الأرواح؟ هل ولدت من روح العالم، ومؤثر فيك العهد القديم، حيث مبدأ عين بعين وسن بسن، أو ولدت من روح السماء وقوة العهد الجديد؟ فتمضي صامتاً حيثما رفضت مشتوماً مغدوراً، وتحب إذا ما أسيء إليك. هكذا فإن المسيح، بعد أن رفض من السامرة، ارتحل عنهم متجهاً إلى قرية أخرى، فقبلوه بترحيب، ونرى أن يوحنا وسائر الرفقة، لم ينوا بعد ذلك طول حياتهم هذا التعليم لوداعته.

الصلاة: أيها الآب السماوي اللطيف، اغفر لي كل غضبي وحقدي وبغضتي ورفضي للآخرين. وأشكرك للطفك وصبرك، ملتمساً منك الولادة الروحية الحقة، لكيلا أبغي إبادة الناس. بل احتملهم وأحبهم، وأرشدهم إليك، باسمك وقوتك.

2 - أتباع يسوع الثلاثة المختلفو الأهواء (9: 57 - 62)

9: 57 وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ فِي ٱلطَّرِيقِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ: «يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي». 58 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ».

أثناء رحلته إلى أورشليم لتسليم نفسه للصلب، تكلم يسوع مع أناس كثيرين. فأخذ أحد الكتبة بعمق حكمة يسوع، وأراد اتباعه بحماس. لقد وجد فيه المعلم الموهوب ببصيرة الله، وكان شوقه إلى الحق والبر صادقاً. ولكن يسوع أراه، أن طريق ابن الله غير معبد، وأن عشراءه ليسوا من أشراف القوم، وأنه لا يملك جاهاً أرضياً أو مالاً، بل إنه فقير الحال عرضة للاحتقار والاضطهاد. فقد تربص أعداء المسيح الرحالة به ليقتلوه. فصار ينام في الأحراج والبراري لكيلا يعلم أحد أين هو. وهكذا أصبح خالق الكون أد فقراً من الحيوانات المستنفرة. فالثعالب المكارة حفرت أوجرة حماية لأولادها. ولكن ابن الله لم يمتلك بيتاً مصنوعاً بأيدي الناس. والطيور تطير حرة في الأجواء وتضع بيوضها في الأعشاش الدافئة، ولكن مخلص العالم لم يجد ملجأً لأتباعه، لأنه كان بلا وطن، ومرفوضاً من أمته. فمن يتبعه يصادف في دنيانا احتقاراً مراً واغتصاباً لحقوقه الضرورية في الحياة. فهل تريد اتباع المسيح فيما بعد؟ فكر جيداً قبل أن تقرر.

9: 59 وَقَالَ لآخَرَ: «ٱتْبَعْنِي». فَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، ٱئْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَّوَلاً وَأَدْفِنَ أَبِي». 60 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «دَعِ ٱلْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَٱذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوِت ٱللّٰهِ».

هذا الرجل الآخر لم يقدم نفسه كذلك الخبير في التوراة المتحمس للمسيح، بل تبطأ في اتخاذ قراره رغم أن قلبه كان ملتهباً محبة بالناصري. والعليم البصير رأى أفكار قلبه. وأراد مساعدته، ليخترق أحجبة تلكوئه. فأنهى تردده بالقول له: اتبعني. ولن المدعو لم يطع كلمة الله الفريدة، بل كان بلغمي المزاج ومثقلاً بواجبات عشيرته. فإذ مات أبوه الحبيب فكر بترك موكب يسوع، ليغرق في أمواج الحزن في بيته. ولكن يسوع لم يبغ ترك هذا المبتدئ بالإيمان غارقاً في يأسه ودموعه، بل شاء انتزاعه إلى مملة فرحه وإثباته في عائلة الله. فمن أجل ذلك سمى رئيس الحياة كل الأحياء أمواتاً، لأن البشر جميعهم أموات في الذنوب حاملون بذور الموت فيهم. وكل حي، إنما بمساعدته الدنيوية للآخرين. يكون دافناً لهم، لأنه يمهد طريقهم لا للسماء بل للقبر الهلاكي.أما المسيحي الحق فيشبه المحيي الفريد، حيث أن المسيح قد أشركه بقوته، لينقل الأموات في الخطايا بكلمة الإنجيل إلى الحياة الأبدية. فمن يؤمن يحيا. ومن لا يؤمن يموت.

وقد طلب المسيح من هذا المدعو أمراً غريباً مستحيلاً بالنسبة للإنسانية وكسراً للمعتاد وإنكار واجباته تجاه العائلة، لكي ينال رأساً ملء حياة الله، ويصبح شجرة للنعمة. والمسيح لم يأمر بهذه الوصية كل الناس بل لفرد معين. فلست مضطراً للتمنع عن دفن والدك العزيز بموته، بل أحرى بك أن تعيش أمام أهلك في فرح المسيح وتواضعه الخادم، لكي يسألك أبوك عن القوة العاملة في حياتك، ويتجدد بصلواتك وإبلاغك الإنجيل. فهل أنت شاهد للحياة الأبدية، أو دافن ميت للأحياء الأموات؟

9: 61 وَقَالَ آخَرُ أَيْضاً: «أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلٰكِنِ ٱئْذَنْ لِي أَّوَلاً أَنْ أُوَدِّعَ ٱلَّذِينَ فِي بَيْتِي». 62 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى ٱلْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى ٱلْوَرَاءِ يصْلُحُ لِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».

ورجل ثالث أراد أن يتبع يسوع، من كل قلبه. ولكن... هذه الكلمة «ولكن» هي سكين تقطع الرباط بين كثيرين من المستعدين للإيمان ويسوع ربهم. فماذا يفصلك عن اتباع يسوع كاملاً وبالتمام؟ هل ارتباطك بعائلتك أو احتياجاتك اليومية؟ فربك يطلب منك انفصالك انفصالاً كاملاً عن عشيرتك الادنين، واستعدادك للفقر والجوع وإنكار النفس. فاتباع يسوع لا يتم إلا بقرار مقدس وعزم كامل. وأنك لا تقدر على خدمة سيدين.

ويحذر المسيح المبتدئين باتباعه، ألا ينظروا إلى ماضيهم الفاسد، لكيلا يشبهوا الحارث، الذي يضع يده على المحراث بقوة، ولكنه بنفس الوقت ينظر إلى الوراء. فتعوج الأثلام وربما ينكسر المحراث على صخرة. فوجه قلبك تماماً، لنعمة المسيح، وانفصلبكليتك من روحك القديم. وتجاسر نهائياً، أن تدخل إلى ملكوت الله. فتصبح حارث الله الحكيم وتأتي بثمر كثير.

الصلاة: أيها الرب القدوس، لست مستحقاً أن أتبعك وقد عرفت قلبي الغبي المتحمس في الوقت الذي يحتاج به إلى الحذر والتفكير. ويتأخر إذا كان عليه اتباعك رأساً بلا تأخير. ويتقلقل عندما يُطلب منه عزماً مقرراً. يا رب اعطني قلباً جديداً، يحبك فوق الكل ويعمل مشيئتك رأساً.

3 - المسيح يرسل السبعين من أتباعه إلى كل أنحاء بلاده (10: 1 - 16)

10: 1 وَبَعْدَ ذٰلِكَ عَيَّنَ ٱلرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضاً، وَأَرْسَلَهُمُ ٱثْنَيْنِ ٱثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعاً أَنْ يَأْتِيَ. 2 فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ ٱلْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلٰكِنَّ ٱلْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَٱطْلُبُوا مِنْ رَبِّ ٱلْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ.

الحصاد كثير، والعالم ناضج للدينونة، ليحصده ملاك الرب للهلاك. ولكن الله في نعمته لم يبد الناس بعد، بل يرسل إليهم مرة بعد المرة رسل السلام. فينزل الإنجيل القوي في قلوب مستعدة، ويأتي بثماره أضعافاً مضاعفة. ويشهد المسيح لك ببصيرته الإهية، أن الحصاد اليوم كذلك كثير، لأن كثيرين من الناس يتجاوبون مع كلمة الله، ويلبسون قوتها ويعملون مشيئة المسيح.

ولا يتم حصاد المسيح نظرياً أو عاطفياً، ولا يجلس عماله الحاصدون في الأرائك مرتاحين، بل أن المسيح يختار فعلة مجتهدين ويرسلهم إلى الحصاد المتعب. فلا يرتاحون ولا يتخيلون، بل يرهقون ويتعبون بدون تحديد لأوقات العمل، ما دامت الشمس لا تزال تشرق عليهم.

أأنت عامل للمسيح؟ فاطلب منه شركاء في العمل، مفعمين بالتواضع، وممتلئين بالتصميم والعزم على الخدمة، يقبلون إرشاد الروح القدس. وهكذا فإن هذا الروح في المسيح قد أمرنا بأهم طلبة للتبشير. فلا يريد ربك منك الاجتهاد حتى الموت، بل الصلاة لأجل إرسال فعلة كافين لحصاده، لكي يجمعوا معاً سنابله إلى مخازنه هو، وليس إلى مخازنهم الخصوصية. فأنت لمن تعمل؟ ألنفسك، أم للمسيح؟ أتشكر ربك لكل معاونيك في الخدمة أم تتذمر منهم؟ وهل تطلب من ربك كفاية من الخدام المخلصين للعمل في بلادك؟

ويدعوك المسيح اليوم أن تخدمه، كما أرسل آنذاك الرجال السبعين في الخدمة التبشيرية. وقد رمز بعددهم إلى المجمع اليهودي الرسمي وشيوخ العهد القديم، ليصبحوا شيوخاً في عهده الجديد، ممتلئين بروحه (سفر الخروج 15: 22 و24: 1 وعدد 11: 16).

ولم يرسلهم المسيح فرادى كل واحد إلى قرية بمفرده، بل أرسلهم اثنين اثنين إلى قرى مختلفة، لكي يسند أحدهما الآخر ويشجعه. وكيلا يتفاخر واحد على زميله. فإذا تكلم أحدهما صلى الآخر. وإن نام ذلك سهر الأول. فإذاً قد أعطى المسيح مواهب مختلفة لأتباعه، لكي يحتاج بعضهم إلى بعض، ويمرنوا أنفسهم في تواضع المحبة. فاعتبر نفسك الأصغر في فرقتك أيها الأخ، لأن زميلك يحتاج إلى صبر أكثر لاحتمالك، كما تحتاج إلى تأن لاحتماله أيضاً.

10: 3 اِذْهَبُوا. هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلانٍ بَيْنَ ذِئَابٍ. 4 لا تَحْمِلُوا كِيساً وَلا مِزْوَداً وَلا أَحْذِيَةً، وَلا تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي ٱلطَّرِيقِ.

وقد أرسل المسيح أتباعه كخراف بين ذئاب. تصور ماذا يحدث إذا دخل خروف بين مجموعة الذئاب الجائعة؟ إنه لا تمر ثانية واحدة إلا وقد افترس هذا المسكين. هكذا يفسر المسيح خدمة رسله. فالعالم مفعم بالأرواح الشريرة المبغضة للمولودين من روح الميح. فلهذا يرسلك مخلصك إلى الملبوسين الأشرار، لكي يتغيروا بوداعتك ويصبحوا حملاناً ودعاء، كما كان يسوع نفسه حمل الله الوديع، الذي افترس من سلطات الظلمة. فموته غيرنا إلى رعية الله، وأعدنا للموت لأجل العالم الشرير.

إن فهمت مسيرك وهدفك بهذه الطريقة، فلا تهتم بعدئذ لأجل المال واللبس والراحة والغذاء. ولا تتشوق للأفلام، ولا تتأخر في عملك التبشيري متكلماً عن الأمور الباطلة، بل تختار الفقر وتتقدم إلى الأخطار، لأن الرب شخصياً يرافقك ويحميك. إن الله هو مكافأتك الوحيدة. فهل أدركت ماذا يقدمه المسيح لك، إن خدمته؟ اضطهاداً فقراً موتاً. وعوضاً عن ذلك كله حضوره العظيم. إنه اختارك ويرسلك الآن، ويرشدك. وهو مسؤول عنك. وليس أحد يقدر أن يخطفك من يده. ويضع يده مقفلاً أفواه الذئاب الجائعة، حتى تم خدمتك كاملاً.

10: 5 وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَّوَلاً: سَلامٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ. 6 فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ ٱبْنُ ٱلسَّلامِ يَحِلُّ سَلامُكُمْ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَيَرْجِعُ إِلَيْكُمْ. 7 وَأَقِيمُوا فِي ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ آكِلِينَو َشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ، لأَنَّ ٱلْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ. لا تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ.

إن المسيح لا يرسلك إلى كل العالم، بل إلى فئات وعائلات معينة. وحقاً، إنه يقدم الإنجيل لكل الناس، ولكن فرقاً خاصة فقط، هي التي تلتفت إلى بركات سلام الله. وتبشير الأفراد ليس هدف خدمتنا دائماً، بل كثيراً ما نقصد ربح العائلات بأكملها. حمل قوة سلام الله بكلماتك إلى قلوب الآباء والأمهات والإخوة، فيملأ الإيمان بالمصلوب جو البيت، ويجذب كل الأقرباء إلى روح السلام.

ولكن إذا تقسى بيت مستهزئاً بابن الله، فلا تتعجب وتنقم، بل انصرف هادئاً. لأن دينونة الله ساقطة على ذلك البيت. اطلب أولاً العائلة الجائعة إلى سلام الله وامكث فيها. ولا تخجل أن تعيش من تقدماتها وتأكل حتى تشبع ما دمت تخدمهم وتجتهد مصلياً لأجلهم.

10: 8 وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ، فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ، 9 وَٱشْفُوا ٱلْمَرْضَى ٱلَّذِينَ فِيهَا، وَقُولُوا لَهُمْ: قَدِ ٱقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ 10 وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوها وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ، فَٱخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا: 11 حَتَّى ٱلْغُبَارُ ٱلَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ. وَلٰكِنِ ٱعْلَمُوا هٰذَا أَنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ.

هل تصلي لأجل مدينة أو قرية معينة وتحيط بلدتك بصلواتك المستمرة؟ وكثيراً ما يقرر الروح الساكن في أهل مدينة قبوله الإنجيل أو رفضه. ونجد أحياناً، أن أهالي بلدة بأسرها يتقسون ضد هذا الروح الشرير، بل امض في طريقك، طالباً قرى غيرها مستعدة للإنجيل، حيث يخضع كثيرون للمسيح نائلين حياته الأبدية. والعواصم الكبرى، كثيراً ما لا تكون مسجلة في سفر الحياة السماوية بدرجة هامة، بعكس حالة بعض القرى المحتقرة في دينانا والممجدة في السماويات. ولكن الحمد لله، فإننا نجد أحياناً في بعض الدن أحياء فيها إيمان وتقوى، حيث يوجد الفردوس وسط الفساد، بينما توجد قرى تعم فيها جهنم. انتبه حين تبشر متكلاً على إرشاد الروح القدس ولا تعاند بخدمتك. اذهب حيثما يقودك روح محبة الله.

10: 12 وَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَكُونُ لِسَدُومَ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ. 13 «وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ ٱلْقُّوَاتُ ٱلْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا، لَتَابَتَا قَدِيماً جَالِسَتَيْنِ فِي ٱلْمُسُوحِ وَٱلرَّمَادِ. 14 وَلٰكِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ يَكُونُ لَهُمَا فِي ٱلدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لَكُمَا. 15 وَأَنْتِ يا كَفْرَنَاحُومُ ٱلْمُرْتَفِعَةَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، سَتُهْبَطِينَ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ. 16 اَلَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي، وَٱلَّذِي يُرْذِلُكُمْ يُرْذِلُنِي، وَٱلَّذِي يُرْذِلُنِي يُرْذِلُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي».

إن دينونة الله تسقط على كل فرد وعائلة ومدينة ترفض ابن الله ورسله. والهلاك له درجات متنوعة. فليس الخبث والكذب يقرران مقدار العقوبة فقط، بل عدم الإيمان ورفض الإنجيل أولاً. وستقف مدن الجليل التقية في يوم الدين خجلة أمام أهالي المدن افنيقية بإيمانها بالآلهة الفاسدة، لأن أهل الجليل لم يقبلوا ابن الله بذراعين مفتوحتين. وسدوم أحرقت بنار السماء، لأجل اللواط العام في المدينة. ولكن كل مدينة لا تقبل المسيح تدان أكثر، لأن عدم الإيمان والتسليم الناقص إلى المسيح أشد خطية من كل نجاسة كبيرة. وكفرناحوم كانت مدينة المسيح المختارة، حيث أجرى فيها أكثر عجائبه. ولكن عامة سكانها سيصيبهم أسوأ العذاب، لأنهم لم يتوبوا توبة صادقة، ولم يتغيروا في أذهانهم. فيا أيها الأخ، هل سمعت صوت القاضي الأزلي، وتبت حقاً، وآمنت كاملاً بإنجيل الخلاص؟

وحيث يتحرك المؤمنون بالمسيح، ويعترفون باسم الأسماء، فلا ينفردون بأنفسم متروكين، بل يرافقهم ربهم شخصياً في الخير والشر، ويعتبر كلامهم كلامه، ويتعامل معهم. فكل إهانة ورفض وعذاب تحل على رسله، يحترق لها قلبه مباشرة، كما قال لشاول الطروسي، الذي اضطهد المسيحيين: شاول شاول لماذا تضطهدني؟ وبما أن يسوع وأباه واحد بالروح والحق، فإن كل تعد على شهود المسيح، إنما هو تعد على الله بالذات. إن الله العلي هو ترسك ومكافأتك، إن ثبت أميناً في شهادتك للمخلص.

الصلاة: أيها الرب، نسجد لك، لأنك دعوتنا إلى حصادك. اغفر لنا كسلنا وخوفنا وتباطوءنا. وعلمنا الجهاد بإنجيل السلام، بجرأة لكي تتحول الذئاب إلى حملان، وعائلات ملئت شراً إلى جزائر من السلام. نشكرك لأنك تمكث معنا، وترافقنا كل الأيام إلى انقضاء الدهر.

4 - نداء البهجة من يسوع عند رجوع السبعين (10: 17 - 24)

10: 17 فَرَجَعَ ٱلسَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ: «يَا رَبُّ، حَتَّى ٱلشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِٱسْمِكَ». 18 فَقَالَ لَهُمْ: «رَأَيْتُ ٱلشَّيْطَانَ سَاقِطاً مِثْلَ ٱلْبَرْقِ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. 19 هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَاناً لِتَدُوسُوا ٱلْحَيَّاتِ وَٱلْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُّوَةِ ٱلْعَدُّوِ، وَلا يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ. 20 وَلٰكِنْ لا تَفْرَحُوا بِهٰذَا أَنَّ ٱلأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ ٱفْرَحُوا بِٱلْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».

عاد السبعون مرسلاً إلى المسيح دون أن تفترسهم ذئاب العالم. وكانت الأرواح الشريرة تخرج من الملبوسين، عندما كان الرسل يقتربون منهم. فحضور المسيح في خدامه أقوى وأعظم من كل سلطات الظلمة. ومن يحفظ في رحابه، يصر حملاً وديعاً، ولكن أقوى م أعنف الذئاب. أتفرح لأجل السلطان الموهوب لك باسم المسيح؟ هل أدركت انتصار ابن الله بواسطة خدامه؟

وقد حدد المسيح لرسله فرحهم لئلا يتكلوا على أنفسهم في ظفرهم، بل يدركوا قدرة العدو وعظمة ربهم. ولأجل أمانة المسيح بسلوكه في العالم، وفدائه على الصليب، انتصر على الشيطان وأسقطه من السماء. فاضمحلت قدرته بواسطة شهادات الرسل الكرام. ولكن انتبه فالشرير ما زال على الأرض قاصداً إهلاك أولاد الله.

فليس أحد منا قادر على أن يغلب إبليس وجيوش الشر. والمسيح هو الله الحق وسلطانه المجيد يغلب العالم بالوداعة والتواضع. فمن يدخل إلى شركة ابن الله يتحرر من إنانيته الخاصة وسلطة الشرير. ويستطيع باسم المسيح أن يغلب العدو المكار. والمعركةهائجة، والانتصار تحقق على الجلجثة. فآمن فقط تشترك في غلبة المسيح. واطلب من ربك أن يخرج كل روح شرير من أصدقائك ونفسك، محاذراً إلا تترك شركة المسيح، لكيلا يجد العدو الشرير سلطة عليك.

فيقول المسيح لك، أنه ليس نتائج خدمتك هي هدف خطة الخلاص، ولا شهرتك الخصوصية، ولا ثمار روحية معينة باهرة، بل معرفة الله بك. وأنه أبوك، ويدعوك باسمك، وهذ هو المهم. فاسمك منقوش في ذاكرة الله، وهو يحفظك لأجل أمانته. فليست صلاحيتنا ونتاج خدمتنا، هي جوهر إيماننا، إنما المعرفة أن الله أبونا. وهو معلن صلاحه في أولاده وقدرة المسيح في أتباعه.

10: 21 وَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِٱلرُّوحِ وَقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ، رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا ٱلآبُ، لأَنْ هٰكَذَا صَارَتِ ٱلْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ». 22 وَٱلْتَفَتَ إِلَى تَلامِيذِهِ وَقَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ ٱلاِبْنُ إِلَّا ٱلآبُ، وَلا مَنْ هُو ٱلآبُ إِلَّا ٱلاِبْنُ، وَمَنْ أَرَادَ ٱلاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ». 23 وَٱلْتَفَتَ إِلَى تَلامِيذِهِ عَلَى ٱنْفِرَادٍ وَقَالَ: «طُوبَى لِلْعُيُونِ ٱلَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَهُ، 24 لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِياءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكاً أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَلَمْ يَنْظُرُوا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا».

فلما رأى المسيح انتصار الله على مملكة الشيطان تهلل في الروح القدس، لأن هذا كان غاية مجيء ابن العلي إلى العالم، أن يهلك أعمال الشيطان، ويحرر البشر الضالين من أربطتهم الشديدة، وينقلهم إلى عائلة الله. فعظم المسيح اسم أبيه من صميم قلب وحمده، كرب السماء والأرض، الذي خلق الكل في نعمته. وأعلن سلطانه في المخلوقات صغيرها وكبيرها. وأعلن الله سلطانه كذلك في مساعدي المسيح أيضاً لأنهم آمنوا به، فحصلوا على قوته وقدرته السرمدية. ولكن الكتبة والمتدينين ورؤساء الكهنة والفلاسفة ولملوك والولاة، لم يدركوا الله ولا ابنه. وهذه هي الأعجوبة، أن عقل الإنسان واختباراته، لم تدرك المسيح تلقائياً، بل بواسطة الإيمان وحده. فمن يستودع نفسه بين يدي المخلص، يعرف مجده في توضاعه ولطفه. أما الذي لا يخلع كبرياءه وعلومه. وحتى عقله لمستضعف، فإنه لا يعرف الله، الذي أرسل ابنه إلى العالم، بعدما أخلى نفسه المجيدة. ليريح العالم بالمحبة، لا بالفلسفة أو السيف أو بالمسرات الجسدية.

ولأجل هذا الإيثار وإنكار النفس، دفع الله كل السلطان في السماء وعلى الأرض إلى ابنه. وبما أن الابن بذل نفسه فدية لكثيرين، فقد وهبه أبوه كل الناس والأرض والكون معاً. فالمسيح اشترانا لله بدمه. فأصبحنا خاصته. فسواء الرأسماليون أو الاشتاكيون، فإنهم يغرون أنفسهم غروراً كثيراً، بظنهم أن الفرد أو الأمة تملك الكون لان المسيح هو صاحب الكل، وقد دفعه أبوه إليه. إن كل الذين لا يعرفون الله، يضلون في حياتهم.

ولكن من يعرف الله؟ ليس إلا الابن والروح القدس، لأنهم واحد. والمسيح قد أتى إلى عالمنا، ليخبرنا من هو الله. لأن الاسم القديم (الله) هو حجاب سميك أمام حقيقة العلي المستتر. فهل تعرف من هو الله بالذات؟ لقد علمنا المسيح لننطق بالكلمة: أبانا الذي في السموات. فتمسك أيها القلب بهذه الكلمة، وأقر أيها العقل عازماً بهذه الحقيقة، لأن القادر على كل شيء هو أبوك ووالدك الروحي، وهو المحبة كالبحر المتسع الأعماق.

من أين لنا أن نعرف هذا الإعلان؟ فلسنا نعرفه إلا في شخصية المسيح. انظر إلى يسوع، تر الله. ولا يوجد أحد يقدر، أن يدرك المسيح، إلا بالروح القدس. ولا إنسان يسمي الله أباه، إلا بإرادة المسيح. فليست أعمالك الصالحة أو تبرعاتك أو حججك تقرك إلى الله زلفى، بل مقاصد المسيح وحده. فإن إيماننا لهو هبة من مانح النعم، وليس حقاً مستحقاً.

وبعدما عظم المسيح أباه، طوب تلاميذه، لأنهم رأوا الله في الجسد، في تواضعه. واختبروا انتصاره، بواسطة خدماته. قد ابتدأ ملكوت الله بينهم. وكان هذا هو اشتياق آباء الإيمان والأنبياء الحقيقيين الأمناء. ولهذه الغاية تألموا واستبكوا وتعذبو. أما الآن فإن المسيح الملك الإلهي قد حضر بين البشر، وكلماته صارت مسموعة لكل ذي قلب مشتاق. لأن الله تكلم بابنه إلى الناس، كآب لأولاده، وكأخ لإخوته. فهل ترى الله، وتسمع المسيح؟

الصلاة: أيها الله الثالوث في الوحدة، نسجد لك، لأننا لا نخاف من جلالك المستتر. بل نقترب منك، كأولاد، وأنت أبونا. وقد أعلن لنا ابنك جوهرك، وآمنا بكلامه وحصلنا على القوة والحق، لنصبح أولادك. احفظنا في ذكرك ونجنا من الشرير.

5 - السامري الصالح (10: 25 - 37)

10: 25 وَإِذَا نَامُوسِيٌّ قَامَ يُجَرِّبُهُ قَائِلاً: «يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ؟» 26 فَقَالَ لَهُ: «مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلنَّامُوسِ. كَيْفَ تَقْرَأُ؟» 27 فَأَجَابَ: «تُحِبُّ ٱلرَّبَ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ». 28 فَقَالَ لَهُ: «بِٱلصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هٰذَا فَتَحْيَا».

يرينا المسيح في هذه الحادثة، كيف أن الله قد أخفى جوهر ملكوته عن الحكماء والمتعلمين، ولكنه أعلنه للاطفال والبسطاء. فأتى كاتب خبير بالتوراة إلى يسوع، وسأله في روح الناموس، ماذا عليّ أن أعمل لأربح النعيم؟ فأراد هذا الإنسان بذل المجهو والعمل الشاق المتعب، ليس لله بل لنفسه، ليربح إرثاً عظيماً. لقد أراد المسكين ربح السماء بقوته الخاصة، ولم يعلم خطيته وعيوبه.

فهذا المتعلم الناموسي، الذي جرب يسوع لتفسير خاطئ، قاده الرب مباشرة إلى لب الشريعة. واصطاده بشبكته الناموسية، حتى كان عليه الاعتراف، بأن محبة الإنسان لله تعني الحياة الأبدية. فكيف تحب الله؟ كم مرة تفكر فيه طيلة نهارك؟ وبكم من قوتك وقتك ومالك تضحي عملياً لخالقك؟ لا تكذب على نفسك، فأنت تدور حول نفسك. ومشاكلك تشغلك، وليس الله محور كونك. لهذا انت مجرم، لأنك جعلت نفسك إلهاً صغيراً، سارقاً المجد من ربك. فتب واطلب ربك حقاً، وأحبه من كل قلبك. فتنسى نفسك، وتجد فجأة أخاك الإنسان المسكين، لأن الله يلتقي بك في المحتاجين.

وكما كنت تحب نفسك سابقاً، فإن محبة الله تغيرك إلى محب منحن لكل المضايقين. وكما أن أفكارك دارت سابقاً حول إرضاء نفسك وأمنياتك النجسة، هكذا تتغير الآن، فتفكر برحمة الله لضيقات أصدقائك. وتصلي لأجلهم، وتهتم بهم طالباً الضالين، مضحياً وقتك للغوغاء. لأن ما تعمله لأحد هؤلاء الأصاغر الأشرار، إنما تعمله لله. والمحبة هي تكميل الناموس. وإن لم تحب، فلا تكون عائشاً حقاً. فارجع إلى محبة الله عاجلاً، فتجعلك جمرة رأفته غارقاً في المحبة.

10: 29 وَأَمَّا هُوَ فَإِذْ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّرَ نَفْسَهُ، سَأَلَ يَسُوعَ: «وَمَنْ هُوَ قَرِيبِي؟» 30 فَأَجَابَ يَسُوعُ: «إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا، فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ، فَعَرَّوْهُ وَجَرَّحُوُ، وَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْتٍ. 31 فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِناً نَزَلَ فِي تِلْكَ ٱلطَّرِيقِ، فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. 32 وَكَذٰلِكَ لاوِيٌّ أَيْضاً، إِذْ صَارَ عِنْدَ ٱلْمَكَانِ جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. 33 وَلٰكِنَّ سَامِرِيّاً مُسَافِراً جَاءَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ، 34 فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ، وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتاً وَخَمْراً، وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى فُنْدُقٍ وَٱعْتَنَى بِهِ. 35 وَفِي الْغَدِ لَمَّا مَضَى أَخْرَجَ دِينَارَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا لِصَاحِبِ ٱلْفُنْدُقِ، وَقَالَ لَهُ: ٱعْتَنِ بِهِ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ. 36 فَأَيُّ هٰؤُلاءِ ٱلثَّلاثَةِ تَرَى صَارَ قَرِيباً لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ ٱللُّصُوصِ؟» 37 فَقَالَ: «ٱلَّذِي صَنَعَ مَعَهُ ٱلرَّحْمَةَ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ٱذْهَبْ أَنْتَ أَيْضاً وَٱصْنَعْ هٰكَذَا».

ما أحب الكاتب الخبير عمل المحبة، بل المحاجة والمباحثة. ولم يرد أن يتوب قلبه القاسي وذهنه المتحجر في نار محبة المسيح، بل لج في الخصومة، ليجرب القدوس، وليستخرج منه علماً بحدود المحبة. فجاوبه المسيح بسلطان إلهي، إنه قد أدرك بوضوح عمق الناموس. ولكن هذا العلم لا يكفي، بل المطلوب هو تطبيقه. فأراه ابن الله ما يريد الآب السماوي، أن نعمله عملياً.

وإننا جميعاً نشبه، في هذا المثل، الساقط بين اللصوص، لأن الحياة بلا رحمة. وكل يحاول سرقة قميص الآخر. وإن حدث لسائق سيارة حادثة ليلاً، فلا يقف أحد من المارين رغم إشارته إليهم. فيتألم هذا المسكين بحقد. وإن طلب شاب حائر أحد الإخوة، ليستمع لشكواه وينصحه ويصلي معه، ولم يجد أحداً يجاوبه، فإنه ييأس من جميع الإخوة ويلعنهم. وإن استرسلت الشعوب الغنية بخيالاتها واسترخائها، ولم تساعد الشعوب الفقيرة لبنائها، فإن غضب الله لواقع، ما له من دافع.

هل أملت مرة بمساعدة صديق بضائقة مرة، ولم يلتفت إليك، وأنكرك وتظاهر بعدم معرفتك؟ فماذا كان شعورك. اعرف في هذا الأناني قلبك الخاص، لأن طريق حياتك مرصوص بالمنسحقين والمساكين، الذين كانوا يرجون عونك فمررت بهم بلا عطف.

أتريد أن يلعنوك أمام الله لقساوة قلبك؟ أتخاف من الجراثيم ولا تزور المرضى؟ أتشمئز من الوساخة فلا تدخل أكواخ اللاجئين؟ هل تكون ذكياً إلى درجة تمنعك عن محادثة الجهلاء، الذين اختارهم الله ليرثوا ملكوته. هل تريد اليوم أن ترتل في جوق كنستك فقط أو تتكلم أيضاً مع أصدقائك عن الله؟ أو ليس لديك وقت تضيعه لإغاثة شخاذ وسخ يطرق بابك. إنك بإهمالك هذا الإنسان المهمل، قد أهملت الله ربك، لأن القدوس المحب والمسكين المرفوض واحد.

أما السامري المحتقر، فصار قدوة العالم ورمزاً للمسيح بالذات. الذي رحم كل الناس، وضمنهم إلى المنتهى ودفع ثمن خلاصنا دمه الثمين. وهكذا علمنا المسيح الجواب على سؤال الكاتب، بتصحيحه سؤاله والإجابة عليه. فليس المهم التساؤل عن الواجبات، التي بها نرضي الله. لأن هذا يكون تساؤل الأناني البارد. إنما المحب يسأل عن الذين يحتاجون لتقديم المساعدة ليسارع إلى مساعدتهم. فالمسيح قد غير معنى السؤال عن القريب تماماً. فليس أحد هو قريبي. ولم يمر بي مروراً عابراً بل تحنن عليّ فخلصني. فنبه كما أحبنا، ونصبح أقرباء لكل الناس.

الصلاة: يا رب اغفر لي معرفة واجباتي، التي تنقصها أعمال المعروف. غيّر قلبي، لأصبح قريباً لكل متضايق. وأسرع إليه، وأعينه، كما تسرع أنت إليّ فتخلصني. املأ قلبي بمحبتك، لكي أحبك وكل الناس في كل حين. وأخدمهم بخدمات عملية.

6 - يسوع في ضيافة مرثا ومريم (10: 38 - 42)

10: 38 وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ دَخَلَ قَرْيَةً، فَقَبِلَتْهُ ٱمْرَأَةٌ ٱسْمُهَا مَرْثَا فِي بَيْتِهَا. 39 وَكَانَتْ لِهٰذِهِ أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَمَ، ٱلَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلامَهُ. 40 وَأَمَّا مَرْثَا فَكَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ، فَوَقَفَتْ وَقَالَتْ: «يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدِمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي!» 41 فَأَجَابَ يَسُوعُ: «مَرْثَا مَرْثَا، أَنْت تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، 42 وَلٰكِنَّ ٱلْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَٱخْتَارَتْ مَرْيَمُ ٱلنَّصِيبَ ٱلصَّالِحَ ٱلَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا».

لقد أرانا المسيح في القراءة السابقة، كيف أن محبتنا لله بدون محبة لأخينا الإنسان باطلة. والآن فإننا نكاد نسمع تقريباً العكس، إن الأعمال الخيرية ضرورية، ولكن الهدوء لسماع كلمة الله أهم منها. فنحتاج إلى أذن منتبهة، لصوت الروح القدس،لنعرف المكان والزمان الذي يلزم فيه مساعدة الإنسان، وأين ومتى ينبغي علينا الهدوء للاستماع إلى كلمة الله. فالمسيح قد أكمل الأمرين تماماً، لأنه شفى وبشر في العالم وظل متصلاً بأبيه على الدوام. كما كتب بولس آنذاك: صلوا بلا انقطاع، حتى ولو أثاء الأعمال اليومية.

ولما دخل يسوع إلى إحدى القرى، تقدم إلى بيت تسكنه أختان مؤمنتان هما أختا لعازر، فانهمكت مرثا بالضيوف الكثيرين وخدمتهم وتحضير العشاء لأجلهم. أما مريم، فجلست مع الضيوف واستمعت لإنجيل المسيح، لأن نفسها جاعت إلى كلمة الله.

فانفجرت مرثا مرتبكة بشغلها الكثير محتجة على الرب ومشتكية على أختها قائلة: كيف تسمح لأختى، أن تجلس كسولة عند قدميك. وأنا أتعب لوحدي، بتحضير الواجبات التي أرهقتني، فأمرها بالاجتهاد والمساعدة، لتنتهي من تأملاتها الخيالية لتخدم معي الحبة عملياً.

فوبخ يسوع مرثا توبيخاً صارماً، وخاطبها: أيتها الأخت أنت تشرفين على خطر فقدان الخلاص. لأنك تشتغلين أكثر من اللازم لمنحنا عطاياك الشهية. فاطمئني واسمحي أن أمنحك أنا أولاً البركة والعطايا الروحية أنا الوهاب. وليس الاي أعرف حاجتك. وباتأكيد فإن الجسد الإنساني يحتاج إلى قليل من الاعتناء، ولكن النفس أهم. فأنا الآن حاضر مخلص النفوس. فحددي العمل البيتي، ولا تعملي إلا اللازم الضروري، لكي تكسبي وقتاً للاستماع إلى إنجيل الخلاص والصلاة.

ومريم أيضاً أشرفت على الخطر. إنها سامعة فقط، ولم تعمل شيئاً عدا الصلاة. ورغم ذلك فقد طوبها يسوع، لأنها أدركت أن واحداً هو المهم فقط، يسوع المسيح. كل ما في العالم زائل، حتى أجسادنا الفانية. ولكن الخلاص في المسيح يثبت. لهذا أيها الإنسان، إنك لا تحتاج إولاً إلى بيت وملابس وعمل وصحة ومدرسة، بل إلى يسوع وحده فبدونه تهلك. اطلبوا أولاً مخلص العالم وبره، فيزداد لكم كل احتياجاتكم الأخرى.

ومن الخطأ الواضح، أن نسمي مريم صالحة ومرثا طالحة لأنهما كلتاهما أحبتا يسوع، وأكرمتا الله. وكلتاهما في حاجة إلى تقديس أخلاقهما. فمرثا محتاجة إلى الهدوء للاستماع ومريم محتاجة إلى الدافع للشغل العملي. علماً أن الاستماع إلى كلمة الله،أهم من العمل المتواصل. فأكرم يسوع مرثا خصوصاً في يوحنا 11 حيث نجد في العدد الخامس الأمر الغريب. وكان يسوع يحب مرثا وأختها ولعازر. فنطق باسم مرثا قبل أخويها، لأنها كانت أهم شخصية في البيت. وقد وضعت أعمالها اليومية تحت إنجيل المسيح، مكتسة منه قوة للإيمان، وأعطته في نفسها مكاناً علياً.

فكم تسمع كلمة الله، وكم تطبقها في خدمتك؟

الصلاة: أيها الرب، نشكرك لأنك تأتي إلينا في كلمتك علمنا الاستماع إليك بكل قلوبنا وبكل أنفسنا وبكل عقولنا. امنح قلبنا قوة سماوية، وأجسادنا راحة علوية لننتعش ونستطيع القيام بكل الأعمال الضرورية في إرشاد روحك القدوس.

7 - مبادئ الصلاة (11: 1 - 13)

الأصحاح الحادي عشر: 1 وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ، لَمَّا فَرَغَ، قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلامِيذِهِ: «يَا رَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضاً تَلامِيذَهُ». 2 فَقَالَ لَهُمْ: «مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. 3 خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ، 4 وَٱغْفِرْ لَنَا خَطَيَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا، وَلا تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ».

لا يوجد في العالم بأسره كلمات، تتضمن معاني وقوى وحكماً كثيرة بعبارات قليلة ملخصة، كالصلاة الربانية. فاحفظ هذه الكلمات غيباً، لأن هذه الصلاة الأبوية هي أم كل الصلوات والتمرين الحق للشكر والاعتراف والطلبة والابتهال للآخرين، والمدرسةالعليا لكل الدروس اللاهوتية الحقة. فإن اردت أن تكون ذكياً، فصل الصلاة الربانية بوعي وقصد.

والكلمة الأولى أبانا، هي أهم كلمة في الإنجيل كله، لأن بواسطتها يعلن لنا المسيح من هو الله. فالقدوس ليس يستتر بعيداً عنا، بل هو أبونا. آمن بهذه الكلمة الواحدة، تصبح مسيحياً حقاً. انطق بهذه الكلمة بالإرادة، تصبح ابناً لله. فلقد أشرك المسيح في حقه. ولأجل نعمته ليس عليك أن تخاف الله، بل أن تتقدم إليه بحمد وابتهال.

والطلبة الأولى ليتقدس اسمك، تعني أن الله يتمجد إذ يولد له أولاداً روحانيون كثيرون في أنحاء العالم، لأن الآب ليس أباً حقاً، إلا إن كان عنده أولاد. وأولاده يكرمونه إن سلكوا حسب روح محبته في الحق والاستقامة، كما عاش المسيح، الذي مجد باه دائماً قولاً وعملاً وفكراً.

والطلبة الثانية ليأت ملكوتك تعني أن ممالك هذه الدنيا تزول. ولكن ملكوت أبينا يأتي. فهل أدركت أن ملكوت الله هو ملكوت أبينا، وأن المسيح أخاك، هو الملك الحق؟ صل عاجلاً، لكي يبتدئ ملكوت السلام هذا في محيطك، فتتلاشى الأرواح المضادة للمسح، ويتحقق انتصار سلطانه في تواضع محبتك.

وبالطلبة الثالثة، نطلب بها إجراء مشيئة أبينا على الأرض، كما تتم في السماء كل حين. وهذه الطلبة تحررنا من خوف القدر. لسنا مسيرين بل مخيرين، لأن الله أبونا. وهو لا يريد إلا مباركتنا وتخلصينا وتقديسنا. ونطلب بهذه الطلبة، لأجل إرشادنا إطاعتنا لمشيئة محبته، لكي تتم فينا كاملاً وحولنا أيضاً.

خبزنا كفافنا أعطنا كل يوم. فبعد تمجيد اسم الآب ومجيء ملكوته وتحقيق إرادته الأبوية، يعلمنا المسيح أن نطلب من معطي الأنام خزباً كافياً، لأنفسنا ولأقربائنا، ولكل الناس. كما يتضمن معنى الخبز العمل الضروري، والعمل اللازم، والملابس الكاية، والأفراح الطاهرة، لأن أباك يعتني بك. ولكن اطلبوا أولاً ملكوت الله، فيزاد كل ذلك لكم.

وبعد ذلك نطلب غفران خطايانا كلها. وأكبر خطية لنا، هي عدم الإيمان وقلته والثقة الناقصة بمحبة أبينا. والمحبة الفاترة نحوه، ونحو كل الناس. فقد غفر أبوك السماوي، كل خطاياك على صليب ابنه نهائياً. ولكن بهذه الطلبة، تطلب تحقيق هذا الغفران بواسطة الروح القدس في حياتك. فانتبه للكلمات سابقاً. فبهذا تطلب إلا يغفر لك، إن لم تغفر أنت لغيرك. الله محبة، ويريد الغفران بشرط واحد، أن تصبح محبة أيضاً وتريد السماح لكل الناس.

ولا تدخلنا في تجربة بل نجنا من الشرير. والذي لا شك فيه أن أبانا السماوي لا يدخلنا في تجربة. ولكن إن عارضت دائماً إرشاده، وأحببت خطيتك المفضلة أكثر منه ومن ابنه، فيذرك في طغيانك الأثيم. لأنك أنت مسؤول عن مسيرك. ومن لا يطع ربه يسلمه إلى شهوات قلبه ليهلك نفسه بنفسه. فنطلب من أبينا السماوي بهذه الطلبة، أن يخضعنا لإرشاد روحه، لكيلا نسقط إلى الخطية بسبب عنادنا، ويجد العدو الشرير سلطة فينا. والمسيح يحمينا بدمه. وهو يحررك باسمه، من كل سلطة شريرة، إن التصقت به بالإيمان. فطلب لنفسك ولكل الناس، أن يأتي المسيح قريباً، وينهي سلطة مملكة الشيطان نهائياً، لكي يخلص كل المطيعين في الروح القدس. هل لاحظت الكلمة الأولى والأخيرة في الصلاة الربانية؟ فهي أبانا، والشرير. فحياتك تجري بين هذين الاسمين. فأيهما تتبع؟

الصلاة: أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ. 10 لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. 11 خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا ٱلْيَوْمَ. 12 وَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. 13 وَلا تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ ٱلْمُلْكَ، وَٱلْقُوَّةَ، وَٱلْمَجْدَ، إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ.

11: 5 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «مَنْ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ صَدِيقٌ، وَيَمْضِي إِلَيْهِ نِصْفَ ٱللَّيْلِ وَيَقُولُ لَهُ: يَا صَدِيقُ أَقْرِضْنِي ثَلاثَةَ أَرْغِفَةٍ، 6 لأَنَّ صَدِيقاً لِي جَاءَنِي مِنْ سَفَرٍ، وَلَيْسَ لِي مَا أُقَدّمُ لَهُ. 7 فَيُجِيبَ ذٰلِكَ مِنْ دَاخِلٍ وَيَقُولَ: لا تُزْعِجْنِي! اَلْبَابُ مُغْلَقٌ ٱلآنَ، وَأَوْلادِي مَعِي فِي ٱلْفِرَاشِ. لا أَقْدِرُ أَنْ أَقُومَ وَأُعْطِيَكَ. 8 أَقُولُ لَكُمْ: وَإِنْ كَانَ لا يَقُومُ وَيُعْطِيهِ لِكَونِهِ صَدِيقَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَجْلِ لَجَاجَتِهِ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ. 9 وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ٱسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. 10 لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَن يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. 11 فَمَنْ مِنْكُمْ، وَهُوَ أَبٌ، يَسْأَلُهُ ٱبْنُهُ خُبْزاً، أَفَيُعْطِيهِ حَجَراً؟ أَوْ سَمَكَةً، أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ ٱلسَّمَكَةِ؟ 12 أَوْ إِذَا سَأَلَهُ بَيْضَةً، أَفَيُعْطيهِ عَقْرَباً؟ 13 فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلادَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلآبُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ، يُعْطِي ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ».

علمنا المسيح أن نصلي، لنعرف لمن نصلي، وكيف نصلي إليه، وبم نتكلم في الصلاة، ولأجل من نسأله، واستجابة لصلاتنا. وكل إنسان هو صديقك. وأحياناً تصادف صديقاً مقرباً إليك، وتكتشف أنه جائع إلى المحبة والحق والغفران والحياة الأبدية. ولكنك فير ولا تستطيع أن تغفر لأي إنسان، ولا أن تفتح عينيه لله ومحبته. فتشبه إنساناً ذاهباً إلى جاره، وطالباً منه الخبز بسبب مجيء ضيوف إليه فجأة. فهل تتقدم إلى الله وتطلب منه خبز الحياة لأجل الآخرين؟ أو تطلب لنفسك فقط؟ هل أنت أناني بارد؟ أو أدرت أن الصلاة الربانية، هي صلاة الابتهال لأجل الآخرين، ومفعمة المحبة، وموجهة لأخيك الإنسان؟

وبعض المرات يظهر كأن الله غائب عن الموجودات، أو نائم غير مهتم بك. وحقاً فإن عنده أولاداً كثيرين في راحته السرمدية وفرح مجده. فلا يحتاج إليك، وله اهتمام وأشغال أكثر من صراخك. وهنا يبتدئ الإيمان، وتبين محبتك، ويثبت رجاؤك. اطلب إلى ربك حتى يستمع، وادعه بلجاجة، حتى يستجيب. واطرق بابه، حتى يفتح لك. وإن لم يفتح، فدق بقوة، حتى يقبلك، ويمنحك خبز الحياة لأصدقائك. وهذا الابتهال الشديد هو أساس لاستجابة الله، كما وعد المسيح.

والآيات التي تحوي الوعد المطلق باستجابة الطلبات قليلة في الكتاب المقدس. فاحفطها غيباً، وأدرك معنى كلماتها اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يفتح لكم. فالمسيح يشجعك لتطلب لأجل الآخرين ولنفسك أيضاً البركات. وتؤمن أن الله يستمع لما قول. ويستجيب صراخ قلبك، ويمطر عليك بملء نعمته. فلا تنس أن الله أبوك، ويحبك شخصياً، وينتظر ابتهالاتك. فلكم نعمة قليلة وسلطان ضعيف وبركة ضئيلة لأنكم تطلبون من الرب قليلاً لبعضكم البعض. فالله يستجيب حيثما تتكلم المحبة. ولكن من يصلي بطريق الأنانية، يشبه إنساناً قد طلب رقم تلفون بخطأ. افحص صلواتك، واطلب غفران خطاياك أثناء الصلاة لكي تمتلئ طلباتك بمحبة الله. فتدرك درجات الصلوات وضرورتها المتزايدة. التي يعلمنا إياها الروح القدس: اسألوا، اطلبوا، اقرعوا. فكل واحدة أشد مما قبلها اسأل أباك السماوي النعمة، فيمنحك وأصدقاءك الغفران. واطلب في الكتاب المقدس جوابه فيريك أن الله أبوكم. واقرع باب قلبه بصلاة التوبة حتى يسكب عليكم روح محبته. فهل تصلي كثيراً أو قليلاً؟ وقد قال الرسول بولس عدة مرات، واظبوا على الصلوات، صلو بلا انقطاع، لتمتلئ قلوبكم بروح الصلاة.

وقال المسيح بكلمة صغيرة، إن كل الناس أشرار. فليس لنا حق بالصلاة، واستجابة طلباتنا. والله أكبر من ظلمنا. فيمنحنا ذاته بروحه القدوس. وهذا يفوق عقلنا، ويفجر حدود إدراكنا. فليس الخبز والمال والتوظيف، هو أهداف الروح القدس، التي يريدنا ن نطلبها. بل يرشدنا، لنطلب لبعضنا إنسكابه فينا. فتب وقل: يا رب، أنا الشرير، اغفر لي ذنوبي كرامة لموت المسيح على الصليب، واملأ قلبي المطهر بروحك اللطيف. واستمر في هذه الطلبة فتنال الحياة الأبدية حتماً. ومن يصرخ يا أبي: أخي الإنسان يهلك لأجل كبريائه. وهو شرير، كما كنت أنا. فافتح ذهنه لمجدك، واغفر له خبثه. فمن يطلب بهذه الطريقة ير كيف أن الروح القدس يعمل عمله في الإنسان المقصود بالدعاء. وحيث يستمر المصلين فإن الروح القدس ينزل على التائب، ويخرج منه الروح الشرير، مجدداً ذهن، ومالئه بمحبة الله. فأين صلاتك لأجل حلول الروح القدس في نفسك وصديقك؟

الصلاة: أيها الآب أنت الرحمن، اغفر لي صلواتي الأنانية. وارحم جيراني ليتوبوا كما أنا أطلب منك التوبة. وأؤمن أنك تملأنا بقوة روحك القدوس، ولا نتركك حتى تباركنا.

8 - دفاع المسيح ضد اتهامه بمحالفة الشيطان (11: 14 - 28)

11: 14 وَكَانَ يُخْرِجُ شَيْطَاناً، وَكَانَ ذٰلِكَ أَخْرَسَ. فَلَمَّا أُخْرِجَ ٱلشَّيْطَانُ تَكَلَّمَ ٱلأَخْرَسُ، فَتَعَجَّبَ ٱلْجُمُوعُ. 15 وَأَمَّا قَوْمٌ مِنْهُمْ فَقَالُوا: «بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ ٱشَّيَاطِينَ». 16 وَآخَرُونَ طَلَبُوا مِنْهُ آيَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ يُجَرِّبُونَهُ. 17 فَعَلِمَ أَفْكَارَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: «كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تَخْرَبُ، وَبَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى بَيْتٍ يَسْقُطُ. 18 فَإِنْ كانَ ٱلشَّيْطَانُ أَيْضاً يَنْقَسِمُ عَلَى ذَاتِهِ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟ لأَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنِّي بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ. 19 فَإِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَأَبْنَاؤُكُم بِمَنْ يُخْرِجُونَ؟ لِذٰلِكَ هُمْ يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ. 20 وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُ بِإِصْبِعِ ٱللّٰهِ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ. 21 حِينَمَا يَحْفَظُ ٱلْقَوِيُّ دَارَهُ مُتَسَلِّحاً، تَكُوُن أَمْوَالُهُ فِي أَمَانٍ. 22 وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَإِنَّهُ يَغْلِبُهُ وَيَنْزِعُ سِلاحَهُ ٱلْكَامِلَ ٱلَّذِي ٱتَّكَلَ عَلَيْهِ وَيُوَّزِعُ غَنَائِمَهُ. 23 مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لا يَجْمعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ. 24 مَتَى خَرَجَ ٱلرُّوحُ ٱلنَّجِسُ مِنَ ٱلإِنْسَانِ، يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ يَطْلُبُ رَاحَةً، وَإِذْ لا يَجِدُ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي ٱلَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ 25 فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ مَكْنُوساً مُزَيَّناً. 26 ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذٰلِكَ ٱلإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ!» 27 وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهٰذَ رَفَعَتِ ٱمْرَأَةٌ صَوْتَهَا مِنَ ٱلْجَمْعِ وَقَالَتْ لَهُ: «طُوبَى لِلْبَطْنِ ٱلَّذِي حَمَلَكَ وَٱلثَّدْيَيْنِ ٱللَّذَيْنِ رَضِعْتَهُمَا». 28 أَمَّا هُوَ فَقَالَ: «بَلْ طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلامَ ٱللّٰهِ وَيَحْفَظُوَهُ».

كل من ينكر وجود الشيطان، يجعل يسوع ورسله كاذبين، لأن ربنا أخرج بكلمته أبالسة عديدة. ولما اقترب يسوع من الملبوسين بالأرواح النجسة صرخت بارتعاب: انه ابن الله القدوس.

ولما أنقذ يسوع أحد الملبوسين بروح شرير، استغرب الحضور! ولكن بعضهم جدف، مدعياً أن المسيح متحالف مع رئيس الشياطين، ويخرج باسمه الأبالسة. وسموا هذا الرئيس بعلزبول أي رب الذباب، الذي كأنما له أوراح بعدد ذباب العالم. فشجع الجماهير يسوعليعمل أعجوبة خارقة وغريبة فوق شفاءاته العادية ليجربوا قدرته الإلهية فيمحو اتهامه بالصلة مع الشياطين.

لكن المسيح اخترق أعداؤه بجوابه، وأعلن لهم بعض أسرار جهنم، التي هي بسيطة بمقدار أن عقل الإنسان العادي يقدر أن يفهمها. فلا يقدر شيطان أن يخرج شيطاناً، لأن الأرواح النجسة هم وحدة مرعبة، رغم بغضتهم وطموحهم للاستقلال وقصدهم إبادة الكل.فلا يستطيعون أن يفعلوا ما يشاؤون، بل هم مستعدون «في الشيطان» الذي هو روح السلطان المضاد لله. وهذا الشرير لا ينقسم على ذاته. فهو يحل في أتباعه، ويربطهم في عبودية أزلية، في مملكة هلاكه.

وقد أخرج اليهود في العهد القديم شياطين باسم الرب الإله، لأن الشيطان يهرب إذا اقترب الناس بالله. والشرير يبتعد حيث يكون الإنسان أميناً لربه. فشهد المسيح بقوة المؤمنين البارة في العهد القديم الذين سيدينون منكري المسيح في الدينونة الأخيرة، لأنهم رفضوا آيات قوته الإلهية.

وبعدئذ وصف يسوع كيفية إخراجه الشياطين. فهو يشبه ملك العالمين والسماوات جالساً على عرش مجده، ولا يبذل كلمة واحدة لأجل الشيطان، بل يحرك اصبعه فقط، فتهرب جنود الشر، مهرولين منساقين إلى جهنم ويتركون الملبوسين. فقد استهزأ المسيح بهذا امثل بعدو الله القوي، وأبرز سلطانه المطلق وقدرته الفائقة على إخضاعه. ويحذرنا بنفس الوقت من عدم تقدير قدرة الشيطان، لأنه يشبه جيشاً مسلحاً ومجهزاً بأحدث الطرق، وهو يحرس ثكنته، ويسجن كل من يقترب من رحابه، ويستعبده. وإنه يجرب اليوم ملايين م الناس إلى عدم إيمان بالله وعبادة الأوثان الحديثة وتجديف، ليمتلئوا بروحه الشرير ويصبحوا عبيده كما قال المسيح: من يعمل الخطية فهو عبد للخطية.

ولكن الآن فقد تغير الحال، لأن المسيح أتى لعالمنا وغلب الرئيس الشرير، وجرده من أسلحته: الاستكبار والأنانية والظلم والنجاسة والبغضة والكذب. وحرر عبيده منه. فكل مؤمن بالمسيح هو محرر من سلطة الشيطان ومسلح بأسلحة الروح القدس: المحبة وافرح والسلام والصبر والتواضع والخدمة والإيمان والعفة والحق. وكما يكون أتباع الشيطان وحدة شريرة، هكذا أصبحنا في المسيح وحدة مقدسة. فكل مؤمن به مضمون ومحروس إلى الأبد. هل التجأت إلى المسيح وثبت في مخلصك.

واستطاع اليهود في العهد القديم، أن يخرجوا الشياطين باسم الرب، ولكنهم لم يتغلبوا على الشرير بالذات. ولم يعطوا للمحررين قوة جديدة. فانتعش كل مخلص في جسده وورحه ونفسه، ولكن بعد مدة كان يرجع إليه الروح الشرير، ومعه عصبة من زملائه الشيطين سبعاً. فأهلكوا المسكين أكثر من ذي قبل. ونجد في الأصحاح الثامن، وفي العدد الحادي والعشرين، والتاسع والعشرين أخباراً ذكرها الطبيب لوقا، عن مرض من هذا النوع، الذي حرر المسيح منه المرضى نهائياً. فالمسيح منحنا فداء كاملاً من الشيطان، ويسطيع إلقاء الشياطين إلى جهنم (4: 34 و8: 31) ويثبت روحه القدوس عوضاً عن الأرواح الشريرة في الإنسان. وهكذا تمتلئ أجسادهم بروح الرب، ولا يبقى مكان فارغ للأرواح الغريبة. فهل امتلأت بالروح القدس أو أي روح هو ساكن فيك؟

ووسط هذا الصراع بين الأرواح، طوبت امرأة من المشاهدين مريم العذراء أمه. فلم يرفض المسيح هذا التطويب ولكن أظهر المجد الحق في الذين يسمعون كلام الله الحي، ويحركونه في قلوبهم، ويحفظونه ويعملون به. فلا يغلب الشيطان بمريم بل بيسوع وحده.والمسيح لا يربينا لنتبع أمه، بل لتنعمق في كلماته، لتغيرنا قوتها، وتحررنا من الشيطان، وتقوينا لنغلب الشياطين في محيطنا باسمه.

الصلاة: أيها الرب، أنا ضعيف وشرير. ولكنك أنت المنتصر والقدوس. أحطني وبيتي باسمك، وحررني من كل روح شرير. لتملأني محبتك. ونسجد لك، لأنك غلبت الشيطان على الصليب نهائياً. ونطلب اليك أيها الجالس على عرش المجد، أن تحرك اصبعك لتخرج أفواجاً من الأرواح الشريرة، من الناس في محيطنا. ويمتلئون بروحك القدوس.

9 - يسوع يعارض طلب الآية المعجزة (11: 29 - 36)

11: 29 وَفِيمَا كَانَ ٱلْجُمُوعُ مُزْدَحِمِينَ، ٱبْتَدَأَ يَقُولُ: «هٰذَا ٱلْجِيلُ شِرِّيرٌ. يَطْلُبُ آيَةً، وَلا تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلَّا آيَةُ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ. 30 لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ آيَةً لأَهْلِ نِينَوَى، َذٰلِكَ يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ أَيْضاً لِهٰذَا ٱلْجِيلِ. 31 مَلِكَةُ ٱلتَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي ٱلدِّينِ مَعَ رِجَالِ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَتَدِينُهُمْ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ هٰهُنَا. 32 رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي ٱلدِّينِ مَعَ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هٰهُنَا! 33 لَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ ِرَاجاً وَيَضَعُهُ فِي خُفْيَةٍ، وَلا تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ، لِكَيْ يَنْظُرَ ٱلدَّاخِلُونَ ٱلنُّورَ. 34 سِرَاجُ ٱلْجَسَدِ هُوَ ٱلْعَيْنُ، فَمَتَى كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرً، وَمَتَى كَانَتْ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ يَكُونُ مُظْلِماً. 35 اُنْظُرْ إِذاً لِئَلَّا يَكُونَ ٱلنُّورُ ٱلَّذِي فِيكَ ظُلْمَةً. 36 فَإِنْ كَانَ جَسَدُكَ كُلُّهُ نَيِّراً لَيْسَ فِيهِ جُزْءٌ مُظْلِمٌ، يَكُونُ نَيِّراً كُلُّهُ، كَمَا حِنَمَا يُضِيءُ لَكَ ٱلسِّرَاجُ بِلَمَعَانِهِ».

إن المسيح يسوع هو المنتصر الفريد على الشيطان والموت. ففي حال الضعف البشري اقتيد إلى البرية لكي يجرب من الشيطان، ولكن لم يوافق على التجربة. فغلب الشيطان بضعفه. وسلم المسيح نفسه أيضاً إلى الموت ومات على الصليب حقاً، ولكنه انتزع من اموت السلطة وقام حقاً. فالمسيح في ضعفه أقوى من الشيطان والموت في قوتهما. وقد حاول يسوع أن يفسر هذا المبدأ لأعدائه، ولكنهم لم يفهموه وقلبهم صار مظلماً، فأبغضوا المولود من روح الله.

ورغم هذا فإن المسيح قد جاوب على أسئلتهم، وقال لهم الحق في وجوههم، أنهم أشرار جداً. فهذا يخص الرجال والنساء والأولاد كما الزعماء والأتقياء والسطحيون. كل الناس صاروا أشراراً. فلهذا يبتلعهم الموت، لأن الحاصد القديم واجد حقه في كل خاط. فهذه هي الآية الناصعة للأشرار، أن المسيح قد قام من بين الأموات، مبرهناً بهذا أنه صالح وبدون خطية. والصالح هو الله وحده. فبقيامته من بين الأموات أعطانا المسيح برهاناً لألوهيته وقداسته وقدرته الشاملة.

ولكن القلوب الغليظة قد انتظرت آيات أخرى كإمطار المن في البرية أو سقوط النار من السماء كما فعل إيليا. إنما المسيح بذاته هو آية الله الفريدة. فهل أدركت أن ابن الله هو آية الله لأجلك أيضاً؟

لقد أتت ملكة الجنوب، ولم تر آية من سليمان، ولكنها سمعت حكمته. وسافرت من بعيد، لترى هذا الممسوح من روح الله. فهذه الملكة ستشكتي في الدينونة الأخيرة على اليهود وأتباعهم، الذين لم يؤمنوا بكلمة الله المتجسدة. وسيقوم أيضاً رجال وثنيون ن نينوى، ليرفعوا أصواتهم ضد عدم إيمان الناس في زمن يسوع، لأن النينويين تابوا إلى ربهم بدون عجائب، لما كلمهم الله بفم النبي يونان. ولكننا نحن قد أعطانا القدوس علامة خارقة: المقام من بين الأموات. هل تسجد له وتبشر باسمه؟

المسيح هو نور الله في العالم، ويضيء كل من يأتي إليه وينيره. فهل صرت نوراً أو بقيت ظلاماً؟ أن عينيك تخبران عن حالة نفسك، لأنهما نافذتا داخلك. فغضبك ومحبتك وفرحك وطهارتك، تنعكس في عينيك. فإن كنت إنساناً بسيطاً، تكون عينك مباركة. وإن ركبتك الشهوة والمكر والبغضة، فإن الظلمة تنتشر فيك.

وبعض المرات ينبت من كبار وصغار في المسيح رونق الفرح والقداسة والطهارة، الذي ليس من دينانا، بل صادر من السماء. هذا هو البهاء الآتي من صورة الله المستترة في القديسين. فمن يأت إلى المسيح يتجدد ويظهر فيه عربون مجد الله. فيصبح جسدنا نوراً كما أن ابن الله هو نور. وغفرانه وطهارته طاهران كبرق. فلا يستطيع الإنسان الفاني احتمال هذا المجد الساطع، كما لا تقدر أنت أن تحدق بالشمس. ولكن من هو في المسيح، سيشرق أكثر بهاء من الشمس. لأن المسيح فينا هو رجاء المجد.

فلهذه الغاية العظمى يطلب المسيح منك، أن تفحص النور الذي فيك. هل أنت مظلم أو منير؟ هل يسكن فيك فرح محبة الله، أو أنانية البغضة ورفض الناس؟ هل غفر المسيح لك كل النجاسة والاستكبار والكذب أو تخبئ في بيتك بعض المسروقات؟ هل دفعت ديونك إلى آخر قرش أو تحمل اصر آثامك في ضميرك؟ اطلب إلى المسيح، ليريك كيف تصبح كل حياتك نوراً، لكيلا تظهر في يوم مجيئه مظلماً.

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، قد قمت من بين الأموات، وغلبت الشيطان والموت وكل الظلمة. وتجلس اليوم عن يمين الآب، في المجد. وأنا أعترف بذنوبي أمامك، وأطلب أن تساعدني لإرجاع كل المسروقات، التي في يدي إلى أصحابها، وأرتب حاتي في روحك. طهرني لكي أستنير في نورك إلى الأبد.

10 - موعظة يسوع ضد روح الفريسيين والكتبة (11: 37 - 54)

11: 37 وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ سَأَلَهُ فَرِّيسِيٌّ أَنْ يَتَغَدَّى عِنْدَهُ، فَدَخَلَ وَاتَّكَأَ. 38 وَأَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّ فَلَمَّا رَأَى ذٰلِكَ تَعَجَّبَ أَنَّهُ لَمْ يَغْتَسِلْ أَّوَلاً قَبْلَ ٱلْغَدَاءِ. 39 فَقَالَ لَهُ ٱرَّبُّ: «أَنْتُمُ ٱلآنَ أَيُّهَا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ تُنَقُّونَ خَارِجَ ٱلْكَأْسِ وَٱلْقَصْعَةِ، وَأَمَّا بَاطِنُكُمْ فَمَمْلُوءٌ ٱخْتِطَافاً وَخُبْثاً. 40 يَا أَغْبِيَاءُ، أَلَيْسَ ٱلَّذِي صَنَعَ ٱلْخَارِجَ صَنَعَ ٱلدَّاخِلَ أَيضاً؟ 41 بَلْ أَعْطُوا مَا عِنْدَكُمْ صَدَقَةً، فَهُوَذَا كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ نَقِيّاً لَكُمْ. 42 وَلٰكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ ٱلنَّعْنَعَ وَٱلسَّذَابَ وَكُلَّ بَقْلٍ، وَتَتَجَاوَزُونَ عَنِ ٱلْحَقِّ وَمَحَبَّةِ ٱللّٰهِ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هٰذِهِ وَلا تَتْرُكُوا تِلْكَ! 43 وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ تُحِبُّونَ ٱلْمَجْلِسَ ٱلأَّوَلَ فِي ٱلْمَجَامِعِ، وَٱلتَّحِيَّاتِ فِي ٱْأَسْوَاقِ. 44 وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ مِثْلُ ٱلْقُبُورِ ٱلْمُخْتَفِيَةِ، وَٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَيْهَا لا يَعْلَمُونَ!».

لم يمنع المسيح الناس من النظافة، ولكنه مانع الاعتقاد بأن الاغتسال هو الذي يطهر الإنسان، كما ظن الأتقياء آنذاك، إنهم يعضدون عبادتهم بهذه الغسلات. فقال المسيح للفريسيين: أنتم تغرون أنفسكم أيها الجهلاء، إذ تظنون حفاظكم على الناموس بطوس خارجية. إنما يظل قلبكم مفعم الشحناء والبخل والحسد والشر والنجاسة. ادركوا مراءاتكم وتغيروا في ذهنكم. واطلبوا من ربكم الاستنارة، لأنه يعرفكم خارجاً وداخلاً. واخجلوا لحالة قلوبكم ليغلبكم نور الرب. وارجعوا كل ما سرقتموه من الناس إلى أصحاه واقتسموا الربح مع الفقراء. وليس العشر الذي تضحون به يخلصكم بل الإنجيل وحده، الذي يعلمكم الحنان للمحتاجين.

وكلما غيرت قوة الله قلبنا، فإنه يظهر في محبة عظيمة، وعندئذ لا تضحون بالعشر فقط، بل حياتكم كلها تصير قرباناً، كما ضحى المسيح بذاته لأجلنا. فكيف تظهر تضحيتك؟

فاعلم أيها الأخ، أن المسيح لا يكتفي بالعشر منك، بل يريد أن يقدس حياتك كلها ذبيح حمد. فكل أفكارك وشهاداتك العلمية وأعمالك الشهيرة لا تنفعك فتيلاً، إن أبغضت إنساناً ما. حينئذ يعصي قلبك، فتمنع قوة محبة الله. اغفر لخصمك عاجلاً تماماً،وسامحه وأحبه وضح لأجله ولكل الناس مهما استطعت. عش في سبيل المسيح الذي هو ذبيحة الله، وقد فدى العالم بموته. وهكذا تكافح من أجل الحق بصلواتك. وتطهر الجو في مهنتك بكلماتك النقية. ولا تكافح بقبضة يدك شاتماً لاعناً، بل بتواضعك واقتراحاتك العلية، وصبرك المتواضع. انشر معرفة المسيح، الذي هو الحق المتجسد، فيعرف أصدقاؤك خطاياهم في بره. وينالون تقديسهم في روحه. فالتعمق في المسيح وحده، يخلصك أنت وشعبك.

لقد شاهدنا صبياً يقف أمام المرآة متطلعاً لدقائق معدودات في صورته المنطبعة عليها. فأحب نفسه ولم ير خطاياه، لأنه كان مغروراً بذاته. وهكذا يتباهى الناس في الشوارع كالطواويس. وينتفشون إذا رأوا أسماءهم في الجرائد. وتبرق عيونهم إن حصلواعلى دعوة إلى وليمة، أو إن فازوا في مباراة رياضية، أو إن أكرموا وأجلسوا في الصفوف الأولى أثناء الاحتفالات. ويحييون في الطرق الناس بأبهة، ويودون أن يحييهم الناس وينحنون لهم. ينتظرون رسائل كثيرة تصلهم من المعجبين بهم. وينتفخون في داخلهم ولنهم يتظاهرون بوجوه متواضعة كذباً ورياء. إنهم قردة الشيطان الذي استكبر فسقط من السماء. طوبى لك إن لم تغتر بنفسك وتتخيل أنك مهم وبارز وصالح. كلنا طالحون. انظر إلى مجد الله، لكيلا تجهل حق ملكوته.

وكانت تحسب نجاسة في السابق إن لمست قدم إنسان قبراً من القبور. ولكن بعضها نما عليه الحشيش فغطاه، ولم يعد يعرف، أنه كان قبراً. فمن داسه جهلاً حسب نجساً لجمعة كاملة، وكان عليه أن يتطهر أمام الله. ولم يسم المسيح أتقياء عصره نجسين فقط تجاوزهم بعض الوصايا، بل سبباً لتنجيس الآخرين كقبور مخيفة. فمن الخارج كان الفريسيون كقديسين، ولكن قلوبهم أفعمت موتاً وحيلة وكذباً وبغضاء واشتهاء. وبهذا الروح عدوا الآخرين، ونشروا مرض الموت الروحي بثوب التقوى الظاهرية.

وهذا كان الجزء الأول من القول، الذي فاه به المسيح إلى مضيفه أثناء الوليمة. فهل تعتبر هذا غير لائق، إن ابن الله أحب أعداءه بمقدار، إن قال لهم الحق ظاهراً أمامهم ليخلصهم؟ فهل تداهي أعداءك وأصدقاءك، أو تساعدهم بموسى الحق؟

الصلاة: يا رب، أنا مفعم الدعارة والاستكبار والحيلة. أنا مرائي فأطلب إليك أن تميت قلبي الشرير. وتخرج مني الروح المرائي الخداع لكي أمتلئ بمحبتك وبرك على أساس نعمتك، وأضحي بأموالي، وأقدم كل حياتي قرباناً لك وللآخرين.

11: 45 فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِيِّينَ: «يَا مُعَلِّمُ، حِينَ تَقُولُ هٰذَا تَشْتِمُنَا نَحْنُ أَيْضاً». 46 فَقَالَ: «وَوَيْلٌ لَكُمْ أَنْتُمْ أَيُّهَا ٱلنَّامُوسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ تُحَمِّلُونَ ٱلنَّاسَ أَحْمَالاً عَسِرَةَ ٱلْحَمْلِ وَأَنْتُمْ لا تَمَسُّونَ ٱلأَحْمَالَ بِإِحْدَى أَصَابِعِكُمْ. 47 وَيْلٌ لَكُمْ، لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ ٱلأَنْبِيَاءِ، وَآبَاؤُكُمْ قَتَلُوهُمْ. 48 إِذاً تَشْهَدُونَ وَتَرْضَوْنَ بِأَعْمَالِ آبَائِكُمْ، لِأنَّهُمْ هُمْ قَتَلُوهُمْ وَأَنْتُمْ تَبْنُونَ قُبُورَهُمْ. 49 لِذٰلِكَ أَيْضاً قَالَتْ حِكْمَةُ ٱللّٰهِ: إِنِّي أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلاً، فَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ وَيَطْرُدُونَ - 50 لِكَيْ يُطْلَبَ مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ دَمُ جَمِيعِ ٱلأَنْبِيَاءِ ٱلْمُهْرَقُ مُنْذُ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ، 51 مِنْ دَمِ هَابِيلَ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا ٱلَّذِي أُهْلِكَ بَيْنَ ٱلْمَذْبَحِ وَٱلْبَيْتِ. نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُطْلَبُ مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ! 52 ويْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّامُوسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ مِفْتَاحَ ٱلْمَعْرِفَةِ. مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ، وَٱلدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ». 53 وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ بِهٰذَا ٱبْتَدَأَ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ يَحنَقُونَ جِدّاً، وَيُصَادِرُونَهُ عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، 54 وَهُمْ يُرَاقِبُونَهُ طَالِبِينَ أَنْ يَصْطَادُوا شَيْئاً مِنْ فَمِهِ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ.

أتبشر بالإنجيل أو الناموس؟ فمن يقدم الإنجيل للمساكين يقول لهم: الله يحبكم، والمسيح يخلصكم، وروحه يقدسكم. فيشهد المبشر بذلك بعمل قوة الله الفعالة. ولكن من يناد بالناموس يوبخ مستمعيه بالقول: عليكم أن تصلوا، ويجب أن تؤمنوا. ومطلوب إلكم أن تقدموا التضحية، أكرم والديك، وعش طاهراً. وإن لم تتم الواجبات تسقط إلى جهنم. فويل للناموسيين الذي يعلمون الوصايا فقط ولا يعرفون قوة الله المخلصة البتة، فهم يسارعون إلى أسفل سافلين، لأنهم لا يحفظون ما يطلبونه من الآخرين. فكلنا لذلك خطاة، محتاجين إلى نعمة الله.

فالناموس يقود الخطاة إلى التوبة وانكسار النفس. أما المتجدد فإنه يحصل على الروح القدس، الذي هو القوة الإلهية، لحفظ الوصايا. فالناموس ليس مرآة الخطاة فقط، بل دافعنا إلى التقديس أيضاً.

فهل تطلب أيها الأخ من الناس شيئاً لا تعمله أنت نفسك؟ أو هل تقدم لمستمعيك بجانب كرازة الناموس التبشير بقوة الله، الغالبة الخطايا والآثام، هل تشبه القاضي الصارم أو المخلص الحنون؟

والمتعصبون للناموس ينضمون إلى أرومة القتلة، لأن آباءهم اضطهدوا الأتقياء المنادين بالتوبة، ورجموهم بالحجارة. هكذا حصل مع هابيل (تكوين 4: 8-10) والنبي زكريا (أخبار الأيام الثاني 24: 20-22). وبما أن التكوين هو الكتاب الأول من التوراة، قد حسب سفر أخبار الأيام الثاني أنه خاتمة التوراة. وهذان الدليلان في قول المسيح يعنيان، أن ثورة المتدينين ضد روح الله بلباس التقوى المرائية الغيورة هي إحدى الصفات البارزة للمتدينين في كل العهد القديم. فتصور معنى هذا القول من فم المسيح أمم الكتبة الخبراء المتصنعين: أباؤكم كانوا قتلة، وأنتم دافنوا القتلى، لأنكم تكملون جرائمهم في روح العصيان، ولا تبشرون برحمة أو توبة، بل تضطهدون الأنبياء والرسل الصادقين، الذي يبشرون بروح الله والمحبة. إنكم تشعرون بضعفكم أمام قوتهم، ولكن لجل روحكم المغرور المتضلع بمعرفة الكتاب المقدس تسقط عليكم دينونة الله المؤجلة مرة واحدة، وبدون إشفاق.

واخترق المسيح معرفة أولئك المتعلمين التوراة، الذين استنبطوا من الأحرف معاني كثيرة، ولووا المعاني الأصلية في الكلمات، وما عرفوا الله بالحقيقة. وما سمحوا للجماهير أن يفتشوا بحرية في الكتب القديمة. بل احتفظوا بحق التفسير لأنفسهم وتخيوا أنهم أعظم من العامة. ولكنهم كانوا قد فقدوا مفتاح معرفة الله من قبل، ولم يقدروا أن يدخلوا إلى رحاب حكمة الله لأجل تدينهم، وفوق ذلك منعوا كل الناس، أن يتقدموا تلقائياً إلى الله. وهذا ظهر بأوضح بيان في رفضهم المسيح، الذي هو الطريق والحق والحياة. إنهم عمي عن ألوهيته، رغم أنهم عرفوا نبوات العهد القديم غيباً. وبزيادة على ذلك حرضوا الشعب، ومنعوه من أن يتبع المسيح، وسموه مضلاً ونبياً كذاباً. وضلوا ضلالاً كبيراً.

ويل لنا، إن لم نقدم إلى الناس المسيح الطريق الوحيد إلى الله. والحق الكاشف خطايانا. والبر الواضح لتعزيتنا. والقوة للحياة الأبدية. والويل إن قدمنا آراء شخصية وسياسية بشرية، وعلوماً تكنيكية وفلسفات سرابية مضلة، وعدنا إلى صوت النواميس والوصايا الثقيلة. وويل لنا إن لم نشهد بمجيء المسيح القريب وبإتيان المسيح الكذاب قبله، الذي سيضل كل الناس الذين لا يرتقبون المسيح مخلصهم بمحبة إلهية. فهل اختبرت قوة الله؟ وهل اهتديت وولدت ثانية؟ هل انكسرت كبرياؤك؟ وهل انتهى عصيان استقلال بواسطة إيمانك بالله. إننا نشهد لك بالمسيح مخلصاً وقاضياً، فلا تمرنّ عنه أبداً.

وجرب الأتقياء يسوع في زمنه، ليسقطوه في شبكة نواميسهم ولكن اليوم يدعو المسيح خاصة الأتقياء والمتعمقين في الكتاب المقدس، ليتوبوا لكيلا يفتكروا أنهم أفضل من الآخرين، إلا بالنعمة المعطاة لهم من المسيح يومياً.

الصلاة: يا رب، إنني أعلّم الكتاب المقدس للآخرين، وحقاً إنني غبي، ولا أفهم ناموسك كاملاً، ولا طرقك. غيّر قلبي وذهني، واملأني بمحبتك، لكيلا أضل أحداً. بل أقود كل الناس إليك، أنت الحق، ذو المجد العظيم. فيتوبوا وينالوا باليمان الغفران والحياة الأبدية.

11 - تحذير المسيح لتلاميذه (12: 1 - 11)

الأصحاح الثاني عشر: 1 وَفِي أَثْنَاءِ ذٰلِكَ إِذِ ٱجْتَمَعَ رَبَوَاتُ ٱلشَّعْبِ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يَدُوسُ بَعْضاً، ٱبْتَدَأَ يَقُولُ لِتَلامِيذِهِ: أَّوَلاً تَحَرَّزُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَمِيرِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ ٱلَّذِي هُوَ ٱلرِّيَاءُ، 2 فَلَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ، وَلا خَفِيٌّ لَنْ يُعْرَفَ. 3 لِذٰلِكَ كُلُّ مَا قُلْتُمُوهُ فِي ٱلظُّلْمَةِ يُسْمَعُ فِي ٱلنُّورِ، وَمَا كَلَّمْتُمْ بِهِ ٱلأُذُنَ فِي ٱلْمَخَادِعِ يُنَادَى بِهِ َلَى ٱلسُّطُوحِ.

الكذب خطية شنيعة والرياء ابنتها البكر. وإن فكر الإنسان بشيء في قلبه أو علمه ويتكلم بنفس الوقت بخلافه، وتظاهر بلطف وحنان تجاه خصمه، الذي يقصد إهلاكه، فقد ارتكب خطية الخطايا. وإن تظاهر إنسان تجاه الله بالغيرة على وصاياه وظهر بقداسة فتعلة، وبقي في داخله نجساً محتالاً محباً للمال، فإنه يسقط في دينونة الله حتماً. وعلى المؤمن أيضاً أن يحترز من الرياء، لكيلا يؤمن بقلبه وينكر ربه بفمه، قائلاً كبطرس في تجربته: لا أعرف هذا الإنسان البتة.

فحاذر الرياء، لأن كل أفكارك المختومة ووسوساتك المغتابة وأعمالك الشرية ستظهر في اليوم الأخير لا بد، وفي هذه الدنيا أحياناً. عندئذ تذوب من الخجل، لأنه بجانب كل هذا، يظهر أن رياءك أثر على الآخرين، وأسقطهم كميكروب معدٍ، ويدخل إلى كل ناحي الحياة، كالخميرة في العجين. فالمرائي لا يقتصر ضرره على نفسه فقط، بل يتعدى ذلك إلى الآخرين وكل المجتمع، ويصبح شريكاً في إسقاط الجميع، عكس ظهوره بمظهر الإصلاح والصلاح.

12: 4 وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ يَا أَحِبَّائِي: لا تَخَافُوا مِنَ ٱلَّذِينَ يَقْتُلُونَ ٱلْجَسَدَ، وَبَعْدَ ذٰلِكَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ. 5 بَلْ أُرِيكُمْ مِمَّنْ تَخَافُونَ: خَافُوا مِنَ ٱلَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ، لَهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ. نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ: مِنْ هٰذَا خَافُوا! 6 أَلَيْسَتْ خَمْسَةُ عَصَافِيرَ تُبَاعُ بِفَلْسَيْنِ، وَوَاحِدٌ مِنْهَا لَيْسَ مَنْسِيّاً أَمَامَ ٱللّٰهِ؟ 7 بَلْ شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ أَيْضًا جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ! فَلا تَخَافُوا. أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ! 8 وَأَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَنِ ٱعْتَرَفَ بِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، يَعْتَرِفُ بِهِ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ قُدَّامَ مَلائِكَةِ ٱللّٰهِ. 9 وَمَنْ أَنْكرَنِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، يُنْكَرُ قُدَّامَ مَلائِكَةِ ٱللّٰهِ.

ويكافح المسيح بأكثر شدة ضد روح الرياء بين المؤمنين. فلا تتكلم مع إنسان عن ألوف الأمور حين تقصد إرشاده إلى المسيح، بل اعترف بإيمانك متواضعاً، واشهد بخلاص الله، في إرشاد الروح القدس، لكيلا تظهر أساليبك احتيالاً، فقل لزملائك: المسيح داني وخلصكم أيضاً. اقبلوا هذا او ارفضوه، ولكن الرب حي ويحبكم.

لا تخف من إنسان. وإن خفت منه فانظر إلى الله، الذي هو أكبر من كل مخلوقاته. فليست حياتنا الدنيوية مهمة، بل كياننا في المسيح. فحياتك الأبدية وهي الروح القدس المنسكب في قلبك لا تموت، إن ثبت في الحق. ففضل أن تموت بجسدك على نكران المسيح لأن الدينونة آتية لا ريب فيها. وامتحان اعترافك مقبل عليك. فالمسيح المخلص مستعد أن يعترف بنفسه أخاً ورباً وفادياً لك، ويغطي كل ذنوبك ويمحوها، ولكنه لا يسندك إن أنكرته على الأرض، وسكت عن الإخبار عنه. فشهادتك للمسيح تظهر مقدار محبتك وإيماك.

ولا تنس أن المسيح يتكلم إلى أتباعه لا إلى الملحدين عن السقوط إلى جهنم. فمن يعرف الله، ويخف الناس أكثر منه، يهلك هلاكاً أليماً. فقداسة الله كمبضع الجراح، تقص كل الكذابين من مملكته، وتبيد المرائين من صفوف أتباعه، وتلقيهم إلى جهنم الي ليست خيالاً بل حقيقة. والمسيح يأمرنا بخوف الله، لكيلا نخطئ. وأكثر من ذلك، يأمرنا أن نثق بالله كأولاد لأبيهم. وهو يقبل الذين يعترفون بالمسيح وخلاصه. وأبوك السماوي هو العليم بذات الصدور، ويعرف عدد شعرات رأسك وعدد الشعرات الساقطة منك ساباً، والتي ستسقط لا محالة. والعصافير التي لا قيمة لها، معروفة عنده ومعدودة. فكم بالحري يحبك، ويعتني بك يا قليل الإيمان، إن اعترفت به جهراً، وانسجمت مع إرادته، ليخلص كل الناس، ويقبلون إلى معرفة الحق! اطلب أن تدرك الطرق الحقة في التبشير، ومتنع عن الحماس السطحي. واخدم ربك، في تواضع روحه، لأن يسوع حي، ويرشدك بمحبته.

12: 10 وَكُلُّ مَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ جَدَّفَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ فَلا يُغْفَرُ لَهُ. 11 وَمَتَى قَدَّمُوكُمْ إِلَى ٱلْمَجَامِعِ وَٱلرُّؤَسَاءِ وَٱلسَّلاطِينِ فَلا تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَحْتَجُّونَ أَوْ بِمَا تَقُولُونَ، 12 لأَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ يُعَلِّمُكُمْ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مَا يَجِبُ أَنْ تَقُولُوهُ.

فإذا أنكر المؤمن مخلصه عمداً، وجدف على قوة الروح القدس، بعدما ذاق حلاوة حياته، وشعر بمحبة الله سابقاً، فهناك ينفصل هذا الإنسان عن الله قصداً. فلا غفران له بعد ذلك. كل الأخطاء يمكن أن تغفر، ولكن العصيان العنيد ضد جذب الروح القدس الطيف لا يُغفر، لأن هذا العناد الذي من روح جهنم، يقود غير المؤمن إلى التطرف حتى يجدف على الله أبيه ومخلصه ومعزيه، إلى درجة أنه يريد إبادته. فمن فرّ إلى عدو وتعاون معه ضد الله، يدين نفسه بنفسه.

ولكن من يرد الأمانة لأمانة الله وسط الاضطهاد والتنكيل، يختبر سلطان الروح القدس، الذي يلهم البسطاء شهادة حكمة الله ويجهز المتواضع بقوة المسيح. فالوالي الروماني فيلكس ارتعب من بولس المقيد لما أعلن قدامه انتصار المسيح. والكتاب المقدسيفيض بشهادات رائعة عن مؤمنين بسطاء، كبطرس ويوحنا واستيفانوس، الذين هزوا بشهاداتهم الممسوحة بالروح نخبة أمتهم التي حاكمتهم.

فلست أنت رجلاً خطيراً تقاد إلى الملك أو إلى محكمة الشعب، ولكن مدرستك وعائلتك وورشتك تشبه المجمع المحاكم، الذي يفحص روحك. فاطلب من ربك الروح القدس مسانداً لضعفك، لكي يلهمك بالكلمات الخارقة المبينة على المحبة والحق، لكي تربح بعض رافي المسيح إلى خلاصه، فيؤمنون. فاعلم أنك ممثل المسيح في العالم الشرير، وربك يراقبك. وقوته تثبت فيك. فصل، وتكلم، ولا تصمت. إن ربك هو مسؤول عنك، إن اجتهدت لأجله. فهو يحميك ويرشدك وينصرك نصراً منعماً.

الصلاة: يا رب أنت تعرف جبني وضعفي. أعلن مجدك في الإنجيل أمامي، لكي أراك دائماً. وأحبك وأشهد بك، بكل حكمة لكي يخلص كثيرون. ولا يقولون عني، إني مراء خداع بطال في يوم الدين. لأني أخفي نعمتك عنهم. وأشكرك لأنك تعرف كل شعرة من شعراتي،وكل أموري وحاجياتي اليوم.

12- موقفنا تجاه الأمور الدنيوية (12: 13 - 34)

12: 13 وَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْجَمْعِ: «يَا مُعَلِّمُ، قُلْ لأَخِي أَنْ يُقَاسِمَنِي ٱلْمِيرَاثَ». 14 فَقَالَ لَهُ: «يَا إِنْسَانُ، مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِياً أَوْ مُقَسِّماً؟» 15 وَقَالَ لَهُمُ: «ٱنْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ ٱلطَّمَعِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ». 16 وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلاً قَائِلاً: «إِنْسَانٌ غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ كُورَتُهُ، 17 فَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قَائِلاً: مَاذَا أَعْمَلُ،لأَنْ لَيْسَ لِي مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي؟ 18 وَقَالَ: أَعْمَلُ هٰذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ، وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَلَّاتِي وَخَيْرَاتِي، 19 وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ،مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَٱشْرَبِي وَٱفْرَحِي. 20 فَقَالَ لَهُ ٱللّٰهُ: يَا غَبِيُّ، هٰذِهِ ٱللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهٰذِهِ ٱلَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟ 21 هٰكَذَا ٱلَّذِي يَكنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيّاً لِلّٰهِ».

ما أحب المسيح المال والملك. فلا أحد يقدر أن يخدم سيدين. ورأى الرب ببصيرة إلهية، كيف يحكم المال العالم، وإن أكثر الناس عبيد نقودهم. فيتكلون على الأوراق المطبوعة من الحكومات أكثر مما على الله الأزلي. وأعين الرجال والنساء تلمع وأيديه ترتجف قليلاً، إن استلموا أوراقاً مالية كبيرة. فجاذبية المال تجعل كثيرين خطاة. فيبيعون أنفسهم لأجل الرشوة الكبيرة أو الصغيرة، وينكرون إيمانهم لأجل الوظيفة.

فالثمرة المسممة من الالتباس بالمال هي الطمع، إذ يجمع الإنسان كومات ويريد أن يملك أكثر، فلا يكتفي، لأن البخيل يعتبر نفسه دائماً فقيراً ومحتاجاً وخائفاً من الضيق. أما المسيح فيعلمنا العطاء والبذل والتضحية ومحبة الفقراء، عكس الأخذ والحيلة للكسب والبخل الذميم. فاستاء الرب في روحه، لما طلب أحد المستمعين منه، أن يقسم الإرث بينه وبين أخيه. فقد علم المسيح سابقاً: أن أخذ أحد منك الثوب فاعطه القميص أيضاً وإن سرقك أحد فاعطه فوق ذلك. وهكذا يمنع المسيح كل اقتسام مال بالجبر، ورفض الرغبة الأنانية لأخذ المال من الآخرين.

الله محبة ولا يعيش لذاته. فلو كان الله بخيلاً، لما عشنا في الحرية بل نكون عبيده. ولكن الخالق يمنح الأشرار والصالحين شمسه وهواءه وماءه وعناصر الأرض، ليعيشوا من بركاته، ويتعلموا أن يعطوا من رحمته إلى الآخرين بالغنى. فهل أدركت المبدأ في مشيئة الله، إنه يريد الهبة والبركة والعطاء والامتلاء بخيراته لكل المخلوقات، لكي نتعلم نحن أيضاً العطاء والهبة والبركة من ملئه لكل الناس؟

وكان هناك رجل مجتهد ماهر وخبير في مهنته، ولكن طموحه إلى التقدم جعله أنانياً جافاً. فلم يفكر أخيراً إلا بثماره ومخازنه ونفسه وغناه. ونسي التفكير بالله والناس الآخرين. وهكذا أصبح اسير تخطيطه وعبد ممتلكاته. فاقرأ في مثل المسيح، كم مرة تكلم الغني الغبي بصيغة «أنا». إنه يتكلم سبع عشرة مرة عن ذاته. فيا للعيب الكبير!

وهكذا اشتغل بجهد وحصل على ثمار عظيمة. فهل هذا خطية؟ أو لم يكن الرب هو الذي بارك عليه؟ بلى، ولكنه لم يشكر لربه، بل خطط مستقلاً عنه هادماً المخازن القديمة. ليبني بيوتاً واسعة. لقد كان مدبراً جريئاً قديراً. هل هذا خطية؟ وفرح مسبقاً بمتعه بالنعم المعطاة له، وأراد الاسترخاء من التعب الطويل. هل هذا ظلم؟ لا، لأن الله أرادنا لإخضاع كل الأرض ومخلوقاتها.

ولكن المدير المجتهد والمالك الغني قد نسي الله ونسي جاره الفقير. فلم يمرن نفسه على المحبة، بل ضاعف كل شيء لأجل نفسه. فلهذا سماه الله غبياً، رغم أنه كان موهوباً ومجتهداً. فاحذر! إن العلي شخصياً يسمى كل غني غبياً، إذ يفتقر إلى الحياة والمحبة الإلهية. فكل الشهادات المدرسية والسيارات والأرصدة في البنوك، لا تنفعك شيئاً في ساعة الموت، ولكن محبتك وصلاتك تبقيان إلى الأبد. فارجع إلى الله لكي يغسلك المسيح من خطاياك، ويمنحك الغنى الأزلي، لأنه حيث يخلصك مخلص العالم من شيطان امال، يملأك بروح محبته، وإلا فتبقى أسيراً مسكيناً مضطرباً ماشياً إلى الهلاك.

الصلاة: يا رب اغفر لي عدم المحبة، لك وللناس. وحررني من همومي المالية. نجني من البخل والطمع ومحبة المال. لكي أهدي، كما تهدي أنت، وأعطي ولا آخذ. نشكرك لأن المسيح هو غنى حياتنا. وقد منحت لنا به كل بركات السماء مجاناً.

12: 22 وَقَالَ لِتَلامِيذِهِ: مِنْ أَجْلِ هٰذَا أَقُولُ لَكُمْ: لا تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ، وَلا لِلْجَسَدِ بِمَا تَلْبَسُونَ. 23 اَلْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنَ ٱلطَّعَامِ، وَٱلْجَسَدُ أَفْضَلُ مِنَ ٱللِّبَاس. 24 تَأَمَّلُوا ٱلْغِرْبَانَ: أَنَّهَا لا تَزْرَعُ وَلا تَحْصُدُ، وَلَيْسَ لَهَا مَخْدَعٌ وَلا مَخْزَنٌ، وَٱللّٰهُ يُقِيتُهَا. كَمْ أَنْتُمْ بِٱلْحَرِيِّ أَفْضَلُ مِنَ ٱلطُّيُورِ!

إن أباك السماوي يحبك وكيانه كفالة الاعتناء بك. وقد بذل ابنه لأجلك، وسجلك في سفر الحياة، ويعرف ضعفك وبطلك، فأرسل إليك روحه لتقويتك في الإيمان. فهل تشك بعد في أمانة محبة الله تجاهك؟

فاشكر أباك السماوي، لأجل عنايته الأمينة. وبرهن هذا الشكر بالتغلب على كل همومك. فكثير من الناس يشخصون لشبح البطالة والمرض والموت برعب هالع. ولكن المسيح يأمرك بعدم الهموم، لأجل حضور الآب معك. أشعر بحرية منعشة كالغربان الطائرة، تحت لسماء، ورغم اسوداد لونها تصلها نعمة الله يومياً. وأنت أصبحت أبيض طاهراً بدم المسيح. فآمن بإرشاد الروح القدس حتى في مهنتك ومدرستك وعائلتك. ولا تنس الشكر لأبيك السماوي لأجل حياتك وقوتك الجسدية وعقلك الإنساني سلم أمورك لربك متكلاً عليه بفر، فتعيش مطمئناً محفوظاً.

12: 25 وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا ٱهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ 26 فَإِنْ كُنْتُمْ لا تَقْدِرُونَ وَلا عَلَى ٱلأَصْغَرِ، فَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِٱلْبَوَاقِي؟ 27 تَأَمَّلُوا ٱلّزَنَابِقَ كَيفَ تَنْمُو! لا تَتْعَبُ وَلا تَغْزِلُ، وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلا سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. 28 فَإِنْ كَانَ ٱلْعُشْبُ ٱلَّذِي يُوجَدُ ٱلْيَوْمَ فِي ٱلْحَقْلِ وَيُطْرَحُ غَداً فِي ٱلتَّنُّورِ يُلْبِسُهُ ٱللّٰهُ هٰكَذَا، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَانِ؟

ولربما أنت كبير السن، أو قبيح الشكل، أو قصير القامة، فيأمرك المسيح أن تتأمل شقائق النعمان الحمراء في الحقول. كيف تتوهج كالنار أمام شمس الربيع. فمجد الله ينعكس في كل مخلوقاته. فإن منح الرب لنبتة بسيطة مجداً أعظم مما لسليمان الحكيم لذي اشتهر بالثراء ولبس الثياب الأرجوانية، فهل تظنن أن حياتك عادمة الجمال والمجد؟ انظر إلى عينيك، إنهما مرآة عجيبة. وفكر في صوتك، فإنه لا يوجد حيوان يقدر أن يتكلم مثلك. وهل أدركت أن لك رجلين. وتستطيع التحرك؟ فليس نبتة في الوجود تستطيع ذل. فمجد صورة الله متجل فيك. وإنك لواجد أسباباً للشكر بلا نهاية في نفسك وجسدك وروحك الموهوب لك.

فمن يتعمق في عجائب الطبيعة بواسطة الفيزياء وعلم الأحياء والكيمياء، ويدرك أعجوبة جسدنا البشري، يسجد لله ويشكره للحياة المعطاة لنا والقوة النامية فيها. ويا للعجب، فكل العلماء لا يعرفون، حتى اليوم، سر الحياة، ولا طرق النمو ودوافعه. وكننا نعترف أن الله هو القادر على كل شيء وضابط الكل. فإنك ما قدرت على خلق نفسك، ولا تستطيع أن تسرع بنموك. لهذا يرشدك المسيح إلى الإيمان لتثق بتدخل الله اللطيف في حياتك. إنه يحبك ويهتم بك، فأين إيمانك؟ إن العلي يمنحك القوة، لتجتهد وتعرف طيق إحضار القوت والكسوة. فأين شكرك لأجل القوة المعطاة لك؟

12: 29 فَلا تَطْلُبُوا أَنْتُمْ مَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَشْرَبُونَ وَلا تَقْلَقُوا، 30 فَإِنَّ هٰذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا أُمَمُ ٱلْعَالَمِ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَبُوكُمْ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هٰذِهِ. 31 بَلِ ٱطْلُبُوا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ، وَهٰذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ.

وبيّن المسيح لتلاميذه، أنهم ما قدروا على شيء من خلقهم ونموهم. فأرشدهم إلا يقلقوا لأجل الطعام والشراب. ولا يخافوا من الجوع والحروب، لأن الخوف والقلق رمز الأمم. أما المسيح فحرر أتباعه من اليأس والبؤس. لأنه وجههم إلى الله أبيهم. فيا يها الأخ، تمسك بإعلان المسيح! إن الله أبونا، ونحن أولاده. وأدرك هذه الكلمة، واتكل عليها فيطمئن قلبك. لأن الآباء الدنيويين، إن كانوا يهتمون بأبنائهم دائماً، فكم بالحري يحرسك أبوك السماوي؟! وينتظر ثقتك وصلواتك وشكرك، ويستجيب لك بفيضان محته، ويؤمن مستقبلك، ويبارك أقرباءك. التفت إلى ربك، واترك همومك ومشاكلك، وتعلق بإرادة القدوس، وأرد ما يريده. فتترتب كل حياتك بروحه، وتتحرر وتصبح جميلاً وحكيماً وصالحاً في حضوره. هل تصلي لأبيك؟ إنه يعرف ضيقك قبل ان تنطق به، ولكنه ينتظر طلب وشكرك.

وزيادة على هذا يقول المسيح لك: إن ملكوت الله أتٍ ولا ظلمة فيه. ويومئذ لا يحتقرك أحد، ولا يعذبك، ولا يخدعك، لأن أباك هو مالك هذا الملكوت، وأخاك الملك. فتذوب مشاكلك وتنتهي. انس همومك واهتم بما لأبيك. فيرتب الحنون كل أمورك بلطفه.

الصلاة: أيها الآب، أشكرك وأسجد لك بفرح. لأنك أصبحت لأجل المسيح أبانا الحق. اغفر لي قلة إيماني وعدمه. وقو ثقتي، في صلاحك. واطلب إليك، أن تأتي بملكوتك، في بلدتنا اليوم وفي كل العالم. ليعم الإيمان بخلاصك ويتحرر كثيرون، منهمومهم بواسطة ثقتهم بأبوتك.

12: 32 لا تَخَفْ أَيُّهَا ٱلْقَطِيعُ ٱلصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ ٱلْمَلَكُوتَ. 33 بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا صَدَقَةً. اِعْمَلُوا لَكُمْ أَكْيَاساً لا تَفْنَى وَكَنْزاً لا يَنْفَدُ فِي ٱلسّمَاوَاتِ، حَيْثُ لا يَقْرَبُ سَارِقٌ وَلا يُبْلِي سُوسٌ، 34 لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكُمْ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكُمْ أَيْضاً.

وعلم المسيح تلاميذه الثقة المطلقة بالله. ووعد القطيع الصغير من البسطاء المحتقرين المضطهدين، أن يرثوا ملء ملكوت الله، وأن يحل القدوس فيهم شخصياً. ففي هذا الابتهال الزائد طلب يسوع منهم، أن يستغنوا عن تمسكهم بالأملاك الدنيوية، ويعطوا صدقة وعوناً للفقراء بطرق حكيمة. فالله هو مكافأتهم وكنزهم ومستقبلهم. فيقدرون أن يتحرروا من الضمانات الدنيوية، ويتعلموا العطاء والمنح والهبة بصدر واسع، حسب مقاصد الله، تابعين لابنه، مصدر الكرم والعطاء والهبات السنية.

فمن يحتقر مُلكه الدنيوي، ويشرك فيه المحتاجين، ينسجم مع الله، الذي منحنا في ابنه نحن المجرمين، كل ما عنده. وهو يريد أن يثبتنا في محبته، لكيلا نسقط إلى الأبد. وفي رحاب المسيح الروحية لا يوجد صدأ أو لصوص أو ميكروبات أو أي نوع من فساد بل يعم الحق والأمانة والإخلاص. فأين كنزك؟ أعلى الأرض أم في السماء حيث المسيح؟ فإن تخيلت أموراً دنيوية، فستزول كهذا العالم، وتحترق في النار. وإن تأملت في السماويات تثبت إلى الأبد، كما أن ربك هو أزلي.

13 - الدعوة لأخذ الحذر والاستعداد لمجيء المسيح ثانية (12: 35 - 48)

12: 35 لِتَكُنْ أَحْقَاؤُكُمْ مُمَنْطَقَةً وَسُرُجُكُمْ مُوقَدَةً، 36 وَأَنْتُمْ مِثْلُ أُنَاسٍ يَنْتَظِرُونَ سَيِّدَهُمْ مَتَى يَرْجِعُ مِنَ ٱلْعُرْسِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقَرَعَ يَفْتَحُونَ لَهُ لِلْوَقْتِ. 37 طُوبَى لأُولَئِكَ ٱلْعَبِيدِ ٱلَّذِينَ إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُمْ يَجِدُهُمْ سَاهِرِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدِمُهُمْ. 38 وَإِنْ أَتَى فِي ٱلْهَزِيعِ ٱلثَّانِي أَوْ أَتَى فِي ٱلْهَزِيعِ ٱلثّالِثِ وَوَجَدَهُمْ هٰكَذَا، فَطُوبَى لأُولَئِكَ ٱلْعَبِيدِ.

يأتي المسيح قريباً. فهل تنتظره بشوق؟ والشياطين تعلم أن هذه الحادثة المقبلة عليهم، لا بد واقعة، فيرتجفون. والسطحيون من الناس، يؤخذون بمظاهر التكنيك والتقدم الدنيوي والاختراعات الفانية، ويبتعدون عن الله رويداً رويداً وينسونه، وضميره يتخدر، وخطاياهم النجسة تكون شعار حياتهم.

طوبى للإنسان الذي ينتظر مجيء ابن الله. ويسهر واعياً في عشية زمننا. ويخدم كل الناس كعبد للمسيح، ويلبي أوامر روحه بسرعة. فهذا العبد الأمين يشبه الخادم، الذي يوقد في الليل سراجاً، وينتظر حتى يأتي ربه. ليضيء له في دخوله المبارك. والخام الحكيم، يعرف أن ربه لا يأتي بمفرده، بل يجلب عروسه معه. فيريد أن ينير طريقها إلى البيت، ويرحب بها بتهلل.

ومن ينتظر مجيء المسيح بهذه الطريقة، يقطع المسيح له وعداً، هو من أعظم الوعود في الكتاب المقدس. فكل عبيد المسيح الذين يخدمونه وعروسه الكنيسة بإخلاص، ويهيئون طريقه بخدمات تواضعهم، يطلب إليهم المسيح عند مجيئه، إن يجلسوا ويرتاحوا ويتعشا. والعريس نفسه، هو يخدمهم، ويلبس لباس الخادم. فهل تدرك، ما يقول ابن الله بك؟ أنه عريس وخادم بنفس الوقت. فإلهنا محبة، وليس دكتاتوراً. وقد بذل حياته على الصليب لأجلنا، ويكمل خدمته في السماء. فيا أيها الإنسان، ارتم إلى الغبار. وأهلك كبرياك وكن رأساً خادماً كالله. فأنت لست شيئاً إلا كخادم.

12: 39 وَإِنَّمَا ٱعْلَمُوا هٰذَا: أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ رَبُّ ٱلْبَيْتِ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ يَأْتِي ٱلسَّارِقُ لَسَهِرَ، وَلَمْ يَدَعْ بَيْتَهُ يُنْقَبُ. 40 فَكُونُوا أَنْتُمْ إِذاً مُسْتَعِدِّينَ، لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لا تَظُنُونَ يَأْتِي ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ.

يعلم المسيح تلاميذه اليقظة والوعي الكامل في حالة الضعف والنعس. ويعدهم لمجيئه بمثل آخر. فقال إنه يأتي هادئاً، وغير منتظر كلص في الليل. ليس في الهزيع الأول، ولا في الرابع، بل حوالي منتصف الليل، حين يغط الناس في نومهم الثقيل. عندئذ في منتصف ليل تاريخ البشر يأتي المسيح فجأة، هادئاً لا مستعجلاً ولا متأخراً. فلهذا علينا، أن نرقبه بشوق. والروح القدس هو الذي يهيئنا لهذا الانتظار.

12: 41 فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «يَا رَبُّ، أَلَنَا تَقُولُ هٰذَا ٱلْمَثَلَ أَمْ لِلْجَمِيعِ أَيْضاً؟» 42 فَقَالَ ٱلرَّبُّ: فَمَنْ هُوَ ٱلْوَكِيلُ ٱلأَمِينُ ٱلْحَكِيمُ ٱلَّذِي يُقِيمُهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُم ٱلْعُلُوفَةَ فِي حِينِهَا؟ 43 طُوبَى لِذٰلِكَ ٱلْعَبْدِ ٱلَّذِي إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُ يَجِدُهُ يَفْعَلُ هٰكَذَا! 44 بِٱلْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَمْوَالِهِ. 45 وَلٰكِنْ إِنْ قَالَ ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ فِ قَلْبِهِ: سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ فَيَبْتَدِئُ يَضْرِبُ ٱلْغِلْمَانَ وَٱلْجَوَارِيَ، وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَسْكَرُ. 46 يَأْتِي سَيِّدُ ذٰلِكَ ٱلْعَبْدِ فِي يَوْمٍ لا يَنْتَظِرُهُ وَفِي سَاعَةٍ لا يَعْرِفُهَا، فَيَقْطَعُهُ ويَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ ٱلْخَائِنِينَ. 47 وَأَمَّا ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلا يَسْتَعِدُّ وَلا يَفْعَلُ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ، فَيُضْرَبُ كَثِيراً. 48 وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي لا يَعْلَمُ، وَيَفْعَلُ مَا َيسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ، يُضْرَبُ قَلِيلاً. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيراً يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيراً يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ.

ويعطينا المسيح مثلاً آخر لمجيئه. فهل أنت مولى لله مسؤول أن تعطي الآخرين أغذية روحية؟ وهل تستخرج من صندوق كلمة الله ملء القوت لمستمعيك؟ وهل تصلي بأمانة لأجلهم؟ إن ربك يطوبك، وإن فعلت هذا. وعندئذ يزيد مواهبك، ويضع سلطانه بين يديك، إن ثبت بأمانته في الأشياء الصغيرة.

ولكن ويل لك، إن عشت لذاتك، ولم تهتم بالذين أنت مسؤول عنهم، وتخدر شرفك، وتشرب سم السياسة، ودخان الفلسفة. وتنسى شعبك، ولا تقدم له جسد المسيح خبزاً ودمه خمراً للحياة الأبدية. فعندئذ يدينك ربك في يوم مجيئه، ويقطعك في الأبدية فستضطرب اطراباً دائماً وتجد نفسك في ظلماتك الدامسة.

ويل لكل مؤمن يعلم مشيئة ربه ولا ينفذها. فأنا وأنت نمثل هذا العبد الباطل. وسنحصل على ضربات أليمة في يوم الدين إلا إذا تبنا وانكسرنا لاكتفائنا، وسألنا يسوع بالدموع، ماذا يريد أن نعمل اليوم. قائلين: أعطني القوة لأنفذ إرادتك سريعاً. وند ذلك يغفر لنا ذنوبنا، ويؤهلنا من جديد للخدمة الفعالة.

وإن لم تعرف شيئاً عن خلاص المسيح ومجيئه الأكيد، ولم تخدم أخاك الإنسان في المحبة، فإن عقوبتك تكون أكيدة، لأن الله محبة، ومحبته سبب الحكم عليك. ولكن دينونتك، أقل من دينونة المؤمنين، الذين صاروا عثرة لإخوتكم.

لا تطمح إلى مواهب كبرى لأن حسابك كبير. كن أميناً في حالتك الحاضرة، واخدم الرب بكل ما عندك من الصحة والعقل والمال ومعرفة الله، لأن هذه هي المواهب، التي وهبكها ربك. فعليك أن تقدم حساباً عن كل كلمة باطلة، قلتها أو كتبتها. وعن كل قرش وكل دقيقة صرفتها بلا فائدة. فالله أغناك، فكيف تفتدي الوقت؟ وماذا تعمل بقوة عضلاتك لله؟ ألا تقدر استخدام ذكائك في تعليم الجهلاء معرفة الله؟ ألا تريد تضحية مالك لربك، عملياً اليوم؟ الروح القدس يهزك. فمتى تعمل إرادة المسيح، وتعد طريقه؟ فربك آتٍ سريعاً. فهل أنت ساهر واعٍ لاستقباله؟

الصلاة: أيها الرب، أنت أمين وأما أنا فكسلان، وأعيش لنفسي، واخدر بتجارب الدنيا. أيقظني واجعلني واعياً، وممتداً لمجيئك. واملأ قلبي البارد بمحبتك. وطهرني من ذنوبي، وارشدني لتصبح حياتي حمداً وشكراً، مع كل الذين يبتهلون إلي ويمجدونك.

14 - المسيح يلقي ناراً على الأرض (12: 49 - 59)

12: 49 جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى ٱلأَرْضِ، فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ ٱضْطَرَمَتْ؟ 50 وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟

لقد قبلك المسيح، فهل قبلته أنت أيضاً؟ والمسيح احتمل نار غضب الله على الصليب، تلك الصبغة الخارقة الحمراء لحمل الله القدوس. فلأجل آلامه استطاع بعد قيامته أن يلقي نار الروح القدس على الأرض. لقد عمل المسيح كل شيء لأجلك. فماذا أنت عامل لأجله؟ إنه غفر خطاياك، فكيف تشكر فاديك؟ والروح القدس حاضر وعامل في العالم، ويقصد ملء قلبك. فمتى تكرس نفسك لمخلصك وشفيعك الأمين؟ إن نار محبة الله تدخل اليوم إلى قلوب ملايين الناس، وتغلب ذهنهم الأناني لخدمة محبة المسيح. فمتى تدخل إلى صفوف موكب المفديين؟

12: 51 أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاماً عَلَى ٱلأَرْضِ؟ كَلَّا أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ ٱنْقِسَاماً. 52 لأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ ٱلآنَ خَمْسَةٌ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُنْقَسِمِينَ: ثَلاثَةٌ عَلَى ٱثْنَيْنِ وَٱثْنَانِ َلَى ثَلاثَةٍ. 53 يَنْقَسِمُ ٱلأَبُ عَلَى ٱلابْنِ وَٱلابْنُ عَلَى ٱلأَبِ، وَٱلأُمُّ عَلَى ٱلْبِنْتِ وَٱلْبِنْتُ عَلَى ٱلأُمِّ، وَٱلْحَمَاةُ عَلَى كَنَّتِهَا وَٱلْكَنَّةُ عَلَى حَمَاتِهَا.

إن قبول المسيح يسبب أحياناً الخصومات في العائلات، لأن نور الله يكافح ضد الظلمة. والمحبة تعارض البغضة. والحق يكون قاسياً تجاه الكذب. هكذا لا بد أن سلام الله يأتي بالحرب حيث لا يريد الحرب بل السلام. وتواضع المسيح يتألم من تكبر العالم. وحيث يحل الروح القدس، النور السماوي في قلب إنسان، يصبح هذا الإنسان غريباً عن الدنيا وأهلاً لملكوت الله. فالمقدس في المسيح، ليس هو الذي يكافح ضد أقربائه، بل العائلة تبغض الفرد، الذي ولده روح الله ثانية وتؤلمه. ولكن هذه الآلام من أجل السيح تنقي إيمانك. وتصفي محبتك. وتطهر رجاءك، لأن الرب نفسه يقف بجانبك، ويساهم بألمك، ويحمل معك احتقارك وضرباتك. وقد قبلك في عائلة الله، ويعتني بك. وهذا الإيمان لا يعني إلغاء الوصايا العشر، بل نكرم أبانا وأمنا، ونحبهم ونخدمهم، أكثر من ذي قل. ونحيطهم بصلواتنا، كما قالت بنت مؤمنة: إن أبي يحبني لأجل سلوكي الطاهر. ويبغضني لأجل عقيدتي بالمسيح. ولكنه يشتم أخي لأجل سلوكه الفاسد. ويحبه لأجل عقيدته القديمة. فأنا أحذر كل الحذر، لكي أثبت في قداسة الحياة. لكيلا يجد والدايّ سبباً للشكى عليّ. فتصبح محبة المسيح فيّ شهادة إيماني.

12: 54 ثُمَّ قَالَ أَيْضاً لِلْجُمُوعِ: «إِذَا رَأَيْتُمُ ٱلسَّحَابَ تَطْلُعُ مِنَ ٱلْمَغَارِبِ فَلِلْوَقْتِ تَقُولُونَ: إِنَّهُ يَأْتِي مَطَرٌ. فَيَكُونُ هٰكَذَا. 55 وَإِذَا رَأَيْتُمْ رِيحَ ٱلْجَنُوبِ تَهُبُّ تَقُولُونَ: إِنّهُ سَيَكُونُ حَرٌّ. فَيَكُونُ. 56 يَا مُرَاؤُونَ، تَعْرِفُونَ أَنْ تُمَيِّزُوا وَجْهَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاءِ، وَأَمَّا هٰذَا ٱلّزَمَانُ فَكَيْفَ لا تُمَيِّزُونَهُ. 57 وَلِمَاذَا لا تَحْكُمُونَ بِٱلْحَقِّ مِنْ قِبَلِ نُفُوسِكُمْ؟ 8 حِينَمَا تَذْهَبُ مَعَ خَصْمِكَ إِلَى ٱلْحَاكِمِ، ٱبْذُلِ ٱلْجَهْدَ وَأَنْتَ فِي ٱلطَّرِيقِ لِتَتَخَلَّصَ مِنْهُ، لِئَلَّا يَجُرَّكَ إِلَى ٱلْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ ٱلْقَاضِي إِلَى ٱلْحَاكِمِ، فَيُلْقِيَكَ ٱلْحَاكِمُ فِي ٱلسّجْنِ. 59 أَقُولُ لَكَ: لا تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ ٱلْفَلْسَ ٱلأَخِيرَ».

إن ريح الغرب تأتي بالمطر إلى فلسطين بينما ريح الجنوب تسقط عليها الرمال والحر الشديد. وهذا يعرفه ويعلمه كل فرح منذ نعومة أظفاره، ويتصرف بحسبه. ولكن يوحنا لما جاء مع كرازته الحارة للتوبة، وأمطر المسيح على العطاش بمطر الإنجيل، لم تدر الجماهير رموز الوقت، بل بقوا أغبياء متحجرين. ويسميهم المسيح مرائين، لأنهم ركضوا إلى يوحنا وقبلوا المعمودية، ولكن ذهنهم لم يتغير قط. ولم يعيشوا حسب روح الله.

إن هذه العاصفة المقدسة تهب اليوم على أمتنا وعلى كثير من بلدان العالم. فمن يسمح لكلمة الله أن تحرث قلبه، يمطر عليه مطر النعمة، فيأتي بثمر كثير. ولكن من يهمل عصر النعمة، فعليه أن يستعد لدينونة الله بحرها وحسابها. إن علامات الزمن واضحة. فهل تدركها يا أخي؟ فإنك اليوم تعيش في عصر النعمة، ولكن ساعة الدينونة قريبة، فماذا تعمل؟

ويقدم المسيح لك النصيحة الأخيرة قبل مجيء يوم الدين: تخلص من ذنوبك تجاه الله ما دام وقت. هل هناك إنسان تبغضه أو أخطأت إليه؟ فأسرع إليه واصطلح معه، وانحن طالباً الغفران من الناس والله. فقد مات المسيح على الصليب، وغفر ذنوبك، وكمل خلاص العالم. فاقبل فداءك، وعش بإيمانك في المسيح. وابتهج مبتهلاً في انكسارك، لأن الله لا يزال منعماً عليك وعلى كل الذين يطلبونه.

ولكن حيثما تهمل وقت النعمة، تأتي الدينونة عليك كالموت. وخدام الرب سيجلبونك من مخبأك فتظهر عيوبك ظاهرة أمام عرض الله. ولا تبق منك أعمال صالحة أمامه، إلا خطايا، لأن الله هو قدوس. اختر النعمة المطلقة في دم المسيح وروحه، فتنال بر الله وتصبح خاصته. وإن ثبت في إهمالك وعنادك، تجلب على نفسك الهلاك والعذاب وجهنم لأجل رفض النعمة وقساوة قلبك والاستعداد الناقص للمصالحة. تب، وآمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك.

الصلاة: أيها الرب يسوع، نشكرك لإنجيلك ومصالحتك ومحبتك القدوسة. نعظمك لأنك أنت المخلص الوحيد. املأني بروحك لكي أقبل نعمتك كاملاً. وافتح ذاتي لجريان قوتك، فأعيش باسمك. وبارك أقربائي وزملائي فرداً فرداً، لكي يخلصوا معي ويتغيروا في سلوكهم إلى طهارة المحبة والحق المبين. آمين

مسابقة كيف اصطدم يسوع مع الناموسيين الأتقياء؟

إن درست معنا الأصحاح 9-12 من إنجيل لوقا تقدر أن تجاوب بسهولة على 22 سؤالاً من الأسئلة السبعة والعشرين.

  1. ماذا يعني لنا إسكات المسيح للعاصفة الهائجة في البحر؟

  2. كيف عاش الملبوس قبل وبعد التقائه بالمسيح؟

  3. لماذا قال المسيح لأبي الفتاة «لا تخف آمن فقط» رغم أن الموت قد تم في بيته فعلاً؟

  4. كيف أرسل المسيح رسله؟

  5. لماذا صنع يسوع طعاماً لخمسة آلاف شخص فأشبعهم؟

  6. ما هو المسيح الذي كان ينتظره كل فريق من اليهود. ولِمَ كان ينبغي أن يموت المسيح الحق ويقوم؟

  7. كيف يتم انكار النفس؟

  8. لماذا أرى يسوع تلاميذه مجده الأزلي؟

  9. لماذا سمى المسيح التلاميذ والناس جميعاً غير مؤمنين وجيلاً ملتوياً؟

  10. ما هي الأمراض الثلاثة الروحية التي كشفها يسوع في تلاميذه؟

  11. لِمَ انتهر المسيح تلاميذه المختارين؟

  12. ما هي حكمة يسوع في معالجة أتباعه الثلاثة المختلفين؟

  13. لِمَ يأمرك المسيح أن تطلب من الله فعلة لأجل حصاده؟

  14. لماذا تهلل المسيح عند رجوع أنصاره السبعين إليه؟

  15. من هو قريبك؟

  16. لِمَ وبخ يسوع مرثا المجتهدة وحمد لمريم استماعها إليه؟

  17. لماذا يكون اسم الآب أهم كلمة في الصلاة الربانية؟

  18. لماذا تكون أكثرية الصلوات أنانية؟

  19. كيف غلب المسيح ويغلب حتى اليوم الشيطان؟

  20. لِمَ لَمْ يعط المسيح للناس دلالة بارزة إلا آية يونان النبي؟

  21. لِمَ قاصص المسيح مضيفه بهذا المقدار؟

  22. لِمَ دان المسيح خبراء التوراة بشدة قصوى؟

  23. لِمَ يعتبر المسيح عدم الاعتراف باسمه رياء عند المؤمنين؟

  24. لِمَ سمى الله الغني المجتهد المدبر فقيراً غبياً؟

  25. لماذا يأمرنا المسيح بعدم الهموم وما الفرق بين خالي الهموم والاتكالي؟

  26. كيف يأتي المسيح إلى كنيسته. وماذا سيحدث بعدئذ؟

  27. ماذا تعني النار النازلة من السماء وسيف المسيح؟

إن جاوبت على 22 من هذه الأسئلة بدقة وشرح واف نرسل لك الكتاب الذي تختاره من قائمة مطبوعاتنا المرفقة مع هذا الكتاب. ونرجو أن تكون المسابقات التي ترسلها إلينا مستقلة دون أن تضع فيها أي خطاب أو ملاحظات أو أسئلة أو أشياء أخرى.

15 - نداءات المسيح للتوبة (13: 1 - 9)

الأصحاح الثالث عشر: 1 وَكَانَ حَاضِراً فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ قَوْمٌ يُخْبِرُونَهُ عَنِ ٱلْجَلِيلِيِّينَ ٱلَّذِينَ خَلَطَ بِيلاطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ. 2 فَقَالَ يَسُوعُ لَهُمْ: «أَتَظُنُّونَ أَنَّ هٰؤُلاءِ ٱلْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ ٱلْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هٰذَا؟ 3 كَلَّا أَقُولُ لَكُمْ. بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذٰلِكَ تَهْلِكُونَ. 4 أَوْ أُولٰئِكَ ٱلثَّمَانِيَةَ عَشَرَ ٱلَّذِينَ سَقَطَ عَلَيْهِمُ ٱلْبرْجُ فِي سِلْوَامَ وَقَتَلَهُمْ، أَتَظُنُّونَ أَنَّ هٰؤُلاءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ ٱلسَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ 5 كَلَّا أَقُولُ لَكُمْ! بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذٰلِكَ تَهْلِكُونَ».

هل تقرأ الجرائد وتذعر من اصطدامات وتحطم السيارات والكوارث والحروب والفضائح؟ فاعلم أن كل أوان تحدث فيه حوادث. وللعجب لم يحدث يسوع عن ذنب مسببي الضيقات عالماً أن كل فاعل شر تصيبه عقوبة الله العادلة، وحتى الملوك والولاة والزعماء كبيلطس البنطي الذي استهزأ بالشعب وداس شعورهم المقدس، وأهان الله، ضاحكاً على ذبيحة الكفارة. فعلم يسوع أن الظلم لا يبقى بلا جزاء.

وقد أرشد المسيح مستمعيه إلى التفكير: لماذا حصلت الكارثة لعدد قليل وأشخاص معينين فقط؟ فلا بد أنهم مستحقون الموت، لأن كل إنسان محكوم عليه بالمرض والضيق والوفاة لأجل خطاياه الشنيعة. فليس لنا حق بالبقاء ولا بالفرح، بل نحن متدرجون نحو دينونة الله الهالكة مرغمين. ولا تخادعن نفسك عن حالتك السيئة، لأنه ليس إنسان باراً أو صالحاً، الكل يعيشون بدون الله، فاسدين بأفكارهم وتصرفاتهم. أنت وأنا، مستحقون الموت في هذه اللحظة. هذه هي الحقيقة الواضحة، وليس غيرها حقيقة.

وأبرز يسوع أن الذين قتلوا بالحادث، لم يكونوا مجرمين أكثر من غيرهم، رغم إثباته أن قصاصهم أتى من الله مباشرة. فلا يحدث شيء على كرتنا الأرضية بدون إرادته الإلهية. وتاريخ البشر هو غالباً تاريخ غضب الله.

وقد أكد المسيح لنا أنه ليس من فرق بين خطاة كبار وخطاة أقل خطأ، بين الأتقياء والأشرار، بين الأبرار والكفار. أمام الله كل إنسان رجس في طبيعته، لأن قلبه مفعم بالأفكار الشريرة. والنجاسة الكامنة في ذهنك، محسوبة أمام القدوس كالزنى الفاس. فلا تظنن أنك أحسن من أي مجرم، لأنك إن تبغض إنساناً ما أو ترفضه تحسب في عين الرب كقاتل وبيل.

واعلم أن كل خطية من خطاياك هي تعد على قداسة الله بالذات حيث قال: كونوا قديسين لأني أنا قدوس. فيعتبر الرب كل أخطائك فكراً وقولاً وعملاً معصية وثورة ضد إرادته الأزلية. وأنك شخصياً مذنب أمام الله بكل طبيعتك الإنسانية.

وأرشد يسوع مستمعيه إلى تفكير آخر: لم يمنحهم الله الوقت ولا يبيدهم حالاً، كما أباد الذين سقط عليهم البرج فماتوا؟ وهكذا مع تحذيره لهم من غضب الله، أراهم منفذاً من الهلاك المقبل. فما هو المهرب من الغضب والدينونة والهلاك يا ترى؟ ليس إلا بالرجوع إلى الله، ونبذ الكبرياء، والاعتراف بقلب مسحوق: اللهم ارحمني أنا الخاطئ. فهل لا تزال مستكبراً ومتأكداً بذاتك، أو تطلب الله بندامة وخجل؟ أتنتقد أحد مجاوريك، وتدين أعداءك بسخط. أو تعرف دخائل نفسك أنك أنت أكبر الخطاة؟

فالمسيح لا يحذرك وحدك من الاستكبار، بل كل الناس وكل الشعوب يدعوهم إلى الرجوع، لأننا إن لم نتب سريعاً، وتتغير أوضاع مجتمعنا، تبلغنا جهنم حرب عالمية جديدة، وتوقفنا أمام عرش الديان القاضي الأزلي. فهل غفرت آثام خصومك، وأرجعت كل قرش ومليم اختلسته من غيرك؟ رتب حياتك ما دمت حياً! لأن الموت يبتسم على باب غرفتك.

الصلاة: أيها الرب القدوس، أشكرك لأنك لم تبدني بعد. احمني أنا الخاطئ. وأنت تعلم ماضيّ فطهرني من كل إثم، وقدسني بصبرك، لأرشد كل أصدقائي إلى التوبة لكيلا يبتلعنا غضبك.

13: 6 وَقَالَ هٰذَا ٱلْمَثَلَ: «كَانَتْ لِوَاحِدٍ شَجَرَةُ تِينٍ مَغْرُوسَةٌ فِي كَرْمِهِ، فَأَتَى يَطْلُبُ فِيهَا ثَمَراً وَلَمْ يَجِدْ. 7 فَقَالَ لِلْكَرَّامِ: هُوَذَا ثَلاثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ ثَمَراً فِي هٰذِهِ ٱلتِّينَة وَلَمْ أَجِدْ. اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ ٱلأَرْضَ أَيْضاً؟ 8 فَأَجَابَ: يَا سَيِّدُ، ٱتْرُكْهَا هٰذِهِ ٱلسَّنَةَ أَيْضاً، حَتَّى أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً. 9 فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَراً، وَإِلَّا فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطعُهَا».

لله حقل كرمة وهو العالم، وفيه أشجار ثمينة. وكل إنسان مفروض عليه أن يأتي بثمار تليق بروح السماء، كما تعطي أشجار الكرمة ثمارها في كل حين. ولكن الله لم يجد في البشر إلا الحروب والافتخار والزنى والتعصب والفضائح. فعزم في قلبه، أن يبيد لجنس الشرير.

ومجتمعنا الحاضر ليس بأفضل من مجتمع اليهود في زمن يسوع. فيسوع لم يجد في حينه ثماراً مقدسة لله. في أمته. وعلم أن الله قد صمم على إبادة الأمة.

ووصف يسوع نفسه في هذا المثل ككرام وسيط، يستمهل الله سنة أخرى، قبل أن يقطع الأمة ويستأصلها، رغم أنها تستغل الأرض بلا فائدة، ولعل شعباً آخر يحل محلها ويعطي ثماراً أفضل منها. أنهم مستحقون أن يبادوا. ولكن المسيح طلب لأجلهم سنة أخرى للوبة قائلاً: أريد أن أعمل كل شيء لإصلاحهم، وأفلح قلوبهم بكلمات الدينونة، التي تشبه سكة المحراث الفالحة. وأنعشهم ببركات قوتي، ليتوبوا ويؤمنوا حقاً ويحبوا عملياً. وإن لم ينضج خلال السنة رجوع هذا الشعب إلى ربه. فليقطعه إرماً إرماً. وحقاً فق ضرب الله اليهود كأمة، واقتلعهم من أرضهم وحرقهم مئات السنين في أتون نار دينونته الغاضبة.

وعلينا إلا نشعر بالاطمئنان من جهة غضب الله، لأن الأخبار الإذاعية تنشر يومياً حقائق الكبرياء والبغضة والنجاسة والكذب. فقد أصبح العالم كله كخيمة الزنى، حيث لا يحل روح الله، إلا في أفراد قلة. فماذا تظن، إلى متى يصبر الله علينا؟ كلنا ستحق الهلاك، ولكن شفاعة المسيح لأجل كنيسته، وقوة الروح القدس العامل في المؤمنين، هي المانعة لغضب الله. وقد فلح المسيح الشعوب مدة ألف وتسعمائة سنة بكلمة قداسته، وسمدها بقوة روحه القدوس. فهل يكتفي الله بالثمار الضحلة من المؤمنين القليلين؟أو يقف الرب ببلطته المرتفعة ليضربنا الضربة الأخيرة، ويبيد البشر، لأنهم عصوا روحه راكضين وراء كل زعيم مختال سيفنى لا محالة.

كلنا نعيش من شفاعة المسيح وأمانته. ونتمنى من كل قلوبنا ألا تتم كلمته الأخيرة فينا بالقطع، بل نثمر لمرضاته. فلا تتخيل بمجيء أيام جيدة، بل تب، واطلب التوبة الروحية لشعبك، ليس بتموجات مشاعر عاطفية أو ندامة بدموع كاذبة، بل ليجدد الرب لقلوب عملياً ويغير الأذهان وينشئ أعمال محبته بواسطة امتلاء القلوب بإنجيله.

الصلاة: أيها الرب الوسيط نشكرك لمحبتك كل الناس، ولشفاعتك بنا عند الآب. اغفر لنا أنانيتنا وطمعنا. وحررنا لخدمة المحبة في الطهارة. اصبر علينا وعلى البشر كلهم ، وساعدنا لنحيط أصدقائنا وجيراننا بصلوات. ونبشرهم بالإنجيل، ليأتوا بثمار مقدسة.

16 - شفاء المنحنية (13: 10 - 17)

13: 10 وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي أَحَدِ ٱلْمَجَامِعِ فِي ٱلسَّبْتِ، 11 وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ كَانَ بِهَا رُوحُ ضُعْفٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُنْحَنِيَةً وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَنْتَصِبَ ٱلْبَتَّةَ. 12 فَلَمَّا رَآهَا يَسُوُع دَعَاهَا وَقَالَ لَهَا: «يَا ٱمْرَأَةُ، إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ مِنْ ضُعْفِكِ». 13 وَوَضَعَ عَلَيْهَا يَدَيْهِ، فَفِي ٱلْحَالِ ٱسْتَقَامَتْ وَمَجَّدَتِ ٱللّٰهَ. 14 فَرَئِيسُ ٱلْمَجْمَعِ، وَهُوَ مُغْتَاظٌ لأَنَّ يَسُوعَ أَبْرَأَ فِي ٱلسَّبْتِ، قَالَ لِلْجَمْعِ: «هِيَ سِتَّةُ أَيَّامٍ يَنْبَغِي فِيهَا ٱلْعَمَلُ، فَفِي هٰذِهِ اِيْتُوا وَٱسْتَشْفُوا، وَلَيْسَ فِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ» 15 فَأَجَابَهُ ٱلرَّبُّ: «يَا مُرَائِي، أَلا يَحُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ثَوْرَهُ أَوْ حِمَارَهُ مِنَ ٱلْمِذْوَدِ وَيَمْضِي بِهِ وَيَسْقِيهِ؟ 16 وَهٰذِهِ، وَهِيَ ٱبْنَةُ إِبْرٰهِيمَ، قَدْ رَبَطَهَا ٱلشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مِنْ هٰذَا ٱلرِّبَاطِ ِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ؟» 17 وَإِذْ قَالَ هٰذَا أُخْجِلَ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يُعَانِدُونَهُ، وَفَرِحَ كُلُّ ٱلْجَمْعِ بِجَمِيعِ ٱلأَعْمَالِ ٱلْمَجِيدَةِ ٱلْكَائِنَةِ مِنْهُ.

يرينا لوقا البشير كيف خدم يسوع شعبه في رحلته إلى أورشليم حسب مثل التينة والكرّام. فنقب وفلح القلوب وباركها ليخلصها من دينونة الله الآتية. وانحنى للمساكين والضالين. فهل تشعر مع المرضى وتتألم معهم وتريد شفاءهم؟ إن يسوع كان ممتلئ الحان على الإمرأة التي مشت ثماني عشرة سنة منحنية جداً، لأن فقرات ظهرها كانت منحرفة مزحزحة عن موضعها وعضلاته ضعيفة. والثماني عشرة سنة هي مدة طويلة، تبلغ حوالي أكثر من 7500 يوماً مفعمة بالآلام والعذاب واليأس. ورغم هذا ذهبت المرأ المسكينة إلىالكنيسة، لأنها لم تجد تعزية إلا عند الله. وإذا لم تكن قادرة أن ترفع رأسها، فقد رفعت قلبها إلى ربها راحمها.

فأتى يسوع وسمع صرخة إيمان القلب المعذب، وأدرك ضيقها الظاهر في هيئتها، ودعاها من تلقاء نفسه، وأكد لها شفاءها من ضعفها. وكان ذلك وسط ازدحام جماهير المصلين، وهي كانت بعيدة عنه في إحدى زوايا الكنيسة. ولكن قلبها لم يفهم رأساً كلمة الله لأنها كانت مربوطة في نفسها بواسطة إيمانها بوسوسات الشيطان. وربما كانت قد لجأت سابقاً إلى أحد العرافين أو المؤاخين للجن، فارتبط جسدها بسلطة الشيطان المخربة. ولذلك دعاها يسوع إليه، ووضع يديه الخالقة على المسكينة، فطقطق ظهرها، واشتدت عضلاها. وإذ ذاك رفعت رأسها. لأن قوة الله غفرت لها كل ذنبوها وفكت أربطة الروح الشرير، فشفيت جسداً ونفساً وروحاً. وهذا التغيير العميق كان انتصاراً للمسيح، لأن المفدية عظمت الله جهراً وفاض قلبها حمداً. لأن الآلام الجسدية والضغظ النفسي قد تلاشي.

ومقابل هذا الفرح لانتصار الله ظهر الروح الظالم الضيق البصر بلا شعور أو شفقة في رئيس المجمع. الذي فهم وحفظ شريعته حرفياً. وتبعاً لذلك منع أكثرية الأعمال يوم السبت، لكي يرضي العابدون الله بواسطة حفظ الوصايا والأحكام. وبواسطة هذه العادة أصبح هو ورعيته خالي المحبة، لأنهم فكروا بأنفسهم فقط، وتأملوا في ضمان خلاصهم الأناني. فتجمدوا في روحهم القاسي متمسكين بقشور الشريعة. وكانوا مستعدين أن يضحوا بكل إنسان في سبيل مبادئهم. فصار الناموس معبوداً، وليس خادماً للناس. ومع هذا انوا غير واقعيين، حتى أنهم سمحوا لبعض الأعمال الشاقة في يوم السبت. وعلفوا حيواناتهم وسقوها. وهذا حق، ولكنهم إذ أباحوا خدمة الحيوان، منعوها عن الإنسان. فاعتبروا حيواناتهم أهم وأفضل من الإنسان. فسماهم المسيح مرائين.

وإلى اليوم لا يزال بعض الفلاحين يعتبرون حقولهم أهم من أهل بيتهم. وكثير من الآباء يصرفون على سياراتهم أكثر مما على أولادهم. ونرى تجاراً يتسمرون في دكاكينهم أوقاتاً طويلة حتى الليل دون أن يهتموا بعائلاتهم. والموظفون أكثرهم يضيعون أوقات الفراغ باللهو في المقاهي والمفاسد، ولا يربون أولادهم تربية صالحة، ولا يصرفون أي وقت للاهتمام بخدمة جيرانهم المحتاجين إلى نصائحهم.

لكن المسيح أرى اليهود، أن الناس أهم من الحيوانات خصوصاً وهم من سلالة إبراهيم. أو حاملي صورة الله في هيئاتهم. وهكذا يقول المسيح لك أيضاً: إن كل زملائك في المدرسة والمهنة أهم من شهاداتك المتلألئة أو رصيدك في البنك. فليس نجاحك الشخصي هو هدف حياتك، بل المحبة لأخيك الإنسان المسكين الذي تلتقي به اليوم. والمسيح يسمي كل مصل مرائياً، إن كان لا يحب أقرباءه وجيرانه حقاً. ففكر بزملائك عملياً، وتصلي لأجلهم بالقوة، لتحل بركة الرب فيهم. وإن تظاهرت بالتقوى أمام الناس، ولم تخدمهم حقيقة، يسميك الله منافقاً ومربوطاً بسلاسل الشيطان، محتاجاً إلى الحل من أنانيتك الشنيعة.

الصلاة: رب المحبة، أعترف أن قلبي بارد، لأني أفكر في نفسي وعملي ومقاصدي أولاً، فاغفر لي أنانيتي. اشكرك لأنك تحلنا من قيود الشيطان، وتحررنا إلى شفقتك والخدمة بفرح والابتهال باستمرار ويفرحوا في اختبار سلطانك.

17 - مثلان عن ملكوت الله (13: 18 - 21)

13: 18 فَقَالَ: «مَاذَا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ، وَبِمَاذَا أُشَبِّهُهُ؟ 19 يُشْبِهُ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَأَلْقَاهَا فِي بُسْتَانِهِ، فَنَمَتْ وَصَارَتْ شَجَرَةً كَبِيرَةً، وَتَآوَتْ طُيُورُ ٱلسَّمَاءِ فِي أغْصَانِهَا». 20 وَقَالَ أَيْضاً: «بِمَاذَا أُشَبِّهُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ؟ 21 يُشْبِهُ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا ٱمْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى ٱخْتَمَرَ ٱلْجَمِيعُ».

القنبلة الذرية قوية جداً. ولكن القوة الروحية في أي معتقد عالمي أقوى منها، لأن كل حضارة تندفع وتصطبغ بروحها الخاص. وأعظم القوى في العالم هي كلمة يسوع المسيح، لأنها غيرت وجه العالم مبدئياً. فيسوع يشبه الرجل، الذي يأتي إلى حقله ويلقيحبة الخردل الصغيرة في التربة الرطبة، فتنبت وتنمو مع الزمن بالهدوء وبلا ضجيج وتصبح شجرة محترمة. وهكذا رمى يسوع الإنجيل إلى حقل الكلمة البسيطة العاملة بدون بلاغة متلألئة أصبحت خلال ألفي سنة شجرة ضخمة، تمتد أغصانها على نصف الكرة الأرضية. وما تزال قوة كلمة الرب قوية، لتربح أفراداً حتى آخر المعمورة. فلا تيأسن إن كنت مؤمناً منعزلاً ومحاطاً بغير المؤمنين. أو يجتمع معك حول الكتاب المقدس اثنان أو ثلاثة فقط. إن للإنجيل الوعد حتى اليوم، أن ينمو شجرة عظيمة ضخمة، لأن قوة الله تعمل يه. وينعش قلوباً ميتة وينير عقولاً جاهلة. آمن بقدرة الإنجيل، فتختبر كيف يقلب قلوب كثيرين.

وانتبه، فإن العصفور الذي يحط على الشجرة ويلتجئ إليها، ليس غصناً من فرع الشجرة! وهكذا فليس كل الذين يسمعون الإنجيل ويأتون إلى اجتماعاتكم يتغيرون جوهرياً ويقبلون أن يلصقوا ويطعموا بأصل الشجرة. فمن الناس من يأتي ويشترك في أشعة السلاموبركات حفظ الله، دون أن يستسلم لقوة النعمة حقاً أو يثبت في الله. فكثير من الفلاسفة والشعراء والزعماء والاقتصاديين تعلموا وتأثروا بالكتاب المقدس، واستفادوا منه فادئة كبرى، دون أن يتغيروا في شعروهم الباطني. فطاروا بعدئذ كعصافير حاملة في مناقيرها ورقة من شجرة الله. أما أنت، فكن غصناً في شجرة المسيح، لا عصفوراً طياراً، فتسري قوته فيك بلا انقطاع.

ويرينا ربنا يسوع في مثل آخر، القوة العاملة في ملكوت الله، وشبهها بالخمير، الذي يخمر العجين ويجعله صالحاً للخبز. فتخمير العجين يعني تغييراً كيماوياً، ويعرفنا كيف تغير قوة ملكوت الله جوهر الإنسان، جاعلة من الأناني محباً، ومن النجس طهراً. وكما نرى في نمو حبة الخردل إلى شجرة ضخمة مثلا لانتشار ملكوت الله بدون حاجز، هكذا يرينا مثل الخميرة التغيير الجوهري في الإنسان بواسطة كلمة المسيح. فهو ينمي ملكوته عددياً وجوهرياً. فمن يحبه يتقدس، ومن يتبعه يخدم كل الناس. والمسيح نفه يشبه الخمير الذي يخمر كل العالم وينضجه ويغيره حسب روحه الطاهر.

هل أثرت قوة المسيح فيك وغيرتك إلى صورة تواضعه. وجعلتك سبباً لتغيير الآخرين؟ فإن أردت أن تكون ضمن إطار تأثير قوة المسيح، وتشترك في انتقالها إلى العالم، فإنك لا تحتاج إلى حكم بشرية، ولا لبلاغة جذابة ولا لحيل مصطنعة، بل افتح نفسك للإجيل الحق، فيجعلك إنساناً نافعاً حاملاً كلمة الله في قلبك، وناشرها بين زملائك ومحيطك. اتكل على قوة المسيح القالبة الأوضاع. إنه رئيس الإيمان ومكمله. فله الشكر والحمد.

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، نسجد لك، لأنك لمستنا بكلمتك ورصفتنا في عداد ملكوتك، وتغيرنا إلى صورتك. نشكرك لأن ملكوتك ينمو كشجرة وارفة، في الشمس والثلج، في العاصفة والسكون. وليس أحد يقدر أن يقاومها. ونسجد لك، لأنك تقد أهل بيتك، بهدوء عظيم، وبدون دعايات ضاجة، ليصبحوا سبب الحياة للكثيرين.

18 - اختبارات المسيح في طريقه إلى أورشليم (13: 22 - 35)

13: 22 وَٱجْتَازَ فِي مُدُنٍ وَقُرًى يُعَلِّمُ وَيُسَافِرُ نَحْوَ أُورُشَلِيمَ، 23 فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: «يَا سَيِّدُ، أَقَلِيلٌ هُمُ ٱلَّذِينَ يَخْلُصُونَ؟» فَقَالَ لَهُمُ: 24 «ٱجْتَهِدُوا أَنْ تَدْخُلُوا مِنَ ٱلْبَابِ ٱلضَّيِقِ، فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا وَلا يَقْدِرُونَ 25 مِنْ بَعْدِ مَا يَكُونُ رَبُّ ٱلْبَيْتِ قَدْ قَامَ وَأَغْلَقَ ٱلْبَابَ، وَٱبْتَدَأْتُمْ تَقِفُونَ خَارِجاً وَتَقْرَعُونَ ٱلْبَابَ قَاِلِينَ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، ٱفْتَحْ لَنَا، يُجِيبُكُمْ: لا أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ! 26 حِينَئِذٍ تَبْتَدِئُونَ تَقُولُونَ: أَكَلْنَا قُدَّامَكَ وَشَرِبْنَا، وَعَلَّمْتَ فِي شَوَارِعِنَا. 27 فَيَقُولُ: أَقُولُ لَكُمْ لاَ أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ! تَبَاعَدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي ٱلظُّلْمِ. 28 هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ، مَتَى رَأَيْتُمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَمِيعَ ٱلأَنْبِيَاءِ فِي مَلَكُوِ ٱللّٰهِ، وَأَنْتُمْ مَطْرُوحُونَ خَارِجاً. 29 وَيَأْتُونَ مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَمِنَ ٱلْمَغَارِبِ وَمِنَ ٱلشِّمَالِ وَٱلْجَنُوبِ، وَيَتَّكِئُونَ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ. 30 وَهُوَذَا آخِرُونَ يَكُونُونَ أَّوَلِينَ، وَأَّوَلُونَ يَكُنُونَ آخِرِينَ».

سجل لنا لوقا البشير جملاً غير مترابطة من أقوال المسيح الكثيرة، التي قالها خلال سفرته إلى أورشليم مدينة موته. وربما أبدى يسوع أفكاراً أكثر مما سجله البشير، لكن المسجل هو زبدة وتلخيص لجميع ما قاله في هذه السفرة وفقاً لما استوعبه خاطر لوقا الطبيب.

والسؤال الذي وجه إلى المسيح من أحد أتباعه لم يكن: أيخلص كثيرون؟ بل بالعكس استفهم عن القليل، الذي يمكن أن يخلص، لأن الشعب في ذلك الحين، ابتدأ يتراجع عن يسوع بالتدريج. فأرادوا منه خبزاً وعجائب تساعدهم في حياتهم. ولكن التوبة أهملوها.وقد قرر زعماء الأمة الروحيين قتل يسوع الناصري. وعلم المسيح، وكذلك توقع تلاميذه الاضطهادات المرة، التي ستنقض بلا هوادة على الرعية الصغيرة.

وبهذا العلم، وقبل طرح السؤال عليه، كان المسيح قد أعطاهم وعداً، بأن ملكوت الله سينمو رغم الصعوبات كحبة خردل تصير شجرة كاملة. وسينجح الإنجيل كخميرة صالحة في العجين.

ثم أمر المسيح السائل أن يرد نظره عن التطلع إلى الجماهير المرتدة، وينظر إلى ذاته، ليتوب ويتقدس ويثبت في ملكوت الله. وهكذا وصف هدف سيرة كل مؤمن، إنه دخوله من الباب الضيق. وهذا المضيق لا يدخله الناس أفواجاً بل فرادى. ولا يستطيع أحد امرور منه بأحمال كثيرة، بل على كل داخل أن يكون خفيفاً مجرداً من ممتلكاته وعوائقه الدنيوية. فالمسيح هو الباب الضيق. ولا تأتي إليه جماهير غفيرة، بل يأتون أفراداً. وعلى كل من يدخل إلى رحابه السعيدة، أن يتخلص من ذنوبه وهمومه ومشاكله وحقوقه وتبه وملابسه الفخمة. تعال إلى يسوع كما أنت بحالتك وبلا أقنعة.

وتسليمك هذا إليه يعني إنكاراً للنفس، واعترافاً كاملاً بالذنوب، وتركاً للعيوب المستعصية، وكفاحاً للحياة، والموت، ومتطلباً منك كل المجهودات والتضحيات والعزم والتصميم الأكيد.

ولا تتردد بين محبتك لذاتك والتسليم إلى يسوع، لأن فرصة التوبة سريعاً ما تنتهي، فيقوم الرب ويقفل الباب. عندئذ يحاول كثيرون من الطالبين قبول المسيح، فلا يقدرون، لأنهم أهملوا وقت النعمة، وغرهم بالله الغرور. فالمسيح يطلب منك تصميم الإراة والتضحية بالمال وبذل الوقت، لكي تعتزم عزماً قوياً، لتصبح أهلاً عاملاً في ملكوت الله. لا يكفيك أن تأكل خبز وتعمل فاعلاً في حقل الرب. فالإيمان يتطلب منك توبة مطلقة، وتغيير ذهنك جذرياً، نتيجة لتأملك في الإنجيل. لا تكتفي بتخيلاتك عن كيان لله، وتصلي يا رب يا رب! لأن المسيح يريد أن يرى فيك أعمال محبته وثمار بره وكلمات صدقه وأفكار روحه، الصادرة من شركته معك في الحياة الأبدية اليوم.

وكل إنسان لا تعمل فيه قوة المسيح يبقى ظالماً لنفسه، عاملاً الظلم. ولا يكون من الله، بل من روح الشرير. فلا يعرفه يسوع، واسمه غير مسجل في سفر الحياة. والمسيح ابن الإنسان، يسألك اليوم: من أين أنت؟ أمن الله أم من الشرير؟ أتخص رعية السيح، حيث يعرف الراعي كل فرد باسمه؟ أم تكون مجهولاً عند الله؟ امتحن نفسك، وكافح لتتجرد من خطاياك، وتدخل إلى المسيح، الذي لا يخرج من يأتي إليه منكسراً تائباً.

أما الذي يصل إلى الباب الضيق، ثم ينحرف عنه في إيمان سطحي، ويتعلق ببركة الآباء الماضين فقط، فيسقط إلى جهنم رغم تقواه الظاهرية وبئس المصير.

وهذا السرداب مفعم بخوف مستمر من أجناد الشر، وممتلئ بصراخ الندامة لأجل التوبة المتأخرة، ويفيض تجديفاً مريراً ضد الله القدوس. ومكان الظلمات الأليمة هذا، غير منفصل تماماً عن السماء، بل أن الهالكين يرون آباء الإيمان والأنبياء الحقيقيي وكل قديس متواضع متكئين قريبين إلى الله، حيث يعم النظام ويحل السلام ويتسربل الفرح وتوجد المحبة بين الجميع في روح الآب والابن.

وقد قال يسوع لليهود الغير تائبين: إنكم ستسقطون إلى جهنم. وعوضاً عنكم سيأتي ملايين الأمم من المشرق والمغرب داخلين من الباب الضيق ومشتركين في جميع بركات السماء. وسوف يلتقون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب وكل الأنبياء الأمناء الصادقين، ويتكمون معهم عن عجائب محبة الله في حياتهم. كما أنهم سيستفهمون الرسل عن حقائق ومعاني أناجيلهم ورسائلهم. وكذلك يلتقون بالأموات الأحياء في المسيح، لأنهم معاً عائلة الله أبينا السماوي. فهل تخصها أنت أو تجلس بعيداً.

واليهود الذين رفضوا إنجيل المسيح تقست قلوبهم، ويتألمون كثيراً. وهم الأولون في الاختيار، لكنهم أصبحوا آخرين. ولم تبق لهم إلا فرصة واحدة للتوبة وقبول المسيح في آواخر الزمان. ولكن الكنيسة المحتقرة القليلة العدد المتأخرة في نظر اليهود صارت الأولى بالامتلاء بالروح القدس داخلة إلى أحضان وأمجاد ربها.

الصلاة: يا ربنا يسوع، أنت الباب المؤدي إلى الله الآب. علمنا خلع كل خطايانا وهمومنا وترك أمنياتنا وأموالنا، لكي نتوب ونتقدس بدمك وروحك، وندخل إلى فرحك. أدخل كثيرين من أصدقائنا وأقربائنا إلى دار خلدك، ليأتي ملكوتك اليوم،ولتكن مشيئتك حاضرة وعاملة بيننا. ولك الشكر والمجد آمين.

13: 31 فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ تَقَدَّمَ بَعْضُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ لَهُ: «ٱخْرُجْ وَٱذْهَبْ مِنْ هٰهُنَا، لأَنَّ هِيرُودُسَ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ». 32 فَقَالَ لَهُمُ: «ٱمْضُوا وَقُولُوا لِهٰذَا ٱلثَّعْلَبِ: هَا أَنا أُخْرِجُ شَيَاطِينَ، وَأَشْفِي ٱلْيَوْمَ وَغَداً، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ أُكَمَّلُ. 33 بَلْ يَنْبَغِي أَنْ أَسِيرَ ٱلْيَوْمَ وَغَداً وَمَا يَلِيهِ، لأَنَّهُ لا يُمْكِنُ أَنْ يَهْلِكَ نَبِيٌّ خَارِجاً عَنْ أُورُشَلِيمَ. 34 يا أُورُشَلِيمُ يَا أُورُشَلِيمُ، يَا قَاتِلَةَ ٱلأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلادَكِ كَمَا تَجْمَعُ ٱلدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا. 35 هُوَذا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَاباً! وَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لا تَرَوْنَنِي حَتَّى يَأْتِيَ وَقْتٌ تَقُولُونَ فِيهِ: مُبَارَكٌ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ».

خلال سفرته من الجليل إلى أورشليم دخل يسوع إلى سلطنة الملك هيرودس أنتيباس، الذي كان تافهاً مبذراً أمواله وبلا أخلاق. وقد ارتكب جرائم كثيرة، رغم وقوعه تحت تبكيت ضميره بصورة مستمرة (2: 7 و3: 19 و9: 7 و23: 11). وربما حاول إرضاء الفريسيين،لأنه علم، أنهم يبغضون يسوع ويريدون طرده من محيطهم. فوعدهم باستخدام حراسه القليلين لهذا الغرض. وقد أراد الفريسيون تخويف المسيح، ليروا الشعب، إنه خواف ومحب لحياته وهارب من الموت، فيخربون صيته. ولعل هيرودس أراد فوق ذلك إرضاء القوة الاستعماية الرومانية، بتسليمها زعيماً شعبياً ثائراً، ليبرهن خضوعه وولاؤه للسلطة.

وأبصر يسوع حيلة الملك وحلفائه وسماه جهراً ثعلباً، لأنه فهم أفكاره وتخطيطاته المتآمرة وأدانها مستهزئاً بها. ورغم هذا، فقد أبلغ يسوع هيرودس التافه رسمياً ما هي أعماله، لكي يعرف جلياً من هو الذي يخدم في منطقته. إن المسيح هو المنتصر عى كل الشياطين. وهيرودس كان في جلساته مع الأرواح الشريرة يخاف سلطتهم الظالمة ويرتجف منهم. أما يسوع فطرد السلطات الشريرة بكلمة فمه. وبهذه القوى شفى المساكين وأبرأ المعذبين. وكانت محبته الإلهية دافع قدرته.

وشهد يسوع مع ذلك، أن ليس إنسان ولا الملك يقدر أن يقتله بدون إرادة الله، الذي أعطاه خدمة محددة زماناً ومكاناً. والتي يتمها يسوع كاملة. فالله هو مالك العالم. وكل مليك وزعيم صعلوك لا يقدر أن يمنع، أو أن يعارض إنشاء ملكوت الله بحيلته سلطته البشرية.

كان يسوع عالماً مسبقاً أن طريقه تؤدي إلى الصليب. وسمى موته على خشبة العار إكمال خدمته وشخصيته. فهل كان يسوع غير كامل على الدوام؟ ومما لا ريب فيه أن يسوع قد حل فيه كل ملء اللاهوت جسدياً. ولكن خدمته أكملت على الصليب مصالحة العالم معالله. وكان على جسده البشري، أن يحتمل التجربة الأخيرة الفائقة الإدراك. فجعل روح الله الإنسان يسوع الضعيف إنساناً كامل القدرة، الذي وجد العالم مع الله بدمه الثمين، واستحق القيامة من القبر جسدياً، ويجلس اليوم في هذا الجسد الإنساني الممجد عن يمين الله.

وعلم يسوع أن الساعة الأخيرة في حياته على الأرض سوف لا تتم إلا في أورشليم. فأطاع إرشاد الروح القدس ليموت هناك على مذبح العالم.

وقد تألم ابن الله بنفس الوقت من شيطنة هذه المدينة، لأن القاتل من الأزل وجد في مركز الحضارة اليهودية مكاناً واسعاً لإجرامه. فسمى يسوع مدينة السلام قاتلة الأنبياء. ولم ينبهر يسوع من بهاء العاصمة. ولم يؤخذ بملابس الزعماء الروحيين والدنيين الفخمة. وابتسم من أسلحة الجيش الفتاكة التي لقوات اللاستعمار. واحتقر غنى تقدم المدنية. وعوضاً عن هذه المظاهر الفانية، حاول يسوع أن يوحد الناس الجهلاء، المشتاقين إلى الله في هذه المدينة، بواسطة قوة محبته، ليثبتوا مطمئنين في قربه، ويالوا الحياة الأبدية. فدعاهم وركض وراءهم وتعب لأجلهم. ولكن أبناء المدينة وخاصة المتدينين لم يريدوا البتة أن يتبعوا الطبيب الآتي من القرية المتأخرة. فقسوا إذهانهم تجاه نداء الله. ونضجوا للدينونة المرعبة.

ويل للقرية والمدينة والبلاد، التي يسد أبناؤها آذانهم، لئلا يسمعوا صوت محبة الله. فلا بد من الدينونة السريعة الواصبة. وينبغي أن تأتي الحروب لعدم إيمان الناس بالمسيح. فلماذا تتعجب الجماهير من الاضطرابات والكوراث والحروب في دنيانا؟

إن دينونة الله لمستمرة، والعمى الروحي يتكاثر، لأن نور الإنجيل يطمس. ويل للمدينة والبلاد التي يغادرها روح المسيح، لأن أهلها لم يفتحوا قلوبهم له طوعاً. عندئذ تدخل أرواح شريرة من الجنوب والأطراف، وخلق الخداع والتسلط والزنى والفوضى وابغضة والخوف.

هكذا أرى المسيح الأتقياء المستكبرين الدينونة الآتية على أمتهم. ولكنه ترك لهم فجر الرجاء مشرقاً على أفق التاريخ، ودلهم على مجيئه الثاني، وإمكانية توبة أهل العهد القديم، الذين سيتمتمون مرتعبين في مجده المشرق من العلاء، مرددين كلمات لمزمور المختص برئيس الكهنة الداخل إلى هيكله، صارخين بالدموع: مبارك الآتي باسم الرب.

الصلاة: أيها الرب يسوع نسجد لك، لأجل محبتك الصادرة وحقك الصادق. اغفر لنا قلبنا البطيء، إن لم نتبع صوتك الحنون اللطيف. وسامح كل الذين قسوا قلوبهم تجاه روحك القدوس. وادعهم مرة أخرى، ليلتجئوا إليك قبل أن يأتي يوم الخراب اعظيم. ونشكرك لصبرك واحتمالك إيانا.

13: 31 فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ تَقَدَّمَ بَعْضُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ لَهُ: «ٱخْرُجْ وَٱذْهَبْ مِنْ هٰهُنَا، لأَنَّ هِيرُودُسَ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ». 32 فَقَالَ لَهُمُ: «ٱمْضُوا وَقُولُوا لِهٰذَا ٱلثَّعْلَبِ: هَا أَنا أُخْرِجُ شَيَاطِينَ، وَأَشْفِي ٱلْيَوْمَ وَغَداً، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ أُكَمَّلُ. 33 بَلْ يَنْبَغِي أَنْ أَسِيرَ ٱلْيَوْمَ وَغَداً وَمَا يَلِيهِ، لأَنَّهُ لا يُمْكِنُ أَنْ يَهْلِكَ نَبِيٌّ خَارِجاً عَنْ أُورُشَلِيمَ. 34 يا أُورُشَلِيمُ يَا أُورُشَلِيمُ، يَا قَاتِلَةَ ٱلأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلادَكِ كَمَا تَجْمَعُ ٱلدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا. 35 هُوَذا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَاباً! وَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لا تَرَوْنَنِي حَتَّى يَأْتِيَ وَقْتٌ تَقُولُونَ فِيهِ: مُبَارَكٌ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ».

خلال سفرته من الجليل إلى أورشليم دخل يسوع إلى سلطنة الملك هيرودس أنتيباس، الذي كان تافهاً مبذراً أمواله وبلا أخلاق. وقد ارتكب جرائم كثيرة، رغم وقوعه تحت تبكيت ضميره بصورة مستمرة (2: 7 و3: 19 و9: 7 و23: 11). وربما حاول إرضاء الفريسيين،لأنه علم، أنهم يبغضون يسوع ويريدون طرده من محيطهم. فوعدهم باستخدام حراسه القليلين لهذا الغرض. وقد أراد الفريسيون تخويف المسيح، ليروا الشعب، إنه خواف ومحب لحياته وهارب من الموت، فيخربون صيته. ولعل هيرودس أراد فوق ذلك إرضاء القوة الاستعماية الرومانية، بتسليمها زعيماً شعبياً ثائراً، ليبرهن خضوعه وولاؤه للسلطة.

وأبصر يسوع حيلة الملك وحلفائه وسماه جهراً ثعلباً، لأنه فهم أفكاره وتخطيطاته المتآمرة وأدانها مستهزئاً بها. ورغم هذا، فقد أبلغ يسوع هيرودس التافه رسمياً ما هي أعماله، لكي يعرف جلياً من هو الذي يخدم في منطقته. إن المسيح هو المنتصر عى كل الشياطين. وهيرودس كان في جلساته مع الأرواح الشريرة يخاف سلطتهم الظالمة ويرتجف منهم. أما يسوع فطرد السلطات الشريرة بكلمة فمه. وبهذه القوى شفى المساكين وأبرأ المعذبين. وكانت محبته الإلهية دافع قدرته.

وشهد يسوع مع ذلك، أن ليس إنسان ولا الملك يقدر أن يقتله بدون إرادة الله، الذي أعطاه خدمة محددة زماناً ومكاناً. والتي يتمها يسوع كاملة. فالله هو مالك العالم. وكل مليك وزعيم صعلوك لا يقدر أن يمنع، أو أن يعارض إنشاء ملكوت الله بحيلته سلطته البشرية.

كان يسوع عالماً مسبقاً أن طريقه تؤدي إلى الصليب. وسمى موته على خشبة العار إكمال خدمته وشخصيته. فهل كان يسوع غير كامل على الدوام؟ ومما لا ريب فيه أن يسوع قد حل فيه كل ملء اللاهوت جسدياً. ولكن خدمته أكملت على الصليب مصالحة العالم معالله. وكان على جسده البشري، أن يحتمل التجربة الأخيرة الفائقة الإدراك. فجعل روح الله الإنسان يسوع الضعيف إنساناً كامل القدرة، الذي وحد العالم مع الله بدمه الثمين، واستحق القيامة من القبر جسدياً، ويجلس اليوم في هذا الجسد الإنساني الممجد ع يمين الله.

وعلم يسوع أن الساعة الأخيرة في حياته على الأرض سوف لا تتم إلا في أورشليم. فأطاع إرشاد الروح القدس ليموت هناك على مذبح العالم.

وقد تألم ابن الله بنفس الوقت من شيطنة هذه المدينة، لأن القاتل من الأزل وجد في مركز الحضارة اليهودية مكاناً واسعاً لإجرامه. فسمى يسوع مدينة السلام قاتلة الأنبياء. ولم ينبهر يسوع من بهاء العاصمة. ولم يؤخذ بملابس الزعماء الروحيين والدنيين الفخمة. وابتسم من أسلحة الجيش الفتاكة التي لقوات الاستعمار. واحتقر غنى تقدم المدنية. وعوضاً عن هذه المظاهر الفانية، حاول يسوع أن يوحد الناس الجهلاء، المشتاقين إلى الله في هذه المدينة، بواسطة قوة محبته، ليثبتوا مطمئنين في قربه، وينلوا الحياة الأبدية. فدعاهم وركض وراءهم وتعب لأجلهم. ولكن أبناء المدينة وخاصة المتدينين لم يريدوا البتة أن يتبعوا الطبيب الآتي من القرية المتأخرة. فقسوا أذهانهم تجاه نداء الله. ونضجوا للدينونة المرعبة.

ويل للقرية والمدينة والبلاد، التي يسد أبناؤها آذانهم، لئلا يسمعوا صوت محبة الله. فلا بد من الدينونة السريعة الواصبة. وينبغي أن تأتي الحروب لعدم إيمان الناس بالمسيح. فلماذا تتعجب الجماهير من الاضطرابات والكوراث والحروب في دنيانا؟

إن دينونة الله لمستمرة، والعمى الروحي يتكاثر، لأن نور الإنجيل يطمس. ويل للمدينة والبلاد التي يغادرها روح المسيح، لأن أهلها لم يفتحوا قلوبهم له طوعاً. عندئذ تدخل أرواح شريرة من الجنوب والأطراف، وخلق الخداع والتسلط والزنى والفوضى وابغضة والخوف.

هكذا أرى المسيح الأتقياء المستكبرين الدينونة الآتية على أمتهم. ولكنه ترك لهم فجر الرجاء مشرقاً على أفق التاريخ، ودلهم على مجيئه الثاني، وإمكانية توبة أهل العهد القديم، الذين سيتمتمون مرتعبين في مجده المشرق من العلاء، مرددين كلمات لمزمور المختص برئيس الكهنة الداخل إلى هيكله، صارخين بالدموع: مبارك الآتي باسم الرب.

الصلاة: أيها الرب يسوع نسجد لك، لأجل محبتك الصادرة وحقك الصادق. اغفر لنا قلبنا البطيء، إن لم نتبع صوتك الحنون اللطيف. وسامح كل الذين قسوا قلوبهم تجاه روحك القدوس. وادعهم مرة أخرى، ليلتجئوا إليك قبل أن يأتي يوم الخراب اعظيم. ونشكرك لصبرك واحتمالك إيانا.

19 - المسيح في وليمة الفريسيين (14: 1 - 24)

الأصحاح الرابع عشر: 1 وَإِذْ جَاءَ إِلَى بَيْتِ أَحَدِ رُؤَسَاءِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ فِي ٱلسَّبْتِ لِيَأْكُلَ خُبْزاً، كَانُوا يُرَاقِبُونَهُ. 2 وَإِذَا إِنْسَانٌ مُسْتَسْقٍ كَانَ قُدَّامَهُ. 3 فَسَأَلَ يَسُوعُ ٱلنَّامُوسِيِّين وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ: «هَلْ يَحِلُّ ٱلإِبْرَاءُ فِي ٱلسَّبْتِ؟» 4 فَسَكَتُوا. فَأَمْسَكَهُ وَأَبْرَأَهُ وَأَطْلَقَهُ. 5 ثُمَّ سَأَلَ « مَنْ مِنْكُمْ يَسْقُطُ حِمَارُهُ أَوْ ثَوْرُهُ فِي بِئْرٍ وَلا يَنْشِلُهُ حَالاً فِي يَوْمِ ٱسَّبْتِ؟» 6 فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُجِيبُوهُ عَنْ ذٰلِكَ.

لم حفظ اليهود راحة السبت بكل تدقيق ومبالغة، حتى أنهم منعوا إيقاد النار وشفاء المريض والسفر الطويل وأكثر من مائة منه أخر؟ إنهم رأوا في حفظ الناموس الطريق المؤدي إلى الله. وقصدوا بالتشديد في الأحكام، أن يربحوا السماء. وكما منعوا السر آنذاك في السبت، فإن بعض المتدينين منهم حتى اليوم، إذا ما وجدوا سيارة منطلقة، ألقوا عليها حجارة، ظانين أن المسيح المنتظر لا يأتي إلى الأرض ولا ينشئ ملكوت سلامه، إلا إذا حفظ كل أهل العهد القديم أحكام السبت بلا تجاوز.

وبهذه الطريقة أخطأوا في فهم محبة الله خطأ كبيراً، وامتنعوا عن رحمة الله. فتمنوا الخلاص بقوتهم الذاتية، ولم يقبلوا الفداء المجاني بالمسيح. فأصبحوا طرشاً لدعوة الروح القدس، الذي يؤكد لنا عدم إمكانياتنا لحفظ الناموس من تلقاء أنفسنا، يعلن لنا فسادنا في نوره العجيب، لنلتجئ إلى نعمة المسيح وقوته، ولا نتكل على برنا الخاص البتة.

والفريسيون الذين دعوا يسوع إلى وليمة في بيت رئيسهم، لم يمتلئوا بغضة نحو ضيفهم الكريم من قبل، بل أرادوا تفحصه ومراقبته ليعرفوه ويكتشفوه، أو يروا عجيبة مدهشة. أما المسيح فأبصر قلوبهم المفتخرة وسألهم ما هو الأهم: أجريان قدرة محبة الل إلى العالم، أو حفظ الناموس بطريقة أنانية لكسب البر الخاص؟ فخجل المراقبون وصاحب البيت. لأنهم كان لا يزال عندهم الحس والتعقل، ليدركوا أهمية محبة الله. ولربما شعروا أيضاً بسلطان المسيح في كلمته. فطأطأوا الأعناق خشعاً ولم يجيبوا بكلمة واحد.

وكسر المسيح كذب فهمهم لحفظ السبت بواسطة شفائه المستسقي. وأراهم أن الله ينجي المساكين كل يوم، لأنه في العهد الجديد أصبح كل يوم هو يوم نعمة. وقد حررتنا محبة الله من التمسك ببرنا، إلى خدمة المحبة طواعية. فأمسك يسوع الإنسان بجلده المتورم، لأن قلبه وكليتاه لم تقدرا أن تفرزا الماء من الجسد. فشفى يسوع بقدرته الخالقة المريض، الذي لا يقدر أي طبيب أن يشفيه. وذلك ليس بجراحة ولا إيحاء بل بكلمة قدرته. فقد خرجت من شخصية المسيح تيارات القوى الإلهية حتى تنظمت واصطلحت طبيعة المريض بإيمانه.

ولم يرد المسيح أن يشفي المريض بجسده فقط، بل أبرأ المنعقدين في أرواحهم أيضاً. وأراهم مرة أخرى بالمثل البشري عن خلاص الابن من البئر، أو إنقاذ الحمار الساقط في الحفرة، إن كل إنسان عاقل طبيعي يكون مستعداً على الدوام لإنقاذ الضائقين، حى ولو كان اليوم سبتاً، لأن فكر المساعدة ودافع الخدمة فينا هو الذي يقربنا من صورة الله، الذي يساعد ويبارك ويخدم ويخلص الضالين بلا انقضاء.

فامتحن نفسك. هل تتأمل وتصلي يوم الأحد لأجلك ولنمو معرفتك وترتفع نفسك متخيلة في جو السجود والترانيم فقط، أو تفكر عملياً، كيف تعين أخاك الإنسان المتضايق؟ أيكون هدف حياتك «الأنا» المنتفخة أو وجدت بخدمة كل إنسان غاية حياتك؟ إن المسيح قصد تغيير ذهنك وتجديد نواياك ليعزز جوهره في قلبك، لأن الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه.

الصلاة: يا رب، نشكرك لمحبتك ونسجد لك لقدرتك الخارقة والفادية. اغفر لنا قلة محبتنا والاهتمام بأنفسنا. وحررنا لروح الخدمة ودربنا لنخدم كل إنسان. اشف أصدقاءنا ليصبحوا أصحاء جسداً ونفساً وروحاً.

14: 7 وَقَالَ لِلْمَدْعُّوِينَ مَثَلاً، وَهُوَ يُلاحِظُ كَيْفَ ٱخْتَارُوا ٱلْمُتَّكَآتِ ٱلأُولَى: 8 «مَتَى دُعِيتَ مِنْ أَحَدٍ إِلَى عُرْسٍ فَلا تَتَّكِئْ فِي ٱلْمُتَّكَإِ ٱلأَّوَلِ، لَعَلَّ أَكْرَمَ مِنْكَ يَكُونُ قَدْ دُعيَ مِنْهُ. 9 فَيَأْتِيَ ٱلَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ لَكَ: أَعْطِ مَكَاناً لِهٰذَا. فَحِينَئِذٍ تَبْتَدِئُ بِخَجَلٍ تَأْخُذُ ٱلْمَوْضِعَ ٱلأَخِيرَ. 10 بَلْ مَتَى دُعِيتَ فَٱذْهَبْ وَاتَّكِئْ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلأَخِيرِ، حتَّى إِذَا جَاءَ ٱلَّذِي دَعَاكَ يَقُولُ لَكَ: يَا صَدِيقُ، ٱرْتَفِعْ إِلَى فَوْقُ. حِينَئِذٍ يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ أَمَامَ ٱلْمُتَّكِئِينَ مَعَكَ. 11 لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ».

اتكأ يسوع في جو الوليمة وراقب الناس وتصرفاتهم، ولاحظ سريعاً، كيف يزدحمون حول رئيسهم، ليراهم، ويسلم عليهم، ويقبلهم، لأنهم فكروا أن ينالوا بعدئذ مساعدته. فليس أقبح من المداهنة حينما تعشعش في القلب البغضة والحسد والاحتقار. ابتعد عن كل أنواع الرياء، وفضل أن تكون صغيراً بين الناس، لكيلا تستكبر. وإذ ذاك يعتبرك الله كبيراً حقاً.

والمسيح قد نزل من قرب الله، وأصبح إنساناً بسيطاً مثلك. وكعبد حمل خطايانا مرفوضاً مصلوباً. فرفعه الله ومجده، كما لم يمجد إنساناً مثله قبله أو بعده. فمن يتبع المسيح يتغير إلى تواضعه، لأن ابن الله قد قال: إني أنا متواضع القلب. فلم يكن في قلبه إلا التواضع. فكيف أنت في ضميرك؟ هل تريد الشرف والظهور والشهرة والاحترام من العموم، أو تريد البقاء مجهولاً خادماً للمساكين الغوغاء؟ إن المسيح لم يذهب إلى الملوك والولاة والرؤساء، بل طلب المرضى المشتاقين إلى الطهارة والحق. فهل أت مستعد أن تتبع المسيح عملياً؟

اعرف ذاتك، فإن كل إنسان طبيعي يريد ارتفاع نفسه منتفخاً كالطاووس. هذا الروح موضوع حتى في الطفل الصغير، كما قالت ابنة وعمرها خمس سنوات: أريد أن أصبح تمثالاً مرتفعاً في الساحة، لكي ينظرني كل الناس عالية.

أدرك نفسك وانكر طبيعتك الشريرة، واطلب من المسيح أن ينزلك من كبريائك، ويريك أنك لا شيء، ولا تعرف شيئاً، ولا تملك شيئاً، ولا تقدر على شيء. فعندئذ يطهرك بدمه الثمين، ويملأك بروحه القدوس. فتنطلق إلى أعلى درجات الإنسانية، وتصبح ابناً أو بنتاً لله، لأنك قد وضعت نفسك، وتبت حقاً، وآمنت أنك لا شيء. فحل روح الله فيك، ورفعك إليه.

ولكن المسكين الذي يفكر أنه شيء، ويركض مستكبراً في المجتمعات، ظاناً أنه إله صغير، قاصداً الزعامة في محيطه، فهذا يسقط إلى خيبة خطاياه الوسخة، ويصبح عبداً لشهواته، ويفقد ضميره المرتاح. ويهمل في تخيلاته نعمة الله، لأنه قد فتح نفسه لرو الشيطان، الذي هو الأول من المستكبرين. وهو عكس المسيح الذي أخلى نفسه، وتواضع تواضعاً حقاً.

أيها الأخ، أأنت مستكبر أو متواضع القلب؟ إن جوابك الصريح يريك الطريق الذي تسلكه إلى جهنم أو السماء.لا تكمل طريقك بلا مبالاة، بل تراجع عن كل حركة تنم عن الكبرياء. واطلب إلى يسوع انسكاب روحه إلى نفسك. فلا تعيش لذاتك فيما بعد، بل تخبئاسمك في اسم الرب، وتخدم الفقراء، وتضحي بمالك، وتبني ملكوت الله بإطاعة المسيح. صل إلى المسيح بإلحاح، أن يبيد كل ميل في قلبك إلى الاستكبار، أن يدين حساسيتك الأنانية، ويحررك من روح الشيطان الأصلي.

14: 12 وَقَالَ أَيْضاً لِلَّذِي دَعَاهُ: «إِذَا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً فَلا تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ وَلا إِخْوَتَكَ وَلا أَقْرِبَاءَكَ وَلا ٱلْجِيرَانَ ٱلأَغْنِيَاءَ، لِئَلَّا يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضاً، فَتَكُونَ لَكَ مُكَافاةٌ. 13 بَلْ إِذَا صَنَعْتَ ضِيَافَةً فَٱدْعُ ٱلْمَسَاكِينَ: ٱلْجُدْعَ، ٱلْعُرْجَ، ٱلْعُمْيَ، 14 فَيَكُونَ لَكَ ٱلطُّوبَى إِذْ لَيْسَ لَهُمْ حَتَّى يُكَافُوكَ، لأَنَّكَ تُكَافَى فِي قِيَامَةِ ٱلأَبْرَارِ».

وقال المسيح للأغنياء والرؤساء، ألا يفكروا في أنفسهم أنهم أفضل من البسطاء، لكيلا يسقطوا في التجربة الاعتيادية باجتماعهم في حلقات على مستواهم الاجتماعي فقط. ويل للأغنياء والمفكرين والأتقياء في حلقاتهم المغفلة، فهم لا يعرفون أنهم ليسا أصلح من المساكين والجهلاء والخطاة. كلنا نعيش من رحمة الله العلي. فاطلب المحتاجين المذدرين لا الشبعى المتخمين. ابحث عن المتعبين واترك الكسالى. لا تنظرن إلى نجوم الرياضة بل انظر إلى الجدع والعمي، لأن المسيح يلتقي بك في المساكين لا المحتمين. فمن هم أصدقاؤك، الصالحون الجميلون العباقرة الأذكياء؟ حاشا. فالمسيح واسى المرضى واليائسين، وجالس الزناة التائبين، وخلص الخطاة الطالبين الله. فهناك مع هؤلاء مكانك الصحيح. فلا تفكرن أنك خير من الخنافس، بل قل لهم كلمة الله لتطيب قلوبهم وساعدهم طعاماً ونصحاً، فلربما يصيرون عقلاء ويخدمون الله مثلك.

ويقول المسيح إن عندكم فقراء دائماً. فاطلب هؤلاء الفقراء واخدمهم، فتكسب تاج المجد عند قيامة الأموات، حيث يلمع خدام الرب كشمس. وأما الأغنياء والأذكياء الغير المؤمنين، فتخيم عليهم الظلمة الدامسة.

الصلاة: أيها الرب العلي، أنت المتواضع والوديع والمحب الرحيم اغفر لي استكباري، وطهرني من كل كبرياء وشبه كبرياء. واملأ قلبي بروح الخدمة والمحبة للمساكين، لأصبح خادماً، كما أنت تخدم كل الشر.

14: 15 فَلَمَّا سَمِعَ ذٰلِكَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُتَّكِئِينَ قَالَ لَهُ: «طُوبَى لِمَنْ يَأْكُلُ خُبْزاً فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ». 16 فَقَالَ لَهُ: «إِنْسَانٌ صَنَعَ عَشَاءً عَظِيماً وَدَعَا كَثِيرِينَ، 17 وَأَرْسَلَ عَبْدَهُ فِي سَاَةِ ٱلْعَشَاءِ لِيَقُولَ لِلْمَدْعُّوِينَ: تَعَالَوْا لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ. 18 فَٱبْتَدَأَ ٱلْجَمِيعُ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ يَسْتَعْفُونَ. قَالَ لَهُ ٱلأَّوَلُ: إِنِّي ٱشْتَرَيْتُ حَقْلاً، وَأَنَا مُضْطَرٌّ أَنْ أَخْرُجَ َأَنْظُرَهُ. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. 19 وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي ٱشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ أَزْوَاجِ بَقَرٍ، وَأَنَا مَاضٍ لأَمْتَحِنَهَا. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. 20 وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي تَزَّوَجْتُ بِٱمْرَأَةٍ، فَلِذٰلِكَ لا أَقدِرُ أَنْ أَجِيءَ. 21 فَأَتَى ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ بِذٰلِكَ. حِينَئِذٍ غَضِبَ رَبُّ ٱلْبَيْتِ، وَقَالَ لِعَبْدِهِ: ٱخْرُجْ عَاجِلاً إِلَى شَوَارِعِ ٱلْمَدِينَةِ وَأَزِقَّتِهَا، وَأَدْخِلْ إِلَى هُنَا ٱلْمَسَاكِين وَٱلْجُدْعَ وَٱلْعُرْجَ وَٱلْعُمْيَ. 22 فَقَالَ ٱلْعَبْدُ: يَا سَيِّدُ، قَدْ صَارَ كَمَا أَمَرْتَ، وَيُوجَدُ أَيْضاً مَكَانٌ. 23 فَقَالَ ٱلسَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: ٱخْرُجْ إِلَى ٱلطُّرُقِ وَٱلسِّيَاجَاتِ وَأَلْزِمْهُمْ بِٱلدُّخُلِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي، 24 لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ أُولٰئِكَ ٱلرِّجَالِ ٱلْمَدْعُّوِينَ يَذُوقُ عَشَائِي».

هل حصلت مرة على بطاقة دعوة إلى وليمة لدى وجهاء بلدتك؟ لقد ظن ذلك المتكلم في محضر يسوع أثناء الوليمة، أن بطاقة الدعوة إلى وليمة السماء مؤمنة له وفي حيازته. ولكن يسوع فسر لهذا الفريسي المنتفخ، أنه ليس كل مدعو يأتي إلى الله. لأن ألوفالممانعات تحرفه عن الذهاب إلى شركة الله. فكل اليهود كانوا مدعوين، ولكنهم لم يأتوا إلى يسوع إلا قليل منهم، فأعطي ملكوت السموات إذ ذاك للأمم.

ونقرأ في مثل المسيح عن أربع دعوات مختلفة. أولاً أعلن رب البيت للجميع عن حفلة سيقيمها على شرف ابنه، واقترح على الكثيرين ألا يغفلوا عن موعد هذا الاحتفال. وهكذا يدعوك المسيح مع أناس كثيرين لتستعد وتكون ضيف الله.

ثانياً وجهت دعوة رسمية للأفراد، لما ذبحت الحيوانات، وهيأت المائدة الشيقة المكتظة بالتوابل والكبب والطبيخ والفواكه والحلويات. وامتلأت المائدة بلذائذ الطعام. وهنا نقرأ الكلمة الشهيرة: تعالوا لأن كل شيء قد أعد. وليس من الضروري أن يحض الضيوف أي طعام معهم، لأن الداعي قد حضر كل شيء بوفرة. وهذه الصورة تدلك على ذبيحة المسيح، الذي أكمل على الصليب خلاص العالم أجمع. فيقول لك رسل الإنجيل، تعال لأن كل شيء معد. وليس ضرورياً أن تجلب معك أعمالاً خاصة وصلوات وطقوساً وصوماً وحجاًلتستحق الدخول إلى شركة الله. فإن الرب قد أتم كل الشروط، التي تؤهلك للدخول إلى شركته. فتعال لأن كل شيء جاهز. هذا هو لب الإنجيل، وصورة الرحمة، بلا مشارطة.

يا للعجب! فقد حدث أمر غريب، إذ كل المدعوين من البلدة التي أُقيمت فيها الوليمة لم يأتوا، بل استعفوا معتذرين بكلمات سطحية. والجميع كانوا مشغولين بأنفسهم واحتقروا وأهملوا دعوة الرب وتناسوها. إنهم شبعى مكتفين معتدين بذواتهم، فرفضوا دعة الرب بجلافة. أولهم أحب غناه وممتلكاته وقدرته وضمان مستقبله، والثاني أراد شراء ثيران قوية، ليحصل بقوتها على منتوج باهر وغلال وفيرة وموسم عظيم. وثالثهم غرق حتى أذنيه في الحب وأحب ذاته في شهواته، ولم يجد وقتاً لله والناس. ففي هؤلاء الثلاة نشاهد التجارب الجذابة التي توشك أن تأخذنا بتيارها. فكل امرئ يتشوق مقهوراً لممتلكات وغنى وضمان اجتماعي وشرف مرموق. وكثير من الناس يتفتت قلبه على سيارة براقة بمحرك قوي بأحصنة هائلة، لينطلق بسرعة جنونية فيصفق له الناس. وكذلك يتقبح العالمأكثر فأكثر غارقاً في الشهوة والسينمات، لاهياً داعراً. وللعجب فلا يصرف أحدهم وقتاً لربه. وكلهم عارفون بأعماق ضمائرهم شيئاً عن دعوة الله ولا يرفضون بتاتاً، ولكن في الدقيقة القاطعة، إن دعاهم الرب لملاقاته وترك ترهاتهم، لووا أعناقهم ولم يهتوا به، معتبرين أن المال والفلاح والحب أهم منه. وهذا القرار منهم يعني احتقاراً لله، ويسبب الرفض المباشر لشركته. فكل مدعو يسمع دعوة الله ولا يأتي إليها، فإن الرب يرفضه في غضبه رفضاً قاطعاً.

لقد رفض صاحب الوليمة المنصرفين عنه وغير المبالين، ودعا المحتقرين في محيطه. فانتبه! أنه يدعو في المرة الثالثة الفقراء ومهلهلي الثياب والغوغاء والثوريين، وبعدئذ المرضى وفاقدي البصر والضعفاء غير القادرين على المسير. فحمل عبيد السيد امساكين، وساعدوهم ليصلوا إلى القصر، وفرشوا السجاجيد المريحة لأجلهم، ووضعوهم في الفرش الوثيرة لإراحتهم. ولم يشمئزوا من جراحهم ونتن أجسادهن، لأنهم لا يملكون حماماً ولا حوضاً. فالرب ميّز الأسفلين على الوجهاء، وفضلهم تفضيلاً كبيراً لأنهم لبو دعوته واستجابوا لندائه. ولعلهم كانوا مخجولين من الدخول إلى النور والبهاء، لكن الخدام شجعوهم للدخول بالكلام الطيب. وهذا يوضح لنا كل التوضيح، إن ليس الأتقياء والصالحون في نظر أنفسهم والمحترمون والأذكياء والكبراء سيختبرون وسينضمون إلى شرك الله، كلا بل المرفوضون والمحتقرون والخطاة وغير القادرين لكسب لباس الخلاص. فمن أي فريق أنت؟

إن بيت الله لواسع غير محدود. والسيد دعا في المرة الرابعة والأخيرة كل الغرباء والنجسين وعابري السبيل ليدخلوا إلى فرحه. فلو كان هذا الداعي إلى الوليمة في أيامنا هذه، لأرسل سيارات وطائرات وسفناً بحرية، لكي يحضر كل مشتاق إلى الوليمة اعالمية. لكن من يصدق هذه الدعوة، إنه بإمكانه أن يدخل بلا شرط وبلا ثمن وبلا جهد ليأكل هنيئاً مريئاً. فهكذا يوجه الله دعوة عامة للجميع كل بمفرده، ليدخلوا ملكوته. والرب أمر رسله، أن يقنعوا المتشبصين والمتشككين، ويجروهم جراً لو أمكن تقريباً، لأن الله نفسه ينتظرهم. علماً أن الأكل والشرب ليس هو هدف رجائنا، بل الشركة المجيدة مع الله الآب والابن والروح القدس. فإن الإنجيل ليقولن لك كل شيء معد فهلم اقبل.

الصلاة: نسجد لك أيها الآب لأنك أكملت خلاصنا بموت ابنك. ودعوتنا بكلمة إنجيلك، لنشترك في العشاء الرباني المجيد، لنتقوى بخبز الحياة، ونتطهر بدم المسيح: نعظم اسمك ونشكرك لدعوتك ونطلب أن تعلم أقرباءنا وجيراننا ليأتوا إليك.

20 - الشروط لاتّباع يسوع (14: 25 - 35)

14: 25 وَكَانَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ سَائِرِينَ مَعَهُ، فَٱلْتَفَتَ وَقَالَ لَهُمْ: 26 إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلا يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَٱمْرَأَتَهُ وَأَوْلادَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضا، فَلا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. 26 وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً.

سمع كثيرون من الناس دعوة المسيح وتبعوه أفواجاً أفواجاً. لكن المسيح علم قلوبهم، فغربلهم كالحنطة. وقال للمؤمنين. حيث يمنعكم رباط الدم والعاطفة أن تتبعوني كاملاً، فعليكم أن تتركوا تلك الروابط الدنيوية. وحتى لو اضطررتم أن تتباغضوا مع هلكم المحبوبين لديكم لكيلا تنفصلوا عني، أنا رب السماء، فافعلوا. فعليك أن تختار بين الله وأقربائك. بل الأكثر من هذا أن المسيح يطلب منك إنكار نفسك وهواك وكسلك وعاداتك، وأن تحكم على نفسك وتعتبر ذاتك مستحقاً موت الصليب المعير. فداوم يومياً إدانة نفسك بهذه الطريقة، لكي تموت عن طبيعتك الخاطئة المتخيلة، وتصبح في أتباع المسيح مشابهاً له. فمن لا ينفصل عن أبناء هذا الدهر حتى الذين يحبهم، وينكر نفسه الأمارة بالسوء، لا يقدر أن يصير ابناً لله. اعط لربك وحده كل المجد.

وإنما وصية المسيح هذه لا تلغي وصيته الخاصة بمحبة القريب، ولا تغبش وحدة الزوجية، ولا تقلل إكرام الوالدين، بل تقرر الأولوية لله. فهو محور حياتك وهدفها ومصدرها وليس غيره. وهو الذي يرسلك إلى أخيك الإنسان، لتخدمه باسم الرب، كأن الله يزره بواسطتك. وهكذا يحررك العلي من ارتباطاتك العالمية، ويرسلك إلى العالم سفيراً له، ويكون هو فيك، وكلمته على لسانك.

28 وَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجاً لا يَجْلِسُ أَّوَلاً وَيَحْسِبُ ٱلنَّفَقَةَ، هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟ 29 لِئَلَّا يَضَعَ ٱلأَسَاسَ وَلا يَقْدِرَ أَنْ يُكَمِّلَ، فَيَبْتَدِئَ جَمِيعُ ٱنَّاظِرِينَ يَهْزَأُونَ بِهِ، 30 قَائِلِينَ: هٰذَا ٱلإِنْسَانُ ٱبْتَدَأَ يَبْنِي وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَمِّلَ.

يدعوك المسيح إلى الاشتراك في إنشاء مكلوت الله، المشابه للبرج العالي. ولكنه يطلب منك التأمل والصلاة قبل أن تبتدئ بالمساهمة في خدمة الرب. أأنت مستعد لتدفع ثمن الاشتراك الغالي لبناء برج الله، أو تفضل الحفظ والاطمئنان في عائلتك على اتاعك المسيح؟ فكر جيداً، لمن تقدم خدمتك؟ هل تسجد لعشيرتك كإله معبود أو أنت مستعد لتضحي بمالك ووقتك وأفكارك وقرابتك من أجل أناس غرباء غير شاكرين خدمتك؟ قرر في نفسك، إن كنت مستعداً للتضحية بهذا المقدار من أجل العالم الشرير، لأنك لا تقدر أن خدم الله والمال. ولا أن تحب المسيح كما يحق له وعائلتك بنفس الوقت.

واعترف أيضاً أن قدرتك وقوتك الشخصية لا تكفي لإنشاء ملكوت الله. ولكن حيث يكون الرب معك وتحل كلمته فيك، تستحق البدء في خدمتك الحقيرة. والرب يكملك وينصرك.

14: 31 وَأَيُّ مَلِكٍ إِنْ ذَهَبَ لِمُقَاتَلَةِ مَلِكٍ آخَرَ فِي حَرْبٍ، لا يَجْلِسُ أَّوَلاً وَيَتَشَاوَرُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُلاقِيَ بِعَشَرَةِ آلافٍ ٱلَّذِي يَأْتِي عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفاً؟ 32 وَإِلَّا فَمَا دَامَ ذلِكَ بَعِيداً، يُرْسِلُ سَفَارَةً وَيَسْأَلُ مَا هُوَ لِلصُّلْحِ. 33 فَكَذٰلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لا يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ، لا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً.

ومن يخدم الله وحده يفوز فوزاً كبيراً. والمسيح يريك في مثله الحربي، أن إنشاء ملكوت الله يشبه الجهاد المقدس، إذ تقصد أجناد الشر وجيوش الشيطان إهلاكك وإبادة كل المؤمنين. هل تؤمن أن ملائكة الرب الغير منظورة التي معنا تغلب قوة العدو الائلة؟ لا ترتجف من الحكومات والقوانين ورجال التحري والعذاب حتى الموت. واعلم يقيناً أنه لا يتكلل أحد من أتباع المسيح بتاج النصر إلا من يثق بكل قلبه متوكلاً على الرب اتكالاً كاملاً. فلا تستطيع أن تحمي نفسك أو تدافع عن ذاتك. ولكن الذي يتكل لى دم المسيح وبره المجاني، يتفاخر ويقول إن كان الله معنا فمن علينا. فامتحن نفسك، هل المسيح هو تعزيتك الوحيدة وأساس قوتك، أو تريد الفوز في الجهاد المقدس بذكاء حيلك وبلاغة فمك أو عضلات جسدك؟ لا تنسى أن إيمانك قد خلصك وليس المال أو الوساطةالتي لأقربائك. والرب يقول لك: ليس بالقوة وبالقدرة بل بروحي وجسدي. فهل أنت مستعد أن تستغني عن كل الوسائل البشرية لمساعدتك وتفتح الفرصة لتدخل المسيح وحده؟ ويل لك إن تعاهدت مع الفلسفة أو الوسطاء الماكرين أو تتكل على مالك، فتفقد سلطان المسي وتصبح عبداً لمساعديك.

واعلم أن الله قد أوقف بجانبك إخوة مختبرين. وأعطاك عقلاً مثمراً. فلا تخض بخيالك في خدمات روحية تفوق قدرتك ومواهبك، بل ابق صغيراً متواضعاً مجهولاً وكن أميناً في الواجب الذي منحكه الله فتنتصر وتثبت.

14: 34 اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلٰكِنْ إِذَا فَسَدَ ٱلْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُصْلَحُ؟ 35 لا يَصْلُحُ لأَرْضٍ وَلا لِمَزْبَلَةٍ، فَيَطْرَحُونَهُ خَارِجاً. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!.

وقد قال المسيح، أنتم ملح الأرض. وهذه المادة لها وظائف متعددة. فبعضها لتمليح الطعام ولحفظ اللحوم والأغذية. والبعض الآخر يكون سماداً كيماوياً للأرض. فلا يقدر الناس أن يعيشوا بلا أملاح. والمسيح يعتبر أتباعه مهمين إلى درجة أنه بدونهم صبح العالم بلا نكهة ولا حس وتنتهي التوبة. فهل دخلت مرة حبة ملح إلى جرح مفتوح في جسدك، أو إلى جفن عينك فهي تحرق وتؤلم كثيراً. وهكذا شهادتك للحق ودعوتك الناس للرجوع إلى الله، يجب أن تصيبهم وتجعلهم مضطربين وتدفعهم إلى تغيير الذهن.

وإن أهملت طلب المسيح لإنكار ذاتك، تصير بلا قيمة وأرخص من الزبل، الذي يوضع في التراب. والمسيح يخرج هؤلاء العديمي النفع من بيته، ليسقطوا فريسة لسلطة الشيطان.

هل سمعت دعوة الله، ولا زلت مستعداً لإنكار رابطة الدم والقربى والدخول إلى الجهاد المقدس؟ فاشهد بحق الإنجيل بدون تحديد. ولكن إن لم تستعد لتكريس حياتك للمسيح كاملاً، فالأفضل لك ألا تبتدئ باتباعه، لأن ربنا يتقيأ الفاترين من فمه.

الصلاة: يا رب، أنت الملك المتعالي وباني ملكوتك. أنا لست إلا عاملاً مبتدئاً. حررني من محبة ذاتي وأربطة دمي، لكي أصبح عاملاً أميناً مكرساً لك. احفظني في نعمتك، واملأ كل أتباعك بروح شهادتك.

21 - أمثلة عن محبة الله الطالبة الخطاة (15: 1 - 32)

الأصحاح الخامس عشر: 1 وَكَانَ جَمِيعُ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ. 2 فَتَذَمَّرَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: «هٰذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ». 3 فَكَلَّمَهُمْ بِهٰذَا ٱلْمَثَلِ: 4 «أَّيُ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَأَضَاعَ وَاحِداً مِنْهَا، أَلا يَتْرُكُ ٱلتِّسْعَةَ وَٱلتِّسْعِينَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، وَيَذْهَبَ لأَجْلِ ٱلضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟ 5 وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحً، 6 وَيَأْتِي إِلَى بَيْتِهِ وَيَدْعُو ٱلأَصْدِقَاءَ وَٱلْجِيرَانَ قَائِلاً لَهُمُ: ٱفْرَحُوا مَعِي، لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي ٱلضَّالَّ. 7 أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هٰكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ َكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لا يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ». 8 «أَوْ أَيَّةُ ٱمْرَأَةٍ لَهَا عَشْرَةُ دَرَاهِمَ، إِنْ أَضَاعَتْ دِرْهَماً وَاحِداً، أَلا تُوقِدُ سِرَاجاً وَتَكْنِسُ ٱلْبَيْتَ وَتُفَتِّشُ بِٱجْتِهَادٍ حتَّى تَجِدَهُ؟ 9 وَإِذَا وَجَدَتْهُ تَدْعُو ٱلصَّدِيقَاتِ وَٱلْجَارَاتِ قَائِلَةً: ٱفْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ ٱلدِّرْهَمَ ٱلَّذِي أَضَعْتُهُ. 10 هٰكَذَا أَقُولُ لَكُمْ يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلائِكَةِ ٱللّٰهِ بِخَاطِئٍ َاحِدٍ يَتُوبُ».

يبحث الله عن الإنسان. لماذا؟ لأنه يحبه. فهل الإنسان صالح وجميل وثمين حتى يكون لله نفع بطلبه؟ لا شيء البتة، وبالعكس فإن كل إنسان ضال ثائر فاسد غير طالب الله وفار منه. أفلا يكون إذاً ضرورياً لقداسة الله أن يقاصص الخاطئ ويبيده؟ بلى، لكن الله محبة، ويحاول بصبر عظيم أن يخلص الضالين. إنه لا يبيدنا حالاً ولا يرفضنا نهائياً، بل يدعونا ويطلبنا، ويعمل لأجلنا، ويتعب ليجد كل ضال.

ولم يفهم أتقياء العهد القديم هذا المبدأ العميق في محبة الله، وافتكروا بعكس ذلك، إن الواجب على الإنسان، أن يطلب هو الله ليرضيه. وهكذا تعمقوا بالناموس، وحفظوا تقاليدهم بعنف، وتقسوا في قلوبهم تجاه الخطاة المرتكبين ورفضوا الغوغاء، فعما عن محبة الله، ولم يدركوا، أن القدوس هو الأب المحب، الذي يشتاق إلى أبنائه الضالين، ويعمل كل شيء لرجوعهم، ويجتهد لخلاصهم ما دام الوقت.

لهذا ترك يسوع السماء لا لطلب الصالحين والأتقياء، بل ليبحث عن الأشرار ويرجعهم. فحركة محبة الله هذه يفسرها المسيح بأمثاله التالية:

كان لراعٍ مئة خروف وكلها مطيعة وصالحة ومستقيمة وتبعته بثغائها الوديع. ولكن لما عدها مساء ذات يوم، وجد أن أحدها مفقود. وعرف رأساً من هو الناقص، لأن الراعي الصالح يعرف كل خروف باسمه. «العنيد» هرب مرة أخرى ظاناً أن سيده لا يقوده إلى لمراعي الخضراء ومياه الراحة، فأراد أن يفتش عن أسرار الحياة تلقائياً، ويتمتع بعيداً عن أعين الرقباء. وفي عدم خبرته تاه في البرية، وسقط من علو إلى الهوة. ولولا وجود شجيرات من العليق لوقع فوق الصخور وقضي عليه. ولكنه تعلق بأغصان العليق فوق الهوة الفاغرة لابتلاعه، وسمع عواء الذئاب وأبناء آوى. وشعر خائفاً بالخطر، لأنه بعيد عن تلك الرعية المتضامنة. ولكنه لم يقدر أن يرجع الآن، لأنه صار أسير العليقة المؤلمة. وخيم الليل على اليائس. فصرخ منذعراً في الفضاء، فلم يرجع له غير الصدى.

وبعد مدة أصاخ السمع، لأن صوتاً ناعماً حنوناً بدا من بعيد يناديه، ففهم رأساً من هذا الصوت المنادي، إنه صوت الراعي الصالح، الذي نادى باسم الضال، فجاوبه الخروف المرتبط بالشوك بكل قواه: النجدة النجدة، أنا هنا الضال اليائس الشرير، خلصن اغفر لي عنادي. فهبط الراعي الصالح في هوة المخاطرة، وتعب وجذب الخروف الضال إليه، والعرق نازل من جبينه، ولباسه ممزق بالشوك، ودمه نازف من الجراح. وأخيراً رفع الخروف المرضرض على كتفيه وعاد به إلى الحظيرة، لاهثاً متعباً من جراء مشقة عملية الإنقاذ وبعد الطريق. وإنما فرح رغم التعب، لأنه وجد الضال العنيد، وخلص الشرير النادم.

أيها الأخ، هكذا يطلبك يسوع، أنت الهارب في عنادك من الله، والمتعلق في شوك الخطية متدلياً فوق هوة الهلاك. والذئاب تعوي حواليك في الليل الدامس. فهل تسمع صوت الراعي الصالح، وهل تصرخ إليه يا رب نجني؟ ارفع قلبك إلى مخلصك، لأن عونه قريب.لقد سفك دمه ليفديك، ولا يخجل أن يبذل جهده ليخلصك. سلم حياتك ليده، فيرفعك، ويحملك على كتفيه وسط ليلة عالمنا، ويرجعك إلى رعيته. أمحظوظ أنت في المسيح أو ضال في العالم؟ اعلم أن الله والسماء والمسيح والروح القدس والكنيسة على الأرض وكل الملائة يفرحون ويتهللون لأجل رجوعك. ولكن إن بقيت عنيداً بعيداً عن ربك يحزنون حزناً كبيراً.

وفي المثل الثاني يرينا يسوع قيمة الإنسان الضال بواسطة جهد المرأة، التي قلبت كل بيتها لتجد قطعة النقد المفقودة. فكنست تحت كل الخزائن، ونفضت كل الأبسطة، وفتشت في الجيوب والزوايا، وبحثت طوال النهار حتى وجدت القرش الذي فقدته. فتأكد أيا الأخ، إن الله يبحث عنك حتى ولو لم تطلبه. والمسيح هو رمز محبة الله، الذي أتى ليطلبك، ويخلصك أنت الضال. فادرك دافع عمل الله. ليست أعمالك الصالحة ولا صلواتك الرنانة ولا مقاصدك المتبهورة تنشئ خلاصك، بل مسرة الله وحده. هي سبب خلاصك. فلا يوفر الأزلي على نفسه تعباً وجهداً ليجعلك، أنت الزمني الفاني، أبدياً مثله. فما أنت بطالب ربك؟ ولكنه هو باحث عنك. وحيثما انسجمت إرادتك مع مشيئة الله وكانت صلاة قلبك صدى لدعوته، فيعم الفرح في السماوات وعلى الأرض. وهذه الغبطة أعظم من كل الفرح لمعروف بين البشر. ادخل إلى مسرة ربك، الذي يريد أن يكمل فرحه فينا.

الصلاة: أيها الرب الصالح، لست مستحقاً أن تبحث عني. ولكن محبتك أعظم من خطاياي، وصبرك أقوى من عنادي. اغفر لي ثورة أفكاري وارجعني إلى رعيتك، واطلب كل أصدقائي وزملائي، وأنشئ خلاصهم سريعاً، لكي يدخلوا معنا إلى فرحك. نعظم محتك العظيمة، لأن عونك قريب.

22 - الإبن الضال (15: 11 - 32)

15: 11 وَقَالَ: إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ٱبْنَانِ. 12 فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي ٱلْقِسْمَ ٱلَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ ٱلْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ. 13 وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ ٱلاِبْنُ ٱلأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ. 14 فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ، حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ ٱلْكُورَةِ، فَٱبْتَدَأَ يَحْتَاجُ. 15 فَمَضَى وَٱْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ ٱلْكُورَةِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. 16 وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلأَ بَطْنَهُ مِنَ ٱلْخُرْنُوبِ ٱلَّذِي كَانَتِ ٱلْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ. 17 فرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ ٱلْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً! 18 أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، 19 وَلَسْتُ مُسْتَحِقاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ. 20 فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ، فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ. 21 فَقَالَ لَهُ ٱلابْنُ يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً. 22 فَقَالَ ٱلأَبُ لِعَبِيدِهِ: أَخْرِجُوا ٱلْحُلَّةَ ٱلأُولَى وَأَلْبِسُوهُ، وَٱجْعَلُوا خَاتَماً فِي يَدِهِ، وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ، 23 وَقَدِّمُوا ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ وَٱذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ، 24 لأَنَّ ٱبْنِي هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاً فَوُجِدَ. فَٱبْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ.

احفظ هذا المثل جيداً، لأنه يريك جوهر الإنسان وصميم قلب الله. ونسمي هذا الفصل بالأصحاح الذهبي في الكتاب المقدس، لأنه يرينا طريق الخلاص واضحاً.

إراد شاب الاستقلال عن أبيه متكلاً على قدرته وعقله، لأنه قد حصل من أبيه على مواهب عديدة ذكاء وجمالاً ومقدرة. فاعلم أن حصتك أيضاً عظيمة من الله، لأن عينيك وقلبك ورئتيك هي هبة الخالق لك. فليس لنا شيء من تلقاء أنفسنا الكل من أبينا الساوي.

ولما أراد الشاب الانفصال عن أبيه، طلب الآب المحب إليه البقاء بقوله: ابق عندي، أحبك وأساعدك وأباركك. لا تبتعد عني. ليس في العالم رحمة. والله القدير يكلمك بمثل هذه الكلمات اللطيفة. هل تسمع صوته؟

ولكن الشاب أصر على الانفصال والعيش المستقل، ليمارس قوته الخاصة وطلب النجاح، فأعطاه والده مئونة السفر ونصيبه من الميراث. وسمح له بالانطلاق، ولكن بالدموع. هكذا لا يجبر الله إنساناً ما أن يبقى عنده، لأن المحبة تسمح بالحرية، ولا تسبب بودية البتة.

وغرق الشاب في العالم بعيداً عن أبيه، عائشاً من رأسماله في البذخ واللهو والتبذير. وكان له أصدقاء كثيرون، ما دامت أمواله وفيرة وصحته موفورة. ولكن عندما أصبح الفاسد فقيراً ومريضاً، لم يساعده أحد وانفضوا من حوله. فلا تتكلن على إنسان اتكالاً كاملاً، لأنه من ألف صديق لربما بقي واحد أمين في الضيق.

فهكذا سقط ابن الثري ليعمل في رعاية الخنازير، التي هي صورة لحقيقة نفسه الداعرة الموحلة. بفرق أن الخنازير كانت تشبع من الخرنوب اليابس، بينما هو جاع جسداً ونفساً وروحاً.

ومما لا ريب فيه أن الابن الضال قد حصل على رسائل عديدة من أبيه، ولكنه لم يفتحها، لأنه كان يعلم مسبقاً مضمونها: ارجع، أحبك. وفوق ذلك فقد أرسل الوالد مرسلين إلى ولده فلم يستقبلهم. لكن الآن، وقد عضه الجوع بنابه، وملأت الحبيبات والدمام جسده، تذكر محبة والده، وخجل خجلاً مميتاً. هل تؤمن بمحبة الله لك، ولو أهملت أنت محبته؟ ومضى زمن طويل في الصراع النفسي، حتى غلب الابن الضال نفسه وصمم على الرجوع إلى الآب، ليعترف أمامه أنه فاشل. فقد انكسر في داخله، وخجل خجلاً مريعاً. وكانهذا نقطة التغيير في حياته، لأن صورة الآب ظهرت من شعوره الباطني وارتسمت أمام عينيه. فالتصق وتمسك بها بقلبه. هل أدركت أن الله القدوس أبوك الحنون؟ فهو لا يريد قصاصك ولا عذابك، بل خلاصك المبين. هذه هي مشيئة الله. تعال إلى أبيك الذي ينتظرك دئماً.

وكان الطريق طويلاً ودموع الندامة مريرة. ولكن لما اقترب الابن الضال من بيت أبيه، رآه والده، لأنه من زمان كان يترقب عودته وينتظره بشوق. وترك الآب حالاً بيته، وركض نحو الآتي وعانقه وقبله، وغطى عيوبه بحلة محبته. ولم يتكلم بكلمة واحدة ده، ولكن حركات محبته كانت متكلمة أكثر من أجمل محاضرة في العالم. وهكذا بمثل هذه الصورة نؤكد لك، أن الله يركض إليك، ويستقبلك بفرح، إن قمت وذهبت إليه.

ولما شعر الابن بمحبة أبيه، انكسر نهائياً لكبريائه. وتمتم بالدموع: لست مستحقاً أن أدعى لك ابناً، اغفر لي، ودعني أشتغل عندك، لأني جوعان. عندئذ تهلل قلب الآب، لأنه باعتراف الابن ظهر نكران الذات والثقة بالآب وبداية الحياة الجديدة. ولميعترف الابن الراجع أمام أسقف أو كاهن أو قسيس، بل أمام أبيه على انفراد. فنقول لك اعترف قدام الله الآب بحضرة المسيح عن كل ذنوبك وقل: أنا الابن الضال اللص الخاطئ. وتعرف كل ذنوبي وعيوبي. لست متسحقاً أن أدعى لك ابناً. اغفر لي ذنبي، ولا تخرجن خارجاً. طهرني وخلصني، لكي أعيش عندك في الطهارة والسلام، ولا أبتعد عنك مطلقاً.

وبعدما اعترف الابن ابتدأ الآب بالحركة، وأمر بجلب لباس الخلاص الأبيض. وألبسه باصبعه خاتم المجد. وأعطاه حذاء الاستعداد لبشارة الإنجيل. وذبح له أسمن عجل في الدار لإشباع جوعه. وأمر الآب بالفرح في كل البيت. هل تدرك معاني هذه الأمثلة؟ إن الآب يمنحك لباس الخلاص في تطهيرك من خطاياك، ويختمك بروحه القدوس. ويفوضك أنت اللص السابق بالتبشير لخلاصه في محيطك. وكل هذا لأنه كان بذاته الذبيح الذي يشبع العالم ويتمركز فينا، لكي تحل في قلوبنا حياته وقوته ومشيئته. فهل يسكن المسيح فيك؟

وبعدئذ ابتدأ الآب يفرح، ويعبر عن غبطته من قلب فائض بالمحبة قائلاً: ابني كان ميتاً في الخطايا والعيوب، أما الآن فانظروا، إنه حي بواسطة ثقته بمحبتي. لقد رجع تائباً منكسراً، فسريعاً سيصح في بيتي جسداً ونفساً وروحاً. إن حبيبي كان ضالا في عناده وكبريائه، ولكن حبال محبتي أرجعته. فهو مضمون عندي إلى الأبد.

فيا أيها الأخ هل يسمع في السماء ترنيمة أبيك السماوي لك بالفرح؟ هل اتحدت بالله أبيك؟ وهل يعم الفرح في قلبك؟ هل تؤمن بأنك ابن الله وهو أبوك الأمين؟ فلا تنسى، أن الابن الضال بقي ابناً لأبيه، حتى حينما كان بعيداً في خطيته. كما أن أباه بقي أباه دائماً حتى ولو لم يفكر ولده فيه. فتأكد أنك ابن لله حقاً. والخالق الأزلي أبوك بلا انقطاع. فلا تبق بعيداً عنه، بل ارجع. ليتحقق اختيارك، ويثبت فرح السلام بينه وبينك. إن أباك السماوي ينتظرك من مدة. فهل ترجع إليه؟

الصلاة: أيها الآب السماوي، لست مستحقاً أن أدعى لك ابناً. وتعرف ذنوبي وفشلي ومصيري. ارفعني إليك ولا ترفضني، كما قبلت الابن الضال، ولم ترفضه.

15: 25 وَكَانَ ٱبْنُهُ ٱلأَكْبَرُ فِي ٱلْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ ٱلْبَيْتِ، سَمِعَ صَوْتَ آلاتِ طَرَبٍ وَرَقْصاً، 26 فَدَعَا وَاحِداً مِنَ ٱلْغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هٰذَا؟ 27 فَقَالَ لَهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ، لأَنَّهُ قَبِلَهُ سَالِماً. 28 فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ. 29 فَقَالَ لأَبِيهِ: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هٰذَا عَدَدُهَا، وَقَطُ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ، وَجَدْياً لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي. 30 وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ ٱبْنُكَ هٰذَا ٱلَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ ٱلّزَوَانِي، ذَبَحْتَ لَهُ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ. 31 فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ، وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ. 32 وَلٰكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ، لأَنَّ أَخَاكَ هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاً فَوُجِدَ.

كما لقطعة النقود وجهان، كذلك لقصة الابن الضال ناحيتان. فالابن الأكبر بقي عند أبيه أميناً مجتهداً خاضعاً تقياً، واشتغل في الحقل بعرق جبينه، ولم يستسلم للراحة والكسل في البيت. وبمثل الابن الأكبر يشير المسيح إلى اليهود في العهد القدي، حافظي الناموس المجتهدين فيه، وخادمي الله بجهد وتصميم وتقوى، ليربحوا النعيم. ولكن عندما خلص المسيح الزناة والخطاة، بدون أن يكتسبوا الخلاص بأعمالهم الصالحة، تذمر الفريسيون تذمراً هائلاً.

ولما عاد الابن الأكبر من تعبه في الحقل متأخراً في المساء سمع فجأة الضجيج والعجيج والصخب. فتعجب إذ لم يكن متوقعاً حفلة أو عرساً ما في بيته من قبل. ولكن لما سمع أن ذلك بسبب رجوع أخيه الأصغر، الذي استقبله أبوه بالترحاب والتهلل والسرو ودعا كل البيت للاشتراك في الغبطة، استاء واغتاظ بمرارة. وطالب في قلبه بالعدول والحكم على المبذر ورفضه وإبادته، لأنه قد خرب صيت العائلة. فاعتبر أن قبوله على هذه الصورة بالفرح بلا شرط أو جزاء، غير جائز إطلاقاً. وربما فكر في قلبه. ليت هذا لص يأتي إلى حقلي فأعلمه التعب والجهد، لينسى شهواته ولهوه. فأبغض الابن التقي الآب الحنون وكل المشتركين في الفرح، ولم يدخل إلى البيت عاصياً، وانفصل عن ربه.

وحينئذ حدث الأمر الغريب وهو الأعجوبة الثانية للأصحاح الذهبي، فالآب بقي أباً حناناً للناموس القاسي، ولم يرفضه، وقام وتقدم إلى المنزوي في الليل، بدون أن يقبل إليه ذلك العنيد خطوة واحدة. وتكلم معه بلطف، وحاول ربح قلبه وملء فؤاده بمحب نحو أخيه الراجع.

ولكن التقي المغتاظ اشتكى على أبيه بصوت حاد، ولم يسمه أباً فيما بعد، بل ابتدأ بقوله: ها أنا، مظهراً أنانيته القارعة، مطالباً بحقوقه ومبرزاً صلاحيته. ولم ير إلا استقامته الموهومة، فجعل نفسه مقياس الكل. ولم يلاحظ أن الراجع الضال أصبح باراً، بينما هو التقي الأمين، تحول بعصيانه إلى ضال كنود ساقط. والغاضب لم يسم أخاه الراجع أخاً عند ذاك، بل ألقى في وجه أبيه الكلمة الشريرة «ابنك هذا» الزاني المجرم، لا علاقة لي به. أنا طاهر، وهو عاهر. وأنت تنجس بيتنا بقبول هذا المجرم. وقد ذبحت لهذا الشحاذ أثمن عجل في المزرعة. وأنا القنوع المتواضع لم أتمتع بشيء، وعشت كئيباً منكسراً. وأنتم الآن تفرحون وتهللون.

ربما اضطرب قلب الأب من كلمات ابنه الخشنة، كإنما ضربه بمطرقة ساقطة على قلبه الفرحان فانزعج بألم كبير. ولكن في صبره المقدس أراد هذا الأب الحكيم نجاة ابنه الأكبر أيضاً محاولاً كسب محبته. ولم يسمه متمرداً أو عنيداً أو ثائراً، بل خاطبه يا ابني، بألطف كلمة نطقها أب لولده. فأراد انكسار بغضته بهذا النداء اللطيف. وزيادة على ذلك برهن، أنه لم يتكلم بعاطفة فقط، بل بمعاني الحق قائلاً: أنت دائماً معي. ليس أعظم من هذه الكلمة، التي يقولها الله إلى الإنسان. وأكمل الأب رأساً: كل من عندي هو لك. فقف يا قلب واسجدي يا روح! أن الله لا يخاطبك وأنت عاص بقوله: اذهب عني يا ملعون، بل يؤمن لك كل غناه وحقوقه وقوته وتطورات المستقبل. كل ذلك لك. كل ما هو لله فهو لك. وأكثر، فإن هذا القول من فم الله يعني: أنا خاصتك في سبيل المحبة أنا لك كأب لولده.

أيها الأخ، إن لم تدرك بعد من هو الله في العهد الجديد، فاقرأ كل القصة من العدد الحادي عشر إلى الحادي والثلاثين مرة أخرى. وصل لكي تعرف أن الله لا يعلم ذاته للأبرار فقط، بل يهب ذاته للضالين الخطاة وللأتقياء القساة بنفس المقدار. فالله محبة بلا حدود، ورحمته واسعة لا تنتهي.

وكمل الأب قوله للابن المعرض عنه: إن فهمت أو لم تفهم، كان من الواجب أن نحتفل ونفرح برجوع أخيك. وهذا يعني اليوم بالنسبة لك، إن كل إنسان أخوك. وينبغي أن يرجع إلى الله وأن تشترك في نقل بشارة الخلاص إلى الآخرين؟ إن كل خاطئ يتوب يشبه مياً يقوم من الموت، وكل فاجر يتجدد بكلمة الروح القدس، وهو أهم من الملائكة، لأن الله وجد فيه ابناً. فاليوم تنتشر أمواج الفرح والغبطة حول الكرة الأرضية، لأن ملايين من الناس يتوبون ويتجددون فهل تفرح معنا، أو تتذمر في مشاكلك؟

الصلاة: الحمد والشكر والسجود لك، أيها الآب السماوي، لمحبتك وصبرك ولطفك لأنك لا تحطم العاصي رأساً، ولا تتركه وحيداً، بل تطلبه، وتتكلم معه وتهديه نفسك. اغفر لنا قساوة قلوبنا، واملأ عواطفنا بمحبتك، لكي نفرح بكل إنسان يتجد، ونبشر باسمك الأبوي على الدوام.

23 - نصائح وتحذيرات في استعمال المال (16: 1 - 18)

الأصحاح السادس عشر: 1 وَقَالَ أَيْضاً لِتَلامِيذِهِ: «كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَهُ وَكِيلٌ، فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ. 2 فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا هٰذَا ٱلَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لا تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ. 3 فَقَالَ ٱلْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي ٱلْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ. 4 قَد عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ، حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ ٱلْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ. 5 فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ، وَقَالَ لِلأَّوَلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟ 6 فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَال لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَٱجْلِسْ عَاجِلاً وَٱكْتُبْ خَمْسِينَ. 7 ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟» فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَٱكْتُبْ ثَمَانِينَ. 8 فَمَدَحَ ٱلسَّيِّدُ وَكِيلَ ٱلظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ، لأَنَّ أَبْنَاءَ هٰذَا ٱلدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ ٱلنُّورِ فِي جِيلِهِمْ. 9 وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ٱصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ ٱلظُّلْمِ، حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي ٱلْمَظَالِ ٱلأَبَدِيَّةِ. 10 اَلأَمِينُ فِي ٱلْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضاً فِي ٱلْكَثِيرِ، وَٱلظَّالِمُ فِي ٱلْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضاً فِي ٱلْكَثِيرِ. 11 فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ ٱلظُّلْمِ، فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى ٱلْحقِّ؟ 12 وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا هُوَ لِلْغَيْرِ، فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا هُوَ لَكُمْ؟ 13 لا يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ ٱلْوَاحِدَ وَيُحِبَّ ٱلآخَرَ، أَوْ يُلازِمَ ٱلوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ ٱلآخَرَ. لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا ٱللّٰهَ وَٱلْمَالَ.

لم يعمق المسيح تلاميذه بمحبة الآب السماوي فقط، بل علمهم أيضاً كيف يجب أن يتصرفوا بالمال على الأرض، لكي يغلب نظام السماء فوضى دنيانا. ونقرأ في هذه القراءة خمس مرات الكلمة «ظلم» ومشتقاتها، لأن التملك والتدبير في الأموال مرده أكثر مم نعرف إلى الظلم.

أن الله مالك الكل، وجميع الناس وكلاؤه (15: 31) فأبسط خدمة نؤديها لله، هي أن نبني ملكوته الأزلي بأموالنا وأوقاتنا وأذهاننا وممتلكاتنا. وكل إنسان يعيش لنفسه هو سارق الله. وكل راعي روحي يرعى نفسه ولا يخدم الرعية المستودعة بين يديه هو الم. فكلنا نشبه وكيل الظلم، لأننا نتعب أولاً لمصلحتنا، وبعدئذ نفكر قليلاً في ما هو لله. ويبني الإنسان بيوتاً، ويصرف أمواله ووقته لتخطيطه، ولكنه قلما يجعل إنشاء ملكوت الله وتقديس اسمه الأبوي هدفه الأول.

ويل لنا نحن الوكلاء الظالمين! علينا الحساب لأننا مديونون مذنبون. أما الوكيل الظالم في مثل المسيح، فقد كان ذكياً بمقدار أنه جعل لنفسه أصدقاء بالمال المستودع بين يديه، خوفاً من نتائج الدينونة الآتية. وبما أن كل أموالك خاصة الله مبدئاً يقترح الرب عليك أن تعطي على الأقل جزءاً من المال إلى المحتاجين لتكسب أصدقاء. تنازل عن قسم من ديونك التي عليهم. اعطهم عملاً كافياً وليس صدقة. ساعد المريض إلى أوان شفائه. صل لينيرك الروح القدس، حيث يجب عليك التضحية الملموسة، لنشر ملكوتالسموات. إن كل أموالك تخص الله. فمتى تستخدمها حسب مشيئته؟

وسمى يسوع كل أنواع المال مال الظلم، لأن في كل ورقة أو قطعة نقدية تلتصق لعنات وخداع ودموع وظلم. انفصل عن مال الظلم سريعاً، لكيلا تثبت في ظلمات الشر. والمسيح يأمرك بتضحيات عملية، لتحقق بمال الظلم خدمات المحبة. فبواسطة التقدمات يتقدسمال الظلم. ولكن لا تظن أن لك فضلاً بواسطة تقدماتك. ولا تربح النعيم بتضحيات كبيرة، لأن عطاياك ليست تضحية حقة، على أساس أن كل مالك يخص الله. وإن أهديت منه قليلاً، فقد استخدمت قليلاً من المال حسب إرادته. وهذا لا يساعد لتبريرك، ولا يخولك مكفأة السماء، لأنه واجب.

ولكن إن لم تضح بمالك ووقتك وقوتك في سبيل المسيح،، فسيشتكي عليك في الأبدية كثير من المساكين والفقراء. ويقولون لربهم هذا الإنسان البخيل عاش لنفسه، وله قلب قاس، ولم يرنا ويهتم بنا، ورغم أنك وضعت في يديه كثيراً من الأموال والأوقات.

ربما تقول، أن عليّ أن أعيش وأكسب مالاً لأعيل أسرتي، فكيف أقدر أن أضحي بما عندي؟ فيقول الرب لك اعرف أولاً أنك وكيل صغير لله. فكل خدماتك في المعمل والمدرسة والعائلة عبادة إلهية. فكن أميناً في صرف كل قرش، لأن ليس تصرفاتك بالمبالغ الكيرة هي التي تظهر أخلاقك، بل بمعاملتك مع المبالغ الصغيرة تظهر من أنت؟ فماذا تعمل بالطوابع والأقلام والمسامير والتفاح والأشياء الأخرى الخاصة لرب عملك؟ هل أنت أمين في القليل بنسبة خطك وملابسك وفي ترتيب اعمالك المكتبية؟ هل كل حياتك مرتبة بوسطة الروح القدس، الذي هو روح النظام أيضاً؟ فإن أمانة الله تشاء أن تنظم كل حياتك لتصبح أميناً كما هو أمين. فراجع كل أمورك المادية في الماضي والحاضر، لأن على أمانتك في القليل يتوقف مستقبلك على الأرض وفي السماء. وكل مدير خبير يفحص موظفيه وماله خلال السنين، كيف يتصرفون بالأمور الصغيرة، قبل أن يوكلهم بمسؤولية ضخمة. فنظير ذلك يعطيك رب السماء في ملكوته أولاً خدمات بسيطة. ويراقب أمانتك في صلاتك لأجل الآخرين، وكيف تستعد لمدرسة الأحد، وكم مرة تنصح أصدقائك لبنيان أنفسهم على أساس الإيمان. فالأمانة في الأمور الصغيرة هي جوهر السماء الحال في قلب المؤمن.

والمسيح يطعنك لآخر أعماق نفسك قائلاً: لا تحب المال، بل أحبني أنا، فأنا ضمانة حياتك. لا يساعدك المال، لأني أنا أخلصك. لا تتكل على عضلاتك، ولا على خبرة عقلك، ولا على رصيدك في البنك، بل التصق بي كغصن في الكرمة. فلا تجمع الأموال لتبنيمستقبلك، ولا تسقط إلى مخالب الشيطان. إن المال يحكم العالم. فمن يتمركز في المال، يترك المسيح ويبغضه سريعاً. فليس أحد يقدر أن يخدم سيدين. فإما أن تكون عبداً للمال، أو ابناً لله.

الصلاة: أيها الرب كلنا وكلاء ظلم. ولم نستخدم مالك ومواهبنا حسب إرادة محبتك. اغفر لنا بخلنا، وعلمنا التضحية. لكي يصل مالك إلى المحتاجين عملياً، ونعطيهم عملاً بحكمة. حررنا من كل شبه محبة المال، واجعلنا أمناء حكماء في تدبر المبالغ الصغيرة، ونظم كل حياتنا لكي نحبك، ونتبرر باسمك آمين.

16: 14 وَكَانَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً يَسْمَعُونَ هٰذَا كُلَّهُ، وَهُمْ مُحِبُّونَ لِلْمَالِ، فَٱسْتَهْزَأُوا بِهِ. 15 فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تُبَرِّرُونَ أَنْفُسَكُمْ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ! وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ يَعْرفُ قُلُوبَكُمْ. إِنَّ ٱلْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ ٱلنَّاسِ هُوَ رِجْسٌ قُدَّامَ ٱللّٰهِ. 16 كَانَ ٱلنَّامُوسُ وَٱلأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا. وَمِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَغْتَصِبُ نَفْسَه إِلَيْهِ. 17 وَلٰكِنَّ زَوَالَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ. 18 كُلُّ مَنْ يُطَلِّقُ ٱمْرَأَتَهُ وَيَتَزَّوَجُ بِأُخْرَى يَزْنِي، وَكُلُّ مَنْ يَتَزَّوَجُ بِمُطَلَّقَةٍ مِنْ رَجُلٍ يَزْنِي.

في زمن المسيح كان في الأمة اليهودية نوعان من الناس، زناة عشارون خطاة دنسون جهلاء، ومقابلهم المتعلمون الأتقياء، المحتقرون للفريق الأول الغوغائي، ظانين بأنفسهم أنهم وحدهم نبلاء أبرار ومقربون إلى الله صالحون.

وكان كلما أتى يسوع إلى مدينة يحدث نفس الشيء. المساكين والخطاة والبسطاء يتوبون ويتبررون، ولكن الأتقياء المنتفخين والمصلين المكتفين تتقسى أنفسهم ولا يتوبون. فحدثت العجيبة، أن الخطاة تبرروا، بينما الأتقياء بقوا خطاة.

وقد أصابهم يسوع محطماً أشكال طقوسهم المرائية، وطعن في سجودهم للمال، وكشف عبوديتهم في قيودهم الذهبية. فاستهزأ بيسوع المنكشفون المنفضحون. وأما هو فأدان ذهنهم المرائي بشدة وقال لهم، إن الله العليم أبصر كبرياءهم وطمعهم، وعرف كل نواحي ميم قلوبهم. فهل تعرف أنت، إن الله البصير يدرك كل فكرك، ويسجل كل أعمالك في السماء؟ ألا تزال تفكر أنك إنسان ثمين وجيد وبطل؟ كل من يرفع نفسه يتضع، لأن الله العليم يقاوم المستعلين، إذ بالحقيقة ليس إنسان مخلوق مهماً، كلنا صغار بنسبة الله العيم. فيعتبر تجديفاً أن نؤله إنساناً ونرفعه صورة كبيرة في غرفنا وشوارعنا ونتكل عليه، كأنه مقتدر لتغيير الأحوال في مجتمعنا. الله هو ضابط الكل. ونشبه أمامه ديداناً يرحمها. هل تريد الشهرة، الذكاء، والخبرة، ليعتبرك الناس كبيراً مهماً؟ فتسقط حماً إلى جهنم. أو أنك تفضل أن تبقى صغيراً متواضعاً خادماً مجتهداً ولا يعرف اسمك في المجتمعات، وترفض الغنى والكبرياء؟ عندئذ يقف يسوع إلى جانبك، ويكون هو كنزك وحمايتك ومستقبلك.

إن يسوع يهدم كبرياء المستقيمين، ويريهم أنه ليس أحد يربح ملكوت الله بأعماله الذاتية. والمؤمن وحده يدخل باب السماء. وهذا كان صدمة للناموسيين، أن الزناة والسارقين يتبررون بواسطة إيمانهم وحده. فليس عندهم ما يقدمونه لله، إلا الديون والنوب والندامة والدموع. ولكن الله العليم، يفضل استجابة صلاة قلوبهم المنكسرة ألف مرة على ترانيم المتكبرين الذين يحتقرون الأشرار. أن من قبل كلمة يسوع ووعوده، قد حصل على مفتاح باب السماء مجاناً. ويفتحه ويدخل بالإيمان إلى ملكوت الله. ويتعجب كف سهلت محبة الله لنا التقدم إلى القدوس. فإيمانك قد خلصك.

عندئذ تهلل الفريسيون في قلوبهم ظانين، أنهم قبضوا الآن على يسوع، لأنه قال أن كل إنسان يغتصب نفسه إلى ملكوت الله بواسطة الإيمان فقط. فأبان لهم القدوس كأنه يقول: يا أغبياء ومحدودي الفهم. نعم أن المؤمن يتبرر بالنعمة، ولكن هذه النعمة ترس بنفس الوقت الناموس كله في قلبه. فيحفظ الشريعة ليس ببره الخاص، بل شكراً وحمداً للبر الموهوب له. فالمؤمن في العهد الجديد يرفع الناموس أعلى مما يرفعه أعضاء العهد القديم. فأتباع المسيح يحبون أعداءهم أكثر مما يطلبه منهم الناموس، ويطهرون ف قلوبهم بالنعمة أكثر مما يحفظون وصية منع الزنا فقط، بل يصبح المؤمن عفيفاً بكليته بواسطة الروح القدس.

وبعدئذ أدان يسوع بسيف كلمته أسلوب الطلاق المتحايل بيد الفريسيين، الذين سمحوا به إن أتى المشتكي بشاهدين مبرهنين على دعوته. أما المسيح، فأكد أن الزواج غير قابل للطلاق، لأن الزوج والزوجة أصبحا وحدة روحية مرتبطة بالشعور الباطني عميقاً فالاثنان لا يصبحان جسداً واحداً فقط، بل يتحدان أيضاً في النفس، لأن الامرأة لا تفهم العالم من تلقاء نفسها بل بواسطة عيني رجلها. كما أن الرجل يترك أباه وأمه ويلتصق بزوجته. فمن يحل الرباط العميق بين قلبين، ولا يقود المختلفين إلى الغفران ولتواضع والصلح، يساهم في كسر العهد الزوجي ويكون مذنباً معهما.

ويسوع يقودنا إلى درجة أعلى من ذلك. ولا يقول: المتطلقان صارا حرين، بل يبقيان دائماً مرتبطين بقلبيهما. فمن يتزوج امرأة مطلقة يتجنى على عهد زواجها السابق، حتى ولو طلقت رسمياً. أن نظام الناموس متصل عميقاً بطبيعة الله، أكثر مما تدركه عولنا. ولا يجد الإنسان راحة إلا أن يعيش في ضبط محبة الله.

وحتى الآن نجد نوعين من الناس، مستكبرين ومحبين المال، وعائشين في الدعارة، مغطين أنفسهم الملوثة بلباس التقوى الظاهرية المرائية، أو الذين قادهم الروح القدس إلى التواضع، وحررهم من الهموم والطمع، وحرضهم إلى طهارة المسيح. فيعترفون بخطايهم خالعين قناع تقواهم، متبررين بدم المسيح وحده. فلأي من الفرقتين تنتسب أنت؟ أتبقى فريسياً مستكبراً، أو خاطئاً متواضعاً، قاده الروح القدس إلى الإيمان بالمسيح وخلاصه، ويدخله إلى باب السماء المفتوح؟

الصلاة: يا رب احفظنا من الرياء ومحبة المال والكبرياء، وقدنا للاعتراف والحرية من النجاسة. أنت القدوس وسلكت بقداسة على الأرض. نسجد لك ونحبك ونطلب إليك، أن تغير ألوفا من أمتنا بواسطة الإيمان بك، لكي يغتصبوا أنفسهم إلى ملكت الله ويمتلئوا محبة.

24 - مَثَل الرجل الغني ولعازر الفقير (16: 19 - 31)

16: 19 «كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ وَكَانَ يَلْبَسُ ٱلأُرْجُوانَ وَٱلْبَّزَ وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهاً. 20 وَكَانَ مِسْكِينٌ ٱسْمُهُ لِعَازَرُ، ٱلَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوباً بِٱلْقُرُوحِ، 21 وَيَشْتَهي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ ٱلْفُتَاتِ ٱلسَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ ٱلْغَنِيِّ، بَلْ كَانَتِ ٱلْكِلابُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ. 22 فَمَاتَ ٱلْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ ٱلْمَلائِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ ٱلْغَنِيُّ أَيْضا وَدُفِنَ، 23 فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَهُوَ فِي ٱلْعَذَابِ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ، 24 فَنَادَى: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ ٱرْحَمْنِي، وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ ِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي، لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هٰذَا ٱللَّهِيبِ. 25 فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ٱبْنِي ٱذْكُرْ أَنَّكَ ٱسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَذٰلِكَ لِعَازَرُ ٱلْبَلايَا. وَٱلآنَ هُوَ يَتَعَّزَى وَأَنْت تَتَعَذَّبُ. 26 وَفَوْقَ هٰذَا كُلِّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُّوَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ، حَتَّى إِنَّ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْعُبُورَ مِنْ هٰهُنَا إِلَيْكُمْ لا يَقْدِرُونَ، وَلا ٱلَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنا. 27 فَقَالَ: أَسْأَلُكَ إِذاً يَا أَبَتِ أَنْ تُرْسِلَهُ إِلَى بَيْتِ أَبِي، 28 لأَنَّ لِي خَمْسَةَ إِخْوَةٍ، حَتَّى يَشْهَدَ لَهُمْ لِكَيْلا يَأْتُوا هُمْ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِ ٱلْعَذَابِ هٰذَا. 29 قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: عِنْدهُمْ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءُ. لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ. 30 فَقَالَ: لا يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ. بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ. 31 فَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانُوا لا يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاِء، وَلا إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ».

زعزع المسيح قلوبنا بوصف السماء وجهنم في الحاضر والآخرة. فالرجل الغني كان متعجرفاً لابساً ثياباً لامعة فخمة، متجولاً كطاووس. وكا لديه دائماً كثير من الضيوف المرنمين يبطرون. ومع ذلك فقد كان رجلاً عادياً، وما ارتكب خطية ظاهرة شنيعة. لكن الخير المعروف لم ينفذه. وهذا كان خطيته، لأنه كان وكيلاً مسؤولاً عن كل ممتلكاته أمام الله. ولم يصطنع أصدقاء بمال الظلم (16: 1 - 13). فأصبح قلبه قاسياً لحب المال. ولم ير المريض المنطرح في الممر المؤدي إلى باب بيته.

وكان اسم ذلك المسكين لعازر، ومعناه الخالي من عون البشر. أو الله عونه. فهذا المسكين رُفض من أقربائه وأصدقائه لأجل رائحة القروح، التي في كل جسده، وعدم وجود من يعالجه. وربما ظنوا أن الغني يهتم به، ليس لأجل الرحمة. بل ليتخلص من المنظرالقبيح أمام بابه. ولكن المتقسي قال لنفسه: إذا ابتدأت بمساعدة واحد، يصبح بيتي كله مستشفى للمرضى ومطعماً للنزلاء الجياع. فتركه على حاله حتى جاءت الكلاب، ولعقت قروحه الدملية، وأضعفه الجوع، وصار مهلهلاً كثوب رث، فمات جوعاً وتفتت.

كلنا نشبه هذا الرجل الغني، الذي ما ارتكب شراً، ولكنه أهمل الخير المعروف. فقلبنا القاسي هو خطيتنا البارزة. فهل عندك شفقة للفقراء والأغبياء والمرضى والبسطاء، أو تكون متجولاً كالطاووس في محيطك، ولا ترى إلا نفسك ومشاكلك، ولا ترحم عمليً المسكين المطروح أمام بابك؟

فمات لعازر المسكين، ولم يدفنوه رسمياً، بل ألقوه في الجب. أما اسمه فكان مسجلاً في السماء. عندئذ انفرج الغني وحاشيته لموت القبيح، لأن رائحة النتن انتهت من أمام داره. ولكن عما قريب مات الوجيه أيضاً لبطره وسكره وتبع تابوته الذهبي المرفع على الأيدي والأعناق موكب ضخم طويل. فكل المدينة تبعته. ولكن ملائكة الله لم تهتم به، لأن اسمه ما كان معروفاً في السماء البتة. وبينما حمل رسل الله لعازر المسكين رأساً إلى رحاب الله، حيث يرتاح الأموات المخلصين، منتظرين القيامة المجيدة، سط الغني خالياً من كل قرش كان معه، وعارياً من كل ملابسه الأرجوانية اللامعة، إلى مكان ممتلئ بالدخان الناري. حيث يتعذب الأموات الأشرار. فقد استحال نصيبهم وتغيرت حصصهم. فبعد أن كان المسكين في جهنم على الأرض، صار في فردوس الله بعد موته، بينم الغني الذي كان في جنة أرضية، دخل جهنم الملتهبة رأساً. لم نقرأ أن الفقير كان مؤمناً ولكن دخوله راحة الله يرينا، أنه قد تبرر بإيمانه الذي قواه إلى صبر فائق في آلامه. أما الغني فلم تكن له محبة، لأنه لم يكن له إيمان.

هل تعرف جهنم؟ أن المسيح لأجل انكسار نفسك، فتح قليلاً من الستار المسدل بينك وبين الآخرة. فانتبه بصورة خاصة للأفعال، التي نطقها الغني أثناء كلامه بعد الموت، فتدرك مرتعباً، أن الأموات يستطيعون البصر والتفكير والمعرفة، والتكلم والطلب الرجاء والإرادة. فليسوا عدماً بلا حس، بل يشعرون ويعطشون، ويشتاقون إلى تخفيف العذاب، ويتألمون كثيراً، في بحر اللهيب. لا تقل هذه صور وخرافات لأن يسوع ليس كاذباً، بل يحذرك بهذا الإعلان، ويكشف لك عن سر جهنم، لكي تستعد أثناء حياتك إلى الآخرة

والغني السابق - الفقير الآن - رأى الفقير السابق - الغني الآن - محفوظاً في راحة الله. وسمى اليهود هذا المكان حضن إبراهيم، لأنه كان أبا المؤمنين، ويرجع إليه الذي من إيمانه. والغني المتعجرف سابقاً، الذي عامل لعازر أثناء وجودهما في الالم بأقل من كلب، أصبح الآن يلح طالباً رحمة من لعازر بواسطة إبراهيم. علماً أن إبراهيم حي، ويعيش إلى الأبد في كيانه السماوي. ولكنه لا يقدر أن يساعد ابنه الضال، حتى ولو التمس عونه، لأن بين السماء وجهنم توجد هوة عميقة، لا يقدر الشيطان ولا ماك ولا قديس اجتيازها. فمن سقط إلى جهنم يبقى فيها. ومن دخل السماء يثبت في الله بلا انقضاء.

وعذاب المتألمين في جهنم يزداد، لأنهم يفكرون بحدة الأفكار، ويرون ويسمعون الحقيقة بدقة. ويتذكرون الأشياء الشريرة، التي ارتكبوها في حياتهم الدنيا. كما يعرفون أن الخير قد أهملوه. وقد كانت ندامتهم على الفرص التي أضاعوها دون أن يغتنموهابعمل الخير كبيرة، وآلم من خجلهم على ذنوبهم التي فعلوها. فالحبة وحدها تدرك ضيق الآخرين وتساعدهم. فكل نقص في تنفيذ الخدمات دليل على نقصان المحبة. فأين كبرياؤك لبرك؟ فابك اليوم، لكيلا تبكي غداً. وتعمق في الكتاب المقدس بشدة ليمتلئ قلبك محبة ويدفعك رحمة للضالين. فتنكر نفسك وتنسى ذاتك، وتغرق في بحر محبة الله، خادماً لكل الناس في كل أوان وحين.

ولما أدرك الغني اليائس، أنه ليس لعذابه تخفيف ولا رجاء لخلاصه، تذكر بفزع أنه قد قصر أيضاً في إعلام إخوته الخمسة عن الخلاص والآخرة. لقد كانوا كلهم ملحدين. فالهالك طلب الآن من إبراهيم المغبوط، أن يرسل لعازر السعيد إلى أولئك الإخوة، اذين ما زالوا أحياء في الدنيا، لينذرهم وليتوبوا فوراً ولعلهم يرجعون. ربما كان الغني أثناء دنياه مشتركاً بجلسات مع الأرواح النجسة، ورجا أن يرى إخوته نوراً من السماء، منقذفاً عليهم متلألئاً، ليهز قلوبهم فيهتدون.

ولكن إبراهيم أعاد كلمته القاطعة مرتين، مقرراً أنه ليست رؤية سماوية ولا تبصير العرافين ولا الالتقاء بأرواح الأموات، يخلص أناساً أو يصلحهم، بل كلمة الله وحدها. وليست أعجوبة ولا تموجات العواطف، تستطيع تغيير قلبك الشرير، إلا الناموس ولإنجيل وحده. فشهادة كلمة الله خالقة وقادرة لتخلص كل إنسان ضال شرير.

أيها الأخ، ادرس يومياً كلمة المسيح بأمانة، لأنها الوسيلة الفريدة لإصلاح قلبك، وتغير مصيرك من جهنم إلى ثباتك في السماء. اغلب مصلياً شعورك الرافض للقراءة في الكتاب المقدس، لأن كلمة الله تشبعك كالخبز الذي يقيت معدتك. والإنجيل يطفئ عطك كماء بارد.

الصلاة: أيها الرب يسوع، أنت رئيس الحياة، وتحيي بمحبتك من يؤمن بك. كلنا أموات في الأنانية، فأمت موتنا، لنحيا في حياتك. ونحب المحتاجين، ونخدمهم سريعاً وتماماً اغفر لنا فرصنا الخيرة الماضية التي أهملنا، واملأنا بروحك القدس، لترفعنا محبتك إلى مستواك.

25 - أبحاث المسيح مع تلاميذه (17: 1 - 10)

الأصحاح السابع عشر: 1 وَقَالَ لِتَلامِيذِهِ: لا يُمْكِنُ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَ ٱلْعَثَرَاتُ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ! 2 خَيْرٌ لَهُ لَوْ طُّوِقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحىً وَطُرِحَ فِي ٱلْبَحْرِ، مِنْ أنْ يُعْثِرَ أَحَدَ هٰؤُلاءِ ٱلصِّغَارِ. 3 اِحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ.

يا رب كلمتك كمطرقة تكسر الصخور، وكسيف تفرق النفس في أعماقها. إن العالم مليء بالشر، وكل شرير يسبب البغضة، والشهوة تثير الشهوة، والبخل يحرض الناس لجمع المال، والانتقام يعقبه سلسلة تقاتل. فقال المسيح: مستحيل ألا تأتي العثرات، لأن العلم وضع في الشرير، والبشر سكارى بالروح الرديء. ومن يثبت في روح محبة ذاته، ويضر الآخرين بقدوته الرديئة وأعماله النجسة، ولا يساعدهم للخلاص والطهارة، فإنه يفسد مخلوقات الله إفساداً كبيراً، والدينونة متربصة به. ويفسر المسيح القصاص المعد لهذاالإنسان بعد موته، إنه أصعب من أن يوضع حجر الرحى في عنقه، ويؤخذ في زورق ويلقى في أعماق البحر، حيث يصبح طعاماً للسمك.

كل الأولاد يحملون في أنفسهم إرث الشر والميل إلى الخطية. ولكن من يوقظ فيهم هذه الدوافع والصفات، ويعودهم على الكذب والشتم والغضب والنجاسة والدعارة والسرقة وقساوة القلب وكل ما هو رجس في عيني الرب، فهذا ويل له! ويل لنا نحن الوالدين، إ لم نكن قدوة مقدسة متواضعة لأولادنا. وويل لكل معلم وعم وخال وقريب ومختار وقسيس، لا يسلك طاهراً منكسراً أمام الله، لأنه يؤثر في محيطه تأثيراً سيئاً. وهل لاحظت كيف رسم المسيح بكلماته الحكم عليك؟

17: 3 وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ، وَإِنْ تَابَ فَٱغْفِرْ لَهُ. 4 وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي ٱلْيَوْمِ وَرَجَعَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي ٱلْيَوْمِ قَائِلاً: أَنَا تَائِبٌ فَٱغْفِرْ لَهُ.

هل تريد انكسار كبريائك في نعمة المسيح، وتخدمه في روحه القدوس؟ فحذر كل أخ في الروح، إن هو شارف على ارتكاب خطية، لكي لا يقع فيها. تذكر أنك في الأساس مجرم، ولكن الله أنعم عليك بالتبرير. وإن أساء إليك أحد من أقربائك أو زملائك، فصل رأسً إلى الله، ليغير قلبه، وينير ذهنه ليتوب ويندم. واغفر للتائب كاملاً، حتى ولو لم يبد إلا علامة بسيطة من الندامة على فعله. ولعله من الخير أن تستسمحه أولاً، لأنك لست بأفضل منه. وقد اشتركت في المشكلة، ولست كاملاً. فانحن أنت القوي في الروح ألاً، واستغفر من خصمك سبع مرات في سبعين مرة كل يوم. واغفر له مرات أكثر إن لاحظت ندمه على فعله شره. ولا تبغضه البتة حتى ولو لم يتب، بل احببه وصل لأجله. فتصبح ينبوع بركة وسط البغضة والقتال.

17: 5 فَقَالَ ٱلرُّسُلُ لِلرَّبِّ: «زِدْ إِيمَانَنَا». 6 فَقَالَ ٱلرَّبُّ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهٰذِهِ ٱلْجُمَّيْزَةِ ٱنْقَلِعِي وَٱنْغَرِسِي فِي ٱلْبَحْرِ فَتُطِيعُكُم.

ولما سمع الفريسيون ناموس محبة المسيح الجديد صمتوا، ولم يقدروا أن يقدموا حجة ضد تعليم ابن الله، لأن الناموس الجديد بالنسبة للناموس القديم كالسماء فوق الأرض. ولكن الرسل سألوا المسيح مرتجفين: يا رب زد إيماننا أعطنا إيماناً عاملاً في لمحبة، لا يهمل الخير ولا يسبب عثرات، ويغفر كغفران الله. فجاوبهم المسيح وأصابهم في قلوبهم المرتجفة وقال: لو أن عندكم إيماناً قليلاً جداً تستطيعون المستحيل، فتقولون للجميزة، الخالية من الثمار والمشبهة لشعب اليهود، أن تنقلع من الأرض بواسطةشهادة إيمانكم. هذه الثمار التي لم تنتج في الأرض الطيبة. فجمد تفكير الرسل استغراباً، ولم يفهموا قصد المسيح أو يدركوا هدف كل إيمان حق! فكان لا بد للمسيح أن يفهمهم أن الخلاص ليس منحصراً بهم وحدهم، بل هو معطى لكل إنسان يؤمن به. فالروح القدسيقودنا اليوم للصلاة التبشيرية والخدمات في الشهادة، لكي يمتلئ بحر الشعوب بقوة ربنا يسوع المسيح. ويأتي ملايين من الناس بالثمار، التي كان على اليهود أن يأتوا بها لو اعترفوا بيسوع وقبلوا رسالة الإنجيل.

أأنت مؤمن؟ إن كان نعم فارفع صلاة الإيمان إلى أبيك السماوي، واسأله أن يغرس حياته الأبدية في صحراء محيطك. وهذا مستحيل للعقل البشري، ولكنه مستطاع عند الله. صل ولا تشك، لأن المسيح يتشفع بصلاة الإيمان، فتقتدر كثيراً في فعلها، وترى كيف حبة الآب تنسكب في قلوب التائبين، فيمتلئوا بثمار الروح القدس. فلا يسببون عثرات، ويغفرون ذنوب خصومهم باستمرار.

17: 7 «وَمَنْ مِنْكُمْ لَهُ عَبْدٌ يَحْرُثُ أَوْ يَرْعَى، يَقُولُ لَهُ إِذَا دَخَلَ مِنَ ٱلْحَقْلِ: تَقَدَّمْ سَرِيعاً وَٱتَّكِئْ. 8 بَلْ أَلا يَقُولُ لَهُ: أَعْدِدْ مَا أَتَعَشَّى بِهِ، وَتَمَنْطَقْ وَٱخْدِمْنِي حَتَّى آكُلَ وأَشْرَبَ، وَبَعْدَ ذٰلِكَ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ أَنْتَ. 9 فَهَلْ لِذٰلِكَ ٱلْعَبْدِ فَضْلٌ لأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ؟ لا أَظُنُّ. 10 كَذٰلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً، مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيٌ بَطَّالُونَ. لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا».

إن كفاح إيماننا وجهاد تبشيرنا فيه جهد وتعب كبير، ويتطلب منا تكريساً كاملاً. وعندئذ تشبه الحارث، الذي يشق الأرض، والراعي الذي يرعى رعيته. فعلى خدام الرب أن ينشروا ملكوته هكذا، عالمين أنهم ليسوا هم الفالحون الناجحون، بل ربهم هو ينبو القوة، إياه يخدمون كعبيد لمحبته. وليس عملهم على الأرض محدداً بوقت وساعات، فخدمتهم شكر للجلجثة. وليس على ربهم أن يشكرهم لخدماتهم، ويقدم لهم مكافأة ثمينة، لأن خدمتهم تكون شكراً وسجوداً للنعمة، التي حصلوها مجاناً. وخيارهم يعترفون بدون ريا، إن كل خدماتهم لا شيء، وإنهم بذواتهم عبيد بطالون، لأن ربهم هو المخلص الوحيد، وهم تابعوه فقط. فالخدام الأمناء يستحقون أن يقولوا كلمة التواضع هذه، إذا أتموا بدقة كل خدمتهم التي أمرهم الرب بها. ولكنا نحن، الذين عملنا أقل مما أمرنا به، فإنا أقل من عبيد بطالين. ومن الضروري أن نكون نحن خدام الرب منحسقين تماماً كل يوم، لئلا نجد في أنفسنا استحقاقاً ما، إلا حق الخدمة كامتياز النعمة، التي غفرت لنا ذنوبنا، بعد أن اعترفنا بها.

الصلاة: يا رب، أنت القدوس والكامل في المحبة والحق، ودينونتك عادلة، وإيماني ضئيل. فأشكرك لأن محبتك عاملة في قلبي. فأصرخ إليك، أن تنشئ في ألوف من إخوتنا الاستعداد للغفران، وروح الصلح وإنكسار التواضع. املأنا بمحبتك آمين.

26 - شفاء البرص العشرة (17: 11 - 19)

17: 11 وَفِي ذَهَابِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ ٱجْتَازَ فِي وَسَطِ ٱلسَّامِرَةِ وَٱلْجَلِيلِ. 12 وَفِيمَا هُوَ دَاخِلٌ إِلَى قَرْيَةٍ ٱسْتَقْبَلَهُ عَشَرَةُ رِجَالٍ بُرْصٍ، فَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ 13 وَصَرَخُوا: «يَا يَسُوعُ يَا مُعلِّمُ، ٱرْحَمْنَا». 14 فَنَظَرَ وَقَالَ لَهُمُ: «ٱذْهَبُوا وَأَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ». وَفِيمَا هُمْ مُنْطَلِقُونَ طَهَرُوا. 15 فَوَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ شُفِيَ، رَجَعَ يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، 16 وخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ شَاكِراً لَهُ. وَكَانَ سَامِرِيّاً. 17 فَقَالَ يَسُوعُ: «أَلَيْسَ ٱلْعَشَرَةُ قَدْ طَهَرُوا؟ فَأَيْنَ ٱلتِّسْعَةُ؟ 18 أَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَرْجِعُ لِيُعْطِيَ مَجْداً لِلّٰهِ غَيْرُ هٰذَا ٱلْغَريبِ ٱلْجِنْسِ؟» 19 ثُمَّ قَالَ لَهُ: «قُمْ وَٱمْضِ. إِيمَانُكَ خَلَّصَكَ».

المسيح يسوع هو المخلص القوي، الذي ينظم العالم الخرب بنظام حكيم. وينشئ ملكوت السماوات على الأرض. ولم يدرك أتباعه هدفه العالمي آنذاك، ولكنهم شعروا بأن تيار قوة الله خرج من الناصري. فأقام موتى، وهدأ العاصفة وأبرأ البرص، وأهدى رحمته لل المساكين، الذين التجأوا إليه. وصيته اتسع إلى البرية، حيث كان يسكن عشرة رجال من البرص مطرودين من أمتهم. فعاشوا على الحدود بين الجليل والسامرة، وكان أحدهم سامرياً محتقراً. ولكن الضيق المشترك وحدهم رغم الفارق الجنسي الذي يباعد بينهم.

ولما سمعت هذه الفرقة البائسة، أن يسوع سيمر قريباً منهم، ذهبوا إلى مطل، ليقدروا أن يروه، ويدعوه من بعيد، دون أن ينزعج الجمهور التابع له. وتحول رجاؤهم إلى شوق حار وثقة ثابتة، فوضعوا كل قلوبهم في صرختهم لما نادوا: يا يسوع ارحمنا. هل عرف هذه الصرخة في قلبك؟

ما دعا أحد يسوع باهتمام ليعطيه رحمة إلا واستجاب له. وعملاً بهذا المبدأ وقف يسوع، ونظر إلى اليائسين، ورأى إيمانهم المضطرب. فناداهم بجملة غريبة واحدة فقط: اذهبوا، وأروا أنفسكم للكهنة. لم يقل المسيح لهم، كونوا أبرياء أصحاء، بل اذهبواوآمنوا بي وبكلمتي. فتختبروا شفاءكم تدريجياً بمقدار إيمانكم. فانطلقت هذه الفرقة ببطء ورجاء، وتجاسروا، متكلين على كلمة المسيح. وخافوا من الاستهزاء وعقوبة الجماهير. ولكن بينما هم يشرعون بالذهاب، ابتدأ الشفاء فيهم. وبمقدار تقدمهم تجدد جلدهم ونمت أصابعهم المفقودة، فركضوا وتهللوا. واختبروا أن إيمانهم بالمسيح قد شفاهم. وهذه الأعجوبة كانت معجزة، لأن عشرة رجال شفوا دفعة واحدة، وتجددوا بيسوع المسيح.

وأسرعوا إلى الكهنة، ليحصلوا على ورقة تثبيت شفائهم، فيتاح لهم الرجوع إلى أقربائهم وأمتهم. أما واحد مهم ففكر خلاف تفكيرهم. وهذا كان السامري الغريب، الذي أدرك تدريجياً،أن عجيبة إلهية قد تمت فيه. فأدرك أن الناصري ليس إنساناً عادياً، ب هو الله بالذات. فلما استيقن من هذا، التفت فوراً، وركض نحو يسوع، متهللاً لغفران خطاياه وشفائه الكامل. فلم يأت إلى الكهنة أولاً، ولم يخف من رجوع المرض إليه لأجل عدم إطاعة أمر المسيح، بل أراد أن يرى مخلصه ويشكره. ولما وصل إلى الناصري خر أامه وسجد له. واعترف بهذا بتسليمه الكامل، كأنه يقول: أنت يا سيد ربي، وأنا خاصتك، اعمل بي ما شئت. فشكره كان تسليمه الكامل.

ولم يرفض يسوع سجود الإنسان، ولا تقدمة ذاته، ولا شكره العظيم، لأن المسيح هو إله حق من إله حق، مستحق أن يأخذ السجود والكرامة والمجد. ولم يتكبر يسوع لأجل هذا الإكرام ونجاحه في الدنيا، لأنه كان متواضع القلب. وبالأحرى فقد كان في قلبه حن كبير، لأن واحداً من العشرة فقط، وهو ذلك الغريب الجاهل، قد أدرك من هو يسوع. ونسي نفسه، وجاء إليه، وأكرمه بسجوده وصلاته. فاستفهم يسوع أين اليهود التسعة، الذين لم يشكروه لعونه؟ كانوا غرقى في الفرح، فنسوا الشكر. إن التماسنا من الله هين، ولاستجابة أكيدة، بل فرح عظيم. أما الشكر فقليل. ونجد في العالم سببين يدعوان للتعجب: محبة الله الدائمة رغم عدم شكر البشر. ومثل ذلك، عدم شكر العباد المستمر رغم محبة الله المباركة.

وخاطب يسوع الساجد شخصياً: إيمانك خلصك. وهذه الكلمة لا تدل على عقيدة السامري الناقصة، بل على ارتباطه القلبي مع يسوع، بواسطة الأمل والثقة وتجاسر الإيمان، واختبار قوة الله وشكر حمده في تسليمه الكامل. فالمسيح أكد لهذا الرجل الخلاص الكمل لأنه تأكد من محبة الله. ولم يكن هذا الأبرص صالحاً في نفسه بل كان رمزاً لكل نجاسة. ولم يأت بذبيحة أو أعمال صالحة لإنقاذه، إلا اتكاله على يسوع. فاختبر قوة كلمة الله العاملة في كلمات الناصري. هكذا ننصحك أن تتعلق بيسوع. وتشكره لكل عطاياه فتمتلئ قوة وفرحاً وغبطة. ولا تبق غير شاكر، بل اشكر، وتأمل جيداً بكل استجابة لصلواتك، والحصول على النعم من الله، لئلا تكون فاقداً مزية الشكر. احمد ربك من كل قلبك، ولا تتباطأ بتسبيحه.

الصلاة: أيها الآب السماوي، نشكرك لأنك بذلت ابنك الوحيد لأجلنا لنصبح نحن الغير شاكرين صالحين للشكر. نسجد لك ونسلم ذواتنا بين يديك، الآن وإلى الأبد. ونعترف أن يسوع المسيح إله حق وروحه يحل في قلوبنا. احفظنا لتصبح حياتنا كها حمداً لنعمتك.

27 - أقوال عن مجيء ملكوت الله والمسيح الثاني (17: 20 - 37)

17: 20 وَلَمَّا سَأَلَهُ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ: «مَتَى يَأْتِي مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ؟» أَجَابَهُمْ: «لا يَأْتِي مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ بِمُرَاقَبَةٍ، 21 وَلا يَقُولُونَ: هُوَذَا هٰهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ لأَنْ هَا مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ دَاخِلَكُمْ».

ليس هدف المسيحية الأول هو الصليب ولا اهتداء الأفراد ولا دخولهم إلى السماء، ولكن إعلان ملكوت الله في المجد. واليهود في زمن يسوع ترقبوا مجيء هذا الملكوت بشوق واضطراب، عالمين أن ملك الله الآتي سيقلب العالم ويقيم الأموات ويزيل كل ممال الدنيا، وينشئ بهاء وحقاً ومجداً على الأرض (دانيال 7: 27) فالإنسان الطبيعي ينتظر في عماهته الروحية غالباً تحسين الأوضاع في المستقبل، لا تجديد القلوب. ولكن ملكوت الله يأتي بالعكس ويغير أولاً القلوب، وعندئذ يظهر علانية.

فجاوب المسيح على سؤال الفريسيين حول بداية ملكوت السموات على الأرض بطريقتين، فهذه المملكة لا تأتي مكشوفة ظاهرة بخيول وعربات وجيوش وأسلحة فتاكة، بل غير منظورة وروحية كقوة إلهية. فلا تقدر أن تدرك ملكوت الله باللمس والبصر، بل تعرف عظمه بواسطة الإيمان وحده، ثابتاً في الروح القدس الدافع في هذا الملكوت.

وبعدما فسر يسوع جوهر ملكوت الله، جاوب أيضاً على السؤال الخطير المختص بزمن بداية سلطة الله على الأرض، قائلاً: الآن قد ابتدأ الملكوت حاضراً في وسطكم. وبهذه الكلمة دل على ذاته، لأن المسيح هو ملك الملوك ورب الأرباب. وفيه تكمن كل قوى وكم ومجد الله. كما أن محبة الله وصبره هو جوهر الملكوت. وقد دفع أبوه كل السلطان في السماء وعلى الأرض بين يديه، بعدما صالح الخطاة مع القدوس.

وهذه المصالحة هي الجسر الذي يعبر عليه الروح القدس إلى قلوب التلاميذ، ويملأ كل المؤمنين. وحيث يحل روح الله، هناك يكون الله بذاته. وحيث يثبت الله في الإنسان، فهناك يتجلى الملكوت داخل الإنسان. وهكذا تستتر مملكة الرب اليوم في كل الكناس الحقة، وفي كل المؤمنين المنفردين. فهل أنت عضو مولود ثانية لملكوت المسيح؟ أو تقف خارج رحابه في الظلمة؟ وإن كنت أهلاً في مملكة أبيك السماوي. فماذا تعمل عملياً لنشر وتثبيت ملكوت المحبة في محيطك؟

17: 22 وَقَالَ لِلتَّلامِيذِ: سَتَأْتِي أَيَّامٌ فِيهَا تَشْتَهُونَ أَنْ تَرَوْا يَوْماً وَاحِداً مِنْ أَيَّامِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ وَلا تَرَوْنَ. 23 وَيَقُولُونَ لَكُمْ: هُوَذَا هٰهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ، لا تَذْهَبُوا وَلا تَتْبَعُوا، 24 لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلْبَرْقَ ٱلَّذِي يَبْرُقُ مِنْ نَاحِيَةٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ يُضِيءُ إِلَى نَاحِيَةٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، كَذٰلِكَ يَكُونُ أَيْضاً ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي يَوْمِهِ. 25 وَلٰكِنْ يَنْبَغِي أَّوَلا أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْفَضَ مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ.

لما سمع التلاميذ، أن ملكوت الله حضر بينهم، تهللوا ووزعوا في أفكارهم مناصب الوزراة. فحذرهم يسوع من التفكير الدنيوي، ودلهم على تألمهم الشديد نتيجة لصعوده إلى السماء. عندئذ سيكونون متروكين، بدون حضور وحماية ملكهم ظاهراً، متكلين على ماعيده فقط ومؤمنين بقوته المتمركزة في قلوبهم. فلا ينتشر ملكوت الله علانية في العالم، بل هو مستتر كما كان في المسيح. فإنك لا ترى أتباع يسوع يمتلكون تيجاناً متلألئة، ولا ملابس براقة، ولا سلطة بهية، ليصرخوا أخيراً، وهم في الكابوس الأليم: تعال أيها الرب يسوع.

وضيقات الأيام الأخيرة ستنشئ اشتياقاً فيهم إلى مجيء المسيح، لتمتد حواسهم مفتشين نحو علامة صغيرة دالة على وصوله. فينتظرون الاختطاف في كل حين. ولكن يسوع يحذرهم قائلاً: لا تكونوا سطحيين، وقابلين بسرعة كل دعاية. فأنا لا آتي مستتراً كخيل أو شبح، ولا كإنسان عادي، ولا كسلطان دنيوي، بل إن مجيئي الثاني هو كانفجار مجد الله في كل بهائه، وسط ظلمة هذا الدهر. عندئذ تشق السماء، ونور بهاء القدوس يبهر كل الناس. وهيئة ابن الإنسان ستلمع كبرق صاعق. وأشعة مجده تخترق كل المواد أكثر منالأشعة الكهربائية عند الطبيب، وحتى على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، حيث يكون ظلام. فإن نور المسيح سيشرق عليهم بنهار جديد.

وإن تعزيتنا في هذا اليوم العظيم المقبل هي أنه لا يأتي إلهاً غريباً، أو ملاكاً فتاكاً، بل ابن الإنسان، الذي هو يسوع المسيح. إنه ليس مجهولاً، بل من جنسنا الآدمي. ولا يأتي لإهلاك المؤمنين، بل ليختطفهم إليه. ويريدنا أن نكون عنده في كل حين، ونحن ممثلو ملكوته في الدنيا الظالمة، الذين حملوا روحه وصفاته وقدرته فيهم.

ولكن التلاميذ لم يفهموا آنذاك أقوال المسيح، ولم يدركوا تألمه وموته البتة، لأنهم فكروا بملكوت دنيوي، بدون تغيير القلوب، بينما يفسر المسيح لهم الطريق إلى المجد المؤدي إلى الآلام أولاً. فبدون التكفير والغفران لا يدخل الإنسان في شركة ع الله. فالصليب هو الباب إلى ملكوت الرب، لأنه بدون التطهير بالنعمة لا تحصل على العضوية في السماء. إنما الذي يدخل رحاب الله مؤمناً وشاكراً، يثبت اليوم بين حقيقة الخلاص التام على الجلجثة وانبثاق الخلاص الظاهر في مجيء المسيح الثاني. وإلى هذا الوقت، يحمل كل المؤمنين ملكوت الرب في قلوبهم وتعرفهم بسهولة بسيماهم لأن جوهر الملكوت، هو المحبة.

الصلاة: تعال أيها الرب يسوع، لأنك تحب أتباعك، وقد صالحتنا مع الله القدوس، ووضعت روحك الطاهر عربوناً لمملكتك في قلوبنا. نشتاق إليك، ونلتمس منك انتشار ملكوتك في كل أنحاء العالم، لكي تجد في مجيئك قلوباً محضرة في كل مكان.

17: 26 وَكَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ نُوحٍ كَذٰلِكَ يَكُونُ أَيْضاً فِي أَيَّامِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ. 27 كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَيُزَّوِجُونَ وَيَتَزَّوَجُونَ، إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي فِيهِ دَخَلَ نُوحٌ ٱلْفُلْكَ، وَجَاءَ ٱلطُّوفَانُ وَأَهْلَكَ ٱلْجَمِيعَ. 28 كَذٰلِكَ أَيْضاً كَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ لُوطٍ، كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَيَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ، وَيَغْرِسُونَ وَيَبْنُونَ. 29 وَلٰكِنَّ ٱلْيَوْمَ ٱلَّذِي فِيهِ خَرَجَ لُوطٌ مِنْ سَدُومَ، أَمْطَرَ نَاراً وَكِبْرِيتاً مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَأَهْلَكَ ٱلْجَمِيعَ. 30 هٰكَذَا يَكُونُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي فِيهِ يُظْهَرُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ.

كيف تستبين الدنيا في مجيء المسيح؟ هل سيكون ملكوت الله قد غير قلوب جميع الناس؟ لا، العكس هو الصحيح ستكون الجماهير عائشة بدون الله، مهملين مهتمين بأنفسهم، إلا بعض الأفراد الواعين اليقظين، فسينتظرون مجيء ربهم بفارغ الصبر.

فهل الأكل والشرب والمضاجعة خطية؟ لا! وهل الشراء والبيع، وغرس الزرع وبناء البيوت يكون ظلماً؟ لا مطلقاً. ولكن الناس الذين يعيشون هكذا اعتيادياً هم في الحقيقة خطاة، لأنهم لا يهتمون بالله، بل يثبتون إنهم عبيد لأنانيتهم، مهتمين بأنفسهمفقط وغير مهتمين بالحي الخالق. وكما عم في زمن نوح ولوط انعدام العفة إلى درجة رهيبة، حتى أرسل الله طوفان الماء، وأمطار النار، وأباد البشر الفاسدين، هكذا تعيش اليوم الجماهير العالمية مجرمة ونجسة كالأولين، ولكنهم يستخفون بجرائمهم ونجاساتهم.إذ أنهم ما عرفوا الله في قلوبهم، ولا يسجدون له إكراماً وتسليماً. ففقدوا الوقار، وسقطوا إلى الحرية الخاطئة، ولا يوجد فيهم الحس. فيخربون أنفسهم بأنفسهم بطريقة يستحيل تصورها.

وبما أن يسوع وصف الوقت قبيل مجيئه، وشبهه بحالة أيام نوح ولوط، فعلينا إذاً أن ننتظر عند نهاية العالم ازدحام الناس في مدن كبرى وعواصم ضخمة، تتفشى بينهم اللامبالاة والدعارة والإباحية بكل أنواعها وتشكلاتها، كما هو مبتدئ الآن.

مع العلم أن نوحاً ولوطاً خلصا في اليوم الأخير عند آخر لحظة، لما دخل نوح مع أهله الفلك، وانطلق لوط هارباً، بإرشاد الملاك إلى البرية من تلك المدينة الظالم أهلها، هكذا ننتظر اختطافنا لملاقاة المسيح قبل مجيئه بلحظات، خلاصاً ونجاة للمؤنين، وإظهاراً لحياتهم الإلهية الساكنة فيهم.

17: 31 فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ مَنْ كَانَ عَلَى ٱلسَّطْحِ وَأَمْتِعَتُهُ فِي ٱلْبَيْتِ فَلا يَنْزِلْ لِيَأْخُذَهَا، وَٱلَّذِي فِي ٱلْحَقْلِ كَذٰلِكَ لا يَرْجِعْ إِلَى ٱلْوَرَاءِ. 32 اُذْكُرُوا ٱمْرَأَةَ لُوطٍ! 33 مَنْ طَلَبَ َنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ أَهْلَكَهَا يُحْيِيهَا.

أأنت مستعد لمجيء المسيح؟ ففي هذا العالم الفاسد تعيش نخبة من المدعوين، الذين غلبوا بالروح القدس شهواتهم، ويشتغلون ويبنون، ويغرسون كغيرهم، ولكنهم منتظرو ربهم في كل لحظة. فليس الزواج والعمل هو خطية، بل من يتزوج بدون المسيح، ويعمل بدوه، هو الخاطئ الهالك. إن الرب هو الأول والآخر في حياتنا، وهو هدفنا ورجاؤنا. وهذا المبدأ سيظهر في يوم مجيئه علانية، لأن أخصاءه يتقدمون إليه بفرح. وأما الملحدون الظالمون، فيطلبون حماية من نوره الساطع فلا يجدونها. فبعضهم يحاول في آخر لحظة إقاذ أقربائه، وجمع الأشياء الثمينة، لأنهم غير متأكدين، مما سيعقب مجيء المسيح. فلهذا يأمرنا المسيح بالشعار: اترك كل شيء، والتق بالله. لا تلتفت إلى الوراء كامرأة لوط، التي اشتاقت إلى قومها وتمتعها، فتجمدت في طموحها إلى الماديات الدنيوية. بل انس كل شيء، وتقدم إلى ربك. هل تريد في هذه اللحظة أن تستخفي، لترتب نفسك أحسن على عجلة لمقابلة المسيح؟ فتذوب عندئذ في دينونة عاصفة النار عدماً. أو تقوم في الإيمان وتطمئن في النار، كما مشى الأبطال الثلاثة في أتون النار بالعراق، في زمن المك نبوخذ نصر؟ هكذا ستعيش متكلاً على دم المسيح وروحه القدوس، لأن حياة الله فينا، ليست منسوجة من ذهب ومادة وجسد، بل بالروح والحياة والنور. فاثبت في المسيح وهو فيك. عندئذ تكون منكراً ذاتك، وتكسب منذ اليوم ربك الآتي إلى العالم.

17: 34 أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ فِي تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ يَكُونُ ٱثْنَانِ عَلَى فِرَاشٍ وَاحِدٍ، فَيُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ ٱلآخَرُ. 35 تَكُونُ ٱثْنَتَانِ تَطْحَنَانِ مَعاً، فَتُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدَةُ وَتُتْرَكُ ٱلأُخْرَى.36 يَكُونُ ٱثْنَانِ فِي ٱلْحَقْلِ، فَيُؤْخَذُ ٱلْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ ٱلآخَرُ. 37 فَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ يَا رَبُّ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «حَيْثُ تَكُونُ ٱلْجُثَّةُ هُنَاكَ تَجْتَمِعُ ٱلنُّسُورُ».

إن مجيء المسيح يعني انفصالاً واضحاً بين العالم وملكوت الله المستتر. لا تقدر أن تميز اليوم تماماً من هو من الله، ومن هو من الشيطان. ولكن عند مجيء المسيح سينام رجلان في غرفة واحدة وسط الليل الدامس، وواحد منهما سيستيقظ عند انبراق نورالمسيح الساطع، ويقوم ويذهب، إلى عند ربه متمتماً بالفرح. بينما الآخر يحترق يائساً في أشعة دينونة الله. وإذا اجتمعت امرأتان وسط النهار تطحنان على الرحى وتتجاذبان أطراف الحديث، فستقوم واحدة منهما بزغردة، وتتقدم نحو ربها مسرعة، لأنها انتظرت يومياً. لكن الأخرى تكون مشتاقة أن تزول، لأن عيوبها ظهرت في نور الله علانية.

هل تخبئ خطية ما؟ هل أنت مقيد بعادة بشرية دنيا؟ اطلب من المسيح تطهيرك وتقديسك وفداءك، لأن الآن وقت الاستعداد. فلا تظن أن مجيء المسيح يعطيك فرصة للتطهير السريع بل فجأة سيظهر جوهرك، فتكون أما نوراً أو ظلمة.

النسور تعيش في البراري، وتكشف وتشم الفريسة من بعيد، وتأتي مسبقاً إن شعرت أن حيواناً مريضاً يوشك أن يموت أو أن إنساناً عاطشاً، كاد أن يسلم الروح. هكذا تكون النسور التي تدور فوق رؤوسهم رمزاً للنهاية القريبة. ورأى المسيح في روحه دورا النسور فوق أمته، وحذرهم وخاصة تلاميذه، من ساعة الدينونة المقبلة. ويرى المسيح أيضاً اليوم تفتت وفساد البشر، وبغضاءهم وحسدهم، وكيف تسير الطائرات البراقة في الجو كالنسور. إنها ستسطو قريباً على البشر المتخيلين وتفتت أجساهم، لأنه قبيل مجيء لمسيح يزداد مخاض الدينونة والظلمة اليائسة، علامة للقديسين أن الرب قريب، وغبطتهم العليا مقبلة إليهم.

أيها الأخ، خلص نفسك اليوم، لأن الخلاص تام. التجئ إلى المسيح، لكي تطمئن في مخاضات الدينونة. اقبل حياته فلن تموت، بل تحمل قوته فيك. إن المسيح فيكم رجاء المجد.

الصلاة: أيها الرب، نشكرك لمحبتك وخلاصك. ونفرح مسبقاً، لمجيئك المجيد القريب. لأن الخطايا، تتراكم في دنيانا كجبل عال. والجو مسمم بأكاذيب تخترق عقولنا. ولكن روحك القدوس، يتمركز فينا وقوتك تدفعنا إلى أعمال المحبة، قّو رجاءنا لنستعد إلى حضورك.

28 - مَثَل القاضي الظالم والأرملة المهتاجة (18: 1 - 8)

الأصحاح الثامن عشر: 1 وَقَالَ لَهُمْ أَيْضاً مَثَلاً فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلا يُمَلَّ: 2 «كَانَ فِي مَدِينَةٍ قَاضٍ لا يَخَافُ ٱللّٰهَ وَلا يَهَابُ إِنْسَاناً. 3 وَكَانَ فِي تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ أَرْمَلَةٌ. وَكَانَتْ تَأْتِي إِلَيْهِ قَائِلَةً: أَنْصِفْنِي مِنْ خَصْمِي. 4 وَكَانَ لا يَشَاءُ إِلَى زَمَانٍ. وَلٰكِنْ بَعْدَ ذٰلِكَ قَالَ فِي نَفْسِهِ: وَإِنْ كُنْتُ لا أَخَافُ ٱللّٰهَ وَلا أَهَابُ إِنْسَاناً، 5 فَإِنِّي لأَجْل أَنَّ هٰذِهِ ٱلأَرْمَلَةَ تُزْعِجُنِي، أُنْصِفُهَا، لِئَلَّا تَأْتِيَ دَائِماً فَتَقْمَعَنِي». 6 وَقَالَ ٱلرَّبُّ: «ٱسْمَعُوا مَا يَقُولُ قَاضِي ٱلظُّلْمِ. 7 أَفَلا يُنْصِفُ ٱللّٰهُ مُخْتَارِيهِ، ٱلصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَارا وَلَيْلاً، وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟ 8 أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعاً! وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ ٱلإِيمَانَ عَلَى ٱلأَرْضِ؟».

أتترقب مجيء المسيح وإشراق ملكوته؟ هل تلتمس من ربك إتمام وعوده لمختاريه؟ ربما أنك لا تفهم المثل المذكور، إلا إذا اشتقت في نفسك لمجيء المسيح، وانتظرت إعلان مجده، الذي يصرف كل الظلم، ويشفي كل مرض، ويبطل الموت. هل تفكر كثيراً بحلول الماء على الأرض أو تكون من المهملين والسطحيين التي قلوبهم باردة، ولا يصرخون بالصلاة المستمرة الصاعدة من الكنائس، لأجل مجيء المسيح السريع؟

فالمثل يتضح من تفسير المسيح إن الله يشاء أن يساعد مختاريه ليجدوا إتمام الوعود، التي صارت لهم حقاً ثابتاً. (7) فهو يحبهم ويشتاق إليهم. ولكن الزمن لا يزال غير ناضج، ولم يصل الإنجيل إلى آخر قبيلة ولغة ولسان في العالم. والشر لم يتجسد عد كاملاً في شخصية المسيح الكذاب. فلهذا يتأخر حضور حق الله الموعود للقديسين. ولكنهم يدعون ليلاً نهاراً إلى أبيهم السماوي، بانسجام مع الروح القدس الدافع فيهم، الذي دعاهم وأنارهم وجددهم، وملأهم بمحبته، ليزداد فيهم وسط البغضة والاضطهاد شوقم إلى الاتحاد بالآب واللابن، أكثر مما تتشوق امرأة إلى بعلها البعيد عنها، الذي لم يرسل لها منذ سنين طويلة خبراً. حتى قال الجيران أنه مات، وهي أرملة فمجيء المسيح يتأخر. وانتظار المختارين يتهافت. فيأمر المسيح كنيسته بالصلوات المواظبة والتمك بصورة الآب الأمين، لأن المؤمنين ليظنون بعض المرات أن الله لا يكون أباهم فيما بعد، بل قاض صارم ظالم، لا يستجيب صلواتهم. فإن الله ليس بظالم بل هو محبة وحق، وينحني بكل رحمته على مفديي ابنه، حتى ولو لم يدركوا عنايته. إن الله يسمع كل صلوات، حتى وإن لم يستجب لها حسب أمنياتك، التي تريدها. ويعرف في محبته احتياجاتك قبل أن تطلبها. ويساعدك سريعاً، عندما تنضج الأحوال المناسبة لمساعدتك. وهكذا يعرف الآب السماوي، أن العالم يحتاج إلى مجيء المسيح الثاني حاجة ماسة. لأنه ليس خلاص من اخطية والمرض والموت، إلا بواسطة مجيء ملكوت الله إلى عالمنا الشرير. هل تريد انتشار سلام الله في كل أنحاء العالم؟ فصل بأمانة ومواظبة ليأتي المسيح. وابتدئ اليوم، وكن متأكداً أن الله، يسمع صلاتك هذه، ويستجيبها حتماً. حتى ولو تأخرت استجابته. لمسيح يأتي يقيناً ويعلن ملكوته الحق على كرتنا الأرضية.

والأرملة في المثل تشبه الكنيسة العائشة منذ صعود المسيح إلى السماء بدون حضور ربها ظاهراً فيها. فتصرخ وتصلي بإلحاح طالبة مجيئه، وتواظب بصراخها إلى الله، حتى يستجيب لها. والمسيح يفسر اهتياج المرأة الملتهبة للحصول على حقها من القاضي، تى لكأنها تكاد تخمش وجهه بثورتها وتهديدها، لينصفها. هكذا بالمعنى الروحي، علينا أن نصلي بشدة الطلبة العارمة في الصلاة الربانية «ليأت ملكوتك». حتى يأتي الملك ظاهراً بيننا.

وربما تفهم الآن سؤال المسيح الهام. ألعل ابن الإنسان يجد في مجيئه إيماناً من هذا النوع على الأرض؟ فمن يرتقبه ملتهباً، ليس بشوق ومحبة ورجاء فقط، بل أيضاً بصلوات قارعة باب الحق الموعود لنا نحن السائلين؟ فمن يدرس مواعيد الله في الكتابالمقدس بدقة، ويتمسك بهذا الحق الموعود للكنيسة، ملحاً على ربه بصراخات دائمة، حتى يرسل ابنه ثانية لإنقاذنا ولننال ملكوته، الذي يبينه لمختاريه؟ فليس علينا انتظاره متجمدين متخيلين غير عاملين، بل يدعونا الرب لنشترك في مجيئه، ونصلي بفعالية، مقدمين إليه باستمرار، ليفتح سماءه ويجدد الأرض، ويعلن مجده. فأين صلاتك؟ وأين محبتك للمسيح؟ واين إيمانك المبني على مواعيد الكتاب المقدس! وأين رجاؤك العظيم، حيث انسكب عربون الروح في قلبك؟ وأين أمانتك في الابتهال؟ لأن هدف المثل، هو أن نصلي بواظبة وبلا انقطاع: تعال أيها الرب يسوع.

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، أنت الإله الحق ومالك ملكوتك. نسجد لك بتهلل، ونطلب إليك أن تأتي سريعاً. علّمنا محبتك وقّو رجاءنا لمجيئك، ووجه كنيستك إلى إتيانك. لكي نعيش في كل أمور دنيانا، منتظريك.

29 - الفريسي والعشار يصليان في الهيكل (18: 9 - 14)

18: 9 وَقَالَ لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ ٱلآخَرِينَ هٰذَا ٱلْمَثَلَ: 10 «إِنْسَانَانِ صَعِدَا إِلَى ٱلْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا، وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ وَٱلآخَرُ عَشَّارٌ. 11 أَمَّا ٱلْقَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هٰكَذَا: اَللّٰهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي ٱلنَّاسِ ٱلْخَاطِفِينَ ٱلظَّالِمِينَ ٱلّزُنَاةِ، وَلا مِثْلَ هٰذَا ٱلْعَشَّارِ. 12 أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي ٱلأُسْبُوعِ، َأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ. 13 وَأَمَّا ٱلْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لا يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: ٱللّٰهُمَّ ٱرْحَمْنِي أَنَا ٱلْخَاطِئَ. 14 أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هٰذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً دُونَ ذَاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ».

كيف تتم صلاة مختاري الله، لأجل مجيء المسيح وإشراق ملكوته؟ هل هؤلاء القديسون صالحون وكاملون ومستعدون لمجيئه أو تنقصهم التقوى والبر والمحبة؟

فيرينا يسوع فريسياً، ذهب أثناء الأوقات المعينة للصلاة في الهيكل (عادة الساعة التاسعة صباحاً، والثالثة بعد الظهر) ليمجد الله. والمصلي كان من الناس المكتفين بأنفسهم، والمتكلين على قدرتهم، أكثر مما على الله. فهذا المستكبر كان مقتنعاً ببره الذاتي. ولم يخطر على باله ولو من البعد، أنه يمكن أن يكون خاطئاً. لأنه حفظ الناموس وتفسيره لآخر دقة. وتمسك بجزئيات ثانوية تافهة لا قيمة لها. فتكلم لسانه بكلمات كلها احتقار للبشر، حتى أنه لم يحب أحداً إلا نفسه. ودار حول شخصه دائماً مجداً ذاته. فكان أنانياً حتى في الصلاة، رغم أنه جاءها بنية طيبة. ولكن شعوره الباطني كان مفعماً بالأنانية حتى أنه نسي الله، فبعد تلفظه بكلماته الأولى عند ابتداء الصلاة، انتصب فخوراً مغروراً كديك رومي نائياً عن المصلين الآخرين بخطوات. وباش صلاته إلى الله بألفاظ منخفضة حسب مبادئ الطقوس. مبتدئاً كما يجب «اللهم أشكرك». ولا بد أنه يليق بنا أن نعظم الله، لأجل كيانه وأعماله المباركة. فليت حياتنا تصبح كلها شكراً لخلاصه، بل شرع أمام العليم يذكر حسناته البشرية، موضحاً «الأنا» السينة، مرتفعاً على ظهر الآخرين، الذين احتقرهم وأدانهم. وسماهم لصوصاً ظالمين زناة ساقطين، كما اختبرهم في حياته عدة مرات. ولم ير في نفسه أقل لطخة من الخطية قط، بل أشاد باستقامته الظاهرة قبل كل شيء في حفظ الناموس.

وعمل أكثر من المطلوب، الذي توجب صوماً مرة في السنة (لاويين 16: 29)، نافلة زائدة ككل الفريسيين بصوم يومين من كل أسبوع (الثلاثاء والجمعة) لينزل بر الله بالقوة لحياته. ولم تتم عبادته نظرياً حتى شملت ماله أيضاً. فقدم العشر، ليس من حقله ومواشيه حسب طقوس الشريعة فقط. بل عشر أيضاً كل مقتنياته ومطعوماته البسيطة الأخرى، ليمول خدمة اللاويين في هيكل الرب. فكان واقفاً أمام القدوس، مقدماً له الحساب استظهاراً عن جداول فضائله بكل اعتداد وشموخ، حتى كأن على الله، أن يقول معجباً به نعماً أيها الشاطر البار العظيم المستأهل الجنة رفداً الفافاً. ولكن إذا نظرنا بالحقيقة، نرى أن هذا المصلي، لم يسبح الله في صلاته، بل امتدح نفسه، فأصبحت صلاته تجديفاً على الخالق الرحيم.

وبينما كان هذا الفريسي مصلياً منفرداً عن مجمع المصلين في الهيكل، وقف عشار خداع أيضاً بعيداً عن الجماهير، وخجل من نفسه، لأنه علم أن كل الحضور يحتقرونه ويدينونه. ومعهم الحق بذلك. فكان متخشعاً ومتذللاً بصلاته، ولم يتجاسر أن يدعو الله فضرب يده على صدره متأسفاً، علامة على سوء عمله، واعترافاً بأن قلبه شرير. لقد انحنى هذا الإنسان منكسراً أمام الله، واختبر في ضميره قرب القدوس، وذاب تقريباً من أعماله الشريرة.

فالحمد لله إذ تذكر الفاسد اسم ربه الحق، وصلى للثالوث الأقدس، مؤمناً أن الله الوحيد في ثلاثة أقانيم. فلم يقل يا الله، بل اللهم، مقتنعاً بأنه يسمع كلماته المستحبة. ولا يرفضه خارجاً، ولا يبيده كما يحق. هكذا تمسك الشرير بالنعمة طالباًالرحمة، لأنه لم يقدر أن يقدم أعمالاً صالحة قط. ولم يجد في نفسه القوة ليقدم مواعيد لإصلاح ذاته، ويمارس ذلك الإصلاح والتوبة. وفي تمسكه برحمة الله. تمتم بالكلمة الخارقة: اللهم ارحمني، أنا الخاطئ! فلم يقل أنا أحد الخطاة، كما يقول معظم الناس بل ارحمني، أنا الخاطئ والفاسد، أكثر من الكل. أنا المستحق الموت والإبادة رأساً.

والمعترف بحالته لم ييأس، بل وضع نفسه بين يدي الله، واثقاً في نعمته الأزلية، وتمسك بمحبته الحقة. عندئذ قال يسوع مبتهجاً منه: هذا التائب قد تبرر، واختبر في قلبه تعزية الروح القدس، لأن الله الجواد استجاب صلاته وغفر ذنبه تماماً.

فأصبح هذا المثل تفسيراً ملموساً لتعليم التبرير في رسائل الرسول بولس، لأن البشير لوقا كان تلميذه، وسجل هذا المثل بمفرده عن البشيرين الآخرين، ليوضح لنا تبرير المسحوق والنعمة المنسكبة على التائب، بدون أعمال خصوصية. احفظ جوهر هذه القص في قلبك.

أما الفريسي فبقي في عنجهيته وخدع نفسه، لأن بره لم ينفع شيئاً. فسيظهر في إعلان ملكوت الله صغيراً ظالماً مجتنباً في الأسفل، بينما الخاطئ المتواضع التائب الحق يرفعه الله إلى مستواه، لأنه قد استجاب صلواته وطهره من كل إثم بدم المسيح الالي الثمين. وهكذا يعلمنا يسوع كيفية موقفنا في الصلاة، لكيلا نصلي مستكبرين مقتنعين بتقوانا، بل نتكل على الصليب وحده، عائشين من الله فقط.

الصلاة: نعظمك أيها الآب والابن والروح القدس، لأنك قد رفعت الخطاة التائبين وبررتهم، حين تقدموا إليك منسحقين في أفكار ذواتهم. علّمني يا رب المعرفة، إني أنا الخاطئ. وثبتني متمسكاً بنعمتك لأقول الصلاة الكاملة: اللهم ارحمني أنا الخاطئ.

30 - يسوع يبارك الأطفال (18: 15 - 17)

18: 15 فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ ٱلأَطْفَالَ أَيْضاً لِيَلْمِسَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمُ ٱلتَّلامِيذُ ٱنْتَهَرُوهُمْ. 16 أَمَّا يَسُوعُ فَدَعَاهُمْ وَقَالَ: «دَعُوا ٱلأَوْلادَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلا تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هٰؤُلاءِ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ. 17 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لا يَقْبَلُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ».

ويرينا يسوع بطريقة أخرى في هذه الحادثة، كيف نستطيع التقدم في صلاتنا إليه، ليس لاستحقاقنا الخاص، بل كأولاد بسطاء بكل ثقة وفرح، علماً أن الأولاد لم يتقدموا إلى يسوع شخصياً، بل أمهاتهم حملنهم، لأن الصغار لم يقدروا أن يمشوا بعد. فلا فل للأولاد في البركة الممنوحة لهم. ولكنها هبة نعمة وعطاء.

ولم يرد التلاميذ أن ينزعج المستعمون من صراخ الأطفال، ظانين أن الصغار لا يدركون شيئاً. فإذا كان الكبار يكادون لا يفهمون سمو التعاليم، فكيف بالصغار إذاً؟ فطرد التلاميذ الأمهات المهتمات بأبنائهن ليحصلن لهم بركة وقوة وإنارة بواسطة لمس المسيح.

واخترق يسوع قلوب تلاميذه المستكبرة الجاهلة، وأراهم أن تقدمهم في السن ونضوجهم الفكري لا يؤهلهم لكسب ملكوت الله، بل تواضعهم واتضاعهم لدرجة الأطفال الغير مقتدرين. فبشر يسوع تلاميذه المكتفين بواسطة بركته على الأولاد وتقبيلهم واحتضانهم

إن ملكوت السماوات ومملكة الله لشيء عظيم، وخلاصة أفكار الله. فلا يقدر أي إنسان طبيعي، أن يفهم مبادئ هذه المملكة ولا دوافعها، إلا بإنارة الروح القدس في غفران خطايانا، الذي يؤهلنا لدخول الرحاب الأزلية. والله لا يختار أولاً الكبار والقوياء والأتقياء، بل من يشاء هو. ويفضل الأولاد الضعفاء والمتكلين عليه بالدموع، لأنهم مستعدون لقبول نعمته. ويريدون أن يربحوها ربحاً. ولا يمنعون طريق الله إلى قلوبهم، لأنهم منكسرون وغير منتفخين.

أتمنع مجيء الله إليك؟ إن هذه القصة، لا تقصد عماد الأولاد البتة ولا تسانده، بل تدلنا على كيفية الصلاة والتقدم إلى المسيح، وعلى واجبنا أن نعلم الأولاد بكلمات حسب إدراكهم معاني الإنجيل، ونمثل هذه البشارة بواسطة قدوتنا. وبالاختبار المهش نرى أن الروح القدس لمس عدة مرات قلوب الأولاد والفتيان، خالقاً فيهن إدراكاً عميقاً بالله وإيماناً واثقاً في أبوته، يفوق بعض المرات إيمان البالغين. فيدلنا يسوع على شرط الدخول إلى ملكوت الله، أن نصبح كأولاد في الإيمان والثقة والقدوم إلىابينا السماوي.

الصلاة: أيها الآب السماوي، أنت أبي وتحب كل الناس، احفظني في بنوتك، واجعل كل الناس أولاداً لك. خاصة جيراننا الصعبين. وكل أولاد صفي. واشكرك أيها الآب السماوي، لأنك تحبني. آمين.

31 - الرئيس الغَني وخطر الغِنى (18: 18 - 30)

18: 18 وَسَأَلَهُ رَئِيسٌ: «أَيُّهَا ٱلْمُعَلِّمُ ٱلصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ؟» 19 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلَّا وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللّٰهُ. 0 أَنْتَ تَعْرِفُ ٱلْوَصَايَا: لا تَزْنِ. لا تَقْتُلْ. لا تَسْرِقْ. لا تَشْهَدْ بِٱلّزُورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ». 21 فَقَالَ: «هٰذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي». 22 فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ ذٰلِكَ قَالَ لَهُ: «يُعْوِزُكَ أَيْضاً شَيْءٌ. بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَوَّزِعْ عَلَى ٱلْفُقَرَاءِ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَتَعَالَ ٱتْبَعْنِي». 23 فَلَمَّا سَمِعَ ذٰلِكَ حَزِنَ، لأَنَّهُ كَانَ غَنِيّاً جِدّاً.

جاء معلم البر إلى يسوع ليستفهم منه، ماذا يعمل زيادة على الفرائض الناموسية، ليربح الحياة الأبدية. فالحمد لله، إن هذا الرجل كان متأصلاً بكلمة الله، مؤمناً بالحياة الأبدية، عالماً أن ليس إنسان يعيش تلقائياً إلى الأبد، بل الحياة الإلهة، إن هي إلا بركة من الله. فالأموات بدون غفران خطاياهم لا يعيشون حقاً، بل هم مهترون مضطربون في كيانهم الهالك. أما المنعم عليهم والثابتون في الإنجيل، فيحملون حياة الله ونوره المضيء فيهم.

لكن يسوع كسر سؤال المعلم الواثق بدرجته العلمية بكلمته الأولى، وأراه كيف أنه قد تكلم بسطحية وليس حسب الكتاب. فلا صالح إلا الله. وهذا ما طرحه يسوع على الرجل بطريقة غير مباشرة كأنه يسأله: أن تدعني صالحاً، أفتؤمن أني أنا الله؟ فإن يسو هو الراعي الصالح، والصلاح المتجسد. فكان جواب يسوع لهذا الرئيس دليلاً واضحاً لألوهيته ووحدانيته مع أبيه السماوي.

ولم يدرك هذا الرئيس، أن الله بالذات واقف أمامه في المسيح، عالماً قلبه، أكثر مما هو يعرفه. ولم يكتف بأجوبة المسيح المفحمة، وظل ينتظر إعلانات خصوصية، تدله على طريق أفضل إلى الله.

فلم يقل يسوع له آمن بي، بل أكمل الناموس تماماً. وعندئذ تعرف، أنك خاطئ كبير. ولربما تدرك، أني أنا مخلصك الأمين. ولتوضيح هذه الأسس الروحية، غيّر يسوع المشروع الأزلي تتابع الوصايا العشر، وذكر أولاً الطلب بالطهارة الكاملة، ليكشف قلب امتسائل المفعم بالشهوة والخطايا. ولكن المتمسك بالناموس لم يدرك أن الوصايا العشر تدينه، بل ادعى بأنه قد حفظ هذه الأحرف منذ حداثته. وحقاً فإنه لم يلامس امرأة غريبة، ولم يقتل أحداً، ولم يسرق شيئاً لأنه غني. ولم يكذب عمداً. وأكرم والديه دائمً. فلهذا السبب رأى نفسه صالحاً كاملاً. ولكن رغم هذا الاعتقاد شعر بعمق قلبه أنه ينقصه شيء، ربما حياة الله وقوته بالذات. فقال يسوع بما شعر به هو تماماً: إنك ينقصك شيء. وهو الأهم! ويسوع الحكيم لم يقل له، إنك ناقص في معرفة خطاياك، وناقص الإمان في غفران الخطايا. بل أراه رأساً السلاسل الذهبية. التي قيد نفسه بها. وهي المال. فهذا المتعلم الغني احتاج للتحرر من قيوده المادية، ليصبح فقيراً، ويتكل على الله وحده. ولا يبني حياته على أساس ضعيف بالتمسك بالمال. وكأنه كان يقول له، وهو حاوره: أنت تحب نفسك، طالباً الحياة الأبدية لذاتك. ولا تهتم بالفقراء. ولا محبة ربك مطلقاً. انتبه! إن المحبة هي الحياة الأبدية. وبمقدار أن تحب، تساعد الفقراء والبسطاء. فبع ما عندك ووزع أثمانه بين الفقراء، تصبح غنياً في المحبة، والله هو حصتك في الروح.

وإذ سمع هذا المعلم الغني ما قاله يسوع، استاء مرتجف، وارتجف مستاء، لأنه لم يفكر أن يسوع يصيبه من هذه الجهة أيضاً. فأراد أن يجمع لنفسه كنزاً في السماء. مضافاً إلى كنزه الدنيوي. وتمنى تعليم كلمة الله، ولكن دون أن يصير فقيراً. فما تبعيسوع، ولم يضع ماله في البنك السماوي. وهكذا فقد كنزه الدنيوي بموته، ولم يحصل أيضاً على الحياة الأبدية آخرة، لأنه أحب قليلاً، ولم يضح. ولكن الذي يحب كثيرين يعيش حقاً. فالبعض فقراء وهم أغنياء، وآخرون أغنياء رغم فقرهم.

18: 24 فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ قَدْ حَزِنَ، قَالَ: «مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي ٱلأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ! 25 لأَنَّ دُخُولَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ!». 2 فَقَالَ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا: «فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» 27 فَقَالَ: «غَيْرُ ٱلْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ ٱلنَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ».

وعمق يسوع تلاميذه رأساً في مبدأ التحرر من المال، شرطاً للدخول إلى ملكوت الله. وأراهم بواسطة مثل الجمل، الذي لم يقدر أن يدخل في ثقب الإبرة البتة، استحالة ولوج الغني إلى الله وإرضائه. الله محبة ويبذر ما عنده ويهدي مواهبه بالغنى. فالأزلي لا يعيش لذاته، بل يخدم مخلوقاته. فمن يرد الثبات فيه فليحب، ويعط كما يعطي الله، ويخدم بلا انقطاع.

ولا تنس أنك غني بمواهبك الروحية النفسية الجسدية. فبأي مبلغ تبيع قلبك، لو أتاك مريض يتطلب نقل قلبك إلى جوفه؟ إنك تملك أشياء باهظة الثمن أكثر من الملايين، وأنت لا تدركها. وبمعنى آخر فهل لا زلت تملك قلبك لخاصيتك أو أهديته حقاً ليسوع لمسيح؟

ولما أراد التلاميذ طلب يسوع، فزعوا مثلما فزع ذلك المعلم الرئيس. وتمتموا قائلين: من يقدر أن يخلص إذاً؟! فقد أدركوا، أنهم ما زالوا يحبون المال، وقصدوا مستقبلاً مناصب الوزراء في ملكوت الله. ولم يريدوا تقليل مدخولهم المادي، بل زيادته،وضمان مستقبل عائلاتهم.

فالمسيح في رحمته شهد لهم، أن قدرة الله تستطيع تحريرهم من كل خطايا وأربطة إبليس. فلا يقدر الإنسان أن يكسب الحياة المادية بتضحياته الشخصية، بل الله في نعمته يهبها له مجاناً. وليس إنسان يعمل صلاحاً، فالله قد عمل المستحيل، وجعل ابنه إنساناً ليصبح الأشرار أبناء الله. والروح القدس، الذي هو حياة الله اليوم في المؤمنين، يخلق فينا محبة المساكين والفقراء، لكي نتعشق التضحية، ونضع أموالنا تحت تصرف يسوع المسيح. فهل سلمت جزدان مالك لربك كاملاً؟ فأي فقير في محيطك قد ساعدته عمليً وباستمرار؟

18: 28 فَقَالَ بُطْرُسُ: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ». 29 فَقَالَ لَهُمُ: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ وَالِدَيْنِ أَوْ إِخْوَةً أَوِ ٱمْرَأَةً أَوْ أَوْلاداً مِنْ َجْلِ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، 30 إِلَّا وَيَأْخُذُ فِي هٰذَا ٱلّزَمَانِ أَضْعَافاً كَثِيرَةً، وَفِي ٱلدَّهْرِ ٱلآتِي ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ».

ماذا تركت باتباعك يسوع؟ وهل تبعته لتحصل على استفادة وغنى وامتيازات أخر؟ أو لأن شخصيته اجتذبتك؟ إن يسوع يؤكد لكل تابع أمين له، نفس ما قاله لرسله الذين تركوا عملياً وظيفتهم وأقرباءهم وأملاكهم، إنهم يجدون في هذه الدار إخوة وأخوات وأولاداً وملء البركات. وبزيادة على ذلك الروح القدس الذي هو عربون الحياة الأبدية. ولكن انتبه لهذا السؤال الهام: ما هي غاية اتباعك يسوع؟ هل تريد تحسين أحوالك المادية وضمان مستقبلك الدنيوي. أو أي فائدة اجتماعية؟ فتشرف على الخطر أن تفقد حصتك ف ملكوت الله، لأنه هو قوة المحبة وطريق التضحية وإنكار المال، لأن الرب لا ينتصر بالقوة والقدرة، ولكن بروحه العامل في إيمانك. فاتباع يسوع يغير حياتك جذرياً، ويجعلك غريباً في هذه الدنيا، ولكن أهلاً لملكوت الله. أأنت مستعد لهذا التغيير الفكر الجذري؟

الصلاة: يا رب، حررني من الأفكار الدنيوية والقيود المالية. واملأني بمحبتك، لكي أسلك اليوم في حياتك الأبدية، وأضحي بأموالي وأوقاتي وقواي لك. أنت الذي تلتقي بي عند الفقير والمعوز. ارحمني يا رب، واعمل فيّ المستحيل لأحب كماتحب أنت كل المساكين.

32 - المسيح يؤكد موته وقيامته (18: 31 - 34)

18: 31 وَأَخَذَ ٱلاِثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ: «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَسَيَتِمُّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِٱلأَنْبِيَاءِ عَنِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ، 32 لأَنَّهُ يُسَلَّمُ إِلَى ٱلأُمَمِ، وَيُسْتَهْزَأ بِهِ، وَيُشْتَمُ وَيُتْفَلُ عَلَيْهِ، 33 وَيَجْلِدُونَهُ، وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ». 34 وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ ذٰلِكَ شَيْئاً، وَكَانَ هٰذَا ٱلأَمْرُ مُخْفىً عَنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا قِيلَ.

انفرد يسوع بتلاميذه الاثني عشر. وتجنب معهم عن الجماهير واختصهم لثالث مرة بخبر هام عن سر قمة كيانه. فملك الله استعد ليموت. لم يرد أن يبيد أعداءه بالسيف مثلما يفعل السياسيون الدنيويون. ولم يرد اغتصاب السلطة بعون الملائكة، بل تهيأ للوت عوضاً عن الأشرار، وعزم أن يصالح الخطاة بالله. فوجه طريقه نحو الصليب مصمماً نحوه بكل وضوح. وبينما كان يستعد لموته منكراً نفسه تباحث تلاميذه عن مقدار المكافأة ومهنهم. ففكروا دنيوياً، والمسيح فكر سماوياً، وحاول اجتذاب تلاميذه لمستوى أفكره، لكن عبثاً. فلم يفهموا أن قوة الله تبدو مستضعفة. وما أدركوا أن المنتصر على الأمراض والموت والشيطان يستسلم بدون مدافعة، ويوافق أن يذبحوه صامتاً كخروف بين يدي جزار، دون أن يفتح فاه.

ورسم المسيح أمام أعينهم حقيقة تألمه وموته وقيامته بكل وضوح، لكيلا يتزعزعوا في إيمانهم إذا هجمت الأحداث عليهم. ولم يبنهم على نبواته الخاصة الصادرة منه فقط، بل ثبتهم قبل كل شيء على النصوص من العهد القديم، التي أوضحت تألمه وموته مسبقً، لأن الروح القدس اتجه منذ مئات السنين لهذه الساعة القاطعة في التاريخ البشري، ألا وهي ساعة فداء العالم! والأنبياء الحقيقيون اتخذوا صليب المسيح محوراً لنبواتهم (إشعياء 50: 6 وإشعياء 53 وزكريا 11: 12 و12: 10 و13: 7 والمزمور 22 وغيره).

فالملك المستعد للموت، أعد تلاميذه الجهلاء لأصعب ساعة في حياته وحياتهم. ولم يقل لهم: أنا صاعد وسط الجبال الصحراوية نحو أورشليم المرتفعة، بل قال: ها نحن صاعدون، لأنكم تشتركون معي في الاحتقار والاضطهاد والبكاء، إذ تسقطون مباشرة في غرال الشيطان المهزوز، لأنه يقصد إهلاككم، يا رسلي في المستقبل!

وسمى المسيح الضيق الأكبر المقبل عليه تسليمه إلى ْأيدي الأمم، إذ أن هذا التسليم للسلطة الكافرة يعتبر عند اليهود المؤمنين عاراً كبيراً، كان الله ترك المستسلم، ولم يحمه بعدئذ. فكان انفصاله عن أبيه على الصليب من البداية هو سر الصليب احق، الذي اكتأب منه يسوع، عالماً أن أباه سيحجب وجهه عنه، وينفصل عن ابنه الحبيب، ليسكب على حمل الله كل غضبه، ويدينه عوضاً عن الخطاة.

فالآلام الأخرى كلها المذكورة سالفاً، هي تفسير لهذا الترك الإلهي، وتعني التجربة المتسلسلة ليسوع ليبغض ظالميه، فيسقط إلى خطية، ويفقد هكذا استحقاقه للموت كحمل الله الفريد. ذبيحة عوضاً عنا. لكنه ثبت في المحبة الأزلية، مباركاً مضايقيه صلياً من قلبه. وصرخ بكلمته الأولى على الصليب قائلاً: يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون.

إن إبادة قدوس الله كانت هدف الشيطان. والإنسان يسوع، سلم إلى يديه. وعبيد الشيطان افترسوا جسده بضربات السياط، التي كان مربوطاً بسيورها اللاذعة قطع حديدية كاشطة الجسم عن العظم. وأخيراً صلبوه، ليموت بواسطة ثقل جسده على الصليب، ليميتوانفسه بنفسه. فتجمد جسده الممزق، وتوقف قلبه، ولكن روحه ثبت حياً، لأنه قد استودعه بين يدي أبيه.

وقد بقي المسيح بلا خطية، حتى وهو على الصليب، يعاني التجارب الشيطانية. فغلب بلطف تواضعه الشيطان الماكر وكل قدرته. ولكن الذي بقي بدون خطية، فلن يموت، لأن أجرة الخطية هي موت. فقام المسيح من بين الأموات وترك الموت كثوب مفتت، وبانت نفس منتصرة على الخطية والشيطان والموت، حتى أنه أطفأ غضب الله، وصالح البشر كلهم مع القدوس. فقيامة يسوع هي رمز ظفره وصورة رجائنا. فلا تنس أن يسوع أنبأ بموته قبل قيامته مؤكداً أن حياة الله لن تموت فيه.

فمع ذلك، لم يفهم التلاميذ أسرار شخصية يسوع ووظيفته. فكانوا عمياً، ليس لمعاني تألمه وموته وقيامته فقط، بل أيضاً اعتبروا حدوث هذه الأحداث مستحيلاً، وفكروا أنه مثل مثلاً غير حقيقي. فلم يكن الروح القدس قد انسكب في قلوبهم، ولم يكن قد ألن لهم خطة خلاص الله بعد. فهم إذاً عمي، رغم أنهم اتبعوا ربهم، منذ زمن طويل. فهل لا زلت أعمى أنت أيضاً، أو تسجد لحمل الله؟

الصلاة: أيها الرب القدوس، نشكرك لأنك أصبحت إنساناً، لتتألم وتموت عوضاً عنا. ونشكرك لتحملك الاحتقار والجلد والبصق والضربات والموت، لكي نشترك في قيامتك وحياتك الأبدية. افتح أعين أصدقائنا، لكي يجدوا في صليبك حياتك.

33 - شفاء الأعمى في أريحا (18: 35 - 43)

18: 35 وَلَمَّا ٱقْتَرَبَ مِنْ أَرِيحَا كَانَ أَعْمَى جَالِساً علَى ٱلطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. 36 فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْجَمْعَ مُجْتَازاً سَأَلَ: «مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هٰذَا؟» 37 فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيَّ مُجْتَازٌ. 8 فَصَرَخَ: «يَا يَسُوعُ ٱبْنَ دَاوُدَ ٱرْحَمْنِي!». 39 فَٱنْتَهَرَهُ ٱلْمُتَقَدِّمُونَ لِيَسْكُتَ، أَمَّا هُوَ فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيراً: «يَا ٱبْنَ دَاوُدَ ٱرْحَمْنِي». 40 فَوَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُقَدَّمَ إِلَيْهِ. وَلمَّا ٱقْتَرَبَ سَأَلَهُ: 41 «مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟» فَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، أَنْ أُبْصِرَ». 42 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَبْصِرْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ». 43 وَفِي ٱلْحَالِ أَبْصَرَ، وَتَبِعَهُ وَهُوَ يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ. وجَمِيعُ ٱلشَّعْبِ إِذْ رَأَوْا سَبَّحُوا ٱللّٰهَ.

لم تفهم أكثرية اتباع يسوع من هو في الحقيقة. فسموه معلماً، أو سيداً، أو نبياً، أو ناصرياً. ولكن قليلين تجرأوا على القول، أنه المسيح الملك الآتي من عند الله. ولما استفهم الأعمى الجالس على حافة الطريق العام في مدينة أريحا، وعرف أن يسع الناصري يمر مع أتباعه، صرخ رأساً بصوت عالٍ: يا يسوع ابن داود ارحمني. فالأعمى المسكين أدرك ثلاثة أشياء ونطق بها، أولاً، أن يسوع هو وارث داوود الموعود به. ثانياً: أن يسوع هو الذي عزم الله أن يكون أباه. ثالثاً: يكفل الله له عرش أبيه إلى لأبد. فبهذا الإيمان فسر الأعمى الوعد المكتوب في سفر صموئيل الثاني 7: 12-14 وفهم انطباق معانيها على الطبيب العجيب يسوع واثقاً أن كل بركات الله وقواه تجري منه.

ولما سمعت الجماهير التابعة ليسوع هذا الصراخ حاولوا إسكات هذا الطفيلي. ولكنه صرخ بأعلى صوته، لأنه رغم انكفاف عينيه. فقد عرف بأعين قلبه من هو يسوع الناصري، واعترف بإيمانه به، ولم يرضخ لتحذيرات الجماهير له، بل فكر في نفسه: الآن فرصة ياتي، وإذا لم أغتنمها فستمر. لهذا السبب، فلأصرخ عالياً بأقوى ما أستطيع من حنجرتي.

وفي هذا التيقن آمن، أن خليفة داود هو رحيم، وليس سلطاناً متعجرفاً، بل يهتم بالمساكين، وعنده وقت لأعمى محتقر، ويرحمه برحمة الرحمن.

ووقف يسوع وكل الجمع التابع له، متريثاً إكمال الطريق إلى الصليب، متجهاً إلى هذا المؤمن المسكين، وأمر بجلبه. فتملك الجمع صمت عظيم، لأن يسوع لم يرفض معنى هذا الهتاف المختص به، إنه ابن داود المسيح، فاعترف بهذا أنه ابن دواد وابن الله بفس الوقت.

ولما وقف الأعمى أمام يسوع، سمع صوته المحب قائلاً: ماذا تريد أن أفعل لك؟ فيسوع جند إرادة المسكين، مجتذباً كل أمنياته إليه ليرتكز على قدرته الشفائية. فلم يطلب الأعمى من يسوع السماء أو المال، ولا الحياة الأبدية أو الغفران، بل بكل بساة انفتاح عينيه. وهذا تماماً الذي أراد يسوع، أن يطلبه تلاميذه منه. ولكنه فكر أنهم فاهمون كل شيء ويبصرون كل الأسرار. فكانوا عمياناً بالروح، رغم انفتاح أعينهم المبصرة. ليتنا ندرك تحديد عقولنا، وقلة معرفتنا لكلمة الله، وضعف أعمال المحبة، ونتعد لسؤال محبة الله: ماذا تريد أن أفعل بك. فكيف تجاوب على سؤال يسوع هذا؟ هل تجاوبه كذلك المؤمن الأعمى بقولك. افتح عيني؟ وهل تصلي لتفتح أعين أصدقائك وأعدائك؟ أو تكتفي ببصرك وإدراكك؟ اطلب من الرب القادر على كل شيء أن يريك أنانية قلبك، لتسط قشور عميك. وتنظر إلى العالم بحنان وشفقة، مثلما ينظر يسوع في محبته الإلهية.

وأمر ابن الله المكفوف بكلمته القاطعة: أبصر. وبهذا الأمر وضع قوته الخالقة في إرادة الأعمى، وأحيا أعصابه، وشجعه ليطيع أمره الملكي، مستخدماً كل القوى الهاجعة في المسكين. ويأمرك يسوع أيضاً: كن مبصراً، أدرك عجائب خطة خلاص الله، وانظر قل كل شيء الشخص الفريد يسوع. وهذا ما أثر في نفس المشفي تأثيره العميق لأول وهلة بعد إبصاره، إذ رأى وجه يسوع أمامه، مفعم اللطف والمحبة والحق. ففهم رأساً: هذا هو ملكي، يسوع الناصري ابن الله.

وقبل أن ينفجر المشفي والشعب بعاصفة الحمد والشكر قال يسوع للمبصر: إيمانك خلصك. وهذا الإيمان ابتدأ بتعمق المسكين في مواعيد الله المعطاة لداود. فأدركها متحققة في يسوع، واثقاً أنه القدوس الرحيم، ورآه بأكثر وضوح أمام عيني قلبه. ولما سم عن مجيئه، صرخ إليه مؤمناً متواضعاً مصمماً متمسكاً بعباءة منقذه المجتاز في الطريق. إن هذا النوع من الإيمان يخلص. اقرأ في الكتاب المقدس، فترى يسوع بكل جماله، وتنال قوته العظيمة.

واتبع المشفي سيده يسوع رأساً، لأن رجوع بصره فجأة.كان له برهاناً قاطعاً على سلطان المسيح، فعيناه لم تعودا توجعانه، ولم يلفهما بأربطة كما بعد عملية جراحية. بل يسوع شفاه بكلمة واحدة. فهو إله خالق حاضر بين البشر، لأن الله قد زارهم مبتئاً بتأسيس مملكته. ولكن كان جميع هؤلاء التابعين عمياناً، لأنهم لم يدركوا، أن يسوع كان على طريقه نحو الصليب، حيث سيصلبه الذين يبتهجون به حاضراً.

الصلاة: أيها الرب، أنا أعمى، ولا أرى خطواتك في تاريخ حاضرنا. افتح عينيّ لأراك وأدرك قلبي الشرير، وأتمسك بلطفك. قّو إيماني، لأتقدم إليك مع كل أصدقائي، لتفتح أعيننا ونرى المكفوفين حولنا، ونجلبهم إليك أنت المصلوب والمقام لحي. انك تريد تبصيرنا وإنارة قلوبنا.

34 - يسوع يزور زكا (19: 1 - 10)

19: 1 ثُمَّ دَخَلَ وَٱجْتَازَ فِي أَرِيحَا. 2 وَإِذَا رَجُلٌ ٱسْمُهُ زَكَّا، وَهُوَ رَئِيسٌ لِلْعَشَّارِينَ وَكَانَ غَنِيّاً، 3 وَطَلَبَ أَنْ يَرَى يَسُوعَ مَنْ هُوَ، وَلَمْ يَقْدِرْ مِنَ ٱلْجَمْعِ، لأَنَّهُ كَانَ قَصِيرَ ٱلْقَمَةِ. 4 فَرَكَضَ مُتَقَدِّماً وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ لِكَيْ يَرَاهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُرَّ مِنْ هُنَاكَ. 5 فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَهُ: «يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وٱنْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ ٱلْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ». 6 فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَهُ فَرِحاً. 7 فَلَمَّا رَأَى ٱلْجَمِيعُ ذٰلِكَ تَذَمَّرُوا قَائِلِينَ: «إِنَّهُ دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئٍ». 8 فَوَقَفَ زَّكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: «هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ». 9 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ٱلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاصٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضاً ٱبْنُ إِبْرَاهِيمَ، 10 لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ».

لما مشى يسوع في قلب أريحا مدينة النخيل تهللت الجماهير السطحية. ولكنه عزم على أن يعمل عملية جراحية عميقة الغور لأعينهم العمياء روحياً، ليروا من هو ابن داود. فإنه ليس الطبيب المقتدر الرحيم فقط، بل أيضاً مخلص الخطاة، الذي يرحم الدنسي، ويبحث عن المرفوضين من المجتمع.

وكان عائشاً في مركز تقاطع الطرق في وادي الأردن بمدينة أريحا رئيس للضرائب اسمه زكا، مخادعاً ككل زملائه، الذي عصروا الشعب كعصير الجزر، ليستخلصوا منهم بأمر القوة الاستعمارية الضرائب. فاستخرجوا منهم أكثر من الواجب والمعقول. فأثروا علىظهورهم إثراء كبيراً. ولكن ضمير زكا استيقظ وبكته. فعلم أن كل خداعاته تثير غضب الله. وأراد أن يشاهد يسوع، لعله يقدر أن يساعده ويريح ضميره. وحيث كان زكا قصير القامة، فلم يقدر أن يرى يسوع، لأن الجمع كان متزاحماً وغير مهتم بهذا الخداع المحتق. فركض هذ القزم. وسبق موكب يسوع، وتسلق جميزة، ليراه في الخفاء عن قريب، عارفاً أن جموع الموكب لا بد سيمر من هذا الموضع. والعجيب العجاب أن يسوع قد عرف قلبه واسمه وحالته مسبقاً. فنظر إلى عينيه، وسط اختفائه بين الأغصان، وصرخ إليه جهراً باسم، الذي كان كل الناس يعرفونه في المدينة، إنه مجرم عميل سراق. وكلمه يسوع بعبارة ما وجدت في كل الكتاب المقدس بغير هذا المكان: تعال من خفيتك، لأني أنا ابن الله وابن داود، ينبغي أن أزورك اليوم، وأتعشى في بيتك. وكلمة ينبغي هنا تعني عزم يسوع عى أن يوضح للجماهير العامة، أنه لا يحب الصالحين والأتقياء فقط، بل قبل كل شيء يطلب الضالين ليخلصهم.

وحالما أظهر هذا المبدأ اهتاجب بغضة الأبرار في ذواتهم جهراً. وكرهوا المسيح، لأنه لم ينزل ضيفاً عند أحد وجهاء مدينتهم، بل زار عميل القوة الاستعمارية، الكافر الخائن اللص. فتساءل بعضهم مع بعض: هل يريد الاستغناء؟ ألا يعرف هذا في بصيرتهالنبوية أن زكا خاطئ عشار؟ وانقلبت الأوضاع. وأنكروا بنوة يسوع لداود ونبوته، وانتصبت المجادلات في المقاهي والحدائق والبيوت إلى منتصف الليل وطوال الأسبوع.

وهكذا وجد يسوع الضرورة في نفسه ليحرر الجماهير من التحمس السطحي. ويقودهم إلى هدف مجيئه. وكذلك فقد شاء أن يلتقي بنفس زكا الجائع إلى السلام مع الله والناس، علماً أن زكا لم تكن له فرصة أخرى غير ذلك اليوم الفريد، الذي التقى فيه بيسوع. كان ينبغي على المسيح أن يدخل بيت المحتقر المرفوض.

وسريعاً نزل زكا عن الشجرة، وفتح بيته بفرح، وفهم قصد المسيح رأساً، وشعر بمحبته المنصبة عليه هو الضال الخاطئ. فشكره من أعماق كيانه، لأنه فضله على جماهير الأتقياء وتركهم، ليخلصه أولاً. وبمعرفته وسروره ذاك، نشأ إيمان ثابت فيه، أن المسح برره وأنعم عليه. وهذا الإيمان أنضج فيه رأساً ثماراً وأعمالاً حقة في المحبة. فعلم زكا، أنه لا يستطيع وهو في حضور المسيح، أن يخفي كذبة أو سرقة واحدة. ففتح قلبه ليسوع كاملاً، منفصلاً عن غناه الكاذب، وعزم على أن يوزع نصف ممتلكاته لفقراء امدينة، هبة مستوجبة. واستخدم النصف الآخر، ليرجعه للذين تضرروا باختلاساته المتعمدة. وكان مستعداً أن يدفع أكثر مما يأمره به ناموس الرب (لاويين 5: 21 خروج 21: 37 و22: 3-8) هل في بيتك أوانٍ ومفروشات وأشياء أخرى سرقتها؟ أخرجها رأساً من دارك باسمالمسيح واعطها لمستحقيها؟ ونظم كل حياتك لأن كل قرش مسروق سيحرقك في جهنم كأتون ملتهب.

عندئذ قال يسوع أن أعمال الإيمان الجريئة هذه لا تجعل بيت زكا فقيراً، بل غنياً حقاً. فد تحرر من مال الظلم، وامتلأ قلبه بمحبة الله. فروح الرب حل في المؤمنين، الذي فتح بيته ليسوع ورسله على مصراعيه، مطيعاً لجذب الروح القدس مباشرة. فإيمن كهذا الإيمان لا يخلص أفراداً أقلة، بل بيوتاً وعائلات بأكملها. فيسري الإيمان إلى جميع العائلة. الأم والأولاد والخدام والأقرباء بالتتابع، لأن روح الله هو القوة المطهرة والمقدسة في الدنيا.

ونتيجة الإيمان الظاهر في زكا كانت شهادة يسوع على الجماهير المتذمرة، لأنه برهن لهم، أن ملك الله يغير القلوب، ويعمل من الخطاة صالحين، حتى يدفع كل منهم ما توجب عليه. ويعطي أيضاً من غناه للفقراء علانية. فتكلمت كل المدينة عن يسوع مرى أرى، لأنه أراهم، كيف جعل من الفاسد ابناً محترماً لإبراهيم رمز المؤمنين. فحصل يسوع على هدف تصرفاته بجعله الجماهير تدرك، أن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك. فالتبديل في نفس زكا كان أعظم تفسير لهذه الكلمة.

الصلاة: نشكرك أيها الرب يسوع، لأنك عرفت زكا واكتشفته وزرته، رغم الجماهير المتذمرة. وهذا يشجعنا انك تزورنا أيضاً، ولا تمر بنا فأنا المحتقر، افتح لك قلبي وبيتي بفرح، وكل ما سرقته أرجعه، وحيث صنعت ظلماً أعترف به مستغفرك.

35 - مَثَل أصحاب الأَمْناء (19: 11 - 27)

19: 11 وَإِذْ كَانُوا يَسْمَعُونَ هٰذَا عَادَ فَقَالَ مَثَلاً، لأَنَّهُ كَانَ قَرِيباً مِنْ أُورُشَلِيمَ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ عَتِيدٌ أَنْ يَظْهَرَ فِي ٱلْحَالِ. 12 فَقَالَ: «إِنْسَانٌ شَرِيفُ ٱلْجِنْسِ ذَهَبَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ لِيَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مُلْكاً وَيَرْجِعَ. 13 فَدَعَا عَشَرَةَ عَبِيدٍ لَهُ وَأَعْطَاهُمْ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ، وَقَالَ لَهُمْ: تَاجِرُوا حَتَّى آتِيَ. 14 وَأَمَّا أَهْلُ مَدِينَتِهِ فَكَانُوا يُبْغِضُونَهُ، َأَرْسَلُوا وَرَاءَهُ سَفَارَةً قَائِلِينَ: لا نُرِيدُ أَنَّ هٰذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا. 15 وَلَمَّا رَجَعَ بَعْدَمَا أَخَذَ ٱلْمُلْكَ، أَمَرَ أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ أُولٰئِكَ ٱلْعَبِيدُ ٱلَّذِينَ أَعْطَاهُمُ ٱلْفِضَّةَ، لِيَعْرِفَ بمَا تَاجَرَ كُلُّ وَاحِدٍ. 16 فَجَاءَ ٱلأَّوَلُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، مَنَاكَ رَبِحَ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ. 17 فَقَالَ لَهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ، لأَنَّكَ كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ، فَلْيَكُنْ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى عَشْرِ مُدُنٍ. 18 ثُمَّ جَاءَ ٱلثَّانِي قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، مَنَاكَ عَمِلَ خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ. 19 فَقَالَ لِهٰذَا أَيْضاً: وَكُنْ أَنْتَ عَلَى خَمْسِ مُدُنٍ. 20 ثُمَّ جَاءَ آخَرُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ هُوَذَا مَنَاكَ ٱلَّذِ كَانَ عِنْدِي مَوْضُوعاً فِي مِنْدِيلٍ، 21 لأَنِّي كُنْتُ أَخَافُ مِنْكَ، إِذْ أَنْتَ إِنْسَانٌ صَارِمٌ، تَأْخُذُ مَا لَمْ تَضَعْ وَتَحْصُدُ مَا لَمْ تَزْرَعْ. 22 فَقَالَ لَهُ: مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلشِّرِّيرُ. عَرَفْتَ أَنِّي إِنْسَانٌ صَارِمٌ، آخُذُ مَا لَمْ أَضَعْ، وَأَحْصُدُ مَا لَمْ أَزْرَعْ، 23 فَلِمَاذَا لَمْ تَضَعْ فِضَّتِي عَلَى مَائِدَةِ ٱلصَّيَارِفَةِ، فَكُنْتُ مَتَى جِئْتُ أَسْتَوْفِيهَا مَعَ رِباً؟ 24 ثُمَّ قَالَ لِلْحَاضِرِينَ: خُذُوا مِنْهُ ٱلْمَنَا وَأَعْطُوهُ لِلَّذِي عِنْدَهُ ٱلْعَشَرَةُ ٱلأَمْنَاءُ. 25 فَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ عِنْدَهُ عَشَرَةُ أَمْنَاءٍ. 26 لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَٱلَّذِي عِندَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ. 27 أَمَّا أَعْدَائِي، أُولٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَٱذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي».

تكلم الناس كلهم في أريحا عن يسوع. أكرمه بعضهم ورفضه الأكثرون، لأنه أكل مع خاطئ، وخرج على تقاليد الناموسيين. لم يدركوا محبته المخلصة، ولم يتمنوا أن يملك عليهم، هذا الوديع المتجاوز لتقاليد الأمة. فأرادوا ملكاً مقتدراً بالسيف والرمح ليس رحماناً منحنياً على الصغار والمنكسرين. فأبغضوه ورفضوه، وربما صلوا في قلوبهم إلى الله. يا رب، ليت يسوع هذا لا يصير ملكاً علينا.

وبعضهم تحمسوا ليسوع وقدرته مفكرين أن ملكوت الله يحضر حالاً بمجرد دخوله أورشليم. فوضح يسوع لتلاميذه بواسطة هذا المثل، أن مجيء الملكوت متأخر جداً، كما وضح لأعدائه، أن ملكوته سيأتي رغم عنادهم بعدما يصعد إلى أبيه، لينال ملك الكون، وقو العلي، والمجد العظيم.

وأتباعه قد أشبهوا العبيد العشرة، الذين أعطاهم ربهم لامتحانهم لكل منهم مناً واحداً، ليتاجروا بها ويعملوا حتى يعود من سفره. فأعطى كلاً بنفس المقدار مثل غيره. وهذا دال على أن يسوع يعطي لكل مؤمن نفس المقدار في الغفران والنعمة والقوة لتحرك بواسطتها ونعمل ونخدم، ليس كالأسياد متسلطين على الآخرين، بل عبيد أمناء خبراء في الأشياء الدقيقة. فقد أعطاك يسوع مواهب صغيرة. فماذا تعمل لأجله؟ هل تتحرك أو تنام. هل تبغض ربك أو تحبه؟

ولما عين السيد ملكاً على مدينته رغم رفض أهلها. عاد متأخراً وأخذ مملكته بضربة واحدة. هكذا سيأتي يسوع ويحصد العالم كله بخبطة واحدة. فيكون على كل الأمم، أن تقف أمام عرشه العظيم، ليعطي كل فرد حسابه عما قدمت يداه بالمواهب، التي استودعه الله إياها.

فالأمناء من العبيد تقدموا بفرح وقدموا أرباحهم. فالأول كان قد حصل على ربح كبير، لكنه لم يقل، قد اشتغلت بحكمة، بل شهد بقدرة وطاقة موهبة ربه. فلسنا نحن بناجحين في يوم الحساب، بل قوة ربنا شاءت بالنعمة أن تكمل في ضعفنا. فيمكننا ببطء قلبنا أن نمنع جريان النعمة، ولكن لا نقدر أن ننشئها ونسريها، وإنما هي التي تعمل كل شيء صالح تلقائياً فينا وحولنا حتى في الخدمات الصغيرة في البيت والمجتمع، إن استجبنا لها ولم نعارضها.

وقال الرب للعبد الأمين المطيع: أن النعمة بكليتها عملت فيك، فأصبحت أميناً في القليل، ومطيعاً للجذب الروحي في معاملتك للبسطاء المساكين. فالآن أعطيك سلطاناً على عشر ولايات، لا على مئة منٍّ أو ألف فقط، بل ملايين وألوف الملايين. فأمانت واجتهادك في سبيل النعمة يؤهلك لتحمل مسؤولية الرحمة لمسافات ومناطق واسعة. والمسيح يعطي لكل متواضع عامل أمين سلطانه وقدرته وقوته، ليأتي ملكوته وينمو بواسطة الخدمات الأمينة.

ولما أتى العبد الثاني الأمين إلى سيده فعل كالعبد الأول، ولم يبرز نشاطه الخاص، بل قدرة النعمة وحدها. ففوضه يسوع على خمس ولايات في ملكوته حسب أمانته واجتهاده في الأمور الصغيرة.

هل أدركت أن الله في ملكوته يفوض عباده الأمناء لوظائف وخدمات متصاعدة متدرجة؟ وهذا التفويض يتوقف على مقدار الأمانة والتنازل والتسليم والاستمرار في الصلوات وكفاح الإيمان. فهل تكلم الناس باستمرار عن يسوع، وتعتني بحياتهم الروحية؟ هل توع المنشورات بالصواب، وتضحي بوقتك باستمرار؟ هل تحب أعداءك وتصلي لأجل خصمك؟ فإن التحمس في بداية خدماتك ليس هو الذي يحكم على ثمار النعمة فيك، بل مواظبتك في الأمور الصغيرة وأمانتك وصبرك ينشئ نجاحك في ملكوت ربك.

والعبد الثالث كان مهملاً وكسولاً. فخاف من جلال ملكه. وربما تعاون قليلاً مع خصوم الملك وكرهه، لأنه كان عليه أن يشتغل في خدمته بدون مكافأة ظاهرة. ولم يكن حراً ليعيش كما يريد. فخبأ مال ربه. ولم يستعمله لنفسه، كما عمل العبيد السبعة الخرون، بل أهمله، ونسيه، وعاش بلا مبالاة. ولكن لما رجع سيده اضطرب، واعترف علناً بإهماله. ولم يساعده هذا الاعتراف، لأنه ما أحب الملك. ولم يتجرأ أن يستخدم موهبته، فأخذ ربه النعمة منه، وسماه عبدا شريراً. ولم يقاصصه بضربات، سوى استرجاع ما كانفي يده من بقايا النعمة، فأصبح معدوماً. فهذا الكسلان أراد أن يبقى مع الذين هم على الحياد، ليساير ربه والعالم، مع الله وضده، ففقد كل نعمة. أيها الأخ، هل تخاف من الله؟ فادرس مشيئته ونفذها. هل تعرف مواهبك العديدة، العقل والعضلات والمال والقة والوقت؟ استخدمها لخدمة أناس آخرين، وإلا فإن ربك يأخذها منك. ولا تنس أن صلواتك الموضوعة في بنك محبة الله، تأتي بفائدة عظيمة، وتسبب الثمار الممتدة إلى الأبد.

والذي لا يعمل في سبيل المحبة، يصير تلقائياً أنانياً، وغير قادر لخدمة نافعة. ونجد في ملكوت الله قانوناً مخيفاً بنسبة النمو في النعمة والنقصان فيها. فالأمين في القليل يصبح غنياً في الروح وموهوباً أكثر وفائض البركات. ولكن من يخدم سيدن، ويهمل الخدمة الموهوبة له، يفتر في صلواته، ويفقد الإيمان، تموت محبته. فإذا هو فارغ ميت فاسد ويدين نفسه بنفسه. فهل أنت في حالة النمو أو تنقص؟

إن أعداء يسوع لا بد أن يعانوا أخيراً عذاباً شديداً، لأن المسيح ليس محبة فقط، بل إنه بر وقداسة وحق أيضاً. ومن يرفض محبته، يطلب دينونته فالرحمن هو عادل وقاس، ويدين أعداءه بلا شفقة ويبيدهم ويهلكهم. فدينونة الله لا تأتي رأساً، بل تكتم في مجيء المسيح الثاني. عندئذ يسبب مجده نعمة للأمناء وهلاكاً للكسالى الأنانيين.

الصلاة: أيها الرب أشكرك للمواهب الموهوبة لي، فكل نعمك صالحة وعاملة ومباركة، أرشدني لخدمات متنوعة، وللتجارب مع جذب روحك فأمجدك بكرة وأصيلاً. وعيّن لكل مدينة وقرية عبداً مصلياً أميناً ليأتي ملكوتك.

خامساً: دخول المسيح الانتصاري لأورشليم (19: 28 - 21: 38)

1 - اقتراب المسيح من العاصمة واستقباله بالهتاف (19: 18 - 44)

19: 28 وَلَمَّا قَالَ هٰذَا تَقَدَّمَ صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيمَ. 29 وَإِذْ قَرُبَ مِنْ بَيْتِ فَاجِي وَبَيْتِ عَنْيَا عِنْدَ ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي يُدْعَى جَبَلَ ٱلّزَيْتُونِ، أَرْسَلَ ٱثْنَيْنِ مِنْ تَلامِيذِهِ 30 قَائِلاً: «اِذْهَبَا إِلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي أَمَامَكُمَا، وَحِينَ تَدْخُلانِهَا تَجِدَانِ جَحْشاً مَرْبُوطاً لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ ٱلنَّاسِ قَطُّ. فَحُلَّاهُ وَأْتِيَا بِهِ. 31 وَإِنْ سَأَلَكُمَا أَحَدٌ: لِمَاذَا تَحُلَّانِهِ؟ فقُولا لَهُ: إِنَّ ٱلرَّبَّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ». 32 فَمَضَى ٱلْمُرْسَلانِ وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا. 33 وَفِيمَا هُمَا يَحُلَّانِ ٱلْجَحْشَ قَالَ لَهُمَا أَصْحَابُهُ: «لِمَاذَا تَحُلَّانِ ٱلْجَحْشَ؟» 34 فَقَالا: «ٱلرَّبُّ محْتَاجٌ إِلَيْهِ». 35 وَأَتَيَا بِهِ إِلَى يَسُوعَ، وَطَرَحَا ثِيَابَهُمَا عَلَى ٱلْجَحْشِ وَأَرْكَبَا يَسُوعَ. 36 وَفِيمَا هُوَ سَائِرٌ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي ٱلطَّرِيقِ. 37 وَلَمَّا قَرُبَ عِنْدَ مُنْحَدَرِ جَبَلِ ٱلّزَيْتُونِ، ابْتَدَأَ كُلُّ جُمْهُورِ ٱلتَّلامِيذِ يَفْرَحُونَ وَيُسَبِّحُونَ ٱللّٰهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ ٱلْقُّوَاتِ ٱلَّتِي نَظَرُوا. 38 قَائِلِينَ: «مُبَارَكٌ ٱلْمَلِكُ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ! سَلامٌ فِي ٱلسَّمَاءِ ومَجْدٌ فِي ٱلأَعَالِي!». 39 وَأَمَّا بَعْضُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ مِنَ ٱلْجَمْعِ فَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، ٱنْتَهِرْ تَلامِيذَكَ». 40 فَأَجَابَ: «أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنْ سَكَتَ هٰؤُلاءِ فَٱلْحِجَارَةُ تَصْرُخُ!».

كان يسوع عالماً، أن مملكته ستقوم بمجد وفوز، ولكن ليس بدخوله أورشليم، بل بمجيئه الثاني إلى الأرض. وكان يعرف أن دخوله إلى أورشليم سيسبب احتقاراً وآلاماً وموتاً. ورغم ذلك فقد جاء بعزم متقدماً الموكب، ليصل إلى محل صلبه.

تقع مدينة أريحا على نهر الأردن العميق. وهي أقل ارتفاعاً بحوالي 1000 م من أورشليم الرابضة خلف قمة جبل الزيتون. هذا الجبل الذي يحيي بأبراجه وأنواره المتلألئة من البعيد البعيد الحجاج القادمين وسط البرية الصحراوية لزيارة مدينة السلام.

ولما وصل يسوع إلى الجهة الشرقية لجبل الزيتون، دفعه الروح القدس لإكمال النبوة التي في سفر زكريا 9: 9 حيث ذكر أن ملك المجد لا يدخل مدينة الله راكباً على خيل أو جمل ولا ماشياً، بل راكباً على حمار. وقد كان يسوع فقيراً بمقدار، أنه لم يك مالكاً حماراً. فاتكل على الروح القدس، أنه يدبر له حماراً مناسباً. وهكذا تحققت النبوة ليدرك الكل، أن يسوع هو المسيح الموعود، العادل المنصور الوديع.

وحقاً فإن المسيح، قد رأى في بصيرته الروحية الحمار من بعيد. وأرسل تلميذيه، وأمرهما أن يحلا الحيوان، وأعطاهما الجواب المسبق، الذي يقولانه لصاحب الجحش، ليسمح لهما باستلامه. وفي هذا القول النبوي أعلن يسوع حقيقته، وسمى نفسه (الرب). فلميكن سيداً وملكاً ومسيحاً فحسب، بل الله في الذات. وهذا الاسم، الذي كان كالضربة الكهربائية في ذهن الرسل، شجعهم حتى أنهم نقلوه واعترفوا، أن في يسوع الناصري قد أتى الرب بالذات إلى شعبه، مستحقاً الهتاف والسحود.

ولكن يسوع، لم يأت رباً عظيماً مستكبراً، بل متواضعاً ووديعاً. وقد لخص هذه المعاني بقوله: الرب محتاج. ولا شك أن الرب غير محتاج بتاتاً، إلا أنه أخلى نفسه، وتواضع لما تجسد في عالمنا بشراً سوياً. فأصبح بمحبته فقيراً بمقدار، حتى أنه لم ملك نقوداً أو ملكاً أو حيوانات. وهكذا أراد أن يرينا، أن المجد الإلهي ليس بهاء ومالاً وبنايات فخمة بل محبة وقداسة وسلطان روحي.

واعترف المسيح بإعلانه المثير، أنه لا يريد أن يدخل إلى عاصمته كإنسان عادي فقط، بل طلب من أمته الخضوع والطاعة والسجود، رغم فقره وتواضعه.

وشهد التلميذان رأساً بتسليمهما الكامل لربهما، إذ بعد أن أتيا بالحمار، خلعا ثيابهما الفوقانية ووضعاها على الأرض أمام طريق الحمار الذي ركبه المسيح، رمزاً لهذا التكريس العظيم لرب الأرباب وأظهرا استعدادهما لأن يفرشا الطريق بأجسادهما لجد سلطان الله. وعندئذ أدرك الاتباع الساعة القاطعة. واشتركوا أيضاً في هذا الرمز الخضوعي الفريد، مسلمين أنفسهم بالتمام تسليماً حقاً إلى يسوع الرب. فجاءوا بالتتابع يضعون ثيابهم، ليسير عليها موكب ربهم، حتى وصل الركب إلى قمة جبل الزيتون. فلات لأعينهم المدينة المقدسة بأبراجها الذهبية وقببها اللامعة وسورها الضخم والساحة الواسعة الحرام، حيث ارتفع محورها ذلك الهيكل، الذي هو مسكن الله في خليقته.

ولما رأوا هذا المنظر، ابتدأت الجماهير بالتسابيح والزغاريد لدخول الملك. ولما نزلوا إلى وادي قدرون الفاصل بين جبل الزيتون والمدينة المقدسة، تراكض الحجاج من كل حدب وصوب، مشتركين ومنضمين إلى موكب يسوع، ومرتلين المزامير وترانيم الشكر، عظمين الله لأجل العجائب التي عملها يسوع. وأخذوا يعددون تلك العجائب الباهرة بصوت عال، إعلاناً لمجد الآتي، حامدين الله على آلائه وفضله.

أيها الأخ، هل تشترك في موكب الفرح والحمد؟ كم عجيبة وآية ليسوع مسجلة في الكتاب المقدس قد حفظتها وتقدر أن تذكرها أمام أصدقائك ومحاجيك؟ وكم عجيبة اختبرت شخصياً في حياتك لما دخلها يسوع، واستلمها، وغيرك وملأك ببركاته، وأصبح رب حياتك عمياً؟ هل تحمد الله لإتيان ابنه، أو يظل قلبك صامتاً، وفمك مقفولاً، وذهنك مشلولاً، رغم دخول محبة الله إلى عالم البغضاء والموت.

وعندئذ أرشد الروح القدس المرتلين والحامدين الله. أن يبتدئوا بترنيمة الاستقبال المعينة للملك عندما يدخل عاصمته. وقد عرفوا، أن يسوع لم يأت باسمه الخاص فقط، بل باسم أبيه السماوي أيضاً. وأن كل قوة الروح القدس وجودته وعدله حلت في الناصي. وفرح مسرة السماء خيم على الأرض المتعبة من الحروب. ومجد الله عاد إلى العاصمة المستعمرة.

لم يعارض يسوع ولم يمنع هذا الهتاف الواضح كالشمس، ولم يرفض لقبه الملكي بهتافهم، بل دخل عاصمته سيداً ورباً. ولكن الفريسيين المرافقين للموكب الفرح هذا. لما سمع بعضهم هذه الألقاب المقدسة ليسوع، اضطربوا وفزعوا وغضبوا، وفكروا بالقوة الاتعمارية، الحاضرة للهجوم، وقمع كل فكرة للمناداة بملك على الجماهير. وهكذا كان زعل الأتقياء من يسوع لقبوله ورضائه عن هذا الهتاف التتويجي، وطلبوا منه بشدة، أن يسكت مرافقيه، وينكر عليهم بعنف هذه الألقاب الإلهية. فجاوبهم المسيح وأصابهم بالحجةالدامغة، أن هؤلاء المؤمنين البسطاء، إن لم يهتفوا الآن، فعلى الحجارة من المخلوقات الميتة، أن تصرخ، لأن خالقها يسير عليها راكباً.

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، أنت ربنا وملكنا ومخلصنا تستحق كل السجود. أسلّم حياتي إليك زمناً وأبداً. اقبلني وقدسني لأني خاطئ. واحفظني في اسمك، لأصبح أميناً لك، ولا أسقط ولا أرتد في ساعة التجربة الهائلة.

19: 41 وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا 42 قَائِلاً: «إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضاً حَتَّى فِي يَوْمِكِ هٰذَا مَا هُوَ لِسَلامِكِ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ. 43 فَإِنّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ، وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، 44 وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ، وَلا يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ، لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ افْتِقَادِكِ».

لم يبهر يسوع بضجيج موكب الهتاف، الذي أحاطه، بل أبصر ببصيرته النبوية نهاية وتدمير المدينة الموضوعة أمامه. فانكسر قلبه، وانهلت دموعه مدراراً على خديه، أجل إن يسوع بكى وأجهش بالبكاء، لأنه رأى القلوب القاسية المهتاجة ضده. وهو حامل محبة الله في ذاته، التي حاولت ليلاً نهاراً أن ترجع الضالين إلى التوبة، ولكن عبثاً. فإن آذانهم كانت صماء للدعوة الإلهية. وأعينهم عمياء لم تدرك المنتصر على الموت والشيطان. وحتى اليوم، لا يزال حجاب مسدل على أكثرية أعين أبناء إبراهيم. ورغم أن أورشليم معناها مدينة السلام، فلم يسكن سلام العلي فيها. وفارقها دواماً. ولا يزال يسوع يبكي اليوم أيضاً على هذه المدينة، التي اختارها الله مركزاً لسلام العالم كله.

وقد رأى الرب آنذاك مسبقاً، كيف سيرفضه اليهود، ويسلمونه إلى أيدي الأمم للقتل. وسمح ابن الله لأبناء أمته أن يطردوه، وغفر لمعارضيه كل ذنوبهم. ولكنه علم، أنهم إذ لا يقبلون قوة الروح القدس الحال بعد موته، فسيسقطون إلى الدينونة مباشرة. بينا كان مرافقوه المترنمون يتهللون فرحين بكى الرب، وأنبأ بصوت عال سقوطهم إلى الإبادة.

ورأت المحبة الإلهية المتجسدة برؤية دقيقة. كيف سيحفر الرومان خندقاً، ويرفعون مترسة بترابها وحجارتها حول المدينة لحصارها، ويدمرون أسوارها المرتفعة تدميراً، ويستحلون المدينة حياً حياً. ويسمحون لأنفسهم بكل اغتصاب ونجاسات ممكن أن يعمله فاتح مغتاظ حاقد. حتى أنهم أخذوا أطفال اليهود، وضربوا بهم الحيطان مفجمين رؤوسهم. ثم أحرقوا هيكل الله بعد أن نهبوا محتوياته الذهبية والفضية سنة 70 ب م. وبعد الثورة الأخيرة الفاشلة سنة 132 م هدم الرومان أسوار المدينة كلها. لتصبح القدس الفورة برية مخلاة.

ورأى يسوع كل هذه التفاصيل مقبلة على مبغضيه، وبكى رأفة ومحبة بهم. ولم يقل شامتاً: جيد أن تضرب المدينة بهذه الوحشية، وليسمح الله بأن يباد كل الشعب الرافض، بل أن ملك المحبة بكى لأجل عدم الإيمان وقساوة القلوب وعمى الشعب. هل يبكي يسوع ليك أيضاً وعلى قلبك القاسي؟ وهل يرى الدينونة مقبلة على أمتك مسبقاً؟ وهل تشترك في بكائه رأفة على البشر الرجسين أو أنك تكره الأشرار.

2 - تطهير الهيكل من الصيارفة (19: 45 - 48)

19: 45 وَلَمَّا دَخَلَ ٱلْهَيْكَلَ ٱبْتَدَأَ يُخْرِجُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِيهِ 46 قَائِلاً لَهُمْ: «مَكْتُوبٌ أَنَّ بَيْتِي بَيْتُ ٱلصَّلاةِ. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ». 47 وَكَانَ يُعَّلمُ كُلَّ يَوْمٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ، وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ مَعَ وُجُوهِ ٱلشَّعْبِ يَطْلُبُونَ أَنْ يُهْلِكُوهُ، 48 وَلَمْ يَجِدُوا مَا يَفْعَلُونَ، لأَنَّ ٱلشَّعْبَ كُلَّهُ كَانَ مُتَعَلِّقاً بِهِ يَسْمَعُ مِنْ.

لم يذكر لوقا شيئاً من كيفية دخول يسوع إلى المدينة. لأن البشير هذا أدرك مرتعباً الدينونة المقبلة على القلوب القاسية. فدينونات الله تتبطأ ولكن إن أتت تهلك.

ولم يتقدم يسوع إلى ممثل القوة الاستعمارية، وكذلك لم يزر رئيس الكهنة، ولم يدبر منامة لنفسه وتلاميذه، بل تقدم مباشرة إلى هيكل الله، مسكن مجد أبيه. فإليه تشوق واجتذب قلبه. ولكن روحه استاء، لأنه لم يجد راحة وهدوءاً للسجود والشكر والصلة. فضجيج التجار ورائحة حيوانات الذبيحة كانت منتشرة في كل الدور. فقلب في غضبه المقدس طاولات الصيارفة وأموالهم الثمينة على الأرض، وطرد السطحيين من الهيكل، إذ أراد بافتتاح عمله أن ينشئ هدوءاً شاملاً للصلاة الحقة. فكل أمة لا تعمل الصلاة في سطها منعشة، كما يدق القلب القوي في جسد الإنسان، فإنما هي أمة ميتة زائلة لا محالة.

هل يصلي رجال مدينتك؟ هل تلتقي بهم في غرف الاجتماعات، أم في المقاهي والسينمات، أو المصانع والمتاجر؟ ألم يصبح العالم كله بعد مغارة لصوص وقطاع طرق، رغم أنه معين في الأصل مسكناً لله؟ وما الذي يطرده يسوع من حياتك لتنقية قلبك، ليصبح جسدك هيكلاً للروح القدس؟ هل يسكن الله فيك أو ما زلت وكراً للصوصية.

وعلم يسوع في وسط الهيكل جماهير الحجاج المزدحمين، كبائع مياه حية وسط الصحراء، لينعش العطاش بنقط مزمزمة حقة. فكلمة الحياة من يسوع تروي الغليل المعطش في القلوب، حتى أن الجماهير قد تراكضت إلى يسوع، واستمعوا لأقواله ساعات بالجملة.

أما رؤساء الكهنة وزعماء الشعب وفقهاء التوراة، فقد راقبوا بغيظ متفاقم، أن يسوع لم يزرهم، ولم يكرمهم ولم يستأذنهم. فأبغضوا الشاب الريفي، الذي من الجليل. وحاولوا قتله باحتيال عنيف خلال أيام عيد الفصح الصاخبة. وربما خاف هؤلاء المسؤولن المتعصبون من تدخل القوة الاستعمارية، المتمركزة في ثكنة برج أنطوان الفخم المرتفع فوق الحرم الشريف، ليراقب الحراس الرومان كل حركة أو نأمة في ساحة الهيكل الواسعة.

وكانت ساعة يسوع لم تحن بعد. والجماهير ملتصقة محيطة به، فلم يجد العدو الشرير وسيلة للوصول إليه. فعلّم يسوع بلا خوف، ودعا خراف الشعب الضالة إليه، هو الراعي الصالح وملك رعويته.

الصلاة: يا رب، أنت الإله الحق ممتلئ المحبة والقداسة والصبر وتبكي عليّ وعلى شعبي وعلى كل البشر. لأنك راء خبثنا وغباوتنا والدينونة المقبلة علينا، تمهل يا رب، وعلّمنا كلمة الحياة. لكي يخلص كثيرون.

3 - المجمع الأعلى يستجوب يسوع عن مصدره وسلطانه (20: 1 - 8)

الأصحاح العشرون: 1 وَفِي أَحَدِ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ إِذْ كَانَ يُعَلِّمُ ٱلشَّعْبَ فِي ٱلْهَيْكَلِ وَيُبَشِّرُ، وَقَفَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ مَعَ ٱلشُّيُوخِ، 2 وَقَالُوا لَهُ: «قُلْ لَنَا بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هٰذَا، أَوْ مَنْ هُوَ ٱلَّذِي أَعْطَاكَ هٰذَا ٱلسُّلْطَانَ؟» 3 فَأَجَابَ: «وَأَنَا أَيْضاً أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً، فَقُولُوا لِي: 4 مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا، مِنَ ٱلسَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ ٱلنَّاسِ؟» 5 فَتَآمَرُوافِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: «إِنْ قُلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاءِ، يَقُولُ: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ 6 وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ ٱلنَّاسِ، فَجَمِيعُ ٱلشَّعْبِ يَرْجُمُونَنَا لأَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِأَنَّ يُوحَنَّا نَبِيٌّ». 7 فَأَجابُوا أَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ. 8 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «وَلا أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هٰذَا».

أحب يسوع الشعب الجاهل، وتقدم إلى الهيكل يومياً، مقتحماً أخطار الموت. وعلّم وبشر الجماهير التي كانت تنتظره مشوقة. وبهذا التعليم رسخ وثبت مستمعيه، الذين ابتدأوا يؤمنون به وبأبيه السماوي، بينما كان تبشيره دعوة خارقة للبعيدين عن الله،ليرجعهم إلى الآب السماوي. فيعترفوا بخطاياهم وينكسروا لاستكبارهم. ولم يبشر يسوع مستمعيه بحدة الناموس فقط، بل أعلن لهم بشرى محبة الله، وفسر لهم حضوره الخاص، وأحاطهم علماً بانتصاره على الخطية، لكي ينمو فيهم الرجاء والإيمان والمحبة. فشعرت الجماهير أن سلطان الله حاضر بينهم. وأن السماء مفتوحة، وقد ظهرت النعمة.

ولما رأى رؤساء الشعب، كيف التصقت الجماهير بيسوع، تأهبوا للهجوم والتآمر وأرادوا اصطياد يسوع في شباكهم. فاجتمع خاصة حكماء المجمع الديني الأعلى، ليجربوا يسوع ويقبضوا عليه. وإذ نقرأ هنا عن رؤساء الكهنة بصيغة الجمع، فهذا يدل على مخالفتم للناموس، الذي ينصب رئيساً كهنوتياً واحداً فقط. ولكن المجمع في اصطدامه المتكرر مع القوة الاستعمارية، كان يرضخ أحياناً لطلبها في عزل وتنحية بعض الرؤساء، وتعيين غيرهم حسب توجيهاتها، حتى وجد الفريقان أخيراً في قيافا الثعلب الماكر ضالتهم المنشودة، الذي وفق بفتاواه الدينية بين أحكام الناموس ورغبات الرومان المخالفة للشريعة بنفس الوقت. وكان للمجمع الأعلى الحق، أن يسأل رسمياً يسوع: من هو. ومن أين هو؟ فبهذين السؤالين أجبروه أن يعلن ذاته جهراً، مستفهمين عن القوة العاملة فيه، وامصدر الذي يأتيه بهذه القوة. فلم يسألوه عن الأعمال والعجائب المتعددة، ولا دققوا في معاني كلماته القوية، بل اخترقوا لب جوهر كيانه، وأرادوا قطعه من أساس وجوده. فلو جاوبهم يسوع، أنه المسيح لأسرعوا بإهلاكه، لأن الجماهير انتظروا مسيحاً منتصرا سياسياً محارباً ببهاء وقدرة فائقة. وإن أنكر أنه المسيح وقال أنه نبي فقط، أو مصلح اجتماعي، أو واعظ بالتوبة، فإن الشعب عندئذ يتركه ولا يهتم به أبداً. هذا عن السؤال الأول.

وإن جاوب على السؤال الثاني عن مصدر مجيئه، أنه ابن الله، فسيرجمونه حالاً، لأنهم يعتقدون بأن الله ليس له ولد. وإن قال أن قوته مستمدة من مصادر طبيعية أو من قواه الخاصة، عندئذ فإنهم ليمزقوه تمزيقاً، معتبرين أنه الشيطان بالذات.

فأبصر يسوع حيلتهم الشريرة، واصطادهم بنفس الشبكة، التي ألقوها إليه، وسألهم بسلطانه الإلهي سؤالاً معاكساً رداً عليهم عن مصدر يوحنا المعمدان. فوجدوا أنفسهم بنفس الحالة، التي أرادوا أن يضعوه فيها. فتباحثوا وتشاوروا فيما بينهم، ولكن دو جدوى. فلم يعرفوا بماذا يجاوبونه. إنهم بقساوتهم ما أرادوا أن يتوبوا ويخضعوا للمسيح معترفين بأن يوحنا عبد الله، لأنه طلب إليهم أن يعترفوا بخطاياهم ويعتمدوا جهراً، بينما كانوا هم يضحكون في قلوبهم على الشعب التائب المسكين مدعين لأنفسهم البارة والارتفاع. لكن هذا الشعب وخاصة بعد قطع رأس يوحنا، كان مهتاجاً مقتنعاً أن المعمدان كان حقاً رسول الله ونبيه الصادق. فكانوا مستعدين في غيظهم، أن يرجموا حتى هؤلاء الرؤساء الدينيين، لو قالوا أن يوحنا المعمدان ليس قديساً لله.

وبينما كان الرؤساء في حيرتهم لم يجمعوا على جواب من بين أجوبة كثيرة خطرت لهم، كان الشعب متربصاً بهم، ليرى بماذا يجاوبون. ولم يكن أحد من المسؤولين مستعداً أن يعترف بالحقيقة الكامنة في قلبه جهاراً سلباً أو إيجاباً. فاختبأوا أخيراً فيأكاذيبهم قائلين: لا نعرف من أين يكون يوحنا المعمدان. وهذا الجواب كان أكبر فوز للمسيح عليهم، لأن يسوع قاد الوفد من المجمع الأعلى إلى الاعتراف بجهلهم أمام عامة الشعب. فكان انكساراً هائلاً.

وقد أدان ابن الله كذبهم بكلمة دينونته قائلاً: فلا أقول لكم أنا أيضاً من أنا، ومن أين جئت. إنكم تعرفون الحق، ولا تطيعونه، ولا تفتحوا قلوبكم له، وتحاولون قلب الحق كذباً. فستهلكون هلاكاً كباراً. اذهبوا واخجلوا لمكركم الشنيع، لأن حكمة روح الله أحكم من كل شباك أكاذيبكم الشيطانية. فلهذا ايها الأخ المؤمن، لا تهتم بما تقول وتجاوب به إذا دعاك الكفار المدعون بالتقوى للمثول أمام محاكمهم، لأن الروح القدس سيلهمك في تلك الساعة بالجواب الصائب، إن خضعت لهداه دائماً.

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، أنت ابن الله، فنسجد لك ونؤمن أن فيك تعمل كل قوى السماء، وكل صفات أبيك. أنت المنتصر المخلص الفادي، اقبلني وكل أصدقائي، وكل من يطلبك واحتضنا في سلطانك، واحفظنا في حقك.

4 - مثل الكرامين الأردياء (20: 9 - 19)

20: 9 وَٱبْتَدَأَ يَقُولُ لِلشَّعْبِ هٰذَا ٱلْمَثَلَ: «إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْماً وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ زَمَاناً طَوِيلاً. 10 وَفِي ٱلْوَقْتِ أَرْسَلَ إِلَى ٱلْكَرَّامِينَ عَبْداً لِكَيْ يُعْطُوهُ مِنْ ثَمَرِ ٱْكَرْمِ، فَجَلَدَهُ ٱلْكَرَّامُونَ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. 11 فَعَادَ وَأَرْسَلَ عَبْداً آخَرَ. فَجَلَدُوا ذٰلِكَ أَيْضاً وَأَهَانُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. 12 ثُمَّ عَادَ فَأَرْسَلَ ثَالِثاً. فَجَرَّحُوا هٰذَا أَيْضاً وَأَخْرَجُوهُ.13 فَقَالَ صَاحِبُ ٱلْكَرْمِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ أُرْسِلُ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبَ. لَعَلَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ يَهَابُونَ! 14 فَلَمَّا رَآهُ ٱلْكَرَّامُونَ تَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: هٰذَا هُوَ ٱلْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْه لِكَيْ يَصِيرَ لَنَا ٱلْمِيرَاثُ. 15 فَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ ٱلْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ. فَمَاذَا يَفْعَلُ بِهِمْ صَاحِبُ ٱلْكَرْمِ؟ 16 يَأْتِي وَيُهْلِكُ هٰؤُلاءِ ٱلْكَرَّامِينَ وَيُعْطِي ٱلْكَرْمَ لآخَرِينَ». فَلَمَّا سَمِعُوا قَالوا: «حَاشَا!» 17 فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: «إِذاً مَا هُوَ هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ: ٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلّزَاوِيَةِ. 18 كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذٰلِكَ ٱلْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ َقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ؟» 19 فَطَلَبَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ أَنْ يُلْقُوا ٱلأَيَادِيَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ، وَلٰكِنَّهُمْ خَافُوا ٱلشَّعْبَ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ هٰذَا ٱلْمَثَلَ عَلَيِْمْ.

وفي مثل يسوع عن الكرمة جاوب بدقة على سؤال الوفد من المجمع الأعلى من هو. فاعترف أنه ابن الله، الذي يأتي في آخر سلسلة عبيد الله الذين جاءوا في تاريخ العهد القديم من الله أبيه، ليجمعوا ثمار الخضوع والإيمان والمحبة من اليهود.

وكانت صورة الكرم تحسب في العهد القديم دلالة على شعب إسرائيل (إشعياء 5: 1 ، إرميا 2: 21 ، حزقيال 15: 2 ، هوشع 10: 1 ، مزمور 80: 9) فقد أحاط الله كرمه بالناموس، وأوقف الأنبياء كحراس له، وأوجد المذابح كمعصرة فيه، ولكن الشعب لم يأت بالثماراللازمة. وكلما كان الله يرسل عبيده الأنبياء إلى هؤلاء القساة القلوب، كلما ازدادوا في شتمهم وضربهم وجرحهم للعبيد المرسلين. فلم يكفهم أنهم لم يأتوا بثمار الروح القدس فقط، بل أكملوا جرمهم، وأسرفوا في الثورة ضد الله. وقد تحقق هذا في تاريخ اكهنوت والشيوخ والرؤساء والملوك وحتى في أعضاء المجمع الأعلى، الذين عينهم الله كرامين مسؤولين في كرمه، لأنهم أنكروا رسل الرب، ووافقوا أخيراً على قطع رأس يوحنا المعمدان.

ورغم كل هذه الجرائم لم ينضب صبر الله، الذي عزم على الامتحان الأخير لشعبه العنيد، وأرسل إليهم ابنه وارث الله، المتضمن كل صفات وسلطان أبيه في ذاته. هذا كان جواب يسوع للمجلس الأعلى. ولكنه سبق وقال لهم ايضاً، ماذا سيعملون به. أن البغض الكامنة في قلوبهم ستدفعهم للتشاور بقتله، والتخطيط لذلك وتنفيذه، والتهلل لفوزهم بإهلاك ابن الله، كأنهم يقدرون إن فعلوا ذلك، أن يسيطروا على الشعب دون الله ومثلما يشاؤون. فبهذا المثل وصف يسوع رؤساء الشعب بالسارقين والقتلة والثائرين ضد الل بكل جهارة ووضوح، حتى عرف الجميع ما هو قصده. وقد بان ذلك الفهم الواضح حين سأل يسوع المحيطين به عما يتصورون أن يفعل صاحب الكرم بالكرامين الظلمة. فأعطى يسوع إذ ذاك الجواب بقوله، أنه سيهلكهم أولاً، ثم يعطي الكرم لآخرين. وبهذه الطريقة شهد يوع علانية، أن ملكوت الله سيؤخذ من شعب إسرائيل، ويعطي للأمم. وهكذا دان المسيح رؤساء الشعب الكفار. أما الجمع المستمع فقد صاح بصوت واحد حاشا. أعوذ بالله. أبداً لا يكون! لأنهم أدركوا المعنى بالضبط والتدقيق، أن يسوع وضع خط الحساب النهائي تحت تاريخ شعب إسرائيل. فكانوا مهتاجين ومستنكرين ضد دينونة الهلاك الآتي عليهم.

فنظر عند ذاك يسوع إليهم، وتفرس فيهم ملياً، ورأى بداية أفق العهد الجديد، وسمى نفسه حجر الزاوية في هيكل الله الحديث، كما ذكر ذلك في المزمور 118: 22 نفس المزمور الذي ذكرت فيه الكلمات: مبارك الآتي باسم الرب عدد 26 ، وأن الرب هو الله عد 27. هذه الكلمات التي رددها الشعب وتهللوا بها عند استقبال يسوع قبل هذه المناقشة بأيام.

وسمى يسوع نفسه الحجر القاسي، الذي ينكسر عليه كل أعدائه الساقطين عليه، الذين لم يبنوا أنفسهم كحجارة حية في هيكل الله المقدس. فيسوع هو الأساس والقوة والتاج في هيكل العهد الجديد، الذي هو ليس من حجارة مادية ميتة، بل يتركب وينمو بمؤمني قديسين، يكونون هم هيكل الله القدوس. ويتقاربون في جسد يسوع المسيح، الذي هو رأسهم. فالله بالذات يسكن اليوم في المؤمنين بالمسيح، وليس ببيت مصنوع بأيدي الناس.

وفي نهاية الزمان، عندما سيأتي المسيح ثانية ظاهراًمع كل سلطان السماوات، فسيشبه الحجر العظيم المذكور في سفر دانيال 2: 34 الذي يتدحرج في نهاية الزمان من عليائه في جبله العالي، ساحقاً بضربة واحدة الصنم الأكبر، الذي يمثل وحدة دول وأديان العالم، وسيبيدها كاملة لا محالة. فمن يعارض المسيح يباد ويهلك.

وفهم زعماء الأمة أيضاً ما قاله يسوع. فاغتاظوا وحمقوا أكثر فأكثر. ولكنهم كانوا جبناء، فخافوا من أتباع يسوع المؤمنين. فتربص الزعماء في مكرهم ليقبضوا عليه فجأة، فيقتلوه على انفراد، دون أن يلحظ أحد.

وأنت ماذا تعمل؟ إن ابن الله واقف أمامك، وطالب منك ثمار حياتك لله أبيه. فهل تسلم نفسك ذبيحة شكر وحمد أو تفر منضماً إلى قتلته؟ هل تؤمن أن يسوع المسيح هو ابن الله، وتسلم نفسك حجراً حياً ليرصك في هيكل الروح القدس؟ وإلا فسيسحقك في أواخر الزمان. إن يسوع يسألك اليوم. فماذا تجيبه.

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح المقام من بين الأموات أؤمن بألوهيتك، ووحدتك مع الله الآب، وأسلم نفسي نهائياً إليك كاملاً وأبداً. اختم تكريسي هذا بروحك القدوس لأعيش معك إلى الأبد وأنفذ أفكارك بدقة وأتعزى باختبار الغفران وخدمك مع كل القديسين لنتملئ بثمار المحبة والفرح والطهارة والسلام. آمين.

مسابقة

بدراستك معنا الأصحاحات 13 - 20 من إنجيل لوقا، يمكنك الإجابة على 24 سؤالاً من أصل 31 من الأسئلة المذيلة في آخر كل درس. وها هي ذي:

  1. لِمَ يحذرنا المسيح بشدة من الحوادث المرتقبة؟

  2. ماذا نتعلم من شفاعة الكرام؟

  3. لِمَ سمى يسوع رئيس المجمع مرائياً؟

  4. ما الفرق بين مثَل حبة الخردل ومثَل الخميرة؟

  5. ماذا يعني أمر المسيح: اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق؟

  6. ما هي المعاني المختلفة لنداء الحزن من فم المسيح على أورشليم؟

  7. لِمَ لَمْ يقدر الفريسيون الإجابة على أدلة يسوع القاطعة؟

  8. كيف نتواضع عملياً؟

  9. ما هو الغريب في أمر الوليمة الإلهية؟

  10. لِمَ يطلب المسيح انفصالاً تاماً عن العالم وتكريساً كاملاً له؟

  11. ما هو سر الخلاص؟

  12. بأي طرق ظهرت محبة الآب لابنه الضال؟

  13. كيف بانت محبة صبر الآب تجاه ابنه التقي المتكبر؟

  14. لِمَ يسمي الرب الوكيل والمال ظالمين ويرينا في تقدماتنا للمحتاجين الطريق الأمين؟

  15. أي نوع من الناس يغتصب نفسه اليوم إلى ملكوت الله. ولماذا؟

  16. كيف يوضح لنا يسوع الحياة بعد الموت واسباب نتائجها؟

  17. كيف هّز يسوع أتباعه ليعترفوا أنهم عبيد بطالون؟

  18. ما هو شكر المشفي بنسبة إيمانه؟

  19. كيف تظهر مملكة الله على الأرض في الماضي والحاضر والمستقبل؟

  20. كيف أعد المسيح تلاميذه لمجيئه؟

  21. ما هي كيفية الصلاة التي ينبغي أن نصليها لأجل مجيء المسيح الثاني؟

  22. كيف تبرر العشار الخاطئ ولم يتبرر التقي المتدين؟

  23. لماذا يكون المال هو الحاجز المانع من الدخول إلى ملكوت الله؟

  24. كيف أعد يسوع تلاميذه لآلامه وموته وقيامته؟

  25. ما هو الوعد المعطى من الله لداود عن وارثه. وبمن تمّ هذا الوعد. وكيف؟

  26. لماذا وكيف حصل خلاص لبيت زكا كله؟

  27. ما هو السر في نمو ونقصان مواهب النعمة التي في ملكوت الله؟

  28. كيف أعلن يسوع أنه الرب والملك الإلهي؟

  29. لماذا بكى يسوع وهو منحدر إلى أورشليم؟

  30. لِمَ لَمْ يجاوب يسوع وفد رؤساء الأمة على أسئلتهم؟

  31. ما هي مبادئ خطة خلاص الله التي اعلنها يسوع في مثل الكرامين الظملة؟

إن جاوبت على 24 من هذه الأسئلة بدقة وشرح واف نرسل لك الكتاب الذي تختاره من قائمة مطبوعاتنا المرفقة ضمن هذا الكتاب. ونرجو أن تكون المسابقة التي ترسلها إلينا مستقلة وبخط واضح ودون أن تضع فيها أي خطاب أو ملاحظات أو أسئلة أخرى.

5 - المناقشة حول الجزية لقيصر؟ (20: 20 - 26)

20: 20 فَرَاقَبُوهُ وَأَرْسَلُوا جَوَاسِيسَ يَتَرَاءَوْنَ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ، حَتَّى يُسَلِّمُوهُ إِلَى حُكْمِ ٱلْوَالِي وَسُلْطَانِهِ. 21 فَسَأَلُوهُ: «يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ بِٱلاِسْتِقَمَةِ تَتَكَلَّمُ وَتُعَلِّمُ، وَلا تَقْبَلُ ٱلْوُجُوهَ، بَلْ بِٱلْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ ٱللّٰهِ. 22 أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعْطِيَ جِزْيَةً لِقَيْصَرَ أَمْ لا؟» 23 فَشَعَرَ بِمَكْرِهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ 24 أَرُونِي دِينَاراً. لِمَنِ ٱلصُّورَةُ وَٱلْكِتَابَةُ؟» فَأَجَابُوا: «لِقَيْصَرَ». 25 فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّٰهِ لِلّٰهِ». 26 فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ قُدَّامَ ٱلشَعْبِ، وَتَعَجَّبُوا مِنْ جَوَابِهِ وَسَكَتُوا.

العالم ممتلئ بعبودية المال والمكر الخداع والثورة الملتهبة. فأتى إلى المسيح وفد، يمثل حزبين، أولهما فريسي متدين عدو للسلطة الاستعمارية الرومانية، والثاني من خدمة الملك هيرودس عميل الرومان، الذي آزرهم ليبقى في كرسيه. ولكن هاتين الفرتين المختلفتين اتحدتا لإبادة المسيح المولود من روح الله، لأنه كشف النقاب من قبل عن خطاياهم وجهلهم وأكاذيبهم، فبدوا أمام الشعب مجردين ووقحين.

فهدفوا الآن لاصطياد المسيح، والإيقاع به بكلماتهم المرائية وتحايلهم الماكر، متظاهرين أنهم أبرار مستقيمون وطلاب حق. أما في داخلهم فكانوا ذئاباً كاسرة مفترسة. وهكذا طرحوا عليه سؤالاً محرجاً يوقعه، سواء جاوبهم عليه إيجاباً أو سلباً. فالوا برياء الوقار، ومظهر التقوى: هل يجوز لنا أن ندفع لقيصر جزية أم لا؟ معتقدين أن الشعب كله حاقد على الجزية الباهظة الثقيلة، وكل من يعترف بالسلطة الاستعمارية يتعاون معها يكون مخالفاً كلية لحقوق ملكوت الله. فلو وافق المسيح على الجزية المروضة على عاتق الأمة، لحسب خائناً وفاراً كافراً في نظر الشعب. ولو نقم على الجزية وضادها، لأمسكه خدام الملك هيرودس فوراً، الذين كانوا مستعدين للقبض على كل ثائر ضد الحكومة ومنتقد أوامرها وتصرفاتها.

أبصر يسوع حيلتهم، وطعن رياءهم جهراً، وكشفهم علانية واضطرهم للاعتراف بصدقه، وقوله الحق دائماً، بلا مراعاة للوجوه. فطلب يسوع ديناراً، لأنه لم يكن يملك نقوداً. كان فقيراً، غير معتمد على قدرة المال، ولم يستسلم إلى غرور الغنى. ولما برقالدينار لامعاً في يده، قلبه على وجهه وقفاه وأراهم عليه صورة القيصر منقوشة وحولها هذه الكلمات: طيتوس قيصر ابن اغسطس الإلهي. وعلى الوجه الآخر هذه العبارة: رئيس الكهنة الأعظم.

فدلهم يسوع بواسطة الدينار أنهم خاضعون تلقائياً لسلطة القيصر الاقتصادية، سواء علموا ذلك، أو لم يعلموا. لأن كل قطعة نقدية، هي كحوالة أو شيك مفوض من قبل مسؤولية الدولة الرومانية، يرتفع أو تسقط قيمته حسب انتصار أو انهزام هذه الدولة الالمية. فمن يستعمل هذه النقود فإنه يبني نفسه على قوة السلطة الاستعمارية التي تكفلها. وحتى اليوم فإن كل ورقة مالية مرتبطة كلية بالحالة الاقتصادية لدولتها، وتسقط قيمتها إن انهارت الدولة. فالمال يخص الدولة، رغم أن الأفراد يمتلكونه.

وبعد ذلك أدان يسوع البخل والطمع في عبيد المال، وطلب إليهم أن يقتطعوا طوعاً من كنوزهم الفانية ليدفعوا الجزية بلا معارضة. لأن كل دينار صادر من سكة الدولة الرومانية يخصها.

وأكثر من هذا، فقد طلب يسوع منا الخضوع للدولة التي نعيش فيها وقبول قوانينها وأنظمتها وأن نساهم في ازدهارها بإخلاص، ولا نكون من الثائرين البتة. فالمسيحيون الحقيقيون يصلون لرؤساء شعبهم. فهم بالحقيقة أفضل مواطني الدولة، عالمين أن الحكمة المشرفة على الأوضاع العامة، هي معينة من الله، ومعطاة للشعب حسب استحقاقه، لحمايته واستتباب الأمن ونمو الاقتصاد، وتربية الأولاد وتثقيفقهم، وتنظيم الحياة الاجتماعية. فكل حكومة هي أمة الله وخادمته في ربوع شعبها.

وهذه الصفة السامية «خادمة الله» لا تزول، حتى ولو أساء المسؤولون في سلطتهم الموهوبة لهم، وراعوا أنفسهم أولاً، وداسوا المواطنين. فالله القدوس سيقاصص كل فاعلي الشر، لأن كل موظف ابتداء من الملك والرئيس إلى أصغر خادم، مسؤول مباشرة أمام الله. فكل خدمة حقة في الدولة تعني خدمة الله.

وبهذه المعاني الطيبة، لم يجاوب يسوع على السؤال السياسي المحرج إيجابياً فقط، بل أمر كل المؤمنين به، أن يتعاونوا بإخلاص مع الحكومة الحاضرة في كل مجالاتها وميادينها.

وبنفس الوقت، فقد أراهم المسيح الفارق الأساسي بين القيصر المخيف والله العظيم. فالقيصر كان إنساناً مخلوقاً فانياً محدوداً في الحكمة والمعرفة، وخاطئاً مثل كل البشر. أما الله فهو كامل أبدي قدوس عليم قادر على كل شيء. فبمقدار عظمة الفار بينه وبين القيصر، تكون خدمة الله أهم من خدمة الدولة. وكما أن السماء تفوق الأرض ينبغي أن ترتكز أفكارك على الله ومشيئته أكثر مما تهتم بالمشاكل الحاضرة. فكل الجرائد والمجلات لا تنصاع لهذا المبدأ، لأن عناوينها الضخمة تتكلم عن السياسة والاقتصاد والفضائح، ولكن اسم الله وخلاص النفس لا تذكره.

طوبى لك إن طلبت الله وهربت من عبودية المال الفاني. فتدرك حقاً أنك لست أنت المعطي لله، بل هو الذي يمطر عليك يومياً مجاناً بنعمته ويمنحك محبته وعنايته غفرانه وخلاصه وفداءه. فمحبة الله تفوق عقولنا.

إن أدركت هذا المبدأ المقدس، فلا يبقى فيك إلا الشكر والإطاعة للإيمان، وتسليم حياتك حمداً وشكراً للوهاب العظيم. والمسيح يشهد لك بكل تأكيد، إن الله القدوس يعيدك مرة أخرى إلى صورته الأصلية لتكون ابنه وهو أبوك. فعندئذ تصير أثمن من كل انقود اللامعة والأوراق المالية المخشخشة المطبوع عليها رؤوس الزعماء والأمراء، لأنك تعيش إلى الأبد، إن استسلمت لمحبة الله حقاً. فأعط حياتك لله شكراً لخلاصه، فتنتقل من الزمن الفاني إلى البقاء الأزلي، وتجد معنى جديداً لحياتك في خدمة ملكوت اله.

ولربما تتساءل: ماذا علي أن أفعل، إن منعتني حكومتي من الإيمان بالمسيح؟ فالكتاب المقدس يجاوبك واضحاً: ينبغي أن نطيع الله أكثر من الناس. فالمؤمنون في روما عند الاضطهاد استخفوا في المغاور والمقابر تحت الأرض، وفضلوا الموت تعذيباً على أن يؤلهوا القياصرة الفانين.

وإننا لنشاهد اليوم في الدولة الدكتاتورية، أنها تطالب الإنسان أن يخضع لمبادئها بكليته، غير مكتفين بإخلاصه وخدمته، بل تفرض عليه الإيمان بها، وتكريس حياته لروحها وأهدافها، وإنكار المسيح المخلص الوحيد. ففي تلك المناطق والبلدان يستمر امؤمنون في محبة مضطهديهم، ويباركونهم، ويطلبون يومياً هدى الرب. وإذا دعوا للاستنطاق، يتكلمون الصدق في حكمة الروح القدس. ويشهدون لربهم الحي، مفضلين الموت في الدنيا والحياة في ملكوت الله على الاستسلام لأرواح المضلين.

كلنا نسرع لوقت قيام مملكة المسيح الكذاب، حيث لا يقدر المؤمنون أن يشتروا أو يبيعوا، لأنهم سوف لا يستسلمون للروح الشرير المتجسد. فاستعد لخدمة الله، لتكرمه بإطاعة إيمانك الكامل.

ولما سمع الجواسيس الماكرون جواب يسوع آنذاك «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» تعجبوا واستغربوا من حكمته وسلطانه. فنتمنى نحن أيضاً اليوم، أن يعرف كل الذين يراقبون سيرتنا، أن المسيح يدعونا خداماً أمناء للدولة، التي نعيش فيها، حتى وو اضطهدتنا لأجل سجودنا لربنا الحي.

الصلاة: يا ملك السلام أنت وديع، وما كنت ثائراً في هذا الدنيا. فثبتنا في التواضع لنخدم الله معاً. ونخدم الدولة أيضاً، بأمانة. حررنا من محبة المال الفاني، وارفع أذهاننا إليك واملأنا بإطاعة الإيمان والمحبة والحكمة والرجاء

6 - أسئلة حول قيامة الأموات (20: 27 - 40)

20: 27 وَحَضَرَ قَوْمٌ مِنَ ٱلصَّدُّوقِيِّينَ ٱلَّذِينَ يُقَاوِمُونَ أَمْرَ ٱلْقِيَامَةِ، وَسَأَلُوهُ: 28 «يَا مُعَلِّمُ كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ أَخٌ وَلَهُ ٱمْرَأَةٌ، وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ، يَأْخُذُ أَخُوهُ ٰلْمَرْأَةَ وَيُقِيمُ نَسْلاً لأَخِيهِ. 29 فَكَانَ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ. وَأَخَذَ ٱلأَّوَلُ ٱمْرَأَةً وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ، 30 فَأَخَذَ ٱلثَّانِي ٱلْمَرْأَةَ وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ، 31 ثُمَّ أَخَذَهَا ٱلثَّالِثُ، وَهٰكَذَا ٱلسّبْعَةُ. وَلَمْ يَتْرُكُوا وَلَداً وَمَاتُوا. 32 وَآخِرَ ٱلْكُلِّ مَاتَتِ ٱلْمَرْأَةُ أَيْضاً. 33 فَفِي ٱلْقِيَامَةِ، لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ!» 34 فَأَجَابَ يَسُوعُ: «أَبْنَاءُ هٰذَ ٱلدَّهْرِ يُزَّوِجُونَ وَيُزَّوَجُونَ، 35 وَلٰكِنَّ ٱلَّذِينَ حُسِبُوا أَهْلاً لِلْحُصُولِ عَلَى ذٰلِكَ ٱلدَّهْرِ وَٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ لا يُزَّوِجُونَ وَلا يُزَّوَجُونَ، 36 إِذْ لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمُوتُوا أَيضْاً، لأَنَّهُمْ مِثْلُ ٱلْمَلائِكَةِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ، إِذْ هُمْ أَبْنَاءُ ٱلْقِيَامَةِ. 37 وَأَمَّا أَنَّ ٱلْمَوْتَى يَقُومُونَ، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ مُوسَى أَيْضاً فِي أَمْرِ ٱلْعُلَّيْقَةِ كَمَا يَقُولُ: اَلرَّبُّ إِٰهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلٰهُ إِسْحَاقَ وَإِلٰهُ يَعْقُوبَ. 38 وَلَيْسَ هُوَ إِلٰهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلٰهُ أَحْيَاءٍ، لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ». 39 فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ: «يَا مُعَلِّمُ حَسَناً قُلْتَ!». 40 وَلَمْ يتَجَاسَرُوا أَيْضاً أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ.

لا بد لكل إنسان أن يموت. وكل دين أو فلسفة لا تجاوب بصراحة على الكيان بعد الموت، فهي خداع للنفس وسطحية تافهة. كان الصدوقيون في زمن يسوع طلاب حق بالطريقة الفلسفية. فلم يؤمنوا بشيء، لا تحتمله عقولهم النقادة. فاستهزأوا بالفريسيين المرئين وسخروا من الكتبة المتدينين، لأنهم اتكلوا حرفيا على التوراة فيما يختص بالملائكة والقيامة والحياة بعد الموت. ولكن سخريتهم من المتدينين كانت تغطية لشكوكهم وعدم إيمانهم، إذ أنه لا يقدر عقل ما، أن يستكشف حقيقة الآخرة تلقائياً إلا على أساس الوحي والإيمان.

فجاء ممثلو الشاكين المنطقيين إلى يسوع، وقدموا سلسلة أفكار غير حقيقية وملفقة بدون محبة، ليبرهنوا بسهولة، أن موسى عرف في ناموسه، أنه لا حياة بعد الموت. فاستخرجوا هذا الفكر من قانون الإتيان بنسل بواسطة أحد إخوة المتوفي بالاقتران بأرمته. واعتبروا بناء على ذلك، أنه يستحيل الحياة الزوجية في الآخرة مع حصول تعدد الأزواج أحياناً للزوجة الواحدة.

وجاوب يسوع هؤلاء المنطقيين العميان بوصف طويل عن الحياة بعد الموت، وبين لهم أولاً أنه لا يجوز قياس ظروف أوضاع الحياة الدنيا على الآخرة، إذ لا يوجد هناك أشجار وارفة وأنهر جارية وطعام شهي ولا أنوثة أو ذكورة.

ففي الموت ينتهي الجنس، الذي هو رمز هذا الدهر. وهو ضروري لكل المخلوقات خشية الانقراض. فبعد الموت لا يبق الجسد، ولا يخلق مرة أخرى بلحم ودم.

ولاحظ أيضاً أن المسيح لم يخبرنا أن كل الناس سيقومون في القيامة الأولى، بل يدلنا على السر أن المختارين فقط سيخرجون من بين الأموات ذاهبين إلى الحياة، لأن كفارة المسيح طهرتهم، وقوة الله أهلتهم ليحملوا الحياة الإلهية في أنفسهم. فالعهدالجديد يعلمك القيامة من بين الأموات (فيلبي 3: 11 رؤيا 20: 4-6 و12-15) ويتكلم عن قيامة الأبرار (لوقا 14: 14).

وخلافاً لذلك سيظهر في نهاية الزمان قيامة جميع الراقدين إلى الدينونة الأخيرة. وهذا الإيقاظ لا يعني القيامة بمعناها الكامل، بل تقدماً إلى محكمة الله، وإلقاء إلى الهلاك. وعند ذاك يستبين، أن أتباع المسيح العاملين في المحبة الإلهية، يدلون الحياة الأبدية، لأنهم حصلوا على الروح القدس في هذه الدنيا، وهو عربون مجد الله. بينما الباقون من الأموات في ذنوبهم وخطاياهم يظلون أمواتاً إلى الأبد. ولا تستطيع أنفس أرواحهم الموهوبة من الله أن تموت نهائياً أو تعيش حقاً. وهذا هو الموت الثاني، جهنم المعذبة، والندامة بلا نهاية.

أما كل الذين تقدموا إلى المسيح المحيي، فإنهم ينالون منه حياته وقوته المقتدرة، ولا يستطيعون أن يموتوا فيما بعد. لأن الموت لن يجد حقاً عليهم، إذ أن خطاياهم قد غفرت، ودم المسيح قدسهم إلى التمام. فنسجد للمسيح لأنه جذبنا بمحبته إلى مستاه، وموته على الصليب سبب حياتنا، وقيامته ترينا نوعية الكيان في الآخرة. فنكون روحانيين مع جسد ملموس، كما اجتاز المسيح الجدران وكان بنفس الوقت له جسد حقيقي. عندئذ سنشبه الملائكة البراقة المجيدة، بدون جنس وخالين من الفساد، وغير قابلين المو. فنسمى أبناء الله، لأن الأزلي وضع من روحه فينا. فلسنا مخلوقين كالملائكة، بل مولودين ثانية أبناء لله. هل تدرك امتيازك الموهوب لك بالإيمان بالمسيح؟ هل تسجد لوحدة الثالوث الأقدس، الذي فتح لك رجاء مجيداً بهذا المقدار؟ أتعيش أو أنك ميت؟ هل ولدت من الروح القدس ثانية، أو غرقت في الذنوب والعيوب؟

وقد برهن يسوع في رحمته للرياضيين العقليين من نفس سفر موسى، الذي اعتبروه حجتهم، أنهم لا يعرفون الله، الذي يسمي نفسه إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب. فإيمان هؤلاء الآباء ألصقهم بالله، حتى أحياهم ملء حياته، وكملت قوته في ضعفهم. فإبرهيم واسحاق ويعقوب يعيشون الآن بالحقيقة عند الله، ويخصونه كما هو ارتبط بهم. فالحياة الأبدية تعني محبة وتسليماً وثباتاً في الله الذي هو ينبوع الحياة. وقدرته الفائقة أقوى من الشمس، التي تعيش كل مخلوقات دنيانا من أشعتها، بمئات ملايين المرات وهكذا يعيش كل القديسين المؤمنين من أشعة محبة أبينا السماوي، ويمتلئون بصفاته، ويرونه بأعينهم إن رحاب الله مفعمة بمسرته بلا نهابة.

الصلاة: أيها الآب أبو ربنا يسوع المسيح، الذي بموته على الصليب صرت أبانا أيضاً. نسجد لك، لأنك ينبوع الحياة. وولدتنا ثانية بروحك القدوس، وتملأنا بقوتك ومحبتك ومسرتك. ادع كثيراً من الأموات في الذنوب والخطايا إلى حياتك الألية، ليتقدسوا ويتمتعوا مع إبراهيم واسحاق ويعقوب بملئك. نسجد لك ونشكرك لحياتك الموهوبة لنا رجائنا العتيد.

7 - المسيح يحج اليهود عن بنوته لداود والله (20: 41 - 44)

20: 41 وَقَالَ لَهُمْ: «كَيْفَ يَقُولُونَ إِنَّ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنُ دَاوُدَ، 42 وَدَاوُدُ نَفْسُهُ يَقُولُ فِي كِتَابِ ٱلْمَزَامِيرِ: قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي: ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي 43 حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَميْكَ. 44 فَإِذاً دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً. فَكَيْفَ يَكُونُ ٱبْنَهُ؟».

بعد ما جاوب المسيح بحكمة فائقة ومحبة شديدة على كل الأسئلة الماكرة التي وجهها الصدوقيون والفريسيون، غلبهم نهائياً، ولم يتجاسر أحد منهم فيما بعد أن يسأله، أو يجربه. فابتدأ هو وسأل المستمعين سؤاله القاطع عن جوهره وحقيقته. فإنه ما طلبمنهم السجود له لأجل عجائبه، بل طلب إيمانهم به، إيماناً مبنياً على معرفتهم بالوعود الكتابية التي من الله لداود.

ومنذ السبي البابلي تطورت في اليهود عقيدتهم الوحدانية الى التجمد، حتى صاروا صماً لمواعيد الله، التي وعدها بالأنبياء عن ألوهية المسيح الآتي. فانتظروا ملكاً سياسياً، مرسلاً من الله. وبنفس الوقت اعتبروا تسمية المسيح ابناً لله تجديفاً بيراً، لأن الله واحد أحد.

فتقدم يسوع إلى لب جوهره، وسأل الشعب كله ماذا يعني موعد الروح القدس لداود في مزمور 110 عدد 1 حيث أصغى النبي الملكي بروح النبوة إلى محادثة ضمن أقانيم الثالوث الأقدس، حيث تكلم الرب إلى الرب. بهذه الكلمات صرح يسوع مرة أخرى بألوهيته ووادته من الروح القدس ومن مريم العذراء، عالماً أنه سيصلب، لأجل هذه الأرومة الإلهية فقط.

وأن رؤوس اليهود القاسية لم تفتح آنذاك لجذب الروح القدس، بل تقسوا أكثر فأكثر تدريجياً. فأصبحوا أعداء ابن الله. فذكر المسيح لهذه الآية من المزمور يعني أشد دينونة على اليهود، وبنفس الوقت تنبوء عن موته وقيامته وصعوده إلى السماء وجلوسهعن يمين الله أبيه. واستخدم يسوع هذه الكلمة الخارقة مرة أخرى في المحكمة الدينية الأخيرة أمام المجلس الأعلى شهادة لذاته، ودينونة على الأمة اليهودية «ستبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة». فاعتبر القضاة هذا التصريح له مباشرة، وأدانهم، أن هذه الآية تقول أنه بعد موته سيغلبهم الله القدوس، ويربط كل أعداء المسيح ويضعهم موطئاً لقدميه.

فلم يتنازل المسيح رغم إنسانيته التامة شعرة واحدة عن ألوهيته الكاملة، لأن على هذه النقطة تتوقف مصالحة العالم مع الله، وتبريرنا بالإيمان، والخلاص الكامل للجميع. هل تؤمن أن المسيح هو ابن الله الحي، أو تندمج مع أعداء المقام من بين الأوات الجالس اليوم عن يمين الله على عرش مجده ثابتاً في أبيه وهو فيه، ومالكاً معه إلهاً واحداً إلى الأبد؟

فإن كان عقلك لا يدرك هذه الحقائق، فاطلب من ربك قوة الإيمان وإنارة الروح القدس، لأنه بدون هذه المسحة لا يستطيع أحد أن يدعو المسيح رباً.

ولكن من يرفض الممسوح والمولود من روح الله، ير الله مقبلاً عليه عدواً مخيفاً. فلماذا تتعجب الشعوب الرافضة لابن الله، إن مزقهم غضب الأزلي، الذي يضع كل أعداء المسيح موطئاً لقدميه؟ فأهم العلامات البارزة لكل روح مضاد للمسيح، أنه ينكر أوهية يسوع بغيظ، ويضطهد كل مؤمنين بالمولود من روح الله. هل تسجد لمخلصك وتشكره لخلاص نفسك، أو ستشعر عما قريب بمجيئه وتكون أنت ضمن أعدائه الذين يجعلهم موطئ قدميه. وتعترف غصباً عنك، مصراً على أسنانك من الغيظ، أن يسوع هو الرب؟!

الصلاة: يا رب، أنت جالس عن يمين الآب في المجد، بعدما بذلت حياتك لأجلنا. نسجد لك ونشكرك، لأنك ترفعنا إليك بواسطة إيماننا. وتملأنا بمحبتك وتحيينا لرجاء حي. ساعدنا لإطاعة الإيمان الكامل. وخلص أعداءنا لكيلا يشعروا بغيظك وقاصك، بجعلهم موطئاً لقدميك.

8 - التحذير من الفقهاء الكتبة (20: 45 - 47)

45 وَفِيمَا كَانَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ يَسْمَعُونَ قَالَ لِتَلامِيذِهِ: 46 «ٱحْذَرُوا مِنَ ٱلْكَتَبَةِ ٱلَّذِينَ يَرْغَبُونَ ٱلْمَشْيَ بِٱلطَّيَالِسَةِ، وَيُحِبُّونَ ٱلتَّحِيَّاتِ فِي ٱلأَسْوَاقِ، وَٱلْمَجَالِسَ ٱلأُوَلى فِي ٱلْمَجَامِعِ، وَٱلْمُتَّكَآتِ ٱلأُولَى فِي ٱلْوَلائِمِ. 47 اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ بُيُوتَ ٱلأَرَامِلِ، وَلِعِلَّةٍ يُطِيلُونَ ٱلصَّلَوَاتِ. هٰؤُلاءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ!».

لم يجب ابن الله إلى القريبين إليه، المستمعين وأدان الفقهاء الكتبة، الذين ينبغي أن يعرفوا قبل كل الآخرين بدقة، ما هو معنى الآية التي في المزمور 110: 1. فقد فشلوا رغم معارفهم العالية في الساعة الضرورية الهامة.

فحذر يسوع أتباعه من المرائين الأتقياء، الذين أحبوا المباهاة أمام الشعب، كمعلمي طريق الله. وبالحقيقة أنهم قد مهدوا طريق جهنم، بواسطة تفسيراتهم للناموس المدققة المتسرسبة. أما المسيح وهو صراط الله المستقيم، فلم يدركوه قط.

ولكنهم أعجبوا بأنفسهم، حاملين على رؤوسهم عمائم ضخمة وجبب فضفاضة، منتظرين خضوع الناس لهم، وإعطائهم المحل الأول في الولائم وغرف الاجتماعات، كأنهم آلهة صغيرة، جالسين عن يمين الله بجواره. فكانوا يقومون بصلوات طويلة فائضة من كلمات طنان رنانة.

وهذه التصرفات التقية بهرت كثيرات من الأرامل في ضيقاتهن، إذ توفي أزواجهن. ولم يجدن مشورة أو تنويراً دينياً. فالتجأن إلى الكتبة، الذين تنازلوا وقبضوا مبالغ ضخمة من هؤلاء المسكينات، مقابل الاستشارة بنصائحهم. وقبلوا الجلوس في الولائم لثمينة الدسمة عندهن، متظاهرين بالوقار والتعفف عن طعام الفقيرات. وفي الوقت نفسه اتخموا معداتهم طعاماً شهياً، وشربوا ملياً.

فقال المسيح أن هؤلاء المرائين، يلاقون دينونة أعظم من كل الناس الآخرين. لأنهم أنكروا مجده، وتقسوا أكثر ضده. وزيادة على ذلك استخدموا وظيفتهم الروحية تغطية لشرهم.

9 - فلسا الأرملة (21: 1 - 4)

الأصحاح الحادي والعشرون: 1 وَتَطَلَّعَ فَرَأَى ٱلأَغْنِيَاءَ يُلْقُونَ قَرَابِينَهُمْ فِي ٱلْخِزَانَةِ، 2 وَرَأَى أَيْضاً أَرْمَلَةً مِسْكِينَةً أَلْقَتْ هُنَاكَ فَلْسَيْنِ. 3 فَقَالَ: «بِٱلْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هٰذِه ٱلأَرْمَلَةَ ٱلْفَقِيرَةَ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنَ ٱلْجَمِيعِ، 4 لأَنَّ هٰؤُلاءِ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا فِي قَرَابِينِ ٱللّٰهِ، وَأَمَّا هٰذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ ٱلْمَعِيشَةِ ٱلَّتِي لَهَا».

بعدما أنهى يسوع كل تعليماته وتحذيراته ولخص بنواته عن الدينونة بالويل الإلهي، انطلق نحو مخرج الهيكل، الذي غادره الآن نهائياً، لأنه أتم بشارته لخلاص كل الناس.

وهناك عند البوابة الضخمة، كان صندوق للتبرعات موضوعاً. ورأى المسيح الأغنياء وهم يلقون مبالغ كبيرة من المال في الصندوق. ولم يرض الله كثيراً عن هذه التبرعات الضخمة من الأغنياء، لأنهم كانوا يتبرعون بفضلات أموالهم، وربما ليحجزوا لأنفسه مكاناً بارزاً في السماء، أو ليريحوا ضمائرهم من أعمال مخادعاتهم، فأشبهت عطاياهم رشوة لله. ولم يضح أحد من رأسماله، ولم تكن عطيته رمزاً لتسلميه الكامل لله. فكل طقوس وعظات وتبرعات تصبح منا رياء، إذ لم تقدنا إلى تضحية حياتنا كاملة لله.

وأبصر يسوع أيضاً أرملة متروكة فقيرة مسكينة، لعلها كانت خادمة، تنظف راكعة على ركبتيها قصور الأغنياء، لتربح قروشاً لمعاشها وشبع أولادها. فأشفق الرب عليها، وامتلأ قلبه ابتهاجاً لما رأى أن هذه الأرملة البسيطة أحبت الله أكثر من المال اقليل الذي عندها. وقد أهدت قلبها كاملاً لله برمز عطيتها المتواضعة وهي الفلسان فقط. ولكن هذين الفلسين من يد الأرملة، أشبهت في السماء مثل جبلين ضخمين من ذهب. لأنها أعطت لله كل ما كان عندها، واتكلت عليه وأحبته واعتبرته عائلها.

فهذه الأرملة كانت الدلالة على البقية المؤمنة في أمة العهد القديم، التي سلمت نفسها بعد انسكاب الروح القدس كاملة إلى الله، ووضعت أمام أرجل الرسل كل معيشتها، تضحية لله، وعاشت في شركة المحبة معاً.

وفلسا الأرملة هما أساس الكنيسة والتبشير مالياً، لأن العطايا الضخمة ليست هي التي تؤمن استمرار ملكوت الله مادياً، بل التبرعات الصغيرة المستمرة هي التي يباركها الله بسلطانه. فمتى تبتدئ أن تضحي باستمرار من مالك لنشر ملكوت الله، ولا تتأخر عن تضحيتك بفرح؟

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، قد ضحيت بذاتك لأجلنا. اغفر لنا أنانيتنا وبخلنا واتكالنا على المال. فجّر قلوبنا القاسية، لكيلا نتكلم برياء كأتقياء، ونتكل في الخفية على المال، بل نسلم أنفسنا وأموالنا بين يديك.

10 - العظة على جبل الزيتون عن المستقبل المهلك (21: 5 - 38)

21: 5 وَإِذْ كَانَ قَوْمٌ يَقُولُونَ عَنِ ٱلْهَيْكَلِ إِنَّهُ مُزَيَّنٌ بِحِجَارَةٍ حَسَنَةٍ وَتُحَفٍ قَالَ: 6 «هٰذِهِ ٱلَّتِي تَرَوْنَهَا، سَتَأْتِي أَيَّامٌ لا يُتْرَكُ فِيهَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لا يُنْقَضُ». 7 فَسَأَلُوهُ: «يَا مُعَلِّمُ، مَتَى يَكُونُ هٰذَا ومَا هِيَ ٱلْعَلامَةُ عِنْدَمَا يَصِيرُ هٰذَا؟» 8 فَقَالَ: «ٱنْظُرُوا! لا تَضِلُّوا. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِٱسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ، وَٱلّزَمَانُ قَدْ قَرُبَ. فَلا تَذْهبُوا وَرَاءَهُمْ. 9 فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَقَلاقِلٍ فَلا تَجْزَعُوا، لأَنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هٰذَا أَّوَلاً، وَلٰكِنْ لا يَكُونُ ٱلْمُنْتَهَى سَرِيعاً». 10 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، 11 وَتَكُونُ زَلازِلُ عَظِيمَةٌ فِي أَمَاكِنَ، وَمَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ. وَتَكُونُ مَخَاوِفُ وَعَلامَاتٌ عَظِيمَةٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ.

ترك يسوع الهيكل، الذي اعتبره اليهود محور العالم، ومسكن الله الفريد. وهذا البيت المقدس العتيق. بني لأول مرة سنة 968 ق م، خلال سبع سنوات من حكم الملك سليمان الحكيم، الذي اختار البيدر المرتفع فوق قمة جبل أورشليم، ليؤسس عليه الهيكل، الذي ارتفع كتاج فوق القدس.

وفي سنة 587 ق م، أحرق جنود نبوخذ نصر الهيكل الأول. ولكن بعد رجوع الشعب من السبي البابلي، عادوا وبنوه في سنة 520 إلى 516 ق م بطريقة بسيطة بإشراف زربابل ويشوع. وفي الأزمنة التالية قامت حول مركز الحضارة اليهودية هذا معارك هائجة، وسلبالجنود المهاجمون كل الأدوات والأواني والكنوز الثمينة، إلى أن قام الملك هيرودس أخيراً، في نصف القرن الأخير قبل الميلاد، ووسع المساحة التي للحرم الشريف ضعفين. وجدد بناء الهيكل بطريقة فخمة جديدة، حتى أن القيصر أوغسطوس في روما تبرع بأوان مقدسة تكريساً للمعبد.

وهذا الهيكل الثالث، كان منبسطاً مرئياً أمام يسوع وتلاميذه، لما جلسوا على جبل الزيتون، المشرف على المدينة المقدسة، التي تتضمن محورها الهيكل العظيم. فخاطب يسوع التلاميذ: أنتم ترون حجارة بهية مغطاة ومطلية بالذهب، وتفكرون بقداسة المكا وقوته المشعة إلى كل العالم. أما أنا فأبصر في هذه الساحة الواسعة، قلوب الناس النجسة. إنهم أشرار وأموات في الذنوب، يشبهون جثثاً متجولة. فدينونة الله تسطو عليهم قريباً، وهيكلهم يسقط حتماً إلى الدمار. فإن الله لا يسكن في بيت مصنوع بأيدي الاس، بل يتمركز في قلوب الذين يحبون المسيح.

وهذا الإعلان، عنى للتلاميذ نهاية العالم، وزوال الذبائح، وعدم المصالحة مع الله على طريقة العهد القديم. وكانوا قدر رجوا كل الرجاء، أن يبقى يسوع عندهم ملكاً إلهياً إلى الأبد. وينشئ ملكوت الله في أورشليم، لتتراكض كل الشعوب إلى العالم.ولكن يسوع خاطبهم بتدمير هذا البيت المتلألئ تدميراً كاملاً، عالماً أنه ينبغي إزالة القديم، تمهيداً للهيكل الروحي الجديد، الذي يتألف من جميع القديسين، في كل الأزمنة والأمكنة، ولن يزول لأنه مؤسس على المسيح، ومركب فيه مسكناً لله الحي.

ولما سمع التلاميذ هذه الكلمات المخيفة، ارتجفت قلوبهم وسألوا المسيح بارتعاب، متى وكيف تأتي نهاية العالم هذه؟ فأرادوا ضمان أنفسهم، وتدبير ذواتهم، ليتخلصوا، ولا يأكلهم السيف الآتي من الله، ليبتلع شعبهم. إنما المسيح بالحقيقة لم يخف عل تلاميذه من الموت بل من إمكانية التجربة والسقوط في الضلال والخطايا. فلم يجاوبهم أولاً، متى وكيف يزول عالمهم، بل طعّم أتباعه ضد تجربة ظهور الأرواح المتظاهرة بالتقوى وطفو المثل الخاطئة، لكيلا ينضجوا أيضاً لدينونة الله العادلة. فشهد يسوع بوته مسبقاً، وأنه يأتي وراء وقبل مجيئه الثاني مضلون كثيرون، يقدمون للعالم أكاذيب ودعايات براقة، ليخلصوهم كذباً، ويفدوهم أشراً. فالمسيح يحذرك قبل كل شيء وبشدة إلهية، ألا تستسلم لفيلسوف، أو حلم، أو فكر، أو دين، أو حزب. ولا تتكل على قواهم اهائلة، حتى ولو قامت من بين الأموات أرواح قائلة: أنا هو المسيح المصلوب. وظهروا للساجدين متبلورين بأشعة متلألئة، كمعلقين على الصليب. لا تؤمن بالنبي الكذاب، لأن الرب يسوع المسيح ليس هو مصلوب اليوم، بل يجلس عن يمين الله في العظمة. هذا هو الق اليقين. وسيأتي المسيح الحق في مجد عظيم جلياً لقلوبنا، ولا يمكن أن نشك أو نخطئ بإدراكه ومعرفة شخصيته.

ولكن قبله، يأتي إبليس، وفتح بئر جهنم. فتتفجر أرواح مستكبرة، خالقة البغضة والقتل والحسد والثورات، حتى يقوم شعب على شعب، ويتهم كل إنسان غيره، ويهجم عليه لإبادته. فبهذه الجملة الصغيرة، وصف يسوع روح وتاريخ عالمنا بصواب. وهكذا فإن زوبع جهنم ستلقي الناس جماعات وأبابيل إلى الهلاك. وماكينات الجحيم ستكنس ملايين إلى مزبلة الشيطان. فلا بد من حروب عالمية فتاكة، لأن العالم كله وضع في الشرير.

والزلازل والهزات هي رمز لعدم يقين وثبات كرتنا الأرضية المترجرجة في لب داخلها من إتيان ابن الله. ونرى اليوم كيف أخذ الشيطان أكثر فأكثر يلقي الجوع والأوبئة على الأرض، لكي ينسى الناس أو يلعنون الخالق. فيبيد الشرير الجماهير الكافرة في ضعضعتها، ويسقط الشر إلى خوف عميق، وإلى تجديف وإلحاد ضد الله. وكذلك سيصنع عدو القدوس عجائب باهرة، وآيات خارقة، كأنها آتية من السماوات، ويتبلور كملاك النور أمام المندهشين ويلهم المؤمنين به مخترعات بنتائج فظيعة. ويهيء المخلوقات إلى ظهور النسان المتفوق، الذي تلتمع فيه ثورة الفانين ضد الله الحي.

وكل هذه المخاوف والضيقات والعجائب ينبغي أن تأتي قبل مجيء المسيح الثاني المتأخر، لأن البشر قد تركوا الله، ولم يكتفوا بالإنجيل الشريف. فأسلمهم الله إلى الشيطاين، يتلاعبون بهم ككرات القدم. فتتضعضع الأمم، لأن الرب أسلم السطحيين إلى شهات قلوبهم، ليهلكوا أنفسهم بأنفسهم. فإن تاريخ البشر الغير المؤمن هو كفيلم سينمائي لغضب الله، الذي فيه نرى الشيطان يغربل الشعوب، ويحرضهم إلى الهلاك العام، وهو واقف مبتسم يسخر بهم.

الصلاة: يا ربنا يسوع أنت الملك. احفظنا من الاندهاش والتعجب أمام الأبنية الفخمة والناس العباقرة المقتدرين والأرواح المتلألئة والعجائب المضلة. أنت وحدك مستحق السجود وتسليمنا، إياك ننتظر، وإياك نحب. قد غفرت آثامنا. وتقدسن لمجيئك الثاني، وتحفظنا من الغضب الآكل حفظاً أبدياً.

21: 12 وَقَبْلَ هٰذَا كُلِّهِ يُلْقُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، وَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَامِعٍ وَسُجُونٍ، وَتُسَاقُونَ أَمَامَ مُلُوكٍ وَوُلاةٍ لأَجْلِ ٱسْمِي. 13 فَيَؤُولُ ذٰلِكَ لَكُمْ شَهَادَةً. 14 فَضَعوا فِي قُلُوبِكُمْ أَنْ لا تَهْتَمُّوا مِنْ قَبْلُ لِكَيْ تَحْتَجُّوا، 15 لأَنِّي أَنَا أُعْطِيكُمْ فَماً وَحِكْمَةً لا يَقْدِرُ جَمِيعُ مُعَانِدِيكُمْ أَنْ يُقَاوِمُوهَا أَوْ يُنَاقِضُوهَا. 16 وَسَوْفَ تُسَلَّمُونَ مِنَ ٱلْوَالِدِيَن وَٱلإِخْوَةِ وَٱلأَقْرِبَاءِ وَٱلأَصْدِقَاءِ، وَيَقْتُلُونَ مِنْكُمْ. 17 وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ ٱلْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي. 18 وَلٰكِنَّ شَعْرَةً مِنْ رُؤُوسِكُمْ لا تَهْلِكُ. 19 بِصَبْرِكُمُ ٱقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ

عرف يسوع دوافع الحروب، وأسباب الثروات، ومصدر كل الضيقات. إنها ناضجة من القوى الشرسة، قاصدة منع إتيان ملكوت الله وإبادة سلام المؤمنين. إن كل شر في عالمنا، هو تعد على الله المحب الرحيم. فالشرير يبغض الصالح وابنه القدوس وكل أتباعه. فلا تتعجب إن هاجمتك جهنم، إن كنت خادماً للمسيح بإخلاص.

ويريك يسوع أشكالاً ستة من أمواج الهجومات الشريرة عليك، لكي تستعد ولا تتعجب مطلقاً، إن لاقت محبتك بغضة وصادفت شهادتك لعنة:

  1. إن أتت دلالتك على المسيح بثمار الروح القدس وثبت في النعمة رغم تجارب الشيطان، يحاول مؤيدو إبليس أن يسجنوك، لكيلا تستطيع نشر الملكوت فيما بعد. فربما تسأل: كيف يسمح الله بسقوط عبيده في المعتقلات؟ أليس سجنهم رمزاً إلى أن الله ضدهم كلا ثم كلا لأن بولس الرسول أوقف كثيراً في السجون، وكتب في هدوء الحبس بعض رسائله المغيّرة للعالم. والمسيح نفسه وهو ابن الله الحي قد ألقى الوثنيون الأيدي عليه وسجنوه وعذبوه.

  2. وإن هربت واختبأت وصمتّ عن شهادتك، فإن أعداء المسيح يضطهدونك ويطردونك. لا تغتر بالروح الشرير، إنه يشمك حيث تذهب. ولا تقدر على الهروب منه، إلا إن شملك الرب بعنايته. وكثيراً ما يرسلك هو إليهم لتصبح بحياتك وآلامك شهادة المحبة على عارضيه.

  3. ولربما أكرمك المسيح لتشهد له أمام محاكم بلدتك حيث تسود شرائع مضادة لروح المسيح. فإذ ذاك يحكمون عليك في الدوائر الدينية أولاً. ثم يسلمونك إلى المسؤولين من ذوي السلطة الحكومية، متهميك بإضعاف الجبهة الداخلية لأمتك. فيلقونك إلى غيهب السجون.

  4. وتزداد آلامك باكتشافك أن السلطة لم تعرفك من قبل ولم تكن تريد بك ضيراً، إلا بعد أن أوعز لها إخوة غير أبرار من وسط جماعتكم بسبب الحسد والحقد ورد الإهانات المتخيلة، حتى أن أعضاء عائلتك الخاصة لا يتورعون أيضاً من تسليمك إلى السلطةوالاضطهاد، ليغسلوا عار صيتهم بزعمهم، ولازدهار أرباحهم في المجتمع. فيذيعون عنك أخباراً كاذبة، ليتبرروا بإدانتك. فلا تتعجبن البتة، لأن هذا تماماً بالذات هو ما اختبره يسوع ورسله.

  5. وإن مت لاسم المسيح، فاعلم أنه مات قبلاً لأجلك. وخلصك وقدسك، وسجل اسمك في سفر الحياة. فليست آلامك وموتك شهيداً تنتج لك درجة أعلى في السماء. إنما غفران الخطايا هو برك. ومحبة الله تقدسك، وتؤهلك للخدمة.

  6. وسيأتي وقت يصير فيه غير المسيحيين يبغضون كل المسيحيين الحاملي اسم ربهم، ويلعنونهم. وكثير من العباقرة سيستخدمون عقولهم لإبادة اسم الأسماء «الرب يسوع» ولكن من اطمئن في المسيح فإنه يضحك على هذه المحاولات الباطلة من قبل عبيد الشيان، لأن المسيح هو المنتصر. فيدعونا لنتبعه على طريق حمل الله بكل تواضع ووداعة ومحبة لنشترك في انتصاره ونحققه اليوم.

وإن ثبت في الرب وسط الأحقاد الستة، تختبر نعماً وامتيازات ومواهب سبعاً مقابلها وهي:

  1. تعرف اسم الله الحق الآب والابن والروح القدس، الذي رحمك، وغفر لك كل خطاياك، وأحياك من الموت، وحررك من الشيطان، لتصبح ابناً لله إلى الأبد.

  2. تشهد بهذا الاسم بقوة الرب وتعبّر عن الحقيقة الفريدة وتخلص بشهاداتك كثيرين.

  3. وفي حضور الله تطمئن، وهو يثبت قلبك بالنعمة.

  4. ولا تقلق مفكراً بماذا تقول أمام المجمع والقضاة، بل تصلي وتؤمن وتشكر، لأن الروح القدس يحل فيك، ويقودك إلى الحق في المحبة، وإلى القوة في الضعف، كما اختبر الرسل ذلك ألف مرة. والمسيح نفسه، يملأ فمك بحكمة الله، الفائقة كل العقل، وافائزة على كل اعتراض. فلن تكون أسيراً للناس، بل عبداً لمحبة الله، المتكلم بك حتى في السلاسل.

  5. يشعر كل أعداءك بقوة الله فيك، كما استعجب المجمع الأعلى آنذاك من الجرأة والحكمة في بطرس ويوحنا، رغم إدراكها أنهما بسطاء متعلمين. ولكنهما لم يعيشا لاسمهما الخاص، بل مجدا يسوع وحده.

  6. ولا تسقط شعرة من جلدة رأسك بدون إرادة أبيك السماوي، وحيث تقف لأجله في العذاب. فإنه يتألم معك. وعيناه متجهتان إليك، وافكاره منصبة عليك بلا انتهاء.

  7. وهو يقوي قلبك بصبره، لأن كل التأني وطول البال هو من ثمار القدس. فانظر إلى يسوع، رئيس إيمانك ومكمله. فتحفظ نفسك، التي طهرها يسوع، واقتناها لله بدمه الكريم. التصق بالمخلص لأنه مصدر للإيمان والمحبة والرجاء، فتكون حراً في السلاسل تعيش وسط الموت.

الصلاة: أيها الرب، قد ذهبت في طريق الصليب كحمل الله الوديع. ورسلك تبعوك بدون سيوف وحجج بشرية. ولكن شهادتهم غيرت العالم كله، لأنهم أعلنوا لنا اسمك القدوس. املأ أفواهنا باسمك وباسم الآب في قوة الروح القدس، ليتقدس اسمك فيمحيطنا.

21: 20 وَمَتَى رَأَيْتُمْ أُورُشَلِيمَ مُحَاطَةً بِجُيُوشٍ، فَحِينَئِذٍ ٱعْلَمُوا أَنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ خَرَابُهَا. 21 حِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجِبَالِ، وَٱلَّذِينَ فِي وَسَطِهَا فَلْيَفِرُّا خَارِجاً، وَٱلَّذِينَ فِي ٱلْكُوَرِ فَلا يَدْخُلُوهَا، 22 لأَنَّ هٰذِهِ أَيَّامُ ٱنْتِقَامٍ، لِيَتِمَّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ. 23 وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَٱلْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ، لأَنَّهُ يَكُونُ ضِيقٌ عَظِيمٌ َلَى ٱلأَرْضِ وَسُخْطٌ عَلَى هٰذَا ٱلشَّعْبِ. 24 وَيَقَعُونَ بِفَمِ ٱلسَّيْفِ، وَيُسْبَوْنَ إِلَى جَمِيعِ ٱلأُمَمِ، وَتَكُونُ أُورُشَلِيمُ مَدُوسَةً مِنَ ٱلأُمَمِ، حَتَّى تُكَمَّلَ أَزْمِنَةُ ٱلأُمَمِ.

بعد ما طعّم يسوع تلاميذه ضد الأضلال والاضطهاد، بإعلان مقاصد السلطات الشريرة، ودعاهم إلى المعارضة الروحية حتى الموت، جاوبهم بدقة على سؤالهم (المذكور في 21: 5) عن الوقت وكيفية هلاك أورشليم.

فرأى بعينه النبوية، كيف تتكاثف جيوش الأعداء لتنتقم من ثورة الشعب. وسمى اقتراب هؤلاء الجند، وتطويقهم للقدس رمزاً واضحاً للنهاية وعلامة لرجس الخراب الذي سبق الاضمحلال الروحي للشعب بقساوة قلوبهم تجاه ممسوح الله والروح القدس.

وأمر يسوع أتباعه بانقضاض هذه الأحداث، أن يهربوا سريعاً، لكيلا يتألموا ويموتوا في سبيل البطولة الخداعة. وكذلك دعا المسيح تلاميذه في هذه الدينونة الأخيرة ليلتجئوا إلى المغاور الجبلية ويختبئوا في الأودية والأوكار. ومن كان في المدينة،فعليه أن يفر رأساً خارجها وينجو برأسه لأن أيام الغضب قريبة. والمسيحيون الذين هم من الأصل اليهودي، فهموا أمر المسيح هذا وحفظوه، وهاجروا قبل تطويق أورشليم إلى الجبال التي عبر الأردن في مدينة بالا، وقد نجو من الضيق الشديد.

وصبر الله له حدود، فقد ضحى بابنه، وسكب روحه في أورشليم على المؤمنين. ولكن جماهير الشعب، بقوا صماً وطرشاً وعمياً وأشراراً. إلا بعض الألوف، الذين سلموا قلوبهم للمسيح. فتساقط انتقام الله العادل على المعارضين نعمته. فكل الخطايا تغفر لإنسان، إلا التجديف على الروح القدس. ومن يرفض جذب ودعوات هذا الروح، يهلك وهو في الآخرة من الخاسرين. وهذا الحدث الجلل الهام لم يأت فجأة، لأن موسى وكل الأنبياء سبقوا وأعلنوا دينونة الله العادلة. فيوم انتقامه هو إتمام تحذيراته من مئات السني.

هل نسمع نحن اليوم تحذير الروح القدس؟ فإننا نحن مهددون بغضب الله، لأنه منذ ألفي سنة يقدم القدوس الصابر، تقريباً كدلال، نعمة فداء ابنه مجاناً لكل الشعوب. ولكن الجماهير الغافلة لم تهتم لصوته. فإهمالهم يعيني احتقار الله وإهانته، وينشئ للعالم دينونة صارمة وضيقاً عظيماً.

وأنبأ يسوع بنوعين من الضيق. أولهما أن الموت سيأكل ويبتلع كثيرين بواسطة الأسلحة الفتاكة. وثانيهما بعدئذ، أن تقاد البقية إلى السبي. وحقاً ففي السنة 70 قتل في فتح أورشليم بواسطة الرومان ما قرب من مليون شخص يهودي بالسيف، بينما اقتيدت لبقية البالغة عددها مائة ألف عبيداً لكل البلدان. وفي خلال الألف والتسعمائة سنة الأخيرة، تجول اليهود بحذر وخفية من بلاد إلى بلاد. فنعلم من هذا إن هرب اليهود من عبودية إلى عبودية في الشعوب الأوروبية ما هو إلا دليل لوجود الله وغضبه وبرهان لسامعين.

ومنذ ذلك الوقت بقيت أورشليم خاضعة للأمم. فلم تقم للهيكل قيامة ما، ولكن المسيح حدد نهاية لزمن السخط الإلهي وطوفان غضبه على الشعب. إن محبته أعظم من دينونته، ورحمته لا تنتهي. فخطية الإنسان لا تبطل النعمة والعهد، وإلا فلا رجاء لنا نحنالمؤمنين. فقال المسيح إن وصلت بشرى الخلاص لكل الأمم واتحد المدعوون من الأمم في كنيسة حقة مقدسة، يصبح الجماهير من العالم ناضجين لدينونة الله، عندئذ تأتي آخر فرصة لليهود ليتوبوا. فلا نعلم متى وأين هذا الوقت. ولكن يسوع شهد بحدود الغضب. فمن يشأ إنكار هذه النبوة والسكوت عليها هو عارفها يضل ضلالاً كبيراً.

وتاريخ اليهود يعاد في الأمم. فلأجل عدم إطاعتها يفور غضب الله ويسلمها لشهوات قلوبها. فتخرب بعضها بعضاً. والشمس والقمر والنجوم تظلم بواسطة الوسخ والدخان والتفجيرات والغبار المتصاعد الذي يلف الكرة الأرضية بإطار سميك. فيصبح البشر ضائعن سكارى متشائمين يائسين من ازدياد خراب العناصر الأساسية للحياة كالماء والأكل بواسطة التكنيك الحديث المعبود من دون الله. فالخوف من القنابل الذرية والقروح الجسدية يخيم على كل الناس. فيشعرون كأنما ألوف الاشباح والفيلان تهاجمهم. وهكذا تضطربالشعوب، وتغتاظ وتصرخ وتستكبر، وتحس بوقوع شيء مخيف عظيم، لا يعرفون مأتاه. وحقاً يكونون آنذاك، بلا عون وعمياً وفزعين. والكواكب والنجوم أيضاً ستتزعزع وتهتز وتهتاج الأرواح النجسة اهتياجاً عظيماً.

وعندما تتزلزل الأرض زلزالها وتسقط النجوم، يظهر سبب كل هذه التحركات: إتيان ابن الله في المجد. إنه محاط بسحابة النور، وأكثر مضيئاً من الشمس، وألمع من أشعة الكهرباء. فيكشف ذنوبنا بضربة واحدة لازبة، ليس لها من فكاك. وقوته العظيمة ستغل الشيطان، وتشل جنوده. والموت سوف لا يستطيع إمساك مختاري الله، فيقفزون من القبور ويختطفون إلى رئيس الحياة، حامدين ومسبحين ومتهللين.

والمؤمنون الأحياء على الأرض يتعزون بواسطة عربون الروح القدس فيهم، لأن هذا الروح يريهم وسط غضب الله ودينونته هيئة إنسان إلهي. فالمسيح سوف لا يأتي كإله غريب أو خيال مبيد، بل كإنسان حق. إنه يسمي نفسه ابن الإنسان. فهذا من تواضعه وامتيزه ومحبته. وإنه يشجعك أن ترفع رأسك وتتقدم إليه، لأنه قد غفر آثامك. وأكثر من ذلك فهو يأمرك اليوم: لا تخف وسط اضطراب الأرض، ولا ترتجف من الضيق العظيم، بل قم وتشبه بالناس المنتظري ربهم. وهم عليه يتوكلون. ويومئذ تتقدم إليه بزغاريد الفرح والستقبال، لأنه يأتي ليفدي كنيسته، وليلبس أتباعه الضعفاء بمجده المبين.

الصلاة: أيها الرب يسوع ابن الله، ارحمنا، ويا ابن الإنسان، نسجد لك، لأنك قريب لنا. ويا حمل الله، ننتظرك ونترقب مجيئك. رشنا بدمك وبررنا بروحك، وقدسنا تماماً، لكي نستحق استقبالك.

11 - علامات النهاية (21: 25 - 38)

21: 25 «وَتَكُونُ عَلامَاتٌ فِي ٱلشَّمْسِ وَٱلْقَمَرِ وَٱلنُّجُومِ، وَعَلَى ٱلأَرْضِ كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ. اَلْبَحْرُ وَٱلأَمْوَاجُ تَضِجُّ، 26 وَٱلنَّاسُ يُغْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفٍ وَٱنْتِظَارِ مَا يَأْتِي عَلَى الْمَسْكُونَةِ، لأَنَّ قُّوَاتِ ٱلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. 27 وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابَةٍ بِقُّوَةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. 28 وَمَتَى ٱبْتَدَأَتْ هٰذِهِ تَكُونُ، فَٱنْتَصِبُوا وَٱرْفَعُوا رُؤُوسَكُم لأَنَّ نَجَاتَكُمْ تَقْتَرِبُ». 29 وَقَالَ لَهُمْ مَثَلاً: اُنْظُرُوا إِلَى شَجَرَةِ ٱلتِّينِ وَكُلِّ ٱلأَشْجَارِ. 30 مَتَى أَفْرَخَتْ تَنْظُرُونَ وَتَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَنَّ ٱلصَّيْفَ قَدْ قَرُبَ. 31 هٰكَذَا أَنْتُمْ َيْضاً، مَتَى رَأَيْتُمْ هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءَ صَائِرَةً، فَٱعْلَمُوا أَنَّ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ قَرِيبٌ. 32 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لا يَمْضِي هٰذَا ٱلْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ ٱلْكُلُّ. 33 اَلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولانِ، َلٰكِنَّ كَلامِي لا يَزُولُ.

إن هدف البشر هو ملكوت الله. فلهذا نصلي يومياً: ليأت ملكوتك. وبهذه الطلبة نقصد حلول الروح القدس في المؤمنين اليوم، وازدياد المكرسين للمسيح، تمهيداً لمجيئه الثاني في المجد، ليكون الله حاضراً بين الناس.

إن المسيح لا يكذب فالسماوات والأرض أيسر أن تزولا من أن تتغير كلمة واحدة من كلمات المسيح. وأكثر من هذا فكل النجوم والكواكب وجماهير الشموس ستذوب وتزول وتنتهي عندما يأتي المسيح في مجده البهي. وهو ينشئ سماء وأرضاً جديدة، نابعة من محبةالله، وممتلئة بحقه. وهناك ستجري الحياة حسب كلمات المسيح، لأن كلامه مصدر الحياة وينبوع المحبة الأزلية. املأ قلبك بكلمة يسوع، فتعيش إلى الأبد. نفذ أوامر ربك بواسطة قوته الموهوبة لك، فتعظم الآتي من كل قلبك.

وجاوب المسيح على سؤال تلاميذه في الأصحاح 21: 5 مرة أخرى بمثل عن التينة، التي هي رمز من رموز شعب العهد القديم (هوشع 9: 10 ، ميخا 7: 1 ، إرميا 8: 13 ، مرقس 11: 12 ولوقا 13: 6-9) فالتينة تحمل في الصيف أوراقاً خضراء كثيرة وتأتي بثمار حلوة. لكن في الشتاء تتعرى التينة وتكون ليلاً كشبح ميت مخيف وسط نور البدر. أما في الربيع عند جريان العصارة في شلوشها بواسطة أشعة الشمس، تبتدئ الحياة في الشجرة ظاهرة من جديد. هكذا أعطى يسوع للأمة الميتة الخالية من الثمار الروحية رجاء، إنه بعد شاء طويل سيأتي صيف بثمار كثيرة. وقال إن حدث هذا، فيكون ملكوت الله قريب، وإن لم يحدث هذا، فيكون الملكوت ما زال بعيداً. ولكن الحمد لله لا ينتهي جنس البشر وجيلهم الضعيف بواسطة الحروب الذرية والسموم الكيماوية إلا ويحدث قبلئذ مجيء الملكوت المرقب.

21: 34 فَٱحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ لِئَلَّا تَثْقُلَ قُلُوبُكُمْ فِي خُمَارٍ وَسُكْرٍ وَهُمُومِ ٱلْحَيَاةِ، فَيُصَادِفَكُمْ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ بَغْتَةً. 35 لأَنَّهُ كَٱلْفَخِّ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ ٱلْجَالِسِينَ عَلَى وَجْهِ كُّلِّ ٱلأَرْضِ. 36 اِسْهَرُوا إِذاً وَتَضَرَّعُوا فِي كُلِّ حِينٍ، لِكَيْ تُحْسَبُوا أَهْلاً لِلنَّجَاةِ مِنْ جَمِيعِ هٰذَا ٱلْمُزْمِعِ أَنْ يَكُونَ، وَتَقِفُوا قُدَّامَ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ.

وكلمة المسيح توقظنا من النوم لطول الانتظار لمجيئه المتأخر. فلا تسمح أن يتورط ذهنك في الهموم، ويغرق في الخوف، ويتشائم في اللامبالاة، كما يقول الوجوديون «لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت». ولا تكونن أيها الأخ مثلهم دنيوياً سطحياً، بل توج إلى الآخرة. وآمن بمجيء حق الله والدينونة الأخيرة، التي تئز كحبل منطلق مرمي، ليلف على عنق الهارب لاصطياده فيربطه ويسقطه أرضاً.

فيوم الرب يأتي. هل أنت مستعد للحساب؟ فلا تظن أن جدول الأعمال لحياتك الدنيا ستكون أرقامه الزائدة أكثر وأرجح من الأرقام السالبة. فنور مجد المسيح سيريك، أنك ناقص في ذاتك ولست إلا ناقصاً. عندئذ تصرخ: النجدة! ولكن زال الوقت ولا مجال لللاص. فاليوم يريك المسيح يديه المثقوبتين ويربط نفسك الملوثة معه على الصليب، لكي تموت عن نفسك، بإيمانك في محبته، وتعيش في جدة حياته.

اسهر واعرف ذاتك في نور الله. صل بتواضع، وآمن بمواعيد المسيح. اثبت في الشكر والاعتراف بخطاياك. ومارس ابتهالك من أجل الآخرين. وصل ليعينك الرب في كل حين، لأن المصلين وحدهم هم المستحقون الدخول إلى ملكوت الله. فلست أنت قادراً، أن تقف ف بهاء مجد المسيح، ولكن الروح القدس سيعزيك، ويثبتك ويسندك، إن ولدت ثانية بالماء والروح. فأصبحت خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديداً.

وكما أن المسيح طلب إلى تلاميذه آنذاك، أن يهربوا عند مجيء الجيوش المدمرة رأساً وبدون رجوع، هكذا يأمرنا اليوم بالانتباه، لنهرب من شهواتنا الجسدية ونغلب هموم العالم ونستعد لليوم العظيم لنتقدم إليه بفرح لا يُنطق به وبشكر جزيل، لا ينته.

21: 37 وَكَانَ فِي ٱلنَّهَارِ يُعَلِّمُ فِي ٱلْهَيْكَلِ، وَفِي ٱللَّيْلِ يَخْرُجُ وَيَبِيتُ فِي ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي يُدْعَى جَبَلَ ٱلّزَيْتُونِ. 38 وَكَانَ كُلُّ ٱلشَّعْبِ يُبَكِّرُونَ إِلَيْهِ فِي ٱلْهَيْكَلِ لِيَسْمَعُوهُ.

فقد رأى يسوع موته مقبلاً عليه، ولم يهرب، بل وارب عن طريق الذين أرادوا القبض عليه، لأن ساعته لم تكن قد أتت بعد. فعلم نهاراً في الهيكل، فتراكضت جماهير إليه فرحة، لينتعشوا بقوته ويتعزوا في ضمائرهم. أما في الليل الدامس، فاختبأ يسوع مع تلاميذه عن أعين الرقباء الجواسيس، في وادي قدرون وأسفل جبل الزيتون، لأن كثيراً من اليهود اعتبروا هذه المنطقة نجسة لأجل القبور الكثيرة الموجودة فيها، وبقايا الذبائح المحترقة، التي كانوا يلقونها هناك. ففي تلك المنطقة ارتاح يسوع ونام وصلى، أخذ قوة جديدة للكفاح في اليوم الآتي. فكان يقوم في كل صباح من تلك المناطق، التي اعتبروها نجسة ومخيفة ورابضة فيها الأرواح، ويصعد إلى اتساع الهيكل في وسط الشمس، ويبشر الخراف الضالة، التي ازدحمت حوله كرعية بلا راع. فتشجعوا لرجاء حي بواسطة قة الله النابعة من ابن الإنسان.

الصلاة: يا رب، انك تدعوني وتحبني. افتح أذني لتكلمك، واعطني قلباً لاتباعك. حررني من كل أربطتي، لكيلا تجدني في إتيانك مقيداً في شهوات وهموم، بل أكون مرتقبك ومصلياً، مع كل القديسين البانين أنفسهم على إنجيلك وحده.

رابعاً: قصة آلام المسيح وموته وأخبار قيامته (الأصحاح 22 - 24)

بعدما أنبأ يسوع تلاميذه، كيف سيضطهدون ويخافون ويقادون إلى المحاكم، ويبغضون من الجميع، طبق أمامهم في نفسه ما قاله وتنبأ به، لكي يتبعوا جلال تواضعه وقداسة وداعته، ويمجدوه بإطاعة الإيمان في روحه. هل تبت وتحررت من أربطة المال والهموم والرياء، واستسلمت إلى المسيح رب المجد، الآتي قريباً؟ عندئذ تصبح مستعداً لسماع أخبار آلام موت حمل الله الوديع، وتثبت فيه. فاقرأ الأصحاحات الثلاثة التالية مصلياً، لأنها تتضمن آيات هي أهم من كل ما كتب في الآداب العالمية.

1 - قرار الزعماء قتل المسيح قبل عيد الفصح (22: 1 - 2)

الأصحاح الثاني والعشرون: 1 وَقَرُبَ عِيدُ ٱلْفَطِيرِ، ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلْفِصْحُ.

إن عيد الفصح انسجم في العهد القديم مع عيد الفطير بعيد واحد، يدوم جمعة كاملة حسب السنة القمرية للتقويم اليهودي. ففي يوم الخميس الواقع في 13 نيسان من كل سنة، ينظف اليهود بيوتهم من الخميرة العتيقة، رمزاً لتنظيف البيوت الكلي من الروح الشرير القديم. ويأكلون خلال جمعة الأعياد خبزاً غير مخمر. وقد ذبحوا ألوف الحملان بهذه المناسبة في ساحة الهيكل. وكانوا يأكلونها مشوية شياً في عشائهم العائلي تذكيراً لمرور غضب الله عن شعبهم في القرن الثالث عشر ق م لما كانوا في مصر عبيداً للفراعنة. وقد علموا جميعاً أن شركتهم الدائمة مع حمل الفصح وحدها تخلصهم من سخط القدوس العادل، لأنهم لم يكونوا أكثر صلاحاً من الشعوب المحيطة بهم. ولكن إيمانهم بحمل الله حفظهم من الدينونة، ولحم الذبيح الذي أكلوه، صار فيهم قوة للتقدم إلى حفلة قطع العهد مع الله في جبل سيناء. (اقرأ سفر الخروج 12: 1 - 36) هكذا عاش الشعب كله من الذبيحة التي قدموها لله وحماية دمها. وكما أكلوا في خروجهم من مصر خمراً غير مخمر، هكذا أكلوا خبز الضيق بعد عيد الفصح جمعة كاملة، وسموها عيد الفطير تذكيراً لهربهم إلى البرية وخلاصهم من العبودية. فمن أكل في هذه الأيام المباركة عندهم خبزاً وخمراً، رجم وقطع من شعبه. وهكذا كان يجتمع سنوياً مئات الألوف من الحجاج في أورشليم، ليتقدموا معاً أمام الله ويعيشوا من نعمته الفريدة.

22: 2 وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يَقْتُلُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوا ٱلشَّعْبَ.

لم يرتح زعماء الشعب، ولم يفرحوا بإقبال العيد، لأن الجماهير تراكضت إلى يسوع الشاب الريفي، من الجليل الأممية. فأصبح بجانب الهيكل المحور الثاني للعيد. وقد قاد وفد المجمع الأعلى للاعتراف بجهالتهم، وأدان الكتبة بالرياء، لأنهم لم يستعدوا لإطاعة حق الروح القدس. فاغتاظ هؤلاء الرؤساء وعزموا رسمياً إيجاد طريقة لإبادة يسوع. ولكن محبة الشعب له منعت الثعالب المكارة من تنفيذ قصدها جهراً، لأن الجماهير شعرت أن سلطان الله يخرج من الناصري.

2 - خيانة يهوذا الاسخريوطي (22: 3 - 26)

22: 3 فَدَخَلَ ٱلشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ ٱلاِثْنَيْ عَشَرَ. 4 فَمَضَى وَتَكَلَّمَ مَعَ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَقُّوَادِ ٱلْجُنْدِ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمْ. 5 فَفَرِحُوا وَعَاهَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. 6 فَوَاعَدَهُمْ. وَكَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ خِلْواً مِنْ جَمْعٍ.

لا نعرف تماماً لماذا دخل الشيطان في يهوذا. فقد كان اليهودي الوحيد بين رسل يسوع، الذين جاءوا جميعهم من الجليل معه. وكان يهوذا محباً للمال. فاستلم صندوق الجماعة، وصار سراقاً. وأخذ بعض العطايا لنفسه، وأمات صوت ضميره رافضاً يسوع في قلبه، لأنه عندما تكلم ضد محبة المال، نظر إلى يهوذا مخترقاً أفكاره. وأبغض المسيح أيضاً، لأنه لامه جهراً، لما اعترض على مسحه بالطيب في بيت عنيا (يوحنا 12: 1 - 8). وربما كان يؤمل الخائن، أن يصل بواسطة سلطان يسوع سريعاً إلى المجد والمال والشرف. ولكن لما عملت قوة المسيح فيه وأجرت عجائب من يديه مع الرسل الآخرين ولمي يتغير ذهنه، تقسى قلبه، وصار ظالماً. فوجد الشيطان سلطة فيه، وحل شخصياً في المنكر وقاده للتصميم على الخيانة الخاتلة.

وفي بغضة غيظه ذهب يهوذا مباشرة إلى مركز أعداء يسوع، الذين فرحوا بابتداء الانشقاقات في وحدة محبة جماعة المسيح. فسألوا الخائن عن كل مبادئ وتفاصيل حياة الناصري، وبحثوا معه الطريق الأفضل لإبادة هذا الزعيم الوديع بالخفاء.

وفي هذه المؤامرة طغت فجأة رائحة المال وظلمه، لأن الرؤساء الأشرار والخائن الرذيل لم يعملوا لمبدأ بل راعوا أنفسهم. فاشترى الوجهاء هذا الخائن، الذي تكالب على الثمن، لأنه كان عبداً للمال، وليس رجل الله.

ففي المال تظهر أخلاق أكثرية الناس. فأكثر الناس لهم ثمن، يمكن أن يشتروا به. وللأسف إن ثمنهم عادة منخفض جداً، فيبيعون شرفهم وضمائرهم بثمن رخيص ضئيل تافه.

ومنذ ذلك الوقت، ابتدأ الملبوس منقاداً بالشيطان إن يستقصي ويستخبر عن الطرق والأماكن التي سيذهب إليها قدوس الله، ليصطاده وسلمه للإبادة. فهذا هو هدف الشيطان مع كل الناس، ليملكهم وليملأهم بروحه. وليقودهم للاعتداء على الله. فهل أنت خادم المسيح أو عبد الشيطان؟ هل تكون ينبوع المحبة أو مصدرالبغضة؟ أتتعلق بالمال أو تتكل على الرب؟ فلا تغرر بنفسك. فإنك لا تستطيع حمل بطيختين في يد واحدة. فأما أن تحب الله وتبغض المال، أو تعبد الذهب وترفض القدوس. لا تقسي قلبك لصوت الروح القدس. تب لكيلا تصبح شيطاناً مريداً.

الصلاة: أيها الرب، لست أصلح من يهوذا الخائن. نجني من قلبي الرديء ومن سلطة الشرير، ولا تدخلنا في تجربة. كسر ميلي للمال، وامنحني ذهناً متواضعاً وديعاً. لأحبك من كل قلبي وذهني وقدرتي، وأضحي بأموالي. وأطلب المساكين كما رحمتهم أنت.

3 - إعداد العشاء الرباني (22: 7 - 13)

22: 7 وَجَاءَ يَوْمُ ٱلْفَطِيرِ ٱلَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْبَحَ فِيهِ ٱلْفِصْحُ.

إن يوم 14 نيسان سنة 30 للميلاد تقريباً كان من أهم أيام التاريخ البشري على وجه الأرض. فهذا اليوم ابتدأ في يوم الخميس مساء الساعة السادسة، إلى الجمعة في السادسة مساء، حسب النظام اليهودي للأيام. فخلال هذه الساعات الأربعة والعشرين ذبحت مئات الألوف من الحملان. وبنفس الوقت، ذبح حمل الله، الذي رفع خطية العالم. فكل الأحداث الخاصة بآلام المسيح وموته المذكورة في الأصحاح 22 عدد 14 إلى الأصحاح 23 عدد 56 وقعت في هذه المدة القصيرة. ففي هذه الجمعة الحزينة العظيمة قد تم خلاص العالم.

22: 8 فَأَرْسَلَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلاً: «ٱذْهَبَا وَأَعِدَّا لَنَا ٱلْفِصْحَ لِنَأْكُلَ». 9 فَقَالا لَهُ: «أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ؟». 10 فَقَالَ لَهُمَا: «إِذَا دَخَلْتُمَا ٱلْمَدِينَةَ يَسْتَقْبِلُكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ إِلَى ٱلْبَيْتِ حَيْثُ يَدْخُلُ، 11 وَقُولا لِرَبِّ ٱلْبَيْتِ: يَقُولُ لَكَ ٱلْمُعَلِّمُ: أَيْنَ ٱلْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ ٱلْفِصْحَ مَعَ تَلامِيذِي؟ 12 فَذَاكَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً. هُنَاكَ أَعِدَّا». 13 فَٱنْطَلَقَا وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا، فَأَعَدَّا ٱلْفِصْحَ.

لقد علم يسوع أن الخائن بدأ محاولاته، مستفهماً مسبقاً عن المكان الذي سيجتمع فيه معلمه مع تلاميذه في عزلة عن الشعب، ليقدر هذا الخائن أن يسلمه إلى أيدي أعدائه بكل سهولة وصمت.

ولكن ابن الله عزم أن يصرف آخر عشية في حياته الدنيوية بفرح كبير مع تلاميذه، ليقطع معهم العهد الجديد المقدس.

فما قال لبطرس ويوحنا بدقة عن مكان الغرفة التي أراد أن يجتمعوا فيها، بل أرشدهما ببصيرته النبوية وسط ازدحام الناس والحجاج إلى رجل يرياه حاملاً جرة على رأسه. فهذا الرجل كان غريباً في تصرفه، إذ أن النساء عادة هن اللواتي يحملن الجرار ويملأنها من النبع، ويأتين بها على رؤوسهن من أسفل النبع صعداً بالدرجات العالية إلى بيوتهن في جبل القدس.

كان الرجل متواضعاً، فخدم عائلته بنفسه وحمل الحمل الثقيل دون خجل من بين النساء الكثيرات والحجاج المارين.

وقد رآه يسوع مسبقاً بعين النبوة، مثلما رأى مسبقاً كل أحداث ذلك النهار، وبكل دقة متناهية. لم يكن نبياً فقط، بل هو العليم بالذات، العارف أفكار وكلمات وأعمال الناس قبل حدوثها، ولا ينسى الماضي أيضاً. فحياتك منكشفة أمامه بكل بيان.

ولما أطاع التلميذان كلمة المسيح مصدقين، وانطلقا وسط ازدحام أزقة المدينة، فرأيا الرجل الذي وصفه يسوع. وقد كان محضراً ومرتباً بيته بإرشاد الروح القدس، ومحضراً الوسائد والمخدات، منتظراً ضيف الله. فأتى الرب بالذات إليه. وأصبح بيته الكنيسة الأولى، التي قطع ابن الله فيها مع أتباعه العهد الجديد بفرح عظيم.

لا نقرأ أن التلميذين قد ذبحا حملاً للفصح في الهيكل، وشوياه في بيت الرجل، الذي أرسلهما يسوع إليه. لأنهما كانا مع ربهما مضطهدين. وأسمائهما على القائمة السوداء. فلهذا نقرأ الأخبار عن العشاء الرباني الأول، إنه استعمل به الخمر والعشب المر والخبز فقط. وهو ما وزعه يسوع على التلاميذ. فاحتفل المسيح مسبقاً بالفصح، كمرفوض من الأمة. وتناول العشاء كمجرم، ليس له الحق أن يذبح في الهيكل حملاً له ولتلاميذه. وحقاً لم يكن يسوع في حاجة إلى حمل لمصالحة نفسه مع الله، لأنه كان حمل الله شخصياً، بدون خطية، حاملاً ثقل ذنوب العالم. ورغم هذا ثبت في صبره وسروره المستمر. ولم يقدم لتلاميذه كأس خمر واحدة فقط، بل عدداً من الكؤوس حسب طقوس الاحتفال، لأن عيد الفصح كان عيد الفرح الكبير، لأجل الخلاص من غضب الله.

4 - العشاء الرباني (22: 14 - 23)

22: 14 وَلَمَّا كَانَتِ ٱلسَّاعَةُ ٱتَّكَأَ وَٱلاِثْنَا عَشَرَ رَسُولاً مَعَهُ، 15 وَقَالَ لَهُمْ: «شَهْوَةً ٱشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هٰذَا ٱلْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ، 16 لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لا آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ حَتَّى يُكْمَلَ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ». 17 ثُمَّ تَنَاوَلَ كَأْساً وَشَكَرَ وَقَالَ: «خُذُوا هٰذِهِ وَٱقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُمْ، 18 لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لا أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ ٱلْكَرْمَةِ حَتَّى يَأْتِيَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ».

في العلية اتكأ التلاميذ مع ربهم على وسائد ونمارق مريحة. فافتتح يسوع حفلة الله مع الناس، وأعلن لتلاميذه صميم اشتياق قلبه، تعبيراً عن شوق الله نحو الناس جمعياً: قد اشتقت منذ الأزل بكل مسرتي أن أقطع معكم هذا العهد الجديد المقدس. فلا تفصلكم الخطية فيما بعد عن الله، بل تتحدون معه في الميثاق. وأنا أريد أن أتألم وأموت عوضاً لأجل كل الناس الذين يطلبون الله. وأريد تطهيركم وتقديسكم، وامتلاءكم بروحي. فيولد جيل جديد هو شعب الله الحق، أولاد أبي السماوي، مسيحيين حقيقيين.

واكتمال هذا العهد الجديد سيتم في مجيء المسيح الثاني. فاليوم نحن على الطريق إليه وسط صحراء دنيانا، الممتلئة بتجارب وأخطار وهجومات. أما دم الحمل فيرافقنا، وحمايته وقداسته تقدسنا، فيبقى للمؤمن الامتياز، أنه سيحتفل مع يسوع في السماء بإكمال العشاء الرباني. والفرح الذي سيحصل عند ذاك، لا يوصف، بل هو شكر جزيل. فعاصفة الحمد والسجود ستنطلق من حوله مفسرة كلمات الرؤيا 5: 12 مستحق هو الخروف المذبوح أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة.

22: 19 وَأَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: «هٰذَا هُوَ جَسَدِي ٱلَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هٰذَا لِذِكْرِي». 20 وَكَذٰلِكَ ٱلْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ ٱلْعَشَاءِ قَائِلاً: هٰذِهِ ٱلْكَأْسُ هِيَ ٱلْعَهْدُ ٱلْجَدِيدُ بِدَمِي ٱلَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ.

إن المسيح هو المشرع الإلهي، الذي غير كلمات طقوس ترتيب عيد الفصح، وقرر بسلطانه أن الخبز في العشاء الرباني يعني جسده والخمر يرمز إلى دمه. وكما أن هذين العنصرين في العشاء الرباني يدخلان إلى جوفنا مسببين لنا قوة وحياة، هكذا يشاء يسوع نفسه أن يحل فينا، بجوهره الروحي، ويسكن فينا ثابتاً إلى الأبد. فهدف العشاء الرباني ليس أكل الخبز وشرب الخمر، بل حلول الروح القدس في المؤمنين، الذي هو روح يسوع والرب بالذات. فتناولك العشاء الرباني لا ينفعك شيئاً، إن لم تقبل يسوع في قلبك، طالباً إليه أن يمكث إلى الأبد. وهو يقول مؤكداً لك: هذا الخبز هو جسدي. آمن بي فأثبت فيك حقاً.

وشهد يسوع أيضاً أن العهد الجديد مع الله في دمه، يبتدئ من لحظة هذا العشاء الأول، ويثبت إلى الأبد رغم عدم استحقاق كل الناس للتعاهد مع الله. فحقاً كلنا نستحق الإبادة حالاً. ولكن حقوق دم يسوع المسيح تحمينا، وتسبب فينا حياة، وننال التبرير، وندخل القداسة. فأصبحنا أهلاً للموثق مع الله القدوس. وهذا الامتياز مبني على النعمة فقط، لا قائم على أعمالنا وصلاتنا وصيامنا. فالمسيح يأتي إليك تلقائياً، ويطهرك ويربطك مع الله، في وحدة مقدسة قدوسة. هل تؤمن بهذا؟ إن الله نفسه يقطع بدم المسيح عهداً معك ومع كل أتباع ابنه المسيح. فعندئذ يكون الله معك. والقادر على كل شيء يحل فيك! هذا حق ويقين.

الصلاة: يا حمل الله القدوس، نسجد لك ونشترك بتسابيح الحمد من أفواه كل القديسين. ونعظم موتك ودمك، وعهدك الجديد. قد اشتريتنا لله خاصة، وجعلتنا أولاداً لأبيك السماوي، رغم شراسة طبيعتنا. دمك يطهرنا، وروحك يجددنا. فنتهلل ونفرح ونشكرك لأنك تسكن بالإيمان في قلوبنا.

5 - كلمات وداعية من يسوع إلى تلاميذه (22: 24 - 38)

22: 21 وَلٰكِنْ هُوَذَا يَدُ ٱلَّذِي يُسَلِّمُنِي هِيَ مَعِي عَلَى ٱلْمَائِدَةِ. 22 وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَحْتُومٌ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي يُسَلِّمُهُ. 23 فَٱبْتَدَأُوا يَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: «مَنْ تَرَى مِنْهُمْ هُوَ ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَفْعَلَ هٰذَا؟».

بعد ما قطع المسيح عهد الفرح مع تلاميذه، وثبتهم في شركة الله، كان ينبغي عليه أن يعلن لهم حقيقة قلوبهم مبيناً أن كل واحد منهم ممكن أن يخونه. فلم يدل على يهوذا ويخصصه بالخيانة لوحده، بل أوضح أن واحداً منهم يسلمه لكي لا يغتر أحدهم بنفسه، ويظن أنه أفضل من الآخرين ويدين الشرير، بل أراهم أن كلا منهم يمكن أن يصدر منه ويرتكب هذه الجريمة والعمل الخبيث.

وحقاً فإن شدة محبة المسيح كسرت كل ثقة بذواتهم، واقتادتهم إلى الخجل والتوبة، حتى اعترفوا بعدم صلاحهم وفقدان برهم، ملتجئين إلى نعمة الرب يسوع، الذي يحفظهم من العمل الشرير.

وقد قال المسيح هذه العبارة، الممتحنة للنفوس أيضاً ليهوذا، لعله يتوب. فاهتزت يد الخائن، لما سمع إشارة المسيح إلى يده، التي غمست اللقمة في قصعة الشوربا مشاركة يد المسيح وبقية التلاميذ في الطعام.

والمخلص الذي أعلن قبل قليل العهد مع الله، قال الآن الويل الإلهي للذي يدوس هذا العهد عمداً. فالعذاب والهلاك لهذا الإنسان هائل فوق الإدراك، لأنه قد تناول العشاء الرباني واعياً، وحمل المسيح في قلبه، وبعدئذ أنكره وأبغضه وخانه. والشيطان نفسه سعر جهنم في ضميره، فزال الرجاء فيه.

وقد رأى المسيح طريقه الخاص بجلاء إلهي، من البداية إلى النهاية، منسجماً مع إرادة أبيه، ليفدي العالم الشرير. فتقدم إلى الموت بمشيئته مزمعاً، وأتم تعيينه. ولكنه بنفس الوقت تألم لأجل الخروف الضال يهوذا، الذي قد صارت له ملء النعمة. فداسها برجليه.

22: 24 وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ أَيْضاً مُشَاجَرَةٌ مَنْ مِنْهُمْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ. 25 فَقَالَ لَهُمْ: مُلُوكُ ٱلأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَٱلْمُتَسَلِّطُونَ عَلَيْهِمْ يُدْعَوْنَ مُحْسِنِينَ. 26 وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَيْسَ هٰكَذَا، بَلِ ٱلْكَبِيرُ فِيكُمْ لِيَكُنْ كَٱلأَصْغَرِ، وَٱلْمُتَقَدِّمُ كَٱلْخَادِمِ. 27 لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ؟ أَلَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ ٱلَّذِي يَخْدِمُ؟ أَلَيْسَ ٱلَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلٰكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَٱلَّذِي يَخْدِمُ.

لم يدرك التلاميذ أهمية العشاء الأخير. وسرعان ما مالوا إلى مقارنة أنفسهم. فاتهم كل واحد الآخر، بأنه اللص والخائن. وظن بنفسه أنه الأفضل والأمين والأقرب لله. فجربهم الشيطان حتى في تلك الساعة المقدسة لقطع العهد، لأن التلاميذ لم يكونوا قد امتلأوا من الروح القدس بعد. ورغم ذلك بشرهم ربهم، وقارنهم بملوك الأرض. ْلأن كل خادم للرب أعظم من أكبر ملك في العالم. ولأبينا السماوي شموس كافية ليهب لكل واحد من أولاده مجموعة شموس. إن جوهر أولاد الله ليس الاستكبار والشوق إلى العظمة، بل التواضع والخدمة. ولكن حتى الخدمة تتعرض للوقع في خطر الخطية، إذا أراد الخادم أن يلقب «بالمحسن الهمام» وكان يشم بوجهه المتواضع بخور الإكرام والمديح من الناس. فإن الشعار في العهد الجديد والمبدأ في ملكوت الله أن الأعظم هو خادم الكل. فقد مثل يسوع بنفسه أمامنا هذا الفكر، وتواضع حتى حسب مجرماً حاملاً خطاياناً. وكما غسل أرجل تلاميذه الوسخة، هكذا يطهر قلوبنا الملوثة، ويزيل كل وساخاتها. فمن هو الأكبر في الكنيسة، الشاب أو الشيخ؟ فجواب المسيح: إن الذي يخدم صامتاً هو الأعظم. ومن هو الأشهر في السماء، الزعيم أو المنقاد التابع؟ فالمسيح يجاوب: أن المصلي المتواضع، مكتوب اسمه في السماء. وسنكون متعجبين في الآخرة، إذ سنرى بعض العبيد المؤمنين، أبهر من الزعماء الفقراء في المحبة. وسيظهر بعض الأمراء على الأرض عبيد ذنوبهم في الآخرة. فملكوت الله يقلب مقاييس البشر تماماً ويصبح الصغير كبيراً والكبير صغيراً. فمن أنت، أصغير أم كبير؟

22: 28 أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي، 29 وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً، 30 لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي، وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ ٱلاِثْنَيْ عَشَرَ.

ما هي تجارب المسيح؟ قد أخلى مجده، وأصبح إنساناً ضعيفاً، مولوداً في المذود، نامياً كفتى في جيل فاسد، مجرباً من الشيطان، منادى به ملكاً من الناس، وممنوعاً من الذهاب إلى الصليب بمعارضة تلاميذه. مضطهداً ومحتقراً ومرفوضاً. ورغم كل ذلك، بقي التلاميذ معه، محكومين معه سوياً. الكل علم أن الخطر متربص بهم.

وشكر يسوع أتباعه لأمانتهم، وأوصى بوصيته. فما هي هذه الوصية والإرث يا ترى؟ إنها الملكوت. لا أكثر ولا أقل. فالمسيح وصى لهم بملكوت الله بالذات. فأوصى لهم بكل السماوات والنجوم والأرض وكل ما عليها من بشر وحيوانات، لأنهم تبعوه في ضعفه، وآمنوا به رباً، رغم هيئته الإنسانية المتواضعة.

ووعدهم بعد موتهم أن يجلسوا في الآخرة معه على مائدته، ليشتركوا في فرحه كما اشتركوا على الأرض في ضيقه. ولن يجتمعوا هناك فرحين فقط، بل سيخدمون أيضاً. وبإرشاد الروح القدس سيدين الرسل أسباط إسرائيل، جالسين على عروش الآباء الاثني عشر لأمتهم. وسيمثل أمامهم كل رؤساء الكهنة والكتبة والفقهاء والفريسيون والصدوقيون، فيدينونهم، لأنهم لم يؤمنوا بألوهية يسوع، رغم رؤيتهم له في لطفه وقدرته. ولكن ليس صيادو بحيرة طبريا هم الحكماء المقتدرون لهذه الوظيفة القاضية، بل الروح القدس، الذي سيملأهم ويجعلهم علماء متواضعين وخداماً للرب.

فهكذا علم يسوع ملوك المستقبل الخدمة، محققاً وعده: طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض. هل تريد الاشتراك في إرث الملكوت؟ فكن أصغر الخدام بين زملائك، ونظف أحذيتهم.

الصلاة: أيها الرب يسوع، أنت المتواضع الوديع. اغفر لي استكباري واحتقاري للآخرين. اعطني من روحك المحب، لأصبح خادماً لكل الناس، لأخضع نفسي تحت أحمال إخوتي. احفظني في التجارب، لكي أحب مبغضيَّ، وأباركهم بقوة كلمتك.

22: 31 وَقَالَ ٱلرَّبُّ: «سِمْعَانُ سِمْعَانُ، هُوَذَا ٱلشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَٱلْحِنْطَةِ! 32 وَلٰكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لا يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ». 33 فَقَالَ لَهُ: «يَا رَبُّ، إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى ٱلسِّجْنِ وَإِلَى ٱلْمَوْتِ». 34 فَقَالَ: «أَقُولُ لَكَ يَا بُطْرُسُ، لا يَصِيحُ ٱلدِّيكُ ٱلْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ تُنْكِرَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَعْرِفُنِي».

بعد أن أوصى المسيح لتلاميذه بالملكوت، رأى بطرس نفسه كرئيس للوزراء جالساً عن يمين الابن، ومالكاً معه إلى الأبد. فاتكل على خبرته الخاصة، وقوته الجبارة، وإيمانه الجريء، وشهادته المعلنة. ولم ير الحركات المستترة في العالم الغير المنظور، لإسقاط الرسل.

فالحكمة الإلهية تسمح للشيطان، أن يمثل أمام الله، ويشتكي على القديسين، وينال السماح لامتحانهم. وهذا الامتحان يشبه مراراً إلقاء المؤمن في غربال الريفي الخشن، الذي يغربله فاصلاً القمح عن الزوان. هكذا نال الشرير من الله السماح، ليغربل التلاميذ الاثني عشر بلا شفقة ليزعزعهم، وليبرهن أنهم غير قادرين لوظيفة الرسل. هل تدرك الكفاح بين الله والشيطان لأجل أنفسنا وراء ستار الكون؟ إن إبليس يعزم إهلاكك، فهل أنت زوان أو قمح حنطة أم شعير؟

وقد خاطب يسوع سمعان مرتين باسمه القديم، ليحذره ويريه أن طبيعته القديمة الثائرة والجبانة، ما زالت بعد. ولم ير المسيح سقوط بطرس مسبقاً فقط، بل صلى إلى الله لأجله، متوسطاً له، طالباً تقوية إيمانه. هذا يدلنا على أنه ليس إنسان يعيش من قدرته الخاصة، بل إيمانه ومحبته ورجاؤه هو نتيجة شفاعة المسيح. فإيمانك نعمة وليس عملك الخاص.

ونظر يسوع أكثر إلى المستقبل، ورأى ندامة بطرس وانسكاب الروح القدس فيه مسبقاً، حيث سيقوم الفاشل والمنكر بجرأة، ليس بقوته الخاصة، بل بإرشاد الروح القدس، معلناً بلا خوف حقائق الله في الإنجيل. هذا كان الانقلاب الجذري في حياة بطرس، إنه أدرك كيف كان عدماً في نفسه وجباناً ومذنباً، ولكن نعمة المسيح وحدها طهرته وفوضته للشهادة الناجحة عن فداء المسيح. هكذا أصبح من المدعى بنفسه وغير المقتدر، معزياً منكسراً للكثيرين، ورافعاً الكنيسة في قوة الله إلى الإيمان الحي المؤسس على التوبة الصادقة، واعترف في مجمع الرسل الأول أمام كل المعارضين بقوله «بنعمة الرب يسوع المسيح نؤمن أن نخلص» لا بقدرتنا الخاصة الباطلة.

ولكن لما كانوا في العلية آنذاك، لم يخطر لبطرص فكر سقوطه أو اهتدائه، بل ادعى أنه سينصر المسيح في كفاحه لأجل السلطة، مستعداً حتى الموت. فنظر يسوع إليه حزيناً، وأنبأ الذي شهد من قبل «أن يسوع هو المسيح ابن الله» أنه سيغرق غرقاً عميقاً حتى ينكره ثلاث مرات علانية مدعياً أنه لا يعرف مخلص العالم قط ولم يره مرة أبداً. ولكن صياح الديك سيبرهن له أن المسيح هو العليم الرحيم، الذي حذره مسبقاً لتنبيهه.

22: 35 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ بِلا كِيسٍ وَلا مِزْوَدٍ وَلا أَحْذِيَةٍ، هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَيْءٌ؟» فَقَالُوا: «لا». 36 فَقَالَ لَهُمْ: «لٰكِنِ ٱلآنَ، مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذٰلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً. 37 لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضاً هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ. لأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي لَهُ ٱنْقِضَاءٌ». 38 فَقَالُوا: «يَا رَبُّ، هُوَذَا هُنَا سَيْفَانِ». فَقَالَ لَهُمْ: «يَكْفِي!».

لما جرت من يسوع في الجليل عجائب وشفاءات للمرضى وطرد للشياطين كان رسله مقبولين ومحترمين وقوبلوا في كل قرية بضيافة أمينة، ولم يحتاجوا شيئاً. ولكن في أورشليم العاصمة، لم يكن ليسوع أصدقاء كثيرون. لأن الذين أعجبوا به خافوا من الاعتراف به جهراً، لأن يسوع كان مضطهداً محارباً من المجمع الأعلى، واسمه على جدول المطلوبين. فاهتم يسوع بتلاميذه لما بعد موته، وأمرهم بالاقتصاد في المصروف والمحافظة على المؤن، حتى اقترح عليهم شراء سيفين، لكي يخاف العدو أن يهاجم. فلم يأمرهم المسيح أن يضربوا بالسيف، بل أن يحبوا أعداءهم ويخوفوهم تخويفاً، ويفضلوا أن يموتوا من أن يسفكوا دماً. ولم يفهم تلاميذه، ولم يدركوا، أن الدعوة إلى السيفين هي دعوة للجهاد الروحي أولاً، ليستعدوا في قلوبهم للقتال ويطلبوا من ربهم سيف الروح للدفاع أمام مكائد الشيطان.

وعلم يسوع أن ساعته المرة مقبلة، إذ كان على القدوس أن يموت كلص، ويسميه الأتقياء مجدفاً ثائراً. ولكن المسيح علم أنه ينبغي أن يموت محتقراً من كل الناس ليفديهم، وهم أعداؤه. فرأى موجة الشر متدحرجة عليه، مستعدة لتغطيته. ولكنه لم يهرب، بل اهتم واعتنى بتلاميذه لآخر لحظة.

الصلاة: أيها الرب، أنت أعظم من كل نبي. أنت إله حق، وتعرف مستقبلنا وفشلنا وضعفنا. اشفع فينا وتوسط لأجلنا لكيلا يفنى إيماننا. اغفر لنا اكتفاءنا واستكبارنا وأنانيتنا، لنصبح أمناء لك في المحبة.

6 - كفاح يسوع في الصلاة على جبل الزيتون (22: 39 - 46)

22: 39 وَخَرَجَ وَمَضَى كَٱلْعَادَةِ إِلَى جَبَلِ ٱلّزَيْتُونِ، وَتَبِعَهُ أَيْضاً تَلامِيذُهُ. 40 وَلَمَّا صَارَ إِلَى ٱلْمَكَانِ قَالَ لَهُمْ: «صَلُّوا لِكَيْ لا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ». 41 وَٱنْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى 42 قَائِلاً: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هٰذِهِ ٱلْكَأْسَ. وَلٰكِنْ لِتَكُنْ لا إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ». 43 وَظَهَرَ لَهُ مَلاكٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ يُقَّوِيهِ. 44 وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى ٱلأَرْضِ. 45 ثُمَّ قَامَ مِنَ ٱلصَّلاةِ وَجَاءَ إِلَى تَلامِيذِهِ، فَوَجَدَهُمْ نِيَاماً مِنَ ٱلْحُزْنِ. 46 فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا أَنْتُمْ نِيَامٌ؟ قُومُوا وَصَلُّوا لِئَلَّا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ».

ما فهم بطرس ولا التلاميذ يسوع في عمق كفاحه الروحي، فتبعوه كالعادة إلى جبل الزيتون، ليناموا ويرتاحوا. أما المسيح فالتفت وسط الليلة الدامسة إليهم، وأمرهم بالصلاة المواظبة كالقوة الوحيدة في مصارعة الأرواح. وقد علمنا الرب أن نطلب من أبينا السماوي، لكيلا يدخلنا في تجربة، ولا يتركنا لأيدي الشيطان، لأن تجربته الخبيثة تهدف انتزاعنا من الله وجعلنا أشراراً، مستعملين السيف وغير ثابتين في المحبة، فنفدي أنفسنا ولا نتكل على عناية الله وحده.

والمسيح نفسه دخل هذه التجربة لما انقفلت السماء في وجهه. فلم يرد الموت، ولكن أراد دائماً النظر إلى أبيه، الذي حجب وجهه عنه، وبدا إلهاً قاضياً منتقماً من خطايا العالم في ابنه الحبيب. وهكذا جثا يسوع متواضعاً أمام الله العظيم وتصارع مع أبيه لأجل حفظ وحدته معه في المحبة. ولكن الروح القدس في الابن غلب ضعف أمنية جسده.

فيسوع المسيح سمى الله أباه في ألف كلمة ممكنة. با أبتاه، عالماً أنه يحبه دائماً، ويعتني به، ويريد الخير لا الشر. فهذه الكلمة ترينا المحبة العظيمة بين الآب والابن، الجو الدائم في الثالوث الأقدس. ولم يخضع المسيح مشيئته لأمنيته، بل وضع شوقه تحت مشيئة أبيه، لأن هذه المشيئة كانت له قدوسة، وغير قابلة للتغيير البتة. وكان مستعداً أن ينفذها مهما كلف الأمر. هذه هي الطريقة الوحيدة للصلاة المقبولة حيث لا نسقط في التجربة. ولا نريد ما نتمنى نحن بل ننسجم بإرادة الله، حتى ولو ضادت شعورنا الخاص. فمن يصلي في خضوع مستمر كالمسيح ينجو من كل تجربة.

وطلب الابن من أبيه، أن يمر عنه كأس الغضب، التي ترمز إلى كل مرارة وخبث وخطية ارتكبها العالم وقصاصها. فابن الله جعل في هذه الليلة خطية عوضاً عن كل خطاة العالم، لنصير نحن براً مقبولاً أمام الله. فالقدوس حمل أوساخ كل الناس، وأصبح هكذا الحمل الذي يرفع خطية العالم. ولم يكن حمل ذنوب العالم الهدف الأخير للحمل القدوس، بل موته في لهيب غضب الله عوضاً عنا، لنصبح نحن متحررين من الدينونة. فارتجف يسوع من غضب أبيه المحبوب، لأن كل دينونات تاريخ العالم استعدت لتسطو على البريء لتبيده.

لا يقدر إنسان أن يحتمل هذا الكفاح، وكان يسوع إنساناً حقاً وضعيفاً في طبيعته الإنسانية. لهذا أرسل أبوه ملاكاً، ليقويه ويملأ جسده بقوة زائدة، ليستطيع حمل خطية العالم مع سطو غضب الله عليه.

واستمر يسوع في الصلاة راكعاً وجاثياً بكلمات الروح القدس، ولكيلا تؤثر في نفسه عوامل بغضة العالم، ولا يسحقه غضب الله. فلا يستطيع إنسان ما، أن يدرك هذه الصلاة الإلهية العظمى أو يفسرها. فالطبيب لوقا دلنا على شدة هذا الكفاح الغالب بوصفه الدقيق لحالة المصلي آنئذ، إن عرقه تصبب كقطرات دم من جبينه.

ونام التلاميذ بينما كان يسوع يكافح لفداء العالم. فقد سقطوا في التجربة، ولم يشتركوا في جهاد الخلاص، لأنهم تعبوا من اليوم الطويل، وحزنوا من النبوات الغامضة، وفزعوا من شعورهم بالمصارعة بين السماء والأرض. ولم يفهموا الحقيقة قط. فكان سهلاً للشيطان، أن يبعدهم من المعركة بتسليط رقاد النوم عليهم. وللأسف! فهذه هي حالة كثير من المؤمنين. فاليوم يفدي العالم، لأن على كل جيل الولادة ثانية. فمتى تكافح مع المسيح بواسطة صلواتك المستمرة لكي تتحقق ثمار فدائه في أعدائه؟ إن المسيح يأمرك في هذه القراءة مرتين بالصلاة مواظباً، لأن الانتصار لا يحصل في ملكوت الله إلا بالصلاة المستمرة.

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، قد فكرت بصلاتك في جثسيماني بي أيضاً، وغفرت لنا تعبنا ونعسنا. أيقظنا مع كل أصدقائنا، لنراك في كفاحك لفدائنا، ونؤمن بمحبتك، ونصلي بمواظبة: لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك في محيطنا.

7 - القبض على يسوع (22: 47 - 53)

22: 47 وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا جَمْعٌ، وَٱلَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا - أَحَدُ ٱلاِثْنَيْ عَشَرَ - يَتَقَدَّمُهُمْ، فَدَنَا مِنْ يَسُوعَ لِيُقَبِّلَهُ. 48 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «يَا يَهُوذَا، أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ؟» 49 فَلَمَّا رَأَى ٱلَّذِينَ حَوْلَهُ مَا يَكُونُ، قَالُوا: «يَا رَبُّ، أَنَضْرِبُ بِٱلسَّيْفِ؟» 50 وَضَرَبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَبْدَ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذُنَهُ ٱلْيُمْنَى. 51 فَقَالَ يَسُوعُ: «دَعُوا إِلَى هٰذَا!» وَلَمَسَ أُذْنَهُ وَأَبْرَأَهَا. 52 ثُمَّ قَالَ يَسُوعُ لِرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَقُّوَادِ جُنْدِ ٱلْهَيْكَلِ وَٱلشُّيُوخِ ٱلْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ: «كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ! 53 إِذْ كُنْتُ مَعَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ لَمْ تَمُدُّوا عَلَيَّ ٱلأَيَادِيَ. وَلٰكِنَّ هٰذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ ٱلظُّلْمَةِ».

بينما يسوع يصلي وسط الليلة، ويكافح مع الله لفداء العالم وتلاميذه نيام، تسلل يهوذا وخدام المجمع الأعلى بحذر وهدوء إلى موضع عزلة يسوع. وقفزوا فجأة بتقديمهم يهوذا، عالماً أن يسوع لا يعارض السلطة، فاحتضن يسوع وقبله كأخ وصديق.

لم يبعد يسوع الخائن عنه، ولم يضربه على وجهه الوقح، بل نظر في عينيه، ودعاه باسمه. ووبخ ضميره لآخر مرة، ليخلصه. وطعن في عمق شره، لأن الخائن ستر بقبلة المحبة بغضته الشديدة، وغطى برمز القرابة خيانته الدامغة. وبهذا بلغت المراءاة الشيطانية القمة. فالشيطان الحال في الخائن تبدى محباً، وألبس كذبه مومياء الثقة. فيهوذا لم يؤمن بألوهية يسوع، بل رأى إنسانيته فقط. ولو وقف الرب أمامه في المجد، هل كان يقدر أن يقبله أيضاً كما فعل؟ إن الشيطان كان الدافع في المسكين وأعماه. والشرير تعرفه بقبلته الكاذبة، وبكلماته اللطيفة الممتلئة بالخيانة. كل إنسان يميل إلى مراءاة مثل هذه. نحن المنافقين الخونة الأشرار، يطعننا يسوع في قلوبنا، بسؤاله الذي وجهه إلى يهوذا.

والتلاميذ الآخرون الذين قاموا مضعضعين من وعكة النوم، أدركوا إلى حد ما اقتراب الساعة الفاصلة. فاستعدوا للقتال. ولم يكونوا جبناء، بل ألقوا أنفسهم لتحرير المسيح. ولم ينتظر بطرس جواب ربه وسماحه لهم باستعمال السيف، بل ضرب رأساً الجندي الأول، الذي حاول إمساك يسوع، ظاناً استحالة سجن يسوع ربه والقبض عليه. ولاحظ الجندي سقوط السيف اللامع عليه، الذي استهدف فصم رأسه، فانزاح سريعاً، وإذ ذاك أصابه الحديد الصقيل جانباً، قاطعاً أذنه اليمنى. فانبجس الدم.

فصرخ به يسوع: قف، اخفض السيف وضعه في غمده، لأن من يأخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ. الآن تتم مشيئة أبي، التي أخضعت لها نفسي في صلاتي طوال الليل، وإذ أنتم نيام. فيسوع كان مستعداً لصنع مشيئة الله، ولم يعارضها مستعنفاً. أما التلاميذ فما كانوا مستعدين لمقاومة التجربة، وسقطوا إلى فداء النفس بالنفس، دفاعاً وقتالاً. فلم يعرفوا أن العالم لا يفدي بالعنف والقتل، بل بالتضحية بالذات واحتمال الموت.

وأخذ يسوع بيده الأذن الدامية المقطوعة، وأعادها إلى مكانها في رأس عدوه. فالتصقت كحالتها رأساً وتوقف نزيفها الجاري، وزال الألم. فسمع هذا المعافى كلمات مخلصه وشافيه. ليت أولئك الجنود الحراس أدركوا هذه العجيبة الأخيرة ليسوع. أن يسوع قد أحب أعداءه عملياً حتى المنتهى. فالرب نفسه شفى الذين قبض عليه. فهل تدرك أنت الآن، من هو يسوع، وما هي أعماق محبته الإلهية؟

ولما رأى التلاميذ، أن القادر على كل شيء سمح بوضع السلاسل الحديدية في يديه والقبض عليه، تجمدت عقولهم، ولم يعرفوا يميناً أو يساراً فهربوا. وأشعلت مشاعل عديدة آنذاك، وتقدم رؤساء الكهنة وضباط الحرس والشيوخ بلحاهم الطويلة. أولئك الذين كانوا مستخفين، حتى تيقنوا من نجاح الجنود في القبض على يسوع. فجاءوا عند ذالك باعتداد المنتصر ودينونة الحاكم. وكلمهم يسوع كأنما يسألهم: لماذا جئتم برماح وسيوف وعصي؟ هل تخافون مني أو أبدو لكم كلص؟ ألم تدركوا بعد وداعتي وتواضعي ومحبتي؟ إني وقفت يومياً أمامكم، معلماً في صحن الهيكل. ولم أهرب منكم، رغم علمي بقصدكم. فلماذا لم تقبضوا هنالك عليّ؟ إنكم لجبناء محتاجون لليل والاستخفاء بعملكم الشرير. وحتى الآن لم تستطيعوا القبض عليّ، لأن ساعتي لم تكن قد أتت بعد.

ولكن ها الآن، فإنكم لستم أنتم بالحقيقة القابضين عليّ لأن الله هو الذي سمح، وسلمني لأيديكم، وأنا موافق لتخطيط إرادته. الآن يطفح خبثكم ظاهراً. فهذه الساعة إعلان عن حقيقتكم الخاطئة، وبيان لنضوجكم نحو الدينونة. فلستم أنتم العاملين، بل أنتم آلات مسكينة في يد أبيكم الشيطان. فهو يدفعكم للمنكرات، فتأتون بقناع التقوى الشديدة بأنوار كثيرة لتضيئوا الظلمة، ولكنكم بالحقيقة تنشرون الليل الدامس، والظلم المقشعر وألوية جهنم. فالآن يسيطر سلطان الظلمة، ويستحوذ على الحق لتغطيتي. ولكنه سيتحطم بوداعتي، لأن المحبة والحق أقوى من العنف والاغتصاب.

الصلاة: نشكرك أيها الرب يسوع لأنك لم تهرب بل سلمت نفسك لأيدي الحرس، الذين قبضوا عليك، لتكمل فداءنا. علّمنا الوداعة ومحبة أعدائنا ومعرفة إرادة أبينا السماوي في كل لحظة. وامنحنا القوة لنتبعها.

8 - إنكار بطرس وندامته (22: 54 - 62)

22: 54 فَأَخَذُوهُ وَسَاقُوهُ وَأَدْخَلُوهُ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ. وَأَمَّا بُطْرُسُ فَتَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ. 55 وَلَمَّا أَضْرَمُوا نَاراً فِي وَسَطِ ٱلدَّارِ وَجَلَسُوا مَعاً، جَلَسَ بُطْرُسُ بَيْنَهُمْ. 56 فَرَأَتْهُ جَارِيَةٌ جَالِساً عِنْدَ ٱلنَّارِ فَتَفَرَّسَتْ فيهِ وَقَالَتْ: «وَهٰذَا كَانَ مَعَهُ». 57 فَأَنْكَرَهُ قَائِلاً: «لَسْتُ أَعْرِفُهُ يَا ٱمْرَأَةُ!» 58 وَبَعْدَ قَلِيلٍ رَآهُ آخَرُ وَقَالَ: «وَأَنْتَ مِنْهُمْ!» فَقَالَ بُطْرُسُ: «يَا إِنْسَانُ، لَسْتُ أَنَا!» 59 وَلَمَّا مَضَى نَحْوُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَكَّدَ آخَرُ قَائِلاً: «بِٱلْحَقِّ إِنَّ هٰذَا أَيْضاً كَانَ مَعَهُ، لأَنَّهُ جَلِيلِيٌّ أَيْضاً». 60 فَقَالَ بُطْرُسُ: «يَا إِنْسَانُ، لَسْتُ أَعْرِفُ مَا تَقُولُ». وَفِي ٱلْحَالِ بَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ صَاحَ ٱلدِّيكُ. 61 فَٱلْتَفَتَ ٱلرَّبُّ وَنَظَرَ إِلَى بُطْرُسَ، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلامَ ٱلرَّبِّ، كَيْفَ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ ٱلدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاثَ مَرَّاتٍ». 62 فَخَرَجَ بُطْرُسُ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرّاً.

لقد برهن بطرس جرأته وبطولته في الجنينة لما استل سيفه وضرب الجندي العبد. ولما منعه ربه من الكفاح بالسيف، أطاعه رأساً ظاناً أن الرب أراد بذلك، أن يثبت أنه المسيح بإحضار جيوش الملائكة، لنصرته وتحريره وهداية الرؤساء للسجود له. فيحل ملكوت الله في محور المجلس الأعلى.

وبهذه الحالة الانتصارية، فلا يريد بطرس أن يكون بعيداً، بل على مقربة، لينال مركز وسلطة رئاسة الوزراء. فتسلل زعيم التلاميذ خلف الجمع الضاج من وادي قدرون، ودخل معهم من باب المدينة المحروسة، صاعداً خلفهم الدرج المرتفع. ووصل أخيراً مستخفياً إلى دار رئيس الكهنة.

وبينما كان الحكام الدينيون يستجوبون يسوع عن تلاميذه وتعليمه وجاءوا بشهود زور، ليدمغوه بمخالفة الشريعة، جلس بطرس في فسحة الدار وقلبه مضطرب وممتلئ تساؤلاً. ولكنه تظاهر بالاطمئنان. وأصغى لأحاديث الحراس واستهزائهم بالملك الوديع. وسمع لعناتهم على ذلك التلميذ المجنون، الذي قطع أذن زميلهم العبد، والذي شفاه هذا السجين الغريب.

وفجأة اشتبهت جارية ببطرس على وهج النار. فتفرست فيه، وتأكدت قائلة بصوت عال فوق الجلوس: انتبهوا؟ هذا الذي في وسطكم جاسوس، إنه من جماعة يسوع. فهذه العبارة نخزت بطرس في القلب، وخطر له القفز والهرب. ولكنه عاد فضبط أعصابه، وأجاب بسطحية ولا مبالاة، كأنه لا يهمه شيء: لا. لا أعرفه البتة. ماذا تقولين؟ أنت غلطانة! فالتفت الجميع إليه عند سماعهم اتهامها وجوابه المنكر. ولكنه تظاهر بهدوء البال والبراءة المسكينة. إنما أعصابه كانت مهتزة ومتيقظة، كنمر يشم خطراً محدقاً به.

ورغم إنكاره، فقد ابتدأ الحراس يلاحظونه بدقة وأحدهم كان أيضاً قد أرى بطرس في الهيكل مع الرب. فكرر اتهام الجارية وقولها. فاغتاظ بطرس ثانية، وجاوب بحدة وإيجاز وأنكر علاقته بيسوع مكرراً وحلف بصدق كذبه (مرقس 14: 55-72).

واستمر استنطاق يسوع في دار رئيس الكهنة. وسألوه خصوصاً عن شركائه. فلم يجاوبهم يسوع بكلمة واحدة، أما وتلميذه الأول قد صاح في ساحة الدار، إنه لا يعرف الناصري وليس من جماعته. فقد وقعت واقعة التجربة التي نبأه بها يسوع سابقاً. ولكن التلاميذ كانوا قد ناموا وما استعدوا للآلام وللإيمان بإرشاد الله في كل لحظة، والقيام بالشهادة الحقة في حكمة. فكذب بطرس ورفض ربه، وجدف بحلف كاذب.

هكذا سقط بطرس سقوطاً عظيماً، وحاول ساعة كاملة أن يخرج من الباب، دون أن يلاحظه أحد. وفي هذه الأثناء رآه ثالث، وتفرس فيه بدقة. وأكد أن هذا الرجل هو جاسوس للناصري، لأنه يتكلم اللهجة الجليلية. فلعن بطرس نفسه إن كان يعرفه أو كانت له علاقة في كل هذه القضية.

وفي هذه اللحظة صاح الديك، الذي أخبره عنه يسوع في رحمته سابقاً. لأنه عرف قلب بطرس، الذي يفور سريعاً، عالماً أن الثقة بالذات لا تخلصنا في ساعة التجربة، بل الاتكال على الرب وحده. ونخز صياح الديك أذن بطرس، كصوت بوق الدينونة الأخيرة. واخترق اضطرابه ومراءاته، فتطلع بطرس إلى يسوع، الذي قاده الجنود من بيت إلى آخر عبر الدار في هذه اللحظات الحاسمة. ويسوع التفت وسط حراسة نحو بطرس، وتطلع في عينيه. وهذه النظرة من ابن الله إلى بطرس حطمته وأدانته وأعلنت فساده وخبثه لآخر عمق.

فانكسر سمعان وخجل لأنه أدرك عدم قدرته لعمل صالح. ولم يؤمن بنبوة يسوع حقاً، فأدرك سوء إنكاره والهلاك المحتوم عليه، وإنه ليس أصلح من الآخرين. فذابت نفسه المفتخرة خجلاً وخزياً، وانتهى اتكاله على ذاته، وملأت الندامة المرة قلبه المفجوع، وركض من الباب المفتوح الآن، وبكى بكاء مراً. فانكسار بطرس كان فوز يسوع العظيم في تلك الليلة، لأنه حرر أكبر تلاميذه من الاعتداد والإيمان بالذات، وأراه عمق الشر المتأصل في نفسه. فلهذا هدت دموع الندامة بطرس إلى حياة جديدة مبنية على النعمة فقط.

أيها الأخ هل تطلعت مرة إلى عيني يسوع، فاخترق قلبك ولم تؤمن بقدرتك الخاصة، بل ارتميت تائباً إلى قدمي يسوع مخلصك.

الصلاة: يا رب أنا متكبر متكل على نفسي، منافق جبان رعديد. لا ترفضني، وحررني من قيود ذنوبي. علمني أن أصبح شاهداً أميناً لأجلك في كل تواضع وحكمة، لكيلا أعمل ما أريد أنا، بل ما أنت تريده، وأتقوى بقدرتك، لأن قوتك تكمل في ضعفي.

9 - يسوع أمام المحكمة الدينية (22: 63 -71)

22: 63 وَٱلرِّجَالُ ٱلَّذِينَ كَانُوا ضَابِطِينَ يَسُوعَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَهُمْ يَجْلِدُونَهُ، 64 وَغَطَّوْهُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَيَسْأَلُونَهُ: «تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ ٱلَّذِي ضَرَبَكَ؟» 65 وَأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً كَانُوا يَقُولُونَ عَلَيْهِ مُجَدِّفِينَ. 66 وَلَمَّا كَانَ ٱلنَّهَارُ ٱجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ ٱلشَّعْبِ: رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ، وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ 67 قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمسِيحَ فَقُلْ لَنَا». فَقَالَ لَهُمْ: «إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لا تُصَدِّقُونَ، 68 وَإِنْ سَأَلْتُ لا تُجِيبُونَنِي وَلا تُطْلِقُونَنِي. 69 مُنْذُ ٱلآنَ يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ قُّوَةِ ٱللّٰهِ». 70 فَقَالَ ٱلْجَمِيعُ: «أَفَأَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُوَ». 71 فَقَالُوا: «مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شَهَادَةٍ؟ لأَنَّنَا نَحْنُ سَمِعْنَا مِنْ فَمِهِ».

لم يخبرنا البشير لوقا كل التفاصيل عن المحاكمات الثلاث ليسوع المسيح أمام الهيئات الدينية. فالأولى جرت مساء، في بيت رئيس الكهنة السابق حنان (يوحنا 18: 19-24). والثانية جرت ليلاً أمام قيافا ونخبة المجمع (متى 26: 59-68). والثالثة جرت صباحاً في المجمع الكامل بكل نواب الأمة. ويرتكز لوقا على هذا الاجتماع الأخير الرئيسي الذي أثبت رسيماً الحكم المقرر السابق (متى 27: 1).

وبعد الاجتماع الثاني أخذ الحراس يسخرون من يسوع المقيد واستهزأوا به. وايضاً قيافا وسائر النواب استهزأوا بيسوع وضربوه غيظاً، وجلد الحراس ظهره بسياط الجلد، وجدفوا على الذي عرف من قبل كل كلمة صادرة من فم الإنسان في هذه الليلة، حتى أنه أنبأ بصياح الديك ليوقظ بطرس المنكر. فجرب الجند هذا العليم، ليبرهن لهم أنه نبي. وصفعوه مراراً على وجهه اللطيف. ولم يعرفوا ماذا يعملون. إنهم ضاربو الله في وجهه، ولاطموه مراراً. ولم يقل المسيح كلمة واحدة، بل تألم من تعدي الناس، الذين يحبهم. وأحبهم إلى المنتهى، عالماً أنه قد حانت الساعة، لإعلان كل شرور البشر. وأنهم مطيعون سلطان الظلمة كعبيد. فصلى للذين لعنوه.

وفي الصباح الباكر اجتمع أعضاء المجمع الأعلى اليهودي المؤلف من سبعين عضواً، الذين استدعاهم قيافا من أورشليم ومحيطها بسرعة. وبينهم كان رجال وجهاء من عشيرة رؤساء الكهنة القوية، والفقهاء اللاهوتيون، والقضاة، والمدعون العامون، والمحامون، والفريسيون الفخورون، والصدوقيون المتحررون، والنواب من كل بيت محترم، والمحترمون من الشعب. الكل تراكضوا، ليروا المعلم الشعبي، والطبيب المعجز، والشاب الريفي الجليلي، ليروه ويدينوه. ولم تبدأ الجسلة بأسئلة تمهيدية بل فتحوا اجتماعهم رأساً بالشكوى الرئيسية على يسوع، التي أوضحها قيافا في الليل، واعترف بها يسوع. فسألوه مبتسمين: أأنت المسيح المنتظر؟ وكان واقفاً أمامهم، مقيداً مضروباً مجلوداً مبصوقاً عليه، بلا عون ولا جند ولا شهادات عليا ولا عشيرة قوية. إنه صورة مسكينة. فلم يتجادلوا معه، لأنهم لم يعتبروه مهماً، بل أرادوا أن يسمعوا بسرعة من فمه الشهادة، إنه المسيح، ليستطيعوا رسمياً الحكم عليه بسرعة.

أما يسوع، فدان عدم إيمانهم، وطلب منهم الثقة في كلماته. عالماً أن المستمعين لم يطلبوا الحق، بل قرروا سلفاً إبادته، وأرادوا المحافظة على العدل رياء. وبسهولة قدر المسيح أن يسألهم عن علمهم بالكتاب المقدس، ويبرهن لهم من التوراة، أنه المسيح الحق. ولكن كل هذا لم ينفعه ضدهم، لأنهم قصدوا عازمين قتله، لا تركه.

عندئذ انتصب يسوع، واخترقهم بعينيه، ونظر من خلال الوجوه الفارغة، ورأى حتى خلف موته على الصليب وأبصر أكثر إلى السماء ناظراً أباه والعرش المعد لأجله عن يمينه. فشهد بهذه الحقيقة المقدسة على نواب إسرائيل. وكل الحضور علموا من سفر دانيال 13 ، أن الاسم ابن الإنسان يعني ابن الله بالذات، الذي دفع إليه كل السلطان في السماء وعلى الأرض، ليمارس الدينونة على الجميع. وعرفوا أيضاً هؤلاء المثقفون ما ذكر في المزمور 110: 1 حيث يقول الرب للرب: اجلس عن يميني، حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فيسوع وحد هاتين الآيتين في جوابه الدفاعي وكشكوى على قضائه. وطلب لآخر مرة من ممثلي شعبه أن يؤمنوا به، ويسجدوا ويخضعوا له وإلا فإن شهادته تعني دينونتهم وإبادتهم وهلاكهم.

اغتاظ النواب السبعون من الشاب الريفي (المقيد أمامهم)، الذي تجرأ وتجاسر أن ينطق بهذه العبارات عليهم. ولكنهم ضبطوا أنفسهم بأعين حاقدة، وسألوه بغيظ وحقد جملة ماكرة واحدة، ليقودوه من المثل إلى الاعتراف بأنه هو هو، لكي يقدروا أن يحكموا عليه، هل أنت ابن الله؟ فاليهود لم يستعملوا عادة كلمة الله. وذلك احتراماً لجلالة القدوس. ولكنهم رتبوا سؤالهم ذاكرين الله بشكل واضح وبتحايل يجعل الإجابة بالإيجاب تجديفاً مضاعفاً.

ونظر المسيح فيهم، وجاوبهم جواباً قاطعاً، كأنما هو يقول لهم: إني أقول الحق، وأنتم لا تؤمنون بي. لست أنا قلت، إني ابن الله، لأن هذا الكيان منذ الأزل حقيقي خارج الشك والبحث. إن امتيازي وشهرتي إنني أصبحت ابن الإنسان، وتواضعت إلى مستوى البشر. نعم أنا ابن الله في هيئة ابن الإنسان، إله من إله، نور من نور، إله حق، مولود غير مخلوق، ذو جوهر واحد مع الآب. والقادر على كل شيء أبي. أما أنتم فتكونون مخلوقين فانين، مستسلمين لأب آخر هو الشيطان الرجيم.

عندئذ انتفض الجمع ساخطين ومتأكدين إن هذا الواقف أمامهم مجدف مضل مختل، وإن حكمهم عليه سريعاً هو الطريق الوحيد الذي يخلصهم من غضب الله. فامتنعوا عن كل استفهام وشهود وامتحان لشهادتهم لأن الجمع كله سمع كلمة التجديف الصراح، إن لله ابن. فهم عمي متقسون أغبياء، رغم أنهم نخبة الشعب والأكثر تقوى وثقافة وغنى. ولم يدركوا دينونة المسيح عليهم البتة.

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، أنت إله حق من إله حق. نسجد لك ونشكرك لأنك أصبحت إنساناً حقاً من مريم العذارء، وخلصتنا بحق محبتك. نعظمك لأجل شهادتك أمام المجمع، ونكرس أنفسنا لك شكراً لآلامك. اغفر لنا حيث ذنوبنا ضربت وجهك، وقدسنا في اتباعك. وافتح أعين كثيرين، ليروك ومجدك عن يمين الآب.

10 - يسوع في المحاكمة الدينية أمام بيلاطس وهيرودس (23: 1 - 25)

الأصحاح الثالث والعشرون: 1 فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلاطُسَ، 2 وَٱبْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: «إِنَّنَا وَجَدْنَا هٰذَا يُفْسِدُ ٱلأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ». 3 فَسَأَلَهُ بِيلاطُسُ: «أَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟» فَأَجَابَهُ: «أَنْتَ تَقُولُ». 4 فَقَالَ بِيلاطُسُ لِرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْجُمُوعِ: «إِنِّي لا أَجِدُ عِلَّةً فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ». 5 فَكَانُوا يُشَدِّدُونَ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ يُهَيِّجُ ٱلشَّعْبَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئاً مِنَ ٱلْجَلِيلِ إِلَى هُنَا».

تسلط الرومان على فلسطين وحوض البحر الأبيض المتوسط كله في زمن يسوع. وأخذوا الحق من الملوك والمجمع الأعلى بالحكم بالموت لئلا يبيد اليهود أصدقاء الرومان في أحكامهم، ويحرروا أعداء الاستعمار. فكان بيلاطس واعياً من أول لحظة، لما أتى رؤساء الشعب إليه بيسوع مشتكين عليه. وصوروا له يسوع كرجل سياسي خطر، وأرادوا من هذا الادعاء إبادته، حباً بالأمة وخدمة للرومان. فسموه ثائراً مفسداً معارضاً مهيجاً الشعب لكيلا يدفعوا الجزية للقيصر. وهذا القول كان كذباً واضحاً، لأن يسوع أمر بحكمة كبرى أن يدفعوا ما لقيصر لقيصر (لوقا 20: 25). وأخيراً أبرز المجمع الأعلى أن الشاب من الناصرة يسمي نفسه ملكاً آتياً من الله، ليقيم ملكوتاً عالمياً محوره أورشليم.

وكان بيلاطس يعلم أن اليهود ينتظرون مسيحاً بتشوق. وقد حكم عدة مرات على ثائرين، مدعين أنهم المخلص المنتظر.

وحيث كان الوالي شبعاناً من ثرثرة اليهود، فقد التفت ووجه الخطاب مباشرة إلى يسوع، وسأله ليس عن لقبه المسيحي بل: هل أنت ملك اليهود؟ فجاوبه يسوع على هذا السؤال الموجز بقوله: نعم كما تقول. فأبوه أرسله ليصلح الأمة الضالة، ولكن لم تصطلح وظلت فاسدة قاسية القلب، حتى رفضت ملكها وهدفت قتله بعنف.

لقد أراد المسيح إنشاء مملكة المحبة والحق بدون سيف أو جنود أو جزية. عندئذ اعتقد الوالي الروماني أنه بسرعة قد عرف من هو يسوع، وابتسم للملك الوديع، وعلم أن هذا النوع من الملوك، لا يضر روما، غير شاعر أنه بعد ثلاثمائة سنة من هذا التاريخ، ستخضع الدولة الرومانية كلها للملك يسوع المسيح، وتسجد له. فأثبت بيلاطس لأول مرة في جلسته جهراً، أن يسوع الناصري هو بريء، لأنه لم يؤذ الراحة في البلاد بتبشيره. فمشكلته كانت دينية، غير سياسية.

ولكن المشتكين عليه والغوغاء المشترين، ألحوا أن يسوع مهيج للشعب كله، ومالئ بتعاليمه الشكوى أنه لم يرتح في المدن الفخمة فقط، بل ذهب إلى القرى، وبشر المساكين في البراري.

23: 6 فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاطُسُ ذِكْرَ ٱلْجَلِيلِ، سَأَلَ: «هَلِ ٱلرَّجُلُ جَلِيلِيٌّ؟» 7 وَحِينَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ سَلْطَنَةِ هِيرُودُسَ، أَرْسَلَهُ إِلَى هِيرُودُسَ، إِذْ كَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْكَ ٱلأَيَّامَ فِي أُورُشَلِيمَ. 8 وَأَمَّا هِيرُودُسُ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ فَرِحَ جِدّاً، لأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَنْ يَرَاهُ، لِسَمَاعِهِ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَتَرَجَّى أَنْ يَرَى آيَةً تُصْنَعُ مِنْهُ. 9 وَسَأَلَهُ بِكَلامٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ. 10 وَوَقَفَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ بِٱشْتِدَادٍ، 11 فَٱحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَٱسْتَهْزَأَ بِهِ، وَأَلْبَسَهُ لِبَاساً لامِعاً، وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاطُسَ. 12 فَصَارَ بِيلاطُسُ وَهِيرُودُسُ صَدِيقَيْنِ مَعَ بَعْضِهِمَا فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ، لأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ قَبْلُ فِي عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا.

وكانت بلاد الجليل التي منها يسوع، خاضعة وتابعة لسلطة الملك هيرودس. فأرسل بيلاطس المتهم إلى الملك العميل، وشهد بهذا ان يسوع غير مستحق الموت، بل واقع تحت محاكمة سلطة هيرودس أنتيباس، الذي ليس له حق أن يحكم بالموت.

وهذا المليك الزاني قاتل يوحنا المعمدان، والعائش في الرفاهية والمجون، حاول عدة مرات أن يستغل يسوع، ويربطه إلى أتباعه، رمزاً لاستحقاقه الإلهي. فكان ليسوع من هذه المقابلة فرصة فريدة ليتحرر بواسطة هيرودس إن خضع لهذا الثعلب. فسأله الملك أموراً كثيرة بمداهنة وتلطف كبير. أما يسوع فصمت، ولم يجب القاتل الزاني. وصمته عني دينونة. فويل للذي لا يسمع كلمة الله فيما بعد، لأن صمت الله بليغ كتكلمه. وقد أدان يسوع البطر السطحي بجلال صمته معلناً مجده الإلهي. وهذا كان العجيبة المعجزة، التي قدمها يسوع للملك. لقد كان عكس ما انتظره الحاكم.

فاستهزأ عند ذاك هيرودس مغيظاً محتقراً يسوع، وألبسه ثوب مهرج بشكل ملك للسخرية عليه، وأرسله بهذا اللباس ماشياً في كل أورشليم، نحو الوالي، بهذه الحالة المزرية. وفهم بيلاطس النكتة رأساً. والشيء الغريب، أن هذا الخضوع للاعتراف بالسلطة الرومانية قرب الوالي للملك البسيط حتى صارا صديقين. فكلاهما ضحكا على اليهود المتعصبين المتدينين، وعلى الملك المسيح المجنون، الذي كان بدون أسلحة. وحتى اليوم فإننا نجد الشيء الغريب، أن الأحزاب المضادة والأديان المختلفة والمذاهب المتعارضة، تتحد ضد المسيح، لأن من ليس معه، فهو ضده، منقاداً من سلطان الظلمة.

الصلاة: أيها الرب أنت ملكي. أسجد لك وأخضع لأوامرك. أنت وديع محب غافر. اجعلني وديعاً صابراً خادماً سموحاً لأصبح أهلاً لمكلوتك، وأنشره رغم الاستهزاء والاضطهاد لتعظيم اسمك الفريد.

23: 13 فَدَعَا بِيلاطُسُ رُؤَسَاءَ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْعُظَمَاءَ وَٱلشَّعْبَ، 14 وَقَالَ لَهُمْ: «قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ ٱلشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. 15 وَلا هِيرُودُسُ أَيْضاً، لأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَا لا شَيْءَ يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ صُنِعَ مِنْهُ. 16 فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ». 17 وَكَانَ مُضْطَرّاً أَنْ يُطْلِقَ لَهُمْ كُلَّ عِيدٍ وَاحِداً، 18 فَصَرَخُوا بِجُمْلَتِهِمْ قَائِلِينَ: «خُذْ هٰذَا وَأَطْلِقْ لَنَا بَارَابَاسَ!» 19 وَذَاكَ كَانَ قَدْ طُرِحَ فِي ٱلسِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ حَدَثَتْ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَقَتْلٍ. 20 فَنَادَاهُمْ أَيْضاً بِيلاطُسُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُطْلِقَ يَسُوعَ، 21 فَصَرَخُوا: «ٱصْلِبْهُ! ٱصْلِبْهُ!» 22 فَقَالَ لَهُمْ ثَالِثَةً: «فَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ هٰذَا؟ إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهِ عِلَّةً لِلْمَوْتِ، فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ». 23 فَكَانُوا يَلِجُّونَ بِأَصْوَاتٍ عَظِيمَةٍ طَالِبِينَ أَنْ يُصْلَبَ. فَقَوِيَتْ أَصْوَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ. 24 فَحَكَمَ بِيلاطُسُ أَنْ تَكُونَ طِلْبَتُهُمْ. 25 فَأَطْلَقَ لَهُمُ ٱلَّذِي طُرِحَ فِي ٱلسِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ وَقَتْلٍ، ٱلَّذِي طَلَبُوهُ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ.

لم يرد الوالي الروماني حدوث شغب في الشعب، لأنه قد حدث في روما من قبل محاولة انقلاب في قصر القيصر، وربما أفشلت بسبب معلومات، وصلت لجماعة القيصر من قبل اليهود. فإذ ذاك لزم بيلاطس الهودء والمصادقة مع كل الفرق اليهودية. وكان مستعداً لينفذ إرادتهم، لكيلا يشتكوا عليه لروما، إنه موظف غير أمين.

فدعا بيلاطس بكل اعتداد عظماء الشعب وروؤساء الكهنة، وسمح لكثير من الشعب بالحضور كشهود، ووقف قبيل عيد الفصح اليهودي، ملقياً خطابه مثبتاً رسمياً، أن يسوع ليس مجرماً بل بريئاً. وإنه يريد إطلاقه. وقد فحص القضية بدقة أمام ممثلي المجمع الأعلى. وأخبر الآن بنتيجة التحقيق من قبل الخبراء رسمياً، إن يسوع هو رجل مسالم، فكل الشكاوى عليه ظهرت كذباً فارغاً. واستند بيلاطس في ذلك القرار على حكم هيرودس المواطن، الذي علم تقاليد البلاد أكثر منه. وهذا الثعلب أعاد يسوع إليه كمهرج بسيط.

وكان بيلاطس مستعداً لمسايرة اليهود بأن يجلد يسوع، وظن أن ترتيباً من هذا النوع برضى الجماهير، وبنفس الوقت يخوف المتهم. فلا يستمر في دعوته وتبشيره. وزيادة على ذلك، حاول بيلاطس المتقلب، أن يجعل الشعب بنفسه مسؤولاً عن القرار النهائي. وخولهم امتياز العفو، الذي كان الرومان يتيحونه لليهود بمناسبة عيد الفصح، أن يتركوا لهم سجيناً. وبهذه الطريقة تمنى ممثل الحق المدني، أن صوت الشعب سيختار يسوع الوديع الإنسان المثالي. ولكن الجماهير صرخت بصوت واحد: اطلق لنا البطل الثائر القاتل، باراباس العظيم. أما الهادئ والداعي للتوبة والرجوع، فابقه لك. والغريب أن اسم القاتل باراباس، معناه ابن الآب. ولكن الابن الحقيقي للآب السماوي رفضوه، لأنه ليس شعب ثابت في الله. وصوت الأمة ليس صوت الرب. كلنا غير صالحين ومائلون للشر. فحكم الشعب دائماً دنيوي عالمي، وليس إلهياً أزلياً.

وبعد هذا الصراخ والضجيج، حاول بيلاطس مرة أخرى، أن يرفع صوت الحق وإقناع المسؤولين، أن سفك الدم ساعة قبل الفصح ليس إنسانياً.

عندئذ ماجت الجماهير الشعبية ملتحمة بنفس واحدة، صارخين بالشعار الذي أطلقه فيهم رؤساء الكهنة، ورددوا بصوت واحد: اصلبه اصلبه! ولم يكن الموت بالصلب عادة يهودية، بل قصاصاً رومانياً، لمن فر من عبيدهم، أو من قبضوا عليه من المجرمين الرومانيين. أما المواطن الروماني المحكوم بالموت، فيقطعون رأسه بالسيف. وهكذا نجد أن موت العار على خشبة اللعنة، كان يوقع على المجرمين الغرباء عن الجنس الروماني.

وعلم بيلاطس أن يسوع الوديع بريء، وغير مستحق موت الصليب، فقال جهراً: إذا استطاع أحدكم أن يأتي بأدلة لإدانته، فليأت بها، إن كان من الصادقين. ورغم معرفته ببراءة يسوع، كان بيلاطس اللين مستعداً ليجلد البار، لإرضاء الغوغاء، ويطلق يسوع بعدئذ.

لكن الجماهير ابتدأت تضطرب، وتتحرك مغيظة، وأشبهت الوحوش التي ذاقت الدم، فاشتاقت إلى فريسة جديدة، وصرخت بأعلى صوتها: اصلبه اصلبه!

ولم يتوقف الشعب عن هذا الصراخ، حتى خضع بيلاطس لمشيئتهم، خائفاً حزيناً. ولم يكن الوالي مستعداً، ليضحي بوظيفته كرامة للحق، بل فضل أن يطلب الثائر العدو للرومان. وحكم على رئيس السلام بالموت على الصليب. فكان هذا الحكم جريمة شريعة، وهو يعني بنفس الوقت إن رب السماء حكم عليه من ممثل الأرض ظلماً. فالحق الإنساني كان آنذاك نوعاً عادلاً، لكن الحاكم القاضي هو الذي فشل في إحقاق الحق، لأنه كان أنانياً مثلنا. ففكر لو كنت مكان بيلاطس، هل كنت تعرض نفسك لخطر افتراسك من الشعب الهائج، لأجل شاب مسكين غير مهم؟

الصلاة: أيها الرب، أنت القدوس البار بدون خطية. نعظمك ونستغفرك لأننا نعلم الحق، ونعمل الظلم، لأسباب شخصية. اعطنا جبيناً كفولاذ، لنصبح قاسين في المحبة، ونفضل أن نتألم من الظلم على أن نعمله.

11 - صلب يسوع وموته (23: 26 - 49)

23: 26 وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ أَمْسَكُوا سِمْعَانَ، رَجُلاً قَيْرَوَانِيّاً كَانَ آتِياً مِنَ ٱلْحَقْلِ، وَوَضَعُوا عَلَيْهِ ٱلصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ. 27 وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلشَّعْبِ، وَٱلنِّسَاءِ ٱللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضاً وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ. 28 فَٱلْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: «يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لا تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ٱبْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلادِكُنَّ، 29 لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَٱلْبُطُونِ ٱلَّتِي لَمْ تَلِدْ وَٱلثُّدِيِّ ٱلَّتِي لَمْ تُرْضِعْ. 30 حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: ٱسْقُطِي عَلَيْنَا وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا. 31 لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِٱلْعُودِ ٱلرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هٰذَا، فَمَاذَا يَكُونُ بِٱلْيَابِسِ؟».

إن جيش الرومان اشتمل على أوروبيين وإفريقيين وأسيويين. وفد مزقوا ظهر ابن الله بسياطهم الجلدية المربود بها قطع من حديد معقوف لكشط الجسم. وأجبروه أن يحمل صليبه الثقيل، رغم إعيائه. وهكذا مثل يسوع بنفسه الرمز، الذي وضعه نصب أعيننا بقوله: إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني، علماً أنه كان بريئاً وغير مستحق الصليب. أما نحن فمذنبون مستحقون غضب الله، ولكن يسوع التعب الضعيف، لم يستطع أن يحمل الصليب طول الطريق، رغم استعداده. فهذا يعني تعزية لنا، إن فكرنا بعجزنا عن حمل المشاكل الموضوعة علينا.

وعند ذاك أجبر الجند رجلاً يهودياً قيروانياً راجعاً إلى بيته، أن يحمل صليب المسيح الرازح على ظهره، بدون اهتمام للطقوس، التي تقول بتنجيس من يلمس صليب المجرمين. ولكن حمل صليب المسيح سبب لسمعان وبيته خلاصاً عظيماً، لأن ابنا سمعان ذكرا في الإنجيل مرتين مؤمنين شاهدين للمسيح (مرقس 16: 13 ورومية 15: 21) وهذا يكون تعزية أخرى لنا، لأن من يحمل الصليب في سبيل المسيح، يختبر أن المسيح يشاركه في حمل أثقاله.

ومشت خلف يسوع واللصين اللذين كانا معه، النساء اللواتي بكين كثيراً. وأخذن يلطمن رؤوسهن ووجوههن وينحن على ملك المحبة. فنرى من هذا كله، أنه ليس شعب اليهود بأجمعه عزم على إهلاك يسوع، بل الزعماء المتدينون، الذين حسدوه، وحرضوا قسماً من الجماهير، ودبروا مكيدة بصراخ الغوغاء، للحكم عليه بالموت.

وشعر يسوع بشفقة النساء المستقيمات عليه، وجاوب صوت محبتهن رأساً. وظهر أنه ما كان يفكر بموكب آلامه بنفسه، بل بغضب الله الساقط على شعبه. فأمر الباكيات ألا يبكين لأجله، بل على أنفسهن وأولادهن. فقد رأى مطمئناً طريقه الخاص المؤدي إلى المجد. ولكن تألم كثيراً لأجل طريق الشعب اليهودي في أتون اليأس والبؤس عبر القرون، لأنهم قالوا دمه علينا وعلى أولادنا. فرأى يسوع وسط آلامه المبرحة ملايين من عظام اليهود النخرة، منتشرة في كل العالم. فكثير من هؤلاء الهالكين تمنوا في معتقلات هتلر أن تغطيهم الجبال وتدفنهم التلال، ولكنهم لم يستطيعوا أن يهربوا من العذاب. وبدلاً من فرح الأمهات بأولادهن كالعادة، تألمن من وجود أطفالهن الجائعين، والذين صاروا طعاماً للنار، بينما العاقرات طوبن أنفسهن، لأنهن لم يلدن، وتحملن الضيق لوحدهن.

وشبه يسوع نفسه بالغصن الأخضر، الذي يستطيع احتمال مرور نار غضب الله، بينما المتكبرون اليابسون الغير التائبين من الأتقياء المرائين الأشرار، شبههم بالحطب الوقود في نار جهنم. ولا تنس أن النبوة تدلنا على الواقعة المقبلة علينا، إن غضب الله مسرع كنار آكلة لسطح كرتنا الأرضية، جاعلة أرضنا أتوناً من آجر محمر. بسبب ظلمات الناس المتبلورة بالحكم على ابن الله وصلبه.

23: 32 وَجَاءُوا أَيْضاً بِٱثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مُذْنِبَيْنِ لِيُقْتَلا مَعَهُ. 33 وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ ٱلْمُذْنِبَيْنِ، وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَٱلآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. 34 فَقَالَ يَسُوعُ: «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ». وَإِذِ ٱقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ ٱقْتَرَعُوا عَلَيْهَا.

لقد وضع البشر قدوس الله في أسفل درجة بشرية، وحسبوه مجرماً بين المجرمين. وجرد الجنود المحتقر المرفوض من المجتمع من ثيابه، رموه أرضاً، وسمروا المسامير الصدئة في يديه المبسوطتين ورجليه المعقوفتين. فهل فهمت هذا القول؟ وبماذا تفكر؟ لو عشت آنذاك هل كنت تصرخ: قفوا، اصلبوني عوضاً عنه، واتركوا البار حراً؟ أنا المذنب وهو القدوس، أو تقف بجانب المشهد بقلب بارد، وتتفرج بلا مبالاة، كيف رفعوا القدوس المحب على خشبة العار، حتى كادت يداه ورجلاه تتمزقان من ثقل جسده كأن ألف سكين تعمل ممزقة جسمه الجريح.

فهل لعن يسوع قاتليه، وهل أدان معذبيه؟ لا ثم لا! بل أنه قد صلى، بصوت صارخ لأجلهم. وعرف نفسه مربوطاً على مذبح العالم، وتلا كرئيس الكهنة المستحق الفريد صلاة الشفاعة: يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون اذا يفعلون.

أيها الأخ تأمل، واسجد. لأن المسيح غلب في جسده المتألم كل جنسنا البشري. ولم يفكر بذاته، وأنكر أوجاعه. وفكر بنا، وتألم من غضب الله علينا. فحمل الله عاش ومات لأجلنا، لا لنفسه، متوسطاً بيننا نحن الخطاة وبين الله القدوس. وسمى المصلوب الله العظيم أباه، عالماً أنه مات حسب مشيئة أبيه، منسجماً مع خطة خلاصه. فلم يرد شيئاً إلا فداء العالم وغفران خطايانا. ومما لا ريب فيه، أن الله قد استمع صلاة ابنه الفريدة، وغفر خطايا الناس جميعاً، في كل الأزمنة والأمكنة نهائياً وتأبيداً. وليس ضرورياً موت المسيح مرة أخرى، بل الخلاص قد تم مرة واحدة نهائياً.

وآنذاك، قد فكر يسوع بك أيضاً. لأنك تكون من الذين لا يعلمون ماذا يفعلون. وكل واحدة من خطاياك وأكاذيبك ونجاساتك، هي تعد على الله القدوس، الذي فضل في محبته السرمدية ألا يهلك، بل يموت عوضاً عنك. افتح عينيك واعرف صليبك. فإن الخشبة التي علق المسيح عليها هي صليبك اللعين أنت المذنب الخاطئ. أما المسيح فمات عوضاً عنك لكي تتحرر من عقوبة الله، وتتبرر بنعمته، وتتقدس بالإيمان بدمه. فهل أدركت معنى الصليب؟ فاسجد لربك. واشكره لغفران خطاياك طيل حياتك.

الصلاة: أيها الفادي القدوس، نسلمك حياتنا وأنفسنا بدون قيد أو شرط، شكراً أبدياً لمحبتك الغير المتناهية. قد خلصتنا بأوجاعك وطهرتنا بدمك الثمين. املأنا بقداستك وامسحنا بمحبتك، لكيلا نبغض أحداً، بل نغفر لكل إنسان كل ذنوبه إلينا، منادين كل الناس للمصالحة مع الله في صليبك.

23: 35 وَكَانَ ٱلشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ، وَٱلرُّؤَسَاءُ أَيْضاً مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «خَلَّصَ آخَرِينَ، فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ ٱلْمَسِيحَ مُخْتَارَ ٱللّٰهِ». 36 وَٱلْجُنْدُ أَيْضاً ٱسْتَهْزَأُوا بِهِ وَهُمْ يَأْتُونَ وَيُقَدِّمُونَ لَهُ خَلاً، 37 قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ ٱلْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ». 38 وَكَانَ عُنْوَانٌ مَكْتُوبٌ فَوْقَهُ بِأَحْرُفٍ يُونَانِيَّةٍ وَرُومَانِيَّةٍ وَعِبْرَانِيَّةٍ: «هٰذَا هُوَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ».

علق يسوع على الصليب وسط عاصفة أوجاعه. وعلى جانبيه لصان، يتلويان معذبين بآلامهما ولاعنين وشاتمين صالبيهما. أما ابن الله، فصلى لأجل أعدائه، وكفر عن ذنوبهم. وقد جلس تحت رجليه فرقة من الجند القتلة، الذي حصلوا على ألبسة المصلوبين كمكافأة لأجل خدمتهم في وظيفتهم المرعبة. وكما في كازينو القمار، هكذا اقترع الجند بالنرد على نصيبهم، بلا شعور ولا حس، بينما كان معطي الفرح الحق، ينزف دمه من جروحه لأجلهم.

ورؤساء الأمة الروحيون كانوا واقفين جانباً، علّ يسوع يعترف أنه ضال، ويصلي بدموع الندامة مستغفراً لكبريائه. ولكنهم سمعوا فجأة الصلاة الشفاعية، التي سمى فيها الله أباه، متوسطاً ومستغفراً لأجلهم، هم الرؤساء المدعي البرارة، فلم يستغفر لنفسه، بل غفر لهم، مثبتاً أنه الإله الحق. فحمقوا واغتاظوا عليه، ليس لقتل جسده فقط، بل لإفناء صيته في الشعب أيضاً ولإبراز ضعفه المبين.

فهؤلاء الأتقياء انساقوا من سلطان الظلمة لتجربة يسوع حتى يتمنى النزول عن الصليب ولو ثانية واحدة، ليبطلوا استحقاقه كحمل الله. هذا هو هدف الشيطان منذ اللحظة الأولى لحياة المسيح، ليبيد فعالية الصليب بواسطة إيقاع القدوس في الخطايا. فجدف الرؤساء على خدمة محبته، واتخذوا من سلطانه أمراً مشكوكاً فيه، وحرضوا إرادته ليخلص نفسه بنفسه، ليبرهن ويثبت بنزوله عن الصليب معجزة خارقة، أنه ابن القدير، مدعين أنهم إذ ذاك يؤمنون به ويصدقونه. وفوق ذلك فإنهم قد جربوا الله نفسه، وسموا المسيح مختاره من بين كل الناس. فأين عون الله للذي اختاره؟ وكلمات من هذا النوع ممتلئة ومشحونة بالبغضة والحقد، تصدر دائماً من جهنم نفسها. وهؤلاء الكتبة قد نسوا الجملة الافتتاحية لسفر المزامير القائلة: طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس.

والجنود الغرباء أيضاً، الذين لم يفهموا اللغة الآرامية جيداً، اشتركوا في الاستهزاء، وقدموا للمعذب خلا، ليزيدوا الحرقة في تعذيبه، وطلبوا إليه النزول عن الصليب، رمزاً لقدرة إله اليهود فيؤمنون به. وقد كانت غاية يسوع، أن يؤمن جميع الأمم واليهود بالإله الحق وابنه الحنون، فينالوا الحياة الأبدية. ولكنه لم ينزل عن الصليب، بل ثبت مصلياً في نار غضب الله، لكي يحررنا حقاً. والمسيح حقاً كان ملك اليهود، كما كان بنفس الوقت رب الأرباب ومالك كل الناس، الذين أحبهم واشتراهم لله بدمه من سوق عبيد الخطايا. وهكذا أصبح كل إنسان ملكاً للمسيح. كلنا نخصه وهو مالكنا الإلهي، إذ نحن ملكه الخاص. فالمسيح هو الملك الحق الفريد. نحن نعيش من مصالحته، أكثر مما نعلم، وبدونه لا نقدر أن نفعل شيئاً حتى ولا تنفساً ولا نوماً ولا أكلاً، لأن بدون المصلوب ينبغي على الله إبادة كل الناس حالاً. فكل المخلوقات تعيش دائماً من ذبيحة المسيح، التي فتحت لنا أبواب رحمة الله وصبره العظيم.

23: 39 وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُذْنِبَيْنِ ٱلْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!» 40 فَٱنْتَهَرَهُ ٱلآخَرُ قَائِلاً: «أَوَلا أَنْتَ تَخَافُ ٱللّٰهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هٰذَا ٱلْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ 41 أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ، لأَنَّنَا نَنَالُ ٱسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هٰذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ». 42 ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: «ٱذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». 43 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ».

أحب المسيح كل الناس سواسية، حتى المجرمين. فكلنا لصوص بمقياس كمال محبة الله. وكل خطية هي جرم شنيع. وفي نور الله سيرتجف كل الناس من استكبارهم. ولكن يوجد فرق بين المجرمين. فبعضهم يتوب، مدركين قباحة عيوبهم، نادمين عليها حقاً، ويخافون من الله الحي. بينما الآخرون لهم قلب قاص، ويجدفون على الله تجديفاً كبيراً فوق ذنبوهم الغليظة، ويجربون محبته بصلوات إلحادية صادرة من روح الجحيم.

فأحد اللصين المصلوبين مع يسوع قال، إنه مستعد أن يؤمن بسلطان المسيح وألوهيته، إن نزل عن خشبة اللعنة، وساعده لينزل هو أيضاً، لأنهم زملاء في الضيق. وتجديف هذا المجرم الملتوي على الصليب، كان صدى لتجديف المارين على يسوع.

ولكن المجرم الثاني، الذي علق معهما على الصليب من الجانب الآخر، كان قد رأى إشراق نور الله في المسيح، لأنه سمع كلماته التي وجهها إلى النساء اللاوطم، وشعر بمحبة المعذب لكل الناس، وأصغى لصلاته التي قالها لغفران ذنوب معذبيه. فشعر هذا اللص أن يسوع، لم يكن إنساناً اعتيادياً، واستيقن ببراءته تماماً، وأدرك من استهزاء الرؤساء الناقمين والجند الساخطين، أن المصلوب الوديع إلى جانبه هو المسيح ابن الله الحي بالذات.

أي عار وخجل لكل البشر! الرؤساء الكهنة والفقهاء والشعب والجند وعامة الخطاة لم يدركوا في هذه الساعة جوهر يسوع. فقط اللص المرفوض شعر بمجده. فمحبة الله المتجسدة في المسيح أنارته، وهو الساقط تحت ثقل الدينونة العادلة الإلهية المقبلة عليه، وقادته إلى التوبة والاعتراف جهراً، حتى امتلأ فمه بالشهادة عن براءة المسيح، وتواضع لصلاة الإيمان بكل خشوع. واللص التائب سمى يسوع الرب وآمن بألوهيته. وطلب منه بعد دخوله إلى السماوات أن يخفض عذابه في جهنم. فإذن كان عالماً أن حصته الهلاك. ولكن ألقى رجاءه تماماً على النعمة. ما قدر أن يقدم أعمالاً صالحة، ولم يرتل تسابيح الحمد على الصليب، بل التمس من يسوع رحمة، وتمسك بقلبه بالرحمن الرحيم، كأنه غارق متمسك بخشبة مارة به، فيخلص.

لن يصلي إنسان مسحوق بمثل هذه الصلاة إلى يسوع إلا ويسمع الجواب نفسه: اليوم تكون معي في الفردوس. فمن ينكسر اليوم أمام يسوع يدخل حالاً الحياة الأبدية. ومن يغفر يسوع ذنوبه يحل رأساً الروح القدس عليه، منشئاً السماء في قلب المطهر.

ويا للعجب! فكثيراً ما يدرك اللصوص هذه النعمة أسرع من المستقيمين، لأن الخلاص يأتينا بالنعمة فقط، لا بالأعمال. إيمانك قد خلصك. فهل أنت لص متبرر أو مجرم في برك الذاتي؟

وفي تلك اللحظة لما آمن من طالب نعمة المسيح، كان فرح في السماء أكثر من ألف بار لا يحتاجون إلى توبة. وخلاص اللص في الصليب بدون معمودية هو رمز لخلاص البشر كله.

الصلاة: أيها الرب يسوع، أنا المجرم، وأستحق الموت على الصليب. لا ترفضني، بل أنرني بقداستك، وقدني للاعتراف بخطاياي ورفضها في قوتك. واغفر لي ذنوبي. وخذني إلى حضنك، لكيلا يفرقني الموت عن محبتك. أنت رجائي الوحيد.

12 - موت يسوع (23: 44 - 49)

23: 44 وَكَانَ نَحْوُ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ، فَكَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى ٱلأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ. 45 وَأَظْلَمَتِ ٱلشَّمْسُ، وَٱنْشَقَّ حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ مِنْ وَسَطِهِ. 46 وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي». وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أَسْلَمَ ٱلرُّوحَ. 47 فَلَمَّا رَأَى قَائِدُ ٱلْمِئَةِ مَا كَانَ، مَجَّدَ ٱللّٰهَ قَائِلاً: «بِٱلْحَقِيقَةِ كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ بَارّاً!» 48 وَكُلُّ ٱلْجُمُوعِ ٱلَّذِينَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِهٰذَا ٱلْمَنْظَرِ، لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ، رَجَعُوا وَهُمْ يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ. 49 وَكَانَ جَمِيعُ مَعَارِفِهِ، وَنِسَاءٌ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَهُ مِنَ ٱلْجَلِيلِ، وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ يَنْظُرُونَ ذٰلِكَ.

خيمت من الساعة الثانية عشرة إلى الخامسة عشرة، من يوم الجمعة العظيمة هذه، ظلمة على كل المنطقة. ولا نعرف إن كان سبب هذه الظلمة عاصفة رملية، أو حادث فلكي، أو تكاثف الأرواح الشيطانية، كما قال يسوع عشية تسليمه، إن سلطان الظلمة يسيطر الآن. فعلق المصلوب في تجربة الشيطان، متجمداً جسده وفاقداً وعيه من شدة آلامه الفائقة على قدرة احتمال الجسد. فلا نعرف إلا قليلاً عن هذه الساعات الثلاث في الحر والضيق. فالمجرب تقدم لنفس ابن الله البريئة ووسوس له: الله تركك، ويبغضك. وأنت خاطئ، لأنك سميت نفسك ابن الله. والآن هأنت ذا تشعر بغضب القاضي العادل. وإني سأخطفك فريسة إلى الجحيم. أنت هالك لا محالة.

وكان الشعور الباطني في يسوع مفعماً بكلمة الله، وقد حفظ آيات التوراة منذ صغره غيباً. وأمه مريم علمته الصلاة الأمينة. والروح القدس ملأ قلبه. وحيث الروح البشري لا يقدر على المشاركة في مصارعة الأرواح، ينوب الروح القدس عن المؤمن بأنات لا ينطق بها. فكم بالحري اختبر المولود من روح الله في ساعة التجربة الهاجمة عليه، رغم ضعف جسده الكامل، وبدون ممانعة تلقائية، أن الروح القدس هو المعزي الإلهي والمحامي القدير، الذي ينوب ويسند المؤمن وينصره باسم الله في كفاح الإيمان إلى النهاية (عب 9: 14).

ونرى نتيجة هذا الكفاح بين السماء والأرض المرتكز في المصلوب، لما انشق الحجاب العالي في الهيكل من فوق إلى أسفل، هذا الحجاب الذي كان يفصل غرفة قدس الأقداس أي مسكن الله عن القاعة المسماة القدس، رمزاً لانتهاء ترتيب العهد القديم نهائياً، وإن كان مؤمن بعد الآن يحصل بإيمانه بالمسيح على حق الدخول إلى الله القدوس مباشرة. فالابن شق لنا الطريق إلى الآب، وصالحنا وأكملنا مرة واحدة. والدخول إلى الله، الذي كان سابقاً من امتيازات رئيس الكهنة مرة في السنة في يوم الكفارة العظيم، أعطي الآن لكل مسيحي في كل الأزمنة والأوقات والأمكنة، فيتقدم بثقة مرشوشاً بدم الحمل إلى عرش النعمة، ويبذل عن نفسه الشكر تالياً لأجل الآخرين ابتهال الشفاعة المستمرة. فالكفاح في نفس يسوع على الصليب قد فتح لك الطريق إلى الله. فأنت مقبول عند القدوس بواسطة دم المصلوب.

إن موت المسيح مقدس. ولنا برهان أن يسوع لم يمت في الشك والكفر والمرارة واليأس، بل ظهر منتصراً ظافراً من الصراع مع الشيطان. فصرخة نصره الأخيرة كانت صلاة الشكر والإيمان مظهرة لنا انسجامه الغير المنكسر مع أبيه. فسمى الخالق، ليس كما سماه المرنم كقاض عظيم بعيد في المزمور 31: 6 «إلهي»، بل خاطبه بقوله: يا أبتاه، مثبتاً في هذا القول وحدته معه في الثالوث الأقدس. إن المسيح قد غلب غضب الله على الصليب. هذا هو المعنى الجوهري للصليب. فمنذ هذا الوقت، لا يدين الله أتباع المصلوب. فقد أباد ابنه عوضاً عنا، أما حمل الله فغلب غضب القدوس بتواضعه ووداعته، ووضع روح نفسه الطاهرة بين يدي الله الغاضب، مؤمناً ومعترفاً أنه ليس إلا أباه المحب. فإيمانه خلصه.

إن المسيح مات حقاً وروحه فارق جسده. ولكن نفسه لم تضل في الوعر الخالي، بل ارتاحت مطمئنة بين يدي الله. والمسيح ثبت دائماً قدوساً وسلطانه لم يقل. ففي لحظة موته لم يجد الموت سلطة عليه بل أنه مات موتنا. أما هو فعاش في الله بدون نهاية.

وفسر لوقا لنا كيف أثرت آلام المسيح وموته على قائد الجند، الذي راقب بتيقظ وانتباه المصلوبين الثلاثة، لكيلا ينزلهم أقرباؤهم عن الصليب، ويصلبوا شبهاءهم بدلاً منهم. فشهد هذا الأممي جهراً، أن يسوع صلب ظلماً، وكان بالحقيقة باراً. وهذه الشهادة الغريبة سمعها وشعر بها كل الحضور، الذين شاهدوا فزعين غضب الله منسكباً على البار، راجين أن صلاة يسوع الشفاعية لا تذهب سدى. فلم يهرب كل تلاميذ يسوع وأتباعه في ساعة الخطر، بل تبعوه من بعيد، خصوصاً النساء اللواتي اقتربن منه قدر الإمكان، ولاحظن بدقة كل كلمة وحركة من المسيح حتى صرخته الأخيرة. فهن قد حفظن لنا آيات المسيح السبع، التي نطق بها على الصليب. وهي جواهر المسيحية الحقة. هل تعرفها غيباً، وفهمتها حقاً، وآمنت بها صدقاً؟

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، حمل الله القدوس. نعظمك ونمجد أباك بروح القدس، لأنك أكملت خلاص كل البشر على الصليب مرة واحدة. ونسجد لك ونشكرك ونحبك ونقدم حياتنا شكراً لك. اقبلنا واحفظنا في كل التجارب، لنثبت واحداً معك بالنعمة.

13 - دفن يسوع (23: 50 - 56)

23: 50 وَإِذَا رَجُلٌ ٱسْمُهُ يُوسُفُ، وَكَانَ مُشِيراً وَرَجُلاً صَالِحاً بَارّاً - 51 هٰذَا لَمْ يَكُنْ مُوافِقاً لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَهُوَ مِنَ ٱلرَّامَةِ مَدِينَةٍ لِلْيَهُودِ. وَكَانَ هُوَ أَيْضاً يَنْتَظِرُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ. 52 هٰذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلاطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ، 53 وَأَنْزَلَهُ، وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ مَنْحُوتٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ وُضِعَ قَطُّ. 54 وَكَانَ يَوْمُ ٱلاِسْتِعْدَادِ وَٱلسَّبْتُ يَلُوحُ. 55 وَتَبِعَتْهُ نِسَاءٌ كُنَّ قَدْ أَتَيْنَ مَعَهُ مِنَ ٱلْجَلِيلِ، وَنَظَرْنَ ٱلْقَبْرَ وَكَيْفَ وُضِعَ جَسَدُهُ. 56 فَرَجَعْنَ وَأَعْدَدْنَ حَنُوطاً وَأَطْيَاباً. وَفِي ٱلسَّبْتِ ٱسْتَرَحْنَ حَسَبَ ٱلْوَصِيَّةِ.

قال المسيح للص الذي صلب معه: اليوم تكون معي في الفردوس. وكلمة (فردوس) فارسية بمعنى جنينة. وربما كان اللص فارسي الأصل، ولم يفهم عبارة أخرى، وصفاً لمكان الأموات المخلصين، حيث ينتظرون القيامة إلى الحياة الأبدية. فنفس المسيح دخلت بعد موت جسده إلى هذا الرحاب، حيث يرتاح الأموات الأتقياء. ولا نعرف كثيراً عن حركاته وأعماله، إلا ما قاله بطرس. إنه بشر الأرواح في سجن الموتى، الذين لم يسمعوا في السابق إنجيل الخلاص (1 بطرس 3: 19 و4: 6). فدخول المسيح إلى الأمكنة حيث يسكن أصحاب إبراهيم واسحق ويعقوب كان انتصاراً. ولم يبشر المسيح طويلاً هناك، لأن ظهوره بين نفوس الأموات سبب لبعضها قبول البشارة فوراً. والآخرون رفضوه نهائياً. فهؤلاء الأموات لا يستطيعون أن يأتوا بأعمال صالحة لخلاصهم، بل إيمانهم خلصهم، وعدم إيمان البعض أهلكهم.

وأما على سطح الأرض فبان موت المسيح كهزيمة في معركة هائلة. وتهدلت جثة المسيح على الصليب، وقد فارقتها الحياة. ولم يسمح لأحد أن ينزله إلا بإذن من القيادة الرومانية العليا. وفجأة جاء أحد أعضاء المجلس اليهودي، واسمه يوسف من الرامة. وهو كنيقوديموس لم يوافق على حكم الموت على يسوع لأجل ادعاء التجديف، ولكنهما لم يستطيعا شيئاً، إذ أصوات الأكثرية الثمانية والستون طغت عليهما. فتجاسر يوسف غير مهتم باتهمامه، أنه من أبتاع المصلوب المضطهدين، وتقدم إلى بيلاطس الوالي، وطلب منه الامتياز ليدفن المرفوض الميت. فوافق بيلاطس ليتخلص من القضية، التي بكتت ضميره. ولم يهتم يوسف كذلك بتنجسه حسب الاعتقاد الطقسي عند اليهود حيث لمس ميتاً قبل السبت وعيد الفطير المقبل، لأنه حزن واستاء وأدرك أن ملكوت الله لم يأت بصوم ونواميس، ولا بصلوات طويلة، لا ببر خاص، بل قد ابتدأ بيسوع المسيح. فاعترف بإيمانه بالملك الميت، حتى في خطر الموت، لأنه أحب المسيح، واغتاظ لما حكم زملاؤه في المجلس على ابن الله.

فأنزل هذا السيد النبيل مع عبيده جثة يسوع عن الصليب ولفه بكفن ثمين، ودهن جسده بعجلة، ووضعه في قبر جاهز أنيق منحوت داخل الصخر، ولعله كان معداً لعائلة يوسف الخاصة. فدفن يسوع كأمير شريف.

وهذا المعاملات تمت بأكبر سرعة، لأن السبت كان وشيكاً أن يقع. وقد ذبحت مئات الألوف من الحملان والجداء في ساحة الهيكل في الساعات التي علق فيها يسوع على الصليب، سافكاً دمه كحمل الله المستحق تقديمه لكل الناس.

ولكن أكثرية شعب اليهود لم يدركوا خلاصهم، بل استمروا في عبادة الناموس المضمحل الزائل.

وبعض النساء من الجليل اللواتي تبعن يسوع وتلاميذه في موكب انتصاره، وخدمن الرجال في طهارة الروح القدس، تقدمن أولاً إلى القبر المنحوت في الصخر، ليعملن على تنظيفه. ونظرن بعدئذ إلى المكان، الذي وضع فيه المتوفي. بعدئذ ركضن إلى المدينة ليشترين بسرعة أطياباً وأربطة، ليحنطنه تحنيطاً ملكياً لائقاً به بطيب ثمين في يوم الأحد المقبل. لأن السبت يوم مقدس، لا يتعاطى فيه ببيع أو شراء أو دهن للموتى أو أي عمل آخر. فلما تقدمن يوم الأحد في عيد الفصح، فكرن أنهن سيدهنه في مثواه. لأنه قد مات حقيقة، كما شاهدنه من قبل. وقد بكين بحزن كبير، في عيد الفصح. واجتمعن متألمات، وذكرن مرتلات عظائم الذي بلعه سلطان الظلمة.

الصلاة: أيها الرب، نسجد لك، لأن موتك أوجد حياتنا. وقد سبقتنا إلى هوة الموت لكيلا نخافه، بل نتبعك ممسكين بيدك ومطمئنين، لأننا استودعنا أرواحنا بين يديك. انزع خوف الموت من قلوب كل المؤمنين، وامنحهم يقين الحياة الأبدية بعزتك. آمين.

14 - القبر الفارغ (24: 1 - 12)

الأصحاح الرابع والعشرون: 1 ثُمَّ فِي أَّوَلِ ٱلأُسْبُوعِ، أَّوَلَ ٱلْفَجْرِ، أَتَيْنَ إِلَى ٱلْقَبْرِ حَامِلاتٍ ٱلْحَنُوطَ ٱلَّذِي أَعْدَدْنَهُ، وَمَعَهُنَّ أُنَاسٌ. 2 فَوَجَدْنَ ٱلْحَجَرَ مُدَحْرَجاً عَنِ ٱلْقَبْرِ، 3 فَدَخَلْنَ وَلَمْ يَجِدْنَ جَسَدَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ.

من الغريب أن الرجال لم يكونوا أول شهود قيامة المسيح بل النساء. فإن التلاميذ كانوا قد أقفلوا غرفهم عليهم، خوفاً ورعباً من سطوة اليهود. أما النساء فدفعتهن محبتهن للمسيح غالبة كل المخاوف. وضحين بجزء كبير من أموالهن لتزيين قبر الفقيد بالزهور والروائح ودهنه بالعطور والطيب. فقد حملن قارورات الطيب وزهور وأقمشة وأشرطة، وتقدمن من طلوع الفجر فوجاً كبيراً إلى القبر المسدود بحجر مستدير ضخم.

واحتارت النساء في أمرهن، كيف يستطعن دحرجة الحجر الكبير عن باب القبر، الذي كان مختوماً أيضاً من قبل الدولة. ودفعتهن المحبة رغم كل الصعوبات، ليقدمن خدمة المحبة الأخيرة للراقد العزيز. ولما وصلن تجمدن في أمكنتهن، إذ شاهدن القبر مفتوحاً والحجر مدحرجاً منزاحاً إلى جانب. فتضاربت أفكارهن في رؤوسهن، متسائلات: ألا يسمحون له حتى في الموت أن يستريح؟ هل فعلوا به شيئاً؟ هل سرقوه؟

ولم يخفن من الدخول إلى القبر المفتوح وهن مستاءات بغيظ. ورأين بعجب شديد، أن القبر فارغ من صاحبه. والعجيب أن أكفانه وأقمشته كانت هناك تماماً في موضع جثته، غير ممزقة، لأن المسيح انسل منها ومن وسط الصخور هادئاً بلا صوت، كما ظهر بعد ذلك لتلاميذه في الغرف المغلقة متخللاً من وسط الجدران.

لم يشاهد أحد من الناس قيامة المسيح، ولكن الملائكة شاهدوا. فلا شهود للبشر عن هذه الحادثة مطلقاً. ولذلك فإن الرب يدعو كل أتباعه إلى إيمان متجاسر بأعجوبة قيامته، لأن الرؤية تأتي بعد الإيمان وليس قبله.

24: 4 وَفِيمَا هُنَّ مُحْتَارَاتٌ فِي ذٰلِكَ، إِذَا رَجُلانِ وَقَفَا بِهِنَّ بِثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ. 5 وَإِذْ كُنَّ خَائِفَاتٍ وَمُنَكِّسَاتٍ وُجُوهَهُنَّ إِلَى ٱلأَرْضِ، قَالا لَهُنَّ: «لِمَاذَا تَطْلُبْنَ ٱلْحَيَّ بَيْنَ ٱلأَمْوَاتِ؟ 6 لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا لٰكِنَّهُ قَامَ! اُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي ٱلْجَلِيلِ 7 قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ، وَيُصْلَبَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ».

اضطربت النساء وفزعن، لما لم يجدن جسد يسوع! ولم يعرفن ماذا عليهن أن يعملن، وربما صلت واحدة منهم إلى الله. وفجأة وقف بهن رجلان في لباس براق، ووجهاهما كانا كشمس مضيئة. فتجمدن في أمكنتهن من هذه الرؤية، وتقهقرن. وبعضهن ابتدأن بالسجود لإكرام الاشكال الغريبة من العوالم الغير منظورة. فما قدرن كلاماً أو فكراً. وهذان الملاكان قد أرسلهما المسيح في محبته للمحتارات، ليوضح لهن الأمر المستحيل، أن المسيح الميت هو حي حق. فسميا المسيح (الحي) وأعطياه نفس الصفة التي لله فقط، شاهدين بعظمته الحالة في المسيح الظاهرة في قيامته. وسألا النسوة لماذا لم يؤمن أن رئيس السلام لا يموت ولا يفنى، بل يعيش إلى الأبد، لأن الحياة الأبدية لن تموت، ولو تفتت الجسد الضعيف.

فشهد الملاكان للنساء المستمعات الجامدات، أن الله شخصياً أقام ابنه، كما الآب يوقظ طفله من النوم.

وأمر رسولا السماء هؤلاء النسوة، أن يتأملن ويتذكرن ويعدن التفكير متخلصات من جمودهن، مدركات معنى كلمات يسوع، التي نطقها قبل صلبه، أنه قال مرات ثلاث بكل وضوح، ان ابن الإنسان يسلم إلى أيدي خطاة ويُصلب، ويقوم بلا مانع في اليوم الثالث من الأموات منتصراً ظافراً.

وكلمة (ينبغي)، التي قالها المسيح أثناء اقتراب موته، كانت غير مفهومة لأتباعه، لأنهم لم يفهموا خطة خلاص الله. فلم يعرفوا الواجب أو الضرورة في موت المسيح مصلوباً لأجل مصالحة الناس مع الله. ولم يدركوا القيامة كبرهان لازم لقداسة وألوهية يسوع. لأن الذي بدون خطية فقط، هو قادر أن ينتصر على الموت، لأن الموت هو أجرة الخطية ونتيجتها. وبما أن يسوع لم يستسلم لأية خطية كانت حتى آخر لحظات حياته، فلم يجد الموت سلطة عليه. فقام المسيح من بين الأموات، بريئاً فائزاً ظافراً.

إن قيامة يسوع، هي الدليل الواضح لانتصاره على كل التجارب للخطية في جسده، ودليلاً قاطعاً على فشل الشيطان، الذي لم يستطع أن يسقط البار إلى بغضة وكفر ويأس. وقيامة المسيح برهان أيضاً على ضعف الموت بالنسبة لحياة الله. وأخيراً الأمر الأهم، وهو أن الله، أقام ابنه مثبتاً أنه رضي بموته كحمل الله عوضاً عن كل البشر. هكذا نجد في قيامة المسيح العلامة البارزة للانتصار الإلهي، وبيان الخلاص الكامل. وفي عصرنا الحاضر ما زالت كنيسة في روسيا يجتمع أعضاؤها في عيد الفصح، فيضحكون ملياً حسب طقوسهم على الخطية والموت والشيطان والقوة المغلوبة بالمقام من بين الأموات. إننا متحررون تحرراً كاملاً. هذا هو سبب فرحنا.

الصلاة: نسجد لك، أيها الرب يسوع المسيح ونعظمك ونسبحك ونفرح، لأنك حي غير ميت، وتسمع صلاتنا، وتجرنا إلى حياتك. علمنا أن نتيقن في كل لحظة حضورك معنا، وعنايتك بنا. آمين.

24: 8 فَتَذَكَّرْنَ كَلامَهُ، 9 وَرَجَعْنَ مِنَ ٱلْقَبْرِ، وَأَخْبَرْنَ ٱلأَحَدَ عَشَرَ وَجَمِيعَ ٱلْبَاقِينَ بِهٰذَا كُلِّهِ. 10 وَكَانَتْ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ وَيُوَنَّا وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَٱلْبَاقِيَاتُ مَعَهُنَّ، ٱللَّوَاتِي قُلْنَ هٰذَا لِلرُّسُلِ. 11 فَتَرَاءَى كَلامُهُنَّ لَهُمْ كَٱلْهَذَيَانِ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُنَّ. 12 فَقَامَ بُطْرُسُ وَرَكَضَ إِلَى ٱلْقَبْرِ، فَٱنْحَنَى وَنَظَرَ ٱلأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا، فَمَضَى مُتَعَجِّباً فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ.

إن عقل الإنسان سريعاً ما ينسى وهو سطحي دائر حول أفكاره الخصوصية. وكثيراً ما نسمع كلمة الله ونفهم تماماً خلاف قصد الرب منها. ولكن لما الملاكان بقوة أشعتهما الإلهية ذكرا النسوة أن يسوع تكلم قبل موته عدة مرات بكل وضوح عن قيامته، ابتدأن يتنورن، أنهن سيكونن شاهدات لأمر غريب هائل مغير العالم، وأدركن تدريجياً معنى الكلمة، أن يسوع سيقوم حقاً.

بعد زوال المباغتة المفاجئة وعودة وعيهن إليهن. ابتدأت النسوة بتركيز الفكر. وفرحن كثيراً راكضات راجعات إلى التلاميذ، مؤمنات بكلمات الملاكين، متيقنات بمواعيد المسيح النبوية. فقد آمن منذ أشهر أن يسوع هو المسيح الحق، وتركن بيوتهن وعائلاتهن، وتبعن الرب من الجليل إلى اليهودية. ولم يبالين بكلام الناس عليهن، لأن يسوع كان قدوساً وقد حفظهن في طهارته. أما الآن فإنه يكافئهن ويختارهن أول شاهدات لقيامته من بين الأموات.

والبشير لوقا يرينا بدقة من هن المبشرات المختارات هؤلاء. وأعلن أسماءهن بوضوح، أولهن مريم المجدلية، التي كانت سابقاً ملبوسة، وأخرج الرب منها سبعة شياطين. فلم تستطع العيش بدون مخلصها، فأكد الرب لها أنه غير ميت بل حي حقاً.

والمرأة الثانية المختارة، هي يونا. والأغلب أنها زوجة وكيل عند الملك هيرودس. فاعتبرت مستوى بيتها أخفض من عار صليب المسيح. لقد وقفت يوم الجمعة الحزينة مع زميلاتها قرب الصليب وثبتت في اليأس. فالآن صار لها الامتياز لتتأكد من مجد الرب، بين الأوليات (مرقس 15: 40).

وأما أم يعقوب فلا نعرف إن كانت هي سالومي أم يوحنا ويعقوب ابن زبدي، أو هي أم يعقوب ويوسي. وربما كانتا كلتاهما حاضرتين، لأنه بزيادة على هؤلاء الثلاثة المذكورات وجدت كثيرات من أتباع يسوع، اللواتي صار لهن الامتياز برؤية الملاك ومعرفة القيامة.

والنسوة المفوضات من الملاك بنقل بشرى انتصار المقام من بين الأموات، لما أخبرن بفرح عظيم التلاميذ ضحكوا عليهن، وسموا نبأهن أقاويل نسائية بلا معنى وكاذبة. فالرجال بطيئون عادة في الإيمان، ويطلبون براهين ومنطقاً وقوانين علمية وخبرة، ويريدون تفتيش الأمور وتمحيصها، ورؤية المقام ولمسه قبل أن يؤمنوا به وبقيامته. وهذا بالتمام كان سبب عدم إيمانهم، الصادر من عقولهم وقلوبهم الغليظة. فلم يترك التلاميذ والأتباع من الرجال يسوع يوم الخميس عشاء ويهربوا فقط، بل أنهم لم يؤمنوا يوم صبيحة الأحد بالرسالة الملائكية الموجهة إليهم عن قيامة ابن الله بلسان النساء. أنهم كانوا يائسين وزعلانين، لان كل رجائهم على قيام مملكة الله كان قد انتهى. وكانوا بنفس الوقت مستكبرين أن يأخذوا معرفتهم من النساء، وغير مستعدين لقبول الخبر المستحيل، الذي لا يدخل إلى رؤوسهم. ولا يتذكرون وعداً به من المسيح نفسه. فعارضوا معاً جذب الروح القدس.

ولكن بطرس الذي انسحق بالتوبة، وكان قد تضعضع منذ إنكاره يسوع وندمه، ولم يعد يثق بذاته ولا بمنطقه ولا بخبرته، قام أخيراً وركض إلى القبر، غير مبال بالحراس ولا برؤساء الكهنة، لأنه شعر قليلاً بإمكانية المستحيل، وانحنى كثيراً أمام الله لما دخل إلى القبر. لم ير جثة يسوع، بل الأربطة الغير ممزقة. وهي موضوعة بعناية ومحفوظة كاملاً كشرنقة دودة القز وقد فارقتها. فارتجف قلبه للمعجزة وترجرج ذهنه، ولكن القفزة إلى الإيمان الجريء بحقيقة القيامة، لم تدخل إلى قلبه. فقد رأى نفسه مرفوضاً هالكاً، لأنه أنكر ربه إنكاراً هائلاً.

الصلاة: أيها الرب المقام من بين الأموات، نشكرك لأنك فوضت النساء اللواتي تبعنك، ليسمعن كلمات الملائكة ويبشرن بها. نسجد لك، لأنك حي، وتملك مع الآب في الجوهر الواحد. أحينا واجعلنا رسل قيامتك، لنعيش في حياتك ولطفك ونشهد لكل الناس بصبر عظيم انك حي وموجود حقاً.

15 - تلميذا عمواس (24: 13 - 35)

24: 13 وَإِذَا ٱثْنَانِ مِنْهُمْ كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ إِلَى قَرْيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أُورُشَلِيمَ سِتِّينَ غَلْوَةً، ٱسْمُهَا «عِمْوَاسُ». 14 وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بَعْضُهُمَا مَعَ بَعْضٍ عَنْ جَمِيعِ هٰذِهِ ٱلْحَوَادِثِ. 15 وَفِيمَا هُمَا يَتَكَلَّمَانِ وَيَتَحَاوَرَانِ، ٱقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا. 16 وَلٰكِنْ أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ. 17 فَقَالَ لَهُمَا: «مَا هٰذَا ٱلْكَلامُ ٱلَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟» 18 فَأَجَابَ أَحَدُهُمَا، ٱلَّذِي ٱسْمُهُ كَلْيُوبَاسُ: «هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ ٱلأُمُورَ ٱلَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ؟» 19 فَقَالَ لَهُمَا: «وَمَا هِيَ؟ فَقَالا: ٱلْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ، ٱلَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيّاً مُقْتَدِراً فِي ٱلْفِعْلِ وَٱلْقَوْلِ أَمَامَ ٱللّٰهِ وَجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ. 20 كَيْفَ أَسْلَمَهُ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَحُكَّامُنَا لِقَضَاءِ ٱلْمَوْتِ وَصَلَبُوهُ. 21 وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ. وَلٰكِنْ، مَعَ هٰذَا كُلِّهِ، ٱلْيَوْمَ لَهُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ مُنْذُ حَدَثَ ذٰلِكَ. 22 بَلْ بَعْضُ ٱلنِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِراً عِنْدَ ٱلْقَبْرِ، 23 وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلائِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ. 24 وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ ٱلَّذِينَ مَعَنَا إِلَى ٱلْقَبْرِ، فَوَجَدُوا هٰكَذَا كَمَا قَالَتْ أَيْضاً ٱلنِّسَاءُ، وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْهُ».

اثنان من أتباع يسوع كانا ذاهبين من أورشليم إلى قريتهما، البعيدة ثلاث ساعات عن العاصمة. وكان عليهما دلائل الحزن الشديد. ولم يلتفتا إلى المدينة بقببها المذهبة، بل هربا من مشهد القتل الشنيع، الذي حل بيسوع. وهما أحباه بكل إخلاص، فتحدثا عن تفاصيل هذه الحادثة الأليمة.

وفي هذا الوقت اقترب المقام من بين الأموات إليهما في هيئة إنسان غريب، لأنه قد قال سابقاً: حيثما يجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، هناك أكون في وسطهم. فإن تكلمت مع صديقك عن يسوع فربك هو الثالث في العهد. ليت أقوالنا يكون محورها وهدفها يسوع. فنختبر حضور ابن الله في عالمنا اليائس. وكثيراً ما لا يرى المؤمنون يسوع، ولا يشعرون به لأن الإيمان لا يعني الرؤية، بل اتكال القلب على الحي.

والمسيح هو الخبير في بنيان النفوس. فلم يتكلم عن ذاته كثيراً، ولم يوجه إليهما نصائحه وحكمه، بل دفعهما بسؤاله إلى التكلم وتفريغ ما في قلبيهما، ليظهر إيمانهما. فشهدا أن كل العاصمة كانت عالمة بما كان. فالرؤساء عزموا على أحاطة خبر صلب يسوع بالكتمان، ولكن الخبر تسرب من بيت إلى بيت، ومن زقاق إلى آخر.

وآمن الشعب أن يسوع كان نبياً مفوضاً من الله بسلطانه، موهوباً بكلمات خارقة، ومجهزاً بمعجزات فائقة، كما ليس نبي قبله ولا بعده. فهكذا لم يدرك هذان التلميذان المؤمنان بالمسيح الحقيقة، كما لم يدركها قيافا والمجلس الأعلى عن جوهر يسوع. ولكنهما تألما مع كثيرين من أتباع الناصري أن بغضة وحسد رؤسائهم سببت الحكم على ابن الأمة. فسلموه إلى أيدي الوثنيين النجسين للقتل. فاعتبرا هذا التصرف عاراً مزدوجاً وخطية كبرى. وفي تكلمهما تصورا المصلوب أمامهما، كيف علق مرفوعاً بين السماء والأرض، معذباً تدريجياً إلى الموت. فاشمأزوا من خبث البشر تجاه محبة الله الظاهرة في المسيح.

وكل أتباعه رجوا، أن يسوع سيكون هو المحور لأمته من القوة الاستعمارية، منشئاً بينهم البر والحق والعدل، لكي يصح شعبهم في صميمه، ويصبح ينبوع الإحسان لشعوب العالم، وأورشليم محور السلام تبث منها أشعة محبة الله إلى كل القارات. هذا كان ويكون رجاء اليهود الأتقياء بنسبة المسيح حتى اليوم.

ومن كل هذه الحقائق والمثل، طغت في ذاكرتهما كلمة غريبة، قالها يسوع عن «اليوم الثالث». فلم يعرفا بدقة ماذا يعني هذا اليوم الثالث. وبقيا إلى عصر هذا اليوم في أورشليم، ليريا إن كان سيحدث انقلاباً من المسيح وملائكته والأبرار الراقدين، لأن قيامة الأموات من علامات مجيء المسيح.

ولكن لم يحدث أي انقلاب سياسي ولا أعجوبة ما، إلا قول النساء لما ركضن إلى التلاميذ، وأخبرنهم عن فراغ القبر وانعدام الجثة، وقول الملاك لهن أن المسيح حي بين الأحياء. فتحير الرجال إذ ذاك كثيراً، وتساءلوا: هل هذه بداية ملكوت الله؟ هل ابتدأ بدوننا، أو علينا أن نحضر الآن لموكب التتويج؟ ماذا نعمل؟ مستحيل أن الملك يسوع يترك أمناءه منتظرين متبطلين، ويفوض بواسطة ملاكه النساء الضعيفات اللواتي لا يقدرن على التفكير والمنطق والكفاح وحسن التكلم.

عندئذ ركض بعض التلاميذ إلى القبر الفارغ، للتفتيش عن الحقيقة، ورجاء الالتقاء بالمقام حياً. نعم. القبر كان فارغاً، ولكنهم لم يجدوا يسوع هناك. فغضبوا ورجعوا مستغربين. وها هوذا اليوم الثالث ينتهي، ولم يحدث عجب، وما ظهر رئيس الحياة.

كانا يتكلمان بهذه الأحداث إلى يسوع باضطراب واستياء، وهما لا يعرفان أنه هو. وقد تحمل يسوع عمى أتباعه الأمناء بمحبة وصبر، لأن كل أعماله وكلمات محبته حتى على الصليب لم تساعدهم ليدركوا مجده، لأنهم لم يكونوا قد حصلوا على الروح القدس بعد. فكانت عيونهم مغطاة ممسوكة.

هل تتعجب إن لم يعرف أقرباؤك وأصدقاؤك أن يسوع رب؟ إن التلاميذ كانوا لأشهر طويلة مع الرب ليلاً نهاراً، وعاينوا مجده في تواضعه وحقه ومحبته، ولم يدركوه! فاصبر الصبر الجميل في تبشيرك كاملاً. فنحن في حاجة ماسة لمرافقته وهداه وتعزيته وتعليمه وتدخله في عقولنا، وامتلاء أنفسنا بروحه وتجديد قلوبنا كاملة وتقديسها، حتى نفهم من هو، وماذا يعمل. فنعترف متواضعين: أنا أؤمن بأنني لا أقدر أن أؤمن من تلقاء نفسي أو قدرتي بيسوع المسيح ربنا. ولا أقدر أن آتي إليه بواسطة طاقتي الخاصة، بل الروح القدس دعاني بالإنجيل، وأنارني بمحبته، وقدسني بمواهبه، ويحفظني في نعمته. فليس أحد قدر أن يسمي المسيح رباً، إلا بواسطة الروح القدس.

الصلاة: أيها الرب، أنا أعمى روحياً. فافتح عيني وقلبي وعقلي لإيمان حي، لكي أتكل على حضورك معي في هذه اللحظة. ولا تتركني وحدي، لأنك ترافق كل الذين يتكلمون عنك بالإيمان والثقة. املأ قلوب الذين يشتاقون إليك بسلامك. وأنشئ فيهم الإيمان الحق بقدرة روحك القدوس.

24: 25 فَقَالَ لَهُمَا: «أَيُّهَا ٱلْغَبِيَّانِ وَٱلْبَطِيئَا ٱلْقُلُوبِ فِي ٱلإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ٱلأَنْبِيَاءُ، 26 أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهٰذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟» 27 ثُمَّ ٱبْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ ٱلأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا ٱلأُمُورَ ٱلْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ ٱلْكُتُبِ. 28 ثُمَّ ٱقْتَرَبُوا إِلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَيْهَا، وَهُوَ تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ. 29 فَأَلْزَمَاهُ قَائِلَيْنِ: «ٱمْكُثْ مَعَنَا لأَنَّهُ نَحْوُ ٱلْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ ٱلنَّهَارُ». فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا. 30 فَلَمَّا ٱتَّكَأَ مَعَهُمَا، أَخَذَ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا، 31 فَٱنْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ ٱخْتَفَى عَنْهُمَا.

بعدما انتهى التلميذان من إظهار حكمتهما، وشهدا بنهاية رجائهما، ابتدأ يسوع بدرسه الشديد لهما. ولم يكلمهما بلطف وكلمات رحيمة، بل انتهرهما بغضب إليه، لأنهما كانا غبيان ككل الناس. فمن الممكن أن يحمل شاب شهادات عليا، وألقاباً براقة، وإنما يظل غبياً جاهلاً، إن لم يعرف المسيح رباً، لأنه لم يدرك ابن الله وفداءه.

وهذه الغباوة ليست لعدم موهبة الذكاء في العقل، بل نتيجة بطء القلب للإيمان بكلمة الإنجيل. كلنا نميل إلى الإلحاد اليوم ونؤمن بالعلوم الطبيعية وبتكنيك المهندسين أكثر مما نثق بأقوال النبي إشعياء ودلائل يوحنا المعمدان. وفي قضايا المناخ والحروب والاقتصاد نبني أنفسنا على أخبار الراديو والجرائد أكثر من صلاتنا ومطالعتنا في الكتاب المقدس.

فأمر يسوع الرجلين أن يؤمنا بكل ما قاله الأنبياء كما يؤمن الولد بأقوال أمه. فقد آمنا وفهما كثيراً من الكتاب المقدس وليس كله. وكانا متأكدين من وحدانية الله. فلهذا لم يهضما الفكر أن لله ابناً. وتأكدا من قدرة الله وسلطان المسيح المقبل، فلم يعقلا قضية صلبه. هكذا لم يدركا كلمة «ينبغي» في آلام يسوع كحمل الله لفداء العالم. ولم يعرفا عمق شر القلب الإنساني. فما شعرا بحاجتهما إلى الخلاص، وإنه لا طريقة إلى الله إلا بالصليب. وليس بأحد غيره الخلاص إلا بالمصلوب. فالصليب هو الباب إلى مجد الله. وقد ولد المسيح ليموت عوضاً عنا. ويفتح لنا الباب المؤدي إلى أبيه. وبدون مصالحتنا مع الله في المسيح فليس لنا شركة مع القدوس، كما قال بولس الرسول: إذ قد تبررنا بالإيمان فلنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح.

إن آل إبراهيم لم يقدروا بإيمانهم المتجمد بوحدانية الله إدراك أن القدوس يحتاج لفداء العالم إلى ابن كحمل ووسيط. فتعب المسيح طوال الطريق من أورشليم إلى عمواس، ليفسر كل مواعيد التوراة والمزامير والأنبياء الخاصة ببنوته وصليبه لرؤوس اليهود الحديدية، ليدركوا ألوهيته في إنسانيته.

ليتنا كنا مشتركين في درس الكتاب المقدس على يد يسوع المسيح! الله نفسه فسر للناس كلمته. فصل إلى المسيح طالباً منه توضيح معاني آلامه وموته وقيامته. فهنالك يحل الروح القدس في القلب، وينير أفكار العقل، لأن المسيح شخصياً، يقف بجانبنا، ويلهمنا الحق الإلهي، ويرشدنا إلى صحة كلامه. فهل تستفهم منه إعلان كلمته أو تثبت في غباوة إنسانيتك الطبيعية؟

ولما وصلوا إلى بيتهما البسيط في قرية عمواس، امتحن يسوع مستمعيه إن كانا يريدان أكثر التعمق في كلمته أو إن كانا متعبين وشبعانين من الاستماع إليه، ومكتفين من المعارف. هل كان رأسهما ملآناً من الموعظة طيلة هاتين الساعتين اللتين قضياها مع يسوع المعلم، أو ما زالا وفي قلبيهما جوع إلى كلمة الحياة؟ هكذا تظاهر يسوع كأنه يريد تكميل طريقه قدماً.

واجتاز التلميذان الامتحان الإلهي بامتياز، حيث ألحا على يسوع المبيت عندهما. وعلمانا الصلاة الموحى به من الروح القدس، والمختصة والنافعة للأيام الأخيرة في عالمنا الظالم «أمكث معنا لأنه نحو المساء، وقد مال النهار». هل هذه الطلبة هي صلاتك أيضاً؟ هل تلزم يسوع ليثبت فيك ليلاً نهاراً، ولا تسقط ثانية واحدة من شركته. لم يسمح التلميذان أن يكمل يسوع طريقه، بل عارضا مشيه، حتى دخل إليهما. بفرح راضياً مرضياً.

طوبى للبيت وطوبى للمدينة، التي يدخل هذا الملك فيها. فإن الله يأتي إلى الناس، ولا يستحي أن يسكن في بيوتنا المهدمة. فبيتك يصير بيت الله، إن طلبت إليه بشدة أن يمكث معك لتسمع كلمته.

وبعدئذ جلس يسوع مع تابعيه وأتوا بالعشاء. ولم ينتظر الرب حتى يبارك صاحب البيت الخبز، بل تناوله شخصياً كما عمل عند إشباعه الخمسة آلاف، وفي بداية العشاء الرباني الأخير، وتلا كلمات الشكر رافعاً رأسه نحو السماء، وكسر الخبز رمزاً لوحدتنا معه وأعطى من الكسر للحاضرين كالله الذي يوزع خيراته إلى مخلوقاته، بمحبته الفائقة.

وعندئذ سقطت قشور من أعين التلميذين، فأبصرا ورأيا بوضوح جلي يسوع في حقيقته. فجربا إمساكه وحاولا التكلم إليه. فاختفى من أمام أعينهما. ولكنهما أدركاه أكيداً في كسر الخبز، وتلاوة البركة، وتوزيع الكسر. فلا بد أنه هو بكل تأكيد. لقد كان موجوداً، ولم يفارقهما حتى ولو لم يعودا يريانه مطلقاً.

الصلاة: أيها الرب، أنت الحي. اغفر لي حياتي المستقلة بعيداً عنك. فإني أؤمن بحضورك معي. علمني الفكر فيك والعمل أمامك والتكلم بروحك، لكي أصغي إلى كلمتك دائماً. كلنا لا نفهم إنجيلك إن لم تنرنا. امكث معنا، لأنه نحو المساء، وقد مال النهار.

24: 32 فَقَالَ بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ: «أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي ٱلطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا ٱلْكُتُبَ؟» 33 فَقَامَا فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ وَرَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَوَجَدَا ٱلأَحَدَ عَشَرَ مُجْتَمِعِينَ، هُمْ وَٱلَّذِينَ مَعَهُمْ 34 وَهُمْ يَقُولُونَ: «إِنَّ ٱلرَّبَّ قَامَ بِٱلْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ!» 35 وَأَمَّا هُمَا فَكَانَا يُخْبِرَانِ بِمَا حَدَثَ فِي ٱلطَّرِيقِ، وَكَيْفَ عَرَفَاهُ عِنْدَ كَسْرِ ٱلْخُبْزِ.

لم يضطرب التلميذان في عمواس، لما اختفى يسوع عنهما. لأنه ليس المهم أن يرياه أو لا يريانه، لأنهما قد عرفا واختبرا أنه حي. ليس هو في القبر وجثته ليست مسروقة. ولم تفشل حياته بالصلب بل الله كان معه وفيه. إنه المسيح الحق الحي الحاضر الموجود.

فنور فرح عيد الفصح ملأ قلبيهما. وهذا الفرح ابتدأ بقلبيهما، لما كلمهما المسيح، على الطريق. فخطابه القاسي لم يزعلهما، بل أعدهما لإشراق الإنجيل. فتغير ذهنهما، وفهما إرادة الله وعمل خلاصه في ابنه. فالتهب قلباهما العطشين من فرح المعرفة، وقبول الحق، لأنهما علما أنهما لا يركضان خلف خيال، بل أدركا المسيح بالذات وعرفاه ورأياه وسمعاه وآمنا به. فكلمته أعدت تجديد إيمانهما فيهما، لأنه بدون الامتلاء بكلمة الإنجيل لا تتحقق الولادة الثانية. فكلمة الرب هي الشمس والقوة في الحياة الجديدة. هل تشعر بالفرح عند قراءة الكتاب المقدس وتسر بقوة الله المتكلم؟ اطلب من ربك أن يخاطبك مباشرة، لأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله. فإنك محتاج جداً إلى كلمة ربك! ونفسك مائتة جوعاً مشوقة إلى مطالعة الكتاب المقدس باستمرار. وروحك تنتعش إن أصغيت مجتهداً بصبر لما يقوله الروح للكنيسة.

وشاهدا المقام من بين الأموات ما قدرا البقاء لوحدهما من كثرة فرحهما وغنى الإعلان الموهوب لهما. فمعرفة الله تدفعنا إلى نقل البشرى بقوة إلهية، ولسانك لا يستطيع الصمت حيث يملأ يسوع قلبك، لأنه مما يمتلئ القلب، يفيض الفم. فماذا تتكلم طيل النهار؟ هل فرح الرب قوتك؟

ولم يهب الرجلان صعوبة الطريق الطويل إلى التلاميذ المضطربين في القدس، لأن إعلان المسيح قّوى عظامهما التعبانة، وأسرعا بخطواتهما المتعجلة، حتى وصلا في تلك الليلة إلى العاصمة النائمة. ولما دقا الباب المغلق، حيث يجتمع داخلاً التلاميذ والاتباع المؤمنون، لم يكن النور قد ْأطفئ بعد، فدخلا. ولاحظا فجأة جوا متغيراً من الفرح، ووجوهاً لامعة. لأنهما لما غادراهم بعد الظهر كان الجو عبوساً ووجوههم كئيبة، لأن بطرس افتقد القبر فوجده فارغاً، وجثة المسيح ما كانت هنالك، تماماً كما أخبرت النسوة. ولم يجد الرسول ربه. والآن ها قد أبرقت عيناً بطرس، وكل التلاميذ الآخرين فرحوا معه، لأنه بعد افتقاد القبر الفارغ، تجول بطرس ضالاً في المدينة، مضطرباً من ضميره المبكت. ولم يكن له رجاء عالماً أنه أنكر ربه ثلاث مرات، فرأسه وقلبه كان كوكر زنابير. وربه فضل النساء اللواتي ثبتن وبقين معه عند الصليب. فرأى بطرس نفسه موفوضاً هالكاً معدوماً.

عندئذ رحم يسوع خادمه المصلي ومشى بجانبه. ولا نعرف متى وأين ظهر يسوع لبطرس، ولكن لوقا وبولس كليهما شهدا بهذه الحقيقة واضحاً (الرسالة الأولى إلى كورنثوس 15: 4 و5) فندرك أن محبة المسيح يسوع قد خلصت بطرس المنكسر كاملاً ولم ترفضه. ولما لم يتكل على ذاته ولم يؤمن بقدرته، ورأى نفسه مسلماً للموت وجهنم، أهداه ربه مجاناً حضوره بالنعمة. عندئذ أدرك بطرس، كما بولس بعدئذ أدرك، أن الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح. فغفر الرب لعبده كل ذنوبه، وأدخله إلى ملء فرح الفصح.

وكل التلاميذ آمنوا بكلمات الرسول بطرس، لأن هيأته ووجهه تغير تماماً. فأصبح يعيش مطمئناً، لأن ربه حي. فامتلأت كل الجماعة من فرح القيامة ولما دخل التلميذان من عمواس، وأرادا تأدية شهادتهما، غطاهما شلال الفرح، لتقوية إيمانهما بسماعهما أن الرب قد ظهر لبطرس. وكما قوت الجماعة إيمانهما بهذه البشارة هكذا قويا هما أيضاً إيمان الجماعة، فبشراها برؤيتهما أيضاً ليسوع وتعشيهما معه. فهل تتكلم لأصدقائك، عما عمل المسيح بك؟ تكلم ولا تصمت، لكي يتمجد المقام من بين الأموات. أنر غيرك لينيرك بمعرفته أيضاً.

الصلاة: ايها الرب يسوع، أنت النعمة وقد خلصت بطرس من يأسه. فنسجد لك ونسبّح محبتك وقوتك ومجدك وحضورك معنا بكرة وأصيلاً. لسنا متروكين. أنت معنا. فقيامتك البرهان، انك غفرت آثامنا كلها، فنتهلل مع كل المسيحيين في فرح العيد السعيد.

16 - ظهور يسوع عشية الاحد (24: 36 - 43)

24: 36 وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِهٰذَا وَقَفَ يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي وَسَطِهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: «سَلامٌ لَكُمْ!» 37 فَجَزِعُوا وَخَافُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ نَظَرُوا رُوحاً. 38 فَقَالَ لَهُمْ: «مَا بَالُكُمْ مُضْطَرِبِينَ، وَلِمَاذَا تَخْطُرُ أَفْكَارٌ فِي قُلُوبِكُمْ؟ 39 اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَٱنْظُرُوا، فَإِنَّ ٱلرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي». 40 وَحِينَ قَالَ هٰذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. 41 وَبَيْنَمَا هُمْ غَيْرُ مُصَدِّقِين مِنَ ٱلْفَرَحِ، وَمُتَعَجِّبُونَ، قَالَ لَهُمْ: «أَعِنْدَكُمْ هٰهُنَا طَعَامٌ؟» 42 فَنَاوَلُوهُ جُزْءاً مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيٍّ، وَشَيْئاً مِنْ شَهْدِ عَسَلٍ. 43 فَأَخَذَ وَأَكَلَ قُدَّامَهُمْ.

ويسوع بر بوعده مرة أخرى: حيث اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم. لأن التلاميذ لما قووا بعضهم بعضاً في الإيمان بواسطة بشرى اختباراتهم مع المسيح، ظهر فجأة في وسطهم. قد أتى بدون صوت، ولم ينخبط باب أو طاقة. ولم يدخل تيار هوائي، بل المسيح صار داخلاً وحاضراً حقاً.

وفي هذه اللحظة، كاد التلاميذ يجنون. لقد آمنوا بقيامته من قبل، ولكن بقيت رواسب من شكوك في أذهانهم. فشعروا أن قيامة المسيح من بين الأموات تعني فجر ملكوت الله وبداية عصر جديد. ولكنهم علموا أيضاً أنهم هربوا من ربهم في ساعة التجربة الهامة. فعرفوا أن المسيح الحي أبصر ذنوبهم مكشوفة كشفاً. وبعضهم ظنوه روحاً بلا جسد، بهيئة المسيح بحيلة شيطانية بسبب أمنية أشواقهم. فكانوا مضطربين وغير قادرين فكراً وعملاً.

فرحمهم يسوع وخلص قليلي الإيمان من شكوكهم وكفرهم، وكلمهم بكلمات مفهومة، فسمعوا صوته المعروف. وشعروا بتعزية الله في قلوبهم القلقة. وكلمات محبته طهرتهم، وقوة تعبيره أنشأت إيماناً جديداً. فغفر لهم ذنوبهم بنطقه كلمة سلامه لهم. وهو لم يجبرهم لقبول الإيمان كضغط عليهم، كأن يقول لهم «السلام عليكم» بل أشركهم بقبول حلول سلامه بمخاطبته إياهم بكلمة «سلام لكم». عندئذ عرفوا أنه اختارهم ودعاهم وبررهم وقدسهم، وأن الله نفسه قبل موت ابنه. وصالحهم بواسطته مع نفسه صلحاً عظيماً. فاستمسكوا بهذا وبنوا قلوبهم عليه. وتعزوا تعزية عيد الفصح.

ورغم هذا القول لم يؤمنوا بحقيقة حضوره. لأن عقولهم كانت بطيئة، وقلوبهم غليظة بشرية. فرحم يسوع مختاريه مرة أخرى، وأراهم أثر المسامير في يديه ورجليه رمزاً لغفران خطاياهم الكامل. فإن المقام الحي هو المصلوب الحق. ولو أتى ملاك النور إليك وقال إنه الله فاطرده باسم المسيح، لأن إلهنا يحمل أثر المسامير في يديه. ولا نعرف رباً آخر، إلا يسوع المسيح المصلوب.

ونما الإيمان في التلاميذ وازداد وعيهم الروحي، ولكنهم كانوا ناقصي الروح القدس آنذاك. فأعطاهم المسيح برهاناً آخر ليؤمنوا بحقيقة قيامته، ويدركوا الأعجوبة العظمى المعطاة للبشر، أن يؤمنوا بألوهيته. فقال جسوني، المسوني!.. ادركوا أنني قمت بجسدي حقاً. فلي لحم وعظام ككل إنسان. فالبشير لوقا وهو طبيب، أبرز الشيئين القاطعين العجيبين، أن المسيح بعد قيامته كان يدخل بجسده الروحي من خلال الجدران، غير مقيد بزمان ومكان، وحاضراً في كل حين. فهو إله حق وبنفس الوقت إنسان حق بلحم ودم مسموع ومنظور وملموس. فلنا شهادة عظيمة من طبيب رسمي، أن للمسيج جسد روحي، فهو روح الله المتجسد وهذا يظهر لنا أعجوبة قيامتنا لأن المسيح هو رمز مستقبلنا.

وكان فرح التلاميذ عن حقيقة قيامة المسيح وغلبته على الموت في قلوبهم وعقولهم كبيراً بمقدار أنهم لم يستطيعوا التصديق والتكلم والتفكير. فأذهانهم كانت كأنما هي مشلولة، وشعورهم كان جامداً، لأنهم رأوا المسيح كميت قام من قبره. فعظم فرح محبي المسيح، وتعجبوا تعجباً كبيراً.

أما المسيح، فإنه لم يرد أن يستيقظ فرحنا فقط، بل يقصد إنشاء إيمان واع وإخضاع تفكيرنا وإراداتنا تحت حقيقة القيامة. فطلب من تلاميذه غذاء. ومما لا شك فيه، أن المقام من بين الأموات، لم يكن بحاجة إلى طعام، لأن له جسداً روحياً أزلياً، غير فان وغير مجرب ولكن في سبيل المحبة لتلاميذه، وليشغل عقولهم فيتثبتوا منه، أراهم الحي الإلهي، أنه إنسان حق، وليس خيالاً أو روحاً، وبرهن ذلك لهم، بإظهار أبسط الدوافع البشرية، وهي مضغ الطعام. فأكل أمامهم من السمك والعسل الموجود عندهم.

فالطبيب لوقا استفهم من كل المعاصرين له والذين عاينوا المسيح بعد قيامته، وفهم منهم أن يسوع المقام كانت له أسنان ولسان وفم وعينان ويدان ورجلان وجسم وعظام وهيكل، إنساناً حقاً، لا ريب فيه البتة. فالمسيح هو أول إنسان قام من بين الأموات جسدياً، لأنه إله منذ الأزل. ففرح التلاميذ وآمنوا، وأدركوا أن الموت ليس هو النهاية، بل أن حياة الله هي أقوى من الزوال. ولم يبق المسيح في القبر متفتتاً ككل الفلاسفة ومؤسسي الأديان وزعماء التاريخ، بل قد قام فحقق ما قال: أنا هو القيامة والحياة، من آمن بي ولو مات فسيحيا. وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد.

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، أنت الإله الحق المولود من الآب قبل كل الدهور.وأنت إنسان حق، مولود من مريم العذراء. وقد قمت من بين الأموات، رغم تجرعك أوجاع الموت. نشكرك لإعلان حياتك، التي هي عربون قيامتنا في الجسد أيضاً. يا رب الحياة، أحينا واحفظنا في محبتك.

17 - كلمات يسوع الوداعية لتلاميذه (24: 44 - 49)

24: 44 وَقَالَ لَهُمْ: «هٰذَا هُوَ ٱلْكَلامُ ٱلَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ، أَنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ وَٱلْمَزَامِيرِ». 45 حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا ٱلْكُتُبَ. 46 وَقَالَ لَهُمْ: «هٰكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ، وَهٰكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ، 47 وَأَنْ يُكْرَزَ بِٱسْمِهِ بِٱلتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا لِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ، مُبْتَدَأً مِنْ أُورُشَلِيمَ. 48 وَأَنْتُمْ شُهُودٌ لِذٰلِكَ. 49 وَهَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي. فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُّوَةً مِنَ ٱلأَعَالِي».

إن ذهن الإنسان محدود، وقلبه عنيد. فكثيراً ما سمع التلاميذ من ربهم وهو معهم بيانه عن نفسه، من هو، وماذا أتى، وأن عليه أن يموت. ولكن لا يقدر إنسان ما، أن يسمي المسيح رباً إلا بإنارة الروح القدس. فبقيت قلوب التلاميذ باردة، وأعينهم لم تلمع، لأنهم غير فاهمين السبب وضرورة موت يسوع وقيامته. أما يسوع فتثبت صبوراً وأعاد تعليمهم مراراً وتكراراً، لتنتعش في صدروهم مبادئه، حتى ولو كانوا حجراً. وفي الصدمة التي أصابتهم من ظهوره المفاجئ، اهتزت قلوبهم، وأصغت أذهانهم لكلماته. ففسر لهم مرة أخرى الواجب الإلهي في موته. وأن قيامته كانت لازمة. هكذا فإنه بعد اختباراته في الموت والهاوية، وغلبته على القوى الشيطانية، لم يعلم أتباعه أمراً مستجداً، بل دلهم على الكتب المعروفة المقدسة، التي تنبئهم أنه لا بد من آلامه وموته وقيامته. وأن تاريخ حياته صار بدقة، كما كان مسجلاً في التوراة. فالناموس كله صرخ طالباً فادياً مصالحاً الله، لأن ليس أحد يستطيع أن يحفظ الناموس كاملاً. وكل الأنبياء الأمناء اشتاقوا إلى مخلص يجدد القلوب الضالة الغبية. والملك داود عظم الآتي بمزاميره، كاشفاً في روح الله تفاصيل تألم المسيح وموته حتى صعوده. وكذلك نرى أن الروح القدس دل شعب العهد القديم منذ مئات السنين بلا شك ولا ريب، أنه ينبغي على المخلص الآتي للعالم أن يموت. ووجه هذا الروح أفكار وأذهان المؤمنين نحو الصليب محوراً للكون كله، كما يتجه عقرب البوصلة دائماً إلى القطب الشمالي مهما انقلبت البوصلة. وحتى هذا اليوم يقودك الروح القدس بواسطة الناموس والإنجيل ليس إلى الفلسفة ولا الشرائع أو الطقوس، بل مباشرة إلى شخص يسوع المصلوب والمقام من بين الأموات الحي.

فيسوع أنار عقول تلاميذه بصبر فائق، ورسم لهم خطة خلاص الله، وفتح لهم كلمة الله المكتوبة، لأنه لا يقدر إنسان أن يدرك الله من تلقاء نفسه، إلا بالنعمة المسبغة عليه من ربه. ليتنا ندرك هذا المبدأ في مدارس الأحد والاجتماعات والعبادات في الكنائس ووسط الدراسة الدينية، فندرك أنه ليست الدروس ولا المواعظ ولا التعاليم بمستطيعة إنارة مستمعينا، حتى ولو تكلمنا بألسنة الناس والملائكة، إلا إذا فتح روح الرب مباشرة قلوبهم وغير أذهانهم. فمن يدرك هذا السر في التبشير، يصلي أكثر مما يتكلم ويلح على الرب، حتى يتدخل سراعاً وعملياً وينزل قوته على المشتاقين إليه، فيحدث اليوم بيننا إقامة للأموات من الخطايا.

وليس باطلاً ما اختبرناه في الإيمان شخصياً، ولكن حقائق حياة المسيح من المهد إلى اللحد والقيامة حتى الصعود هي أهم ألف مرة من اختباراتنا الشخصية. فبواسطة هذه الشهادة ينمو الإيمان مسبباً الحياة الأبدية في المؤمن.

ومن يتعمق في أسرار حياة وموت المسيح يجد أن محبته الإلهية هي السبب العظيم لمجيئه وصليبه وقيامته. وأكثر من هذا، فإن الله لا يقدر أن يغفر لمن يريد وحيثما يريد. لأن أفكاراً سطحية لا معقولة مثل هذه عن قدرة الله تجدها في كل الأديان الخالية من الروح القدس. فقد أدركنا من التوراة والإنجيل أن:

  1. إلهنا قدوس. وعدله لا يستطيع أن يترك خطية بلا عقوبة. إن كل خاطئ يستحق الموت والهلاك. فينبغي على الله لأجل ذاته أن يجازي كل ظلم مرتكب على الأرض.

  2. ولكن بما أن الله محبة ويحب الخطاة، فقد فضل أن يموت عوضاً عن أنفسنا لنعيش نحن، لأن رحمة الله أعظم من عقولنا.

  3. ومن المستحيل أن يفني الله نفسه، لكيلا يضمحل كونه. فلهذا السبب انبثق من الله قبل البداية ابنه وروحه القدوس. فهذه أقانيم ثلاثة لإله واحد تام الوحدانية والمحبة المقتدرة.

  4. فعزم الابن أن يتجسد ويصبح إنساناً، لأنه ليس أحد من البشر، يستطيع السلوك في القداسة وبلا خطية. فلا يقدر أحد أن يموت كحمل الله عوضاً عن الآخرين، لأننا كلنا فاسدون إلا المولود من الروح القدس هو قدوس. فالمسيح وحده مستحق أن يموت كحمل الله. وهو القوي المقتدر في محبته العظيمة، ليرفع ثقل خطايا كل العالم ومات على الصليب عوضاً عنا.

  5. ولثبات المسيح قدوساً طاهراً، رغم حمله خطايانا لم يستطع الموت أن يغلبه ويقبض عليه، بل فرض عليه أن يتركه، لأن السليم من الخطايا يعيش أبداً.

  6. ولما كمل بر الله هكذا في الصليب، أراد القدوس واقتدر واستلزم عليه أن يغفر لكل الناس ذنوبهم جميعاً، إن آمنوا بحمل الله ابنه الفريد. ولكن من لا يؤمن بهذه الذبيحة الإلهية، يرفض ويلعن نعمة الله، ويدين ذاته بنفسه.

  7. ولهذا الخلاص الكامل لكل الناس نتيجة وشرط آخر. فمن اختبر غفران الخطايا في إيمانه بالمسيح ونال الحياة الأبدية، ينبغي عليه أن يخبر بهذه النعمة الآخرين، لأن محبة الله المنسكبة في قلوبنا هي الدافع في التبشير. فأمر المسيح أخيراً تلاميذه، أن يبشروا العالم كله، مقوضاً أفقهم اليهودي. فالمصلوب غفر خطايا كل الناس في كل الأزمنة. فلا ينبغي عليه أن يموت ثانية على الصليب. ولا تعرف الشعوب هذا الامتياز العظيم. فأصبح من واجبات كل مسيحي صحيح كضرورة من الروح القدس، إن يشهد بطريق الخلاص في وصف حياة المسيح لإخوانه البشر. وهذه البشارة تسبب في المخاطبين تغيير الفكر والإيمان بابن الله، وقبول الغفران، وملء الحياة الأبدية فيهم.

فهل أدركت بر الله في المصلوب، وفهمت السبب والدافع في موت المسيح وقيامته؟ فاخبر أصدقاءك، بأن فادينا حي موزع الغفران مجاناً، لينال كل إنسان الحياة الأبدية بإيمانه به.

الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح، أنت الله إلهي، وحر كأبيك ولكن محبتك دفعتك لتتنازل عن مجدك، وتنزل إلينا نحن المجرمين. فإطاعة إيمانك علقتك على صليب العار. إنما حياتك هي أبدية. لذلك قمت لتجرنا إلى حياتك الحقة. فافتح أذهاننا وعقولنا لفرحك، لندرك سلطان محبتك ونكرس أنفسنا لك أيها المحب جدد ملايين من الضالين. آمين.

(48) وأنتم شهود لذلك. (49) وهأنا أرسل إليكم موعد أبي فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي.

إن حقيقة الحادثة يستطيع أن يصفها فقط الذي رآها وشاهدها. فلهذا فوض المسيح أتباعه ليشهدوا للعالم كله بحياته، كيف عاش وتألم ومات وقام من بين الأموات. وهذا الامتياز كان للجيل المسيحي الأول فقط، لأنهم كانوا شهود عيان لسيرة يسوع.

ونحن شاهدون اليوم لأولئك الشهود، أنهم نقلوا بأمانة ومحبة وقوة وفرح وتضحية، بشرى شهادتهم إلى الأجيال التالية. فنشكرهم لهذه الخدمة لأنه بدون أناجيلهم ورسائلهم ما كنا لنحصل على غفران الخطايا ولا على الحياة الأبدية. ونشكر الرب يسوع، لأنه وضع إنجيله المقدس بكلمات بشرية بسيطة ضعيفة في أفواه تلاميذه. ولكن كلماته الإلهية، التي نطق بها الرسل، لم تنتقض في أفواههم عن قوتها، بل بقيت مقتدرة كما كانت في البداية.

وعلم يسوع أنه ليس أحد من تلاميذه، يستطيع تبشير العالم بمهارته الشخصية. بطرس أنكره، ويهوذا خانه، والآخرون هربوا واستخفوا. والكل لم يؤمنوا بقيامته. فأمرهم أن يبقوا في أورشليم، حتى يتحقق موعد الآب، بانسكاب الروح القدس في قلوبهم. لقد كانت أورشليم مكان إكمال الخلاص على الصليب. وبنفس الوقت المكان، الذي ظهر فيه الجسد الجديد للمقام من بين الأموات كرمز لقيامتنا أيضاً. فالله عين هذه المدينة لتذوق قبل كل الأمكنة في العالم لذائذ سلطان الروح القدس الممتلئ بالمحبة والفرح والسلام. وهذه المدينة المدعوة مدينة السلام، ستكون المحل الذي سيأتي إليه يسوع ثانية إذ سيقف على جبل الزيتون. فلا نتعجب إن جلس قبل هذا المجيء الثاني المسيح الكذاب في الهيكل المتجدد، ليسجد له كل الناس. ولكن بمجيء المسيح ستتم خطة خلاص الله في مدينة السلام. وتنبت من هذا المركز أمواج الفداء إلى كل الأمم، وتعود إليه حامدة شاكرة.

وقد قال المسيح، إنه سيحقق موعد الآب ويرسل الروح القدس. فهذا الروح اللطيف، يأتي من الآب والابن سواسية، لأنه روح الآب والابن بنفس الوقت. فإن أردت أن تعرف نوعية هذا الروح الغريب لأرواح البشر، فانظر إلى المسيح، فتعرف من أقواله وتصرفاته جوهر فعالية هذا الروح القدوس.

وشهد المسيح أن سكبه هذا الروح في أتباعه، يعني تحقيق موعد الآب. وأهم كلمة في هذه العبارة هي كلمة «الآب» لأنها تشهد أن الله هو آب، الذي يريد بواسطة الانسكاب أن يولد له أولاد كثيرون. فليس أحد يستطيع الذهاب إلى الله ولا رؤيته، إلا المولود ثانية بواسطة الروح القدس. وإننا لنقدس اسم أبينا السماوي، إن أعطينا لروحه مكاناً في قلوبنا، ليقود أجسادنا الفانية إلى المحبة الطاهرة ونتجدد في قوة روحه القدوس كاملين في التواضع.

إن انسكاب هذا الروح الصالح، الذي هو الله بالذات كان هدف الخلق من الأول. لقد نفخ الله نسمة في أنف الإنسان وجبله إلى صورة مجده. ولكن الخطية فصلتنا عن الخالق، وأفسدت صورة محبته فينا. فأصبحنا أنانيين قتلة مبغضين. فلهذا أتى يسوع إلى عالمنا، ليغلب الخطية في الجسد، ويمحو آثامنا، ويقدسنا إلى التمام، ليزول كل فاصل بيننا وبين الله. ولم يستطع الروح القدس، أن يأتي إلى العالم كله، قبل أن يكفر يسوع على الصليب عن خطايانا.

ومنذ هذه المصالحة، لا يوجد مانع ما لإتيان سلطان روح الله، لأن المسيح بررنا ونفس الروح يقدسنا. فليس موت يسوع هو هدف خلاص الله، بل الوسيلة الفاتحة باب السماء. فالمسيح مات على الصليب لننال الحياة الأبدية، ونعيش كنفس واحدة في كنيسته المباركة، وننتظره معاً في مجيئه الثاني.

وقد سمى يسوع الروح القدس قوة وسلطاناً. وهذه القوة تحل في المؤمنين بالمسيح، الذين كانوا في أنفسهم باطلين. ولكن القوة الإلهية تجعل الجبناء شجعاناً، والأنانيين محبين، والخطاة قديسين. وهذا الروح القدس لا يخلق فينا خليقة جديدة فقط، بل يلدنا ثانية إلى الحياة الأبدية. فالله يظهر بانسكاب هذا الروح في المؤمنين قدرته الخالقة آتياً إلينا بسلطانه، لأن هذا الروح هو الله بالذات، الذي يحل جوهرياً في أولاده المولودين.

الصلاة: أيها الآب السماوي، نشكرك بواسطة يسوع المسيح ابنك، لأنك منحتنا روحك القدوس، وبثثته في قلوبنا. افتح أذهاننا وفؤادنا تماماً لقوتك السماوية، لكي نولد ثانية، متجددين ومقدسين سلوكاً وقولاً وعملاً. لتظهر فضائلك فينا، ونعظم موت ابنك، الذي أهلّنا لقبول هذا الامتياز العظيم.

18 - صعود يسوع (24: 50 - 52)

24: 50 وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجاً إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. 51 وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ ٱنْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ. 52 فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ، 53 وَكَانُوا كُلَّ حِينٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ يُسَبِّحُونَ وَيُبَارِكُونَ ٱللّٰهَ. آمِينَ.

الوداع مر عادة ومرافق بالدموع. ولكن وداع يسوع لتلاميذه تم بفرح عظيم، لأنهم أدركوا أنه حي ولن يموت أبداً. هو الألف والياء، البداية والنهاية. فليس الموت هدف الكون بل المسيح، الذي هو هو أمس واليوم وإلى الأبد.

فقاد يسوع تلاميذه وسط وادي قدرون، ومر بجنينة الخيانة، حيث ناموا لما كان يصلي. وتسلق معهم جبل الزيتون، نحو بيت عنيا. ولم يقف يسوع ناظراً إلى ورائه، إلى المدينة التي رفضته، بل رفع يديه وبارك تلاميذه. ونقرأ عن بركة يسوع مرة واحدة في كل العهد الجديد. وإلى الآن فإن البركة كانت امتيازاً لرئيس الكهنة في العهد الجديد. حيث كان يطلب بركة الله على الشعب التائب، الذي عاش أمام القدوس تحت رش دم الذبائح. أما يسوع فأعلن بواسطة عملية البركة، أنه رئيس الكهنة الحق في كل المجد، القائد شعبه أي الكنيسة إلى التوبة، والذي يرشها بدمه الثمين، ويضع عليها سلطان أبيه. وكما أن وضع البركة سابقاً عني انسكاب قوة إلهية على المؤمنين، هكذا وضع يسوع قوته الخاصة في تلاميذه، ومنحهم حياته ومحبته وسلامه الوطيد وفرحه الأكيد. وحتى اليوم فإن يسوع هو رئيس الكهنة المبارك، لأنه يجلس عن يمين أبيه وينوب عنا ويشفع فينا ويقدسنا.

وإذ كمل يسوع بركته انتهى عمله على الأرض. فرفعه الله إليه، وأرجع له مجده، الذي كان عنده قبل نزوله إلى العالم لفدائنا. ولم يختف يسوع على جبل الزيتون عند ارتفاعه منه إلى السماء كما كان يختفي بعد ظهوره للتلاميذ في اجتماعاتهم، أثناء مكوثه على الأرض في الأيام الأربعين بين قيامته وصعوده، بل قد رفع وأصعد في السماء علانية أمام أنظار تلاميذه رمزاً لرجوعه إلى الله أبيه. فعنده يجلس اليوم عن يمينه ويضع بركته باستمرار على كنيسته، لأنه حي ويملك مع الآب والروح القدس إلهاً واحداً إلى أبد الآبدين.

وأدرك التلاميذ شيئاً من فرح السماء، الذي تعاظم عند وصول الابن إلى الآب وقبوله إياه لديه. فالمخلوقات سجدوا والملائكة حمدوا الله الواحد في ثالوثه الأقدس حمداً كبيراً. واشترك التلاميذ على الأرض في فرح السماوات هذا، إذ أن المسيحية كلها مبنية على الفرح الطاهر. فهل تعلم أن فرح الرب هو قوتنا المشجعة ومسرته المستمرة تعزيتنا؟

وعاد التلاميذ فرحين إلى أورشليم القاتلة ورتلوا ترانيم الشكر والحمد. ورجعوا من نفس الطريق التي مشوها، بدخولهم مع المسيح من قبل إلى أورشليم، لما ركب ربهم حماراً فاتحاً العاصمة لنفسه.

فهؤلاء الشهود لقيامة المسيح وصعوده في عودتهم الأخيرة، عظموا عظائم المقام من بين الأموات، الذي فدى العالم كله على الصليب. فقد ابتدأ عصر جديد من أورشليم باثاً السلام إلى الأمم جميعها.

ولم يرجع الرسل إلى بيوتهم بل ذهبوا مباشرة إلى دور الهيكل، وصلوا معاً بهدوء وعظموا الله وسبحوا محبته وأعلنوا خلاصه. فالمسيحي الحق هو مصل وشاكر وحامد، لأنه قد أكمل الخلاص. هل تجتمع بزملائك للشكر والحمد، لأجل الحياة الجديدة الموهوبة لكم؟ وهل تفرحون معاً لأجل الرجاء المجيد المهيأ لنا في المسيح؟ اطلب شركة الشاكرين، لكي تطير نفسك سابحة في الحمد والسجود.

ولربما تقول لماذا نشكر؟ فندلك على الاسم الأخير في إنجيل لوقا «الله». اشكره لكيانه ووجوده. وسلم نفسك نهائياً وأبداً، لأن يسوع قد أعلن لنا من هو الله. فهذا الاسم يشبه الورقة الشفافة التي تخفي حقيقة مجد الآب والابن والروح القدس. الإنسان الطبيعي لا يعرف من هو الله. إنه يشعر بوجوده كقوة عظيمة خالقة وضامنة الكل. ولكن هل أدركت بواسطة قراءة إنجيل لوقا من هو الله؟ وهل حصلت على معرفة جوهره؟ إن المسيح أعلن لنا محبة أبيه ووهبنا نعمته، وثبتنا في شركة الروح القدس. فمن يعرف الله، يعترف بوحدة الثالوث الأقدس، ويسجد له طيلة حياته إلى الأبد.

وهل تعرف معنى كلمة «آمين» إنها تقول لك إن كل ما قرأته وصليته وأدركته وآمنت وشهدت به من هذا الإنجيل، فهو حق ويقين، لأن الله الآب والابن والروح القدس يكفل ممارسة كل وعوده لآخر درجة، ولا ينقص شيئاً من إتمام وعوده. هل تقول «أمين» مؤمناً برسالة إنجيل لوقا؟ فتعيش إلى الأبد محفوظاً سليماً؟ ومن يحيا يسبح الرب يسوع. ومن يمجده ينتظر رجوعه بالترقب. ليغلب ملكوته معارضيه، هذا الملكوت الذي ابتدئ اليوم في المؤمنين، الذي يحملون صليبه، ويمشون في كل طرق وأنحاء الشعوب، مقدمين الخلاص والسلام مجاناً في هذه الفترة الوجيزة الباقية للبشر، باسم الرب يسوع المسيح مخلص العالم.

الصلاة: ايها الآب نشكرك لأن ابنك أعلن لنا اسمك الجوهري، وروحك القدوس ملء قلوبنا، فنعظمك ونفرح بك مع كل القديسين المؤمنين، لأنك فديتنا ونقلتنا إلى ملكوت محبة ابنك. فنطلب إليك من كل قلوبنا خلاص كثيرين من الناس في محيطنا، لكي يشتركوا معنا في حمدك ونشر ملكوتك الأبوي. آمين.

مسابقة كيف تألم المسيح ومات لأجلنا وقام في اليوم الثالث ظافراً

إن جاوبت على 24 سؤال من هذه الأسئلة الثلاثين التالية، التي تعالج الأصحاحات 20 - 24 من إنجيل لوقا بصحة وصواب نرسل لك الكتاب الذي تختاره من جدول مطبوعاتنا المرفقة في هذا الكتاب.

  1. كيف يخدم المؤمن دولته حقاً والله بنفس الوقت؟

  2. كيف وصف يسوع القيامة من بين الأموات؟

  3. كيف يكون المسيح ابن داود وابن الله بنفس الوقت؟

  4. لِمَ أدان يسوع الكتبة وعظم الأرملة البسيطة؟

  5. ما هو هدف جواب يسوع بخصوص زوال العالم؟

  6. كيف يتعذب حاملو اسم المسيح ويتعزون بنفس الوقت؟

  7. كيف ننجو من يوم انتقام الله؟

  8. كيف نستعد لمجيء المسيح تماماً؟

  9. لِمَ دخل الشيطان يهوذا؟

  10. ماذا يعني العشاء الرباني؟

  11. لِمَ التواضع يكون هو العظمة الحقة؟

  12. ما هو غاية ابتهال يسوع لأجل بطرس؟

  13. لِمَ لَمْ يرد يسوع أن يشرب الكأس من يد الله؟

  14. ماذا يعني القبض على يسوع وسجنه؟

  15. ماذا تعني دموع بطرس؟

  16. ماذا يعني اعتراف المسيح الذي قاله عن نفسه أمام المجمع الأعلى؟

  17. لماذا أصبح بيلاطس وهيرودس صديقين؟

  18. كم مرة برهن بيلاطس براءة يسوع؟

  19. كيف بانت محبة يسوع في ساعة الصلب؟

  20. ما هي الكلمات الثلاثة التي أخبرنا لوقا أن المصلوب قد نطقها. وما الذي فهمته منها؟

  21. كف دُفن المسيح؟

  22. لِمَ كان ينبغي أن يموت المسيح ويقوم من بين الأموات؟

  23. لِمَ لَمْ يصدق الرسل بشرى قيامة المسيح؟

  24. لِمَ استمع يسوع مدة طويلة إلى تلميذيه بصبر كبير؟

  25. لِمَ انتهر يسوع التلميذين بكلمة يا غبيان بينما كانا متكلمين عنه ومؤمنين به؟

  26. كيف تقوي الشهادة المتبادلة إيمان المؤمنين أجمعين؟

  27. كيف أظهر يسوع أعجوبة جسده الروحي؟

  28. لِمَ كان ينبغي على المسيح أن يموت ويقوم في اليوم الثالث؟

  29. ماذا يعني موعد الآب؟

  30. لِمَ فرح التلاميذ كثيراً لمغادرة المسيح العالم؟

الرجاء أن تكون المسابقة التي ترسلها إلينا على ورقة مستقلة دون أن تضع فيها أي خطاب أو ملاحظة أو أسئلة أو أشياء أخرى.


Call of Hope
P.O.Box 100827 
D-70007 
Stuttgart 
Germany