العودة الى الصفحة السابقة
المحبة لا تسقط أبداً

المحبة لا تسقط أبداً

تأملات في أصحاح المحبة 1كورنثوس 13

الدكتور القس. منيس عبد النور


Bibliography

المحبة لا تسقط أبداً. الدكتور القس. منيس عبد النور. الطبعة الأولى. 1992. Order Number SPB3765ARA . German title: Die Liebe hört nie auf. English title: Love Never Fails. Copyright © 1992 All Rights Reserved Call of Hope. P.O. Box 100827 D-70007 Stuttgart Germany http://www.call-of-hope.com - .

مقدمة

تشبه كنيسة اليوم كنيسة كورنثوس إلى حدٍّ كبير، فكما احتاجت كنيسة كورنثوس للتنبير على المحبة، كما يصفها أصحاحُ المحبة العظيم (كورنثوس الأولى 13) نحتاج نحن اليوم للفضيلة نفسها، وهي أعظم جميع الفضائل، فضيلة المحبة.

  1. كانت كنيسة كورنثوس منقسمةً إلى فِرقٍ وأحزابٍ، بسبب الاتكال على الحكمة البشرية (1كورنثوس 1: 1-16). فقال لهم الرسول بولس إن الفصاحة والفلسفة لا تحتلان المكانة الأولى في حياته (1كورنثوس 1: 17-2: 16) ولكن غرضه الوحيد هو أن ينادي بالمسيح المصلوب (1 كو 3 و4) الذي بيَّن لنا بصورة ملموسة المحبة السامية الباذلة التي تعطي دون أن تنتظر أخذاً ولا مكافأة.

  2. وتحتاج كنيستنا اليوم لفكر المسيح، الذي هو فكر الصليب، فكر المحبة، لأن قول الرسول يصدُق علينا: «فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَٱنْشِقَاقٌ» (1كورنثوس 3: 3).

  3. اخطأت كنيسة كورنثوس عندما رحَّبت برجلٍ تزوج من أرملة أبيه، ربما لأنه كان غنياً أو ذا مركز اجتماعي متميِّز (1كو 5). ولو أنهم كانوا يحبونه حقاً لوبَّخوه على خطئه ليرجع إلى الله بالتوبة. فالمحبة توبِّخ المخطئ لأنها تكره الخطية وتحب الخاطئ. ونحن اليوم نحتاج للمحبة التي توبِّخ لتتوِّب، كما قال الحكيم: «أَمِينَةٌ هِيَ جُرُوحُ ٱلْمُحِبِّ وَغَاشّةٌ هِيَ قُبْلاَتُ ٱلْعَدُوِّ» (أمثال 27: 6).

  4. أظهر أهل كورنثوس روحاً مشاكسة تحب المشاكل والقضايا، حتى بلغ الأمر أن أحدهم رفع قضاياه أمام المحاكم المدنية ضد إخوته المؤمنين (1كو 6). والمحبة تثق في الكنيسة وفي المؤمنين. «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ ٱلْقِدِّيسِينَ سَيَدِينُونَ ٱلْعَالَمَ؟» (1 كو 6: 2). وما أكثر قضايا المسيحيين ضد المسيحيين في المحاكم المدنيَّة اليوم!

  5. كانت كنيسة كورنثوس قد أرسلت رسالةً للرسول بولس تسأله عن الزواج (1كو 7) وعن الطعام الذي يقدمونه للأصنام: هل يأكلون منه أو يمتنعون عنه؟ (1كو 8 - 10). والمحبة هي الحل، وفيها إجابة كل سؤال. فالرجل يجب أن يحب زوجته كما يحب المسيح الكنيسة، والبيت السعيد يقوم على المحبة الصادقة. كما أن المحبة تجعل الإنسان يُحرص على مشاعر غيره من الذين يتَّفقون أو يختلفون معه في الأكل من اللحم المذبوح للوثن أو في الامتناع عن أكله.

  6. ونحن اليوم نحتاج لأصحاح المحبة (1كورنثوس 13) لنبني بيوتنا على المحبة، ولنقيم علاقاتنا الفكرية مع المحيطين بنا على أساس المحبة، ولنصدر أحكامنا على الآخرين من منطلق المحبة.

  7. كما سألت كنيسة كورنثوس بولس عن سلوك النساء في الكنيسة (1كو 11: 1-16). والمحبة هي الجواب، فالذي يحب يخضع لنظام الكنيسة، لأنه يحب رب الكنيسة. والزوجة الصالحة التي تعمّر المحبة قلبها لا ترفع صوتها، ولا تعكر صفو العبادة في بيت الرب.

  8. وسألت كنيسة كورنثوس عن وليمة المحبة التي كانت تسبق التناول من مائدة عشاء الرب (1كو 11: 17-37). والمحبة هي الجواب. فوليمة المحبة تعبير عن وحدة الجسد الذي هو الكنيسة، الذي سيأكل الخبز الواحد ويشرب الكأس الواحد.

  9. وتحدث الرسول بولس عن المواهب الروحية (1كو 12 و14). وقد افتخر بعض أهل كورنثوس بمواهبهم، مع أنها عطية من عند الله وليست من اجتهاد أحد. الموهبة موهوبة وهي هديةٌ من إنعام الروح القدس. وعلى أصحاب المواهب الطبيعية وفوق الطبيعية أن يستخدموا هذه الهدية لخدمة جسد المسيح، بكل محبة. وبين الأصحاحين اللذين يتحدث فيهما بولس عن المواهب يقدم لنا الطريق الأفضل الذي يجب أن نسعى إليه ونجدّ فيه، وهو طريق المحبة (1كو 12: 31). فكل من يشاء أن يُظهر غيرته للمسيح، ورغبته أن يبني كنيسته، يجب أن يكون كاملاً في المحبة.

  10. وفي 1كورنثوس 15 نجد الحديث عن القيامة. لقد أحبَّنا المسيح فجاءنا مولوداً في مذوَد، وعاش على أرضنا متواضعاً، ثم صُلب عنَّا، ومات ودُفن. وقام في اليوم الثالث من الموت ليكون باكورة الراقدين، وليُقِيم كل من يؤمن به من موت خطيته، وليقيمه من القبر في اليوم الأخير (يوحنا 5: 28 و31). وكل من قام من موت خطيته، وينتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي، يكون «مُكْثِرِاً فِي عَمَلِ ٱلرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، عَالِماً أَنَّ تَعَبَهُ لَيْسَ بَاطِلاً فِي ٱلرَّب» (1كو 15: 58). فالمحبة هي جوهر الحياة التي نحتاجها اليوم.

والنموذج العظيم للمحبة هو المسيح، المحبة المتجسد. لو أنك قرأت صفات المحبة كما جاءت في أصحاحنا، وحذفت كلمة «المحبة» ووضعت كلمة «المسيح» بدلها، لوجدت المعنى واضحاً وصحيحاً - فنقرأ: «المسيح يتأنّى ويرفُق. المسيح لا يحسد ولا يتفاخر ولا ينتفخ ولا يقبّح ...». وتجد في المسيح المحبة المتجسدة.

كانت المحبة واضحة في حياة المسيح وفي تعاليمه، فقد قال عن محبته الباذلة: «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هٰذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ» (يوحنا 15: 13). فقد اعتبر أعداءه الخطاة أصدقاءه وأحباءه، فبذل نفسه عنهم، ليجعل منهم فعلاً أحباءه وأصدقاءه. وتراه وهو يغسل أرجل تلاميذه يُظهر الحب الكامل «إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى ٱلْمُنْتَهَى» (يوحنا 13: 1).

وكانت المحبة واضحة في تعليمه وهو يقول: «بِهٰذَا يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ» (يوحنا 13: 35). «هٰذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ» (يوحنا 15: 12).

وعندما سُئل عن الوصية الأولى والعظمى أجاب: «إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ ٱلْوَصَايَا هِيَ: ٱسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هٰذِهِ هِيَ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلأُولَى. وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ» (مرقس 12: 29-31).

والآن تعالوا ندرس أصحاح المحبة، التي «لا تسقط أبداً» وفيه نجد:

  • القسم الأول: أهمية المحبة (آيات 1 - 3)

  • القسم الثاني: صفات المحبة (آيات 4 - 7)

  • القسم الثالث: دوام المحبة (آيات 8 - 13)

الفصل الأول: المحبة أهم الفضائل (1 كورنثوس 13: 1 - 3)

تشبه كنيسة اليوم كنيسة كورنثوس إلى حدٍّ كبير، فالكنيسة اليوم تنقسم لطوائف متعددة ومتنوعة كما كانت كنيسة كورنثوس. وتنبّر كنيسة اليوم على مواهب الروح القدس أكثر من تنبيرها على ثمر الروح القدس الذي يبدأ بالمحبة (غلاطية 5: 22 ، 23). كما أن الكنيسة اليوم تنبرّ على المواهب التي تشدّ انتباه المشاهد، مثل التكلُّم بألسنة، أو الشفاء، أكثر من تنبيرها على المواهب الأكثر أهمّية، مثل الخدمة والتعليم والوعظ والعطاء والتدبير والرحمة والمحبة (رومية 12: 6-9).

وقد ناقش الرسول بولس مواهب الروح القدس في 1كورنثوس 12 و14 وبَيْن هذين الأصحاحين جاء أصحاح المحبة. ونحتاج في هذه الأيام أن نتأمل هذا الأصحاح المتوسط ليضبط مواهبنا، ويوجّه إمكانياتنا، سواء كانت إمكانيات طبيعية أو فوق طبيعية.

يقول الرسول بولس في نهاية أصحاح 12 «جِدُّوا لِلْمَوَاهِبِ ٱلْحُسْنَى. وَأَيْضاً أُرِيكُمْ طَرِيقاً أَفْضَل» (آية 31) ويقصد به طريق المحبة. ونحتاج إلى تطبيق تعاليم هذا الأصحاح لنبرهن أننا تلاميذ المسيح.

تعوَّدنا أن نسمع عن المحبة من رسول المحبة يوحنا، ولقبه «التلميذ الذي كان يسوع يحبه» (يوحنا 13: 23). ويمكن أن نقول نحن أيضاً إنه التلميذ الذي كان يحب يسوع، فمحبة يوحنا للمسيح صدى صادقٌ أمين قوي لمحبة المسيح ليوحنا الذي يقول «نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً» (1 يوحنا 4: 19). ولكن الرسول بولس يدلي دلوه في بئر المحبة العميق ليُخرج لنا هذا الماء الحيّ الذي نقرأ عنه في 1كورنثوس 13.

كما يُحدّثنا الرسول بولس عن الإيمان الذي يخلِّص، الإيمان العامل بالمحبة، فيقول: «فِي ٱلْمسِيحِ يَسُوعَ لاَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ ٱلْغُرْلَةُ، بَلِ ٱلإِيمَانُ ٱلْعَامِلُ بِٱلْمَحَبَّةِ» (غلاطية 5: 6).

أولاً - أهمية المحبة

«إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ ٱلنَّاسِ وَٱلْمَلاَئِكَةِ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَقَدْ صِرْتُ نُحَاساً يَطِنُّ أَوْ صَنْجاً يَرِنُّ.(2) وَإِنْ كَانَتْ لِي نُبُوَّةٌ وَأَعْلَمُ جَمِيعَ الأَسْرَارِ وَكُلَّ عِلْمٍ، وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ ٱلإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ ٱلْجِبَالَ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلَسْتُ شَيْئاً. (3) وَإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي، وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئاً» .

تكمُن أهمية المحبة في أنها برهان التلمذة للمسيح، فقد قال: «بهٰذَا يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ» (يوحنا 13: 35).

1 - المحبة أهمّ من الألسنة والفصاحة (آية 1):

يقول الرسول بولس: «إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ ٱلنَّاسِ وَٱلْمَلاَئِكَةِ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَقَدْ صِرْتُ نُحَاساً يَطِنُّ أَوْ صَنْجاً يَرِنُّ» (1كورنثوس 13: 1). وربما قصد الرسول بألسنة الملائكة لغةً أسمى من كل لغةٍ يتكلمها الناس أو يعرفونها، كاللغة التي سمعها الرسول بولس عندما اختُطف إلى السماء الثالثة وسمع كلماتٍ لا يُنطق بها ولا يسوغ لأحدٍ أن يتكلم بها (2كورنثوس 12: 4).

وقد تعني «ألسنة الملائكة» اللغة الأجنبية التي تكلَّم بها الذين امتلأوا بالروح القدس يوم الخمسين. ولكن الكلام بأعظم لغةٍ تسمو فوق إدراك الناس (بدون محبة) يشبه النحاس الذي يطنّ، أو الصنوج التي ترنّ، وهي الآلات الموسيقية البدائية للغاية، الرخيصة الثمن، وإيقاعها الموسيقي من أضعف ما يمكن، فلا يحرِّك أحداً.

فالفصاحة العظيمة واللغة السامية مهما علَت، إن كانت بغير محبة، هي كأضعف آلة موسيقية رخيصة لا تعطي لحناً مميزاً.

ولا يتحدث الرسول بولس هنا عن الألسنة المفهومة التي أعطاها الله لرسله يوم الخمسين (أعمال 2: 4). ولكنه يتحدث عن اللغة غير المفهومة التي كانوا يتكلمونها في كورنثوس، والتي قال الرسول بولس عنها: «مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ لاَ يُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ بَلِ ٱللّٰهَ، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَسْمَعُ. وَلٰكِنَّهُ بِٱلرُّوحِ يَتَكَلَّمُ بِأَسْرَارٍ... إِنِّي أُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَكُمْ تَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ، وَلٰكِنْ بِٱلأَوْلَى أَنْ تَتَنَبَّأُوا. لأَنَّ مَنْ يَتَنَبَّأُ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةٍ، إِلاَّ إِذَا تَرْجَمَ، حَتَّى تَنَالَ ٱلْكَنِيسَةُ بُنْيَاناً. فَٱلآنَ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، إِنْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ مُتَكَلِّماً بِأَلْسِنَةٍ، فَمَاذَا أَنْفَعُكُمْ، إِنْ لَمْ أُكَلِّمْكُمْ إِمَّا بِإِعْلاَنٍ، أَوْ بِعِلْمٍ، أَوْ بِنُبُوَّةٍ، أَوْ بِتَعْلِيمٍ؟ اَلأَشْيَاءُ ٱلْعَادِمَةُ ٱلنُّفُوسِ (الجماد) ٱلَّتِي تُعْطِي صَوْتاً: مِزْمَارٌ أَوْ قِيثَارَةٌ، مَعَ ذٰلِكَ إِنْ لَمْ تُعْطِ فَرْقاً لِلنَّغَمَاتِ، فَكَيْفَ يُعْرَفُ مَا زُمِّرَ أَوْ مَا عُزِفَ بِهِ؟ وَلٰكِنْ فِي كَنِيسَةٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَكَلَّمَ خَمْسَ كَلِمَاتٍ بِذِهْنِي لِكَيْ أُعَلِّمَ آخَرِينَ أَيْضاً، أَكْثَرَ مِنْ عَشْرَةِ آلاَفِ كَلِمَةٍ بِلِسَانٍ... فَإِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلْكَنِيسَةُ كُلُّهَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ ٱلْجَمِيعُ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ، فَدَخَلَ عَامِّيُّونَ أَوْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، أَفَلاَ يَقُولُونَ إِنَّكُمْ تَهْذُونَ؟» (1كورنثوس 14: 2 و5-7 و19 و23).

فالألسنة، مهما كانت رفيعة، فهي غير مفهومة، ولا تحرِّك أحداً، ولا تنعش أحداً من سامعيها. أما كلمة الوعظ فهي التي تبني.

كان أهل كورنثوس يتكلمون كلمات غير مفهومة لا يدركها أحد. وكانت مشاعرهم أثناء التكلُّم بها خالية من المحبة، لأنهم كانوا يتفاخرون بها على الآخرين. فلم تكن كلماتهم الأعجمية سبب بركة للمستمعين، بل مصدر رِفعة شخصية لأنفسهم، لأن المحبة غابت منها.

عندما يكون الإنسان قليل المحبة يهتمّ بعطية الله له وينسى المعطي، كما يأخذ الطفل الصغير الهدية من أبيه ويجري بها، دون أن يقدم لوالده شكراً، لأن اهتمام الطفل بالهدية أكبر من اهتمامه بأبيه، بسبب بساطة تفكيره. وحب الطفل «للشيء» أكبر من حبه «للشخص». كذلك نجد أن كثيرين يهتمون بالمواهب أكثر من الواهب الذي أعطى المواهب. ولكن المحبة أهم من المواهب، لأنها تربطنا بصاحب المواهب، وتجعلنا نُحسن استخدام الموهبة، مستعدين لخدمة الآخرين. لكن إذا ركزنا على الموهبة وحدها بغير محبة للمُهدي، وبغير تفكير في الهدف الذي من أجله أهدانا الموهبة، تكون موهبتنا، مهما سمَت في نظرنا ونظر الآخرين، نحاساً يطنّ أو صنجاً يرنّ!

وعندما يكون الإنسان قليل المحبة يفتخر بعطية الله له، وهذا يعرّض جماعة المؤمنين للانقسام. فتكون الموهبة التي يجب أن تبني، تهدم، وبدل أن توحّد وتقرّب، تقسم.

فالمحبة أهم من المواهب، لأن المحبة بركة بدون مواهب، أما المواهب بدون محبة فلا تنفع شيئاً.

كان في الكنيسة الأولى فصحاء، نادوا بالإنجيل وكرزوا بالمسيح عن حسدٍ وخصامٍ وتحزُّب، لا عن إخلاص، ظانين أنهم يضيفون إلى وُثق الرسول بولس ضِيقاً (فيلبي 1: 15 و16). لقد كانوا معلِّمين ذوي فصاحة مُقنعة، ولكن بدوافع خالية من المحبة. فلم يكونوا إلا نحاساً يطنّ أو صنجاً يرنّ. أما الرسول بولس فشرح مشاعره من نحو عمل هؤلاء المعلمين بقوله: «غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ سَوَاءٌ كَانَ بِعِلَّةٍ أَمْ بِحَقٍّ يُنَادَى بِٱلْمَسِيحِ، وَبِهٰذَا أَنَا أَفْرَحُ. بَلْ سَأَفْرَحُ أَيْضاً. لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا يَؤُولُ لِي إِلَى خَلاَصٍ بِطِلْبَتِكُمْ وَمُؤَازَرَةِ رُوحِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (فيلبي 1: 18 و19). وهذه هي المحبة الفصحى الأسمى من كل فصاحة!

2 - المحبة أهمّ من النبوَّة والعِلم (آية 2):

«َإِنْ كَانَتْ لِي نُبُوَّةٌ وَأَعْلَمُ جَمِيعَ الأَسْرَارِ وَكُلَّ عِلْمٍ، وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ ٱلإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ ٱلْجِبَالَ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلَسْتُ شَيْئاً» .

عرَّف الرسول بولس النبوَّة بقوله: «مَنْ يَتَنَبَّأُ يُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ بِبُنْيَانٍ وَوَعْظٍ وَتَسْلِيَةٍ» (1كو 14: 3). فالنبوَّة ليست فقط إنباءً بالمستقبل، لكنها تعليمٌ ووعظٌ للناس. وفي أصحاح المحبة يؤكد أن النبوَّة بدون محبة لا شيء. فالواعظ يجب أن يحب الموعوظين، والذي ينبئ بالبركة القادمة يجب أن يحب الذين ينبئهم، كما أن الذي ينبئ بالعقاب القادم يجب أن يعلن ذلك بكل شفقة على الذين سيحل بهم العقاب، كما قال إرميا: «يَا لَيْتَ رَأْسِي مَاءٌ وَعَيْنَيَّ يَنْبُوعُ دُمُوعٍ، فَأَبْكِيَ نَهَاراً وَلَيْلاً قَتْلَى بِنْتِ شَعْبِي» (إرميا 9: 1).

والعلم هو معرفة الأسرار الروحية العميقة التي نعظ بها. والنبوَّة والعلم مرتبطان، لأن الإنسان الذي يعرف الأسرار هو الذي يعلِّمها في الوعظ. ومن أعظم الأسرار التي تبيّن محبة الله لنا «سر التقوى» لأنه «بِٱلإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (1تيموثاوس 3: 16). هكذا أحب الله العالم حتى جاء لأرضنا متجسداً في المسيح ليجسّد لنا محبته، ويحمل عنّا عقوبة الخطية، مقدِّماً نفسه ذبيحةً كفارية عن خطايا العالم كله. فكيف يحب الله البشر الخطاة كل هذا الحب؟! هذا هو سرّ السماء، وبرهانه تجسُّد المسيح.

وهناك سرٌّ عظيم آخر، هو أن الله اختارنا نحن الأمم لنكون شركاء في الميراث مع كل الذين قبلوا المسيح من الشعب اليهودي المختار. وهذا هو: «إِعْلاَنُ ٱلسِّرِّ ٱلَّذِي كَانَ مَكْتُوماً فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَزَلِيَّةِ، وَلٰكِنْ ظَهَرَ ٱلآنَ، وَأُعْلِمَ بِهِ جَمِيعُ ٱلأُمَمِ بِٱلْكُتُبِ ٱلنَّبَوِيَّةِ حَسَبَ أَمْرِ ٱلإِلٰهِ ٱلأَزَلِيِّ، لإِطَاعَةِ ٱلإِيمَانِ» (رومية 16: 25 و26). لقد صار الأمم شركاء الميراث، لأنه هكذا أحب الله العالم كله.

ويقول لنا المرنم: «سِرُّ ٱلرَّبِّ لِخَائِفِيهِ» (مزمور 25: 14). فالله يعلن لمتَّقيه أسرار ملكوته، لأنه يحبهم وهم يحبونه. ولو أن إنساناً عرف كل الأسرار السماوية، وعلَّم بها، دون أن يكون قلبه عامراً بالمحبة، فهو ليس شيئاً. لقد عرف رجال الدين اليهود أسرار النبوات عن مجيء المسيح، وولادته في بيت لحم من عذراء. ولما سُئلوا عن مكان الميلاد أجابوا إجابة صحيحة، واقتبسوا النبوَّة الخاصة بذلك وحددوا مكانها في التوراة (متى 2: 5 و6) ليس لأحدٍ حبٌّ أعظم من هذا: أن يضع أحدٌ نفسه لأجل أحبائه. ولكن لم يتحرك منهم أحد ليذهب لبيت لحم ليرى المخلِّص المولود في مدينة داود، ومشتهى كل الأمم. أما الذين أحبّوا الله فقد جاءوا من أبعد البلاد ليسجدوا له، ويقدّموا له هداياهم.

نقرأ في العهد القديم عن نبيٍّ اسمه بلعام، قال: «وَحْيُ بَلْعَامَ بْنِ بَعُورَ. وَحْيُ ٱلرَّجُلِ ٱلْمَفْتُوحِ ٱلْعَيْنَيْنِ. وَحْيُ ٱلَّذِي يَسْمَعُ أَقْوَالَ ٱللّٰهِ وَيَعْرِفُ مَعْرِفَةَ ٱلْعَلِيِّ» (العدد 24: 15 و16). كان بلعام موحِّداً بالله، ومن وطن إبراهيم الخليل، وذاع صيته فقصده الناس من كل مكان ليُنبئهم بأمورٍ تتعلّق بهم، وليباركهم ويبارك مقتنياتهم. ولكن قلبه خلا من محبة شعب الله، وامتلأ بمحبة المال، فاستأجره الملك بالاق ليلعن بني إسرائيل. ولما عجز عن لعنهم، لأن الله منعه، أفتى بتضليلهم بعبادة الأوثان وبارتكاب النجاسة. وانتهى أمره بأن مات مقتولاً (العدد 31: 16). ووصف الرسول بطرس الضالين بأنهم «ضَلُّوا تَابِعِينَ طَرِيقَ بَلْعَامَ بْنِ بَصُورَ ٱلَّذِي أَحَبَّ أُجْرَةَ ٱلإِثْمِ» (2 بطرس 2: 15). فصار النبي بلعام لا شيء، لأن قلبه خلا من المحبة.

ونقرأ في العهد الجديد أيضاً نبوَّةً من نبي خلا قلبه من المحبة، يصفه الإنجيل بالقول: «فَقَالَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَيَافَا، كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ ٱلسَّنَةِ: «أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئاً، وَلاَ تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ ٱلشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ ٱلأُمَّةُ كُلُّهَا». وَلَمْ يَقُلْ هٰذَا مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ إِذْ كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ ٱلسَّنَةِ، تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ ٱلأُمَّةِ، وَلَيْسَ عَنِ ٱلأُمَّةِ فَقَطْ، بَلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ ٱللّٰهِ ٱلْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ» (يوحنا 11: 49-52). تنبّأ قيافا بموت المسيح عن العالم كله، وهذه نبوَّة صحيحة ولكنها خالية من المحبة، فتآمر قيافا مع سائر قادة اليهود ليصلبوا المسيح.

يمكن أن يكون هناك واعظ عظيم، يخلو قلبه من المحبة. مثل هذا يمكن أن يوصِّل رسالة محبة الله لشخصٍ يحتاج إليها. كما أن الناس لا يمكن أن يتأثروا بالفصاحة العظيمة التي يعلن بها نبوَّته وعلمه إن كان بلا محبة. فبدون محبة لا نقدر أن نقترب من الله، ولا نقدر أن نقرِّب الناس لله.

والمحبة أعظم من النبوَّة والعلم، لأنه سيجيء وقت لا نكون فيه محتاجين لوعظٍ ولا لعلم، ولكن لن يجيء وقت لا نحتاج فيه للمحبة. وقد وصف الإنجيل الوقت الذي لا نحتاج فيه لوعظٍ، في قول كاتب العبرانيين: «أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي أَذْهَانِهِمْ، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلٰهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً. وَلاَ يُعَلِّمُونَ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ قَائِلاً: ٱعْرِفِ ٱلرَّبَّ، لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ» (عبرانيين 8: 10 و11).

3 - المحبة أهمّ من الإيمان والمعجزات (آية 2ب):

«إِنْ كَانَ لِي كُلُّ ٱلإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ ٱلْجِبَالَ، وَلٰكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَسْتُ شَيْئاً» .

في مصر، في القرن العاشر الميلادي، أثناء حكم الفاطميين، ذهب وزيرٌ يهوديٌّ للخليفة وقال: «مكتوب في إنجيل المسيحيين أنه إن كان عند أحدٍ إيمانٌ كحبَّة خردل يحرِّك الجبل». فاستدعى الخليفة العزيز بالله الفاطمي البطريرك المصري وسأله عن صحَّة وجود هذه الآية. وعندما أجابه بوجودها في متى 21: 22 طلب منه تحريك جبل المقطم. ونتيجةً لاستجابة الصلاة المؤمنة تحرك الجبل!

هناك إيمان عقلي يعرف ما جاء في الكتاب المقدس، ويجاوب على الأسئلة الدينية الصعبة، ويعرف أن يحل المشاكل الفقهية. لكنه إيمان العقل الفاهم، وليس إيمان القلب المطمئن. إنه كإيمان الشياطين الذين يؤمنون ويقشعرّون، ولكنهم لا يتغيّرون (يعقوب 2: 19).

والمحبة أعظم من الإيمان الذي يعمل المعجزات، فالإيمان يُجري معجزة كبيرة (كتحريك جبل المقطم) مرة كل حقبة من الزمن. لكن المحبة تُمارَس كل يوم، فهي لذلك أعظم من الإيمان.

ولا يُقلِّل الرسول بولس من أهمية الإيمان ولا من قيمة المعجزة، لكنه ينبّهنا أن المحبة لازمة ومطلوبة كل يوم. الإيمان الذي ينقل الجبال يثير الدهشة، لكن المحبة تكسر القلب القاسي. قد يندهش إنسان ولا يؤمن، كما اندهش شيوخ اليهود من قيامة لعازر بعد موته بأربعة أيام، ولم يقدروا أن ينكروا أن المسيح أجرى المعجزة. ولكن هذا جعلهم يفكرون في قتل لعازر، حتى يختفي الدليل على قدرة المسيح وسلطانه! فالمعجزة لا تحرِّك القلب المنبهر بالمعجزة، لكنها تساعد القلب الذي يحب الله، فيزيد إيمانه!

نقرأ في خروج 7: 11 و12 كيف ألقى موسى عصاه فصارت حيَّة. ولكن السحرة المصريين ألقوا عصيَّهم فصارت حيَّات! هذه معجزة. وفي ذات الأصحاح آية 20 و22 نقرأ كيف حوَّل موسى الماء إلى دم، فحوَّل السحرة الماء إلى دم كذلك. والفرق بين معجزة موسى ومعجزة السَّحرة أن معجزة موسى فيها محبة، لأنها تعلن اهتمام الرب بشعبه. أما سحرة فرعون فأجروا المعجزة ليحطموا معجزة موسى، وليطفئوا برهان الله، لأن قلوبهم الخالية من المحبة أرادت أن تحتفظ بالأسرى عبيداً. أما معجزة الله فهي معجزة محبة تطلِق الأسير حرّاً. وما أعظم الفرق بينهما! ولمثل سحرة فرعون يقول المسيح: «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. بَلِ ٱلَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِٱسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِٱسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِٱسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي ٱلإِثْمِ» (متى 7: 21-23).

4 - المحبة أعظم من الحماسة والغيرة (آية 3):

«َإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي، وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ، وَلٰكِنْ لَيْسَ لِي محَبَّةٌ، فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئاً» .

يقدم كثير من الناس العطاء بغير محبة، ولكن بدافع الرغبة في الحصول على مدح الآخرين، وللافتخار الشخصي. وقد يعطي الإنسان كتكليفٍ واجبٍ مفروضٍ عليه. ولكن ما أعظم الفرق بين عطية التفاخر أو الإجبار وعطية المحبة. نقرأ في مرقس 12: 41-44: «وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ ٱلْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي ٱلْجَمْعُ نُحَاساً فِي ٱلْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيراً. فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ، قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ. فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمُ: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هٰذِهِ ٱلأَرْمَلَةَ ٱلْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ ٱلَّذِينَ أَلْقَوْا فِي ٱلْخِزَانَةِ، لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هٰذهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا». فالرب يرى روح العطاء وكيفيته، ولا يقدِّر إلا العطاء الحقيقي، عطاء المحبة.

«إن أطعمْتُ كل أموالي» للفقراء بدون محبة، سينتفع الفقراء، لكن المعطي لا ينال من الله شيئاً!

«إن سلّمت جسدي حتى أَحترِق» فهناك من يقدِّم جسده حتى يحترق كله، حباً في الله، كما شهد نبوخذ نصّر للفتية الثلاثة وقال: «ٱتَّكَلُوا عَلَيْهِ وَغَيَّرُوا كَلِمَةَ ٱلْمَلِكِ وَأَسْلَمُوا أَجْسَادَهُمْ لِكَيْ لاَ يَعْبُدُوا أَوْ يَسْجُدُوا لإِلَهٍ غَيْرِ إِلَهِهِمْ» (دانيال 3: 28). فنجّى الرب أجساد الفتيان الثلاثة من الحريق لأنهم سلَّموها للأتون حباً له. ولكن هناك من يسلِّم جسده حتى يحترق بُغضاً للناس، كما فعل جنود الحروب الصليبية، فماتوا واحترقوا وهم يقتلون ويسفكون الدماء، رغم أن سلاح المسيح هو سيف الروح الذي هو كلمة الله (أفسس 6: 17). ورغم أنه قال: «كُلُّ ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلسَّيْفَ بِٱلسَّيْفِ يَهْلِكُونَ» (متى 26: 52).

يعلّمنا الرسول بولس في هذه الآيات الثلاث أن المحبة أعظم الكل. هي أعظم من المواهب، وأعظم من النبوَّة والتعليم، وأعظم من الإيمان والمعجزات، وأعظم من الحماسة والغيرة.

إن مشكلتنا الروحية الأولى هي عدم ترتيب أولويّاتنا. أولويّتنا الأولى هي المحبة، ثم المواهب، ثم النبوَّة والعلم، وبعدها الإيمان والمعجزات، ثم الحماسة والغيرة.

ليعلمنا الله أن نحب، ليس فقط الذين يحبوننا ولكن الذين يسيئون إلينا أيضاً، كما أحبنا المسيح وأسلم نفسه لأجلنا.

صلاة

يا أبانا السماوي علَّمتنا المحبة في كلمتك وفي المسيح لأنك أنت محبة، وقد أحببتنا ونحن أعداء، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا. وبفضل كفّارته غفرْتَ خطايانا وجعلتنا ورثة الله ووارثين مع المسيح. نلتمس أن تجعل حياتنا حياة المحبة، لنحيا مزمور المحبة بكل القلب والفكر، ولنحب بالطريقة التي تحب أنت بها. في شفاعة المسيح. آمين

الفصل الثاني: «اَلْمَحَبَّةُ تَتَأنَّى وَتَرْفُقُ» (1 كورنثوس 13: 4)

بعد أن رأينا أهمية المحبة، نتأمل صفاتها (آيات 4-7) التي تبدأ بأنها «تتأنى وترفق». ويقدم الرسول بولس خمس عشرة صفة للمحبة، نتأمل في هذا الفصل أول صفتين منها:

(1) المحبة تتأنى: بمعنى أنها طويلة الروح والأناة، بطيئة الغضب، لا تقطع علاقةً مع أحد، وتعطي فرصةً متكررة جديدة للجميع، حتى للمسيئين إليها.

(2) المحبة ترفُق: لأنها رقيقة، ومعناها في اليونانية «حلوة مع الجميع».

أعطانا الله النموذج الأعلى للتأني والرِّفق. فعندما سقط أبوانا الأولان في العصيان جاءهما الله يمدّ يد المحبة، فقال آدم للّه: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي ٱلْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَٱخْتَبَأْتُ» (تكوين 3: 10). وألقى آدم اللوم على حواء، وألقته حواء على الحيّة. وبالرغم من هذا رتَّب الله في محبته الخلاص والفداء لأبوينا الأوّلَيْن، فأعطاهما الوعد العظيم أن نسل المرأة يسحق رأس الحيّة (تكوين 3: 15). ثم سترهما بأقمصةٍ من جلدٍ. فما أعظم محبة الله التي تأنَّت وترفَّقت، فوعدت بمجيء المخلِّص، ثم سترت ،وأعطت شريعة موسى وذبائحها الحيوانية، التي كانت رمزاً لحمل الله الذي يرفع خطية العالم، والذي بذبيحة نفسه دخل مرةً واحدة إلى الأقداس فوجد لنا فداء أبدياً (يوحنا 1: 27 وعبرانيين 9: 12).

كان يمكن أن الله يُهلك آدم ويبدأ بداية جديدة بإنسان آخر، لكن الله في رفقه وأناته أعطى آدم فرصة ثانية.

ونرى أناة الله ورفقه واضحة في كل تاريخ بني إسرائيل، وهو يرسل إليهم نبياً بعد نبي، ويعلّمهم درساً بعد درس، رغم أنهم يكرِّرون ارتكاب نفس الخطأ. وفي قصة حياة النبي هوشع نرى الله يدرِّب نبيَّه لتكون له مشاعر مثل مشاعر الله من نحو شعبه، فطلب الله من هوشع أن يرتبط بامرأة ساقطة كما ارتبط الله بشعبٍ ساقط. ولكن السيدة الساقطة عاودت السقوط. في سقوطها الأول قلَّت قيمتها، وفي سقوطها المتكرر ضاعت قيمتها. ولكن الله كلَّف هوشع أن يتزوجها من جديد، لأنه أراد أن يقول لهوشع وللشعب كله إنه يحب شعبه بالرغم من كل خطاياهم، وقال: «لَمَّا كَانَ إِسْرَائِيلُ غُلاَماً أَحْبَبْتُهُ، وَمِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ٱبْنِي... وَأَنَا دَرَّجْتُ أَفْرَايِمَ مُمْسِكاً إِيَّاهُمْ بِأَذْرُعِهِمْ... كُنْتُ أَجْذِبُهُمْ بِحِبَالِ ٱلْبَشَرِ بِرُبُطِ ٱلْمَحَبَّةِ، وَكُنْتُ لَهُمْ كَمَنْ يَرْفَعُ ٱلنِّيرَ عَنْ أَعْنَاقِهِمْ، وَمَدَدْتُ إِلَيْهِ مُطْعِماً إِيَّاهُ» (هوشع 11: 1-4).

فبالرغم من خطية الشعب وخيانته لأوامر الرب، يعبّر لهم عن حبه، وعن مشاعر أبوّته، وهو يدرِّجهم ويعلِّمهم المشي، ويمدُّ لهم يده بالطعام! ثم يقول: «َكيْفَ أَجْعَلُكَ يَا أَفْرَايِمُ، أُصَيِّرُكَ يَا إِسْرَائِيلُ؟! كَيْفَ أَجْعَلُكَ كَأَدَمَةَ، أَصْنَعُكَ كَصَبُويِيمَ؟» (هوشع 11: 8) أي: كيف أخرب بلادكم (رغم خطاياكم) فتصيرون كأدمة وصبوييم (تكوين 10: 19) وهما مدينتان من مدن دائرة سدوم وعمورة التي أحرقها الله بسبب خطاياها؟ ثم يقول الرب: «قد انقلب عليَّ قلبي. اضطرمت مراحمي جميعاً!». فالرب لا يحتمل أن يبيدهم، لأن محبته لهم تتأنى عليهم وترفق بهم.

ونرى المحبة نفسها التي تتأنى وترفق في معاملات المسيح مع تلاميذه الذين أحبهم وعلَّمهم وساروا معه ثلاث سنوات. ولكنهم عند الصليب خافوا جميعاً وهربوا. ومع ذلك قال المسيح للمريمتين بعد قيامته: «اِذْهَبَا قُولاَ لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى ٱلْجَلِيلِ، وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي» (متى 28: 10).

وقد أوضح المسيح أناة المحبة التي ترفق في مثَل شجرة التين التي لم تثمر، فقال صاحبها للعامل في أرضه «ثَلاَثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ ثَمَراً فِي هٰذِهِ ٱلتِّينَةِ وَلَمْ أَجِدْ. اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ ٱلأَرْضَ أَيْضاً؟ فَأَجابَ: يَا سَيِّدُ، ٱتْرُكْهَا هٰذِهِ ٱلسَّنَةَ أَيْضاً، حَتَّى أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً. فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَراً، وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطَعُهَا» (لوقا 13: 7-9).

وهذا التعامل الإلهي المتأني الرفيق واضحٌ في حياتنا نحن واختباراتنا اليومية، فالله يباركنا ويُنعم علينا، مع أننا نخطئ ونرتدّ عنه ونتذمر عليه. ولكنه في محبته الكاملة يحبنا رغم ضعفنا. وهذا يدفعنا لأن نحيا حياة المحبة التي تتأنى وترفق مع الجميع «مُتَمَثِّلِينَ بِٱللّٰهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ» (أفسس 5: 1).

فلندرس كيف نحيا حياة المحبة، بأن نرى:

1 - صفات التأني والرفق:

أ - المحبة المتأنية الرفيقة طويلة الأناة بغير يأس:

المحبة التي تتأنى وترفق تطيل أناتها، ولا تفقد أملها، وتعطي الآخرين فرصة ثانية، كما أن الله دائماً يعطيها فرصة ثانية عندما تضيِّع فرصة أو تسيء التصرُّف. عندما يسقط المؤمن في الخطأ يعلم أن الله يحبه ويقلب له صفحة جديدة، فيقول: «لاَ تَشْمَتِي بِي يَا عَدُوَّتِي. إِذَا سَقَطْتُ أَقُومُ. إِذَا جَلَسْتُ فِي ٱلظُّلْمَةِ فَٱلرَّبُّ نُورٌ لِي. أَحْتَمِلُ غَضَبَ ٱلرَّبِّ لأَنِّي أَخْطَأْتُ إِلَيْهِ، حَتَّى يُقِيمَ دَعْوَايَ وَيُجْرِيَ حَقِّي. سَيُخْرِجُنِي إِلَى ٱلنُّورِ. سَأَنْظُرُ بِرَّهُ» (ميخا 7: 8 و9). فالرب ينقل المؤمن إلى النور ويُريه البر السماوي. وهذا أعظم دافعٍ للمؤمن الذي متّعه الله بالمواهب الروحية أن يتصرف مع غيره كما يتصرف الرب معه.

لقد تأنى المسيح على تلميذه توما الذي شك في حقيقة القيامة، وقال: «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ». وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تَلاَمِيذُهُ أَيْضاً دَاخِلاً وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوعُ وَٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ وَقَالَ: «سَلاَمٌ لَكُمْ». ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: «هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً». أَجَابَ تُومَا: «رَبِّي وَإِلٰهِي» (يوحنا 20: 24-28).

ب - المحبة المتأنية الرقيقة هي التي تستمر ولا تتوقف:

لا تتوقف المحبة المتأنِّية المترفِّقة أبداً، فهي تستمر في عطائها برغم الإساءات المتكررة.

قام أبشالوم بمحاولة انقلاب فاشلة ضد أبيه الملك داود، وانقسم بنو إسرائيل إلى معسكرين: معسكر في صف أبشالوم والآخر في صف داود. ولكن محبة داود المتأنية على ولده جعلته يوصي أتباعه به ويقول: «تَرَفَّقُوا لِي بِٱلْفَتَى أَبْشَالُومَ» (2 صموئيل 18: 5). لقد رأى في ابنه الثائر عليه «فتى» قليل الخبرة فأشفق عليه مما كان يفعله! وعندما سمع داود أن ابنه قُتل صرخ في ألم: «يا ابني أبشالوم! يا ليتني متُّ عوضاً عنك».

ارتكب شاب عدة جرائم، فسُجن. وكانت أمه تذهب دوماً لتزوره في السجن وتحمل له الهدايا حتى استدانت وتعبت صحتها. واستمرت تفعل هذا رغم أنه كان يستقبلها في كل زيارة بالإساءة. وكان للأم جارٌ نصحها أن تتوقف عن زيارته، لأنها تعبت ولم تلقَ من ابنها أي تقدير. فقالت لجارها: «نعم هو لا يقدِّر ما أفعله، لكني أقدّره. إن له أماً واحدة، لم يَبقَ من عمرها إلا القليل!». هذه هي محبة الأم التي تستمر، لأنها المحبة التي تتأنى وترفق، صاحبة النَّفَس الطويل، القادرة على العطاء الذي لا ينقطع، لأن نبعها في السماء.

ج - المحبة المتأنية الرفيقة تحفظ لصاحبها سلامه الداخلي:

المحبة تتأنى وترفق حتى وسط المتاعب والآلام، فتملأ قلب صاحبها سلاماً عميقاً يستمدّه من الرب الذي قال: «بِصَبْرِكُمُ ٱقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ» (لوقا 21: 19). صحيح أن المحبة تنفع الذين نحبهم، ولكنها قبل ذلك تنفعنا نحن الذين نحب، لأننا بها نقتني أنفسنا.

د - المحبة المتأنية الرفيقة تتلقّى الصدمات:

هناك نصحية حكيمة تقول: «لا تتوقَّع كثيراً من الناس لكيلا يخيب أملك. ولكن كن عند حُسن ظنّ الناس الذين يتوقّعون الخير منك». ولا يمكن أن تنفِّذ هذه الوصية إلا المحبة الرفيقة لأنها ينبوعٌ متدفق فائض يستمدّ فيضه من مصادر دائمة الجريان، هي نهر محبة الفادي الذي لا يُحدّ. وصاحب المحبة المتأنية لا يتوقف عن المحبة حتى لو صدموه. وهو يتصرف كالمسيح الذي شفى أذن ملخس، مع أن ملخس جاء ليلقي القبض عليه. فقد تلقّى المسيح الصدمة من ملخس بغير أن تصدمه، بل إن المسيح أحسن إليه.

قال الرسول بولس لقسوس كنيسة أفسس: «اِحْتَرِزُوا اِذاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ ٱلرَّعِيَّةِ ٱلَّتِي أَقَامَكُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً، لِتَرْعُوا كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي ٱقْتَنَاهَا بِدَمِهِ.. لِذٰلِكَ ٱسْهَرُوا، مُتَذَكِّرِينَ أَنِّي ثَلاَثَ سِنِينَ لَيْلاً وَنَهَاراً، لَمْ أَفْتُرْ عَنْ أَنْ أُنْذِرَ بِدُمُوعٍ كُلَّ وَاحِدٍ» (أعمال 20: 28 و31).

2 - اعتراضات على التأني والرِّفق

يَشْكو كثيرون من شريك الحياة أو من الأبناء، أو من رئيس العمل أو الشريك فيه، أو من الجيران. وعندما تنصحهم بعدم ردّ الإساءة بإساءة يعترضون.

وأذكر ثلاثة اعتراضات على التأني والرفق، ثم أورد الردود عليها:

أ - قال أحدهم:

«الإساءة التي أُسئت بها إساءة بالغة للغاية. أساءوني جداً، وأنا لا أستطيع أن أتأنى وأرفق، لأني جُرحت جُرحاً بليغاً».

ولهذا الشخص نقدم ثلاث نصائح:

٭ لا يمكن أن تكون الإساءة التي أساء الناس بها إليك أكبر من إساءتك أنت للرب ولغيرك من الناس، ومع ذلك احتملك الرب. فنحن عادةً ننسى ما نسيء به إلى غيرنا، ولكننا نتذكر ما يسيء به الآخرون إلينا. وعلينا أن نتذكر النصيحة الرسولية: «كُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً فِي ٱلْمَسِيحِ» (أفسس 4: 32).

ولنا في الصلاة الربانية، وفي تعليق المسيح عليها، ما يساعدنا على أن نكون ذوي محبة متأنية رفيقة. فقد علّمنا المسيح أن نصلي: «ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا... وَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ للنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ ٱلسَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلاَّتِكُمْ» (متى 6: 12 و14 و15).

لقد سامح المسيح المسيء والمُساء إليه. فلنسامح كما سامحنا الرب، ولنصلِّ أن يتعامل الرب مع المسيء إلينا ويسامحه كما تعامل الرب معنا وسامحنا.

٭ وهناك نصيحة ثانية لمن يقول إن الإساءات ضده بالغة، هي أن المسيح يحمل معك الإساءة التي صدرت ضدك. والدليل على ذلك أنه عندما مدّ شاول الطرسوسي يده ليسيء للمؤمنين قال له المسيح: «شَاوُلُ، شَاوُلُ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟... أَنَا يَسُوعُ ٱلَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ» (أعمال 9: 4 و5). ونقرأ في نبوَّة زكريا: «مَنْ يَمَسُّكُمْ يَمَسُّ حَدَقَةَ عَيْنِهِ» (زكريا 2: 8) والمعنى أن من يسيء إلينا يؤذي نفسه، أو أنه يسيء لله نفسه. فالمسيح في آلامنا يحس بنا ويتألم معنا، كما يقول الله بفم إشعياء النبي: «فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ وَمَلاَكُ حَضْرَتِهِ خَلَّصَهُمْ. بِمَحَبَّتِهِ وَرَأْفَتِهِ هُوَ فَكّهُمْ، وَرَفَعَهُمْ وَحَمَلَهُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ ٱلْقَدِيمَةِ» (إشعياء 63: 9).

لقد دعاك المسيح لتحمل نيره الهيِّن والخفيف، وهو نير طاعة وصاياه. فإن كنت تحمل نير المسيح، طاعةً لأمره: «اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ» (متى 11: 29) فسيحمل هو النير معك!

٭ وهناك نصيحة ثالثة لمن يقول إن الإساءات ضده بالغة، هي قول المسيح: «كُنْ أَمِيناً إِلَى ٱلْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ ٱلْحَيَاةِ» (رؤيا 2: 10). صحيح أن الإساءة بالغة ولكن أمانتنا مع الرب تجعلنا نحتمل ونحب المحبة المتأنية الرفيقة، لنستحق لقب «أمناء إلى الموت» فننال «إكليل الحياة».

ب - وقال صاحب الاحتجاج الثاني:

«المسيئون لا يتوقَّفون عن إيقاع الأذى بي، ولا يتوبون، ولا يبدو أنهم سيغيّرون موقفهم معي».

٭ والسؤال: هل إساءاتهم ترجع إلى خطإٍ ارتكبه صاحب الاحتجاج، أم لأنهم هم مخطئون؟ لنستمع إلى نصيحة الرسول بطرس: «أَيُّهَا ٱلْخُدَّامُ، كُونُوا خَاضِعِينَ بِكُلِّ هَيْبَةٍ لِلسَّادَةِ (لرئيس العمل)، لَيْسَ لِلصَّالِحِينَ ٱلْمُتَرَفِّقِينَ فَقَطْ، بَلْ لِلْعُنَفَاءِ أَيْضاً. لأَنَّ هٰذَا فَضْلٌ إِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرٍ نَحْوَ ٱللّٰهِ يَحْتَمِلُ أَحْزَاناً مُتَأَلِّماً بِٱلظُّلْمِ. لأَنَّهُ أَيُّ مَجْدٍ هُوَ إِنْ كُنْتُمْ تُلْطَمُونَ مُخْطِئِينَ فَتَصْبِرُونَ؟ بَلْ إِنْ كُنْتُمْ تَتَأَلَّمُونَ عَامِلِينَ ٱلْخَيْرَ فَتَصْبِرُونَ، فَهٰذَا فَضْلٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ، لأَنَّكُمْ لِهٰذَا دُعِيتُمْ. فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ. ٱلَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ، ٱلَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ. ٱلَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جسَدِهِ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ ٱلْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ» (1بطرس 2: 18-24).

لنمتحن أنفسنا: هل نتألم بسبب خطإٍ ارتكبناه؟ إن كان الأمر كذلك، فلنتُبْ إلى الرب فيرحمنا وإلى إلهنا لأنه يكثر الغفران (إشعياء 55: 7). أما إن كنت تتألم وأنت فاعلٌ خيراً، فنِعِمّا لك. أرجوك أن تثبِّت نظرك على المسيح، الذي تألم وهو يخدم ويطلب ويخلِّص ما قد هلك، فأنت تتشبَّه به، وهو يعطيك النجاة.

ج - وقال صاحب الاحتجاج الثالث:

«لو تأنَّيتُ عليهم أو كنتُ رفيقاً معهم، فإنهم يزيدون مضايقاتهم وإساءاتهم».

وللرد نقول:

٭ من أين تعرف أن الأعداء سيزيدون مضايقاتهم لك غداً؟ لا يستطيع أحد منا أن يتنبّأ بما يأتي به الغد، فالغد في يد الرب. «ٱلْغَدُ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي ٱلْيَوْمَ شَرُّهُ» (متى 6: 34). سيتدخل الرب في الوقت المناسب ليغيِّر المضايقة إلى خير، كما قال يوسف لإخوته: «أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرّاً، أَمَّا ٱللّٰهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْراً» (تكوين 50: 20).

٭ وهناك حقيقة أخرى: إن الله يقف دوماً إلى جانب الذين يطيعون وصاياه. قال القديس أغسطينوس: «اعمل إرادة الله كأنها إرادتك، يعمل الله إرادتك كأنها إرادته». عندما تطيع الله يتحمّل هو سبحانه كل ما ينتج عن طاعة أوامره. يأمرنا الرسول بولس: «جِدّوا للمواهب الحسنى، وأيضاً أريكم طريقاً أفضل .. المحبة تتأنى وترفق». فلو أننا أطعنا هذا الأمر المبارك يصبح الرب وليّ أمرنا، والمسئول عنا، والبركة دائماً على رأس المطيع.

٭ وهناك حقيقة ثالثة: ما أعظم الوصية الرسولية: «لاَ تُجَازُوا أَحَداً عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ. مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ قُدَّامَ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ. إِنْ كَانَ مُمْكِناً فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ ٱلنَّاسِ. لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَاناً لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «لِيَ ٱلنَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ. فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِش فَٱسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هٰذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ». لاَ يَغْلِبَنَّكَ ٱلشَّرُّ بَلِ ٱغْلِبِ ٱلشَّرَّ بِٱلْخَيْرِ» (رومية 12: 17-21).

المحبة التي تتأنى وترفق تغيِّر حياة المحب والمحبوب. إنها تردّ الضال البعيد إلى بيت الآب. وكما أن محبة الله المتأنية الرفيقة تقودك لتفتح قلبك للمسيح المخلِّص ليملك على قلبك بمحبته، قدِّم أنت المحبة نفسها لمن يسيء إليك، لتردّ نفسه وتهديه إلى سبل البر.

صلاة

يا صاحب الأناة والرفق، علِّمني طول الأناة والرفق كما أنك طويل الأناة معي. وقد احتملتني حتى فتحتُ قلبي لك. ساعدني لأحتمل الذين يسيئون إليَّ، من أجل خاطرك، ومن أجل خاطرهم هم، ليعرفوك، فنقتني أنفسنا بصبرنا. ساعدني ليكون لي الإيمان العامل بالمحبة. اغفر لي تذمُّري وضيق صدري، وتوِّبني إليك لأحبَّك وأحب الذين تحبهم. فنكون تلاميذ يسوع. في شفاعته استجبنا. آمين.

الفصل الثالث: «اَلْمَحَبَّةُ لا تَحْسِدُ»(1 كورنثوس 13: 4)

الإيمان الحقيقي هو الإيمان العامل بالمحبة، أما الإيمان الخالي من العمل فهو إيمان الشياطين الذين يؤمنون ويقشعرّون (يعقوب 2: 19). ولا بد أن تظهر ثمار الإيمان الحقيقي في حياة المؤمن كل يوم. وعلينا كمؤمنين نحب يسوع، أن نقرأ أصحاح المحبة كثيراً، أكثر مما تعوّدنا أن نقرأه، لندرك نوعيّة حياة المحبة التي يريدنا الرب أن نحياها.

ونتأمل في هذا الفصل الصفة الثانية من صفات المحبة، وهي «اَلْمَحَبَّةُ لا تَحْسِدُ» .

الحسد هو إحساسٌ بالضيق عند رؤية شخصٍ يملك ما نعتقد أننا لا نملكه. وقد يكون الحسد مجرد موقفٍ فكري (كما يقول القديس توما الأكويني) نحزن فيه من نجاح الآخرين. وربما كان هذا حال مؤمني كورنثوس، لأن أصحاب «المواهب» منهم كانوا ينظرون نظرة تحقيرٍ لمن ليس لهم مواهب، أما الذين لا يملكون «مواهب» فقد نظروا نظرة حسدٍ لأصحاب المواهب! مجرد موقف فكري.

ولكن قد يتصعَّد الحسد من مجرد موقف فكري، ليصبح عُنفاً يُوقِع الأذى والضرر بالمحسود، كما فعل إخوة يوسف لما رأوه يلبس قميصاً ملوّناً ليس عندهم مثله. وتصعَّد حسدهم حتى ألقوه في البئر الخالية من الماء، ثم باعوه للإسماعيليين.

والحسد دوماً يؤذي الحاسد ويدمّر سلامه النفسي، لأن الحاسد يركز نظره على ما يملكه الآخرون، فلا يرى ما عنده هو، ولذلك لا يتمتع بما أنعم الله به عليه. وهذه النظرة الكئيبة لِما عند الناس تجعله دائماً في بؤس.

رسم فنان إيطالي اسمه جيوتو Giotto (وهو صديق لدانتي) على حائط كنيسةٍ في بادوا Padua بإيطاليا صورةً للحسد. رسم شخصاً له أذنان طويلتان ليسمع بهما أية إشاعة سيئة تضرّ الآخرين. ورسم له لساناً على شكل حيَّة ليسمّم سمعة الآخرين. ويتكوَّر اللسان حتى يلدغ الحاسد عيني نفسه! فقد أراد الفنان أن يقول: إن الحاسد يُصيب نفسه بالعمى ويضيِّع نور عينيه، حتى لا يعود يرى ما عنده، فيُسيء للآخرين.

ونقتبس آيتين كتابيتين من عهدي الكتاب المقدس (القديم والجديد) تنهياننا عن الحسد:

الأولى: «لاَ تَغَرْ مِنَ ٱلأَشْرَارِ وَلاَ تَحْسِدْ عُمَّالَ ٱلإِثْمِ» (مزمور 37: 1).

والثانية: «لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضاً، وَنَحْسِدُ بَعْضُنَا بَعْضاً» (غلاطية 5: 26). أي لا نصرف وقتنا في النظر إلى ما عند غيرنا فلا نشكر الله على ما أعطانا.

ومن الغريب أن المؤمن قد يحسد الشرير الناجح في حياته المادية! يقول آساف: «غِرْتُ مِنَ ٱلْمُتَكَبِّرِينَ، إِذْ رَأَيْتُ سَلاَمَةَ ٱلأَشْرَارِ» (مزمور 73: 3). وهذا يبرهن لنا أنه لا يوجد إنسانٌ خالٍ من الخطية، ولا توجد حياة خالية من التجربة. وعلى المؤمنين دوماً أن يكونوا يقِظِين لتجارب إبليس حتى لا يقعوا في خطايا حقيرةٍ كالحسد، وليمتلئوا بسلام الله حتى يَنْعموا بسلامة الروح في الرب.

أربعة أمور تنصرنا على الحسد

(1) الشكر ينصرنا على الحسد، فالمحبة تشكر بينما الحسد يتذمَّر:

عندما قتل داود جليات هتفت نساء بني إسرائيل: «ضَرَبَ شَاوُلُ أُلُوفَهُ وَدَاوُدُ رَبَوَاتِهِ». فتضايق الملك شاول وقال: «أَعْطَيْنَ دَاوُدَ رَبَوَاتٍ وَأَمَّا أَنَا فَأَعْطَيْنَنِي ٱلأُلُوفَ! وَبَعْدُ فَقَطْ تَبْقَى لَهُ ٱلْمَمْلَكَةُ!» (1صموئيل 18: 7 و8).

لقد قتل داود ربواته فعلاً، فهرب الأعداء واستراح شعب الرب منهم فترة طويلة. ولم يقتل شاول ألوفاً، فقد وقف الأعداء أمامه أربعين يوماً، يسخرون منه ويهزأون به، دون أن يقدر شاول على عمل شيء! كانت أغنية الشكر صادقةً بالنسبة لداود، وكريمة أكثر من اللازم مع شاول. ولكن الحسد في نفس شاول حرمه من الفرح بالنصر. وكانت نتيجة حسده أنه دمَّر ذاته، فترك قصره وعرشه وأُبَّهة المُلك، ليجري من بلد لأخرى سعياً وراء داود ليقتله. كان دواد مجرد جندي عند شاول الملك صاحب العرش. لكن مرض الحسد في قلبه جعله دائم التذمر، فدمَّر حياته، وأشقى شعبه، وأرهب داود، بغير فائدة. وأخيراً مات شاول منتحراً، وصار داود ملكاً. ولو فكَّر شاول بعقلٍ لاعتبر داود أحد أسلحة الرب. إنه جندي من جنوده، أعطى الربُّ نصراً على يديه. ولكن الحسد أعمى عيني شاول عن الحق.

وعلى العكس من شاول نرى داود الذي يشكر، فالمحبة تشكر ولا تتذمر. ويقول داود: «بَارِكِي يَا نَفْسِي ٱلرَّبَّ، وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ ٱسْمَهُ ٱلْقُدُّوسَ. بَارِكِي يَا نَفْسِي ٱلرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ. ٱلَّذِي يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ. ٱلَّذِي يَشْفِي كُلَّ أَمْرَاضِكِ. ٱلَّذِي يَفْدِي مِنَ ٱلْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ. ٱلَّذِي يُكَلِّلُكِ بِٱلرَّحْمَةِ وَٱلرَّأْفَةِ. ٱلَّذِي يُشْبِعُ بِٱلْخَيْرِ عُمْرَكِ، فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ ٱلنَّسْرِ شَبَابُكِ» (مزمور 103: 1-5). فلنحوِّل نظرنا عمَّا عند الآخرين، ولنشكر على ما عندنا، فنستريح إلى الأبد من خطية الحسد.

(2) التأمل في ما عندنا ينصرنا على الحسد، فالمحبة ترى ما عندها، بينما الحسد يرى ما ينقصه:

نقرأ في سفر العدد عن النتيجة السيئة التي حلَّت ببني قورح لما حسدوا موسى وهارون على خدمتهما. «وَأَخَذَ قُورَحُ بْنُ يِصْهَارَ بْنِ قَهَاتَ بْنِ لاَوِي، وَدَاثَانُ وَأَبِيرَامُ ٱبْنَا أَلِيآبَ، وَأُونُ بْنُ فَالَتَ بَنُو رَأُوبَيْنَ يُقَاوِمُونَ مُوسَى مَعَ أُنَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ... فَٱجْتَمَعُوا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَقَالُوا لَهُمَا: «كَفَاكُمَا! إِنَّ كُلَّ ٱلْجَمَاعَةِ بِأَسْرِهَا مُقَدَّسَةٌ وَفِي وَسَطِهَا ٱلرَّبُّ. فَمَا بَالُكُمَا تَرْتَفِعَانِ عَلَى جَمَاعَةِ ٱلرَّبِّ» (العدد 16: 1-3).

وفي تأمُّل هذه الشكوى، نرى أن نصف كلام أصحابها صحيح، فالجماعة فعلاً مقدسة لأن الرب في وسطها. ولكن النصف الثاني هو السيء: «ما بالكما ترتفعان على جماعة الرب؟». فقد كانت قيادة موسى وهارون لجماعة الرب تعييناً من الله، لا كبرياءً، فقد دعاهما الله وكلّفهما وأرسلهما لفرعون، واستخدمهما بركة للشعب، فأخرجاه من العبودية. وكان على بني قورح أن يكونوا عقلاء يشكرون على البركة التي أعطاها الله لهم ولشعبهم على يد موسى وهارون. لكن الحسد الذي ملأ قلوبهم حرمهم من البركة، ثم حرمهم من الحياة، لأن الأرض فتحت فاها وابتلعتهم وكل ما لهم، فهبطوا أحياء إلى الهاوية! (عدد 16: 31).

أما المثل الأكبر للحسد فهو حسد رؤساء اليهود للمسيح. لقد جاءهم مخلِّصاً، وهو انتظار الأجيال، ومحقّق النبوَّات. ولكنهم رفضوه، وسلَّموه إلى الوالي الروماني بيلاطس ليصلبه. وعرف بيلاطس بعد فحص دعواهم أن المسيح بريء، وأنهم أسلموه له حسداً (متى 27: 18). لقد حسدوه لأن الشعب تبعه حبّاً له، وهتف له ثقةً به: «أُوصَنَّا لٱبْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي ٱلأَعَالِي» (متى 21: 9). ومعنى «أوصنا»: «يا رب خلِّصنا» وهذه صلاةٌ، كما أنها تعبيرٌ عن الفرح والترحيب بالمسيح القادم. وقال شيوخ اليهود لبعضهم: «ٱنْظُرُوا! إِنَّكُمْ لاَ تَنْفَعُونَ شَيْئاً! هُوَذَا ٱلْعَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءَهُ!» (يوحنا 12: 19). وقرروا أن يقتلوه. ولما لم يكن لهم الحق في تنفيذ ذلك لجأوا إلى بيلاطس لينفّذه.

غريب أمرهم! كان يجب أن يفرحوا بالمسيح المعلّم العظيم، صانع المعجزات، المسيا المنتظَر. ولكن قلوبهم الخالية من المحبة امتلأت بالحسد، فأسلموه لبيلاطس.

وما أعظم الفرق بينهم وبين يوحنا المعمدان، الذي أحب الله وأحب المسيح، وشهد للمسيح أنه «حمل الله» وقاد تلاميذه ليتبعوا المسيح، وقال عنه: «يَنْبَغِي أَنَّ ذٰلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ» (يوحنا 3: 30). حقاً المحبة لا تحسد.

(3) الفرح ينصرنا على الحسد، فالمحبة تفرح بالخير، بينما الحسد يتضايق منه:

من النماذج الرائعة للمحبة التي تفرح بخير الآخرين محبة يوناثان ابن الملك شاول لداود. عندما قتل داود جليات «قَطَعَ يُونَاثَانُ وَدَاوُدُ عَهْداً لأَنَّهُ أَحَبَّهُ كَنَفْسِهِ. وَخَلَعَ يُونَاثَانُ ٱلْجُبَّةَ ٱلَّتِي عَلَيْهِ وَأَعْطَاهَا لِدَاوُدَ مَعَ ثِيَابِهِ وَسَيْفِهِ وَقَوْسِهِ وَمِنْطَقَتِهِ» (1صموئيل 18: 3 و4). ولما حسد شاول داود وأراد أن يقتله، حذّر يوناثان داود من المؤامرة ودافع عن داود أمام أبيه (1صموئيل 19: 2 و20: 32). وطلب يوناثان من داود أن يصنع خيراً لنسله لما يتولى داود المملكة (1صموئيل 20: 15). لقد أحبَّ يوناثان داود، وفرح بالخلاص الذي أعطاه الله لشعبه على يديه، حتى لو كان في هذا ضرر لمصالح يوناثان!

المحبة تفرح لما يزيد الخير، فيعمّ الجميع، لأنها تعلم أن الإنسان لا يزيد عندما ينقص غيره.

يخبرنا سفر دانيال عن الكرامة التي نالها دانيال في عهد الملك داريوس، حتى أنه «حَسُنَ عِنْدَ دَارِيُوسَ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى ٱلْمَمْلَكَةِ مِئَةً وَعِشْرِينَ مَرْزُبَاناً (رئيساً) يَكُونُونَ عَلَى ٱلْمَمْلَكَةِ كُلِّهَا. وَعَلَى هَؤُلاَءِ ثَلاَثَةَ وُزَرَاءَ أَحَدُهُمْ دَانِيآلُ، لِتُؤَدِّيَ ٱلْمَرَازِبَةُ (الرؤساء) إِلَيْهِمِ ٱلْحِسَابَ فَلاَ تُصِيبَ ٱلْمَلِكَ خَسَارَةٌ. فَفَاقَ دَانِيآلُ هَذَا عَلَى ٱلْوُزَرَاءِ وَٱلْمَرَازِبَةِ، لأَنَّ فِيهِ رُوحاً فَاضِلَةً. وَفَكَّرَ ٱلْمَلِكُ فِي أَنْ يُوَلِّيَهُ عَلَى ٱلْمَمْلَكَةِ كُلِّهَا. ثُمَّ إِنَّ ٱلْوُزَرَاءَ وَٱلْمَرَازِبَةَ كَانُوا يَطْلُبُونَ عِلَّةً يَجِدُونَهَا عَلَى دَانِيآلَ مِنْ جِهَةِ ٱلْمَمْلَكَةِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَجِدُوا عِلَّةً وَلاَ ذَنْباً، لأَنَّهُ كَانَ أَمِيناً وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ خَطَأٌ وَلاَ ذَنْبٌ. فَقَالَ هَؤُلاَءِ ٱلرِّجَالُ: «لاَ نَجِدُ عَلَى دَانِيآلَ هَذَا عِلَّةً إِلاَّ أَنْ نَجِدَهَا مِنْ جِهَةِ شَرِيعَةِ إِلَهِهِ» (دانيال 6: 1-5).

ألم يدرك أولئك الرؤساء أن نجاح دانيال ليس له وحده، بل للدولة كلها، ولهم هم؟ كان يجب أن يشكروا لوجود رئيس وزراء يتمتع بالذكاء والروح الفاضلة والأمانة لتسير جميع أمور الدولة بنجاح وسلام. لكن الحسد أصابهم بالعمى، فلم يروا في دانيال إلا الرئيس الذي يتولى مسئولية مشرّفة، حسبوا أنفسهم أكثر استحقاقاً لها منه، فدبَّروا له مكيدة. ولكن الرب أنقذه منها (دانيال 6).

(4) السلام ينصرنا على الحسد، فالمحبة تحيا في سلام، بينما الحسد يحيا في قلق:

كلما أحبّ الإنسان إلهه أحب إخوته البشر. وكلما أحب الناس امتلأ قلبه بسلامٍ نابعٍ من السماء، يشبه السلام الذي غمر قلب المسيح وهو ماضٍ إلى الصليب، فقال لتلاميذه: «سَلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي ٱلْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ!» (يوحنا 14: 27).

أما الذي يحسد فإنه يضيّع سلامه الروحي وطمأنينته النفسية، لأنه دائم التطلّع إلى ما عند غيره، ودائم الإهمال للشكر على ما عنده. وما أجمل النصيحة الرسولية: «فَٱلْبَسُوا كَمُخْتَارِي ٱللّٰهِ ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفاً، وَتَوَاضُعاً، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ ٱلْمَسِيحُ هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً. وَعَلَى جَمِيعِ هٰذِهِ ٱلْبَسُوا ٱلْمَحَبَّةَ ٱلَّتِي هِيَ رِبَاطُ ٱلْكَمَالِ. وَلْيَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي إِلَيْهِ دُعِيتُمْ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَكُونُوا شَاكِرِينَ» (كولوسي 3: 12-15).

قارِنْ بين السلام الذي ملأ نفس يوسف وهو يكرم أباه وإخوته، وبين القلق الذي عصف بقلوب إخوته، وهم يقولون لبعضهم البعض: «حَقّاً إِنَّنَا مُذْنِبُونَ إِلَى أَخِينَا ٱلَّذِي رَأَيْنَا ضِيقَةَ نَفْسِهِ لَمَّا ٱسْتَرْحَمَنَا وَلَمْ نَسْمَعْ. لِذٰلِكَ جَاءَتْ عَلَيْنَا هٰذِهِ ٱلضِّيقَةُ» (تكوين 42: 21). ثم قارن سلام يوسف وهو راجع من دفن أبيه بكل إكرام، وبين القلق الذي كاد يمزق صدور إخوته وهم يقولون: «لَعَلَّ يُوسُفَ يَضْطَهِدُنَا وَيَرُدُّ عَلَيْنَا جَمِيعَ ٱلشَّرِّ ٱلَّذِي صَنَعْنَا بِهِ» (تكوين 50: 15). وهذه الكلمات تُظهر أن القلق كان كامناً داخل نفوسهم يؤرق بالهم طيلة وجودهم في مصر أثناء حياة أبيهم. المحبة تعطي السلام، والحسد يورّث القلق! فلنطلب من الله أن تسود على قلوبنا محبته «التي لا تحسد».

صلاة

أبانا، نشكرك لأنك أعطيتنا وأكرمتنا بسخاءٍ ولم تعيِّرنا أبداً. هَبْنا أن نرى كيف فتحتَ يدك فشبِعْنا بالخيرات. فِضْ في قلوبنا بفرح الروح القدس فنفرح بشخصك وبعطاياك. عمِّق محبتك فينا، وانزع الحسد من دواخلنا، واعطنا أن نكرم انتماءنا إليك بسيرتنا وجهادنا لنحيا الإيمان الذي نعتنقه. في شفاعة المسيح. آمين.

الفصل الرابع: «اَلْمَحَبَّةُ لا تَتَفَاخَرُ وَلا تَنْتَفِخُ» (1 كورنثوس 13: 4)

يتعرَّض صاحب المواهب الروحية (أكثر من غيره) لتجربة التفاخر بما عنده. فقد يتفاخر الواعظ المشهور بقدراته الوعظية، وقد يتكبَّر المحسِن بأنه أطعم الفقراء. أما المحبة الحقيقية الصادقة فإنها لا تتفاخر بما تفعل لأنها تفعله لأجل اسم المسيح، وبقوة منحها المسيح.

كان التفاخر أحد عيوب كنيسة كورنثوس، فانقسموا أحزاباً، يفتخر كل حزبٍ بالرسول الذي ينتمي الحزب له، فافتخر البعض ببولس والبعض بأبلّوس، فقال لهم الرسول بولس: «لاَ يَنْتَفِخَ أَحَدٌ لأَجْلِ ٱلْوَاحِدِ عَلَى ٱلآخَرِ (بمعنى: لا تنتفخوا من الكبرياء تحزُّباً لأحدٍ) لأَنَّهُ مَنْ يُمَيِّزُكَ؟ (بمعنى: من جعلك متميِّزاً عن غيرك؟) وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟ (بمعنى: كل شيء عندك أخذتَه هبةً) وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ، فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْ؟» (1كورنثوس 4: 6 و7). فالرسول يطلب أن لا يتحيّزوا له أو لأبلوس، لأنْ لا أحد يملك ويُميَّز. وإن مَلَك وتميَّز فهذا نعمة وهبة من عند الله، وليس من مكسبه الشخصي.

ويقول الرسول بولس أيضاً: «ٱلْعِلْمُ يَنْفُخُ، وَلٰكِنَّ ٱلْمَحَبَّةَ تَبْنِي» (1كورنثوس 8: 1). فالإنسان الذي يعرف ربما ينتفخ بعلمه، ولكنه لا ينمو ويرقى إنسانياً وروحياً بما تعلَّم إلا إذا أشرقت أنوار المحبة على قلبه.

لماذا لم يقل بولس: «المحبة تتواضع» بدل قوله: «المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ»؟ لماذا لم يصف المحبة بأسلوبٍ إيجابي بدلاً من الأسلوب السلبي؟ والإجابة: لعل أهل كورنثوس افتخروا بتواضعهم، وحوَّلوا فضيلة التواضع إلى افتخار، فصارت فضيلتهم رذيلة. فشرح الرسول بولس لهم الفضيلة بضدّها.

هناك وصيتان عظيمتان تتلخّص فيهما كل الوصايا: «تحب الرب إلهك من كل قلبك، وتحب قريبك كنفسك». والذي يحب الله من كل قلبه لا يمكن أن يتفاخر أو ينتفخ، لأنه يدرك أن كل ما عنده هو من عند الله مصدر كل نعمة. ومن يحب إخوته البشر لا يمكن أن ينتفخ عليهم، بل يقف منهم موقف التواضع، لأنه خادم الله المحب، الذي يعطي من نفسه ومما عنده، متمثِّلاً بالمسيح الذي لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فديةً عن كثيرين (مرقس 10: 45).

ثلاثة أسباب من أجلها لا تتفاخر المحبة

1 - المحبة تدرك أن التفاخر سلوك جسداني:

هناك سلوك «حسب الجسد» وسلوك «حسب الروح». والجسد يشتهي ضد الروح ويقاومه حتى نفعل ما لا نريد. لذلك جاءت النصيحة الرسولية: «ٱسْلُكُوا بِٱلرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ» (غلاطية 5: 16). ولذلك نرى المحبة لا تتفاخر لأن الروح القدس يحكمها، كما قال الرسول بولس: «ٱلَّذِينَ هُمْ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ فَبِمَا لِلْجَسَدِ يَهْتَمُّونَ، وَلٰكِنَّ ٱلَّذِينَ حَسَبَ ٱلرُّوحِ فَبِمَا لِلرُّوحِ» (رومية 8: 5). هذه المحبة الخاضعة للروح القدس لا تتصرف التصرُّف الجسداني الذي ينتفخ.

٭ لقد كان الجسد من وراء تصرُّف الملك نبوخذنصر، فقال هذا المسكين: «أَلَيْسَتْ هَذِهِ بَابِلَ ٱلْعَظِيمَةَ ٱلَّتِي بَنَيْتُهَا لِبَيْتِ ٱلْمُلْكِ بِقُوَّةِ ٱقْتِدَارِي وَلِجَلاَلِ مَجْدِي؟» (دانيال 4: 30). لم يبْنِ نبوخذنصر بابل بنفسه، ولا دفع من جيبه نفقات البناء، بل تمتّع بثمرة ما قام به الشعب الذي دفع الجزية، وما قام به المهندسون المقتدرون من رسمٍ وتأسيسٍ وبناء. أما قوله: «بقوة اقتداري ولجلال مجدي» فيدل على أن عقله قد أصابه الجنون!

٭ ولقد كان الجسد من وراء تصرُّف سالومة أم يوحنا ويعقوب ابني زبدي، فقالت للمسيح: «قُلْ أَنْ يَجْلِسَ ٱبْنَايَ هٰذَانِ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَٱلآخَرُ عَنِ ٱلْيَسَارِ فِي مَلَكُوتِكَ» (متى 20: 21). ولم يَعِدْها الرب بشيءٍ مما طلبت، ومع ذلك اغتاظ باقي التلاميذ من طلبها، وكأن المسيح وعدها أن يحقِّق لها ما طلبته! وفي طلبها، وفي غيظ التلاميذ نرى انتفاخ سالومة بولديها، وانتفاخ وكبرياء التلاميذ الآخرين الذين لا بدَّ حسبوا نفوسهم أفضل من ابني زبدي! لعل كل واحد منهم قال: لئِنْ جلس يوحنا ويعقوب عن يمينه وعن يساره، فأين أجلس أنا؟! والمسيح يقول للجميع: هل تستطيعون أن تصطبغوا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا؟ كانت صبغة المسيح ولون حياته التواضع والمحبة، وهي الصبغة ولون الحياة الذي يريده لنا، لأنه وديعٌ ومتواضع القلب.

٭ ولقد كان الجسد من وراء مشاجرة التلاميذ: من منهم يُظَن أنه يكون أكبر (لوقا 22: 24). لقد ظنوا ملكوت المسيح سياسياً أرضياً، ولكن المسيح أصلح فكرهم الجسداني، وقال لهم: «ٱلْكَبِيرُ فِيكُمْ لِيَكُنْ كَٱلأَصْغَرِ، وَٱلْمُتَقَدِّمُ كَٱلْخَادِمِ... أَنَا بَيْنَكُمْ كَٱلَّذِي يَخْدِمُ» (لوقا 22: 26 و27).

واضح أن البشر بحسب تفكيرهم العادي يميلون إلى التفاخر والانتفاخ، فهم يعتزُّون بعائلتهم باعتبار أنها أفضل العائلات، ثم يعتزُّون بأنفسهم باعتبار أنهم أفضل أفراد عائلتهم! ولكن المحبة سلوك سماوي، لذلك فهي لا تتفاخر ولا تنتفخ. ولقد تجرَّب شعب الله القديم بالتفاخر بعد معجزات الخروج، فقال الله لهم محذراً: «لَيْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ ٱلشُّعُوبِ ٱلْتَصَقَ ٱلرَّبُّ بِكُمْ وَٱخْتَارَكُمْ، لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ ٱلشُّعُوبِ. بَلْ مِنْ مَحَبَّةِ ٱلرَّبِّ إِيَّاكُمْ، وَحِفْظِهِ ٱلْقَسَمَ ٱلَّذِي أَقْسَمَ لِآبَائِكُمْ، أَخْرَجَكُمُ ٱلرَّبُّ بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَفَدَاكُمْ مِنْ بَيْتِ ٱلْعُبُودِيَّةِ مِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ. فَٱعْلَمْ أَنَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ هُوَ ٱللّٰهُ، ٱلإِلٰهُ ٱلأَمِينُ، ٱلْحَافِظُ ٱلْعَهْدَ وَٱلإِحْسَانَ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ إِلَى أَلْفِ جِيلٍ» (تثنية 7: 7-9). لقد اختار الله شعبه لأنهم أقل من سائر الشعوب ليحفظ لهم تواضعهم. فأمرهم موسى بعدم التفاخر، وأوصاهم بالتواضع، وعلمهم أن يقولوا: «أَرَامِيّاً تَائِهاً كَانَ أَبِي، فَٱنْحَدَرَ إِلَى مِصْرَ وَتَغَرَّبَ هُنَاكَ فِي نَفَرٍ قَلِيلٍ، فَصَارَ هُنَاكَ أُمَّةً كَبِيرَةً وَعَظِيمَةً وَكَثِيرَةً. فَأَسَاءَ إِلَيْنَا ٱلْمِصْرِيُّونَ وَثَقَّلُوا عَلَيْنَا وَجَعَلُوا عَلَيْنَا عُبُودِيَّةً قَاسِيَةً. فَلَمَّا صَرَخْنَا إِلَى ٱلرَّبِّ إِلٰهِ آبَائِنَا سَمِعَ ٱلرَّبُّ صَوْتَنَا، وَرَأَى مَشَقَّتَنَا وَتَعَبَنَا وَضِيقَنَا» (تثنية 26: 5-7).

لقد تاه إبراهيم خليل الله، وجاء لاجئاً إلى مصر. ولما تضايق فيها صرخ إلى الرب فأنقذه. ولم تنقذه مكانته الشخصية أو قوته أو تفكيره البشري (تكوين 12: 10-20). وهذا يمنع المؤمنين الذين يقدّرون فضل الله من الافتخار الجسدي.

وعاد الله على فم النبي إشعياء يحذّر الشعب القديم من التفاخر، فقال لهم: «اِسْمَعُوا لِي أَيُّهَا ٱلتَّابِعُونَ ٱلْبِرَّ ٱلطَّالِبُونَ ٱلرَّبَّ. ٱنْظُرُوا إِلَى ٱلصَّخْرِ ٱلَّذِي مِنْهُ قُطِعْتُمْ وَإِلَى نُقْرَةِ ٱلْجُبِّ ٱلَّتِي مِنْهَا حُفِرْتُمُ» (إشعياء 51: 1). والمقصود بالصخر هو إبراهيم الخليل، والمقصود بنقرة الجب زوجته سارة، فقد كان إبراهيم في التاسعة والتسعين من عمره، وسارة في التاسعة والثمانين لما حبلت بإسحق. لم يكن هناك أملٌ في الإنجاب في هذا العمر الكبير، لكن على خلاف الرجاء البشري حقَّق الله وعده لإبراهيم الخليل (رومية 4: 18). وهكذا قال إشعياء إن الله أخرج من «الصخر» ومن «نقرة الجُبّ» شعباً له. فلا فخر هنا، ولكن تواضع أمام معجزة الله حتى «تَقَوَّى (إبراهيم) بِٱلإِيمَانِ مُعْطِياً مَجْداً لِلّٰهِ» (رومية 4: 20). وقد حذَّر المسيح بطرس من ثقته الزائدة بنفسه، وقال له إنه سينكره ثلاث مرات (لوقا 22: 24). ولا بد أن المسيح استشعر أن تلاميذه سيتجرّبون بأن يفتخروا بأنه اختارهم تلاميذ له، فقال لهم: «لَيْسَ أَنْتُمُ ٱخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا ٱخْتَرْتُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ» (يوحنا 15: 16). إذاً الفضل للنعمة التي حملت الغصن في الكرمة، وغذَّته بعُصارتها الكريمة فجاء بالثمر. ونلاحظ أن الغصن الذي لا يحمل ثمراً يكون مرتفع الرأس، ولكن عندما يتثقّل بالثمر ينحني. وقليلو الثمر هم الذين يتفاخرون!

2 - المحبة تدرك فضل من أعطاها، فلا تنتفخ:

الإنسان جسد، هو تراب من الأرض. والإنسان روح، هو نفخة من الله. ولا يستطيع التراب أن ينتفخ، لأنه عندما تخرج منه النفخة يعود إلى التراب. لذلك نكرر مع الرسول بولس: «إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ» (رومية 14: 8). فمحبتنا للرب تجعلنا ندرك أننا به نحيا ونتحرك ونوجد (أعمال 17: 28) فنُرجِع الفضل لصاحب الفضل، ونقدم المجد لمن يستحق المجد.

نريد أن نقيِّم أنفسنا تقييماً سليماً صحيحاً، كما قال الرسول بولس: «لاَ يَرْتَئِيَ (أحدٌ) فَوْقَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَئِيَ، بَلْ يَرْتَئِيَ إِلَى ٱلتَّعَقُّلِ، كَمَا قَسَمَ ٱللّٰهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِقْدَاراً مِنَ ٱلإِيمَانِ» (رومية 12: 3).

ونقدم مَثَلين مِن شخصين كان تقييمهما لنفسيهما «إلى التعقُّل» هما يعقوب أب الأسباط، وداود صاحب المزامير. قال يعقوب لله: «صَغِيرٌ أَنَا عَنْ جَمِيعِ أَلْطَافِكَ وَجَمِيعِ ٱلأَمَانَةِ ٱلَّتِي صَنَعْتَ إِلَى عَبْدِكَ. فَإِنِّي بِعَصَايَ عَبَرْتُ هٰذَا ٱلأُرْدُنَّ، وَٱلآنَ قَدْ صِرْتُ جَيْشَيْنِ. نَجِّنِي مِنْ يَدِ أَخِي، مِنْ يَدِ عِيسُوَ، لأَنِّي خَائِفٌ مِنْهُ» (تكوين 32: 10 و11). يعترف يعقوب أن عند عبوره الأردن لم يكن يملك غير عصاه. ولكن عند رجوعه كان معه جيشان، والفضل كله يرجع لله. ولكن الجيشين يمكن أن يضيعا في لحظة، ويأخذهما عيسو، أو يقتلهما. فاعترف أنه صغير يحتاج لمعونة الرب.

وصلّى نبي الله داود: «مَنْ أَنَا يَا سَيِّدِي ٱلرَّبَّ، وَمَا هُوَ بَيْتِي حَتَّى أَوْصَلْتَنِي إِلَى هٰهُنَا؟ وَقَلَّ هٰذَا أَيْضاً فِي عَيْنَيْكَ يَا سَيِّدِي ٱلرَّبَّ فَتَكَلَّمْتَ أَيْضاً مِنْ جِهَةِ بَيْتِ عَبْدِكَ إِلَى زَمَانٍ طَوِيلٍ. وَهٰذِهِ عَادَةُ ٱلإِنْسَانِ يَا سَيِّدِي ٱلرَّبَّ. وَبِمَاذَا يَعُودُ دَاوُدُ يُكَلِّمُكَ وَأَنْتَ قَدْ عَرَفْتَ عَبْدَكَ يَا سَيِّدِي ٱلرَّبَّ؟ فَمِنْ أَجْلِ كَلِمَتِكَ وَحَسَبَ قَلْبِكَ فَعَلْتَ هٰذِهِ ٱلْعَظَائِمَ كُلَّهَا لِتُعَرِّفَ عَبْدَكَ. لِذٰلِكَ قَدْ عَظُمْتَ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُكَ وَلَيْسَ إِلٰهٌ غَيْرَكَ حَسَبَ كُلِّ مَا سَمِعْنَاهُ بِآذَانِنَا» (2صموئيل 7: 18-22). يعترف داود أنه كان راعي غنمٍ بسيط، أخذه الرب وجعله ملكاً. فالمحبة لا تتفاخر، لأنها تعترف بفضل من أعطى الهبة. تقول التطويبة الأولى: «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِٱلرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 5: 3). والمساكين بالروح هم الذين يدركون أن الذي عندهم ليس لفضلٍ فيهم، ولكنه عطية مجانية من عند الرب.

3 - المحبة تدرك محدودية عطائها، فلا تنتفخ:

كيف نتفاخر وننتفخ ونحن نعلم أن محبتنا لله وخدمتنا له هي لا شيء بالنسبة لمحبته لنا وما وهبه لنا من بركات؟ وكيف نتفاخر وننتفخ ونحن نعلم أننا مقصِّرون في حق الله وفي حق الناس؟ لهذا يقول المسيح: «مَتَى فَعَلْتُم كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ (من البَطَالة). لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا» (لوقا 17: 10).

لا يستطيع أحدٌ أن يفعل كل ما يُؤمر به، ولكن حتى لو فعل، فلا بد أن يعترف أنه عبد بطّال لم يفعل شيئاً، ويكون ذلك تقييماً حقيقياً صادقاً، لا تواضُعاً مزيَّفاً. فكل ما نتبرّع به من مالٍ هو مما يعطيه لنا الله. وكل عملٍ نقوم به هو من صحةٍ وطاقةٍ موهوبتين لنا من الله. كل شيءٍ عندنا هو من نعمته علينا، هبةٌ مجانية من إلهٍ له كل مجد.

كلما زادت محبتنا لله زدنا في النعمة، وكلما تقدمنا في النعمة نكتشف أن مستوانا أدنى من المستوى الإلهي المطلوب منا، وهو «قياس قامة ملء المسيح». فلنجاهد ولا نتوقَّف. لا مجال للفخر أبداً، بل المجال كله للسعي نحو الغرض مقاوِمِين حتى الدم، مجاهدين ضد الخطية (عبرانيين 12: 4).

حدثنا الإنجيل عن قائد مئة عمل الكثير من الخير، لكنه رأى أنه لم يفعل إلا الواجب عليه، فلم يفتخر، بل تواضع، لأن قلبه كان عامراً بالمحبة لله، ولشعب الله. قال عنه شيوخ اليهود للمسيح: إنه يستحق أن يذهب المسيح إلى بيته، ليشفي عبده، وقالوا: «إِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُفْعَلَ لَهُ هٰذَا، لأَنَّهُ يُحِبُّ أُمَّتَنَا، وَهُوَ بَنَى لَنَا ٱلْمَجْمَعَ» (لوقا 7: 4 و5). ولكنه هو قال للمسيح: «لَسْتُ مُسْتَحِقّاً أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي» (لوقا 7: 6). المحبة تُدرك محدودية ما تعطي ولذلك لا تتفاخر ولا تنتفخ.

دعونا في روح التواضع والإحساس بالخطية والتقصير أن ننحني أمامه، نتناول من فيض بحر نعمة محبته الذي لا يُحدّ، مجاهدين ليتعالى اسمه وتمتلئ الأرض من مجده.

صلاة

يا رب علِّمني المحبة التي لا تتفاخر ولا تنتفخ، فأيُّ شيءٍ عندي لم آخذه من يدك الكريمة؟ أشكرك من أجل اختيار النعمة لي الذي هو من إنعامك أولاً وأخيراً. علمني من نموذج المسيح، المثال الأعلى في الحب والتواضع الذي قال: «لأني وديعٌ ومتواضعُ القلب» والذي وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب. اعطني التواضع ووداعة القلب. أبعِد من قلبي كل أثرٍ للانتفاخ والتفاخُر والكبرياء. اعطني أن أسير في خطوات حبيبنا وفادينا. واستجبني في شفاعته. آمين.

الفصل الخامس: «اَلْمَحَبَّةُ لا تُقَبِّحُ» (1كورنثوس 13: 5)

القُبح هو الاختلاف مع المشيئة الإلهية. عندما خلق الله العالم «رَأَى ٱللّٰهُ ذٰلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ... حَسَنٌ جِدّاً» (تكوين 1: 4 و12 و18 و21 و25). وبعد إتمام الخليقة والإنسان «رأى الله كل ما عمله فإذا هو حسنٌ جداً» (آية 31). فالحُسن هو ما أراده الرب، أما القُبح فهو ما أدخلته الخطية. فعندما يقول الرسول بولس: «المحبة لا تُقبِّح» يقصد أنها الصفة الأساسية الأولى التي كان يجب أن تستمر، لولا أن الخطية دخلت إلى العالم.

لقد جهَّز الله في محبته كل الخير لآدم قبل أن يخلقه، وكان كل شيء حسناً بالأنوار والأشجار والطيور والأسماك والحيوانات. وأخيراً خلق الله الإنسان ليتمتع بهذا كله. ولما رأى الله آدم وحده أعطاه زوجته حواء لتكون معينةً له. وحالما رآها كتب فيها أول قصيدةٍ نظمها شاعرٌ في التاريخ، وهي قصيدة حب. قال آدم: «هٰذِهِ ٱلآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هٰذِهِ تُدْعَى ٱمْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ ٱمْرِءٍ أُخِذَتْ» (تكوين 2: 23).

ولكن سرعان ما دخلت الخطية إلى العالم، وبها دخلت الكراهية والخوف والقُبح، فإذا بآدم صاحب قصيدة الحب يلقي اللوم على حبيبته وزوجته حواء، بل وعلى الله، ويقول له: «ٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ ٱلشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ» (تكوين 3: 12)! كيف تبدَّل الحب إلى كراهية؟ وكيف تحوَّل الشكر لله إلى تذمُّر؟!

غير أن أعظم ما يصوِّر لنا قُبح الخطية هو ما فعلته الخطية بالمسيح. لقد وصف إمامُ الحكماء سليمان السيد المسيح، بروح النبوّة، بالقول: «أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي ٱلْبَشَرِ. ٱنْسَكَبَتِ ٱلنِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ، لِذٰلِكَ بَارَكَكَ ٱللّٰهُ إِلَى ٱلأَبَدِ» (مزمور 45: 2). ولكن النبي إشعياء يقدم له صورة مختلفة، تماماً فيقول: «نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ، لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ ٱلنَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحُزْنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ» (53: 2 و3). فكيف يصبح من هو أبرع جمالاً من بني البشر في هذه الصورة القاتمة الحزينة؟ الإجابة: لأنه حمل خطية جميعنا. وهذا هو قُبح الخطية الذي يشوِّه كل شيء. واحتمل المسيح هذا القبح ليُعيد لنا الحُسْن الذي صنعه هو وشوَّهناه نحن، لتتحقَّق كلمات داود: «يُجَمِّلُ ٱلْوُدَعَاءَ بِٱلْخَلاَصِ» (مزمور 149: 4). وتتحقَّق كلمات مارتن لوثر الذي خاطب السيد المسيح بقوله: «لقد صرتَ يا سيدي المسيح ما لم تكُنْهُ، لتجعلني أنا ما لم أكُنْهُ».

وتتضح المحبة التي لا تُقبِّح في أمرين:

1 - المحبة لا تقبِّح في الكلام:

يتحدث الرسول بولس عن سلوك المؤمنين في المحبة فيقول: «كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِٱللّٰهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ، وَٱسْلُكُوا فِي ٱلْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلّٰهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً. وَأَمَّا ٱلّزِنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ فَلا يُسَمَّ بَيْنَكُمْ كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ، وَلاَ ٱلْقَبَاحَةُ، وَلاَ كَلاَمُ ٱلسَّفَاهَةِ وَٱلْهَزْلُ ٱلَّتِي لاَ تَلِيقُ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلشُّكْرُ» (أفسس 5: 1-4).

فالهزل وكلام السفاهة هي قباحة، ليس فقط لا يجب أن تُمارس، لكن لا يجب أن يُنطق بها «لا تُسمَّ بينكم». فعندما يوجِّه شخصٌ كلاماً غير لائق لشخصٍ آخر، فإنه يشوِّه صورته أمام الناس، كما يرسم له صورةً قبيحة أمام نفسه: نفس المتكلّم ونفس المخاطَب! على أن اللسان الذي يحكمه الروح القدس لا ينطق إلا ما هو بركة للآخرين.

وكلام السفاهة والهزل الذي لا يليق هو عادةً سخريةٌ من الآخرين، من مظهرهم أو ملبسهم أو معرفتهم أو طريقة كلامهم، إن كانت مختلفةً عن الآخرين. وهذا دوماً خالٍ من المحبة، لأن الذي يسخر ويهزل يُضحِك نفسه وأصحابه على حساب كرامة شخصٍ آخر، لأنه يسخر مما يحسبه نقطة ضعفٍ في غيره.

وينصح الرسول بولس أهل كولوسي بالقول: «ٱطْرَحُوا عَنْكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً ٱلْكُلَّ: ٱلْغَضَبَ، ٱلسَّخَطَ، ٱلْخُبْثَ، ٱلتَّجْدِيفَ، ٱلْكَلاَمَ ٱلْقَبِيحَ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ. لاَ تَكْذِبُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِذْ خَلَعْتُمُ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ، وَلَبِسْتُمُ ٱلْجَدِيدَ ٱلَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ» (كولوسي 3: 8-10). فالله غيَّرنا وجدَّدنا لنكون حسب صورة الخالق المحب الذي شجّع جميع الناس.

وهناك حديثٌ رائع عن اللسان في رسالة يعقوب، وهي رسالة الحياة العملية، يقول: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْثُرُ فِي ٱلْكَلاَمِ فَذَاكَ رَجُلٌ كَامِلٌ، قَادِرٌ أَنْ يُلْجِمَ كُلَّ ٱلْجَسَدِ أَيْضاً... كُلَّ طَبْعٍ لِلْوُحُوشِ وَٱلطُّيُورِ وَٱلّزَحَّافَاتِ وَٱلْبَحْرِيَّاتِ يُذَلَّلُ، وَقَدْ تَذَلَّلَ لِلطَّبْعِ ٱلْبَشَرِيِّ. وَأَمَّا ٱللِّسَانُ فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ ٱلنَّاسِ أَنْ يُذَلِّلَهُ. هُوَ شَرٌّ لاَ يُضْبَطُ، مَمْلُوٌّ سُمّاً مُمِيتاً. بِهِ نُبَارِكُ ٱللّٰهَ ٱلآبَ، وَبِهِ نَلْعَنُ ٱلنَّاسَ ٱلَّذِينَ قَدْ تَكَوَّنُوا عَلَى شِبْهِ ٱللّٰهِ. مِنَ ٱلْفَمِ ٱلْوَاحِدِ تَخْرُجُ بَرَكَةٌ وَلَعْنَةٌ! لاَ يَصْلُحُ يَا إِخْوَتِي أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ ٱلأُمُورُ هٰكَذَا! أَلَعَلَّ يَنْبُوعاً يُنْبِعُ مِنْ نَفْسِ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ ٱلْعَذْبَ وَٱلْمُرَّ؟ هَلْ تَقْدِرُ يَا إِخْوَتِي تِينَةٌ أَنْ تَصْنَعَ زَيْتوناً، أَوْ كَرْمَةٌ تِيناً؟ وَلاَ كَذٰلِكَ يَنْبُوعٌ يَصْنَعُ مَاءً مَالِحاً وَعَذْباً» (يعقوب 3: 2 و7-12).

في العالم الطبيعي لا نجد ينبوعاً يعطي ماءً عذباً ومالحاً في نفس الوقت، ولا يمكن لزيتونةٍ أن تصنع تيناً أو كرمة تيناً. ولكن اللسان الواحد (بكل أسف) ينتج المتناقضات! فالفم الواحد يبارك الله ويلعن الآخرين. ويعلِّق الرسول يعقوب على هذا بقوله: «لاَ يَصْلُحُ يَا إِخْوَتِي أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ ٱلأُمُورُ هٰكَذَا» (آية 10). فالمحبة لا تقبِّح في الكلام، لكنها تنطق كلمة التشجيع دائماً، ولا تخرج منها كلمة توبيخٍ إلا للبناء والإصلاح، ولكنها لا تلفظ قباحةً. فإذا طبَّقنا هذه القاعدة على كلامنا في بيوتنا، ماذا نجد؟ عادةً نتكلم كلاماً لطيفاً خارج بيوتنا، ونُحسِن الحديث ونضبط أعصابنا عندما يزورنا ضيف. ولكن أعصابنا تُفلت عادة مع أهل البيت وكأننا قد أنفقنا كل رصيد محبتنا خارجه، فلم يتبقّ لأهل البيت إلا التذمّر والتوبيخ والكلام الخشن! مع أن رصيدنا من الحكمة والنعمة والكلام العذب عند الله رصيدٌ لا ينتهي، ويمكن أن نأخذ منه كل ما يسدّ عوزنا وعوز مجتمعنا!

وأقتبس من العهد القديم مثَلين للكلام المشجع، مثلاً لزوجةٍ فاضلة، وآخر لزوجٍ فاضل قدَّم كلاهما كلمة تشجيع لشريك حياته:

ظهر ملاك الرب لزوجة منوح التي كانت عاقراً، وأعلن لها أنها ستلد ابناً (هو شمشون القاضي) يجعله الله مخلِّص شعبه، فأخبرت زوجها بذلك. وصلى منوح طالباً عودة ظهور الملاك، فاستجاب الله له وظهر الملاك مرة أخرى لزوجته، فأسرعت لتخبر منوح. وتحدث الزوجان مع الملاك عن مولودهما ومستقبله. ثم انطلق الملاك إلى السماء في لهيب المذبح. ومضى وقتٌ لم يظهر فيه الملاك، فخاف منوح وقال لزوجته: «نَمُوتُ مَوْتاً لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا ٱللّٰهَ!» فَقَالَتْ لَهُ ٱمْرَأَتُهُ (مشجعة): «لَوْ أَرَادَ ٱلرَّبُّ أَنْ يُمِيتَنَا لَمَا أَخذَ مِنْ يَدِنَا مُحْرَقَةً وَتَقْدِمَةً، وَلَمَا أَرَانَا كُلَّ هٰذِهِ، وَلَمَا كَانَ فِي مِثْلِ هٰذَا ٱلْوَقْتِ أَسْمَعَنَا مِثْلَ هٰذِهِ» (قضاة 13: 22 و23). ما أجمل كلمات هذه الزوجة! لم تسخر من زوجها لأنه لم يفهم، ولكنها كلمته بالتشجيع المدعَّم بالبرهان أن الله قبل تقدمتهما وتكلم معهما. ففي محبتها لم تقبِّح ولم توبِّخ زوجها الضعيف الخائف لأنه لم يفهم، فعملت بالوصية الرسولية: «لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحاً لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ ٱلْحَاجَةِ، كيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ» (أفسس 4: 29).

والنموذج الثاني هو لزوجٍ يشجع زوجته. كانت حنة عاقراً، ولم يكن العيب في ذلك من ألقانة زوجها، لكن منها، فإن فننّة ضرتها ولدت أولاداً لألقانة. وكانت حنة تبكي وتصلي، وتطلب من الله أن يعطيها نسلاً. ومضت سنواتٌ دون استجابة. وفي وسط آلامها كان زوجها الفاضل يقول لها مشجعاً: «يَا حَنَّةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ وَلِمَاذَا لاَ تَأْكُلِينَ وَلِمَاذَا يَكْتَئِبُ قَلْبُكِ؟ أَمَا أَنَا خَيْرٌ لَكِ مِنْ عَشَرَةِ بَنِينَ؟» (1صموئيل 1: 8). وقد أكرم الله حنة وألقانة، وأعطاهما نسلاً، أوّله صموئيل الذي صار قاضياً ونبياً لبني إسرائيل.

2 - المحبة لا تقبِّح في العمل:

عندما يسيطر روح الله على حياتنا يعطينا ثمره المبارك، وأوّله المحبة (غلاطية 5: 22). ويقول الرسول بولس: «ثَمَرُ ٱلرُّوحِ هُوَ فِي كُلِّ صَلاَحٍ وَبِرٍّ وَحَقٍّ. مُخْتَبِرِينَ مَا هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ ٱلرَّبِّ. وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ ٱلظُّلْمَةِ غَيْرِ ٱلْمُثْمِرَةِ بَلْ بِٱلْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا. لأَنَّ ٱلأُمُورَ ٱلْحَادِثَةَ مِنْهُمْ سِرّاً ذِكْرُهَا أَيْضاً قَبِيحٌ. وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ إِذَا تَوَبَّخَ يُظْهَرُ بِٱلنُّورِ. لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ نُورٌ. لِذٰلِكَ يَقُولُ: «ٱسْتَيْقِظْ أَيُّهَا ٱلنَّائِمُ وَقُمْ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ ٱلْمَسِيحُ» (أفسس 5: 9-14). هناك أعمال سيئة مارسها المؤمن قبل معرفته بالمسيح، ولا يليق أن يفعلها بعد أن قام من موت الخطية وأضاء عليه نور المسيح. لأنه «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2كورنثوس 5: 17). فقد انتهى القُبح من حياة المؤمن - أو هكذا يجب أن يكون.

ما أكثر ما نرى القباحة من حولنا تلتهم الجَمال، ولكن النصرة الأخيرة هي للمحبة التي لا تقبّح.

رأى فرعون ملك مصر في حلمٍ سبع بقراتٍ طالعةً من النهر حسنة المنظر وسمينة اللحم، فٱرْتَعَت في روضةٍ. ثم سبع بقرات أخرى طالعة وراءها من النهر قبيحة المنظر ورقيقة اللحم، فوقفت بجانب البقرات الأولى على شاطئ النهر. فأكلت البقرات القبيحة المنظر والرقيقة اللحم البقرات السبع الحسنة المنظر والسمينة (تكوين 41: 2-4). ويحدث في حياتنا ما رآه فرعون في حلمه. نرى القُبح يبتلع الحُسن! يكون لنا صديقٌ كريم، لنا معه عِشرة طويلة جميلة. ولكن خطأً واحداً يضيِّع تلك العِشرة الحلوة. ونتذكر ذلك الخطأ وننسى كل الذكريات الجميلة. «وتُقضِّي عمرك في الصوابِ، وغلطةٌ تمحو الصواب!» فإذا القُبح ابتلع الجمال! ولكن المحبة التي لا تقبِّح تهزم القبح وتناصر الجمال، كما حدث عندما ألقى موسى عصاه فصارت حيَّةً، وحوَّل سحرةُ فرعون عِصيَّهم إلى حيَّات، ولكن حية الحق ابتلعت حيَّات الباطل. والحب دوماً يقتل القُبح.

وعمل نعمة المسيح في قلوبنا هو أعظم نموذج للجمال الذي يلاشي القبح. ومن معاني كلمة «نعمة» أنها جمال الحياة. وقد أنعم المسيح على مُحِبِّيه بجمال الحياة.

التقطت أذنا المسيح وقت الصليب إنكار بطرس المُثلَّث. التقطت كلمات القُبْح! فماذا كان ردُّ فعلِ المسيح؟ يقول البشير لوقا: «فَٱلْتَفَتَ ٱلرَّبُّ وَنَظَرَ إِلَى بُطْرُسَ... فَخَرَجَ بُطْرُسُ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرّاً» (لوقا 22: 61 و62). ولم تكن نظرة المسيح لبطرس نظرة توبيخٍ أو سخريةٍ أو شماتة، لكنها كانت بكل تأكيدٍ عامرةً بالمحبة والشفقة، فكسرت قلب بطرس وقادته إلى التوبة. وبعد قيامة المسيح من الموت أعطى المسيح بطرس وزملاءه صيداً وفيراً من السمك بعد ليلة صيدٍ فاشلة، ثم سأل بطرس: «يا سمعان بن يونا، أتحبني؟» وبخجلٍ أجاب بطرس: «يا رب، أنت تعلم كل شيء. أنت تعلم أني أحبك». وهذه هي المحبة الشافية من الإنكار، والملهِمة للاتِّباع، والدافعة لحياة التقوى.

صلاة

سامحنا يا أبانا السماوي على كلماتٍ خشنة خرجت من أفواهنا آذت مشاعر غيرنا وأزعجت ضمائرنا. باركنا في بيوتنا، مع عائلاتنا ومع جيراننا، ومع الذين نتعامل معهم، لنحبَّهم، ولا نكلّمهم إلا بما يليق وما يبني .. وحتى إن أخطأوا، هَبْنا أن نتعامل معهم كما تعامل المسيح مع بطرس وقت إنكاره، فنسير في خطوات حبيبنا ومخلّصنا الذي يُلهمنا لنتبعه، ويشجّعنا لنحيا حياة التقوى.

ضعفاء نحن. أنت قوّتنا. سيطِر علينا بالروح القدس لنتمكن أن نطيع ونحيا حياة المحبة التي لا تقبّح، ولا تسقط أبداً.اجعل يا ربُّ حارساً لفمي. احفظ باب شفتيَّ. لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضيَّةً أمامك يا رب، صخرتي ووليِّي. في شفاعة المسيح. آمين.

الفصل السادس: «اَلْمَحَبَّةُ لا تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا» (1كورنثوس 13: 5)

«اَلْمَحَبَّةُ لا تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا» يعني أن المحبة تطلب ما لغيرها، وهذه فضيلة لا يمكن أن تتوفر للإنسان بغير أن يولد من الله، وبغير أن يملكه روح الله، فإن المولود من الجسد جسدٌ هو، يهتم بما لنفسه، أما المولود من الروح فهو روح، يهتم بما لله، وبما للآخرين.

عندما نسمع تعاليم الإنجيل نُصاب باليأس لأننا عاجزون عن تطبيقها. ولما نتأمل نموذج حياة المسيح يصيبنا اليأس لأننا لا نستطيع أن نمشي في أثر خطواته. وهذا اليأس مقدّس ومُهِمٌّ ومبارك، لأننا عندما نشعر بالعجز نلجأ إلى نعمة الله معلنين فشلنا، فيتولى الله الأمر بدلاً عنا، فنقول مع الرسول بولس: «مع المسيح صُلبت، فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ» (غلاطية 2: 20). عند ذلك يحيا المسيح هذه الفضائل بحياته فينا، فنقدر أن نسير في أثر خطواته. فإذا تعثَّرنا وسقطنا يقيمنا «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ ٱللّٰهِ بِمَوْتِ ٱبْنِهِ، فَبِٱلأَولَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ» حياته فينا (رومية 5: 10).

«المحبة لا تطلب ما لنفسها» لأنها تطلب ما لغيرها! يقول تقليد يهودي قديم إن المكان الذي بُني فيه هيكل سليمان كان مكاناً التقى فيها أخوان عمَّرت المحبة قلبيهما. كان أكبرهما متزوجاً وعنده أولاد، ولم يكن الصغير متزوّجاً. وبعد حصاد القمح قال الأخ الكبير في نفسه: «لقد حصدنا القمح، ولديَّ نصف المحصول وأخي عنده النصف الآخر. سأعطي كيس قمحٍ من نصيبي لأخي، ليسدّد نفقات زواجه، ويبدأ بيتاً جديداً». وفي الوقت ذاته كان الأخ الصغير يفكّر في نفسه أن يضيف كيس قمحٍ من نصيبه إلى نصيب أخيه، لأنه فكر في مسئوليات أخيه المتزوّج من نحو زوجته وأولاده. ونفَّذ كلٌّ منهما فكرته في ظلام الليل. ولما طلع الصباح قام كل منهما بإحصاء ما عنده فوجده لم ينقُص. ولم يدرك أيٌّ منهما سبب ذلك ،فكرّرا ما فعلاه أكثر من ليلة. وفي ليلة تقابل الأخوان معاً على الطريق، وكلّ يحمل كيس قمحٍ ليعطيه لأخيه. واحتضن أحدهما الآخر وبكى كل منهما على كتف أخيه. في ذلك المكان، مكان لقاء المحبة، بُنيَ هيكل سليمان.

في ليلة العشاء الاخير رفض تلاميذ المسيح أن يغسلوا بعضهم أرجل بعض. فقام المسيح عن العشاء واتزر بمنشفة وغسل أرجلهم ومسحها، ثم قال لهم: «أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ ... فَإِنْ كُنْتُ وَأَنا ٱلسَّيِّدُ وَٱلْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ» (يوحنا 13: 4-14).

أحبنا الله محبةً عظيمة، وقَبِلَنا. وهو يطلب منّا أن نحب قريبنا على مثال محبته لنا ومحبتنا لنفوسنا. كما أن الله يطلب منا أن نقبل نفوسنا ونغفر لها كما أحبنا هو وغفر لنا. فإذا غفرنا لأنفسنا بذات طريقة غفران السماء لنا، نقدر أن نقبل الآخرين ونغفر لهم، فنطبِّق بذلك صفةً من أعظم صفات المحبة، ونطيع الأمر الرسولي: «فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْراً وَاحِداً وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئاً وَاحِداً، لاَ شَيْئاً بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِآخَرِينَ أَيْضاً. فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هٰذَا ٱلْفِكْرُ ٱلَّذِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً: ٱلَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ. لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ موْتَ ٱلصَّلِيبِ» (فيلبي 2: 2-8). فالمسيح هو النموذج الأعلى للمحبة التي تفكّر فيما لغيرها. فليكن فينا فكر المسيح الذي يقبلنا ويباركنا ويغفر لنا. فعندما نتَّخذ فكر المسيح منهجاً لنا نستطيع أن نحب بمحبته، فلا نطلب مجد أنفسنا، ولا سرور أنفسنا، ولا فائدة أنفسنا، لأننا نطلب ملكوت الله وبرَّه، وهذه كلها تُزاد لنا (متى 6: 33).

1 - المحبة تطلب ما لغيرها لأنها رحيمة:

النفس التي تتمتَّع برحمة الله وغفرانه، تكون بالتالي رحيمةً على غيرها وتطلب ما لغيرها، وكلما تخلّلت رحمة الله ثنايا النفس البشرية انطلقت الرحمة من تلك النفس إلى الآخرين. ما أجمل قول المرنم: «مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ تَتَثَبَّتُ خَطَوَاتُ ٱلإِنْسَانِ وَفِي طَرِيقِهِ يُسَرُّ. إِذَا سَقَطَ لاَ يَنْطَرِحُ لأَنَّ ٱلرَّبَّ مُسْنِدٌ يَدَهُ. أَيْضاً كُنْتُ فَتىً وَقَدْ شِختُ وَلَمْ أَرَ صِدِّيقاً تُخُلِّيَ عَنْهُ وَلاَ ذُرِّيَّةً لَهُ تَلْتَمِسُ خُبْزاً. ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ يَتَرَأَّفُ وَيُقْرِضُ وَنَسْلُهُ لِلْبَرَكَةِ» (مزمور 37: 23-26). تتحدث الآيات 23-25 من مزمور 37 عن محبة الرب وإسناده للمؤمن، وإشباعه له ولذريته بالخير، فيجيء ردّ فعل المؤمن في أنه يترأف اليوم كله ويُقرِض، ويكون نسله للبركة، لأن الرب سبقَ وترأف عليه ورحمه.

وهذا الذي يصفه المرنم في مزمور 37 ينصحنا به الرسول بولس في قوله: «ٱلْبَسُوا كَمُخْتَارِي ٱللّٰهِ ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفاً، وَتَوَاضُعاً، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَمسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ ٱلْمَسِيحُ هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً» (كولوسي 3: 12 و13).

2 - المحبة تطلب ما لغيرها لأنها كريمة:

المحبة كريمة، تعطي دون أن تنتظر أخذاً. وعندنا أمثلة كثيرة لذلك، منها نموذجٌ قد يصعُب اليوم تطبيقه، حدث في الكنيسة الأولى، يصفه سفر أعمال الرسل بالقول: «وَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مَعاً، وكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكاً. وَٱلأَمْلاَكُ وَٱلْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ ٱلْجَمِيعِ، كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ ٱحْتِيَاجٌ» (أعمال 2: 44 و45). لم يكن هناك أحدٌ محتاجاً لأن الذي عنده أعطى من ليس عنده. وفي الأصحاح الرابع من نفس السفر يقول: «وَكَانَ لِجُمْهُورِ ٱلَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّ شَيْئاً مِنْ أَمْوَالِهِ لَهُ، بَلْ كَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكاً. وَبِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ كَانَ ٱلرُّسُلُ يُؤَدُّونَ ٱلشَّهَادَةَ بِقِيَامَةِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، وَنِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ كَانَتْ عَلَى جَمِيعِهِمْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مُحْتَاجاً، لأَنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَ حُقُولٍ أَوْ بُيُوتٍ كَانُوا يَبِيعُونَهَا، وَيَأْتُونَ بِأَثْمَانِ ٱلْمَبِيعَاتِ وَيَضَعُونَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ ٱلرُّسُلِ، فَكَانَ يُوزَّعُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَمَا يَكُونُ لَهُ ٱحْتِيَاجٌ» (أعمال 4: 32-35). ويقدم ذات الأصحاح نموذجاً لشخصٍ اسمه يوسف، كانت شهرته «برنابا» ومعنى اسمه «الذي يشجع الآخرين» وهو لاوي يسكن في جزيرة قبرص «كانَ لَهُ حَقْلٌ بَاعَهُ، وَأَتَى بِٱلدَّرَاهِمِ وَوَضَعَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ ٱلرُّسُلِ» (آيتا 36 و37).

هذه هي المحبة الكريمة التي تعطي كل ما عندها، وتعطي بسخاء. ولكن اشتراكية كنيسة أورشليم لم تستمر، لأنها كانت استهلاكية غير مُنتجة، فعندما انتهى رأس المال أصابهم الفقر. لذلك يعلمنا الرسول بولس: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضا» (2 تسالونيكي 3: 10). ويقول لقسوس كنيسة أفسس: «حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ ٱلَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ ٱلْيَدَانِ» (أعمال 20: 34). وقد اشتغل بولس خيّاماً ليعول نفسه والذين معه.

كانت محبة أعضاء الكنيسة الأولى بعضهم لبعض عظيمة، فقدَّموا كل ما عندهم لله ولبعضهم. والأغلب أنهم كانوا يتوقّعون مجيء المسيح ثانيةً أثناء حياتهم، فباعوا ممتلكاتهم لخير بعضهم البعض. ولكن لا يستطيع أحد أن يحدد موعد المجيء الثاني للمسيح. فلنشتغل ونجتهد بكل أمانة، محقِّقين الوصية الرسولية: «لاَ يَسْرِق ٱلسَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ يَتْعَبُ عَامِلاً ٱلصَّالِحَ بِيَدَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَهُ ٱحْتِيَاجٌ» (أفسس 4: 28).

فتعالوا بنا نحب الله الكريم لنكون كرماء مثله «لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ ٱلْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَاداً، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ ٱلرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً. فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ ٱلْخَيْرِ لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ. فَإِذاً حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ ٱلْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ ٱلإِيمَانِ» (غلاطية 6: 8-10). فالمحبة التي أخذت من الله بركة وتمتعت بالكرم الإلهي لا تطلب ما لنفسها بل تطلب ما لغيرها. والذي شبع يفيض على غيره من كرم السماء. «لاَ تَنْسُوا فِعْلَ ٱلْخَيْرِ وَٱلتَّوْزِيعَ، لأَنَّهُ بِذَبَائِحَ مِثْلِ هٰذِهِ يُسَرُّ ٱللّٰهُ» (عبرانيين 13: 16).

3 - المحبة تطلب ما لغيرها لأنها تطلب الصالح الروحي لغيرها، كما يفعل الله معها:

يطلب الرب خيرنا الروحي، ويفتش علينا كما يفتش الراعي الصالح عن الخروف الواحد الضال حتى يجده. ولا زال هذا الراعي الصالح يفتش عليك، ليردّ نفسك ويهديك إلى سُبل البر من أجل اسمه (مزمور 23: 3). «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لوقا 19: 10).

وأبلغ مثال للمحبة التي تطلب ما لغيرها، موقف بولس الرسول من اليهود الذين ضايقوه وقاوموه، وقد سبق أن صلبوا المسيح، وكانوا يريدون أن يعطلوا رسالة الإنجيل. وحتى اليهود الذين قَبِلوا رسالة المسيح كانوا يريدون أن يعطِّلوا توصيلها للأمم. فعبَّر الرسول بولس عن مشاعره نحوهم بقوله: «أَقُولُ ٱلصِّدْقَ فِي ٱلْمَسِيحِ، لاَ أَكْذِبُ، وَضَمِيرِي شَاهِدٌ لِي بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ: إِنَّ لِي حُزْناً عَظِيماً وَوَجَعاً فِي قَلْبِي لاَ يَنْقَطِعُ! فَإِنِّي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ أَكُونُ أَنَا نَفْسي مَحْرُوماً مِنَ ٱلْمَسِيحِ لأَجْلِ إِخْوَتِي أَنْسِبَائِي حَسَبَ ٱلْجَسَدِ» (رومية 9: 1-3) فقد كان يتمنى أن يُحرم من الخلاص لو أن هذا الحرمان أدَّى إلى توبة اليهود وحصولهم على الخلاص.

هل ضحَّيت بشيء لأجل المسيح، أدّى إلى قيادة غيرك لمعرفة المسيح؟ فكِّر في ما عمله المسيح لأجلك، وتضحيته بنفسه ليخلّصك، واسمعه يسألك: وأنت ماذا يا ترى قاسيت من أجلي؟

4 - المحبة التي لا تطلب ما لنفسها تنال الجزاء السماوي:

كلنا نطلب الجزاء السماوي، وطريقنا إليه هو خدمة الآخرين وطلب ما هو لغيرنا. وخير نموذج لذلك هو مخلِّصنا العظيم، الذي عندما «وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ. لِذٰلِكَ رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ ٱسْماً فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمنْ تَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ» (فيلبي 2: 8-11). فالذي يطلب ما هو لغيره، وليس ما هو لنفسه، ويكرم الآخرين، يكرمه أبوه السماوي، كما أكرم الآب الابن الذي بذل نفسه لأجل البشر الخطاة.

تعالوا بنا نسير في خطوات المسيح، لنكون من أهل اليمين، الذين يقول لهم الملك: «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا ٱلْمَلَكُوتَ ٱلْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ ٱلأَبْرَارُ حِينَئِذٍ: يَارَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جائِعاً فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَاناً فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيباً فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَاناً فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً فأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ ٱلْمَلِكُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هٰؤُلاَءِ ٱلأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ » (متى 25: 34-40). فالرب يحسب لك كل لمسة خير وحب مهما كانت متواضعة، ويردّها لك ببركة عظيمة، ليس فقط على الأرض، بل كميراثٍ أبدي أعدَّه لك منذ تأسيس العالم! «وَمَنْ سَقَى أَحَدَ هٰؤُلاَءِ ٱلصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِٱسْمِ تِلْمِيذٍ، فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ» (متى 10: 42).

قدّم رسول المحبة بولس نصيحة جميلة لقسوس كنيسة أفسس اختتمها بكلماتٍ قالها الرب يسوع، وهي كلماتٌ لم يسجلها أحدٌ من البشيرين الأربعة. قال: «فِضَّةَ أَوْ ذَهَبَ أَوْ لِبَاسَ أَحَدٍ لَمْ أَشْتَهِ. أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ ٱلَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ ٱلْيَدَانِ. فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ ٱلضُّعَفَاءَ، مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ ٱلْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ ٱلأَخْذِ» (أعمال 20: 33-36). وهنا يوصينا الرسول بولس أن نحب بالمحبة التي لا تطلب ما لنفسها، عملاً بوصية المسيح أن العطاء أفضل من الأخذ. وقدّم المسيح المثال في ذلك لما بذل نفسه عنا. وقدّم بولس أيضاً المثال، فلم يطلب ما لنفسه، بل خدم واحتمل لأجل حاجات الآخرين .. ولذلك بارك الرب بولس. وظلّت تعاليمه التي أوحى بها الله بروحه القدوس إليه توجِّه المؤمنين إلى يومنا هذا، وحتى يجيء المسيح ثانية، وترشدهم ليعرفوا إرادة الله لحياتهم وحياة المحيطين بهم.

صلاة

يا رب علّمني أن أطلب خير شريك حياتي وأولادي وآبائي وجاري وصديقي، قبل أن أطلب خير نفسي. يا رب أشكرك لأنك أعطيتني النموذج في أنك لم تشفق على ابنك بل بذلته لأجلنا أجمعين، والابن نفسه له المجد أعطانا النموذج إذ بذل نفسه عنا. علّمنا أن لا نطلب ما هو لنفوسنا، بل ما هو لآخرين، لنستحق في شفاعة دمك الكريم أن نسمع: نِعِمّا أيها العبد الصالح. وهكذا نطيع الأمر الإلهي ونحقق الانتظار السماوي. في شفاعته استجبنا. آمين.

الفصل السابع: «اَلْمَحَبَّةُ لا تَحْتَدُّ» (1 كورنثوس 13: 5)

الاحتداد عاطفة طبيعية وضعها الله فينا لنمارسها في مكانها ووقتها المناسبَيْن. ولكن بعض الناس يستخدم هذه العاطفة الطبيعية في غير محلها، وهذا ما لا تفعله المحبة، التي لا تحتّد.

عندما زار الرسول بولس أثينا، عاصمة الحضارة في وقته «ٱحْتَدَّتْ رُوحُهُ فِيهِ، إِذْ رَأَى ٱلْمَدِينَةَ مَمْلُوءَةً أَصْنَاماً» (أعمال 17: 16). وهذا هو الاحتداد المقدس. فكيف يملأ هؤلاء الفلاسفة المفكرون، قادة المعرفة في العالم في زمنهم، مدينتهم بالأصنام؟! بل إن بعضهم عندما رأوا معجزةً تجري، وتحيَّروا في مَن هو الإله الذي أجراها، أقاموا تمثالاً «لإِلٰهٍ مَجْهُولٍ»! (أعمال 17: 23). لقد كانوا حكماء في أمور دنياهم، جهلاء في أمور آخِرتهم. لذلك احتدَّ بولس عليهم، بقلبه ولسانه!

أما الاحتداد الذي لا تمارسه المحبة فهو الاحتداد الخاطئ، الذي نصلي أن يستأصله الله منّا. فإننا عندما ننال الحياة الجديدة في المسيح ونقبل خلاصه بالتوبة عن الماضي، يغفر لنا ماضينا، ويظل يخلِّصنا بعد ذلك بقيَّة حياتنا مِن شوائب الخطية المحيطة بنا بسهولة، ويطهّرنا من كل ثقل الطبيعة القديمة الفاسدة التي لا تزال آثارها فينا، وينقذنا من سلطان الخطية علينا. فنتجدّد بروح ذهننا ونتخلّص يوماً بعد يومٍ من خطايانا، وهكذا يقدسنا وينقي قلوبنا.

1 - الاحتداد الخاطئ

ويكون الاحتداد خاطئاً في حالتين:

أ - احتداد بسببٍ لا يستحق الاحتداد:

قال المسيح في موعظته على الجبل: «كُلُّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ ٱلْحُكْمِ» (متى 5: 22). فهناك من يغضب بحق، ويطيع الوصية: «اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ ٱلشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً» (أفسس 4: 26 و27). وهناك من يغضب ويحتدّ على أخيه باطلاً فيستوجب الحكم عليه من محكمة السماء، وربما من محاكم الأرض أيضاً. قد نحتد لمجرد أن شخصاً يختلف معنا في وُجهة نظرنا. وأحياناً لأن إنساناً يعاكس مصالحنا الشخصية البسيطة التي قد تكون تافهة، فنفقد أعصابنا، وتخرج من أفواهنا الكلمات التي لا تليق.

وقد نحتدّ على أقرب الناس إلينا وأحبّهم إلى قلوبنا، لأننا لم نسمع دفاعهم عن أنفسهم، أو لأننا لم نعطهم فرصةً للدفاع عن وجهة نظرهم. وقد نحتدّ عليهم لأننا نطلب منهم أن يكونوا مجرد أتباعٍ لنا ولأفكارنا بدون مناقشة. ومن أشد الأمور إيلاماً للنفس الخناقات الزوجية، والعراك بين أبٍ أو أمٍ مع أولادهما، مع أن الأبناء أحبّ الناس إلى قلوب آبائهم. لكنها المحبة العاطفية الغريزية فقط. وهي في هذه الحالة تحتاج إلى تهذيبٍ وإصلاحٍ سماويين لتكون على مثال محبة المسيح.

ب - احتداد ممزوج بالرغبة في الانتقام:

يقول بولس لأعضاء كنيسة رومية: «لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَاناً لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «لِيَ ٱلنَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ» (رومية 12: 19). نعطي الغضب مكاناً بأن نُفسح له الطريق لينصرف دون أن يصبح عاصفةً تكتسح الأخضر واليابس! فإذا غضبنا على الخطأ لا ننتقم، فالخطأ في الاحتداد هو الميل للانتقام من الشخص الذي أخطأ.

ويوصي الرسول بولس أهل أفسس: «لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ وَسَخَطٍ وَغَضَبٍ وَصِيَاحٍ وَتَجْدِيفٍ مَعَ كُلِّ خُبْثٍ. وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً فِي ٱلْمَسِيحِ» (أفسس 4: 31 و32). فالمحبة الحقيقية لا تغضب لسببٍ لا يستحق. فإذا غضبت لسببٍ يستحق فهي لا تلجأ أبداً للانتقام.

2 - أضرار الاحتداد الخاطئ

أ - الاحتداد الخاطئ يُفقد الإنسان سلامه واتّزانه:

عندما ينفجر الإنسان مثل بركانٍ غاضب، يضيِّع اتزانه وسلامه، ولا يعود قادراً على التحكم في كلامه، ولا على جسده، فتنطلق كلماته كالقذائف تجرح الآخرين وتدمّر سلامه النفسي. وعندما يفيق إلى نفسه بعد ثورة الغضب يلوم نفسه. ولكنه لا يستطيع أن يستعيد كلمات الغضب التي أفلتت منه وانتشرت في كل مكان. لقد صارت كالريش الذي حمله الريح إلى حيث لا يريد، وإلى حيث لا يعلم!

قال سليمان الحكيم: «لاَ تُسْرِعْ بِرُوحِكَ إِلَى ٱلْغَضَبِ، لأَنَّ ٱلْغَضَبَ يَسْتَقِرُّ فِي حضْنِ ٱلْجُهَّالِ» (جامعة 7: 9). فالغضوب يفقد اتّزانه، فيستقر غضبه في حضنه ويؤذي نفسه أكثر مما يؤذي غيره. وإن أشد ما يُخجل الإنسان منّا أن يحتد ويفقد أعصابه على إنسانٍ محبٍّ، فإذا بهذا المحبِّ يغفر له! وكم من مؤمنٍ يحب الرب ويعمل لرفعة مجده، يفقد أعصابه على مؤمن آخر وينطق بما لا يليق، لمجرد اختلافٍ في وجهات النظر أو لتناقضٍ مع المصلحة الشخصية، فيجد أن «الغضب يستقر في حضن الجهال».

ب - الاحتداد الخاطئ يضيِّع البركة الروحية:

يقول المسيح في موعظته على الجبل: «فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى ٱلْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ، فَٱتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ ٱلْمَذْبَحِ، وَٱذْهَبْ أَوَّلاً ٱصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ» (متى 5: 23 و24). وفي هذا الأمر السماوي يعطي المسيح مكانةً للمصالحة والاعتذار عن الإساءة تسمو على تقديم القربان. فالرب يقبل قربان القلب المحب والنفس النقية، ويرفض صلاة وقربان النفس التي تحتد!

عندما يفقد والدٌ أعصابه على ولده، تضيع قوة حُجّته فيعجز عن إقناع ابنه، لأن المحتدّ لا يفكّر بعقلانية، فقد ضيَّع الغضبُ منطقَه السليم. فالمنطق القوي لا يحتاج لغضب صاحبه واحتداده ليسند وجهة نظره. بل إنه عندما يحتد يضيّع قدوته الحسنة، ويشوّه صورة المسيح فيه.

يقدم سفر الأمثال مجموعة أمثالٍ عظيمة تنهَى عن الاحتداد الخاطئ. يقول إمام الحكماء سليمان: «لاَ تَسْتَصْحِبْ غَضُوباً، وَمَعَ رَجُلٍ سَاخِطٍ لاَ تَجِئْ، لِئَلاَّ تَأْلَفَ طُرُقَهُ وَتَأْخُذَ شَرَكاً إِلَى نَفْسِكَ» (أمثال 22: 24 و25). فالغضوب يثير الناس، ويضيِّع كرامة نفسه، وكرامة الآخرين.

ج - الاحتداد الخاطئ يضيّع كرامة الإنسان الاجتماعية:

تسقط صورة المحتدّ المخطئ في نظر المجتمع. يقول الحكيم سليمان: «اَلرَّجُلُ ٱلْغَضُوبُ يُهَيِّجُ ٱلْخِصَامَ، وَٱلرَّجُلُ ٱلسَّخُوطُ كَثِيرُ ٱلْمَعَاصِي» (أمثال 29: 22). يبدأ الإنسان بالغضب ويفقد أعصابه ويخطئ، وعندها يجد نفسه يرتكب خطأً بعد خطأ فتتشوَّه صورته في مجتمعه.

3 - كيف ننتصر على الاحتداد الخاطئ؟

منح الروح القدس المؤمنين مواهب روحية ونعمة تساعدهم على التقدم في الإيمان. فكيف يفقدون ثمر الروح القدس الذي هو طول أناة وتعفُّف وضبط نفس؟!

كلنا نحارب معركتنا الروحية ونسعى لعلَّنا ندرك الذي لأجله أدركنا المسيح. لا يأس مع المسيح، ومع قوة الروح القدس التي تساعدنا كلنا لنحافظ على أعصابنا ونضبط أنفسنا ونحيا حياة المحبة التي «لا تحتدّ».

نحتاج كثيراً إلى التأكُّد أننا خليقة جديدة في المسيح لأن «ٱلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا ٱلْجَسَدَ مَعَ ٱلأَهْوَاءِ وَٱلشَّهَوَاتِ» (غلاطية 5: 24). فهذه المبادئ الأخلاقية ليست مجرّد أخلاقيات، لكنها أسلوب حياة جديدة في المسيح. فالذين تغيَّرت حياتهم ينطبق عليهم القول: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2كورنثوس 5: 17). فالبداية هي الطبيعة الجديدة التي تحيا لله تحت سيطرة روحه القدوس، فنعطي من أنفسنا أكثر للروح القدس الذي هو شخص الله، ونسلِّم أنفسنا له أكثر. وعندما يمتلكنا يملك أعصابنا أيضاً، ويحفظنا من أن نحتدّ.

وهناك أربع نصائح يمكن أن نتبعها للانتصار على الاحتداد:

أ - لنتعلَّم التواضع، فلنا عيوبنا:

جميعنا نخطئ، وكلنا كغنم ضللنا (إشعياء 53: 6) ونحتاج لنعمة الله لتصحّح مسارنا، ونحتاج لإرشاده ليوسِّع إدراكنا. نحتاج أن نضع أنفسنا في مكان الآخرين لنعرف أننا لسنا أفضل من غيرنا.

عندما تحتدّ على شخصٍ تذكَّر أن عندك من العيوب مثل ما عنده، وقد قَبِلك اللهُ وقَبِلك غيرُك من المؤمنين. فافعل الشيء نفسه مع الإنسان الذي تحتد عليه.

ب - لا نضخِّم أخطاء الآخرين، ولا ما أصابنا من ضررها:

يمكن أن نغضب نتيجة خطأ الآخرين، ولكن يجب أن نقيِّم حجم الخطأ، وحجم الغضب. هل حجم خطأ الآخرين ضدنا يستحق حجم احتدادنا؟ لا يجب أن نضع أخطاء الآخرين تحت عدسات مكبرة تضخِّم سلبياتهم.

من الدروس العظيمة التي يلقّنها لنا الرسول بولس درس الغفران. لقد قدم استئنافاً للمحكمة العليا في روما أمام الإمبراطور نيرون، كتب عنه لتلميذه تيموثاوس يقول: «فِي ٱحْتِجَاجِي (استئنافي) ٱلأَوَّلِ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مَعِي، بَلِ ٱلْجَمِيعُ تَرَكُونِي. لاَ يُحْسَبْ عَلَيْهِمْ. وَلٰكِنَّ ٱلرَّبَّ وَقَفَ مَعِي وَقَوَّانِي، لِكَيْ تُتَمَّ بِي ٱلْكِرَازَةُ، وَيَسْمَعَ جَمِيعُ ٱلأُمَمِ، فَأُنْقِذْتُ مِنْ فَمِ ٱلأَسَدِ. وَسَيُنْقِذُنِي ٱلرَّبُّ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ رَدِيءٍ وَيُخَلِّصُنِي لِمَلَكُوتِهِ ٱلسَّمَاوِيِّ. ٱلَّذِي لَهُ ٱلْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. آمِينَ» (2 تيموثاوس 4: 16-18). كنا نتوقَّع أن يعاتب الرسول بولس المؤمنين الذين قادهم لمعرفة المسيح، والذين احتمل في سبيلهم آلاماً كثيرة، وقد تركوه في موقفٍ صعب كان يحتاج فيه إلى إسنادهم النفسي والعاطفي والأدبي والمالي. ولكنهم تركوه وحيداً. ولكن ما أجمل قوله: «لا يُحسب عليهم». وأشاد بوقوف الرب بجانبه يقوّيه لتتم به الكرازة وتصل الرسالة للجميع. وليس ذلك فقط بل شهد أن الله سينقذه في المستقبل. لم يكن حساب الرسول بولس مثل حساب كثيرين اليوم! لم يحسب شيئاً على المقصّرين في حقه، وحسب كل شيء لمجد الله!

ج - نلتمس العذر للمخطئ:

عندما يسيء أحدٌ إلينا، يمكننا أن نحلّل دوافعه بأسلوب إيجابي، فنلتمس له العُذر بقدر ما نستطيع. وأمامنا النموذج الصالح، الذي نرجو أن نصل إلى قياس ملء قامته، وهو يصلي لأجل المسيئين إليه، رغم أنه أحسن إليهم أعظم الإحسان: «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا 23: 34). وهذا ما يعلنه الرسول بولس: «لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْدِ» (1كورنثوس2: 8). دعونا بنعمة الرب نتوقَّف عن الغضب الشديد والاحتداد المستعجل. لنبطئ غضبنا بنعمةٍ من الرب، لنتمكن من تحليل الدوافع التي جعلت غيرنا يخطئ في حقّنا. «إِذاً يَا إِخْوَتِي ٱلأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعاً فِي ٱلٱسْتِمَاعِ، مُبْطِئاً فِي ٱلتَّكَلُّمِ، مُبْطِئاً فِي ٱلْغَضَبِ، لأَنَّ غَضَبَ ٱلإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ ٱللّٰهِ» (يعقوب 1: 19 و20).

د - نقدِّر النتائج السيئة للاحتداد:

عندما يفيق الإنسان إلى نفسه بعد ثورة الغضب، يندم على كثيرٍ مِن الكلام الذي صدر منه، ويتذكر المثل الصيني: «الفم المطبَق لا يدخله الذباب» كما يتذكر النصيحة القديمة: «إن كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب». ويتذكر قولة الشاعر:

«ولئِنْ ندمتُ على سكوتيَ مرةً فلقد ندمتُ على الكلامِ مراراً»

لا يوجد شيء مستحيل مع الوصية. فحيث تكون الوصية، تكون هناك نعمة كافية لتنفيذها لأن الرب هو مصدر الوصية ومصدر النعمة أيضاً، والرب يعرف ما نحتاج إليه من قبل أن نطلبه.

صلاة

امتحِن نفسي يا الله، واختبِر كلامي وعلاقاتي مع الآخرين، وسيطِر بروحك القدوس على سلوكي. أشكرك لأنك سامحتني على كل ما أسأتُ به لملكوتك ولإخوتي ولنفسي. «إليك وحدك أخطأت».

عندما تُفلت أعصابي منّي وأحتدّ، اضبِط لساني وأعطني محبتك. ذكِّرني كم غفرتَ لي فأغفر أنا أيضاً، وكم أطلْتَ أناتك عليَّ فأُطيل أنا أيضاً أناتي على الآخرين، فلا أحتدّ ولا أغضب باطلاً، بل أنتصر بنعمتك على كل غضب أهوج، وعلى كل سخط مُضِرّ لي ولغيري ولملكوتك. واستجبني في شفاعة المسيح. آمين.

الفصل الثامن: «اَلْمَحَبَّةُ لا تَظُنُّ ٱلسُّوءَ» (1كورنثوس 13: 5)

هناك فرقٌ بين الظن في أن الآخرين أساءوا إلينا، والتأكُّد أنهم أساءوا إلينا فعلاً. ويعلّمنا القول المبارك: «اَلْمَحَبَّةُ لا تَظُنُّ ٱلسُّوءَ» أن نتأكد من كل حقيقة قبل أن نُصدر حكماً فيها، لأن ظنّ السوء يؤذينا ويؤذي غيرنا. والمحبة لا تظن السوء لأنها تتأنى وترفق، فلا تصدر أحكاماً سريعة، بل تعطي نفسها فرصة لتتأكد.

قلنا إن مزمور المحبة هذا يقع بين أصحاحين يتكلّمان عن أصحاب المواهب الروحية التي نالوها كعطيةٍ من الروح القدس، فيقول الرسول بولس لهؤلاء: يا أصحاب المواهب الروحية، لا تظنّوا سوءاً في بعضكم البعض، لأننا كلنا أعضاء البعض، وأفراد عائلة واحدة رأسها المسيح. فلا تصدروا أحكاماً سريعة، بل تأنوا وترفَّقوا ببعضكم.

1 - ما هو ظن السوء؟

ظنّ السوء هو أن نفسِّر كلمات وأفعال الآخرين تفسيراً سلبياً، وأن نحكم عليهم أحكاماً ظالمة دون أن تكون لنا أدلّة على ذلك.

  1. ننسب إليهم السوء في أقوالهم وأعمالهم وصفاتهم. وهذا يخلق في داخلنا من نحو الشخص الذي نسيء الظن به موقفاً فكرياً سلبياً يحدّد معاملاتنا معه اليوم وغداً! وتظل الصورة السيئة لذلك الشخص عالقة في ذهننا بدون تغيير، لأننا نظن به السوء.

  2. نتوقع السوء من الشخص الذي أسأنا الظن به، وكأننا نلبس نظارة سوداء كلما نظرنا إليه. ومهما أحسن التصرّف فإننا نعزو حُسْن تصرّفه إلى غاياتٍ وأهداف شريرة. وما أن يحدث خطأ حتى يتبادر اسمه إلى فكرنا باعتبار أنه هو الذي ارتكبه، ونتنبّأ دوماً بردّ فعله الخاطئ على أي عمل صالح نقوم به. وأسوأ نتائج هذه الحالة أن صاحب الظن السيء عندما يتطرّف في سوء الظن سرعان ما يحتاج لعلاجٍ نفسي، لأنه يتعب من توقُّع خيانة الناس له، وطمعهم في ما يملك، وسرقته لما عنده، وارتكاب كل أمرٍ شرير يؤذيه!

  3. ننمّي أفكار السوء من نحو الآخرين، فنفسِّر مواقفهم البسيطة بتعقيد، ونلوّن مواقفهم الرمادية اللون الغير واضحة بعد، باللون الأسود. ويزيد الأمر سوءاً حتى نفسّر مواقفهم البيضاء بأنها سوداء.

    لهذه الأسباب الثلاثة المؤلمة نحتاج إلى المحبة التي «لا تظن السوء» لأنها تنقذ حياتنا الإيمانية والاجتماعية والنفسية، وتريحنا من المشاكل مع الذات والمجتمع. فالكتاب المقدس ليس كتاب أخرويات فقط، رغم أنه يتكلم عن مجيء المسيح ثانية والحياة الأبدية. لكنه كتاب الحاضر الذي يلمس حياتنا اليومية، ويوجّه علاقاتنا مع أنفسنا ومع الآخرين.

2 - لماذا نظن السوء؟

  1. ظن السوء موقف فكري من الإنسان نحو الآخرين، ربما نتج عن اختباراتٍ سيئة سابقة. مثلاً، قد تتوقَّع خيراً كثيراً من إنسان، فيخيب أملك فيه، وعندها تبدأ في أن تسيء الظن به، وتحتفظ بصورةٍ سيئةٍ له في فكرك. وكأنك التقطت له صورةً فوتوغرافية فكرية، تبقى عندك بدون تغيير، مع أن الحياة فيلم متحرك وليست صورة ثابتة! ومثل هذا الظن السيء المبني على الماضي السيء يدمّر لك الماضي، ويدمّر لك الحاضر والمستقبل أيضاً! إن الذي يحبك قد يسيء إليك بعد ذلك، والذي أساءك مرة قد يبدي لك المحبة بعد ذلك. فلنكن منفتحين للآخرين، عالمين أن الحياة متحركة، وليست ثابتة متوقفة.

  2. وقد يكون ظن السوء نتيجة تفسير المواقف والحكم عليها حكماً سريعاً، بدون قضاء وقتٍ كافٍ للتحليل المنطقي، وبدون أن نتأكد من صِدْق مصادر المعلومات التي وصلتنا بخصوصها. والمفروض أن يطيل الإنسان أناته قبل إصدار الأحكام.

  3. ويمكن أن يكون ظن السوء نتيجة الاستماع لآراء الغير في أشخاصٍ لم يسبق لنا أن تعاملنا معهم شخصياً، فنقبل تلك الآراء ونصدق تلك الأحكام من غير فحص. وفي معظم الأحيان تكون الآراء والأحكام سلبية، فتكوِّن للآخرين عندنا صورة سيئة، لا لأننا تعاملنا معهم، لكن لمجرد أننا سمعنا عنهم أخباراً سلبية. وبهذه الطريقة تتدمر صورة الناس في أذهاننا، فنتعَب ونُتعِب الناس.

3 - متاعب ظن السوء

  1. يعطل ظنُّ السوء خيرنا الروحي. ويضيِّع سلامنا الداخلي، لأن الإنسان المطمئن الواثق يكون مستريحاً، بينما صاحب الظن السيء يتعب دائماً، لأنه يفسِّر حتى الكلمات الصالحة تفسيراً سيئاً. وهذا يُضعف علاقاته بالآخرين، ويجعله يطلب البراهين الكثيرة على الصدق والإخلاص قبل أن يضع ثقته في الناس، فيتعب هو ويُتعِب الآخرين أيضاً!

    ويؤدي سوء الظن إلى ضعف علاقة صاحبه بالرب، فكيف نصلي من أجل الآخرين طالبين لهم البركة ونحن نظن بهم السوء؟ وكيف نكون في سلامٍ داخلي يعطينا فرح الحديث مع الله عن المؤمنين والكنيسة ونحن نسيء الظن بإخوتنا المؤمنين أعضاء الكنيسة؟

  2. وظن السوء خطير للغاية، لأن أفكار الإنسان هي عالمه الخاص الذي يعيش فيه عندما يكون بمفرده. فإن كانت أفكار الإنسان سلبية تصبح حياته سلبية. وإن كانت إيجابية تجعلها إيجابية.

    قال الحكيم في سفر الأمثال: «كَمَا شَعَرَ فِي نَفْسِهِ هٰكَذَا هُوَ» (أمثال 23: 7). فالأفكار تصوغ الشخصية. فإذا أساء الإنسان الظن صارت حياته كلها سيئة. وهذا يلقي عليه عبئاً ثقيلاً. فلنَحْيَ بأفكارٍ موضوعية، ولنشعر بمشاعر المحبة. وهذا ممكن لأننا نقدر أن نحكم عالم أفكارنا، بأنفسنا، لنجعله نظيفاً عامراً بالمحبة، لخير نفوسنا.

  3. وأفكارنا هي مقياس حياتنا الروحية. وهي أكثر أهميةً من أعمالنا في قياس رُقِيّنا الروحي لأن الأفكار تُلهمنا الأعمال التي نقوم بها وتدفعنا إليها. وفي الموعظة على الجبل ركز المسيح على عالم الفكر أكثر من تركيزه على عالم العمل، لأن الفكر هو الذي يُنتج العمل. فمثلاً الذي يغضب على أخيه باطلاً، وينمّي غضبه، يتطوَّر الأمر به إلى القتل. والذي ينظر ليشتهي ينتهي به الأمر الى ارتكاب النجاسة (متى 5: 21- 32). وكلما زادت حياتنا الروحية تقدماً نضجنا نفسياً، وزادت معرفتنا الروحية، وصارت لنا أفكار أفضل عن أنفسنا وعن الناس.

قال الرسول بولس في رسالته الرعوية إلى تيطس الراعي: «ذَكِّرْهُمْ (أي المؤمنين) أَنْ يَخْضَعُوا لِلرِّيَاسَاتِ وَٱلسَّلاَطِينِ وَيُطِيعُوا، وَيَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَلاَ يَطْعَنُوا فِي أَحَدٍ، وَيَكُونُوا غَيْرَ مُخَاصِمِينَ، حُلَمَاءَ، مُظْهِرِينَ كُلَّ وَدَاعَةٍ لِجَمِيعِ ٱلنَّاسِ. لأَنَّنَا كُنَّا نَحْنُ أَيْضاً قَبْلاً أَغْبِيَاءَ، غَيْرَ طَائِعِينَ، ضَالِّينَ، مُسْتَعْبَدِينَ لِشَهَوَاتٍ وَلَذَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، عَائِشِينَ فِي ٱلْخُبْث وَٱلْحَسَدِ، مَمْقُوتِينَ، مُبْغِضِينَ بَعْضُنَا بَعْضاً. وَلٰكِنْ حِينَ ظَهَرَ لُطْفُ مُخَلِّصِنَا ٱللّٰهِ وَإِحْسَانُهُ - لاَ بِأَعْمَالٍ فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ - خَلَّصَنَا بِغَسْلِ ٱلْمِيلاَدِ ٱلثَّانِي وَتَجْدِيدِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، ٱلَّذِي سَكَبَهُ بِغِنًى عَلَيْنَا بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مُخَلِّصِنَا. حَتَّى إِذَا تَبَرَّرْنَا بِنِعْمَتِهِ نَصِيرُ وَرَثَةً حَسَبَ رَجَاءِ ٱلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ. صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ. وَأُرِيدُ أَنْ تُقَرِّرَ هٰذِهِ ٱلأُمُورَ، لِكَيْ يَهْتَمَّ ٱلَّذِينَ آمَنُوا بِٱللّٰهِ أَنْ يُمَارِسُوا أَعْمَالاً حَسَنَةً. فَإِنَّ هٰذِهِ ٱلأُمُورَ هِيَ ٱلْحَسَنَةُ وَٱلنَّافِعَةُ لِلنَّاسِ. وَأَمَّا ٱلْمُبَاحَثَاتُ ٱلْغَبِيَّةُ وَٱلأَنْسَابُ وَٱلْخُصُومَاتُ وَٱلْمُنَازَعَاتُ ٱلنَّامُوسِيَّةُ فَٱجْتَنِبْهَا، لأَنَّهَا غَيْرُ نَافِعةٍ، وَبَاطِلَةٌ» (تيطس 3: 1-9).

وهذه الوصايا تعني أن من يحيا في المسيح الحياة الجديدة لا يمكن أن يعيش في عالم أفكارٍ سيئة تظن السوء، بل يجدِّد ذهنه بحسب فكر المسيح.

4 - علاج ظن السوء

نحتاج إلى جهدٍ لنتخلَّص من ظن السوء، لأن الإنسان الذي بَرْمج عقله على ذلك باستمرار، يجب أن يغيِّر اتجاهه الفكري، وهذا يحتاج لتعديل نفسه وطريقة تفكيره.

وأقدم ثلاث نصائح تساعدنا على معالجة سوء الظن:

  1. لنعرف أن الله هو الوحيد الذي يملك الحكم الصائب بغير ظن، لأنه يملك كل المعلومات بغير تحيُّز. وحده يعرف كل التفاصيل والدوافع وأفكار القلب ونياته. في صباح يوم أحدٍ في بلدة صغيرة تعسَّرت سيدة في الولادة، فأرسلت إلى أحد الأطباء ليُسعِفها. ولما كان يعرف أنها فقيرة لا تستطيع أن تدفع ما يطلبه، اعتذر بحجّة أنه لا يريد أن يتأخر عن حضور الكنيسة. فأرسلت إلى طبيب آخر استجاب استغاثتها، ولم يتقاضَ منها أي مبلغ، وبالطبع تغيَّب عن حضور الكنيسة. وكم هو مؤلم أن تعرف تعليق شعب الكنيسة على ما جرى! قالوا: إن الطبيب الأول وضع العبادة قبل المكسب المالي، وإن الثاني ترك الصلاة ليجري وراء المكسب!! وهو حكمٌ بشري متسرّع، أساء لنفسٍ مُحِبَّة أعطت وبدون مقابل. ومدحت نفساً لا تستحق المدح. لذلك ينصحنا المسيح: «لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ ٱلظَّاهِرِ بَلِ ٱحْكُمُوا حُكْماً عَادِلاً» (يوحنا 7: 24).

    وعندما تتضح الأمور نكتشف أن حُكمنا على الآخرين كان حكماً خاطئاً، لأنه لم يكن عندنا وقت كافٍ للحكم الصائب على الغير. ويقدم رسولنا المحب بولس نصيحة عظيمة لجميعنا: «إِذاً لاَ تَحْكُمُوا فِي شَيْءٍ قَبْلَ ٱلْوَقْتِ، حَتَّى يَأْتِيَ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي سَيُنِيرُ خَفَايَا ٱلظَّلاَمِ وَيُظْهِرُ آرَاءَ ٱلْقُلُوبِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ ٱلْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ ٱللّٰهِ» (1كورنثوس 4: 5).

  2. الحكم الرقيق على الخاطئ أصوب من الحكم السيّء عليه. وكل من يرتقي في حياته الروحية يفعل ذلك، لأنه يكره الخطية وفي نفس الوقت يحب الخاطئ. لقد غضب الابن الأكبر على أخيه الصغير الضال الذي رجع لأنه بذَّر أمواله وأساء إلى أسرته، فرفض أن يحتفل برجوعه، لأنه ظن السوء في أخيه، ولم يقبل رجوعه بتوبةٍ صادقةٍ. والأغلب أن الابن الأكبر لم يكن قد سمع قول أخيه لأبيه: «لَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً» (لوقا 15: 19).

    ويصف داود الارتقاء الروحي فيقول: «يَا رَبُّ، مَنْ يَنْزِلُ فِي مَسْكَنِكَ؟ مَنْ يَسْكُنُ فِي جَبَلِ قُدْسِكَ؟ ٱلسَّالِكُ بِٱلْكَمَالِ، وَٱلْعَامِلُ ٱلْحَقَّ، وَٱلْمُتَكَلِّمُ بِٱلصِّدْقِ فِي قَلْبِهِ. ٱلَّذِي لاَ يَشِي بِلِسَانِهِ، وَلاَ يَصْنَعُ شَرّاً بِصَاحِبِهِ، وَلاَ يَحْمِلُ تَعْيِيراً عَلَى قَرِيبِهِ» (مزمور 15: 1-3). وكلما ارتقى الإنسان روحياً وصل إلى هذه الدرجة المباركة، وصار رؤوفاً لطيفاً متواضعاً طويل أناة (كولوسي 3: 12).

  3. الذي يسيء الظن بغيره يحكم على نفسه، وعليه أن يتوقع نفس المعاملة من غيره. قال الحكيم سليمان: «ٱلْفَاعِلُ ٱلشَّرَّ يُصْغِي إِلَى شَفَةِ ٱلإِثْمِ، وَٱلْكَاذِبُ يَأْذَنُ لِلِسَانِ فَسَادٍ» (أمثال 17: 4). الذي يظن السوء هو أيضاً يجب أن يُساء الظن به، لأنه يحكم على الناس من واقع حياته هو. وعلى كل من يرجم الآخرين بالأحجار أن يتذكر أن بيته من زجاج!

صلاة

يا رب، اغفر لي سوء الظن في غيري، فإني لا أعرف كل شيء عن كل شخص. ساعدني لأرى الجانب المشرق في الناس قبل أن أرى الجانب المظلم فيهم، وهبني وأنا أحكم على غيري ببساطة الحمام وحكمة الحيَّات. أعطني النعمة لأفكر في غيري كما تفكر أنت فيَّ، فإنك دائماً تتوقع منّي الخير وتستأمنني على الكثير، وتكلّفني بخدماتٍ أؤديها لك. لقد استأمنتني على دَخْلي ووقتي وأسرتي وبركاتي الروحية، فأعطني أن أرى الآخرين بمنظارك أنت. في شفاعة المسيح. آمين.

الفصل التاسع: «اَلْمَحَبَّةُ تَفْرَحُ بِٱلْحَقِّ» (1كورنثوس 13: 6)

«المحبة لا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق» - هذه حقيقة سامية، ولكن يبدو أن بعض أهل كورنثوس فرحوا بالعيوب الموجودة في البعض الآخر. وعادةً عندما يهبط الإنسان روحياً يفتش على عيوب الآخرين بسرور ليَرضَى عن نفسه ويُريح ضميره، لأنه عندما يقارن خطأه بخطإ الآخرين يشعر أنه مثلهم أو أنه أفضل منهم، وينتهي به الأمر أنه يفرح بالإثم! وهذه راحة نفسية مزيَّفة، مبنيَّة على أوهامٍ لا يمكن أن تُريح الضمير على مدى طويل.

ونقيس أنفسنا مرَّات على أنفسنا، فنكتشف أننا أصبحنا أفضل، وأننا نتقدم. وقد نرى أننا ندفع عشورنا ونحضر الكنيسة ونؤدي خدمات لها، فتطمئن نفوسنا لذلك. ونقيس أنفسنا مرات على قامة غيرنا، فنفرح لأننا أفضل من كثيرين! لكن الكتاب يطالبنا دوماً أن نقيس أنفسنا على قياس قامة ملء المسيح «إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ ٱلإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس 4: 13). عند ذلك لا نفرح بإثم غيرنا، لأننا نكتشف أن عيوبنا أكبر من عيوب الآخرين، فنعترف بها ونتوب عنها، وعند ذلك نفرح بالمسيح الذي يُريح الجميع من الآثام لأنه هو الفادي الحق، وكلمة إنجيله هي إعلان الخبر المفرح.

الحق الذي تفرح به المحبة

1 - المسيح هو الحق:

قال المسيح لبيلاطس إنه جاء ليشهد للحق، فوجَّه بيلاطس له سؤالاً: «وما هو الحق؟». ولم يكن بيلاطس مستعداً أن يسمع الإجابة. لعل نبرة صوته وهو يسأل كانت تعني: «ومن يدري أين هو الحق! إن أهل كل دين من الأديان يقولون إن عندهم الحق!». ولذلك لم يجاوبه المسيح. وكان قد سبق وأجاب على هذا السؤال بقوله: «وَتَعْرِفُونَ ٱلْحَقَّ وَٱلْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ.... فَإِنْ حَرَّرَكُمْ ٱلٱبْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً ... أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاَّ بِي» (يوحنا 8: 32 و36 و14: 6). فالمسيح هو الحق الذي تفرح به المحبة، لأن أعظم فرحٍ على الإطلاق هو فرح يوم حصولنا على اللؤلؤة الكثيرة الثمن التي تستحق أن نترك من أجلها كل شيء آخر مهما كان عزيزاً علينا، سواء كان علاقة عاطفية أو مشروعاً اقتصادياً، إن كان يتناقض مع محبتنا للمسيح أو يعطل تنفيذنا لمشيئته (متى 13: 45 و46).

والمحبة تفرح بالحق الذي هو المسيح يوم تتعرَّف عليه فادياً ومخلِّصاً، ويوم تسمع عن أشخاصٍ تابوا وقبلوه مخلِّصاً، فإن أعظم يومٍ في حياة الإنسان هو اليوم الذي عرف فيه المسيح، واليوم التالي الذي يشبهه هو يوم أن تقود شخصاً آخر للتوبة ومعرفة المسيح. وليعطك الله الفَرْحَتين!

هناك رسالتان عظيمتان كتبهما الرسول يوحنا إلى شخصيتين عظيمتين، هما رسالته الثانية المكتوبة إلى كيرية المختارة، ورسالته الثالثة المكتوبة إلى غايس الحبيب. وفيهما يعبِّر الرسول يوحنا عن فرحه بالحق الذي هو المسيح، ويفرح أيضاً بكل من يسلك في الحق. تقول مقدمة الرسالة الثانية: «اَلشَّيْخُ (يوحنا) إِلَى كِيرِيَّةَ ٱلْمُخْتَارَةِ، وَإِلَى أَوْلاَدِهَا ٱلَّذِينَ أَنَا أُحِبُّهُمْ بِٱلْحَقِّ، وَلَسْتُ أَنَا فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً جَمِيعُ ٱلَّذِينَ قَدْ عَرَفُوا ٱلْحَقَّ (المسيح). مِنْ أَجْلِ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي يَثْبُتُ فِينَا وَسَيَكُونُ مَعَنَا إِلَى ٱلأَبَدِ، تَكُونُ مَعَكُمْ نِعْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَسَلاَمٌ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلآبِ وَمِنَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱبْنِ ٱلآبِ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمَحَبَّةِ. فَرِحْتُ جِدّاً لأَنِّي وَجَدْتُ مِنْ أَوْلاَدِكِ بَعْضاً سَالِكِينَ فِي ٱلْحَقِّ، كَمَا أَخَذْنَا وَصِيَّةً مِنَ ٱلآبِ. وَٱلآنَ أَطْلُبُ مِنْكِ يَا كِيرِيَّةُ، لاَ كَأَنِّي أَكْتُبُ إِلَيْكِ وَصِيَّةً جَدِيدَةً، بَلِ ٱلَّتِي كَانَتْ عِنْدَنَا مِنَ ٱلْبَدْءِ: أَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً. وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْمَحَبَّةُ، أَنْ نَسْلُكَ بِحَسَبِ وَصَايَاهُ. هٰذِهِ هِيَ ٱلْوَصِيَّةُ، كَمَا سَمِعْتُمْ مِنَ ٱلْبَدْءِ أَنْ تَسْلُكُوا فِيهَا» (2 يوحنا 1-6). فرح الرسول يوحنا بالذين أحبهم بالحق لأنهم يسلكون في الحق.

وتقول مقدمة الرسالة الثالثة: «اَلشَّيْخُ (يوحنا) إِلَى غَايُسَ ٱلْحَبِيبِ ٱلَّذِي أَنَا أُحِبُّهُ بِٱلْحَقِّ. أَيُّهَا ٱلْحَبِيبُ، فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرُومُ أَنْ تَكُونَ نَاجِحاً وَصَحِيحاً، كَمَا أَنَّ نَفْسَكَ نَاجِحَةٌ. لأَنِّي فَرِحْتُ جِدّاً إِذْ حَضَرَ إِخْوَةٌ وَشَهِدُوا بِٱلْحَقِّ ٱلَّذِي فِيكَ، كَمَا أَنَّكَ تَسْلُكُ بِٱلْحَقِّ. لَيْسَ لِي فَرَحٌ أَعْظَمُ مِنْ هٰذَا: أَنْ أَسْمَعَ عَنْ أَوْلاَدِي أَنَّهُمْ يَسْلُكُونَ بِٱلْحَقِّ» (3 يوحنا 1-4).

فرح يوحنا بغايس لأنه يسلك بالحق، وتمنَّى أن يكون نجاح غايس في كل حياته مشابهاً لنجاحه في حياته الروحية. فالمحبة تفرح بالحق وبكل من يسلك فيه. عندما نفكر في محبة المسيح المستمرة لنا نستطيع أن نقول مع الرسول بولس: «لأَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا» (2 كورنثوس 5: 14).

وعندما تحصرنا محبة المسيح وتمتلكنا، نبدأ في أن نحب الذين دخل المسيح قلوبهم، لأنهم يحبون من نحب، ويتجاوبون مع من نتجاوب معه: يسوع المسيح.

2 - الإنجيل هو الحق:

الإنجيل هو الحق الذي أعلنه لنا المسيح، وقد وصفه الرسول بولس بأنه «كَلِمَةُ ٱلْحَقِّ، إِنْجِيلُ خَلاَصِكُمُ» (أفسس 1: 13) وكلمة حق الإنجيل (كولوسي 1: 5). وقال المسيح في الصلاة الشفاعية: «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ» (يوحنا 17: 17). فالإنجيل هو الخبر المفرح الحق، لأن تعاليمه حق سماوي، وبقبول رسالته المفرحة نخلُص، لأنه يعرّفنا بالمسيح المخلِّص، ويؤدي بنا إلى معرفة طريق الخلاص الحقيقي. إنه قوة الله للخلاص (رومية 1: 16) وهو بشارة نعمة الله وإنجيل السلام (أفسس 6: 15) وهو بشارة الملكوت (متى 9: 35). وهذا الإنجيل خبر مفرّح لأنه يجيء إلينا بوعد غفران الخطايا على حساب الدم الكريم، ويؤكد لنا هذه المغفرة لا على أساس أعمالٍ صالحةٍ في برٍ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس (تيطس 3: 5).

وقد تكلّم المسيح عن فَرْحة إبراهيم بالحق فقال: «أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ» (يوحنا 8: 56). فرح إبراهيم بالإيمان والرجاء، لأنه رأى الخلاص الآتي قادماً في المستقبل من قبل أن يجيء. أما الرعاة فقد تهللوا لما أعلن لهم الملاك خبر تجسُّد المحبة (لوقا 2: 15) فذهبوا ليروا «هذا الأمر الواقع». لقد تهلّل الرعاة من قبل أن يعلن لهم الملائكة ميلاد المسيح برموز الخلاص في الحملان التي كانوا يربّونها لتقديمها ذبائح في الهيكل، وبإقامة وليمة الفصح بحملٍ منها، ليذكروا تحريرهم من عبودية مصر. فالمحبة تفرح بالحق الذي هو الإنجيل. وتفرح أيضاً بكل من يقبل الإنجيل الذي هو رسالة الحق، كما يفرح الراعي بالخروف الضال متى وجده، فيحمله فَرِحاً إلى بيته، ويدعو الأصدقاء والجيران قائلاً لهم: «ٱفْرَحُوا مَعِي، لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي ٱلضَّالَّ. ويعلّق المسيح على ذلك بقوله: أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هٰكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً (يظنون أنهم) لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ» (لوقا 15: 5-7).

وقد عبَّر الرسول بولس عن فرحه بالمؤمنين الذين قبلوا الإنجيل في تسالونيكي، فقال لهم: «نَشْكُرُ ٱللّٰهَ كُلَّ حِينٍ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، ذَاكِرِينَ إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِنَا، مُتَذَكِّرِينَ بِلاَ ٱنْقِطَاعٍ عَمَلَ إِيمَانِكُمْ، وَتَعَبَ مَحَبَّتِكُمْ، وَصَبْرَ رَجَائِكُمْ... عَالِمِينَ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ٱلْمَحْبُوبُونَ مِنَ ٱللّٰهِ ٱخْتِيَارَكُمْ، أَنَّ إِنْجِيلَنَا لَمْ يَصِرْ لَكُمْ بِٱلْكَلاَمِ فَقَطْ، بَلْ بِٱلْقُوَّةِ أَيْضاً، وَبِالرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَبِيَقِينٍ شَدِيدٍ، كَمَا تَعْرِفُونَ أَيَّ رِجَالٍ كُنَّا بَيْنَكُمْ مِنْ أَجْلِكُمْ. وَأَنْتُمْ صِرْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِنَا وَبِالرَّبِّ، إِذْ قَبِلْتُمُ ٱلْكَلِمَةَ فِي ضِيقٍ كَثِيرٍ، بِفَرَحِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، حَتَّى صِرْتُمْ قُدْوَةً لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ» (1تسالونيكي 1: 2-7).

فالرسول وصَّل حق الإنجيل إلى أهل تسالونيكي، فقبلوه بفرحٍ بالرغم من الاضطهاد والضيق الشديد، ففرح الرسول بهم لأن المحبة تفرح بالحق، كما فرحوا هم بالإنجيل الذي قبلوه.

3 - العدالة هي الحق:

الله هو إله العدل، الذي يحب العدل ويمارسه «مُجْرِي ٱلْعَدْلَ وَٱلْقَضَاءَ لِجَمِيعِ ٱلْمَظْلُومِينَ» (مزمور 103: 6) «جَمِيعُ سُبُلِهِ عَدْلٌ. إِلٰهُ أَمَانَةٍ لاَ جَوْرَ فِيهِ. صِدِّيقٌ وَعَادِلٌ هُوَ» (تثنية 32: 4). لذلك يقول الرسول بولس: «وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ دَيْنُونَةَ ٱللّٰهِ هِيَ حَسَبُ ٱلْحَقِّ» (رومية 2: 2). ولذلك يرتل المؤمنون في اليوم الأخير: «عَظِيمَةٌ وَعَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ ٱلْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. عَادِلَةٌ وَحَقٌّ هِيَ طُرُقُكَ يَا مَلِكَ ٱلْقِدِّيسِينَ. مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا رَبُّ وَيُمَجِّدُ ٱسْمَكَ، لأَنَّكَ وَحْدَكَ قُدُّوسٌ، لأَنَّ جَمِيعَ ٱلأُمَمِ سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ قَدْ أُظْهِرَتْ» (رؤيا 15: 3 و4).

ولما كان الله عادلاً ويحب الحق، فإنه يطلب من شعبه أن يمارسوا العدالة ويحبّوا الحق ويقاوموا الظلم، ويناصروا المظلومين. فتقول شريعة موسى: «ٱلْعَدْلَ ٱلْعَدْلَ تَتَّبِعُ، لِكَيْ تَحْيَا وَتَمْتَلِكَ ٱلأَرْضَ ٱلَّتِي يُعْطِيكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ» (تثنية 16: 20). وتطالبنا المزامير: «اِقْضُوا لِلذَّلِيلِ وَلِلْيَتِيمِ. أَنْصِفُوا ٱلْمَِسْكِينَ وَٱلْبَائِسَ. نَجُّوا ٱلْمَِسْكِينَ وَٱلْفَقِيرَ. مِنْ يَدِ ٱلأَشْرَارِ أَنْقِذُوا» (مزمور 82: 3 و4). ويقول الحكيم سليمان: «فِعْلُ ٱلْعَدْلِ وَٱلْحَقِّ أَفْضَلُ عِنْدَ ٱلرَّبِّ مِنَ ٱلذَّبِيحَةِ» (أمثال 21: 3) بمعنى أن العدل والحق أسمى من العبادة الطقسية. وقال الله على فم النبي إشعياء: «ٱحْفَظُوا ٱلْحَقَّ وَأَجْرُوا ٱلْعَدْلَ» (إشعياء 56: 1).

وقد فرح قضاة بني إسرائيل بالحق، وقدَّم صموئيل القاضي والنبي للشعب تقريراً عن عمله القضائي، وهو يسلّم مسئولية القضاء لشاول الملك الأول على بني إسرائيل، فقال صموئيل: «ٱشْهَدُوا عَلَيَّ قُدَّامَ ٱلرَّبِّ وَقُدَّامَ مَسِيحِهِ (الملك شاول) ثَوْرَ مَنْ أَخَذْتُ (يقصد الثروة الحيوانية) وَحِمَارَ مَنْ أَخَذْتُ (يقصد وسائل المواصلات) وَمَنْ ظَلَمْتُ، وَمَنْ سَحقْتُ، وَمِنْ يَدِ مَنْ أَخَذْتُ فِدْيَةً لأُغْضِيَ عَيْنَيَّ عَنْهُ، فَأَرُدَّ لَكُمْ؟» (أي فأدفع تعويضاً) فَقَالُوا: «لَمْ تَظْلِمْنَا وَلاَ سَحَقْتَنَا وَلاَ أَخَذْتَ مِنْ يَدِ أَحَدٍ شَيْئاً» (1صموئيل 12: 3 و4).

وقام أنبياءٌ ينادون بالعدالة الاجتماعية في أوقات الظلم والقهر، لأن محبة الله في قلوبهم جعلتهم لا يفرحون بالإثم بل يفرحون بالحق. وكان النبي عاموس من أقوى الأنبياء الذين هاجموا ظلم الغني للفقير، فقد نادى بالشعار العظيم: «وَلْيَجْرِ ٱلْحَقُّ كَٱلْمِيَاهِ وَٱلْبِرُّ كَنَهْرٍ دَائِمٍ» (عاموس 5: 24). ونادى بالعقاب على الظالمين ودعاهم للتوبة، وقال: «اُطْلُبُوا ٱلْخَيْرَ لاَ ٱلشَّرَّ لِتَحْيُوا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ٱلرَّبُّ إِلَهُ ٱلْجُنُودِ مَعَكُمْ كَمَا قُلْتُمْ. أَبْغِضُوا ٱلشَّرَّ وَأَحِبُّوا ٱلْخَيْرَ وَثَبِّتُوا ٱلْحَقَّ فِي ٱلْبَابِ (أي مكان المحاكمات) لَعَلَّ ٱلرَّبَّ إِلَهَ ٱلْجُنُودِ يَتَرَأَّفُ عَلَى بَقِيَّةِ يُوسُفَ» (عاموس 5: 14 و15).

ولم يكن رجال الله يخشون أحداً في حب الحق ومهاجمة الظلم، فقد ذهب النبي ناثان إلى الملك داود ليوبّخه على خطئه، عندما أخذ داود نعجة الرجل الفقير، وقال له: «أَنْتَ هُوَ ٱلرَّجُلُ!» (2 صموئيل 12: 7). ولم يهادن ولا راعَى أنه يكلم ملكاً. ولمست رسالة الرب على فم النبي ناثان قلب الملك داود فتاب وقال: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلرَّبِّ». فَقَالَ نَاثَانُ لِدَاوُدَ: «ٱلرَّبُّ أَيْضاً قَدْ نَقَلَ عَنْكَ خَطِيَّتَكَ. لاَ تَمُوت» (2 صموئيل 12: 13). وما أجمل دعوة الله لنا على فم نبيه إشعياء: «اِغْتَسِلُوا. تَنَقُّوا. ٱعْزِلُوا شَرَّ أَفْعَالِكُمْ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيَّ. كُفُّوا عَنْ فِعْلِ ٱلشَّرِّ. تَعَلَّمُوا فِعْلَ ٱلْخَيْرِ. ٱطْلُبُوا ٱلْحَقَّ. ٱنْصِفُوا ٱلْمَظْلُومَ. ٱقْضُوا لِلْيَتِيمِ. حَامُوا عَنِ ٱلأَرْمَلَةِ. هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَٱلْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَٱلثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَٱلدُّودِيِّ تَصِيرُ كَٱلصُّوفِ. إِنْ شِئْتُمْ وَسَمِعْتُمْ تَأْكُلُونَ خَيْرَ ٱلأَرْضِ. وَإِنْ أَبَيْتُمْ وَتَمَرَّدْتُمْ تُؤْكَلُونَ بِٱلسَّيْفِ،. لأَنَّ فَمَ ٱلرَّبِّ تَكَلَّمَ» (إشعياء 1: 16-20).

صلاة

أعطنا أن نفرح بك أنت يا سيدنا المسيح: بشخصك لأنك الحق، وبكلمتك التي هي حق. ونشكرك لأنك تريد أن تقدسنا في الحق. ساعدنا لنفرح بكل من يؤمنون بالحق، فيحررهم الحق، ويجعلهم يمارسون العدالة والحق. وساعدنا لنفرح نحن أيضاً بالحق فنعمله ونمارسه ونحيا فيه، فلا نظلم أحداً ولا نفرح أو نشمت بظلمٍ يصيب أحداً. لتكن حياتنا دوماً على حق. في شفاعة المسيح. آمين.

الفصل العاشر: المحبة المتفائلة (1 كورنثوس 13: 7)

«اَلْمَحَبَّةُ تَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، تَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» (1كورنثوس 13: 7).

قد تبدو الآية السابعة من أصحاحنا غير قابلة للتطبيق لأنها غير معقولة! هل يمكن أن واحداً يحتمل من إنسانٍ آخر كل شيء، ويصدِّق كل ما يقوله، ويرجو منه الأفضل باستمرار. وعندما لا يحدث شيء من هذا، يصبر على كل شيء؟! فهذه كلماتٌ كبيرة، متفائلة وشاملة «كل شيء». ولكنها واقعية أيضاً، أجدها في المسيح، وأجدها أيضاً في الأم التي تستمد محبتها من محبة الله، كما أجدها في المؤمن الذي يسلك حسب الروح وليس حسب الجسد.

1 - أجدها في المسيح:

إنه يحتملنا في خطايانا وبُعدنا. لقد قال لتلاميذه في العلية، وهو يعلم أنهم سيتركونه ويهربون بعد قليل: «لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً... لٰكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ» (يوحنا 15: 15). فقد اعتبرهم أحباءه، مع أنهم لم يكونوا كذلك. وعندما نجيء إليه مصلِّين مع العشار: «ٱللّٰهُمَّ ٱرْحَمْنِي أَنَا ٱلْخَاطِئَ» (لوقا 18: 13) يصدّقنا ويغفر لنا. ولو أن أحداً سأله: كيف تقبل هذا الخاطئ الخائن؟ لجاوبه: هذا العشَّار التائب الذي نزل إلى بيته مبرراً سيحيا حياة الاستقامة، وسيساعد غيره على أن يجد طريق التبرير. وحتى لو أخطأ فإني لا أسمح له أن ينطرح، بل سأسند يده (مزمور 37: 24).

2 - أجدها في الأم:

إنها تحتمل من طفلها متاعب لا يمكن أن يحتملها أي شخص آخر. وفي وسط هذه المتاعب إذا أبدى الطفل بادرة ذكاءٍ بسيطة تهتف بفرح، وتمدحه، وتتوقع له مستقبلاً عظيماً. وهي تدافع عنه دائماً عندما يشتكي عليه أحد! وترى فيه أذكى وأجمل من وُلد على ظهر الأرض! وهذا بالطبع حُكمٌ شخصي لا موضوعي، لأن «عين المحبِّ عن كل عيبٍ كليلةٌ»! وعندما تراه يخطئ تؤمن أنه سيتغلب على أخطائه ويتعلم منها، وتثق أن مستقبل ولدها أفضل من ماضيه!

3 - أجدها في المؤمن الروحي:

صدّق إبراهيم خليل الله وعد الله له، وظل عشرين عاماً ينتظر تحقيق الوعد بولادة ابن الموعد من زوجته سارة. واحتمل الكثير وصبر، «وَإِذْ لَمْ يَكُنْ ضَعِيفاً فِي ٱلإِيمَانِ لَمْ يَعْتَبِرْ جَسَدَهُ - وَهُوَ قَدْ صَارَ مُمَاتاً، إِذْ كَانَ ٱبْنَ نَحْوِ مِئَةِ سَنَةٍ وَلاَ (ٱعتبر) مُمَاتِيَّةَ مُسْتَوْدَعِ سَارَةَ. وَلاَ بِعَدَمِ إِيمَانٍ ٱرْتَابَ فِي وَعْدِ ٱللّٰهِ، بَلْ تَقَوَّى بِٱلإِيمَانِ مُعْطِياً مَجْداً لِلّٰهِ. وَتَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضاً» (رومية 4: 19-22).

يملك الروح القدس قلب المؤمن الروحي، ويعلّمه أمور الله، فتنسكب محبة المسيح في قلبه ويملأه فكر المسايح (رومية 5: 5). عندها يحيا حياة المحبة التي تحتمل كل شيء. وينفّذ وصية الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس: «وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاساً أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضاً» (2تيموثاوس 2: 2). وفي أثناء هذا التدريب يثق المعلم في تلميذه، كما وثق معلِّمه فيه من قبل. وثق بولس في تيموثاوس، ودرّبه واحتمله، وصدّق أن الله سيستخدمه للبركة، فوضع تيموثاوس ثقته في الذين درَّبهم. وهكذا تُمارس المحبة التي تحتمل وتصدق وترجو وتصبر، لأنها تعلم أن الروح القدس يستخدم الكلمة فتأتي بثمر «لأَنَّهُ كَمَا يَنْزِلُ ٱلْمَطَرُ وَٱلثَّلْجُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَلاَ يَرْجِعَانِ إِلَى هُنَاكَ، بَلْ يُرْوِيَانِ ٱلأَرْضَ وَيَجْعَلاَنِهَا تَلِدُ وَتُنْبِتُ وَتُعْطِي زَرْعاً لِلّزَارِعِ وَخُبْزاً لِلآكِلِ، هَكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي ٱلَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لاَ تَرْجِعُ إِلَيَّ فَارِغَةً، بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ» (إشعياء 55: 10 و11). وهكذا يصدِّق المعلِّم عمل نعمة الله، وباستمرارٍ يرجو أن ابنه الروحي سيكون أفضل منه.

عندما طلب أليشع من إيليا روح اثنين، قال له إيليا: «صعَّبْتَ السؤال» (2ملوك 2: 10). فقد كان الأمر صعباً على أليشع لو استجاب الله طلبه، لأن الاستجابة تعني أن مسئولياتٍ هائلةً تنتظره، ضِعف المسئوليات الهائلة التي واجهت إيليا. كما كان سؤال أليشع صعباً على إيليا، لأن الرب هو الذي يمنح روح اثنين من إيليا، وليس إيليا هو الذي يمنح. ورغم ذلك لم يوبّخ إيليا تلميذه أليشع بحجّة أنه طماع أو طموح أكثر من اللازم، بل بالعكس فرح به لأنه يحبه، وقال له: «إن رأيتني أُوخذ منك يكون لك كذلك».

والأب الروحي عندما يكتشف أن تلميذه أخطأ يصبر عليه لأنه صبور طويل الأناة، قلبه عامر بالمحبة التي يمنحها الروح القدس، وهي المحبة التي تتأنى وترفق.

المحبة المتفائلة تصدِّق اعتذار المخطئ وتعطيه فرصةً جديدة. وعندما يتأخر عن الوفاء بالوعود تنتظر المحبة أن تنصلح الأمور وترجو الإصلاح. ولما لا تتحقق الوعود تصبر المحبة على كل شيء لأنها تغفر الفشل وترجو الخير. وتعلِّمنا هذه الآية أن المحبة المتفائلة تتوقع الأيام الحلوة والمواقف الأفضل مهما كانت الظروف الحالية سيئة. فلنتأمل كيف تتصرف المحبة المتفائلة.

1- المحبة تحتمل كل شيء

المحبة الحقيقية تحتمل كل شيء كما احتمل يعقوب الكثير من أجل محبته لراحيل ابنة خاله، فخدم خاله سبع سنوات ثم سبع سنوات أخرى ليتزوج منها، وكانت تلك السنوات في عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها (تكوين 29: 20) وقد وصف يعقوب تلك السنوات بقوله: «كُنْتُ فِي ٱلنَّهَارِ يَأْكُلُنِي ٱلْحَرُّ وَفِي ٱللَّيْلِ ٱلْجَلِيدُ، وَطَارَ نَوْمِي مِنْ عَيْنَيَّ» (تكوين 31: 40).

والمحبة التي تحتمل كل شيء تفعل أمرين: (أ) تغفر الإساءة و(ب) تستر العيوب.

(أ) إنها تغفر الإساءة، وتتعايش مع المسيء:

إنها كاحتمال المسيح للخاطئ وهو يقف أمام باب قلبه يقرع، حتى يسمع ويفتح. فالمعطي لا يزال يقف ويقرع والمحتاج لا يسمع. ولكن المعطي يعرف أن المحتاج في مشكلة، وإن كان لا يدري بها، فيحتمله ويظل يقرع لينقذه مما هو فيه.

ولقد تعلَّم الرسول بولس من مثال المسيح، فاحتمل أهل كورنثوس، وكتب لهم يقول: «فِي كُلِّ شَيْءٍ نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا كَخُدَّامِ ٱللّٰهِ، فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ، فِي شَدَائِدَ، فِي ضَرُورَاتٍ، فِي ضِيقَاتٍ، فِي ضَرَبَاتٍ، فِي سُجُونٍ، فِي ٱضْطِرَابَاتٍ، فِي أَتْعَابٍ، فِي أَسْهَارٍ، فِي أَصْوَامٍ، فِي طَهَارَةٍ، فِي عِلْمٍ، فِي أَنَاةٍ، فِي لُطْفٍ، فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، فِي مَحَبَّةٍ بِلاَ رِيَاءٍ» (2كورنثوس 6: 4-6).

وفي سبيل خدمة المسيح احتمل الرسول بولس شوكة الجسد التي أصابته، والتي قال عنها: «مِنْ جِهَةِ هٰذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى ٱلرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي. فَقَالَ لِي: «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي ٱلضُّعْفِ تُكْمَلُ». فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِٱلْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ ٱلْمَسِيحِ. لِذٰلِكَ أُسَرُّ بِٱلضَّعَفَاتِ وَٱلشَّتَائِمِ وَٱلضَّرُورَاتِ وَٱلٱضْطِهَادَاتِ وَٱلضِّيقَاتِ لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ» (2كورنثوس 12: 8-10).

المحبة تحتمل، وقد قال المسيح: «وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً» (لوقا 14: 27). وقال أيضاً: «وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ ٱلْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي. وَلٰكِنِ ٱلَّذِي يَصْبِرُ إِلَى ٱلْمُنْتَهَى فَهٰذَا يَخْلُصُ» (متى 10: 22). فالمحبة التي من الروح القدس هي التي تحتمل إلى أن يحقق لها الروح القدس ثمر احتمالها.

(ب) والمحبة التي تحتمل تستر العيوب:

يقول سليمان الحكيم: «ٱلْمَحَبَّةُ تَسْتُرُ كُلَّ ٱلذُّنُوبِ» (أمثال 10: 12). وجاءت نفس الفكرة في قول الرسول بطرس: «ٱلْمَحَبَّةَ تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ ٱلْخَطَايَا» (1 بطرس 4: 8).

وقول الرسول بولس: «المحبة تحتمل كل شيء» يعلّمنا أن الذي يحب المسيح يحتمل متاعب الحياة، ويغفر إساءة الآخرين إليه ويستر عيوبهم، راضياً، لأنه يحب المسيح ويحبهم، ويريد أن يتمتع بعلاقةٍ حلوة مع المسيح. إنه مثل الفنان الذي يحتمل الكثير في سبيل فنّه، ويقف أمام لوحته ساعات طويلة، ويحرم نفسه من مسراتٍ متنوعة، لأنه يحب الفن!

2 - المحبة تصدّق كل شيء

أ - لأنها تركّز على قوة المسيح المغيِّرة، ولا تركّز على الشر:

كان المؤمنون يخافون من شاول الطرسوسي ويسمعون أخباره برعب. وعندما طلب الرب من حنانيا أن يذهب إليه ليعمّده خاف حنانيا، لأن شاول أوقع شروراً كثيرة بقديسي الرب. لكن الرب في محبته طمأن قلب حنانيا، وقال له إن شاول في انتظاره، وإنه بعد معموديته سيتحمل الألم في سبيل المسيح بعد أن يصبح خادماً له. وقد تحقَّق كل ذلك، وتغيَّر شاول تماماً، وبدل أن يلقي القبض على حنانيا، سمح لحنانيا أن «يُلقي القبض عليه» فيعمِّده خادماً للمسيح وأسيراً لمحبة الصليب (أعمال 9: 10-22). لقد صدّق حنانيا إعلان الرب له رغم صعوبة تصديقه، لأنه يعلم مقدار قوة المسيح المخلِّص، ومقدار محبته للنفس الخاطئة.

جمع المسيح مجموعةً ضعيفة من الناس لا حَوْل لهم ولا قوة اجتماعية ولا ثروة ولا درجات علمية، معظمهم من الصيّادين، وقال لهم إنه سيجعلهم «صيادي الناس» (مرقس 1: 17). ولم يكن من السهل أن يصدقوا أن الله سيصنع بهم عجائب ويؤسس بهم ملكوت السموات. ولكن محبتهم للمسيح صدَّقت الذي أحبهم واختارهم، فآمنوا أن ملكوت السموات «يُشْبِهُ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ، وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ ٱلْبُزُورِ. وَلٰكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ ٱلْبُقُولِ، وَتَصِيرُ شَجَرَةً، حَتَّى إِنَّ طُيُورَ ٱلسَّمَاءِ تَأْتِي وَتَتَآوَى فِي أَغْصَانِهَا» (متى 13: 31 و32).

ويتكلم الرسول بولس عن قوة الله الفاعلة في المسيح فيقول: «عمل شدّة قوته الذي عمله في المسيح، إذ (1) أقامه من الأموات و(2) أجلسه عن يمينه في السماويات و(3) أخضع كل شيء تحت قدميه» (أفسس 1: 19-22). وهذه القوة نفسها التي أقامت المسيح (1) تُقيمنا من موت خطيتنا، و(2) تُجلسنا عن يمينه في السماوات، و(3) تعطينا نعمة الخضوع الكامل له، بعمل الروح القدس في قلوبنا.

ب - المحبة التي تصدّق كل شيء لا تركّز على متاعب الحياة، لكنها تركّز على رب العناية:

«ٱلإِنْسَانُ مَوْلُودٌ لِلْمَشَقَّةِ... قَلِيلُ ٱلأَيَّامِ وَشَبْعَانُ تَعَباً» (أيوب 5: 7 و14: 1) حقاً تمتلئ حياتنا بالمتاعب. ولو أننا ركزنا عليها سنضيع. لكن تركيزنا على عناية إلهنا يرحمنا ويرفعنا. سأل إبراهيم المولى: «أَدَيَّانُ كُلِّ ٱلأَرْضِ لاَ يَصْنَعُ عَدْلاً؟» (تكوين 18: 25). نعم، سيصنع عدلاً! والمحبة تصدّق أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله، الذين هم مدعوّون حسب قصده، مهما كانت ظروفهم. فإن الله دائماً يحوِّل نتائج الشر إلى خير.

كلنا يذكر كيف مشى الرسول بطرس على الماء. ولكن ما إن أدار وجهه عن المسيح وحوَّله إلى الأمواج الهائجة حتى أخذ في الغرق (متى 14: 22-33). وفي هذا درسٌ بليغ لنا كلنا.

3 - المحبة ترجو كل شيء

أ - لأن رجاء المحبة مبنيٌّ على قوة خارجها هي قوة الله:

ويقدّم لنا أب المؤمنين إبراهيم نموذجاً لذلك، فقد وعده الله: «جعلتك أباً لأممٍ كثيرة» مع أنه لم يكن قد أنجب. ولكن إبراهيم كان متأكداً أن الله هو الذي يحيي الموتى، ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة. فعلى خلاف الرجاء البشري آمن إبراهيم على رجاء الوعد الإلهي أن يصير أباً لأمم كثيرة، كما قيل له: «هكذا يكون نسلك». وتقّوى إبراهيم بإيمانه بصِدْق مواعيد الله، وأعطى المجد لله، وتيقَّن أن الله قادر أن يفعل ما وعد به، لأنه اختبر محبة الله وأمانته (رومية 4: 17-21). ولم يسجل الوحي هذه الحادثة عن إبراهيم وحده، بل عن كل من يؤمن إيمان إبراهيم، ويرجو تحقيق كل مواعيد الله، فيحسب الله له هذا الإيمان «براً».

والمحبة التي ترجو كل شيء تعرف قوة الله ورحمته ونعمته. لقد هجر الابن الضال بيت أبيه، ثائراً على أسلوب أبيه في الحياة. لكن الأب المحب كان يعلم أن ولده لن يجد مكاناً أفضل من بيت أبيه، فكان كل يوم يترقّب الطريق، لعل الضال يرجع. ولما قرر الضال أن يعود، وإذ كان لم يزل بعيداً، رآه أَبوه فتحنّن عليه، وركض إليه ووقع على عنقه وقبّله (لوقا 15: 11-24). وقد نالت المحبة الراجية ما كانت تأمل فيه، وحقَّق الله للأب عودة ولده.

ولقد صلَّت القديسة مونيكا من أجل ولدها أغسطينوس 34 سنة. ولكنها كلما صلَّت لأجله زاد ضلالاً. والتقت الأم الباكية المصلّية بالقديس أمبروز في ميلانو واشتكت له عدم استجابة الصلاة، فسألها: «هل تصلّين لأجله بدموع؟» فأجابت الأم: «نعم بدموع». فقال لها عبارة خالدة: «ابن الدموع لا يمكن أن يضيع». ولم يضِعْ أغسطينوس، بل عاد للرب قديساً مباركاً. وقال القديس أغسطينوس في اعترافاته: «يا إلهي، كنت تناديني فأقول لك: ليس الآن، فتعود تنادي، وأعود أقول: ليس الآن، فتنادي حتى قلتُ لك: هئنذا»!

محبة الله، ومحبة الأم، وكل محبة مصدرها المسيح ترجو كل شيء.

هل شريك حياتك بعيد عن الرب؟ المحبة ترجو كل شيء.

هل أخوك بعيد عن الرب؟ المحبة ترجو كل شيء.

لا يأس مع المسيح!

ب - والمحبة متفائلة ترجو كل شيء لأنها تعلم أن الذي جرى معها سيجري مع غيرها:

فليس عند الله تغييرٌ ولا ظل دوران (يعقوب 1: 17) والمسيح «هُوَ هُوَ أَمْساً وَٱلْيَوْمَ وَإِلَى ٱلأَبَدِ» (عبرانيين 13: 8). وعندما يدرك الرب نفساً بعيدة عنه ويردّها إلى حظيرة الإيمان تدرك هذه النفس أن الضال سيعود مهما طال زمن الضلال، لأن محبة الله لا تتغيّر، وحاجة النفس لا تتغيّر، وعمل الروح القدس لا يتغيّر. وفي أملٍ كامل تقول تلك النفس مع الرسول بولس: «أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُ ٱلَّذِي لأَجْلِهِ أَدْرَكَنِي أَيْضاً ٱلْمَسِيحُ يَسُوعُ» (فيلبي 3: 12). لقد أدرك المسيح شاول الطرسوسي الهارب منه وأمسك به وتوَّبه. فإن كان القاسي المقاوِم العنيد قد صار تابعاً للمسيح، فلا بد أن غيره من المقاوِمين القُساة العنيدين يمكن أن يصبحوا من أتباع المسيح، لأن المحبة ترجو كل شيء!

4 - المحبة تصبر على كل شيء

ماذا تفعل المحبة عندما تحتمل وتصدِّق وترجو وتنتظر، دون أن يتحقّق لها ما كانت تأمل فيه؟ الإجابة إنها تصبر، لا صبر اليائس العاجز، بل صبر الراجي الذي يقول مع المرنم: «عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ يَبِيتُ ٱلْبُكَاءُ، وَفِي ٱلصَّبَاحِ تَرَنُّمٌ» (مزمور 30: 5). فلا بد من نهاية الليل، ولا بد من شروق الشمس!

عندما كانت مدينة السامرة محاصرة والشعب جائعاً، كان الملك يلبس المسوح ويقول: «مِن أين أخلصكم؟ أَمِن البيدر أو من المعصرة؟» فلم تكن هناك حبوب ولا زيت ولا عنب. ولكن النبي أليشع الذي رأى محبة الله وقدرته قال بكل أمل: «فِي مِثْلِ هٰذَا ٱلْوَقْتِ غَداً تَكُونُ كَيْلَةُ ٱلدَّقِيقِ بِشَاقِلٍ وَكَيْلَتَا ٱلشَّعِيرِ بِشَاقِلٍ فِي بَابِ ٱلسَّامِرَةِ». وقد كان! (2 ملوك 7: 1).

المحبة تصبر لأنها تعلم أن تدخُّلات النعمة الإلهية دائماً تجيء في موعدها، وتدرك أن الله سيسرع بالخلاص.

صبرت علينا محبة الله حتى تُبْنا، واحتملت عصياننا حتى أطعنا. فهل نصبر محتملين المُسيء إلينا؟

صدَّقتنا محبة الله وأعطتنا فرصة جديدة. فهل يمكن أن نعطي شخصاً أساء إلينا فرصة جديدة ليتوب ويرجع إلى الله؟

وضعت فينا محبة الله أملاً كبيراً. فهل يمكن أن يكون لنا أمل في شخص آخر؟

«المحبة تحتمل وتصدّق وترجو وتصبر على كل شيء».

صلاة

أبانا السماوي، نشكرك لأنك احتملتنا وصدّقتنا عندما تُبنا إليك، وانتظَرْتَ أن نكون مؤمنين صالحين. وعندما أسأنا التصرُّف صبرت علينا. ساعدنا لنحتمل غيرنا، ولنصدّق المسيئين إلينا عندما يعتذرون لنا. أعطنا أن نرجو منهم خيراً، وأعطنا أن نصبر على ضعفاتهم كما صبرت أنت علينا، لنكون شفوقين متسامحين كما سامحنا الله أيضاً في المسيح.

عمِّق فينا هذا الدرس ونحن في محضرك كل لحظة. ساعدنا لنفعل حباً فيك وفي المحيطين بنا. في شفاعة المسيح. آمين.

الفصل الحادي عشر: دوام المحبة (1 كورنثوس 13: 8)

«8 اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَداً. وَأَمَّا ٱلنُّبُّوَاتُ فَسَتُبْطَلُ، وَٱلأَلْسِنَةُ فَسَتَنْتَهِي، وَٱلْعِلْمُ فَسَيُبْطَلُ. 9 لأَنَّنَا نَعْلَمُ بَعْضَ ٱلْعِلْمِ، وَنَتَنَبَّأُ بَعْضَ ٱلتَّنَبُّوءِ. 10 وَلَكِنْ مَتَى جَاءَ ٱلْكَامِلُ فَحِينَئِذٍ يُبْطَلُ مَا هُوَ بَعْضٌ. 11 لَمَّا كُنْتُ طِفْلاً كَطِفْلٍ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ، وَكَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْطَنُ، وَكَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْتَكِرُ. وَلَكِنْ لَمَّا صِرْتُ رَجُلاً أَبْطَلْتُ مَا لِلطِّفْلِ. 12 فَإِنَّنَا نَنْظُرُ ٱلآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ، لَكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهاً لِوَجْهٍ. ٱلآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ ٱلْمَعْرِفَةِ، لَكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ» (1كورنثوس 13: 8-12).

«المحبة لا تسقط أبداً». والتعبير «لا تسقط» في اللغة اليونانية يصوِّر مجموعة جنودٍ يسافرون في حرارة الصيف طريقاً طويلاً ليبلُغوا موقعاً بعيداً. وعندما يبدأ الجنود رحلتهم يأخذون في التساقط الواحد بعد الآخر، بسبب شدة الحرارة ووعورة الطريق. ولا يبقى منهم إلا واحد فقط يقاوم كل عوامل السقوط، حتى يبلغ الهدف، و «لا يسقط أبداً».

هذه صورة المحبة التي لا تسقط أبداً، فعندما تتوقّف كل الفضائل الأخرى تبقى فضيلة المحبة طويلة النَّفَس، تستمر بغير توقُّف. نراها في فادينا ومخلِّصنا وهو يكمّل المسيرة إلى الصليب، لا لأنه انبهر بإخلاص تلاميذه، فقد كانوا مجموعة ضعفاءٍ أنكروه في الوقت الصعب، مع أن الصَّدِيق يُحِب في كل وقت، خصوصاً عند الحاجة (أمثال 17: 17). وقد قال المسيح لهم في بستان جثسيماني: «أمَا قَدَرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟» (متى 26: 40). ولا لأنه أُعجب بالجماهير التي أطعمها ونالت الشفاء على يديه، فإنه كان يعلم أنهم سوف يصرخون: اصلبه! اصلبه! «دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا» (متى 27: 25). لم يكن هناك دافعٌ بشري يجعل محبة المسيح تستمر حتى الصليب. ولكن الذي دفعه لذلك هو أنه أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى (يوحنا 13: 1). فمحبته لا تفشل ولا تسقط أبداً. عندما تتوقف كل الفضائل عن عملها، تستمر المحبة. وعندما تفشل كل الفضائل في عملها تنجح المحبة.

وفي آيات 8-12 يقدم لنا الرسول بولس فكرتين رئيسيتين عن المحبة التي لا تسقط أبداً. فيقول: إن هناك أشياء عظيمة لا تدوم، ثم يوضح لنا كيف تدوم المحبة.

1 - ثلاثة أمور لا تدوم

أ - النبوَّات ستُبطَل:

تعني النبوّة الإنباء بالمستقبل، أو الوعظ وإعلان رسالة الله للناس، فالذي «يَتَنَبَّأُ فَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ بِبُنْيَانٍ وَوَعْظٍ وَتَسْلِيَةٍ» (1كورنثوس 14: 3).

* تُبطَل النبوّات عندما تتحقق. فالنبوَّة عن ولادة المسيح العذراوية كانت نبوَّة بالنسبة لإشعياء وأهل زمانه (إشعياء 7: 14). فلما تحققت لم تصبح نبوَّة، بل أصبحت بالنسبة لنا الآن تاريخاً.

ونبوَّة ميخا عن ميلاد المسيح في بيت لحم كانت نبوَّة مستقبلية بالنسبة للنبي ميخا وأهل زمانه (ميخا 5: 2). ولكن لما تحققت أصبحت بالنسبة لنا ماضياً مباركاً وتراثاً عظيماً.

وهناك نبوَّات عن مجيء المسيح ثانية لا زالت نبوَّة، ولكنها ستُبطل عندما تتحقق أيضاً.

* والنبوَّة بمعنى الوعظ ستنتهي، لأنه سيجيء وقت يتواجد المؤمن فيه في محضر الآب السماوي،كما قال المسيح: «حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يوحنا 14: 3) فلا يحتاج إلى وعظ. ففي السماء لا خطية ولا تجربة ولا جهاد ضد الشر. فلن يحتاج المؤمنون ليذكّروا بعضهم بعضاً بكلمة الله ليغلبوا التجارب، لأن التجارب غير موجودة في السماء «وَلاَ يُعَلِّمُونَ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ قَائِلاً: ٱعْرِفِ ٱلرَّبَّ، لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ» (عبرانيين 8: 11).

ب - الألسنة ستنتهي:

أعطى الروحُ القدسُ موهبةَ التكلم بألسنةٍ في يوم الخمسين للتلاميذ ليشرحوا إنجيل الملكوت للذين جاءوا ليحتفلوا بالعيد في أورشليم من بلاد أجنبية، وكانوا عاجزين عن فهم لغة الوعاظ الجليليين، فأعطى الله الأنبياء والرسل أن يتكلموا بلغات الموجودين ليفهموهم (أعمال 2: 1-8). ولكن عندما انتشر الإنجيل في العالم كله، وتُرجم الكتاب المقدس إلى أكثر من ألف لغة، لم نعُد نحتاج إلى الألسنة كما احتاجوا إليها في يوم الخمسين. وعندما نمثُل في المحضر الإلهي ستكون هناك لغة واحدة هي لغة المحبة. ولا يجب أن ننسى أن الألسنة بدأت عندما بلبل الله ألسنة الذين كانوا يبنون برج بابل (تكوين 11). فالألسنة تعني تعدُّد وتفرُّق الناس. ولكن في السماء ستكون هناك وحدة الفكر والقلب - لغة السماء عينها.

ج - العلم سيُبطل:

* لا يُقصد هنا العلم الطبيعي والرياضي، لكن علم المعرفة الإلهية، والإعلان السماوي للبشر. سيُبطل العلم في السماء لأن المؤمنين لا يعودون في احتياجٍ إليه، لأنهم يَمْثُلون في حضرة «الكلمة» نفسه، المسيح الكلمة الحي، فلا يحتاجون بعد للكلمة المكتوبة في الكتاب المقدس، ولا للكلمة الموعوظة من المنابر! ففي محضره لا نحتاج إلى معرفة، لأنه هو المعرفة كلها «وَهُمْ سَيَنْظُرُونَ وَجْهَهُ، وَٱسْمُهُ عَلَى جِبَاهِهِمْ. وَلاَ يَكُونُ لَيْلٌ هُنَاكَ، وَلاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى سِرَاجٍ أَوْ نُورِ شَمْسٍ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ ٱلإِلٰهَ يُنِيرُ عَلَيْهِمْ» (رؤيا 22: 4 و5).

* وحتى العلم الطبيعي يُبطل، لأن ما نحسبه ثوابت اليوم لا يكون كذلك غداً، لأن معرفة الإنسان تتطوَّر. كانوا يقولون إن الذرَّة لا تنقسم ، ثم انقسمت الذرة. وتبطل معرفتنا الشخصية التي كنَّا في صِغرنا نظنّها صحيحةً، لأن معرفتنا تنمو وتزيد. «لأَنَّنَا نَعْلَمُ بَعْضَ ٱلْعِلْمِ وَنَتَنَبَّأُ بَعْضَ ٱلتَّنَبُّؤِ. وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ ٱلْكَامِلُ فَحِينَئِذٍ يُبْطَلُ مَا هُوَ بَعْضٌ» (آيتا 9 و10). فطفل اليوم يكبر، ويترك ما مضى، كما يقول الرسول بولس: «لَمَّا كُنْتُ طِفْلاً كَطِفْلٍ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ، وَكَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْطَنُ، وَكَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْتَكِرُ. وَلٰكِنْ لَمَّا صِرْتُ رَجُلاً أَبْطَلْتُ مَا لِلطِّفْلِ» (آية 11).

* يقول الرسول بولس: «فَإِنَّنَا نَنْظُرُ ٱلآنَ فِي مِرْآةٍ فِي لُغْزٍ، لٰكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهاً لِوَجْهٍ. ٱلآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ ٱلْمَعْرِفَةِ، لٰكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ» (آية 12). وقد كانت المرايا في زمن الرسول بولس من المعدن المصقول الذي لا يستطيع الإنسان أن يرى فيه وجهه بوضوح - وهذا طبعاً قبل صناعة المرايا الزجاجية الواضحة. لذلك يقول الرسول إننا الآن ننظر في مرآة معدنية، في معالم غير واضحة، كأننا ننظر في لغزٍ. لكن في المستقبل، عندما نمثُل في محضر الرب وجهاً لوجه «أعرف كما عُرفت».

ولغز اليوم سيتضح غداً، لأن هناك أموراً لا يستطيع العقل إدراكها اليوم. ولكن في وقت آتٍ نعرف أكثر.

* وهناك أمور يدركها واحدٌ، لا يدركها غيره، فقد أدرك المسيحيون ما لم يدركه اليهود من شريعة موسى. قال الرسول بولس: «كَانَ مُوسَى يَضَعُ بُرْقُعاً عَلَى وَجْهِهِ لِكَيْ لاَ يَنْظُرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى نِهَايَةِ ٱلزَّائِلِ. بَلْ أُغْلِظَتْ أَذْهَانُهُمْ، لأَنَّهُ حَتَّى ٱلْيَوْمِ ذٰلِكَ ٱلْبُرْقُعُ نَفْسُهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ ٱلْعَهْدِ ٱلْعَتِيقِ بَاقٍ غَيْرُ مُنْكَشِفٍ، ٱلَّذِي يُبْطَلُ فِي ٱلْمَسِيحِ. لٰكِنْ حَتَّى ٱلْيَوْمِ، حِينَ يُقْرَأُ مُوسَى، ٱلْبُرْقُعُ مَوْضُوعٌ عَلَى قَلْبِهِمْ. وَلٰكِنْ عِنْدَمَا يَرْجِعُ إِلَى ٱلرَّبِّ يُرْفَعُ ٱلْبُرْقُعُ. وَأَمَّا ٱلرَّبُّ فَهُوَ ٱلرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ ٱلرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ. وَنَحْنُ جَمِيعاً نَاظِرِينَ مَجْدَ ٱلرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ ٱلصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ ٱلرَّبِّ ٱلرُّوحِ» (2 كورنثوس 3: 13-18).

* ويدرك المؤمن المسيحي اليوم في المسيح أقل مما سيدركه غداً، لأنه ينمو في النعمة وفي معرفة المسيح (2 بطرس 3: 18). ويقول الرسول يوحنا: «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (1 يوحنا 3: 2). إذاً نحن محدودون. لكن هناك حقيقة غير محدودة دائماً مستمرة هي «المحبة التي لا تسقط أبداً».

2 - كيف تدوم المحبة؟

أ - المحبة لا تسقط أبداً كمبدإٍ حي:

(1) الله محبة:

«أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً، لأَنَّ ٱلْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ ٱللّٰهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ وَيَعْرِفُ ٱللّٰهَ. وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ ٱللّٰهَ، لأَنَّ ٱللّٰهَ مَحَبَّةٌ. بِهٰذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ فِينَا: أَنَّ ٱللّٰهَ قَدْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ. فِي هٰذَا هِيَ ٱلْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا ٱللّٰهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ٱبْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا. أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ قَدْ أَحَبَّنَا هٰكَذَا، يَنْبَغِي لَنَا أَيْضاً أَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً» (1يوحنا 4: 7-11).

المحبة ثابتة لا تسقط أبداً لأنها حقيقة الله الدائم الوجود والعطاء والمحب، وهي التي جعلت الله يقول: «هَلْ مَسَرَّةً أُسَرُّ بِمَوْتِ ٱلشِّرِّيرِ يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ؟ أَلاَ بِرُجُوعِهِ عَنْ طُرُقِهِ فَيَحْيَا؟» (حزقيال 18: 23). إنه «ٱلَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1 تيموثاوس 2: 4). وكل من يتوب ويثبت في محبة الله لا تسقط محبته لله، لأن زرعه يثبت فيه، ويقول مع الرسول بولس: «مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱلْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضَِيْقٌ أَمِ ٱضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟... فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ... تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية 8: 35-39).

(2) وتتلخَّص كل الوصايا في المحبة:

كان رجال الدين اليهود كلما تقدموا في الفقه الديني يختصرون الشرائع في صيغةٍ قليلة الكلمات. فجاء واحد منهم يسأل المسيح عن صيغته للوصايا، فأجابه: «تُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هٰذِهِ هِيَ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلأُولَى وَٱلْعُظْمَى. وَٱلثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ ٱلْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ ٱلنَّامُوسُ كُلُّهُ وَٱلأَنْبِيَاءُ» (متى 22: 34-40).

وقال الرسول بولس: «إِنْ كَانَتْ وَصِيَّةً أُخْرَى، هِيَ مَجْمُوعَةٌ فِي هٰذِهِ ٱلْكَلِمَةِ: «أَنْ تُحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَصْنَعُ شَرّاً لِلْقَرِيبِ، فَٱلْمَحَبَّةُ هِيَ تَكْمِيلُ ٱلنَّامُوسِ» (رومية 13: 9 و10).

(3) وعلامة المسيحي هي المحبة:

قال المسيح لتلاميذه: «وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً. بِهٰذَا يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ» (يوحنا 13: 34 و35). وقال الرسول يوحنا: «إِنْ قَالَ أَحَدٌ: «إِنِّي أُحِبُّ ٱللّٰهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ ٱلَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟ وَلَنَا هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ مِنْهُ: أَنَّ مَنْ يُحِبُّ ٱللّٰهَ يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضاً» (1 يوحنا 4: 20 و21).

ب - المحبة لا تسقط أبداً كدافع للخدمة:

ما الذي يدفع الأم لتخدم ليلاً ونهاراً، سنة بعد سنة؟ وحتى عندما يكبر أولادها ويهجرون عش البيت، تظل تخدمهم وتخدم أحفادها بكل الحب والعطاء. الأم لا تأخذ إجازة، ولا تُحال إلى التقاعد، ولا تفكر أبداً في «نهاية خدمة». والسبب وراء هذا العطاء المتجدد المتدفق دائماً هو محبة الأم التي لا تسقط أبداً!

الذي يخدم ليحصل على المال تنتهي خدمته بنهاية حصوله على الأجر. والذي يخدم لمصلحة شخصية يتوقف عن القيام بها متى حقَّق مصلحته. أما الذي يخدم بدافع المحبة فإنه لا يتوقف أبداً عن الخدمة، لأنه يخدم لا بخدمة العين كمن يُرضي الناس، بل ببساطة القلب خائفاً الرب. وكل ما يفعل يفعله من القلب كما للرب، ليس للناس، عالماً أنه من الرب سيأخذ الجزاء، لأنه يخدم الرب المسيح (كولوسي 3: 22-24). وما أعظم ما علَّمنا المسيح في قوله: «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا ٱلشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ ٱلأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ ٱلآخَرَ أَيْضاً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَٱتْرُكْ لَهُ ٱلرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَٱذْهَبْ مَعَهُ ٱثْنَيْنِ» (متى 5: 38-41).

كان القانون يعطي الجندي الروماني حق تكليف أي مواطن في الدول المستعمَرَة أن يحمل له سلاحه ومتاعه مسافة ميلٍ واحد. وذات يوم كان يهوديٌّ يسير في الطريق عندما استوقفه جنديٌّ روماني كلّفه أن يحمل متاعه مسافة ميل، ففعل. وفي نهاية الميل قال الجندي الروماني: «يكفي». فقال اليهودي: «سأحمل لك متاعك ميلاً ثانياً». فقال الجندي: «ولكن القانون لا يكلفك بهذا» فقال له اليهودي: «نعم، ولكني لست مشغولاً اليوم، وليست عندي مسئوليات كثيرة!» واندهش الجندي وسمح له بذلك.. لكن نظرة الجندي لليهودي تغيَّرت، فبعد أن كان اليهودي يسير وراء الجندي، أخذا يسيران متجاورَيْن. وسأل الجنديُّ اليهوديَّ عن سبب الخدمة المضاعفة التي تطوَّع بها، فأجابه اليهودي: «هناك معلِّم ناصري علَّمنا أن نسير ميلين مع مَن يسخرنا أن نمشي معه ميلاً واحداً». فسأل الجندي ليعرف المزيد عن ذلك المعلم. وعندما انتهى الميل الثاني قرر الجندي أن يكون واحداً من أتباع هذا المعلم الناصري!! تتميَّز المحبة بطول النَّفَس، وهي تواصل السير بدون توقُّف، وتكسب المعركة أخيراً، حتى لو فسَّرها الناس بأنها ضعف أو خِداع. وسيكتشف المعترض في يومٍ ما أن المحبة قوية ومنتصرة.

ج - المحبة لا تسقط أبداً كمصدر للسعادة:

فتح أحد المحلّلين النفسيين قلبه للمسيح، وأخذ يدرس الكتاب المقدس ويتعمق في دراسته، فقرر أن يمارس المحبة مع الجميع بمن فيهم الأعداء. وسرعان ما اكتشف أن المحبة أكبر مصدرٍ لسعادة المسيء والمُسَاء إليه. وذلك من خلال الاختبار التالي، الذي تكرر معه في حياته عدة مرات.

كان لذلك المحلل النفسي رئيسٌ في العمل يضايقه، لا لخطإٍ في المحلل النفسي، فقرر أن يفعل معه ثلاثة أمور:

  1. أن يصلي من أجل هذا الشخص ثلاث مرات يومياً، صلاةً لو سمعها رئيسه في العمل لملأت قلبه السعادة.

  2. أن يفكر في رئيسه بشكلٍ إيجابي، فكلما خطر بباله خاطرٌ سيء عن رئيسه، يستبدله بخاطرٍ صالح. وقد تطلَّب هذا منه تفكيراً طويلاً ليكتشف نقاط الصلاح في رئيسه، الأمر الذي ساعده ليغيّر موقفه الفكري من رئيسه.

  3. كلما خطر رئيسه على باله، يصلي لأجله صلاة قصيرة سريعة: يا رب باركه. أو يا رب أحسِن إليه.

    وقرر المحلل النفسي أن يمارس هذا التمرين الروحي مدة شهر كامل. وخلال الشهر لاحظ كيف بدأ رئيسه يتغير، ليس فقط في معاملته معه، لكن في معاملته مع الجميع. وهكذا صار الرئيس سعيداً، وصار المحلل النفسي أكثر سعادة. وكان ذلك المحلل النفسي يقول: إن صلاة المحبة تغيّر المصلي بالتأكيد، فيحبّ كما يحبّه المسيح. وقد تُغيّر هذه الصلاة الشخص الذي نصلي لأجله، كما قد تغيّر الظروف المحيطة بالموقف الذي فيه تحدث المضايقات.

    «المحبة لا تسقط أبداً»

صلاة

هبنا يا أبانا السماوي الحكمة لنرى محبتك لنا وهي لم تسقط أبداً - لقد أحببتنا ونحن في خطايانا حتى توَّبتنا عنها، ولا تزالُ في صبرٍ تتوِّبنا وتنقّينا. أعطنا أن نحب الجميع، بمن فيهم المسيئين إلينا حبّاً لا يسقط أبداً، بل يتابع المسيرة، واثقاً في النصر. باسم المسيح. آمين.

الفصل الثاني عشر: «وَلَكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ ٱلْمَحَبَّةُ» (1كورنثوس 13: 13)

«أَمَّا ٱلآنَ فَيَثْبُتُ ٱلِْإيمَانُ وَٱلرَّجَاءُ وَٱلْمَحَبَّةُ. هَذِهِ ٱلثَّلاَثَةُ، وَلَكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ ٱلْمَحَبَّةُ» (اكورنثوس 13: 13).

جئنا إلى الفصل الأخير من هذ الكتاب، الذي هو ذروته، حيث نرى الثوابت الثلاثة في حياة المؤمن، وهي الإيمان والرجاء والمحبة، ولكن المحبة هي أعظم هذه الثوابت!

لقد تأملنا أهمية المحبة (آيات 1-3). وصفات المحبة (آيات 4-7). ثم رأينا دوام المحبة التي «لا تسقط أبداً» آيات 8-12). وها نحن نتأمل المحبة في عظمتها.

ستتوقف النبوات والعلم والألسنة، ويثبت الإيمان والرجاء والمحبة، ثم يتوقف الإيمان والرجاء، وتستمر المحبة إلى الدهر والأبد، لأن «الله محبة».

1 - الثوابت الثلاثة: الإيمان والرجاء والمحبة

أ - الإيمان الذي يثبت طول حياة المؤمن يعني:

* التصديق وهو الثقة فيما يقوله الله. ويقنعنا الروح القدس لنؤمن بصدق الإنجيل، فعندما نسمع كلمة الإنجيل يعلن لنا الروح القدس أن هذا هو الخبر المفرح الذي جاءنا من الله، كما حدث مع الرعاة الذين سمعوا بشارة الملاك بميلاد المسيح، فصدقوا وآمنوا وذهبوا ليروا «هذا الأمر الواقع» (لوقا 2: 15). لأن الروح القدس أعطاهم نعمة الإيمان.

* والإيمان (بمعنى التصديق) يعطينا الاتكال، فنتيجةً لتصديقنا وثقتنا نتّكل على الله. قال بطرس للمسيح: «فَأَجَابَ سِمْعَانُ: «يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا ٱللَّيْلَ كُلَّهُ (في الصيد) وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئاً. وَلٰكِنْ(بالرغم من هذا الفشل، وقد طلعت الشمس ولا صيد في الصباح، اتكالاً) عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي ٱلشَّبَكَةَ» (لوقا 5: 5). وقد ترجم نبيُّ الله داود هذه الثقة في كلمة الله إلى اتكالٍ، فقال: «اِحْفَظْنِي يَا اَللّٰهُ لأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. قُلْتُ لِلرَّبِّ: أَنْتَ سَيِّدِي. خَيْرِي لاَ شَيْءَ غَيْرُكَ» (مزمور 16: 1 و2).

* ويعني الإيمان الأَمْن، فالكلمتان في اللغة العِبرية من مصدرٍ واحد. والمؤمن إنسان آمِنٌ مطمئن في غير خوف. «هُوَذَا ٱللّٰهُ خَلاَصِي فَأَطْمَئِنُّ وَلاَ أَرْتَعِبُ، لأَنَّ يَاهَ يَهْوَهَ قُوَّتِي وَتَرْنِيمَتِي وَقَدْ صَارَ لِي خَلاَصاً» (إشعياء 12: 2). الرب هو الأمن الحقيقي «بِسَلاَمَةٍ أَضْطَجِعُ بَلْ أَيْضاً أَنَامُ، لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ مُنْفَرِداً فِي طُمَأْنِينَةٍ تُسَكِّنُنِي» (مزمور 4: 8). هو الذي يجعلنا ننام بغير خوف لأنه الحافظ الذي لا ينعس ولا ينام (مزمور 121: 4). «إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا فَلاَ تَأْمَنُوا» (إشعياء 7: 9).

* ثم إن الإيمان يعني الأمانة، فالمؤمن هو الأمين للرب الذي يشجعه بقوله: «كُنْ أَمِيناً إِلَى ٱلْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ ٱلْحَيَاةِ» (رؤيا 2: 10). وعندما يطيع يُسمِعه الله كلمات التشجيع الأكبر: «نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ ٱلأَمِينُ... اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (متى 25: 23). فالرب الأمين يستحق أن نضع الثقة فيه. والإيمان يَثْبُت لأنه يجعل عطايا الله الخلاصية من نصيبنا. فإن «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱلٱبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِٱلٱبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ ٱللّٰهِ» (يوحنا 3: 36). فلنحترس أن لا يكون في أحدنا قلبٌ شرير بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي (عبرانيين 3: 11). لأنه بدون إيمان لا يمكن أن نرضي الله (عبرانيين 11: 6).

ب - الرجاء هو الانتظار والأمل اعتماداً على كلمة الرب:

لا تسقط كلمة من كلامه الصالح (1ملوك 8: 56). فالرجاء يجعلنا نطمئن لتحقيق المواعيد، ونغنّي أغنية الثقة والنصر: «فَفِي طَرِيقِ أَحْكَامِكَ يَا رَبُّ ٱنْتَظَرْنَاكَ. إِلَى ٱسْمِكَ وَإِلَى ذِكْرِكَ شَهْوَةُ ٱلنَّفْسِ. بِنَفْسِي ٱشْتَهَيْتُكَ فِي ٱللَّيْلِ. أَيْضاً بِرُوحِي فِي دَاخِلِي إِلَيْكَ أَبْتَكِرُ. لأَنَّهُ حِينَمَا تَكُونُ أَحْكَامُكَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَعَلَّمُ سُكَّانُ ٱلْمَسْكُونَةِ ٱلْعَدْلَ» (إشعياء 26: 8 و9).

والرجاء يجعلنا ننتظر المجد الآتي، كما قال الرسول بطرس: «مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ بِقُوَّةِ ٱللّٰهِ مَحْرُوسُونَ، بِإِيمَانٍ، لِخَلاَصٍ مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي ٱلّزَمَانِ ٱلأَخِيرِ» (1بطرس 1: 3-5). «وَكُلُّ مَنْ عِنْدَهُ هٰذَا ٱلرَّجَاءُ بِهِ (بالمسيح الذي سيأتي ثانيةً) يُطَهِّرُ نَفْسَهُ كَمَا هُوَ طَاهِرٌ» (1 يوحنا 3: 3). فالرجاء في مجيء المسيح ثانية يحفظنا في قداسة الحياة انتظاراً لهذا المجيء.

ج - المحبة هي إرادة عمل الخير للأقرباء والأعداء:

المحبة الصادقة هي التي تريد أن تعطي ليس فقط للأحباء ولكن أيضاً للأعداء. علَّمنا المسيح في موعظته على الجبل: «لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلأَشْرَارِ وَٱلصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى ٱلأَبْرَارِ وَٱلظَّالِمِينَ» (متى 5: 45). فالمحبة المسيحية (على مثال محبة المسيح) هي محبة الإرادة التي تعمل وتعطي، لا باللسان والكلام بل بالعمل والحق طاعةً للوصية الرسولية: «فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَٱسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هٰذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ. لاَ يَغْلِبَنَّكَ ٱلشَّرُّ بَلِ ٱغْلِبِ ٱلشَّرَّ بِٱلْخَيْر» (رومية 12: 20 و21).

أرادت مدرِّسة من أصلٍ وثني أن تعرف مَن من تلاميذها مسيحي، فسألت كل واحد من تلاميذها: هل تحب عدوَّك؟ وقد ميَّزت إجابة التلاميذ الخراف من الجداء.

2 - علاقة هذه الثوابت الثلاثة

يمكن تصوير هذه الثوابت الثلاثة بشجرة، جذورها وجذعها الإيمان، الذي هو العلاقة السليمة بالله.

وفروعها هي الرجاء الذي هو الترحيب بأهداف الله للنفس.

وثمرها هو المحبة الذي هو الخدمة وعمل الخير(مع سبق الإصرار) لله والناس.

يجيء الإيمان من كلمة الله التي تعلن لنا الخبر المفرِّح. «إِذاً ٱلإِيمَانُ بِٱلْخَبَرِ، وَٱلْخَبَرُ بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ» (رومية 10: 17). ويجيء الرجاء أيضاً من اعتمادنا على كلمة الله، كما قال الرسول بولس أثناء محاكمته: «وَٱلآنَ أَنَا وَاقِفٌ أُحَاكَمُ عَلَى رَجَاءِ ٱلْوَعْدِ ٱلَّذِي صَارَ مِنَ ٱللّٰهِ لِآبَائِنَا» (أعمال 26: 6) لأننا نبني رجاءنا على الإيمان. وتجيء المحبة من الإيمان والرجاء، فالمحبة تعمل لأنها واثقة من قوتها كما تصفها كلمة الله، على رجاء أنها لا تسقط أبداً.

يثق الإيمان في الكلمة، ويثق الرجاء في مواعيد الكلمة، وتمارس المحبة الكلمة.

ينتظر الإيمان الرب، وينتظر الرجاء مجازاة الرب، وتنتظر المحبة أن تخدم الرب وهي تخدم الناس.

الإيمان بدون محبة هو إيمان بدون أعمال، ميِّت، لأنه عقلي فقط كإيمان الشياطين الذين يؤمنون ويقشعرون ولكنهم لا يتغيّرون. والإيمان بدون رجاء ضائعُ الرؤيا المستقبلية، لأنه لا يرى إلا الماضي. لكن الحياة السعيدة ذات الهدف هي الحياة التي يسير فيها الإيمان والرجاء رحلة الحياة معاً، كما يظهر ذلك في قول يعقوب أبي الأسباط: «هَا أَنَا أَمُوتُ، وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ سَيَكُونُ مَعَكُمْ وَيَرُدُّكُمْ إِلَى أَرْضِ آبَائِكُمْ» (تكوين 48: 21).

الرجاء بدون الإيمان وهْمٌ مبنيٌّ على التفكير بالتمني، والمؤمن لا يفكر بالتمني، لأنه يبني رجاءه على إيمانه بكلمة الله المدوَّنة في الكتاب المقدس. والرجاء بدون محبة هو أنانية، لأن الإنسان لا يفكّر إلا في نفسه، ولا يتمنى ويرجو إلا لنفسه!

بدون إيمان لا يمكن إرضاء الله، وبدون رجاء تصبح الحياة يأساً وبؤساً، ونصبح أشقى جميع الناس، وبدون المحبة تصبح الحياة أنانية، تفقد صورة الله. أما إن اجتمعت هذه الفضائل الثلاث معاً، فإن إيماننا يكون لخدمة الآخرين، ويكون رجاؤنا لخيرنا ولخير الآخرين.

3 - أعظمهنَّ المحبة

ولكن إن كانت فضيلتا الإيمان والرجاء ثابتتين، ومرتبطتين بالمحبة، فلماذا يقول الرسول إن المحبة هي الأعظم؟

يقول ذلك:

أ - لأنها صفة الله، مارسها منذ الأزل:

يقول الإنجيل إن الله محبة (1يوحنا 4: 8 و16) لكنه لا يقول إن الله إيمان أو إنه رجاء. نعم إنه يعطي المحبة والإيمان والرجاء، ويضع ثقته في المؤمنين لتحقيق أهدافه للعالم، ويرجو أن يخدموا غيرهم، لكنه يقول إن «مَنْ يَثْبُتْ فِي ٱلْمَحَبَّةِ يَثْبُتْ فِي ٱللّٰهِ وَٱللّٰهُ فِيهِ» (1يوحنا 4: 16).

ب - والمحبة أعظم من الإيمان والرجاء، لأنها تنتج نتائج أعظم:

إنها تجعلنا «أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 5: 45). ويقول الرسول: «فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِٱللّٰهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ، وَٱسْلُكُوا فِي ٱلْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلّٰهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً» (أفسس 5: 1 و2).

ج - لأنها تبارك الآخرين:

الإيمان والرجاء بركتان للمؤمن نفسه، فالإيمان ينفع صاحبه لأنه يخلِّصه من خطاياه «آمِنْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ» (أعمال 16: 31). والرجاء يعطي صاحبه أملاً. لكن المحبة تنفع صاحبها وعائلته وملكوت الله كله. فالإنسان الذي يحب الله من كل القلب ينال البركة، ويحب أهل بيته وأسرته وكنيسته والذين يختلفون معه.

د - والمحبة هي الصفة الباقية:

يشبه الإيمان موسى وقد وقف يرى أرض كنعان من على قمة جبل الفسجة أمامه، ولكنه لم يدخلها (تثنية 34: 1) بالرغم أنه كان مؤمناً أن الشعب سيأخذ الأرض. ويشبه الرجاء كوكب الصبح المنير اللامع الزاهي المتألق في الأفق، يعلن طلوع النهار. ولكن عندما تشرق الشمس يختفي في بريقها.

أما المحبة، فهي مثل إيليا الذي صعد إلى السماء في مركبة نارية (2 ملوك 2: 11) فلا ترى الموت. فالمحبة تصعد معنا للسماء، وتبقى معنا لأن الله محبة!

يثبت الإيمان، ويثبت الرجاء، وتثبت المحبة. ولكن أعظمهنَّ المحبة.

ليملأ الرب قلوبنا بالمحبة العظيمة التي لا تسقط أبداً.

صلاة

أبانا السماوي، هبنا الإيمان الذي يضع كل ثقته فيك، فينال المواعيد. وعمِّق الرجاء فينا، فنحيا حياة الأمل الذي لا يخيب. وأعطنا محبةً على مثال محبتك، فنعطي دون أن ننتظر أخذاً، لنسمو ونرتفع في مركبة الحب النارية التي تحصرنا. باسم المسيح. آمين.

مسابقة الكتاب

عزيزي القارئ،

إن درست هذا الكتاب بعمق وفهم، ستدرك الكثير عن «المحبة» التي هي أعظم الفضائل، وسيسهل عليك أن تجاوب على الأسئلة التالية. أرسل إجابتك الصحيحة لنا، فنرسل إليك أحد كتبنا جائزة، تقديراً لاجتهادك. لا تنسَ أن تكتب اسمك وعنوانك كاملين وبوضوح، داخل الخطاب، وليس فقط على المظروف الخارجي. وفي انتظار إجابتك.

  1. في جملة واحدة اذكر لماذا:

    أ - المحبة أهم من الفصاحة؟

    ب - المحبة أهم من المعجزات؟

  2. ما معنى «المحبة تتأنّى» و «المحبة ترفُق»؟

  3. اذكر عَمَليْن من أعمال المحبة التي تتأنى.

  4. كيف تجاوب شخصاً يقول: «إِنْ تأنّيتُ على مَن يسيء إليَّ فإنه يزيد مضايقته لي»؟

  5. كيف يؤذي الحسد الحاسد دائماً؟ ومتى يؤذي الحسد المحسود؟

  6. اذكر أمرين ينصراننا على الحسد.

  7. اذكر سببين لعدم التفاخُر.

  8. لماذا يتعرّض صاحب المواهب أكثر من غيره للتفاخُر؟

  9. اذكر مَثَلين يوضّحان قُبح الخطية.

  10. اشرح معنى قول مارتن لوثر: «لقد صرتَ يا سيدي المسيح ما لم تكُنْهُ، لتجعلني أنا ما لم أَكُنْهُ».

  11. كيف نحفظ ألسنتنا من التلفُّظ بالكلام القبيح؟

  12. كيف شجَّعت أمُّ شمشون زوجَها منوح؟

  13. اذكر قصةً جميلة حدثت في مكان بناء هيكل سليمان قبل بنائه.

  14. لماذا تطلب المحبة ما لغَيْرها؟ قدِّم مثلاً من الإنجيل على ذلك.

  15. متى يكون الاحتداد واجباً مقدساً؟

  16. متى يكون الاحتداد خاطئاً؟

  17. كيف ننتصر على الاحتداد الخاطئ؟

  18. ما هو ظنُّ السوء؟

  19. لماذا نظنّ السوء؟

  20. ما هو الحق الذي تفرح به المحبة؟

  21. ما هي الصلة بين الحق والعدالة الاجتماعية؟ وكيف أظهر صموئيل النبي فرحه بالحق؟

  22. نجد المحبة المتفائلة، في السماء، وفي مكانين في الأرض. اذكرهما.

  23. أعطِ مثلاً من شخصٍ تعرفه طبَّق مبدأ «المحبة تستر كل الذنوب» (أمثال 10: 12).

  24. أعط مثلاً من حياتك حقَّق القول: «عند المساء يبيت البكاء، وفي الصباح ترنُّم» (مزمور 30: 5).

  25. ما معنى «المحبة لا تسقط أبداً»؟

  26. متى تبطل النبوّات؟

  27. اعطِ مثلاً من الحياة اليوم يبرهن أن المحبة دافعٌ على الخدمة لا يسقط أبداً.

  28. سار تلميذ المسيح مع الجندي الروماني ميلاً ثانياً. ماذا كانت نتيجة ذلك؟

  29. محلّلٌ نفسيّ فعل ثلاثة أمورٍ مع الشخص الذي ضايقه. اذكرها.

  30. يشبه الإيمان والرجاء والمحبة شجرة - كيف؟


Call of Hope
 P.O. Box 100827
D-70007
Stuttgart
Germany