العودة الى الصفحة السابقة
امتلئوا بالروح

امتلئوا بالروح

رِسَالَةُ بُولُسَ ٱلرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ أَفَسُسَ

إسكندر جديد


List of Tables

1.

Bibliography

امتلئوا بالروح (رِسَالَةُ بُولُسَ ٱلرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ أَفَسُسَ). اسكندر جديد. Copyright © 2007 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . 1974. SPB 3790 ARA. English title: Be Filled with the Spirit! (Ephesians) . German title: Werdet voll Heiligen Geistes! Ephesherbrief). Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 70007 Stuttgart Germany http://www.call-of-hope.com .

التمهيد لرسالة أفسس

تتبوأ هذه الرسالة مكاناً رفيعاً في كتابات بولس. وهي إحدى الرسائل التي أُطلق عليها اسم «رسائل الأسر»، لأن بولس كتبها حين كان أسير المسيح في سجن رومية. وهي كقارورة طيب، تضوعت منها رائحة زكية خاصة فيما هي تكتب بيد مقيدة بالسلاسل. وقد أجاد لوردلدج وصفها حين قال: انها أسمى كتاب في سجل الوحي، لأنها تتضمن بين دفتيها خلاصة العقائد المسيحية. ومن ميزاتها أنها ملتقى مطاليب الدين المسيحي بمطالب الناموس الطبيعي.

وقال مونتانوس: ان نفس كاتب الرسالة، تشبه قيثارة ذات أوتار حساسة. فلما هبت عليها نسمات نعمة الله المتنوعة، انطلقت منها نغمات متعددة. فتارة نسمع منها دوي رعد قاصف، كما في الرسالة إلى غلاطية. وطوراً نصغي إلى ترجيع أناشيد عذبة رخيمة، كما في الرسالة إلى فيلبي. وحيناً نستمع إلى تسبيح ملائكي يرتفع إلى السماوات، كما في الرسالة إلى أفسس.

كان الرسول يتألم في قيوده، ولكنه كان يعلم بأنه قُيّد لكي تصبح كلمة الله طليقة. هكذا قال في رسالته إلى الفيلبيين: ثم أريد أن تعلموا أيها الإخوة أن أموري قد آلت أكثر إلى تقدم الإنجيل. حتى أن وثقي صارت ظاهرة في المسيح، في كل دار الولاية، وفي باقي الأماكن أجمع. وأكثر الإخوة وهم واثقون في الرب بوثقي، يجترئون أكثر على التكلم بالكلمة بلا خوف (فيلبي 1: 12-14).

لقد نادى بولس في أفسس نحواً من ثلاث سنين وأسس فيها كنيسة مجيدة. وفي البداية ربح بعض النفوس للمسيح. منهم أبلوس الذي اعتمد بمعمودية يوحنا للتوبة (أعمال 19: 1-17). وبعدئذ لاقى بولس معارضة شديدة من مجمع اليهود. ولكن هذا كان للخير. لأن الرسول الكريم اعتزل اليهود وتحول إلى الأمم واتخذ من مدرسة تيرانس مكاناً لنشاطاته خلال سنتين، حتى سمع كلمة الرب جميع الساكنين في آسيا من يهود ويونانيين (أعمال 19: 8-12). وكانت النتائج لكرازته:

  1. انضمام عدد عديد من اليهود والأمم إلى الكنيسة.

  2. انتشار معرفة الإنجيل في كل آسيا.

  3. تأثر عام في القلوب حتى أن بعض السحرة، اقتنعوا بوعظ بولس بأنهم خطاة وجهلة، وأحرقوا كتب السحر التي كانت في حوزتهم.

  4. قلة اعتبار الوثنيين للآلهة أرطاميس التي شيدوا لها في أفسس هيكلاً كان يُعد من عجائب الدنيا.

  5. تأسست كنيسة هناك.

موضوع الرسالة ومضمونها

إن المتأمل في هذه الرسالة، يرى أن موضوعها هو الكنيسة جسد المسيح، التي جعلها الله واسطة لإظهار أمجاد عمل الفداء لكل الخليقة. وقد أعلن الرسول أن الكنيسة مختارة في المسيح، ومفدية بدمه متحدة به مقدسين متحدين بعضهم ببعض، وسالكين كما يليق بأعضاء كنيسة المسيح التي هي جسده الروحي. أما مضمون الرسالة فهو:

  1. تقديم الشكر لله، لأنه اختار الكنيسة بمقتضى القصد الأزلي، لكي تكون مقدسة ومحبوبة ومفدية بابنه يسوع المسيح، ومتحدة به باعتبار كونه رأسها الحي. وهذا الاتحاد كان سراً مجيداً، أُخفي عن الأجيال الغابرة وأُعلن الآن. وان كل هذه الامتيازات، صدرت عن النعمة (1: 3-14).

  2. صلاة من أجل زيادة معرفة احباء الرب في أفسس، باتحادهم بالمسيح والبركات المتوقفة على موته وقيامته وصعوده في المجد (1: 15-23).

  3. دعوة الأمم لكي يشتركوا بواسطة الإيمان بالمسيح في فوائد الفداء، الذي اشتراه الرب بدمه. ووصف ذلك الفداء بأنه نجاة من موت الخطية وسلطة الشيطان. وانه منح لهم حياة جديدة في المسيح ومعها القوة لممارسة أعمال صالحة. وانه بواسطة فداء المسيح، اتحد الأمم بأتقياء العهد القديم، لأن المسيح بفدائه نقض حائط السياج المتوسط (2: 1-3: 13).

  4. الصلاة من أجل أعضاء الكنيسة، لكي يحل المسيح بالإيمان في قلوبهم، لكي يؤسسهم ويؤصلهم في المحبة، ويعطيهم أن يمتلئوا إلى كل ملء الله (3: 14-21).

  5. حث المؤمنين على السلوك كما يليق بأعضاء كنيسة المسيح، متذكرين أن الكنيسة جسد واحد، مملوءة بروح واحد، وخاضعة لرب واحد، لها إيمان واحد، ومعمودية واحدة، و إله وآب واحد على الكل وبالكل وفي الكل (4: 1-16).

  6. حض أعضاء الكنيسة على القيام بالواجبات الختصة بالذين يسلكون حسب الروح. والطلب إليهم أن يعتزلوا الخطايا التي اعتادوها يوم كانوا وثنيين. كالكذب والغضب والانتقام والخداع والسكر والنجاسة على أنواعها. وأن يسلكوا أولاد نور (5: 1-21).

  7. تعيين واجباب مسيحية خاصة، منها واجبات النساء لرجالهن، وواجبات الرجال لنسائهم، وواجبات الأبناء والآباء، وواجبات العبيد والسادة (5: 22-6: 9).

  8. ارتداء الأسلحة الروحية، لكي يتقووا في الرب، ويجاهدوا ضد قوات الظلمة... وفي خاتمة الرسالة سأل الرسول أن يصلوا من أجله، وأن يهتموا بالأخ تيخيكوس. وأخيراً الوداع والبركة (6: 10-24).

اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ

1بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ، إِلَى ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلَّذِينَ فِي أَفَسُسَ، وَٱلْمُؤْمِنِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ. 2نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ ٱللّٰهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ.

«بولس» كلمة يونانية الأصل معناها صغير. وقد عرف رسول الأمم بهذا الاسم، بعد تجديده وقبوله يسوع المسيح رباً ومخلصاً وكان قبلاً معروفاً باسم شاول. وقد أطلق الرسول الكريم اسم بولس على نفسه بعيد اهتداء الوالي سرجيوس بولس، الذي قبل الإيمان على يديه (أعمال 13: 5-7) ومن هنا نستنتج أن بولس الرسول اتخذ لنفسه اسم أول رجل تجدد على يديه.

«في المسيح» هذه الكلمة هي مفتاح رسائل بولس. وهي تحدد بإيجاز مكان المؤمن بوضعه في أعلى مستوى.

في نظري أن كلمة «مسيحي» تعني أكثر من السلوك بتهذيب، وأكثر من التمرس الخارجي في عضوية الكنيسة، وأكثر من التردد على بيت العبادة. إنها حياة المسيح فينا. ودعوة المسيحي بحسب العهد الجديد، أكثر من الحصول على الصفح عن الخطايا، وأكثر من امتلاك الفرح بالمصالحة مع الله. دعوة المسيحي أن يكون المؤمن في المسيح. أن يكون له الأمتياز الذي أشار غليه الرب يسوع حين قال: في ذلك اليوم تعرفون أني في أبي وأنتم فيّ وأنا فيكم (يوحنا 14: 20).

وفي تعبير آخر أن المسيحية الصحيحة ترينا النعمة معتبرة في يسوع المسيح. وهذا ما أوضحه بولس في رسائله. ففي رسالته إلى أهل رومية. يرينا المؤمن مبرراً في يسوع المسيح (رومية 2: 19-26) وفي رسالتيه إلى أهل كورنثوس، يرينا المؤمن مقدساً في يسوع المسيح (1 كورنثوس 1: 2، 3: 17 و2 كورنثوس 7: 1) وفي رسالته إلى أهل غلاطية يرينا المؤمن مصلوباً في يسوع المسيح (غلاطية 2: 20 و6: 14) وفي رسالته إلى أهل أفسس يرينا المؤمن ممجداً في يسوع المسيح (أفسس 1: 3 و15-23) وفي رسالته إلى أهل فيلبي يرينا المؤمن مكتفياً في يسوع المسيح (فيلبي 1: 31 و4: 19) وفي رسالته إلى أهل كولوسي يرينا المؤمن مكملاً في يسوع المسيح (كولوسي 2: 9-10) وفي رسالتيه إلى أهل تسالونيكي يرينا المؤمن منتصراً في يسوع المسيح (1 تسالونيكي 1: 9-10 و4: 13-15، و2 تسالونيكي 1: 4-13 و2: 13).

فالمسيحية الصحيحة بالنسبة لك، هي أن تدرك أن يسوع بالنعمة التي وهبها لك، لا يخلصك فقط من دينونة جهنم، بل أيضاً يعطيك أن تحيا بحياته. وبهذا المعنى تتجدد هويتك، فيراك الله في المسيح. يراك قريباً منه قرب ابنه الحبيب بالذات.

هذا هو وضع المؤمن المخّلص بالنعمة تجاوباً مع الإيمان. وأنه لمن البديهي، أن يكون الحاصل على هذا الامتياز مدعواً لكي يتمم خلاصه بخوف ورعدة (فيلبي 2: 12) بمعنى أن هذا الوضع الممتاز يتطلب من المؤمن أن يشدد السهر لكي تكون تصرفاته على الأرض منسجمة مع هذا الوضع السماوي الذي صار إليه في المسيح يسوع.

«القديسين في أفسس والمؤمنون في المسيح يسوع» إن العبارتين قديسين ومؤمنين، لا تعينان صنفين من الناس. بل تعنيان فريقاً واحداً.

فكلمة قديس تصف المسيحي في سموا دعوته واختياره. وكلمة مؤمن تصفه في علاقته بالمسيح. ويستفاد من إيراد العبارة في المسيح، بعد كلمة المؤمنين أن المسيح هو موضوع الإيمان. وتدل على ما بين المؤمنين والمسيح من اتحاد حيوي وثيق في روح واحد.

«نعمة لكم وسلام» هذا هو المناخ الذي يحيا فيه أولاد الرب. وقد صاروا إليه بالنعمة الإلهية التي في يسوع وفقاً لقوله: «سَلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي ٱلْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا» (يوحنا 14: 27). المعروف بالاختبار أن العالم، لا يعطي شيئاً إلى ويسترجعه. ولكن النعمة الإلهية، تفعل خلاف ذلك. فهي ليس فقط ترفع حكم الدينونة عن المؤمن،بل أيضاً تفيض عليه بالخيرات السماوية دون أن تسترجع شيئاً، سوى صدى المحبة والتعبد من الأبناء الذين وهبم الله كل شيء.

الصلاة: أيها الرب، إننا نعظم اسمك الكريم، ونرفع إليك قلوبنا بالشكر والحمد، لأجل النعمة التي صيرتنا قديسين وبلا لوم قدامك في المحبة ونسألك باسم المحبوب أن تزداد النعمة فينا لكي نتمم خلاصنا بخوف ورعدة. آمين.

3مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ، 4كَمَا ٱخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي ٱلْمَحَبَّةِ،

(3-4) إن كانت الرسالة تصعدنا إلى قمة الإعلان، فإن هذا المقطع منها يعين موضوع الرسالة كلها. وهو يبدأ بالتسبيح لله. لكأن التسبيح عندئذ يصبح سلاحاً روحياً فعالاً ليبدد من الذهن كل ضباب القلق.

هذا ما اختبره داود وشهد به، حين قال: «أَدْعُو ٱلرَّبَّ ٱلْحَمِيدَ فَأَتَخَلَّصُ مِنْ أَعْدَائِي» (مزمور 18: 3) وأوصي به حين قال: «اِذْبَحْ لِلّٰهِ حَمْداً، وَأَوْفِ ٱلْعَلِيَّ نُذُورَكَ، وَٱدْعُنِي فِي يَوْمِ ٱلضِّيقِ أُنْقِذْكَ فَتُمَجِّدَنِي» (مزمور 50: 14 و15).

ولا أدل على أهميته من كون إعلان المسيحية بدأ به. فحين أعلنت السماء تجسد ابن الله صدحت جماهير من الجند السماوي بأروع تسبيحة عرفها الزمان: «المجد لله في الإعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة». وأيضاً ابن الله نفسه لما أكمل عمل الفداء وعاد إلى مجده الأسنى (يوحنا 6: 62) كان السرور الموضوع أمامه أن يقتاد إلى ذلك المجد كثيرين من الأبناء، ليشتركوا في تسبيحة المجد. وقد أخبرنا كاتب الرسالة إلى العبرانيين أن المسيح يدعوهم أخوة، قائلاً للآب: «أُخَبِّرُ بِٱسْمِكَ إِخْوَتِي، وَفِي وَسَطِ ٱلْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ» (مزمور 2: 12).

هكذا بولس حين تراءت لعيني ذهنه هذه الامتيازات التي للمؤمنين في المسيح، ومن فرط ما أخذ به من الإعلان. انفصل عن كل ما حوله وطفق يسبح الله ويحمده بهذا النشيد المجيد المؤلف من مقطعين: يبدأ كل منهما بالبركة، ويختم بذكر اسم المسيح.

في الأول يبارك المؤمنون الله بالحمد له والشكر على البركات، التي وهبت لهم بواسطة المسيح. وفي الثاني يبارك الله المؤمنين بإغداق كل بركة روحية في السماويات في المسيح عليهم.

لدى التأمل في الآية الكريمة نرى أن الرسول أضفى على بركات الله المهداة لنا ثلاثة أوصاف.

  1. طبيعة البركات: قال: «بكل بركة روحية» وفي تمتاز عن البركات التي وُعد بها متقو العهد القديم، في كون البركات الموهوبة لنا روحية خالدة، وتلك زمنية زائلة. فقد قال الله لأتقياء العهد القديم: «مُبَارَكاً تَكُونُ فِي ٱلْمَدِينَةِ، وَمُبَارَكاً تَكُونُ فِي ٱلْحَقْلِ. وَمُبَارَكَةً تَكُونُ ثَمَرَةُ بَطْنِكَ وَثَمَرَةُ أَرْضِكَ وَثَمَرَةُ بَهَائِمِكَ، نِتَاجُ بَقَرِكَ وَإِنَاثُ غَنَمِكَ» (تثنية 28: 3 و4) أما البركات المهداة لأتقياء العهد الجديد، فهي أرقى وأسمى، بقدر ما الروح أسمى من المادة. فقد قال الرب: «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِٱلرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ ٱللّٰهَ. طُوبَى لِصَانِعِي ٱلسَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ ٱللّٰهِ يُدْعَوْنَ» (متى 5: 3-9).

  2. دائرة هذه البركات: قال: في السماويات فمع أن مختاري الرب يعيشون على الأرض، إلا أن سيرتهم في السماويات (فيلبي 3: 20) وهم يطلبون ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله (كولوسي 3: 1) وهذه البركات محفوظة في السموات بحيث لا يمكن أن تفنى أو تتدنس أو تضمحل (1 بطرس 1: 4). واهتماماتهم ليست أرضية بل سماوية. لأن حياتهم مستترة مع المسيح في الله (كولوسي 3: 3).

  3. أساس هذه البركات: قال: «في المسيح» وهنا نرى أن الرسول قد ركز تفكيره في المسيح، الذي آمن واعترف به «أنه ظهر في الجسد» (1تيموثاوس 3: 16) وحين جمع هذه البركات في المسيح، أوضح لنا أنها ليست مستحدثة، بل هي ب ركات معدة منذ الأزل. ولذلك فهي أكيدة محققة في المسيح. وكما أن الله وبهنا في المسيح كل البركات الروحية، «هكذا اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة» ومعنى هذا أن اختيار المفديين لم يكن اتفاقاً، أو بناء على استحقاقهم، بل بمقتضى قصد الله الأزلي. ويقيناً أنه لعظيم سر التقوى الذي كان في قلب الله وأعلنه لنا كمن فيه اختيارنا قبل تسيس العالم. وهذا يزيد خلاصنا قيمة، ويستلرم ثباتنا في القداسة والتواضع. وبكلمة أخرى أن الاختيار كما علمه بولس هو رسالة خاصة بعث بها الله إلى أبنائه لكي يثبتهم في الإيمان ويحفظهم من كل ارتداد. وفي ذات الوقت لميقصد به قد حجر صدمة يعثر به الذين لم يؤمنوا. صحيح أنه مبني على مسرة الله، إلا أنه لا يمكن أن يلغي الإرادة البشرية. لأن الناس ليسوا دمى صماء، يدفعون إلى أعمالهم دفعاً. بل هم خلائق عاقلة مدركة، بحيث يستطيع أي منهم أن يقبل يسوع بالإيمان، فيخلص به، ويصير قديساً وبلا لوم قدامه في المحبة.

الصلاة: يا رب إلهنا الصالح شكراً لك وحمداً لأجل البركات الموهوبة لنا في المسيح. اسكب علينا روح الشكر لأجل حسناتك التي أغدقتها على البشر بغناء كثير. نسألك أن تنير أذهان مواطنينا حتى يدركوا أبعاد محبتك للخاطئ الأثيم الذي تشاء أن يرجع إليك ويحيا. آمين.

5إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، 6لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ ٱلَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي ٱلْمَحْبُوبِ.

(5) في هذه الآية، يتكلم الرسول عن حلقة ثانية سلسلة البركات الروحية، وهي التبني. فالله في مجده شاء أن يتبنانا له بواسطة المسيح. قد يبدو هذا التبني متعارضاً مع طرق الله التي تعامل بها مع جماعة العهد القديم، الذين قامت بنوتهم على انتسابهم إلى رجال تعاهدوا مع الله. بخلاف بنوة العهد الجديد القائمة على الإيمان بالمسيح، وفقاً لقول الإنجيل: «وَأَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ» (يوحنا 1: 12 و13).

إن قصد الله من هذا التعيين أن يصير المؤمنون إلى صورة المسيح كما نقرأ في الرسالة إلى رومية: «لأَنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ٱبْنِهِ، لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ» (رومية 8: 29).

أجل هكذا صارت المسرة أمام الله أنه بعد ما نقض إسرائيل عهده مع الله برفض المسيح، أن الله افتقد أولاً الأمم ليأخذ منهم شعباً على اسمه (أعمال 15: 14). وفي كلمة أخرى أن الله بهذا التعيين أزال الامتيازات العرقية، معطياً فصاعداً امتياز التبني لكل الذين يغتسلون من خطاياهم بدم ابنه الحبيب مهما كان ماضيهم ملوثاً. هذا هو التدبير ا لإلهي الوحيد، وخارجه لا يوجد أي رجاء للأمم، ولا خلاص للعالم، ولانجاة للهالكين. فليكن اسم الرب مباركاً، «لأنه باركنا بكل بركة روحية في السماويات» من حيث يأتي روحه القدوس، ليمكث في قلوبنا. وبالمناسبة يجب أن نذكر: (أ) أن الله اختارنا للقداسة، لأنه عيننا للتبني. فالقداسة إذن شرط للتبني، ويستحيل بدونها. (ب) أن وسيط التبني هو يسوع المسيح. ففيه اختارنا الله وعيننا للتبني. فيه رآنا الله منذ الأزل، أي قبل أن نوجد. فأحبنا واخترانا للقداسة، وتبنانا لنفقسه. متعجباً: «أُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا ٱلآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ! مِنْ أَجْلِ هٰذَا لاَ يَعْرِفُنَا ٱلْعَالَمُ، لأَنَّهُ لاَ يَعْرِفُهُ» (1 يوحنا 3: 1) باعث التبني، «حيث سرة مشيئته» فكما أن المحبة الإلهية هي باعث الاختيار، كذلك المسرة الإلهية هي باعث التبني. وهذا مطابق لقول المسيح «نَعَمْ أَيُّهَا ٱلآبُ، لأَنْ هٰكَذَا صَارَتِ ٱلْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ» (متى 11: 26).

ولكن هذه المسرة ليس فيها شيء من الظلم لأحد. ونحن نؤمن بأنها مبنية على غاية من الحكمة والمحبة الإلهيتين، فإذا علمنا أن الله حكم بأمرها، كفانا أن نعتقد بأنه عن عدل، وأنه أ فضل ما يمكن حدوثه. لأن الله منزه عن الشطط في أعمال قضائه. وحين يتعذر علينا إدراك مقاصد الله، فلنذكر أن أفكار الله تعلو جداً عن أفكارنا (إشعياء 55: 9).

حين قال الرسول: «لاَ تُشَاكِلُوا هٰذَا ٱلدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ ٱللّٰهِ ٱلصَّالِحَةُ ٱلْمَرْضِيَّةُ ٱلْكَامِلَةُ» (رومية 12: 2) كان يرسخ في الأذهان أن كلا من الاختيار والتعيين للبنوة هو من النعمة. بمعنى أنه ليس لأحد حق أن يختاره الله، أو يعينه للتبني.

ومما يجب ملاحظته هو أن الاختيار لم يلحق ضرراً بأحد من بني البشر. لكنه أسعد الملايين الكثيرة، الذين لولاه لكانوا أشقياء إلى الأبد. وإن كان للمفديين أن يفرحوا بالاختيار لأنه أ صل سعادتهم. وإنما علة هلاكهم الخطايا التي ارتكبوها باختيارهم، ولم يشاءوا الخلاص من مغبتها بقبول المخلص.

(6) في هذه الآية بيان لغاية الاختيار الأخيرة العظمى وهي مدح مجد نعمة الله، فإنه عين المختارين للتبني، ليجدوا في شرفهم وسعادتهم سبباً كافياً لمدح نعمة الله.

إن نعمة الله في أساسها مجانية، وليس لها من دافع خارجي. بمعنى أنها لا تنال بالاستعطاف والدموع والأنات، بل دافعها من ذاتها. وهي مجانية تماماً، بحيث لا يمكن شراؤها، لا بالذهب ولا بالأعمال الحسنة، ولا بالصلوات الحارة، فهي ينبوع كل الحسنات، ومبعث كل الصلوات. والذي يستحق الاعتبار هنا، هو أن ما تبين من كون مسرة الله وحده لأن هذه المسرة، تعم أتقياء الناس والملائكة أيضاً، إذ يجدون في ذلك علة للتسبيح والحمد.

وكذلك الاختيار يظهر عظمة النعمة، باعتبار كونها صفة اإلهية، تملأ قلوب جميع الذين يرون أثرها من الملائكة والقديسين فرحاً. وتطلق ألسنتهم بالمديح لمجد الله، لما فيها من الجلال والجمال واللطف غير المحدود. ومما يجب الإشار إليه، هو أن الأسباب التي تحمل الملائكة والقديسين على مدح عمل نعمة الله كثيرة جداً، منها:

  1. أنه موضوع رجاء وحيد للخاطي، فلو لم يختره الله للخلاص، بل تركه لنفسه لهلك لا محالة.

  2. أنه ينبوع كل البركات، التي صارت إلى أبناء البشر، في الماضي والحاضر والمستقبل وإلى الأبد.

  3. إن غايات الاختيار والتبني جديرة بتقديم المديح لله، لأن منها ينبع الصفح فالغفران، فالقداسة فالسماء.

أما وسيط النعمة فهو المحبوب يسوع المسيح الذي بذل نفسه فدية عن الجميع. لذلك فالله لا يظهر رحمته للناس، إلا لأجل يسوع المسيح وبواسطته. لأننا بالنظر لأنفسنا نحن جميعاً أبناء الغضب، ولكن كمتبنين صرنا بالنعمة أبناء الرضى.

الصلاة: أبانا الذي في السموات، نشكرك لأجل وسيط النعمة، ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، الذي بذل نفسه فدية عن الجميع. حتى الجميع ينالوا باسمه غفران الخطايا، ويصيروا أبناء لك. تقبل شكرنا باسمه.

7ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ، 8ٱلَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ، 9إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ ٱلَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، 10لِتَدْبِيرِ مِلْءِ ٱلأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي ٱلْمَسِيحِ، مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ، فِي ذَاكَ .

(7-8) في الأزلية، حين اختار الله للقداسة الذين سيؤمنون بابنه، كان ينظر إليهم من خلال الحجاب «المشقوق من أعلى إلى أسفل» ومن خلال دم الابن، الذي به فقط يمكن أن يفتدي الخاطي. ومعنى هذا أن الله تبنانا لنفسه بثمن فائق. لقد دفع حياة ابنه الوحيد، لكي يشترينا. لذلك فجميع المستهينين بذبيحة المسيح سيضربون بدينونة الله العادلة. لأنهم باستهانتهم داسوا ابن الله، وحسبوا دم العهد الذي قدس به دنساً، وازدروا بروح النعمة (عبرانيين 10: 29) بل كيف ننجو نحن إن أهلمنا خلاصاً هذا ثمنه؟ وهل يظن أحد أن الله في نعمته، أقل قداسة منه في ناموسه؟ وهل يعتبر احتقار دم ابنه الذي عينه للفداء جريمة، أقل من التعدي على الوصايا المنقوشة في ألواح حجر؟ لا!!! أنه لا يتوجد إهانة يمكن أن توجه إلى الله الحي، أكبر من إهانة ابن محبته، واعتبار عمله الكفاري باطلاً!

لهذا حري بك أن تفكر ملياً في ما ينطوي عليه رفض المسيح. إنه أكبر من كل الشرور المنهي عنها. بدليل قول المسيح: «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلدَّيْنُونَةُ: إِنَّ ٱلنُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَأَحَبَّ ٱلنَّاسُ ٱلظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً» (يوحنا 3: 19) فاحذر من الأفكار الباطلة التي يحاول أعداء المسيح أن يدسوها في هذه الأيام. للتشويش على الإيمان المسلم مرة للقديسين.

إنهم يقولون أن إنجيل نعمة الله المؤسس على دم المسيح. يصلح بالأولى أن يكون ديانة الجزارين، وليس ديانة المفكرين. آه! يا صديقي كم هو مهين لجلال الله أن يقال شيء كهذا! أنه الجحود عينه، والجاحد سيرجفه الله بغضبه، وسيوقفه للدينونة، ومخيف هو الوقوع في يدي الله الحي!

تأكد أن الخلاص لا يرتكز على الشعور بالبركة، أو الانفراج، بل على ذبيحة المسيح التي قدمها، «وأكملت إلى الأبد كل المقدسين» بحيث لم تعد ثمة حاجة إلى تكرارها، لأن الآب السماوي قبلها وأيدها بقيامة ابنه. وارتفاعه بالجسد الجريح إلى السماء وجلوسه على عرش الله، حيث يشفع فينا بجراحاته، لنكون مقبولين من الآب. وهكذا صارت الكلمة «فيه لنا الفداء، بدمه غفران الخطايا» فيا للفداء من نعمة فائفة! لأن به نلنا ليس فقط غفراناً كاملاً عن خطايانا، بل أيضاً نلنا الحرية. لأن المسيح إذ افتدانا، محا عنا صك العبودية وصيرنا من أحبائه (يوحنا 15: 15). كنا قبلاً مبيعين تحت الخطية، مستعبدين للعالم وملكاً للشيطان. فجاء يسوع يطلبنا في سوق النخاسة. ولكي يفتدينا الله، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب (فيلبي 2: 7 و8). وهكذا اختيارنا الذي رآه الله في الأزلية صار حقيقة في جلجثة، حين قال المسيح: «قد أكمل» ومنذئذ دخل الله في اختبار كل من آمن بالفداء العظيم.

(9-10) في هاتين الآيتين يذهب الرسول إلى موضوع، يتجاوز خلاص المؤمن. إذ ينقلنا إلى الأبدية، إلى سر إرادة الله في قصده المترئف من أجل الإنسان. ليخبرنا أن الله شاء أن ينفذ هذا القصد في ملء الأزمنة بالمسيح يسوع، الذي فيه جمع كل ما في السموات وما على الأرض، ليكون الكل على نسق واحد، وتحت رأس واحد. هذا هو القصد النهائي في الفداء، أن يجمع الله كل شيء في المسيح. صحيح أن الفداء في فعله الابتدائي، يقصد به خلاص المؤمنين، إلا أنه في معناه الكمالي، يتناول جميع الأشياء ما في السماء وما على الأرض. «لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ» (فيلبي 2: 10 و11).

الصلاة: أيها الرب الإله والقدوس الحق. إن قلوبنا تطفح بالتسبيح لجلالك الأقدس. لأنك لم تفتدنا بأشياء تفنى، بل مما لا يفنى، بدم المسيح يسوع ربنا. ونشكرك لأنك لأجل هذا الدم الثمين غفرت لنا خطايانا. ونسألك باسم هذا الفادي أن تثبتنا في حريتنا التي اشتراها لنا المسيح. آمين.

11ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ، 12لِنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ، نَحْنُ ٱلَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي ٱلْمَسِيحِ.

(11) بهذه الآية يبلغ بولس قمة المعلنات السماوية، التي شرع يفضي بها إلى الأفسسيين. فبعد أن بين ما يحصل عليه المؤمن من امتيازات: الاختيار والتبني ومعرفة الفداء والشركة في فوائده وبركاته، بدأ الكلام عن الميراث الذي يناله مختاروا الله. وقد عبر عنه هنا بكلمة نصيب، وعبر عنه في كولوسي بميراث القديسين في النور (كولوسي 1: 12).

والفكرة الأساسية التي ركز عليها الرسول، هي أن يذكر المؤمنين، ويرسخ في أذهانهم الامتياز الذي لهم في السماويات. وتلتقي هذه العبارة بالكلمات التي كتبها بطرس للمؤمنين في الشتات، إذ قال: «مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ» (1 بطرس 1: 3 و4) وهذه هي ميزات ميراث القديسين: (أ) لا يفنى، أي لا يزول كالميراث الأرضي وقد أشار إليه الرسول بكلمة «إكليل لا يفنى» فهو أبدي يستحق أن نجاهد من أجله ونضبط أنفسنا (1 كورنثوس 9: 25) (ب) لا يتدنس، لأن وارثه، يتقدم دائماً في سبيل المعرفة والقداسة والرغبة في خدمة الله (ج) لا يضمحل، لأنه مجيد لا يزول بهاؤه، خلافاً للمقتنيات الأرضية التي يعتريها البلى فيزول جمالها. (د) محفوظ في السموات، لأنه عين من الله من أجلنا، والذي عينه حافظه، منذ الأزل، المسيح قال أنه يمضي لكي يعده (يوحنا 14: 2).

يقول الكتاب العزيز أن المسيح وارث لكل شيء (عبرانيين 1: 2) وارث هذه الخليقة، التي نقيم فيها، وكل الكون التابع الله. وهذا الوارث لكل شيء قال: «مَنْ يَغْلِبْ يَرِثْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَكُونُ لَهُ إِلٰهاً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ٱبْناً» (رؤيا 21: 7).

وإننا نجد فكر الميراث موصوفاً وصفاً جميلاً في رسالة رومية، حيث يقول الرسول: الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كنا أولاداً. فإننا ورثة أيضا. ورثة الله، وارثون مع المسيح. فالوراثة تسير جنباً إلى جنب مع النبوة. ولكن الروح القدس يحدثنا هنا عن الوراثة، قبل الحديث عن أي شيء آخر، سوى ذكر الآب والابن. فيا لها من فكر جميل! فقبل أن يصنع الله شيئا ، وقبل أن يكون في الوجود شيء سواه، وفي كماله المطلق كان له وارث. وارث يرث كل مجده، الذي سيعلن، وكل ممتلكاته التي ستخلق. وارث لكل العصور الآتية، واحدها بعد الآخر. كل شيء يجب أن يتركز في هذا الوارث الإلهي. وكل شيء يجب أن يكون في سلطانه. وفي تلك الأزلية عينها، شاء الله أن يرث المؤمنون الحقيقيون هذا المجد المعد عن طريق اتحادهم بالوارث الأوحد، يسوع ابن الله.

هكذا يعلم الكتاب، أن كل الذين يشتركون الآن في روح المسيح كإخوت. سوف يشتركون معه في مجده كإخوة. وذلك وفقاً لإرادته حي قال في صلاته الشفاعية: «أَيُّهَا ٱلآبُ أُرِيدُ أَنَّ هٰؤُلاَءِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 17: 24). هؤلاء لهم وعده بامتياز الجلوس معه في عرشه، وفقاً لقوله: «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضاً وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ» (رؤيا 3: 21) وشكراً لله لأن عرش المسيح عظيم عال ومتسع بحيث يكفي لجلوس جميع الظافرين الممجدين.

ثق بهذا يا أخي لأنه ليس أعظم من مواعيد المسيح! وليس من أحد غير المسيح يستطيع أن يحقق المواعيد. فإن فيه قد وهبت كل المواعيد العظمى والثمينة. وهو يملك حق إجلاس المؤمنين معه في عرشه، لأنه افتداهم بدمه، وغلب عنهم. فهم فيه منتصرون.

(12) هللويا شكراً وحمداً وتسبيحاً للغالب المجيد الذي شاءت مبحبته أن يقتادنا في موكب نصرته. وشاءت نعمته الغنية باللطف أن نجلس معه في عرشه المجيد! وغايته أن نكون منذ الآن خلائق جديدة، تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعة مع إلهها. وبذلك تتم الكلمة «لنكون لمدح مجده» أي نكون بسلوكنا كأولاد نور واسطة لمدح جلاله. وفقاً لقوله: «فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 5: 16).

هذا هو ميراث مختاري الله، وقد رآه داود بعين الإيمان قبل انتقاله، فكتب لنا هذه العبارة: «ٱلرَّبُّ نَصِيبُ قِسْمَتِي وَكَأْسِي» (مزمور 16: 5) وأنت أيضاً إن قبلت يسوع نصيباً صالحاً، يصير لك الله ميراثاً. وكم يطيب لك عندئذ أن تسبح قائلاً: مبارك الله ميراثي، حصتي نصيبي!

الصلاة: أيها الآب رب السماء والأرض، إني أبارك اسمك القدوس وأحمدك من كل قلبي لأجل هذه الحقيقة التي أعلنها رسولك، وهي أنني كنت في فكرك قبل تأسيس العالم، وشاءت نعمتك أن يكون الرب يسوع نصيبي وقسمة حياتي. اقبل شكر قلبي لأجل خاطره. آمين.

13ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضاً أَنْتُمْ، إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ ٱلْحَقِّ، إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ، ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضاً إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ ٱلْمَوْعِدِ ٱلْقُدُّوسِ، 14ٱلَّذِي هُوَ عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ ٱلْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ.

ما أن فرغ الرسول من كلامه عن المؤمنين من أصل يهودي، «الذين سبق رجاؤهم» وهو واحد منهم، حتى انتقل حالاً إلى المسيحيين من أصل أممي، الذين لهم أيضاً في المسيح رجاء حي. صحيح أنهم لم يتعلموا أمور المسيح من النبوات كاليهود. ولكن الله أرسل من بشروهم بالإنجيل وقد سمى الإنجيل «كلمة الحق» لأن كل ما تضمنه من تعليم هو حق سماوي، وليس فيه شيء من التقاليد اليهودية، أو الفلسفة اليونانية. وقد عبر عنه بولس في مكان آخر «بقوة الله للخلاص» (رومية 1: 16) وشهد له المسيح نفسه، حين قال في صلاته الشفاعية: «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ» (يوحنا 17: 17) فكلمة الحق هذه أتت سامعيها بنبأ الخلاص العظيم، ليس في زمن بولس وحسب، بل أيضاً في كل زمان. وصيرت كل من قبلها شريك الميراث السماوي.

وكم هو جميل أن تكون البركة الإلهية الممنوحة للمؤمنين الذين قبلوا إنجيل الله، ختم الروح القدس. هذه البركة تعطينا ثلاثة امتيازات: (أ) برهان اختيار الله لنا (ب) عربون التبني والميراث (ج) ضمان الفداء العظيم الذي به نصير مشابهين صورة ابن الله (رومية 8: 29).

وهذا الختم المبارك يناله المؤمن، حالما يقبل يسوع مخلصاً. أي أنه جواب الله على الإيمان. وهناك حقيقة بجي أن نلاحظها، وهي أن للفداء الذي أكمله يسوع بالنسبة لكل مؤمن من قيمة عند الله عظيمة بمقدار أن الله طبعه بخاتمه الإلهي، كامتياز لا يمكن أن يزول. وعلى سبيل المثال أذكر أنه إن كان خاتم أحشويرش ملك فارس الذي وضعه على مرسوم صيره شرعة لا يمكن أن ترد (أستير 8: 8) فكم بالحري يكون ختم الله، حين يوضع على حياة إنسان فداه المسيح يطبع بسمة أبدية، بحيث لا يمكن أن تزول ملكية الله عنه؟!

هذا الختم الإلهي، لا تبصره أعيننا، ولكننا موقنون بوجوده، لأن الله الصادق الأمين وعد بأن «تَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِٱلإِيمَانِ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ» (غلاطية 3: 14) وهذا ما أشار إليه بطرس ف يخطابه يوم الخمسين حين قال: «لأَنَّ ٱلْمَوْعِدَ هُوَ لَكُمْ وَلأَوْلاَدِكُمْ وَلِكُلِّ ٱلَّذِينَ عَلَى بُعْدٍ، كُلِّ مَنْ يَدْعُوهُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا» (أعمال 2: 39).

تأمل في هذا الأصحاح الأول من رسالة أفسس، تر أنه مفعم بمعاني الضمان التي تجعل المؤمن ثابتاً. وفي نفس الوقت تحول نظره عن ذاته وتضع في صميمه أكثر من شعور شخصي بالهدوء والسلام، إذ تثير فيه اليقين بسلامة وضعه الروحي الآتية إليه من الله.

(14) لقد آمنا بالمسيح فختمنا بختم الله، وأحيطت السماء علماً أننا أصبحنا ملكاً لله، وصرنا محفوظين في عنايته الأبوية. هذا «هو عربوت ميراثنا» أن الله أعطانا روحه ضامناً الحق الذي صار إلينا في المسيخ. وفي هذا الصدد يقول الرسول أيضاً: «أَخَذْتُمْ رُوحَ ٱلتَّبَنِّي ٱلَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَا ٱلآبُ!» (رومية 8: 15) فإن كان اله قد أعطانا هذا الامتياز العظيم، فالأحرى بنا أن نرد له صدى محبته إجابة لاختيارنا.

حين مد أعداء يسوع فخاخهم، للإيقاع به عن طريق أسئلة ماكرة حول دفع الجزية لقيصر، طلب إليهم السيد الرب أن يروه عملة الجزية، فقدموا له ديناراً. فتأمل قطعة النقود ملياً، ثم سألهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ فأجابوه إنها لقيصر. فقال لهم: إذا أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله! وأنت يا أخي حامل ختم الله، هلا أعطيت ما لله لله!!!

قد تؤدي تصرفاتنا أحياناً إلى أحزان أو إطفاء الروح القدس. ولكن نبقى مختومين بالختم الإلهي، الذي هو عربون المستقبل الموضوع أمامنا، هنا على الأرض، وفي أبدية السماء. فهو ثابت لا يمكن أن يضمحل. لانه منذ أن وضع الرب سمته علينا، صرنا في يده الحافظة، بحيث لا تستطيع قوة ولا سلطة في الوجود أن تأخذنا من يده (يوحنا 10: 38). قد تمر بنا فترات ضعف فلا نكون بلا لوم، لهذا أوصانا بطرس قائلاً: «لِذٰلِكَ بِٱلأَكْثَرِ ٱجْتَهِدُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أَنْ تَجْعَلُوا دَعْوَتَكُمْ وَٱخْتِيَارَكُمْ ثَابِتَيْنِ» (2 بطرس 1: 10) وقال بولس: «يَعْلَمُ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِينَ هُمْ لَهُ. وَلْيَتَجَنَّبِ ٱلإِثْمَ كُلُّ مَنْ يُسَمِّي ٱسْمَ ٱلْمَسِيحِ» (2 تيموثاوس 2: 19).

هل ادركنا الآن لماذا اختارنا الله، وعيننا للتبني؟ الكلمة الرسولية أوضحت ذلك. فمقابل ما أعده الله لنا من بركات روحية في المسيح، يجب أن نحيا في البر وقداسة الحق. لأنه بدون قداسة، لا يقدر أحد أن يرى الرب. ولكن للاسف، فمع وجود هذه الامتيازات الروحية، إلا أن معظم المدعوين مسيحيين لا يتمتهون بها. لأنهم بنوا حياتهم الإيمانية على الحكمة البشرية والتقليد، الأمر الذي عطل فيهم عمل النعمة.

وأما أنت أيها الأخ فابن نفسك على إيمانك الأقدس واحفظ نفسك في محبة لاله منتظراً رحمة ربنا يسوع للحياة الأبدية (يهوذا 20 و21).

الصلاة: أيها السيد رب الكل، القادر على كل شيء. أسألك متوسلاً أن تحفظني في عنايتك. وأن تنزع مني كل ما يحزن الروح القدس، أو يطفئ عمله في حياتي. آمين.

15لِذٰلِكَ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ سَمِعْتُ بِإِيمَانِكُمْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ، وَمَحَبَّتِكُمْ نَحْوَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ، 16لاَ أَزَالُ شَاكِراً لأَجْلِكُمْ، ذَاكِراً إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي، 17كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلٰهُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَبُو ٱلْمَجْدِ، رُوحَ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلإِعْلاَنِ فِي مَعْرِفَتِهِ،

(15) في الآيات السابقة تكلم الرسول عن الأمور الموجودة في السماء. أما في الآيات التالية، فيتكلم عن الأمور الآتية من السماء، لتعمل في حياتنا هنا على الأرض. وقد أتاح لنا في ما تقدم أن نعلم بأن وضعنا في المسيح مضمون تماماً. وقد برز هذا الضمان في أربع كلمات: مختارون في المسيح لنكون قديسين وبلا لوم، معينون بالنعمة للتبني، مفديون بدم المسيح، مختومون بالروح القدس. وهذا الضمان المربع باق معنا إلى أن نرى الرب كما هو.

لقد ظن اليهود أن مجرد كونهم من ذرية إبراهيم، يعطيهم حق بنوة الله، متجاهلين بذلك دعوة الإيمان، التي تلقاها إبراهيم وأطاعها، فصار له إيمانه براً (رومية 4: 21-23). صحيح أنهم كمتعاهدون مع الله، صارت لهم المواعيد. ولكن هذه المواعيد كانت في المسيح. فلما رفضوا المسيح وصلبوه، ضحوا ليس فقط بامتيازاتهم الأرضية، بل أيضاً بحقوقهم في التعاهد مع الله وكل الوعود الإلهية. ونجم عن ذلك أن قلب الله جرح برفض ابنه، كان لا بد أن يعبر عن حبه في اتجاه آخر. ففاض كنهر نعمة في اتجاه جميع الأمم. مبتدأ من أورشليم (لوقا 24: 47). وفي المسيح أعطي للجميع خلاصاً كاملاً مجيداً مضموناً، للحاضر والمستقبل وإلى الأبد. وهذا الخلاص يشركهم في كل البركات المعدة في المسيح. صارت الكلمة: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2 كورنثوس 5: 17).

أمام كل هذا الغنى المعلن، يقف الرسول بولس ويضع توسلاته بين هلالين، مصلياً بكل طلبة لأجل الذين كتب إليهم. وكان الداعي إلى هذه الصلاة الحارة، هو الأخبار السارة التي تلقاها عن عمل إيمانهم المثمر لمجد الرب. مما أبهج قلبه، وحمله على رفع آيات الشكر التي فرحت قلب الرسول، كانت محبتهم لجميع القديسين، والتي هي وليدة إيمانهم بالمسيح، الذي أحبهم وبذل نفسه فدية عنهم.

وتتألف صلاة الرسول من عنصرين: العنصر الأول هو الشكر المستمر لأجل إيمانهم العامل بالمحبة. والعنصر الثاني هو الذكر الدائم في صلواته، لأجل تقدمهم ونموهم في المسيح. هذا مثال رائع في المحبة يليق بنا أن نتبعه. أن نصلي من أجل الآخرين. وكم هو جميل في الواقع أن نقتدي بالرسول الكريم مفتتحين أدعيتنا بكلمات الشكر التي تجعل الصلاة مقتدرة كثيراً في فعلها.

هذا النوع المتشفع من الصلاة يمت بصلة إلى صلاة الرب يسوع التي رفعها إلى الآب في وادي قدرون، باعتبار كونه ر ئيس كهنتنا العظيم. وقد همس بها في اذني الآب من أجل خاصته الذين أعطوا له من العالم. لقد سأل أن يكونوا معه في المجد الذي له مع أبيه قبل كون العالم (يوحنا 17: 24) بهذا الروح جثا بولس ورفع من أعماقه آيات الشكر لله لأجل أحباء الله في أفسس، وسأل بركات جديدة من أجلهم. وهذا الروح عينه حرك عواطف الشكران في قلب الرسول الكريم مرات عديدة منها: رومية 1: 8، 1 كورنثوس 1: 4، أفسس 1: 15-16، فيلبي 1: 3-5، كولوسي 1: 3-5، 1 تسالونيكي 1: 2-3، 2 تسالونيكي 1: 3، فليمون 4-5.

(16) كأني بالرسول المغبوط وهو متخذ صورة الكاهن راح يذكر أحباءه أمام عرش النعمة، شاكراً وسائلاً كي يعطيهم أبو المجد روح الحكمة والإعلان في معرفته. لاحظ أنه هنا يتقدم إلى أبي المجد. وإذا ما تتبعنا هذا الفكر من خلال ما قاله الروح القدس عن رب المجد (1 كورنثوس 2: 8) نرى رب ا لمجد نفسه يصلي لأجلنا، بتقديم الطلبة إلى أبي المجد (يوحنا 17) ومتى أقرنا الطلبة بما قاله بطرس: لأن روح المجد والله يحل عليكم (1 بطرس 4: 14) يظهر لنا امتياز فائق، وهو أن ثالوث المجد يهتم بالأبناء المتبنين والمفديين بدم المسيح، والمختومين بالروح القدس، والمدعوين الآن لكي يحققوا ميراثهم.

(17) قال الرسول الكاهن «أن يعطيكم...» هذا هو الواقع في ظل النعمة، أن الله يعطي أبناءه، تجاوباً مع الإيمان. والأبناء في تجاوبهم مع النعمة يتيحون لها أن تتفاضل في حياتهم فتنمهيم في معرفة الله. هذه الحقيقة أعلنت لبطرس، فأوصى المؤمنين قائلاً انموا في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح (2 بطرس 2: 18). فالله أبو المجد في محبته ينزل المن الجديد من السماء في اتجاه حاجة المؤمنين، وقد قال الرسول يعقوب أنه يعطي الجميع بسخاء ولا يعير (يعقوب 1: 5) ونلاحظ في طلبة بولس أن العطايا الصالحة تنبع من المسيح المدخر فيه كل كنوز الحكمة والعلم... والذي فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً (كولوسي 2: 3 و9).

الصلاة: أيها الرب سيدنا، ما أعظم اسمك في كل الأرض. اللهم نشكرك من صميم قلبي لأجل رسلك الأطهار الذين أنذرونا وعلمونا، وبلغونا رسالتك. أعطنا أن نقتدي بسيرتهم وأن نسلك بموجب إرشاداتهم.

18مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي ٱلْقِدِّيسِينَ.

تتكلم هذه الآية عن الغاية القصوى والكمالية في صلاة الرسول. وهي أن يحاط المؤمنون علماً برجاء دعوة أن الله العليا في المسيح يسوع. ما هي إذاً هذه الدعوة التي يعلق الرسول عليها رجاء، هذا مقداره بالنسبة للمستقبل. وهذه قوته بالنسبة للحاضر؟ إنها الدعوة الإلهية، التي تتيح لنا الاشتراك في مواعيد وقوة الإنجيل، وفي غنى المسيح، الذي لا يستقصى، والذي دعانا نحن لكي نكرز به بين الأمم. إن الرجاء المتعلق بهذه الدعوة، مؤكد ومضمون لنا. لأن الله بواسطة غنى مجده، يمنحنا أن نتأيد بالقوة بروح الله في الإنسان الباطن. ليحل المسيح بالإيمان في قلوبنا لؤصلنا في المحبة، فندرك مع جميع القديسين إبعاد محبة الله الفائقة المعرفة. وهكذا يستطيع الله بقوته العاملة فينا أن يعمل بلا نهاية، فوق ما نطلب أو نفكر.

وعلاوة على ذلك، فهذه الدعوة مع الرجاء المتصل بها، ستلمع أكثر فأكثر في كفاحنا ضد قوات الظلمة، التي تتصدى لسير المسيحي. وتحاول أن تعرقل نمو ونضوج الكنيسة. لأن هذه الدعوة السماوية تظهر وتتثبت في أبان الكفاح، الذي يكبر ويتسع أكثر فأكثر، إلى حين يرن البوق الأخير. حينئذ نترك السيف، لكي نأخذ الإكليل. وعندئذ تنال الجراحات والإهانات جزاءها، لأن نظرة الإيمان إذ ذاك تترك المكان للحقيقة. وفقاً لقول الرسول: «قَدْ جَاهَدْتُ ٱلْجِهَادَ ٱلْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ ٱلسَّعْيَ، حَفِظْتُ ٱلإِيمَانَ، وَأَخِيراً قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ ٱلْبِرِّ، ٱلَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱلرَّبُّ ٱلدَّيَّانُ ٱلْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ» (2 تيموثاوس 4: 7 و8).

هكذا كان مبحث صلوات رئيس كهنتنا العظيم في المجد أنه يثير فينا الشوق لامتلاك ميراثنا والتمتع به، وبانتظار ذلك ينبغي أن نسلك هنا بصورة تليق بدعوتنا، التي دعينا بها بكل تواضع ووداعة.

وتتكلم الآية عن غنى مجد الميراث الإلهي في القديسين. ومما تجب ملاحظته في هذا المقام، هو أن كل كتبابات العهد الجديد، تغوص جذورها في العهد القديم. ففي سفر الخروج يقول الله لأتقيائه: أنتم لي خاصة (خروج 19: 5) وهذا القول يماثله ما أوحى إلى بطرس: «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ ٱقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ ٱلظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ ٱلْعَجِيبِ» (1 بطرس 2: 9).

فكلمة الرسول بولس إذاً، ترمي إلى ما هو أهم من ميراث الله في القديسين. لأنه أي شيء في البشر، يليق بأن يكون ميراثاً لله؟ ولكن الله في حبه العجيب، افتدى الإنسان بدم المسيح، وبرره وقدسه وأعطاه امتياز الشركة في القداسة الإلهية. وهذا القداسة المجيدة المكتملة، هي مجد ميراث الله في القديسين. ولعل هذا ما أراده الرسول الكريم بكلمة «حرية مجد أولاد الله» (رومية 8: 11) إذ يكونون حينئذ قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة، فمن اليديهي إذا أن المؤمنين الذين جملهم الله بالخلاص (مزمور 49: 4)، واختارهم للقداسة وعينهم للتبني بالنعمة، وختمهم بالروح القدس، يكونون ميراثه وهو ميراثهم.

لا نبخس ربنا يسوع حقه الذي له علينا لأجل أكلة عدس، كما فعل عيسو الذي حسب مستبيحاً. ولا نزدري بأي من امتيازاتنا المتعلقة ببكوريتنا. في هذا الاتجاه، يحض بولس أهل كولوسي، قائلاً لهم: «شَاكِرِينَ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ ٱلْقِدِّيسِينَ فِي ٱلنُّورِ، ٱلَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ ٱلظُّلْمَةِ وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ٱبْنِ مَحَبَّتِهِ» (كولوسي 1: 12 و13).

هل عرفت غنى مجد ميراث الله في القديسين؟ إنني أتمنى بتوق الروح أن تكون منهم. وهذا ميسور لك، بقبول يسوع مخلصاً. لأن الكتاب العزيز يقول: أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله.

الصلاة: أيها السيد رب الجنود. أعترف أمامك بجهالتي ولا أكتم إثمي، سائلاً ومتوسلاً أن تقبل توبتي. وتنير عيني ذهني لكي أعلم ما هو رجاء دعوتي. أعطني قوة لكي أسلك كما يحق للدعوة التي دعوتني بها. آمين.

19وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ ٱلْفَائِقَةُ نَحْوَنَا نَحْنُ ٱلْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ 20ٱلَّذِي عَمِلَهُ فِي ٱلْمَسِيحِ، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ، 21فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ ٱسْمٍ يُسَمَّى لَيْسَ فِي هٰذَا ٱلدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي ٱلْمُسْتَقْبَلِ أَيْضاً.

(19) جميل من الرسول أنه طلب لأجل أحبائه الأفسسين أن يعرفوا ما هو رجاء دعوة الله، وغنى مجد ميراثة في القديسين، «وعظمة قدرته الفائقة نحوهم». ولكن الأجمل أنه سأل من أجلهم ضارعاً أن يعرفوا كل هذه الأشياء في صلتها بالمؤمنين. إنها فعلاً طلبة عظيمة، ولعل أعظم ما فيها بالنسبة لنا كمؤمنين هي علاقتها بنا.

إن رؤى الرسول المغبوط، والوساطة الناجمة عنها بلغت هنا ذروة الإعلانات التي يرغب في أن نحاط علماً بها. وحين صلى هكذا، كان يحذر من خطر محدق بكل الذين يتفاخرون بكونهم الأقرب من الحقيقة. لأن الحقائق الأكثر علواً وقداسة بالنسبة لهم يمكن أن تجمد بأبسط المعارف العقلية التي حشوا بها أدمغتهم. مما يجعل كل شيء في خدمتهم مجرد كليشهات أو مجموعة أقوال بلا قوة. وقد أشار صاحب الإعلان إلى هذا الفخ حين قال لكنيسة اللاودكيين، إن الذهب، أي ذهب المعرفة الكتابية، يجب أن يصفى بالنار (رؤيا 3: 18).

فالله في اهتمامه بنا لا يريد أن تكون معرفتنا عقلية بسيطة، وإنما يشاء أن تكون معرفة حقيقية روحية. لندرك ما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا المؤمنين، التي لم يعرف الرسول سوى بعضها (1 كورنثوس 13: 9) ولكن الله يشاء أن نعرفها ددرجة تلو درجة، إلى أن تغمرنا هذه المعرفة، وتوجهنا في حياتنا العملية أحسن توجيه.

في هذه الأيام، حيث تعمل القوى البشرية متحالفة مع قوى الشر، يحسن بك أن تلاحظ دعوتك منجهة المعرفة. فلا تصدق كل روح تعليم، بل امتحن الأرواح، هل هي من الله، لأن أنبياء كثيرين قد خرجوا إلى العالم. بهذا تعرف روح الله: «كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ ٱللّٰهِ، وَكُلُّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَدِ فَلَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ» (1 يوحنا 4: 2 و3).

كل شاب مسيحي حصل على توجيه نقي، يعلم بأن الإنسان ليس مجرد جسد ونفس. أي أنه ليس حياة جسدية، ولا حياة نفسانية، بل هو قبل كل شيء كائن روحي، وقد قال الرسول إنه هيكل للروح القدس (1 كورنثوس 6: 9) فالروح المبارك الساكن في قلب المؤمن (يوحنا 14: 17) يدخل المؤمن في شركة المسيح (1 كورنثوس 6: 17) هذا هو المناخ الروحي الذي دعينا لكي نعيش فيه، والذي فيه يشعر المؤمن بأن الله فعلاً اختاره. ولهذا فهو يحرص على أن يجعل دعوته واختياره ثابتين. وقد عرف بالاختبار أن كل مسيحي أخذ روح التمييز تنفصل حياته شيئاً فشيئاً عن الجسدانيات والنفسانيات لتحلق في عالم الروح. لأن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله، لأن عنده جهالة ولا يقدر أن يعرفه (1 كورنثوس 2: 14-16).

(20) إن قيامة المسيح هي الحجر المركزي في المسيحية. ومن هذه الزاوية يجب أن نذكر أن في قيامة جسد المسيح، التي هي عربون قيامة جسدنا عملاً روحياً، أقام المسيح به كل المتحدين به، من فساد إلى مجد ومن اللعنة والانكسار، إلى البركة والانتصار. وكلما تأملنا في قيامة المسيح من بين الأموات، وجلوسه في يمين الآب، نرى في ذلك مثال التغيير الذي حدث لنا في حالنا الروحية منذ أن قبلنا المسيح مخلصاً، والذي سيتم في المجد، حين بالبر ننظر وجهه ونستيقظ بشبهه (مزمور 17: 15).

(21) هذه الآية تصف المسيح في سمو رفعته «فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة واسم». وقد أتى بولس بهذا الوصف، ليحقق للمؤمن فوائد الفداء التي ينالها كل مؤمن باتحاده بالمسيح.

وبقوله: «ليس في هذا الدهر فقط، بل في المستقبل أيضاً» أراد الرسول أن يتحدى الأجيال بسلطان المسيح المطلق. وهذا يوافق قوله في رسالة فيلبي: «لِذٰلِكَ رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ ٱسْماً فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ» (فيلبي 2: 9-11).

فعرش المسيح متعال جداً فوق كل رياسة، وسلطته واسعة جداً، فوق كل سلطان. ورفعته أزلية أبدية، في الحاضر والمستقبل وإلى الأبد.

الصلاة: عظيم أنت يا رب في ذاتك. كل شيء في سلطانك. من قدم أسست الأرض وهي عمل يديك. لك ينبغي التسبيح. وباسمك يليق الحمد اقبل شكر قلوبنا لأجل مراحمك التي هي لنا كل يوم. أدم لنا هذه المراحم لأجل خاطر يسوع. آمين.

22وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، 23ٱلَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ ٱلَّذِي يَمْلأُ ٱلْكُلَّ فِي ٱلْكُلِّ.

(22) في هذه الآية يصف الرسول الملهم بالروح القدس، الدرجة الثالثة في رفعة المسيح «إخضاع كل شيء له» وكأنه يقول: هكذا حقق فادي البشرية ذلك النصيب الأكمل، الذي أراده وأعده الله للإنسان الكامل، الملخوق على صورة الله في البر وقداسة الحق. وذلك وفقاً للكلمة الإلهية: «وَبَارَكَهُمُ ٱللّٰهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَثْمِرُوا وَٱكْثُرُوا وَٱمْلأُوا ٱلأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا» (تكوين 1: 28) هذا الامتياز تكشف ذات يوم لرجل الله داود، فقال متعجباً: «فَمَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَٱبْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ... تُسَلِّطُهُ عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ. جَعَلْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ» (مزمور 8: 4-6).

ورب سائل يقول: إن ان الله قد أعطى هذه الامتيازات للإنسان. فلماذا يسمح للتجارب والضيقات أن تقع على أولاده؟ لأنه يريد أن نعرف ربنا يسوع المسيح في «قُّوَةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ» (فيلبي 3: 11) ولكي نشترك في قداسته (عبرانيين 12: 10). بهذا التدريب الذي سماه كاتب الرسالة إلى العبرانيين تأديباً، ندرك ماذا يعني العمل الكامل الذي أتمه فادينا على الصليب. هذا ما أشار إليه الرسول حين قال: «إِذْ جَرَّدَ ٱلرِّيَاسَاتِ وَٱلسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ» (كولوسي 2: 15). وهذا يوافق قول يوحنا: «لأَجْلِ هٰذَا أُظْهِرَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ لِكَيْ يَنْقُضَ أَعْمَالَ إِبْلِيسَ» (1 يوحنا 3: 8).

اذكر هذا أن المسيح لكي يكسر القيود التي كبلك بها سلطان الشر، ويرسلك في الحرية، احتمل موت الهوان على الصليب. لذلك فالمناسبة تهيب بك أن تلاحظ دعوتك فلا تتجاهل قوة عدو النفوس ولا تترك الكفاح ضده، سواء كان ذلك حباً بالنوم، أم بسبب نفسير خاطئ لبعض نصوص الكتاب المقدس. فهذا معناه الاستسلام لانجذابات العدو، التي إن لم نصدها تقودنا إلى الغفلة والتحجر في الشكليات.

يا أولاد الله، لا تخافوا من الجهاد؟ لأن الجهاد يعلمكم، أن تعرفوا عظمة إلهكم الفائقة نحوكم. ويقودكم إلى معرفته الكاملة في شركة الود مع مخلصكم، الذي ديعتم لتكونوا متشابهين صورته. وبالتالي لتكونوا معه لتنظروا مجده. لأنكم بفدائه صار لكم الوعد بالشركة في ميراثه. هذا الاختبار الروحي، في حياة الذي يسلك كما يليق بالرب، يتيح لنا أن يثبت في الرب ويكون لنا وعد يسوع للمنتصرين في لاودكية: «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي» (رؤيا 3: 21).

(23) يختم الرسول المغبوط صلاته، متكلماً لأول مرة عن هذا السر العظيم الذي لكنيسة يسوع المسيح. فيعلن لنا أنها كاملة في فكر الرب. وعليها أن تكون كذلك في أفكار أولاده. وما أجمل مناخ «كنيسة الله التي اقتناها بدمه» الذي فيه نتنفس هواء السماء البالغ النقاوة! هذا المناخ متأت عن كون يسوع هو الرأس والكنيسة أعضاء جسده. ونحن كأعضاء في هذا الجسد ا لمقدس، دعينا لكي نحفظ وحدانية الروح برباط السلام.

في الأصحاح الثاني من هذه الرسالة، يمتد بنا الرسول إلى حقيقة الخراب الأرضي، الذي يشاء الرب أن نسلك حياله بطريقة لائقة بالدعوة التي دعينا بها. وكأولاد نور علينا أن نحيا كما يحق لهذه الرؤى السماوية التي وضعها الرسول أمامنا، متحملين في ذات الوقت قسطنا من الآلام ووضع النفس، التي تنتابنا ونحن نرى الخراب والشكوك والظنون التي يعاني منها العالم الذي نعيش فيه، والذي دعينا لكي نسلك فيه كأولاد نور متمسكين بكلمة الحياة.

وهناك حقيقة تجب الإشارة إليها وهي إن كنا قد ارتدينا القوة التي سألها الرسول في صلاته من أجل أحبائه الأفسسيين، وإن كنا قد اختبرناها فعلاً، فإن الجدير بنا أن نتخلص من الشكليات السائدة في المسيحية الاسمية، والتي جمدت نشاط الكنيسة لأجل نشر ملكوت المسيح. وأن لا نتساهل أمام أي فكر يتجنى على الحق والاستقامة اللذين في المسيح.

الصلاة: أيها السيد الرب إلهنا. نشكرك للدعوة التي دعوتنا بها، لكي نكون أعضاء في كنيسة المسيح التي هي جسده وهو رأسها. أعطنا القوة لكي نعيش في نقاوة قلب وطهارة سيرة كما يليق بقديسين. آمين.

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي

1وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا، 2ٱلَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلاً حَسَبَ دَهْرِ هٰذَا ٱلْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ ٱلْهَوَاءِ، ٱلرُّوحِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ ٱلآنَ فِي أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ، 3ٱلَّذِينَ نَحْنُ أَيْضاً جَمِيعاً تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ ٱلْجَسَدِ وَٱلأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِٱلطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ ٱلْغَضَبِ كَٱلْبَاقِينَ أَيْضاً.

(1-3) بعد أن تكلم الرسول في الأصحاح السابق عن أفكار وطرق الله نحو المؤمنين، وبعد أن صلى لأجلهم، بدا يهبط بنا إلى جب هلاكنا. قال: «وأنتم إذ كنتم أمواتاً بالذنوب والخطايا». والموت المقصود هنا هو الموت الروحي. الذي هو بعد النفس عن الله. لأنه كما أن الموت الجسدي ينشأ عن ا نقطاع الصلة بين الجسد وأسباب الحياة كالماء والهواء والغذاء. كذلك يقع الموت الروحي عند انقطاع الصلة بين النفس والإله الحي، الذي هو مصدر حياتها.

في الحقيقة أن الإنسان ليس مجرد ضحية، جنى عليها المجتمع. بل هو نفسه جان ومسبب ألماً للآخرين. وحين نتأمل الناس حولنا نرى أن كثيرين أشرار، وكلهم بالطبيعة أرديا. وكل واحد يتهم قريبه. وهذا ما أشار إليه الرسول إذ قال: «وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ ٱلنَّامُوسُ فَهُوَ يُكَلِّمُ بِهِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلنَّامُوسِ، لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ، وَيَصِيرَ كُلُّ ٱلْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ ٱللّٰهِ... إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ، مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ» (رومية 3: 19، 23، 24).

فالإنسان في حالته الطبيعية، لا يحتاج إلى إصلاح بل إلى تجديد. قد يظن بعضهم أن التدين، يستطيع أن يحل المشكلة. ولكن التدين مهما بلغ الإخلاص فيه، لا يستطيع أن يخلص، لأنه مبني على تقاليد من صنع الناس حسبها المسيح عبادة باطلة (مرقس 7: 9). الإنسان كما هو يحتاج إلىكلمة الله المعلنة، التي تحرره وتنقي قلبه من الشوائب (يوحنا 15: 3). لذلك يجب أن ندرسها لكي تدخل النور إلى نفوسنا. لأن كلمة الحق إنجيل الخلاص، تعبير للحياة الإلهية في الإنسان، بدليل قول المسيح: «اَلْكَلاَمُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ» (يوحنا 6: 63).

لما كان لكلمة الله الحية هذا التأثير الفعال في حياة الناس، فقد نشط الشيطان وأعوانه من بين البشر ضدها. فتناولوها بالنقد والتجريح وقصدهم إبعاد الناس عنها وصدهم عن مطالعتها.

ونلاحظ في هذا الفصل من رسالته، أن بولس، حرص على أن يقتاد المؤمنين إلى قمة الإعلان الإلهي. ولكنه قبل كل شيء أراد أن نتأمل في طبيعتنا الساقطة: ولهجة الرسول هنا ترتدي طابع الخصوصية، لأنه يتكلم عن كل إنسان كما هو في الطبيعة «ابن الغضب» ويقرر مسؤوليتنا الفردية. وبكلمة أخرى أن الرسول أراد أن يذكر كل إنسان أنه كائن أدبي، وأن العدل الإلهي يجعله مسؤولاً أمام الله عن تدعور أدبياته. لأن الله جعل في كل منا ضميراً حياً، يحكم على الأمور ويميز خيرها من شرها. بمعنى أن الإنسان حتى الطبيعي، يشعر بمذنوبيته. ولكن للأسف فإن بعض الناس يستسلم إلى طغيان الجسد، وبعض آخر ينجرف في تيار هذا العالم، الذي وضع كله في الشرير. والجميع مع أنهم يتعلمون ويتفقهون، إلا أنهم بسبب تفضيل أعمال الظلمة لا يستطيعون أن يقبلوا إلى معرفة الحق (2 تيموثاوس 3: 7).

ولعل أشر ما في حالة أبناء هذا الدهر، هو أنهم في ممارستهم الدينية والاجتماعية صاروا ألعوبة في يد الحكمة البشرية والتدين الشكلي، الذي له صورة التقوى ولكنه خال من قوتها. وهكذا أوجدوا أنفسهم بلا خلاص وبلا رجاء في العالم.

صحيح أن يد الرب لم تقصر عن أن تسمع (إشعياء 59: 1) ولكن الرب لا يخلص إنساناً رغم إرادته! وصحيح أن الرب رحوم، ولكن رحمته لا تتدخل، إلا إذا أقر الإنسان بذنبه وقبل خلاص الله الذي أعده في المسيح يسوع.

الصلاة: أعترف أمامك يا إلهي، بأنني بالطبيعة ابن الغضب ولكنني أطرق باب نعمتك باسم الفادي يسوع، متوسلاً أن تقبل توبتي وتغفر آثامي وتجعلني ابناً للرضى. آمين.

4اَللّٰهُ ٱلَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي ٱلرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ ٱلَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، 5وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِٱلْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ ٱلْمَسِيحِ - بِٱلنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ -

(4-5) من المناخ المليء برائحة الموت بالخطايا، انتقل بنا الرسول إلى جو نقي مفعم برائحة المبحبة والنعمة، وقد استهل قوله باسم الجلالة «الله» وهل من كلمة يتلفظ بها الإنسان لتعبر عن اطمئنانه وبهجة قلبه مثل هذه الكلمة الله؟! ثم يعقب الرسول الكريم على اسم الجلالة بثلاث كلمات رائعة: الرحمة والمحبة والنعمة.

  1. الرحمة: في رومية 9: 20-23 نقرأ هذه العبارات: «مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي تُجَاوِبُ ٱللّٰهَ؟ أَلَعَلَّ ٱلْجِبْلَةَ تَقُولُ لِجَابِلِهَا: «لِمَاذَا صَنَعْتَنِي هٰكَذَا؟» أَمْ لَيْسَ لِلْخَّزَافِ سُلْطَانٌ عَلَى ٱلطِّينِ أَنْ يَصْنَعَ مِنْ كُتْلَةٍ وَاحِدَةٍ إِنَاءً لِلْكَرَامَةِ وَآخَرَ لِلْهَوَانِ؟ فَمَاذَا، إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ وَيُبَيِّنَ قُّوَتَهُ، ٱحْتَمَلَ بِأَنَاةٍ كَثِيرَةٍ آنِيَةَ غَضَبٍ مُهَيَّأَةً لِلْهَلاَكِ - وَلِكَيْ يُبَيِّنَ غِنَى مَجْدِهِ عَلَى آنِيَةِ رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجْدِ» ففي كلتا الرسالتين شاء الرسول أن يوجه الأنظار إلى البون الشاسع بين حالين: حال طبيعة كان عليها المفديون قبل إيمانهم، وحال أٰخرى أوصلتهم إليها النعمة الإلهية بعد أن آمنوا. وما أشبه هذا التطور في حياتهم بعمل الخليقة، حين كانت الظلمة على وجه الغمر، فقال الله: «لِيَكُنْ نُورٌ» فَكَانَ نُورٌ... وَفَصَلَ ٱللّٰهُ بَيْنَ ٱلنُّورِ وَٱلظُّلْمَةِ» (تكوين 1: 1-4).

  2. المحبة: المحبة جوهر صفات الله، كما هو مكتوب: «الله محبة» (1 يوحنا 4: 16) وقد بين لنا محبته، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لاجلنا (رومية 5: 8). هذا هو سر الفداء، محبة الله. «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16). قال أحد الأتقياء بمكن للناس أن يتبينوا آيات يدي الله مطبوعة على سفر عنايته، إلا أنهم يحسون بنبضات قلبه المحب حين يلقون نظرة على الصليب.

    إن المحبة التي أشار إليها بولس هنا ليست محبته العامة لجميع الخلائق المعبر عنها بإحسانه ولطفه (تيطس 3: 4) وإنما هي عاطفته القلبية نحو أبنائه المؤمنين، الذين اختارهم ليكونوا قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة.

  3. النعمة: قال الرسول: بالنعمة أنتم مخلصون. وقال في رسالته إلى أهل كورنثوس: «فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ ٱفْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ» (2 كورنثوس 8: 9). فالنعمة المشتقة عن هذا الحب العظيم، تعبر عن قلب الله الغني بالرحمة، التي تتغعاضى عن جهالات الماضي، وتبدل الحاضر من فاسد إلى طاهر، وتعطي المؤمن ضماناً أكيداً للمستقبل. لأجل ذلك يحضنا بطس لننمو في الروحيات، إذ يقول: «ٱنْمُوا فِي ٱلنِّعْمَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (2 بطرس 3: 18).

كل هذا من أجلنا، ولكن ليس لاستحقاق فينا، ولا لبر في أعمال عملناها. بل بمقتضى رحمته الغنية، ولأجل محبته الكثيرة، التي أحبنا بها. فنعمة الله تلك القبة السماوية التي لا يمكن أن تستقصي أبعادها، والتي أنوارها مركزة على يسوع وإياه مصلوباً. وفي كلمة أخرى أنه فيما العالم يقبع في قلب الظلمة البغيضة، أشرق الله بنوره حب ابنه على كل ابن ضال، صمم على العودة إلى حضن أبيه. وقوة هذا الحب العجيب الذي كلف الله موت ابنه الحبيب، عملت وما زالت تعمل بالنعمة من أجل الجنس البشري، من أجلنا نحن. إنها تحاصرنا من خلف ومن قدام من وفوق ومن أسفل، وتجاهد فينا لكي تصيرنا إلى صورة ابن الله.

لقد أحيانا مع المسيح بالولادة الروحية، واهباً لنا المواعيد العظمى والثمينة، التي بها صيرنا شركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة (2 بطرس 1: 3-4) لقد أعطانا طبيعة جديدة وأفكاراً جديدة تتيح لنا السلوك فصاعداً بحسب ناموس روح الحياة في المسيح يسوع، محطماً عنا قيود ناموس الخطية والموت (رومية 8: 1 و2).

إذا فبقدر ما أنمو في المسيح بواسطة كلمته العاملة فيّ تتلاشى طبيعتي العتيقة، تاركة المكان للحياة الإلهية، وفقاً لقول يوحنا المعمدان: «يَنْبَغِي أَنَّ ذٰلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ» (يوحنا 3: 30).

من جهة اختباري أقول: إن من أهم الأدلة على محبة الله التي تفوق كل عقل هو النعمة التي أتاحت لي القدرة على حياة جديدة عليها ملامح المسيح. وفي تعبير آخر، إني قبلت خلاص المسيح فحدث تغيير في حياتي، وكان نموي في المسيح يسير تبعاً لما أتحت لمخلصي أن يعمل في حياتي. وذلك استجابة لإيماني وطاعتي.

الصلاة: أشكرك ايها الرب المسيح، لأنك رحمتني وتغاضيت عن ذنوبي وسترت عيوبي بالفداء، كما عملك الصالح في حياتي منعماً، إكراماً لمحبتك. آمين.

6وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، 7لِيُظْهِرَ فِي ٱلدُّهُورِ ٱلآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ ٱلْفَائِقَ بِٱللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ.

(6) القيامة مع المسيح: هي انعتاق وتحرر للمؤمن، وفاقاً للقول الرسولي: «لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ ٱلْحَيَاةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ وَٱلْمَوْتِ» (رومية 8: 2). فمخلصنا له المجد قطع ربط الموت، التي نجمت عن حب العالم الحاضر، والتي كانت تقيدنا. وقد قطع هذه الربط لكي يقيمنا معه، ويجلسنا معه في السماويات منذ الآن. لأنه بإقامتنا معه روحياً جعل سيرتنا في السماء، وفقاً لإرادة الآب رب السماء.

لقد عرف بالاختبار أن عمل المسيح، يتيح لنا أن نسير قدماً في مرحلة جديدة من حياتنا تختلف عن مراحل الماضي. صحيح أننا ما زلنا في العالم، ولكننا في حياة الشركة مع فادينا، نبدو وكأننا لسنا من العالم لأننا نعيش منتظرين ذلك اليوم الذي فيه تتم لأجلنا طلبة المسيح حين قال في صلاته الشفاعية: «أَيُّهَا ٱلآبُ أُرِيدُ أَنَّ هٰؤُلاَءِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 17: 24).

لقد وصف الرسول الذين أجلسهم المسيح معه في السماويات بالغرباء والنزلاء (عبرانيين 11: 13) وأهاب بهم أن يتصرفوا وفقاً لذلك إذ قال: «إِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فَٱطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ ٱلْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ. ٱهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى ٱلأَرْضِ، لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فِي ٱللّٰهِ» (كولوسي 3: 1-3).

إن كلمة «أجلسنا معه في السماويات» ترفع أفكارنا إلى صعود المسيح بعد أن أكمل الفداء. وكأن الرسول يقول، نحن شركاء المسيح في القيامة والصعود باعتبار اتحادنا به وكونه رأسنا ورئيسنا وفادينا وولينا ونائبنا وبكلمة أخرى أننا بقيامة المسيح، قمنا من موت الخطية وانتقلنا من حال الدينونة والشقاء، إلى حال الغفران والسعادة.

اذكر هذا. أن المسيح إذ كنت في حالة العداوة مع الله صالحك بموته على الصليب. فبالأولى كثيراً وأنت مصالح به الآن أن تخلص بحياته (رومية 5: 10) وبانتظار أن تراه كما هو، أعطاك امتياز وشركة القديسين لتكون سفير عنه كأن الله يعظ بك، تطلب عن المسيح تصالحوا مع الله (2كورنثوس 5: 20).

(7) إن غاية الله من عمل الفداء، إظهار محبته غير المحدودة وغنى معمته الفائق ولطفه الذي لا يستقصى لمن لا يتسحقون. بحيث نرى في خلاص كل خاطئ آية جديدة تدل على نعمة الله، كما أوضح الرسول نفسه حين قال: «لِهٰذَا رُحِمْتُ: لِيُظْهِرَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ فِيَّ أَنَا أَّوَلاً كُلَّ أَنَاةٍ، مِثَالاً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ» (1 تيموثاوس 1: 16).

إن لطف الله علينا في المسيح ظاهر من كوننا غير مستحقين تلك النعمة. وقد قال المسيح أن الله منعم على غير الشاكرين والأشرار (لوقا 6: 35).

صحيح أن لطف الله نحو البشر ظاهر في الطبيعة، حيث أعد الله للإنسان كل أسباب التمتع. إلا أن الطبيعة مشوبة بأمور قاسية كالزلازل والبراكين والإعصارات المدمرة. ولكن في المسيح، ظهر لطف الله غير مشوب بقساوة. ففي حياته وتعليمه وموته عنا دليل على عناية فائقة وحب لا نظير له.

الصلاة: الشكر لك أيها السيد رب الخلاص للحب العجيب الذي أحببتنا به قبل تأسيس العالم. ولأنك في ملء الزمان عبّرت عن هذا الحب بالفداء العظيم، فخلصتنا بالنعمة. ثبتنا في هذه النعمة ولك كل الشكر.

8لأَنَّكُمْ بِٱلنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِٱلإِيمَانِ، وَذٰلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ ٱللّٰهِ. 9لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ.

يختم الرسول هذا المقطع من رسالته بهذا الإعلان المجيد، «الخلاص بالنعمة» وبكلمات وجيزة بيّن أعظم حقيقة سماوية. وهل من حقيقة أمجد من هذه، أن يكون عدد لا يحصى من المؤمنين، قد حصلوا على خلاصهم بالاستناد إلى هذه العبارات، وتأكدوا من إيمانهم؟!

ومن دواعي غبطة المخلص بالنعمة أن الله في غنى لطفه خلص المؤمن من الخطية ومن إثمها ومن سلطانها. وخلصه من قوات الظلمة، التي تلف العالم، وتدير حياة البشر. كما قال الرسول بولس آنفاً أن الإنسان الساقط، قد خلص، لكي يمتلك هنا على الأرض صحة أدبية كاملة. ولكي يستطيع أن يعيش لأجل يسوع المسيح ويخدمه. وفقاً للكلمة الرسولية القائلة: «فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا ٱللّٰهَ ٱلْحَيَّ!» (عبرانيين 9: 14).

«بالنعمة مخلصون» كلمة معناها أنه ليس إنسان يمستطيع أن يخلص نفسه. لأن الخلاص من الله، وهو يعبر عن نعمته ورحمته، التي لا تستقصى، وحبه الذي ظهر في تجسد المسيح وموته النيابي عن الخاطي على الصليب، الذي هو النقطة الفاصلة في خلاص العالم. مات عن خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا. وهذا يعني أن كل ما يمكننا أن نرجوه من الله أو نناله، إنما يصدر من النعمة فقط.

تقول الكلمة الإلهية أنه أمام الله لا يتبرر ذو جسد. فلا أعمال الإنسان ولا اجتهاداته الذاتية بمستيطعة أن تخلصه. والكلمة الإلهية لفظت حكمها، قائلة: «لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ، مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لِإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ» (رومية 3: 22-25).

أمام الفداء يقر الإنسان بأن الدينونة التي تهدده هي حق. ولكن قصاصه قد رفع لأن يسوع دفع أجرة الخطية عنه، وبذل نفسه لأجل خلاصه. هكذا «ظَهَرَتْ نِعْمَةُ ٱللّٰهِ ٱلْمُخَلِّصَةُ لِجَمِيعِ ٱلنَّاسِ... وَلٰكِنْ حِينَ ظَهَرَ لُطْفُ مُخَلِّصِنَا ٱللّٰهِ وَإِحْسَانُهُ - لاَ بِأَعْمَالٍ فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ - خَلَّصَنَا» (تيطس 2: 11، 3: 4 و5).

إن النعمة التي يوزعها الله لا تتضمن أي التزام من قبله تعالى. فهو يخلص بكل بساطة كل من يؤمن، لأنه يحب خليقته وإن كانت ساقطة (يوحنا 3: 16) ومن أعمال النعمة أنها تشعر الإنسان بمذنوبيته وبحقيقة الحكم عليه، بحيث تثير فيه القناعة بأنه لا يمكن أن يتبرر بوسائله الذاتية. فيقبل إلى المخلص.

«بالنعمة مخلصون بالإيمان» هذه الكلمة تبين أنه مقابل حبه الفائق ورحمته الغنية باللطف، يطلب الله من الإنسان شيئاً واحداً أن يؤمن! هكذا نقرأ: «لأَنَّكَ إِنِ ٱعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ ٱللّٰهَ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، خَلَصْتَ. لأَنَّ ٱلْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ، وَٱلْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ» (رومية 10: 9 و10).

فالإيمان الخلاصي هو عطية الله الكاملة للإنسان. والرسول إذ يشدد على هذه النقطة يظهر خطورة جنون الإنسان، الذي يدعى بأنه يخلص بأعماله الذاتية، أو باستحقاقاته الشخصية. وبهذا يتحدى الله ببره الذاتي. فهلا فكرنا في ادعاء كهذا! وهلا وزناه في ميزان الحقيقة!

أنا لست مخلصاً بأعمالي الحسنة، أو باستحقاقاتي، بل أنا مخلص بفداء مخلصي وباستحقاقاته. وهذا بالنعمة الإلهية الغنية بالغفران.

في الحقيقة لو كان الخلاص من الأعمال لكان أجرة يجب على أن أن يؤديها. وللخاطي حق أن يطلبها، أو يطلبها بفخار. وعندئذ تشطب كلمة نعمة من معاجم اللغة، ويكون موت المسيح باطلاً.

كلا! أنه يستحيل على الله أن يرضى بأن يقف الخاطي أمامه معجباً بنفسه، ناسياً خلاصه إلى استحقاقه. لقد دفع الرسول ذلك بما أتى بن من الاحتجاج المفصل إلى أهل رومية. وقد استهله بالقول أين الافتخار قد ا نتفى (رومية 3: 27).

الصلاة: اللهم أبا الرأفة، وإله كل تعزية، إنني أشكرك لأجل النعمة المخلصة، ولأجل الإيمان الذي وهبتني ليتجاوب مع نعمتك الغنية بالصفح. قوني في إيماني حتى أثبت في خلاصي. آمين.

10لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا.

«بالنعمة أنتم مخلصون... أنتم عمله، مخلوقين في المسيح» عبارات تدل على أن الخلاص عمل الله وعطية منه. والمطلوب من الإنسان أن يقبل بالإيمان ما أعده الله له. بمعنى أن الذي نال خلاص الله بكليته عمل مخلصه. وكأنه كتلة من الطين في يدي الخزاف فصنع منها آنية للمجد. أو كأنه خشبة في يدي النجار الإلهي عمل فيها، فأزال قشورها الطبيعية وهذبها ووشاها بذهب طبيعته السماوية واستعملها في بناء بيته الروحي. هذا ما أشار إليه بطرس بقوله: «قُدْرَتَهُ ٱلإِلٰهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَٱلتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ ٱلَّذِي دَعَانَا بِٱلْمَجْدِ وَٱلْفَضِيلَةِ، ٱللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا ٱلْمَوَاعِيدَ ٱلْعُظْمَى وَٱلثَّمِينَةَ لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ ٱلطَّبِيعَةِ ٱلإِلٰهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ ٱلْفَسَادِ ٱلَّذِي فِي ٱلْعَالَمِ بِٱلشَّهْوَةِ» (2 بطرس 1: 3 و4).

إن الكلمة «نحن عمله» حين نقابلها بما ورد في رسالة رومية 1: 20 يتضح لنا أن المسيحي مدعو لأن يكون فصيدة الله أمام العالم. أو كما عبر عنه بولس في مكان آخر: «أنتم رسالة المسيح»... «أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا، مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا، مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً مِنْ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ. ظَاهِرِينَ أَنَّكُمْ رِسَالَةُ ٱلْمَسِيحِ، مَخْدُومَةً مِنَّا، مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ، لاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ» (2 كورنثوس 3: 2 و3).

في هذا الإعلان حقيقة عظيمة وحافز ملهم، ولكن في الوقت عينه تحذير خطير. فكل إنسان هو رسالة مفتوحة ليسوع المسيح. وكل مسيحي سواء أراد أم لم يرد هو إعلان للمسيح والمسيحية. أي أن كرامة الكنيسة ومجد المسيح يتركزان في أيدي تابعيه. فالعالم يحكم على المسيح من خلال ما يرونه من سلوك تابعيه. فقد شهد ديك شبرد الذي ظل سنين عديدة يعظ الناس أنه اكتشف أن أكبر معطل يعرقل عمل الكنيسة في العالم هو الحياة غير اللائقة وغير المدققة التي يعيشها عدد كبير ممن يزعمون أنهم مسيحيون. فليتنا عندما نخرج إلى العالم يكون فينا الإحساس بالمسؤولية التي علينا، وهي كوننا رسائل أو إعلانات عن المسيح.

«نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع» أي أن كل مؤمن بالمسيح، هو في المسيح خلقة جديدة. والله يوضح لنا بهذه الكلمة أننا لسنا فقط مخلوقين لنتم عمله. بل نحن قبل كل شيء وجدنا لكي يعمل فينا، ثم ليعبر عن ذاته للآخرين بواسطة حياته فينا. وفي كلمة أخرى أننا قبل أن نخدم الله، يجب أن نكون عمله. هكذا يكيف الذين اختارهم، ليكونوا قديسين وبلا لوم، وفقاً لمخطط الاختيار الذي سبق فأعده قبل تأسيس العالم لأجلهم. أنه بقدرته الخالقة يجعلهم أكفاء للدخول في الخدمة التي وجدوا لكي يقوموا بها. وهذا ما ينتظر من كل مسيحي مخلص بالنعمة.

«مخلوقين في المسيح يسوع» كلمة تعني أنه في الماضي الأزلي رآنا الله، وأنه الآن يرانا أيضاً، ويقيمنا على خدمته في المجتمع! إنه يرى أيضاً إلى أبعد جداً، إلى ما في المستقبل الأبدي. ولكن هناك معارك وانتصارات تفصلنا عن أبواب السماء الذهبية. وعلينا أن نذكر أن الحياة المسيحية والمسيحي نفسه هما نتيجة خلق إلهي جديد، يبدأ منذ الولادة من الله. وينمو إلى صورة ذاك الذي افتدانا.

في الواقع أن الخلاص في المسيح هو عمل إلهي، ولكنه مضوع في أوان خزفية ليكون فضل القوة لله لا منا (2 كورنثوس 4: 7) ولكي يؤول هذا العمل الإلهي إلى رفع أصواتنا بالتسبيح لمجده العظيم.

وبإيجاز أن ما قيل هنا يستلزم أن الأعمال الصالحة نتيجة الاختيار والتبرير لا علتها. وهذا يستأصل من المؤمن كل افتخار بها. ولا يستلزم أن المختار للخلاص معفى من الأعمال الصالحة، بل يقتضي أن يكون الذي يخلص غيوراً أمام الله مجتهداً في السلوك في طريق القداسة. كما جاء في قول بولس: «أَنَا أَفْعَلُ شَيْئاً وَاحِداً: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ. أَسْعَى نَحْوَ ٱلْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ ٱللّٰهِ ٱلْعُلْيَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي 3: 13 و14) وعلينا أن نلاحظ أن الله أعد الأعمال الصالحة لكي نسلك فيها لا لكي نخلص بها.

الصلاة: نشكرك يا ربنا، لأنك تريد أن الجميع يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون. افتح البصائر في هذه الأيام لكي يرى الناس مجدك في الخلاص الذي أعددته بالنعمة، ويقبلوا إلى المخلص الرب. آمين.

11لِذٰلِكَ ٱذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ ٱلأُمَمُ قَبْلاً فِي ٱلْجَسَدِ، ٱلْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ ٱلْمَدْعُوِّ خِتَاناً مَصْنُوعاً بِٱلْيَدِ فِي ٱلْجَسَدِ، 12أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ ٱلْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ إِلٰهٍ فِي ٱلْعَالَمِ.

كانت الكنيسة الأولى التي تأسست في أورشليم تواجه صعوبة كبرى، في موضوع الاعتراف بأن المؤمنين من أصل أممي، لهم ذات الامتيازات للمؤمنين من أصل يهودي. وقد لاقى هذا الموضوع اهتمام كتبة الوحي، فأفرزوا له فصلين من العهد الجديد:

  1. أعمال 15، الذي فيه وصف للمجمع الكنسي الأول، الذي عُقد في أورشليم. وكان جوه في البداية مشحوناً بتضارب الآراء حول مساواة الأمميين، الذين قبلوا يسوع باليهود الذين انضموا إلىالتلاميذ.

  2. كذلك في الأصحاح الثاني من رسالته إلى أهل غلاطية، يشير بولس إلى انقسام كان ناشباً بين المعتبرين في الكنيسة حول الموضوع نفسه. وكان الشق واسعاً بمقدار أن القادة لم يستطيعوا التخلص كلياً من آثاره. ونتج عن ذلك أن بولس اضطر لأن يتخذ مركزاً لعلمه المرسلي خارج أورشليم، إذ جعله في مدينة أنطاكية، حيث كانت له الفرصة للشهادة دون نزاع. ومن هناك انطلق مع برنابا للكرازة بين الأمم. وأتيح له أن يؤسس عدة كنائس في بلدان مختلفة، على الحق الذي في يسوع. وفي كتاباته وعظاته وصلواته، كان يجاهد لرأب الصدع، الذي أحدثه وجود صوتين في الكنيسة حول المساواة بين اليهود والأمم. وقد أعلن للمؤمنين ما سمعه من المسيح «أن الأمم لهم حرية القدوم إلى الله والتمتع بغنى المسيح الذي لا يستقصي وشركة الروح القدس».

(11) أستهل بولس هذا القسم من رسالته بتذكير الأفسسيين بالماضي. وكم هو جميل أن نذكر كيف كنا في الطبيعة، وكيف عملت نعمة الله المجيدة لأجلنا وفينا. لقد صيرتنا في المسيح خلائق جديدة، «ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2 كورنثوس 5: 17).

حين وقف أعضاء من كنيسة أورشليم في وجه بطرس ولاموه، قائلين له: أنك دخلت إلى رجال ذوي غلفة وأكلت معهم (أعمال 11: 3) كان تصرفهم لا يليق بمن عرفوا يسوع في اتضاعه. كانوا متشامخين ومتجنين على الحق. ولهذا دفع الرسول هذا اللوم بموضوعية، مذكراً أعضاء المجمع الأورشليمي وقائلاً: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنْذُ أَيَّامٍ قَدِيمَةٍ ٱخْتَارَ ٱللّٰهُ بَيْنَنَا أَنَّهُ بِفَمِي يَسْمَعُ ٱلأُمَمُ كَلِمَةَ ٱلإِنْجِيلِ وَيُؤْمِنُونَ. وَٱللّٰهُ ٱلْعَارِفُ ٱلْقُلُوبَ شَهِدَ لَهُمْ مُعْطِياً لَهُمُ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ كَمَا لَنَا أَيْضاً. وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِشَيْءٍ، إِذْ طَهَّرَ بِٱلإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ» (أعمال 15: 7-9).

وبالنسبة لنا نحن الأمم العائشين في هذا العصر، يتعذر علينا أن نقدر تماماً الحرمان الذي كان الأمميون يعانونه قديماً. فقد كانوا في نظر اليهود من المزدرى وغير الموجود، حتى أنهم لقبوه بالكلاب. وما كان اليهودي يتناول طعامه، إذ اوقع عليه ظل أممي. وكانت غاية بولس من تذكير الأمم بهذه الاعتبارات، أن يوجد فيهم روح الشكر للرب الإله لأجل إحساناته للأمم، ولكي يكونوا متواضعين.

(12) بعد أن فرغ الرسول من الكلام عن الختان، الذي كا ن يحسبه اليهود ميزة عظمى يتفاخرون بها على الأمم، انتقل إلى المزايا الحقيقية، التي كان الأمميون محرومين منها قبل اهتدائهم: «بدون مسيح» وماذا يكون مصير الإنسان بدون المسيح، غير الهلاك الأبدي؟ الكون نفسه بدون المسيح يستلزم كل شر، كما أن الاتحاد بالمسيح يستلزم كل خير. المسيح هو الفادي الوحيد، والوسيط الفريد بين الله والناس. فإذا كان الإنسان بدونه، كان بدون فداء، وبدون واسطة التقرب إلى الله.. بدون المسيح يصبح المرء بعيداً عن عهود الله ومواعيده، التي قطعها لإبراهيم، حين قال له: تتبارك فيك جميع قبائل الأرض (تكوين 12: 3، 22: 28). بدون المسيح يكون المرء بلا رجاء الفداء، الذي هو رجاء الحياة والخلود الذي أتى به المسيح.

الصلاة: أُعظم اسمك يا إلهي الصالح، وأشكرك لأنك لم ترجفني بغضبك حين أخطأت إليك، بل تأنيت عليّ وأعطيتني التوبة فرجعت إليك. قوني في توبتي وثبتني في إيماني. آمين.

13وَلٰكِنِ ٱلآنَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ ٱلْمَسِيحِ.

إنه لجميل جداً أن يذكر الإنسان ماضيه، فلا ينسى الصخر الذي منه قطع، ولا نقرة الجب التي منها حفر (إشعياء 51: 1) لكن انصراف الفكر كلياً إلى الماضي، يجعل الإنسان في معزل عن حاضره ومستقبله، وبذلك يترك نفسه فريسة للغفلة. بهذا بعد أن فرغ الرسول من تذكير الأفسسيين بماضيهم الشقي الملوث، أخذ يوجه أنظارهم إلى حاضرهم المعبوط المقدس. كان يقول لهم: كما أن الشقاوة حلت بكم، لأنكم كنتم بدون المسيح. كذلك السعادة حلت بكم، لأنكم صرتم في المسيح.

الشكر لله لأن نعمته المجيدة أدركتنا، ولم تستطع أيّة أبعاد أن تمنعها من أن تقربنا إلى الله، وتجعل منا أبناء محبوبين للآب رب السماء. وهكذا باتحادنا بالمسيح، تحققت سعادتنا. كنا بعيدين فصرنا قريبين. لقد فتش عنا نحن الخطاة، في الوقت الذي كنا مبتعدين جداً، وأتى بنا إلى قرب قلبه. وأكثر من هذا أنه أعطانا أن نتحد بالمسيح، وتبعاً لذلك صار لنا امتياز الاشتراك في قداسته.

كيف يتم هذا الانقلاب في حياتنا؟ «بدم المسيح». بهذه الكلمة يؤكد بولس أن لفتة الحنان من قبل الله وكل ثمار نعمته تنبع من دم الكفارة، دم المسيح المعروف سابقاً قبل تأسيس ا لعالم. وهذا الدم الكريم، لم يمح فقط خطية المؤمنين من أصل يهودي (متى 1: 21) بل أيضاً محا خطايا جميع الأمم الذي آمنوا ويؤمنون، لا فرق بين قبيلة أو شعب أو لسان أو أمة (لوقا 24: 47) لأن النعمة الإلهية تهب للجميع كل ما هو للحياة.

«لأنه هو سلامنا» - هذه العبارة خير لما جاء في إشعياء 57: 19 «سَلاَمٌ سَلاَمٌ لِلْبَعِيدِ وَلِلْقَرِيبِ» قَالَ ٱلرَّبُّ، «وَسَأَشْفِيهِ» هذا هو سلام الله الذي صار في المسيح إلى كل فاهم طالب الله. أو كما قال المرنم:

Table 1. 

هذا سلام لي شراهرب الفدا بالصلب  
كالنهر يجري يصفاهيروي ظماء القلب  

«كنتم قبلاً بعيدين» بالنسبة للنظام الموسوي، الذي أقصى الأمم عن المزايا الممنوحة للأتقياء حساً ومعنى. الأمر الذي جعلهم أجنبيين عن الله في عبادتهم الوثنية وأفكارهم الحمقاء وقلوبهم المظلمة بالغباء (رومية 1: 21). ولهذا قال بولس بحق: كنتم بعيدين عن الله، أما الآن فصرتم قريبين بدم المسيح. فالعامل الأساسي في هذا الانقلاب الممتاز هو المسيح، الذي أقام سلاماً بين الله والإنسان لا فرق بين جنس أو لون. وإذا كان المسيح هو العامل الأساسي في إقامة هذا السلام فإن الدم كان الوسيلة لمحو العداوة.

منذ أقدم العصور التي نشأت فيها البشرية على الأرض كانت معاهدات الصلح تعقد وتختم بالدم. فالدم كان الختم لكل معاهدة أو تحالف أو مصالحة بين الناس. وفي المعنى الديني كان الدم أساساً لكل مصالحة تجري بني الله والناس. هكذا نقرأ في الكتاب العزيز: «هٰذَا هُوَ دَمُ ٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي أَوْصَاكُمُ ٱللّٰهُ بِهِ»... وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيباً يَتَطَهَّرُ حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ بِٱلدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عبرانيين 9: 20-22).

فالمسيح له المجد أدخلنا إلى عهد جديد بدمه المبارك. إذ قال لخاصته في أثناء العشاء الأخير وهو يناولهم كأس الفصح: «هٰذَا هُوَ دَمِي ٱلَّذِي لِلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ ٱلَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا» (متى 26: 27). ومع أن موت المسيح، آنذاك بدا كعلامة ضعف من جانب المسيح المصلوب، إلا أنه له المجد غلب وانتصر بقيامته على الموت فحصل لنا بدم المسيح فداء أبدياً.

الصلاة: نشكرك أيها المسيح الرب من أجل دمك الذي سُفك على الصليب لكي يمحو خطايا العالم ويصالح الكل مع الله. أعطنا أن نعرف ونقدر هذا الدم الذي أوجد لنا فداء أبدياً.

14لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلٱثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ ٱلسِّيَاجِ ٱلْمُتَوَسِّطَ 15أَيِ ٱلْعَدَاوَةَ. مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ ٱلْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ ٱلٱثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَاناً وَاحِداً جَدِيداً، صَانِعاً سَلاَماً.

(14) مع المسيح تنتفي كلمة «بعيد» فيه صرنا قريبين من الله لأنه هو سلامنا، وقد صالحنا مع الله. بمعنى أن المسيح ليس فقط بعطي السلام، بل هو نفسه سلامنا. والسلام هنا ليس شعورأق بالانفراج، يجعلنا ننظر إلى ذواتنا. إنما السلام الحقيقي الذي نلناه هو شخص المسيح بالذات. فلنقبل هذه الحقيقة ولنتمسك بها، وخصوصاً في وقت الكفاح، حين يهاجمنا عدو النفوس. وحين تهب علينا رياح الظروف المعاكسة. إن كنا نعيش في شركة مع الذي هو سلامنا، نجد راحة لنفوسنا. في الواقع لماذا تضطرب وتخاف إن كان الرب سلامك؟ اتكل عليه وهو يجري ويخرج مثل النور برك. هكذا قال بولس: «فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِٱلإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ ٱللّٰهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِهِ أَيْضاً قَدْ صَارَ لَنَا ٱلدُّخُولُ بِٱلإِيمَانِ، إِلَى هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُقِيمُونَ» (رومية 5: 1 و2).

في المسيح تذوب الفروقات العنصرية، ويصير الكل إلى صورة ابن الله. لأن المؤمنين قد خلعوا الإنسان العتيق ولبسوا الجديد. الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه، حيث ليس يوناني ويهودي، ختان وغرلة، بربري سكيثي، عبد حر، بل المسيح الكل وفي الكل (كولوسي 3: 10 و11).

خلال قرون متعددة كان الأممي محتقراً جداً في نظر اليهودي. وبالمقابل كان الأممي يكن لليهودي كراهية حاقدة. فيا لنعمة الله! ويا لها من قوة فائقة تلك التي أعطاها الله لرسله، لإبلاع الشعوب الرسالة الجديدة التي هدمت ذلك الاعتقاد بأن رحمة الله وقف لشعب خاص! ولعلنا نستطيع الآن أن ندرك كيف أن عنصرية اليهود، لم تقبل في بدء المسيحية أن يكون للأممين الامتيازات عينها التي لهم، والتي عبر عنها الرسول بنقض السياج المتوسط. والرسول هنا لا يتكلم عن الكنيسة في شكلها المنظور. وإنما كان يتكلم عن الكنيسة كجماعة قديسين في المسيح، والتي وصفها بالهيكل الروحي النامي في الرب. وقد جاء الرسول الملهم بهذا الوصف، كما لو كان ينظر من فوق.

صحيح أن الرب يعرف الذين هم له، ولكن لنحرص على أن نقيم أي حاجز يفصلنا عن أولاد الله الآتين من الحظائر الأخرى، الذين انجذبوا بمحبة الله المعبر عنها بصليب ربنا يسوع المسيح.

(15) بعمله الكفاري، أزال يسوع الحائط الفاصل، لأن دمه قتل العداوة التي كانت قائمة بين الله والناس. وبمحبته الغافرة لاشى تقزز اليهودي من الوثني، وحقد الوثني على اليهودي. واقتلع من بين جماعة المؤمنين جذور اللاتعاطف. وهكذا وحد بين قلوبهم، ليكونوا جسداً واحداً وهو الرأس.

تأكد يا أخي أنه لولا عمل الكفارة العظيم، الذي أكمله يسوع، ما كان لنا خلاص ولا قداسة حياة ولا نزاهة سيرة. فاشكر الرب لأجل هذا العمل المجيد، الذي أوجد بين تابعيه هذا المناخ الروحي، الذي ترتاح النفس فيه وتجد اطمئناناً.

اجعل المسيح محور حياتك واحرص على أن تعيش كما يحق لأنجيله، مبتعداً عن الصورة الزائفة التي يحاول لاهوتيو هذا الدهر أن يرسخوها في الأذهان، للفت الأنظار إلى براعتهم في البحث، على وفق ما جاء في المثل العامي القائل: «خالف تعرف» ضع أمامك صورة مسيح الإنجيل، كما رسمها الرسل الذين كان شعارهم: «لأَنَّنَا لَسْنَا كَٱلْكَثِيرِينَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ، لٰكِنْ كَمَا مِنْ إِخْلاَصٍ، بَلْ كَمَا مِنَ ٱللّٰهِ نَتَكَلَّمُ أَمَامَ ٱللّٰهِ فِي ٱلْمَسِيحِ» (2 كورنثوس 2: 17).

يخبرنا الكتاب المقدس أن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن (رومية 10: 4) وأن الإنسان العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية (رومية 6: 6)، لكي يخلق الاثنين في نفسه إنساناً واحداً جديدا. هذا بيان قصد المسيح من نقض الفرائض الناموسية. أن يولد الإنسان من فوق فيصير إلى ما دعاه الرسول إنسان الله المتأهب لكل عمل صالح (2 تيموثاوس 3: 17) هذا هو الإنسان الجديد الذي يصنع السلام «وطوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون».

الصلاة: أيها الرب سيدنا المبارك، نشكرك لأنك أعطيتنا الإيمان ولأنك بالإيمان بررتنا فصار لنا سلام معك بربنا يسوع، الذي هو سلامنا وقد أبطل ناموس الفرائض لنعبدك بجدة الروح، لا بعتق الحرف. آمين.

16وَيُصَالِحَ ٱلٱثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ ٱللّٰهِ بِٱلصَّلِيبِ، قَاتِلاً ٱلْعَدَاوَةَ بِهِ. 17فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ ٱلْبَعِيدِينَ وَٱلْقَرِيبِينَ. 18لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى ٱلآبِ.

حين نتذكر العداوة المزمنة التي كانت قائمة بين اليهود والأمم، نتعجب كيف استطاع الجانبان الاتفاق على صلب المسيح. ولكن الأعجب من ذلك هو كونهم قد انصهروا في الكنيسة المسيحية وصاروا واحداً. هذه إحدى أهم العجائب التي صنعها المسيح. وهذا ما أشار إليه الرسول حين قال: «لأَنَّ كُلَّكُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَمَدْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ. لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (غلاطية 3: 27 و28).

فكون كل المؤمنين أولاد الله يجعلهم متساوين، ويبطل أمام الله كل ما يراه الناس من امتيازات متعلقة بالأصل والمقام والجنس. ويجعلهم سواء، باعتبار كونهم أعضاء كنيسة المسيح. ومن ميزات الإنجيل أنه صرح بأن الله ليس عنده محاباة بل الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. وأن الجميع، مفتقرون إلى نعمة الفداء. وقد رقع النساء والعبيد إلى مقامهم الواجب، ليتمتعوا بكل بركات الله في المسيح. ووقد أقنع الكل بأن كل البشر إخوة، وأن الكنيسة جسد واحد، المسيح رأسه (1 كورنثوس 12: 15).

والجدير بالملاحظة، هو أن يسوع أشار إلى هذه الناحية من عمل الفداء العظيم إذ قال: «وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ» (يوحنا 12: 32). من هنا علمنا أن غاية المصالحة بين الله والناس، بل أيضاً تحقيقها بين الإنسان وأخيه الإنسان، وجمع الكل معاً في كنيسته التي هي جسده.

في رسالته إلى الكولوسيين، قال بولس أن الله في المسيح صالح «ٱلْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً ٱلصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ» (كولوسي 1: 20). وقال في رسالته إلى الكورنثيين: «إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ» (2 كورنثوس 5: 19). هنا يجب أن نلاحظ شيئاً مهماً، ونحتفظ به عالقاً في ذاكرتنا. وهو أن المبادرة في المصالحة، كانت من الله. وكانت واسطة المصالحة دم الصليب. لكأن الله يقول لنا: إني أحبكم بهذا المقدار، حتى رضيت أن أحمل الصليب على قلبي، منتظراً أن يحملكم هذا الحب على الرجوع إلي.

هل فكرت في خطورة هذه الحقيقة بالنسبة لك، إن الله نفسه افتداك لكي يصالحك لنفسه، مقدماً لك غفرانه للمصالحة بانتظار الحياة الأبدية؟ فإن لم يوقظ الصليب المحبة في قلبك فلن يستطيع شيء آخر أن يوقظها!

(17) بعدما صنع المسيح سلاماً، بشر بذلك السلام. وكانت أول كلمة فاه بها لتلاميذه المجتمعين بعد قيامته هي قوله: «سَلاَمٌ لَكُمْ... كَمَا أَرْسَلَنِي ٱلآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا» (يوحنا 20: 19-21). «ٱذْهَبُوا إِلَى ٱلْعَالَمِ أَجْمَعَ وَٱكْرِزُوا بِٱلإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مرقس 16: 15). وبشر وما زال يبشر بكنيسته، التي أمرها أن تنشر السلام في كل مكان تحت السماء.

(18) في هذه الآية الخلاصة، التي تعدنا للصعود إلى قمة الإعلان وسنبلغها في الأصحاح الثالث. ففي الكلمة «لأن به لنا كلينا قدوماً في روح واحد إلى الآب»، يرينا مرة أخرى الثالوث الإلهي يحنو علينا: الآب والابن والروح القدس يعملون معاً، لإعطائنا امتياز القدوم إلى محضر الله. فالآب أخذنا كما نحن في طبيعتنا لكي يحولنا كلياً إلى صورة فادينا المبارك. والابن مخلصنا أمسكنا بيده، وانتشلنا من جب الهلاك حيث كنا أمواتاً روحياً. والروح القدس أحيانا وأدخلنا إلى حضرة العزة الإلهية.

وبانتظار أن ننتقل إلى ديار الرب اللؤلؤية، لنا الامتياز العظيم، أن فادينا له المجد، بعد أن صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، صعد إلى السماء، ليحضر أمام الله من أجلنا. فهو وسيطنا وشفيعنا وسابقنا. وفيه نقدم شكرنا واعترافنا وتضرعاتنا. وهي تقبل، «فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ ٱجْتَازَ ٱلسَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بِٱلإِقْرَارِ. لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ. فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ ٱلنِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْناً فِي حِينِهِ» (عبرانيين 4: 14-16).

الصلاة: أيها السيد الرب إلهنا، نسجد لك بكل خشوع، ونرفع قلوبنا إليك شاكرين وحامدين لأجل الفداء العظيم الذي صيّر المؤمنين واحداً في المسيح، انزع من قلوبنا كل عاطفة انقسام، حتى نحب بعضنا بعضاً كما أحببتنا، وننشر إنجيل السلام. آمين.

19فَلَسْتُمْ إِذاً بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ ٱللّٰهِ، 20مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ ٱلرُّسُلِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ ٱلزَّاوِيَةِ.

(19) أن الحفرة القائمة بين الماضي والحاضر على غاية من العمق، بحيث لا يمكن الخلط بينهما. فالزمان الذي عاش فيه المؤمنون كالأمم في شهوات الجسد، قد طوى ووضع في ملف التاريخ، ولا يمكن أن يعود. وهذا ما عبر عنه الرسول بالقول:

  1. «لستم بعد غرباء ونزلاً» لأن الغرباء ليس لهم علاقة بالرعية. والنزل يسكنون وقتاً مع الرعية، ولكن غرباء ومحتفرين. ولكن هذا لا يضيرنا في شيء، إذ حسبنا أننا في نظر الله لسنا غرباء، بل نحن من رعايا ملكوت الله. أو كما قال الرسول: رعية مع القديسين الذين اقتربوا إلى الله بالإيمان بالمسيح. فهم رعايا ملكوته الروحي. وهو الملك

  2. أهل بيت الله، البيت غير المصنوع بيد إنسان، لأنه بيت أبدي روحي. إنه كنيسة الله التي اقتناها بدمه. ويقينا أنه لمشجع حقاً أن الأممين الذين كانوا غرباء ونزلاً، يصبحون أبناء في بيت الله متمتعين بكامل حقوق البنوة. هذا هو مركز المفديين، الذين لقبتهم الكتابة المقدسة «كَنِيسَةِ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (عبرانيين 12: 23).

    إن الكنيسة بين أهل بيت واحد، أقرب وأشد من النسبة بين أفراد رعية مملكة واحدة. والنسبة بين الآب وأهل بيته أقرب وأشد من النسبة بين ملك ورعية مملكته، باعبتار كون المؤمنين أولاد الله.

(20) ورد في أماكن عدة من الإنجيل تشبيه أتباع المسيح بهياكل يسكن فيها الروح القدس (1 كورنثوس 6: 19) ولكن الرسول أبان هنا أن جماعة المؤمنين بناء واحد، إشارة إلى اتحادهم بالمسيح. أما حجارة هذا البناء، فليست من الصخور ولا من الرخام، بل هي أناس متبررون بالمسيح. بعضهم قد أكملوا ومجدوا في السماء، وبعضهم سوف يؤمن ويمجد.

ومن امتيازات هذا البناء الروحي، أن المسيح أخذ طبيعتنا ليكون هو أساسه. وليكون كل حجر حي فيه على صورة المسيح، وقد وضع في مكانه بالنسبة للمسيح، باعتبار كونه رأس الزاوية. والروح القدس يهذب كل حجر حي ويزينه بزينة مقدسة، ويضعه في المكان الذي عينه الله، ويثبته فيه.

مبنيين على أساس الرسل والأنبياء «أي على أساس مناداتهم وشهادتهم للمسيح أنه ابن الله»، وأنه قد تجسد، وأنه مخلص العالم. وعلى هذا الحق بنوا رجاءهم وجاهدوا لأجل بنيان المؤمنين.

«يسوع نفسه حجر الزاوية» إن اعتبرنا الكنيسة جسداً حياً، فإن المسيح هو رأس هذا الجسد، وهو بالتالي العنصر الرئيسي في الجسد. لأن الرأس متمم الجسد، وإذا اعتبرنا الكنيسة بناء حياً، فإن المسيح هو حجر الزاوية في هذا البناء، وهو بالتالي الركن الركين في هذا البناء. والمعنى أن الكنيسة تستند على المسيح، وتقوم به باعتبار كونه موضوع إيمانها وواسطة حياتها ويستحيل بدون أن تثبت. لكنه بحضوره فيها، أبواب الجحيم لن تقوى عليها. وهذا موافق لقول المرنم: «ٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلّزَاوِيَةِ» (مزمور 118: 22). وعلى أي حال فكون المسيح حجر الزاوية في البناء لا يمنع من كونه أساساً أيضاً. كما أن كونه من ذرية داود، لم يمنع من أن يكون الرب إله الأنبياء والقديسين (رؤيا 22: 6).

حين شيد سليمان الهيكل قيل: «وَٱلْبَيْتُ فِي بِنَائِهِ بُنِيَ بِحِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ مُقْتَلَعَةٍ، وَلَمْ يُسْمَعْ فِي ٱلْبَيْتِ عِنْدَ بِنَائِهِ مِنْحَتٌ وَلاَ مِعْوَلٌ وَلاَ أَدَاةٌ مِنْ حَدِيدٍ» (1 ملوك 6: 7). هكذا الرب لكي يبني هيكله المقدس يعرف كيف يحضر حجارته الحية، وفقاً لاستعدادهم لتسليم ذواتهم كلياً ليديه، فيجعلهم حجارة صحيحة.

الصلاة: شكراً لك يا رب السماء لأن عنايتك عملت من أجل المؤمنين وصيرتهم حجارة حية بهيكلك المقدس. أكثر من هذه الحجارة في أوطاننا وتمجد ببنائها أيضاً على الأساس الصحيح الذي هو ربنا يسوع المسيح. آمين.

21ٱلَّذِي فِيهِ كُلُّ ٱلْبِنَاءِ مُرَكَّباً مَعاً يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّساً فِي ٱلرَّبِّ. 22ٱلَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيُّونَ مَعاً، مَسْكَناً لِلّٰهِ فِي ٱلرُّوحِ.

إن أقامة بناء روحي من هذه العناصر المختلفة المصادر هو آية من آيات النباء الإلهي، وهي تظهر حكمة الله وقدرته. وبالتالي رغبته في السكن في هيكل غير مصنوع بيد «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ ٱللّٰهِ، وَرُوحُ ٱللّٰهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟ لأَنَّ هَيْكَلَ ٱللّٰهِ مُقَدَّسٌ ٱلَّذِي أَنْتُمْ هُوَ» (1 كورنثوس 3: 16 و17).

(21) يحدثنا الرسول في هذه الآية عن ثلاثة أشياء مهمة عاملة في نمو البناء:

1 - تعاون العناصر: لعل بولس وهو يكتب هذا المقطع،كانت في خاطره صورة لهيكل أرطاميس، الذي كان مفخرة أفسس في ذلك الزمن. وقد أراد الرسول أن يقدم للأفسسيين مقارنة بين هكيل أرطاميس والهيكل الروحي الذي أقامه المسيح. فكلاهما هيكل ذو بناء، وكلاهما عظيم. ولكن إلى هنا ينتهي الشبه، وتبدأ أوجه الخلاف. فهيكل أرطاميس بناء مادي، وهيكل المسيح بناء روحي. هيكل أرطاميس بناء ميت، لأنه مشيد بحجارة ميتة صماء. أما هيكل المسيح فهو حي لأنه قام من حجارة حية معنوية. هيكل أرطاميس، معهد نجس يرتكب فيه الفجور باسم العبادة، لكن هيكل المسيح مقدس، تسمو فيه النفوس فوق الدنايا.

2 - عنصر النمو في البناء الروحي: المرجح أن بولس وهو يكتب كان أيضاً في خاطره صورة للأروقة المتنوعة في هيكل سليمان. فقد كان كل رواق منها متوجاً بقبة، وكانت القباب متصلة معاً ومتماسكة، لتكون هيكل واحداً. وبما أن بناء الهيكل لم ينجز إلا على مراحل وخلال سنين عديدة، فصار هيكلاً نامياً. ولا ريب في أن تآلف الأروقة لتكون في مجموعها هيكلاً واحداً، هو رمز جميل إلى تألف الأجناس المحتلفة التي تتألف منها كنيسة المسيح، لا فرق بين بربري وسكيثي، وعبد وحر، ويهودي ويوناني، وذكر وأنثى.

3 - العامل الحي في النمو: لقد درج الرسول على التعبير عن الصفة العلوية الكائنة بين المسيح ومختاريه والتي على أساسها يقبلون أمام الله، بالقول «في المسيح» ولكنه حين يريد وصف نتائج حياة المسيح فيهم يعبر عنها بالقول: «في الرب».

(22) في هذه الآية يتراءى الثالوث الأقدس عاملاً في نمو الهيكل الروحي القدس. فكلمة «في المسيح» تعود إلى الابن الذي هو أساس البناء. وقد قال الرسول «الذي فيه أنتم أيضاً مبنيون معاً. وكلمة «مسكن الله» تعود إلى الآب، لأن الكنيسة مسكن الله الدائم. وهذه الفكرة تحققت جزئياً في الكنيسة المجاهدة على الأرض، ولكنها ستتم كمالياً في الكنيسة المجيدة حين يأخذها المسيح إليه. ولذلك فإن غاية الغايات من هذا البناء الروحي، أن ينمو مسكناً لله، الذي إليه مآب كل المسيحيين مع كونهم مختلفي الجنسيات واللغات والعصور، فهم أجزاء بيت واحد باتحادهم بالمسيح. وهذا البيت الروحي الذي قدسه المسيح «بغسل الماء بالكلمة» جعلته النعمة لائقاً بسكن الله. وكلمة «في الروح» تعود إلى الروح القدس، الذي هو العامل في أحياء ونمو وعناصر البناء في القداسة، حتى يبلغ كل عنصر الغاية المثلى في الرب.

في مراجعة ما تقدم من آيات يتضح لنا أن عناصر البناء، مؤسسة على المسيح، باعتبار كونه رأس الزاوية. فهو الذي يجعل البناء مستقيماً راسخاً نامياً في القوة والجمال. وهو الذي يقدم وسائط النمو المطرد وفقاً لقول يوحنا الإنجيلي: «وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ» (يوحنا 1: 16) ولهذا كان الاتحاد به شرطاً ضرورياً، لكي نكون حجارة حية في ذلك البناء الروحي.

الصلاة: نشكرك أيها الرب الإله، لأجل عملك بالفداء، لكي تبررنا وتقدسنا وتجعلنا حجارة حية نامية في هيكلك المقدس. نتوسل إليك أن تعمل في هذه الأيام، لقطع حجارة كثيرة من مقاطع هذا العالم بروح المسيح وتضمها إلى بنائك الإلهي. آمين.

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ

1بِسَبَبِ هٰذَا أَنَا بُولُسُ، أَسِيرُ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا ٱلأُمَمُ، 2إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِتَدْبِيرِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُعْطَاةِ لِي لأَجْلِكُمْ.

في الأصحاحين السابقين، كشف الرسول الغطاء عن جانب من أمجاد الفداء العظيم، الذي أعده الله في المسيح لجميع الأمم، خالقاً من الكل إنساناً جديداً صانعاً سلاماً، ليشيد منهم بناء روحياً، ينمو هيكلاً مقدساً، لائقاً لسكناه في الروح، وبعد هذا الكشف أراد الرسول أن يشير إلى وظيفته كرسول اختاره المسيح ليكرز بإنجيل نعمته بين الأمم.

(1) في رسالته الثانية إلى الكورنثيين، قال بولس: «ثُمَّ أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ بِوَدَاعَةِ ٱلْمَسِيحِ وَحِلْمِهِ، أَنَا نَفْسِي بُولُسُ ٱلَّذِي فِي ٱلْحَضْرَةِ ذَلِيلٌ بَيْنَكُمْ، وَأَمَّا فِي ٱلْغَيْبَةِ فَمُتَجَاسِرٌ عَلَيْكُمْ» (2 كورنثوس 10: 1) وكأني بالرسول إراد أن يضع أهمية على ما هو مزمع أن يقوله عن الأسلحة التي نستعملها في كفاحنا. إنها ليست جسدية بل هي روحية، وموجهة ضد قوات الشر الروحية.

وفي رسالته إلى الغلاطيين استعمل الرسول من جديد اللغة نفسها، إذ قال: «هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ... قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ ٱلْمَسِيحِ أَيُّهَا ٱلَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِٱلنَّامُوسِ. سَقَطْتُمْ مِنَ ٱلنِّعْمَةِ» (غلاطية 5: 2-4). فهو هنا يقف في وجه الضلالات التي بثها من دعاهم «أخوة كذبة» في الكنيسة الوليدة، والذين كانت غايتهم إرجاع أعضاء الكنيسة إلى الأركان الناموسية الضعيفة بعد أن خلصوا بالنعمة.

وفي رسالته إلى الكولوسيين، قال: «إِنْ ثَبَتُّمْ عَلَى ٱلإِيمَانِ، مُتَأَسِّسِينَ وَرَاسِخِينَ وَغَيْرَ مُنْتَقِلِينَ عَنْ رَجَاءِ ٱلإِنْجِيلِ، ٱلَّذِي سَمِعْتُمُوهُ، ٱلْمَكْرُوزِ بِهِ فِي كُلِّ ٱلْخَلِيقَةِ ٱلَّتِي تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، ٱلَّذِي صِرْتُ أَنَا بُولُسَ خَادِماً لَهُ» (كولوسي 1: 23). فهو هنا يضع علينا التزام الثبات والرسوخ، فلا نفقد أبداً الرجاء في الإنجيل.

إلا أن الرسول الكريم في خطابه للأفسسيين يتوقف هنا عن تكملة مابدا به لأخذه في كلام معترض، أبان به أن الإنجيل هو السر الذي كان مكتوباً وقد أعلن، وتمام الجملة في الآية 14 وهو قوله «أحني ركبتي» ثم ابتدأ هناك بما ابتدأ به هنا وهو قوله «بسبب هذا» وما ذكره كان سبباً كافياً لحمله على أن يصلي من أجلهم ويسأل الله نموهم... قال: أنا بولس أسير المسيح من أجلكم أنتم الأمم «فبولس كان مقيداً في سلاسل، ولكن هذا الأسر الموجع كانت له غاية «بركة الأمم» كانت ظروفه صعبة جداً، ولكنها كانت واجبة، لكي تثبت رسائله إلى الكنائس كتابة. فتصل إلى المسيحية في كل جيل وعصر، وتصبح بالنسبة لهم قاعدة للسلوك. وفوق هذا فإن الأسر والمشقات والقيود التي عاناها الرسول كمذنب لأجل الإنجيل (2 تيموثاوس 2: 9) قد أتاحت للرب أن يكشف لخادمه الحقائق المعدة لتكون قوة ووسيلة إلهام لكنيسته.

«أنا بولس أسير المسيح» هذه العبارة ترسم أمامنا صورة رجل نحيل الجسم بسيط الملابس، ويده اليسرى مغلولة بسلسلة من احد طرفيها، وطرفها الثاني مطوق معصم أحد الجنود الرومان القائمين على حراسته. وغير خاف أن بولس صار أسير الفادي منذ تلك اللحظة، التي قال فيها: يا رب ماذا تريد أن أ فعل؟ (أعمال 9: 6) وقد ظل طوال حياته أسير حب المسيح، سواء أكان في السجون أم خارج السجون، وقد عبر عن ذلك بقوله «محبة المسيح تحصرنا» وأكثر ما ظهر هذا بقوله: إني حامل في جسدي سمات الرب يسوع.

(2) غاية الرسول من هذه الآية إثبات كونه رسولاً إلى الأمم يتدبير نعمة الله. وأنه لجميل جداً أن يعتبر بولس تعيين الله له رسولاً إلى الأمم نعمة لا يستحقها، فتحمله دائماً على التواضع والشكر. ونلاحظ أن الرسول لم يستعظم تلك الخدمة لأجل شرفها أو ما تقلده من سلطان، بل لأجل المحبة للمسيح ولنفوس الناس وللفرصة التي انتهزها لنشر ملكوت الله. وخصوصاً لأنه أعلن بواسطتها سر الإنجيل المشتمل على دعوة الأمم إلى الاشتراك في الخلاص بالمسيح.

(2) غاية الرسول من هذه الآية إثبات كونه رسولاً إلى الأمم بتدبير نعمة الله. وأنه لجميل جداً أن يعتبر بولس تعيين الله له رسولاً إلى الأمم نعمة لا يستحقها، فتحمله دائماً على التواضع والشكر. ونلاحظ أن الرسول لم يستعظم تلك الخدمة لأجل شرفها أو ما تقلده من سلطان، بل لأجل المحبة للمسيح ولنفوس الناس وللفرصة التي انتهزها لنشر ملكوت الله. وخصوصاً لأنه أعلن بواسطتها سر الإنجيل المشتمل على دعوة الأمم إلىالاشتراك في الخلاص بالمسيح.

فهو رسول الأمم الذي اختاره يسوع لهذه الخدمة، ومنحه لذلك مواهب خاصة بدليل قوله: «قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لأَنِّي لِهٰذَا ظَهَرْتُ لَكَ، لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ، مُنْقِذاً إِيَّاكَ مِنَ ٱلشَّعْبِ وَمِنَ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ، لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱللّٰهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِٱلإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (أعمال 26: 16-18).

الصلاة: نشكرك يا رب السماء من أجل رسلك الأطهار، الذين كتبوا لنا اختباراتهم من أجل تعليمنا وبنائنا على أساس المسيح. أعطنا أن نثبت في هذا الهيكل المقدس كحجارة حية. وامنحنا أن نقتدي بهم فنسلك كما يحق لإنجيلك المبارك. آمين.

3أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِٱلسِّرِّ. كَمَا سَبَقْتُ فَكَتَبْتُ بِٱلإِيجَازِ. 4ٱلَّذِي بِحَسَبِهِ حِينَمَا تَقْرَأُونَهُ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْهَمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ ٱلْمَسِيحِ. 5ٱلَّذِي فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو ٱلْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ ٱلآنَ لِرُسُلِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِٱلرُّوحِ: 6أَنَّ ٱلأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي ٱلْمِيرَاثِ وَٱلْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي ٱلْمَسِيحِ بِٱلإِنْجِيلِ.

(3-4) فيما كانت النعمة الإلهية تدبر كل شيء لإنشاء الكنيسة، تقلد بولس هذا السر العظيم عن طريق الإعلان، كما شهد بذلك بقوله: «أُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ٱلإِنْجِيلَ ٱلَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية 1: 11 و12). فهذا الإعلان كان شرطاً ضرورياً لتأهليله أن يكون رسولاً. والملاحظ هو أن الرسول، أراد أن يفهم الذين كتب إليهم، أن وديعة الإنجيل لم تنته إليه لبحث عقلي قام به هو. ولا آلت إليه كرسالة تقلدها من سلفائه، وإنما هي إعلان سماوي خصه الله به بالنعمة في وقت كان معارضاً للإنجيل.

قال الرب يسوع: «بِكَلاَمِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلاَمِكَ تُدَانُ» (متى 12: 37) فطبيعة كلام الرسول تشهد لسمو مصدر الإعلان الذي تقلده، وبالتالي تؤيد رسوليته. ومع أنه لم يقدم شرحاً مفصلاً لبرنامج الفداء، الذي أعده الله للمؤمنين بما فيهم الأمم، إلا أنه كشف بالإيجاز عن النصيب العظيم الذي جعله الله للأمم. ومن أجزاء هذه السر العظيم الذي أدركه بولس بالإعلان، دعوة الأمم إلى الاشتراك في بركة الخلاص. وهذا على وفق قوله: «ٱلَّذِينَ أَرَادَ ٱللّٰهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هٰذَا ٱلسِّرِّ فِي ٱلأُمَمِ، ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ ٱلْمَجْدِ» (كولوسي 1: 27).

ويقيناً أن ما قاله الرسول في هاتين الآيتين، لعظيم الأهمية في موضوع الإعلانات الإلهية. فالله ليس فقط أوحة بنصوص الكتابة المقدسة، بل أيضاً نفخ فيها نسمة منه، فصارت الكلمة روحاً وحياة. وهكذا حين يقرأ أولاد الله الكلمة الإلهية بعون الروح القدس، يعطيهم الروح المبارك القدرة على لافهم وفقاً لقول الرسول: «وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ ٱلْعَالَمِ، بَلِ ٱلرُّوحَ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ، لِنَعْرِفَ ٱلأَشْيَاءَ ٱلْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّتِي نَتَكَلَّمُ بِهَا أَيْضاً، لاَ بِأَقْوَالٍ تُعَلِّمُهَا حِكْمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، بَلْ بِمَا يُعَلِّمُهُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ، قَارِنِينَ ٱلرُّوحِيَّاتِ بِٱلرُّوحِيَّاتِ» (1 كورنثوس 2: 12 و13).

(5-6) وهذا السر الذي أعلنه الله لبولس يتضمن الحق الذي وهبته النعمة، والذي مفاده أن الأمم في المسيح يشكلون جسداً واحداً، وينتفعون بكل الوعود المعطاة فيه بواسطة الإنجيل. أي أن الأمم الذين صاروا قريبين بدم المسيح، ينضمون إلى جماعة القديسين، الذين هم أعضاء جسد المسيح. ويتمتعون معهم بنفس الامتيازات، لكي يؤلفوا معاً إنساناً جديداً مخلوقاً بحسب الله خالقه. إنسان له قدوم إلى الآب، بالروح القدس (أفسس 2: 13-15).

وأي امتياز للأمم أعظم من هذا، أن تصيرهم النعمة شركاء في الميراث والجسد ونوال المواعيد في المسيح بالإنجيل، رغم أنهم بالطبيعة غرباء عن عهود الموعد؟!

الظاهر أنه قبل يوم الخمسين، لم يخطر على بال تلاميذ الرب، أن الأمم يمكن أن يخلصوا بدون أن يتهودوا أولاً، ولو آمنوا بالمسيح، وأيضاً لم يكونوا عارفين أن نظام الفرائض الموسوية يبطل، وأنه يقام في المسيح نظام جديد يشمل كل قبائل الأرض.

فإعلان السر لبولس، كان حدثاً جديداً، أبرز ما فيه أن الكنيسة هي جسد المسيح، الذي فيه تذوب كل الفروقات الأرضية بين الشعوب والأجناس «لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً ٱعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، يَهُوداً كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ، عَبِيداً أَمْ أَحْرَاراً. وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحاً وَاحِداً» (1 كورنثوس 12: 13).

وباختصار فإننا نفهم من هذه الآيات، أن البركات التي اشترك فيها أتباع المسيح من أصل أممي، هي نيل الميراث وعضوية الكنيسة، والدخول في عهدو الله. وأن شرط نيل كل ذلك، هو الاتحاد بالمسيح، وأن واسطة ذلك الاتحاد هو الإنجيل.

الصلاة: أيها السيد المتعالي رب السماء، تبارك اسمك العزيز لأجل النعمة التي فتحت باب الخلاص أمام جميع الأمم والأجناس. وأتاحت لكل إنسان أن يخلص وينضم إلى جماعة القديسين. اقبل الشكر من قلوبنا باسم يسوع. آمين.

7ٱلَّذِي صِرْتُ أَنَا خَادِماً لَهُ حَسَبَ مَوْهِبَةِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُعْطَاةِ لِي حَسَبَ فِعْلِ قُوَّتِهِ. 8لِي أَنَا أَصْغَرَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ أُعْطِيَتْ هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ ٱلأُمَمِ بِغِنَى ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى، 9وَأُنِيرَ ٱلْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ ٱلسِّرِّ ٱلْمَكْتُومِ مُنْذُ ٱلدُّهُورِ فِي ٱللّٰهِ خَالِقِ ٱلْجَمِيعِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ.

(7-8) بعد أن كشف بولس عن سر الله للكنيسة، أتى بنا إلى أغنى مقطع في رسالته إلى الأفسسيين. ففي غمرة فبض هذا الغنى الروحي الذي وكل إليه أن يبلغنا إياه، راح يتكلم عن وضعه أمام الله والناس، وعن مسؤوليته والسلطة التي تقلدها، معلناً سر قوته بالتواضع إذ قال: «لي أنا أصغر القديسين» ففي هذا الانكسار التام، كان بولس يتبع مثال سيده يسوع، مما يدل على أنه كان مملؤاً من روحه. فقد عمل بموجب ما علم به يسوع تلاميذه حين تشاجروا «مَنْ مِنْهُمْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ. فَقَالَ لَهُمْ: «مُلُوكُ ٱلأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَٱلْمُتَسَلِّطُونَ عَلَيْهِمْ يُدْعَوْنَ مُحْسِنِينَ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَيْسَ هٰكَذَا، بَلِ ٱلْكَبِيرُ فِيكُمْ لِيَكُنْ كَٱلأَصْغَرِ، وَٱلْمُتَقَدِّمُ كَٱلْخَادِمِ. لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ؟ أَلَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ ٱلَّذِي يَخْدِمُ؟» (لوقا 22: 24-27).

فليس قريباً أن الذي قال عن نفسه أنه أ صغر صغار القديسين، يعين سفيراً للمسيح، لينقل رسالة الإنجيل للناس طالباً عن المسيح أن يتصالحوا مع الله. وسر عظمة هذا السفير أن سلطته لم تستمد من كفاءاته أو علومه أو وجاهته، بل من نعمة الله. وهذه النعمة التي رافقته دائماً، ظهرت بقوتها من خلال حياته التي سلمها كلياً لسيده. وقد كانت حياة مطواعة للرب حقاً، ولهذا كان الرب أميناً معه في وعوده. ويتراءى لنا أثر هذا التسليم جلياً في قوله: «لٰكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهٰذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ ٱلْمَسِيحَ» (فيلبي 3: 7 و8).

يا ليتنا نقتدي بالرسول الكريم، فنحرص على أن لا يكون في دواخلنا زهو ولا اكتفاء ذاتي، لكي نسلك بصورة تليق بدعوتنا التي ديعنا بها في المسيح. ولنذكر أن عمله فينا يتيح لنا الإمكانية، لأنه يجهز خادمه بقوة من الأعالي تمكنه من بينان النفوس على الأساس الإلهي الأوحد، أي يسوع نفسه حسب نعمة الله المعطاة وفقاً للقول الرسولي: «كَبَنَّاءٍ حَكِيمٍ قَدْ وَضَعْتُ أَسَاساً، وَآخَرُ يَبْنِي عَلَيْهِ. وَلٰكِنْ فَلْيَنْظُرْ كُلُّ وَاحِدٍ كَيْفَ يَبْنِي عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاساً آخَرَ غَيْرَ ٱلَّذِي وُضِعَ، ٱلَّذِي هُوَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ. وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدُ يَبْنِي عَلَى هٰذَا ٱلأَسَاسِ ذَهَباً فِضَّةً حِجَارَةً كَرِيمَةً خَشَباً عُشْباً قَشّاً، فَعَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ سَيَصِيرُ ظَاهِراً لأَنَّ ٱلْيَوْمَ سَيُبَيِّنُهُ. لأَنَّهُ بِنَارٍ يُسْتَعْلَنُ، وَسَتَمْتَحِنُ ٱلنَّارُ عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مَا هُوَ» (1 كورنثوس 3: 10-13).

ويل لمن يقحم نفسه في الخدمة عن المسيح، إن لم يكن مرسلاً من الله حقاً، ومجهزاً بنعمته! ويل للخادم الذي يتكل على قوته الذاتية وغيرته وكفاءاته من دون الله!

لم تكن الحال هكذا مع بولس، فمنذ أن عرف المسيح ضرب بامتيازاته عرض الحائط وحصر «افتحاره بصليب ربنا يسوع المسيح» ولهذا صار للمسيح «إناء مختاراً» فانطلق يبشر بغنى المسيح الذي لا يُستقصى.

(9) كانت كلمة الرب له: «أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ، لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ» (أعمال 26: 17 و18) فالمهمة التي تقلدها بولس، كانت إنارة الجميع بالإنجيل. وقد وصف بطرس الإنجيل بأنه سراج منير في موضع مظلم (2 بطرس 1: 19) وشركة السر التي أشار إليها الرسول، كانت مضمون الإنجيل الذي كان بولس خادماً له. فرسالته إذن أكثر من دعوة الأمم إلى الخلاص والمساواة. إنها تشمل كل نظام الفداء، الذي دعا كل بني البشر إلى خلاص الله بواسطة المسيح، كما جاء في قوله: «حَسَبَ إِعْلاَنِ ٱلسِّرِّ ٱلَّذِي كَانَ مَكْتُوماً فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَزَلِيَّةِ، وَلٰكِنْ ظَهَرَ ٱلآنَ، وَأُعْلِمَ بِهِ جَمِيعُ ٱلأُمَمِ» (رومية 16: 25-26) وكقوله: «ٱلسِّرِّ ٱلْمَكْتُومِ مُنْذُ ٱلدُّهُورِ وَمُنْذُ ٱلأَجْيَالِ، لٰكِنَّهُ ٱلآنَ قَدْ أُظْهِرَ لِقِدِّيسِيهِ» (كولوسي 1: 26).

وبعبارة أخرى، أن هذا السر كان من بدء الخليقة إلى أزمنة الإنجيل مكتوماً عن الناس، مشاراً إليه برموز، لم يدرك الناس معناها. ولعل الرسول أراد أن نعلم أن إله الخلق هو إله الفداء. وأنه لكونه خالق كل الأشياء حق له أن يقضي في الكل وفقاً لمشيئته. فيتكلم ما يشاء، ويعلن من يشاء، ومتى شاء. وأنه كما أمكنه أن يخلق العالمين، يمكنه أن يجدد نفوس الناس، ويجعلها خليقة جديدة بعمل الفداء العظيم.

الصلاة: يا إله الصلاح والبر والخير، لك الشكر من أجل كلمة الحق إنجيل خلاصنا، الذي فيه إعلان محبتك بالفداء لجميع البشر. هيء الأسباب لانتشاره في كل العالم، ليخلص به كل طالب الحق. آمين.

10لِكَيْ يُعَرَّفَ ٱلآنَ عِنْدَ ٱلرُّؤَسَاءِ وَٱلسَّلاَطِينِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ بِوَاسِطَةِ ٱلْكَنِيسَةِ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُتَنَوِّعَةِ، 11حَسَبَ قَصْدِ ٱلدُّهُورِ ٱلَّذِي صَنَعَهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا.

قبل أن ينهي بولس كلامه عن موهبة نعمة الله المعطاة له، لكي يبشر بين الأمم بغنى الله الفائق في المسيح يسوع، أراد أن يؤكد غاية إعلان السر المكتوم، كانت ليعرف الرؤساء والسلاطين في السماويات بحكمة الله المتنوعة بواسطة الكنيسة.

(10) في الآيتين الثامنة والتاسعة، تحدث رسول الأمم عن إطلاق نور الإنجيل الكشاف أمام عيون بني البشر. لكي يستنيروا في معرفة قصد الله الأزلي، الذي ظل مستوراً منذ الدهور. أما الآن فقد ظهر للعيان ليستنير به كل ضمير بشري طالب الله. ولكن بما أن هناك خلائق عاقلة غير البشر. وهم الملائكة، فقد استحسن الله أن يعلن هذا السر لهم تجاوباً مع أشواقهم. فقد قال بطرس، إن فداء البشر كان موضوعاً لأشواق الملائكة (1 بطرس 1: 12) ولا ريب في أن ذكر رغبة الملائكة في الاطلاع على تدبير الله لأجل الخلاص، لدليل على أن هذا التدبير مستحق أن يقدره كل إنسان ويشكر الله لأجله.

إني لأتمنى مخلصاً، بل أتوسل إلى الله أن يلهمك أن تجعل اهتمامك بهذا التدبير الذي أعدته محبة الله، فوق كل اهتمام في هذا العالم. «لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي ٱلإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟» (متى 16: 26).

أن الإنسان مدين بحياته كلها ليسوع المسيح لأنه افتداها بحياته، وليس شيء يمكن أن يعطيه المرء للمسيح بدلاً من حياته. قد يحاول أحد أن يعطي المال، ويمنع نفسه. وقد يحاول أن يعطي المسيح خدمة الشفتين، ويمنع نفسه. وبعض الناس يدفعون المال بسخاء للكنائس ولكنهم يضنون بأنفسهم على المسيح. العطية الصحيحة الوحيدة للمسيح هي حياتنا كلها، ولا بديل لذلك، ولا ينفع أقل من الحياة كلها.

في تعقبه على مثل الخروف الضال، قال يسوع: «إِنَّهُ هٰكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ» (لوقا 15: 7) وهذا يبرهن على أن ملائكة الله يهتمون كثيراً بإنقاذ الساقطين. لأنهم كما قال الرسول أنهم أرواح خادمة، مرسلة للخدمة لأجل العتيدين (عبرانيين 1: 14).

ومما يزيد الكنيسة غبطة هو أن الله عرف الرؤساء والسلاطين في السماويات مجده بالفداء بواسطة الكنيسة. ولا نعجب من ذلك لأن الكنيسة مؤلفة من مختارين من كل قبائل الناس في كل عصر. وهي المنظر الذي يظهر عجائب حكمته تعالى بإجراء الفداء العظيم، الذي به الحق والرحمة التقيا، البر والسلام تلائما (مزمور 85: 10) وبها أظهر الله حكمته بتجسد المسيح، «مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ» (غلاطية 4: 4 و5) فتم القول الإلهي، أن نسل المرأة (يسوع) يسحق رأس الحية (الشيطان) وبها أعلن الله سامي حكمته بفعل الروح القدس، الذي يرشد المؤمنين إلى جميع الحق، و «يُبَكِّتُ ٱلْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ» (يوحنا 16: 8) ويجدد الناس، ويقدسهم ويعزيهم،ويقيهم داخلاً وخارجاً ويكللهم بنعمة وجمال. ووصفت حكمة الله بأنها متنوعة. لأن كل حادثة في تاريخ الكنيسة تظهر علامة جديدة من علامات الحكمة الإلهية، التي تعلن قضاء الله وأعماله الحكيمة، كالتحول عن اليهود رافضي المسيح إلى الأمم، الذين قبلوه ليصيروا شركاء في المواعيد الإلهية، وبالتالي في ميراث القديسين في النور.

قال أحد الأتقياء: قبل التجسد استطاعت الملائكة أن ترى حكمة الله في أشياء بسيطة. ولكن بعد التجسد رأوها في مظاهرها المتنوعة، إذ خلقت من الموت حياة، ومن الهوان مجداً، ومن إكليل الشوك تاج مجد وفخار. وجعلت من الخاطئ قديساً.

(11) في هذه الآية بيان أن حكمة الله جزء من قضائه من جهة الفداء الأزلي، الذي أنجزه بتجسد ابنه الوحيد وموته على الصليب بمعنى أن كل المقاصد الإلهية المتعلقة بالخلق والفداء قد دبرها الله في المسيح يسوع. فيه خلق الكل، وفيه فدى الكل.

إن قوله قصد الدهور، هو القصد الأزلي، الذي لم يكن ارتجالياً ولا مؤقتاً. لكنه مدبر منذ الأزل، وممتد إلى الأبد، لأنه مظهر إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة، التي تعمل رفق قصد معين، منذ الأزل وتحف به القدرة الإلهية، حتى ينفذ. ومتى جاء الوقت المعين سوف تظهر الكنيسة الأبكار المفديين لجمهور الملائكة، أمجاد الفداء العجيب الذي دبره الله بتجسد المسيح وموته على الصليب. فكنيسة المفديين بدم المسيح هي مظهر مشيئة الله، وفيها تتحقق مقاصده الأزلية.

الصلاة: أيها العلي ساكن الأبد، القدوس اسمه. قلوبنا ترتفع إليك بالشكر والحمد والتسبيح لأجل عنايتك بالمؤمنين ومراحمك الغنية في المسيح، التي لا تُستقصى. وزع من هذه المراحم على كل بشر حتى تستأثرهم بمحبتك المدبرة للخلاص. آمين.

12ٱلَّذِي بِهِ لَنَا جَرَاءَةٌ وَقُدُومٌ بِإِيمَانِهِ عَنْ ثِقَةٍ. 13لِذٰلِكَ أَطْلُبُ أَنْ لاَ تَكِلُّوا فِي شَدَائِدِي لأَجْلِكُمُ ٱلَّتِي هِيَ مَجْدُكُمْ.

(12) سبق للرسول أن قال: «لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى ٱلآبِ» (أفسس 2: 18) وهنا يناشد كل إنسان أن يتجاوب مع الدعوة العليا ويقترب إلى الله بدون خوف. وهذا حق لأننا وإن كنا قد آمنا بالمسيح ونلنا باسمه غفران خطايانا، إلا أننا ما زلنا على شاطئ المعرفة في ما يختص بالامتيازات المعدة لنا في المسيح يسوع.

يجب أن نذكر دائماً، أنه بناء على ما علمه يسوع، ليصالحنا مع الله ويكفر عنا خطايانا. وبناء على استحقاقه غير المحدود، يقدر أشر الخطاة أن يقبل إلى الله القدوس بكل ثقة، تمشياً مع الكلمة القائلة: «فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِٱلدُّخُولِ إِلَى «ٱلأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ، طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيّاً، بِٱلْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ، وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ ٱللّٰهِ، لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ ٱلإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ. لِنَتَمَسَّكْ بِإِقْرَارِ ٱلرَّجَاءِ رَاسِخاً، لأَنَّ ٱلَّذِي وَعَدَ هُوَ أَمِينٌ» (عبرانيين 10: 19-23).

هنا نصل إلى أسمى نقطة في ما يتعلق باقتراب المؤمن من الله وامتيازه. فإن استعرضنا ما سبق أن رأيناه، نجد أن المسيح قد دخل إلى الأقداس السماوية بدم نفسه. وهناك جلس عن يمين الله، فصارت لنا ثقة للاقتراب إلى الله بدم يسوع. والكلمة المستعملة للتعبير عن الثقة معناها «الحرية الكاملة» فنحن نأتي إلى الله، ليس كمن لديهم بعض التحفظ في أذهانهم أو قلوبهم. أو كمن لديهم اشياء لم يؤت بها قط إلى نور محضر الله فنخشى ظهورها. كلا فالشفاه منفرجة عن اعتراف كامل بكل الخطايا، ودم يسوع طهر من كل خطية. فهل بعد ذلك يوجد أي سبب يثنينا عن المثول في محضر الله القدوس، على أساس وساطة المسيح، ودمه الذي نتقدم به؟

انطلاقاً من اختياري السعيد، كمن عرف هذا الحق في يسوع، أسألك برأفة الله أن تسلم قلبك لهذا الفادي وسيط الصلح الأوحد، لتنال بدمه تكفيراً كاملاً عن خطاياك. وبالتالي يصير لك امتياز الظهور في محضر الله، قديساً وبلا لوم قدامه في المحبة.

(12) في هذه الآية المجيدة، يختم بولس كلمته المعترضة بطلبة حارة لأجل أحبائه في أفسس، متوسلاً أن لا يسلموا أنفسهم لليأس بضعف إيمان بسبب الشدائد، التي حاقت به هو بولس رسول المسيح إلى الأمم. فقد كان أسيراً في قيصرية سنتين، وفي رومية نحو سنتين، قبل أن كتب لهم هذه الرسالة. فخاف أن تكون لهم شدائده وهو سجين علة يأس وكلل وتراجع. إلا أنه بسبب حجز حريته، لم يستطع أن يخدمهم باعتبار كونه رسولهم. وهذا ما كدره، وحركه لكي يكتب لهم مشجعاً ومقوياً.

ومع ذلك فقد كان بولس يفخر بضيقاته لأنها كانت تشحذ همته للمضي في خدمة المسيح، طليقاً كان أم رهين السجون. وهذا ما عزاه في ضيقاته لأنه اعتبره تكملة لنقائص شدائد المسيح في جسمه لأجل الكنيسة (كولوسي 1: 24) ولهذا سأل الأفسسيين أن لا يحسبوا آلامه من أجل الأمم عاراً عليه وعلة فشل لهم. بل أن يجدوا في ذلك علة لفرحهم وموجباً لشكرهم. إذ كانت ضيقاته شهادة لقوة الحق ولقوة نعمة المسيح، لأنه كان أسيره وسفيره في سلاسل. فهو بذلك شاهد للحق وللنعمة. وكما أن الله بذل ابنه متألماً من أجلهم، وحبا بهم، أراد الرسول أن ينظروا إلى شدائده من زاوية كونه رسول المسيح، وعليه أن يحتمل الآلام لأجله كهبة من الله (فيلبي 1: 29).

وأنت إذا تألمت لأجل المسيح، لا تتذمر ولا تدمدم، بل بالحري أفرح، لكي نفرح في استعلان مجده أيضاً مبتهجاً (1 بطرس 4: 13). إن مشاركة المسيح في آلامه هي إثبات الحق والبر ومجد الله ونفع الناس. والمسيح أظهر أنه يعتبر ضيقات المؤمنين به ضيقاته، بدليل قوله لشاول المضطهد شعبه: شاول شاول، لماذا تضطهدني؟ (أعمال 9: 4).

الصلاة: ايها الرب المسيح، كم نشكرك لأجل آلامك النيابية عنا لكي تقربنا إلى الآب السماوي. ونشكرك لأجل رسلك الأمناء الذين صاروا لنا مثالاً في تحمل الآلام لأجل مجدك. أعطنا نعمة جديدة لكي نعرفك في آلامك ولك المجد. آمين.

14بِسَبَبِ هٰذَا أَحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، 15ٱلَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ. 16لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِٱلْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي ٱلإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ، 17لِيَحِلَّ ٱلْمَسِيحُ بِٱلإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ.

(14-15) «بسبب هذا...» أي بكونكم صرتم شركاء في الفداء، الذي بيسوع المسيح، «أحني ركبتي...» مصلياً من أجل نموكم وتقدمكم في معرفة المسيح.

لقد بدا الرسول صلاته في هلة هذا الأصحاح، ثم توقف عنها لما أورده من كلام معترض. ولما استأنفها، كرر عبارته الأولى «بسبب هذا...» للتأكيد.

«أحني ركبتي» ويا لها من كلمة، جديرة بالتأمل!... فقد كان الرسول محبوساً في زنزانة ضيقة، ورغم قساوة الأصفاد التي طوقت بها ساقاه. جثى على ركبتيه. ولم يكن انحناؤه جسدياً وحسب، بل انحنى بكل كيانه أمام الله، وفي رغبة متوسلة وضارعة إلى الله، لكي ننال تلك الهبات الروحية التي أعلنت له. لأننا كالأفسسيين، مع أنه لنا في المسيح كل هذا الغنى الروحي، إلا أنه يخشى علينا من خطرين: الخطر الأول البقاء في حال الطفولة روحياً، والخطر الثاني حيازة هذه الامتيازات الروحية في شكل الحرف الميت، أو المعرفة العقيمة، متخذين من الحفاظ على حرفية الكتاب المقدس تغطية للرغبات الشخصية الأنانية.

ومن ميزات صلاة الرسول أنه أحنى ركبته لدى الآب «الذي منه تسمى كل عشيرة في السماء وعلى الأرض وعشيرة السماء تتألف من جمهور الملائكة الذين يخدمونه (عبرانيين 1: 7) ويخبرنا الإنجيل أن الملائكة خدموا الرب يسوع، في اثناء تجاربه في برية الأردن (متى 4: 11) أما عشيرة الأرض، فهي جماعة المؤمنين من بني البشر، الذين كانوا في حضيض السفالة، لأنهم كانوا في الطبيعة أبناء الغضب، وفي حال الفشل، وليس أمامهم سوى الهلاك. ولكن الله الذي هو غني في الرحمة، كغناه في المجد، ظهر في الجسد، وتمجد بخلاصهم، معطياً لهم شرف الاشتراك في قداسته.

(16) مع أن تدبير النعمة، أتى بالخلاص هبة مجانية، إلا أن القلب البشري لاي قبله بسهولة. لأن الإنسان في شططه يأبى إلا أن يكون لبره الذاتي يد في خلاصه، بدلاً من أن يؤمن بكل بساطة بمن يبرر الفاجر (رومية 4: 5).

لماذا نحن بطيئي القلوب بالفهم، ولماذا لا نقبل عطية الله المجانية مسبحين وشاكرين؟ ولماذا التلكؤ بقبول دعوة الرب القائلة: «اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَٱخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ لأَنِّي أَنَا ٱللّٰهُ وَلَيْسَ آخَرَ» (إشعياء 45: 22) بمعنى أن خلاصنا وتقدمنا في الحياة الروحية يتوقفان على شيء واحد، أن نعرف كيف نحصل على الكنز الذي يريد الله أن يوزع محتوياته علينا، وهو غنى مجده.

قال الرسول: «لكي يعطيكم بحسب غنى مجده» هل لاحظت سمو هذا الإعلان. إنه غنى مجد الله المرتكز على يسوع ابن الإنسان الممجد، بعد أن أكمل عمله الفدائي (يوحنا 12: 23). إنه بهاء مجد الله ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته (عبرانيين 1: 3 و4).

قال يوحنا الإنجيلي: «وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ» (يوحنا 1: 16). فهذا الملء كان مصدر الإلهام في صلاة بولس. ولسعادة المؤمن أن الله يريد أن نغترف من هذا الكنز الإلهي إلى الملء وإلى الفيض.

(17) إن القوة التي سألها بولس لأجل الأفسسيين في الآية السادسة عشرة، بفعل الأقنوم الثالث، سألها في هذه الآية بفعل الأقنوم الثاني وعبر عنها بحلول المسيح بالإيمان في القلب، على وفق قوله: «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية 2: 20).

إن التسربل بقوة الروح القدس، له جذور يجب أن تتأصل في المسيح، لكي تنمو. وبقدر ما تتعمق هذه الجذور في معرفة المسيح تتوافر الثمار بدون إحداث أي ضجيج. ومما يستوجب الفرح، هو أن المسيح يرغب في ان يسكن في قلب المؤمن، ليكون حافظاً له. وبكونه اشترانا بدمه، يحق له أن يجلس على عرش قلبنا. وأن لا يكتفي بأن يحتل مكاناً في العقل، ولا أن يسوس اللسان فقط، بل لا زال يقول اليوم،كما كان يقول قديماً: «يَا ٱبْنِي أَعْطِنِي قَلْبَكَ وَلْتُلاَحِظْ عَيْنَاكَ طُرُقِي» (أمثال 23: 26).

الصلاة: يا إلهنا الصالح، قلوبنا تشكرك من صميمها لأجل يسوع المسيح ربنا المذخر لنا كل كنوز المعرفة الصحيحة، مع البركات الروحية. افتح عيون ذهن بني البشر لكي يدركوا هذه الحقيقة ويعرفوا ما هو لسلامهم. آمين.

18وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي ٱلْمَحَبَّةِ، حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ مَا هُوَ ٱلْعَرْضُ وَٱلطُّولُ وَٱلْعُمْقُ وَٱلْعُلْوُ.

في صلاته الأولى، سأل بولس منأجل الأفسسيين - ومن أجلنا - المعرفة الروحية، التي هي هبة من الله للذين هم له. وهذه المعرفة تتخالف في جوهرها مع الطاقات العقلية البشرية، لأن المراد هنا هو فعل روح الله، فاتحاً عيون قلوبنا لترى الأشياء التي في قدس الله. كما هو مكتوب: «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ ٱللّٰهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ» (1 كورنثوس 2: 9) أما المعرفة المحض عقلية لهذه الحقائق،فليس لها قوة ولا فاعلية، لأنها في الغالب مبنية على أوهام قصد بها التستر على حالة الموت الروحي، التي يتردى بها البعض من أهل العالم.

أمام هذه المفارقات، يلتمس بولس بالأكثر من أبي المجد المعرفة والقوة الروحية بحلول المسيح بروحه في القلب، وحيث روح المسيح يكون المسيح. ويلزم من ذلك أن معنى كون المسيح فينا، هو أن روحه لنا، وحبه فينا.

لاحظ هذا: أن قوة الروح القدس تعطى في هدوء حبضوره. وتجاوباً مع طاعة المؤمن المولود منه. حتى يستطيع هذا المؤمن أن يكون في حال روحية، تمكنه أن يدرك ما لا يدرك. فحب المسيح عظيم بمقدار أنه يتيح للمؤمن ارتداء قوة الروح القدس، وفقاً لقوله: «لأَنَّ مَحَبَّةَ ٱللّٰهِ قَدِ ٱنْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلْمُعْطَى لَنَا» (رومية 5: 5).

واستطراداً يقول الرسول: «مع جميع القديسين» وهذه العبارة من شأنها أن تثير الحزن في قلوبنا: فالرسول الكريم ذكر هذه العبارة «جميع القديسين» أربع مرات في هذه الرسالة (1: 15، 3: 8 و18، 6: 18) وفي كل مرة، ينبر على كلمة «جميع»، وكأنه يريد أن لا يغيب من قلوبنا وأرواحنا الشعور بالشركة المقدسة الروحية بين أعضاء جسد المسيح. ولكن للأسف فإننا نلحظ أن الشركة ممزقة في أيامنا ، بسبب الانقسام الحادث في صفوف المؤمنين، في وسط خرائب المسيحية، حيث تسود الشكوك ويكثر التحزب والشقاق.

«أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو» أي مع كل شعب الله. وهذا يدل على أن شعب الله المؤمنين يعتبرون هذا الإدراك من أثمن المطالب:

  1. لماذا العرض أ ولاً؟ هل حركة يدي يسوع الممدودتين تشملني بهذا الحب العجيب؟ نعم! إنني اكتشفت أن كل حب الله انحنى على حالتي البائسة، بحيث لا أستطيع الإفلات من حضن ذراعيه المفتوحتين.

  2. العرض - منذ متى يحنبي؟ وألام سيحيبني؟ لقد اكتشفت الجواب في كلمته: «مَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ، مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أَدَمْتُ لَكِ ٱلرَّحْمَةَ» (إرميا 31: 3) وبقدر ما اكتشف شخصياً أبعاد هذا الحب، ينفتح قلبي ويشعر بالدفء إنه يحبني إلى المنتهى (يوحنا 13: 1).

  3. العمق - قرأت في الأصحاح الثاني ما أعلنه الله لبولس عن اشتراك الأمم في ميراث المسيح، ففهمت إلى أي مدى، يذهب عمق حب المسيح. فلا نخف بعد اليوم، حين يذكرنا الروح القدس بالصخر الذي منه قطعنا، وبنقرة الجب التي منها حفرنا (إشعياء 51: 1). انظر لهذا نحن نعبده، انظر أن حبه هو ملهم شهادتنا! ولكن ليي نعرفه حقيقة، وجب على إنسانا الباطن أن يتسربل بقوة الروح القدس.

  4. العلو - لقد رأى يعقوب في رؤيا سلماً منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء، وملائكة الله صاعدة ونازلة عليها (تكوين 28: 12) والمسيح في بداية رسالته قال: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ ٱلآنَ تَرَوْنَ ٱلسَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ ٱللّٰهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ» (يوحنا 1: 51). وكان له المجد يتكلم آنئذ عن أمور مستقبلة، كما ستكون حين نملك. ولكن هنا يتكلم الرسول عن الوشائج التي تربط الآب السماوي بكل ابن تبناه في المسيح، وترفعه في المجد إلى الملء الإلهي، كما هو مكتوب: «لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ ٱلْكُلُّ وَبِهِ ٱلْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى ٱلْمَجْدِ» (عبرانيين 2: 10) فمنذ الآن يستطيع المؤمن الذي يعيش في حقيقة الشركة مع مخلصه أن يقول مع بولس: «أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ».

الصلاة: شكراً لك يا إلهنا الصالح، لأجل حبك العظيم الذي نزل إلى قلوبنا بالروح القدس. لكي يؤسسنا ويؤصلنا في مخلصنا وفادينا ويتيح لنا أن ندرك أبعاد حب المسيح. ثبتنا في هذا الحب إلى المنتهى. آمين.

19وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ ٱلْفَائِقَةَ ٱلْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللّٰهِ.

لقد حصل بولس على كفاءات من الله، لكي يعبر للمؤمنين عن الحقائق البالغة العمق وبكل بساطة. فحيث يعجز النطق عن التعبير، أعطى بولس القدرة على استنباط ألفاظ جديدة تفي بالغرض. فإلى الفيلبيين تكلم عن سلام الله الذي يفوق كل عقل (فيلبي 4: 7) وفيما تقدم كلم الأفسسيين عن غنى مجد الله الذي لا يُستقصى (أفسس 3: 8). وفي هذه الآية يتكلم عن محبة المسيح الفائقة المعرفة. هذا التعبير الغني، هو حاسم بالنسبة للإيمان المسلم مرة لللقديسين. وهو يذكرنا بالكلمات الأولى، التي فاه بها ربنا المبارك، والمدونة في الإنجيل بحسب يوحنا. فحين أشار إليه يوحنا المعمدان، قائلاً: هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم، لحق به اثنان من تلاميذ المعمدان وسألاه: يا معلم أين تمكث؟ فأجابهما: تعاليا وانظرا! وكان يعلم مسبقاً كيف سيعلن لخاصته، أنه هو سيكون مستقرهم، مع أنه لم يكن له أين يسند رأسه وفوق هذا، كان محتقراً ومذلولاً من الناس (إشعياء 53: 3).

ومع ذلك فإن الإنجيل يخبرنا أن تلاميذه ثبتوا معه في تجاربه (لوقا 22: 28) وكانت لهم من معرفته كحمل الله وسيلة لكي يعرفوا الطريق إلى القوة. وقبل أن يغادر هذا العالم، وبانتظار أن يفهموا قصة آلامه قال لهم: «لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ... سَمِعْتُمْ أَنِّي قُلْتُ لَكُمْ أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُمْ... اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ... اُثْبُتُوا فِي مَحَبَّتِي» (يوحنا 14: 18 و28، 15: 4 و9). ففي هذه العبارات أعطى الرب يسوع جواباً على أسئلة من يريد السير وراءه.

ولكن بولس، أراد في هذه الآية أن يؤكد أن المسيح يمكث في قلوب الذين هم له بالإيمان، لكي يدركوا محبته الفائقة المعرفة. وغايته أن يصبح كل الأبناء الذين تبناهم درة ثمينة في كنز مجده الفائق الغنى.

في رسالته إلى كولوسي سأل بولس أن يمتلئ الكولوسيون من ملء معرفة مشيئة الله. أما هنا فطلب من أجل الأفسسيين ما هو أسمى، إذ قال: «لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله». هذا هو القياس الفائق والذي هو فوق علم الإنسان لأنه ملء الله نفسه، وكل ما يتعلق بأبعاد محبته، التي هي لا محدودة مثل أزليته وأبديته وكونه في كل مكان. ولا نستطيع أن نحدها لأننا لا نقدر أن ندرك عمق التنازل الإلهي إلى حضيضنا لكي يفتدينا، ولا شدة آلام المسيح التي احتملها، لكي يظهر هذه المحبة. إلا أنه لا يستنتج من هذا بالضرورة أن في وسع النفس البشرية أن تصل إلى الكمال في اختبارها، ما دامت في هذه الدنيا. وبولس نفسه قال: «لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ أَوْ صِرْتُ كَامِلاً، وَلٰكِنِّي أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُ ٱلَّذِي لأَجْلِهِ أَدْرَكَنِي أَيْضاً ٱلْمَسِيحُ يَسُوعُ» (فيلبي 3: 12) ولا يوجد أي وعد من قبل الله بأنه لن يدع شيئاً إلا ويكمله من أجل خاصته. ولكن ينبوع بركاته الروحية المتفجر، لن ينضب معينه. والمؤمنون يمتلئون بتلك البركات باستمرار. وذلك نتيجة لسكنى المسيح فيهم، وما يدركونه من عظمة محبته.

أأنت راغب في أن يحل المسيح في قلبك، لكي يؤسسك ويؤصلك في المحبة؟ إن كان نعم فطوباك، لان من سكن المسيح في قلبه لا يعوزه شيء. لأن المسيح، هو الكل وفي الكل. والمسيح يرغب في ذلك، وما عليك إلا أن تفتح له باب قلبك. فهو قد قال: «هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى ٱلْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ ٱلْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا 3: 20).

الصلاة: ايها السيد الرب، أُعظم اسمك وأسألك ضارعاً أن تخلق فيّ قلباً نقياً طاهراً وخالياً من حب العالم الغرار. وأن تملأه بشخص المسيح لكي يحيا المسيح فيّ. آمين.

20وَٱلْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ أَكْثَرَ جِدّاً مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ ٱلْقُوَّةِ ٱلَّتِي تَعْمَلُ فِينَا.

بعد قراءة الآية التاسعة عشرة يمكننا أن نتمتع ببرهة استراحة. ولعل الروح القدس ألهم الرسول أن يضع هذا الفاصل ليتسنى للمكتوب إليهم أن يصرفوا هنيهة في التأمل والصلاة.

ونحن الذين نقرأ هذا الفصل، ونتأمل في محتوياته، ألا نشعر بالحاجة إلى قضاء بضع دقائق في الصمت لنفتكر في ما أعدته لنا عناية الله من بركات، ونصلي شاكرين؟

إن غنى مجده يظهر ضعفي وترددي، وإن كنت أبذل محاولات لكي أفهم بأن كل هذا لأجل شخصياً. فإنني أشعر بعدم لياقتي. ولعلي سأجرب بإسدال الستر على الرؤيا السماوي، فأحزن الروح القدس الذي بدأ يستولي على كياني. ولهذا فأنا في حاجة ماسة إلى أن أحني ركبتي مصلياً وطالباً القدرة لكي أثبت في المسيح.

لقد أنهى الرسول صلاته بهذه العبارة الرائعة: والقادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر... كأنه يقول: ليس أنا، بل هو القادر أن يفعل إلى ما لا نهاية له، فوق ما أطلب وأفتكر! لاحظ أن المسألة تنطلق، أولاً مما نطلب ثم مما نفتكر.

لقد اعتدنا على الصعيد البشري أن نفكر ثم نطلب... مع أننا في الغالب، نتكلم بدون حسن تفكير في ما يترتب على سؤلنا. ولهذا حرص الرسول بولس على أن يعلمنا أن نطلب أولاً قوة الله لتعمل فينا وتخلق في أرواحنا أفكاراً جديدة، ليس بحسب نظرتنا المحدودة، بل بحسب قصد الذي يرى فوق كل شيء.

ليت كل واحد منا يتطرح هذا السؤال: كيف أتعامل مع هذه القوة العاملة فيّ؟ لأن التأمل في آية كالتي نحن في صددها يجب أن يؤول إلى تغيير أشياء كثيرة في حياتنا.

لقد فهمنا في ضوء كلمة الله أنه يتوجب علينا أن نفتح الباب، وأن نتخلى عن إرادتنا لهذه القوة الإلهية العاملة فينا، لنعمل بكل حرية. من أجل هذا أوصينا بأن لا نحزن الروح القدس، وأن لا نطفئه بعدم الطاعة.

لقد شاء الله في نعمته أن يؤيدنا بالقوة بروحه في إنساننا الباطن لكي ندرك وننال كل ما أعلنه في هذا الأصحاح المجيد. حتى نعيش مسيحنا في محبته، كبرهان على أننا تسربلنا بقوة الروح القدس.

إن طلبة الرسول في الآية السابقة، قد فاقت حد التصور، وتخطت حدود ملكات الفكر. ولكيلا يسود علينا الانذهال عالج الرسول الموقف بتوجيه النظر إلى الله قائلاً: والقادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب ونفتكر. والواقع إن كانت محبة الله قد أتاحت لنا أن نصير إلى شبه المسيح ونمتلئ إلى كل ملء الله، فليس بمستبعد على قدرته الفائقة العاملة فينا أن تعطينا تقديساً مستمراً يوماً بعد يوم، إلى أن نرى الرب كما هو. ونرث المجد، الذي أعده لنا قبل كون العالم.

الصلاة: أبانا الذي في السموات، عظيمة هي محبتك لنا نحن المزدرى وغير الموجود. أنت القادر على كل شيء، وإرادتك أن تهبنا فيضاً من البركات الروحية في المحبوب يسوع. أعطنا أن نتقبل هباتك بالشكر. آمين.

21لَهُ ٱلْمَجْدُ فِي ٱلْكَنِيسَةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. آمِينَ

يختم الرسول الأصحاح بهذه الجملة الرائعة، التي بها يتوج أيضاً القسم الأول من هذه الرسالة. وهي فقرة يجب أن تكون الهدف الفردي والجماعي لمفديي الرب يسوع في كل جيل وعصر. وحين نتأمل عباراتها الوجيزة، تتجلى لنا أربع حقائق عن المجد الإلهي:

  1. ظهور المجد فينا: إنه كمالات الصفات الأدبية والمنعكسة من جلال الله على البشرية، التي افتداها يسوع المسيح. وقدمها لله قنية مقدسة، لتشهد لعمل نعمته بسلوكها في النور.

  2. مآل المجد: قد قرأنا أن المقدسين، نالوا نصيباً في المسيح ليكونوا لمده مجده (أفسس 1: 11 و12). بمعنى أن عمل الله فينا صار واسطة لمدح جلاله الأقدس. فالمجد في فدائنا يؤول لله طبيعياً وذاتياً، ونحن مدعوون لكي نمجد الله بالعيش كما يحق له تعالى في البر وقداسة الحق.

    وكم يجب أن نشكر الله، لأن قصيدة المجد أنشدت على أرضنا يوم تجسد فادينا. انشدها ملائك الله قائلين المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة (لوقا 2: 14). ولأن المجد كان في قلب صلاة ربنا من أجلنا، حين قال «أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى ٱلأَرْضِ... وَٱلآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 17: 4 و5). ولأن المجد سيكون في قلب ترنيمة الفداء، التي سينشدها جمهور المفديين، الذين تغسلوا بدم حمل الله: «أَنْتَ مُسْتَحِقٌّ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ ٱلْمَجْدَ وَٱلْكَرَامَةَ وَٱلْقُدْرَةَ، لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإِرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ» (رؤيا 4: 11).

  3. دائرة إظهار المجد: في الكنيسة المجيدة. لأن الكنيسة مشهد يعرف فيه ذلك المجد ويعلن. وهي جماعة المؤمنين في السماء وعلى الأرض. وفيها أظهر الله حكمته المتنوعة ونعمته غير المحدودة في الماضي، وسيظهر في كل الدهور الآتية.

  4. واسطة المجد: «في المسيح يسوع» أي أن المسيح هو هو واسطة تجلي المجد الإلهي في الكنيسة. بمعنى أن الكنيسة تمجد الله بواسطة المسيح الذي هو رأسها ورئيسها ونائبها. وهذا مناسب لفحوى الرسالة باتحاد الكنيسة في المسيح.

  5. دوام المجد: «إلى جميع أجيال دهر الدهور» أي إلى الأبد باستمرار. وبيدو أن الرسول جمع في هذه العبارة ما يستعلمه الناس إشارة إلى أزمنة طويلة متوالية، لكي يعبروا عن الديمومة التي لا نهاية لها.

ويختم الرسول صلاته بكلمة «آمين» وهي كلمة عبرية، معناها استجب، أو ليكن كذلك. وأظهر الرسول بهذا رغبته في أن يتم ما سأله من أجل المؤمنين، ويدعو ضمناً كل قراء الرسالة أن يوافقوه على ذلك.

الصلاة: يا إلهنا الصالح، ننحني عند مؤطئ قدميك تعبداً لشخصك القدوس اقبل شكر قلوبنا، وتسبيحات شفاهنا من أجل تنازلك العجيب لكي تفتدينا وتتمجد بخلاصنا. ثبتنا في خلاصك إلى الدهر والأبد. آمين.

المسابقة الأولى لرسالة أفسس

إن أجبت على 24 سؤال بصواب. نرسل إليك أحد الكتب الذي تختاره من قائمة مطبوعاتنا.

  1. ما هو مفتاح رسائل بولس؟

  2. أورد مثلاً على ذلك.

  3. بمَ يجب أن تتميز حياة المؤمن؟

  4. ألام يتحول التسبيح عند المؤمنين؟

  5. ما هو قصد الله من التعيين للبنوة؟

  6. ما هو مصير المستهينين بذبيحة المسيح؟

  7. ما هي أوصاف ميراث القديسين؟

  8. ما هي البركة الإلهية التي يمنحها الرب عند الإيمان؟

  9. ماذا سأل الرسول من أجل الأفسسيين؟

  10. ماذا طلب الرسول في هذه الآية من أجل أحبائه؟

  11. ماذا سأل الرسول في هذا القسم من صلاته؟

  12. لماذا يسمح الله بوقوع التجارب والضيقات على أولاده؟

  13. ما هي الحالة التي كان عليها الأفسسيون قبل أن يعرفوا المسيح؟

  14. ما هو جوهر صفات الله؟

  15. بما أوصى الرسول الذين قاموا مع المسيح؟

  16. ماذا قال الرسول عن الخلاص؟

  17. ما هو المطلوب من الإنسان؟

  18. كيف كانت حال الأمميين بدون المسيح؟

  19. كيف صار الأمم قريبين؟

  20. ماذا كان سيحدث لولا عمل الكفارة الذي أكمله يسوع؟

  21. بماذا بشر المسيح؟

  22. من أي مواد شيد هيكل الله الروحي؟

  23. ماذا تظهر إقامة بناء روحي من هذه العناصر المختلفة المصادر؟

  24. ما هي غاية الرسول من الآية الثانية؟

  25. ما هو السر الذي أُعلن لبولس؟

  26. بماذا امتاز بولس؟

  27. من هم الذين أراد الله أن يعرفهم سر الفداء؟

  28. ماذا يجب علينا أن نذكر دائماً؟

  29. ممن تتألف عشيرة السماء وعشيرة الأرض؟

  30. ماذا طلب الرسول من الأفسسيين في هذه الآية؟

  31. على ماذا حصل بولس من الله في صدد هذه الآية؟

  32. بمَ أنهى الرسول صلاته؟

  33. إلى من يؤول المجد في فدائنا؟

اذكر اسمك وعنوانك كاملاً ونحن في انتظار رسالتك.


Call of Hope  P.O.Box 10 08 27 
70007
Stuttgart
Germany

اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ

1فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا ٱلأَسِيرَ فِي ٱلرَّبِّ، أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ ٱلَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا. 2بِكُلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ، وَبِطُولِ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي ٱلْمَحَبَّةِ.

رأينا في القسم الأول من هذه الرسالة، أننا كنا قبلاً بلا رجاء وبلا إله في العالم، وأمواتاً في الذنوب والخطايا. وكنا سالكين بحسب رئيس هذا العالم. ولكن بما أننا الآن قد صرنا موضوع رحمة الله المعلنة تجاوباً مع حبه العامل فينا بالنعمة، فإن الرسول يهيب بنا أن نعيش كما يحق للدعوة التي دعينا بها.

من هذه النقطة، وإلى نهاية الرسالة يدخلنا الرسول في المجال العملي، حيث يتوجب على المسيحي أن يعيش حقيقة وضعه في المسيح. وأن يعكس هذه الحقيقة أمام الناس.

لقد بلغنا ذروة إعلان النعمة في صلاة الرسول الثانية، وهذا الإعلان الذي اكتشفناه بواسطة روح المسيح يجب أن يتحقق منذ الآن في قلوبنا في الإنسان الباطن. هذا أيضاً عمل الروح القدس، الذي يعمل فينا جواباً على بساطة الإيمان. وذلك بتفجير هذه الثروات اللامتناهية، والتي تفوق كل معرفة. بهذا العمل من قبل الأقنوم الثالث تنتج القداسة بالإيمان، حيث يعيش المسيحي في وسط أقرانه، كما هو في المسيح الممجد.

في هلة هذا الأصحاح، سأل الرسول الأسير في الرب أحباءه الأفسسيين، أن يقابلوا هذه البركات التي اشتراها المسيح بدمه وجعلهم شركاء فيها، بالسلوك في الاستقامة والقداسة، كما يحق لشرف دعوتهم العظمى. وهذا يماثل قوله للفيلبيين: «فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لِإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ» (فيلبي 1: 27) وقوله للكولوسيين: «لِتَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلرَّبِّ» (كولوسي 1: 10) وقوله للتسالونيكيين: «لِكَيْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلّٰهِ» (1 تسالونيكي 2: 12).

في هذه العبارات يذكرنا الرسول، بأن الله اختارنا في المسيح لنكون قديسين وبلا لوم، وعيننا للتبني. ولكن هؤلاء الذين اختيروا، وعينوا وفدوا وختموا بالروح القدس، يجب أن يبرهنوا ذلك بتواضعهم ووداعتهم وطول أناتهم. إذ هنا تظهر سجايا أولاد الله. هذه هي العلامة الحقيقية لقوة الروح القدس الساكنة في المسيح، والتي أشار إليها الرسول بقوله: «مُتَقَّوِينَ بِكُلِّ قُّوَةٍ بِحَسَبِ قُدْرَةِ مَجْدِهِ، لِكُلِّ صَبْرٍ وَطُولِ أَنَاةٍ بِفَرَحٍ» (كولوسي 1: 11).

لنفحص قلوبنا وضمائرنا، ولنعرتف بإفلاسنا في ضوء الدعوة التي دعانا المسيح إليها حين قال: «اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ ٱلْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ» (متى 11: 29 و30).

هل تجد عناء في إدراك البساطة التي بها صاغ الرب هذه الدعوة؟ في الحقيقة أنه هنا يلزمنا بأن تستنير عيون قلوبنا. قد لا تستطيع القوى البشرية أن تصل إلى المستوى الذي يتيح لها قبول نير المسيح، ولكن الإنسان الباطن يمكنه أن يدرك ويقبل مشاركة المسيح في نيره بفرح.

يهيب بنا السفر الأخير من الكتاب المقدس أن تشترك في صبر المسيح (رؤيا 1: 9) والرسول سأل من أجل التسالونيكيين هذه الهبة، إذ قال: «وَٱلرَّبُّ يَهْدِي قُلُوبَكُمْ إِلَى مَحَبَّةِ ٱللّٰهِ وَإِلَى صَبْرِ ٱلْمَسِيحِ» (2 تسالونيكي 3: 5). وأي أمر لم يصبر المسيح عليه، وهو يواجه تحديات رؤساء اليهود وجماهير أتهم؟! وأي صبر كان صبر المسيح وهو يرى نكران بطرس وخيانة يهوذا؟!

ليت الرب يسوع يهبنا لطفه ووداعته وتواضعه وصبره، وحينئذ نستطيع أن نحتمل بعضنا البعض في المحبة! وليته يرسخ في أذهاننا، أن لا نرتأي فوق ما ينبغي ما نرتأي. عالمين أن سلوكنا مهما سما وارتقى، لا يمكن أن يبلغ الكمال. ولكن لا نفشل. فإن قصرنا في أمر ما، فلنا عند الآب شفيع، هو يسوع المسيح البار.

الصلاة: يا رب إلهنا الصالح، نشكرك للطفك وصبرك. لأنك تتأني علينا ولا تشاء أن يهلك أحد، بل أن يقبل الجميع إلى التوبة. افتح عيون قلوبنا لندرك أبعاد محبتك، ونسلمك قلوبنا لكي تطهرها بدم المسيح. آمين.

3مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ ٱلرُّوحِ بِرِبَاطِ ٱلسَّلاَمِ.

بقدر ما يحل المسيح بالإيمان في قلوبنا. نكون أقوياء بروح الرب في الإنسان الباطن. هذا هو السر الوحيد، لنكون ودعاء ومتواضعين وطويلي الأناة. فنحتمل بعضنا بعضاً بالمحبة، ونجتهد لكي نحفظ وحدانية الروح برباط السلام.

الوحدانية لا تحتاج إلى أن نصنعها، لأن الله أوجدها. ومع ذلك فجهود كثيرة تضيع وتصبح عقيمة، لأنها تبذل حيث لا يوجد أساس للإيمان المسلم مرة للقديسين (يهوذا 3) لأنه بد ون وجود قاعدة إيمانية وبدون طاعة، وبدون حجر زاوية في البناء الروحي، لا يمكن أن توجد وحدة صحيحة.

بوحدانية الروح يتهيأ لنا مناخ روحي، تسود فيه المحبة عواطف جميع المؤمنين. فتصبح العلائق مطبوعة بمحبة الله، التي تحدرت إلى قلوبهم بالروح القدس معطى لهم. وبهذا يسهل كل عسير، ونحتمل ما لا يحتمل، ومن لا يحتمل. وفي هذا الجو الروحي، يختلف الاحتمال الناشئ عن الضعف والخنوع وعدم القدرة على المقاومة، عن الاحتمال الذي تنشئه المحبة الإلهية، وتنميه وتتوجه.

لقد علمنا في فصل سابق، أن المؤمنين «مبنيون على أساس الرسل والأنبياء، ويسوع المسيح حجر الزاوية» ففي هذا البناء الإلهي المتماسك، نجد هذه الوحدانية، التي دعينا لكي نحفظها برباط السلام. وعلينا قبل كل شيء، أن نصلي بكل طلبة، سائلين الله أن يسود علاقاتنا المشتركة روح التواضع والوداعة وطول الأناة.

إن الأساس قد وضع، والعقيدة نقية ومتينه، ولكن بنياننا يتطلب منا التسليم الكامل لمشيئة المسيح، لكي يحولنا إلى صورته، لنصير حجارة حية في هيكله المقدس.

حين نتأمل في ما حرضنا الرسول على الالتزام به، إزاء وحدانية الروح، نرى أن الرسول يشير إلى كبر المسؤولية التي وضعت على كل مسيحي، وإلى ضخامة الخطر الذي يترتب على فقدها. ولا ريب في أن المتأمل في كلمة الرسول، يرى عدة حقائق جديرة بالدرس:

  1. طبيعة الوحدانية: إن الوحدانية المقدسة التي ينشئها الروح القدس ويقويها وينميها، ليس فقط تجعل كل المؤمنين واحداً في المسيح، بل أيضاً تجمعهم في اتحاد حي متين فيما بينهم، كأعضاء الجسد الواحد، الخاضع للرأس الواحد.

    إنها رابطة حية شريقة بين أعضاء حية، في جسد حي، يتوجها رأس واحد حي هو يسوع المسيح. إنها وحدة التآلف بين القديسين، الذين تبناهم الله في المسيح، وألف بينهم قصد إلهي واحد، مثلما تتآلف أوتار القيثارة، لتردد لحناً واحداً.

  2. واجبنا إزاء الوحدانية: قال الرسول: «مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح...» والنقطة المركزية في هذه العبارة مؤلفة من كلمتين «مجتهدين وتحفظوا» وهما تشيران إلى أن المسيحي الحقيقي يعلم أن ليس له قدرة على إنشاء هذه الوحدة بنفسه لأنها من مواهب الله. لكنه يقدر أن يعرف قيمتها وبحفظها باجتهاده من كل ما يبطلها داخل الكنيسة وخارجها.

أما العبارة «ربط السلام» فتعني أن السلام هو الوسيلة، التي بها تحفظ وحدانية الروح في الكنيسة. وهذا السلام الحافظ نفسه، ناتج عن المحبة والتواضع وطول الأناة، واحتمال كل غيرة بلا غيظ ولا تذمر. وهذا ضروري جداً لحياة الكنيسة ونموها. وهو يظهر فيها بثمار الروح، التي هي: «مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ» (غلاطية 5: 22 و23) ولسعادتنا أن المسيح هو سلامنا، وقد قال: ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر.

الصلاة: نمجد اسمك أيها الرب الإله لأجل الروح القدس العامل في الكنيسة، والذي حفظ أولاد الله في كل الأجيال بوحدة الإيمان. قدس قلوبنا وطهر نوايانا واحفظنا برباط السلام، سلام ربنا يسوع المسيح. آمين.

4جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا دُعِيتُمْ أَيْضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ ٱلْوَاحِدِ. 5رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، 6إِلٰهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، ٱلَّذِي عَلَى ٱلْكُلِّ وَبِٱلْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ.

في هذه الفقرة يذكر الرسول عناصر وحدانية الروح، أو الأعمدة السبعة، التي بني عليها هيكل الوحدانية:

  1. جسد واحد - وفي مكان آخر قال الرسول: «لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً ٱعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ... وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحاً وَاحِداً» (1 كورنثوس 12: 13) وهنا يجب أن نتذكر تعليم الرسول في موضوع الكنيسة كما نرى من فوق: «وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، ٱلَّتِي هِيَ جَسَدُهُ... مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ ٱلرُّسُلِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ ٱلّزَاوِيَةِ» (أفسس 1: 22 و23، 2: 20). فيا لها من وداعة! ويا لها من قوة! أن نعرف أنه حيثما وضع أساس إلهي واعترف به، نرى أن حجر الزاوية لكل واحد وللجميع معاً حجر مختار من الله كريم (1 بطرس 2: 4). بمعنى أن الذين يحبون الرب بدون رياء يستطيعون بمحبتهم لله ولبعضهم أن يبرهنوا وحدانيتهم كأعضاء جسد المسيح. وهنا لا بد من القول أن المجهودات، التي يبذلها الناس في هذه الأيام لتوحيد الكنائس بدون الرجوع إلى هذه القاعدة الإلهية، ليست سوى ترداد لما قيل في تكوين 11 عن برج بابل الذي كان في بنيانه أكثر من تحد لجلال الله.

  2. روح واحد - كما أن الجسد البشري يحيا بفضل التنفس، هكذا جسد المسيح الذي هو هيئة إلهية يحيا بالروح القدس. ولهذا يوصينا بولس بالحذر من أحزان الروح المبارك. وكون جميع المؤمنين أعضاء جسد المسيح، وكون الروح القدس يسكن فيهم، وكونه على حياتهم الروحية، يستلزم أن يجتهدوا في حفظ وحدانية الروح. وأن يحب كل واحد منهم الآخر، محبة أخوية شديدة بلا رياء. وأن يرتبطوا جميعاً برباط السلام.

  3. رجاء واحد - كل عضو في جسد المسيح مدعو لحيازة هذا الرجاء المرتبط بدعوته. وهي تحمله مسؤولية كبرى تجاه العالم، الذي يعيش فيه، وفقاً للكملة الرسولية القائلة: «مِنْ ثَمَّ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ٱلْقِدِّيسُونَ، شُرَكَاءُ ٱلدَّعْوَةِ ٱلسَّمَاوِيَّةِ، لاَحِظُوا رَسُولَ ٱعْتِرَافِنَا وَرَئِيسَ كَهَنَتِهِ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ» (عبرانيين 3: 1) لاحظوا حياته، لاحظوا خدمته، لاحظوا تضحيته، لاحظوا المقاومة التي عاناها من الناس. لاحظوا ثمرته هو حبة الحنطة، التي وقعت في الأرض وماتت. أنه كان يحمل الرجاء لكل إنسان في العالم.

    في صلاته الأولى يسأل بولس من أجل المؤمنين أن تستنير عيون أذهانهم، ليعلموا ما هو الرجاء المرتبطة به دعوتهم من الله (أفسس 1: 18) وقد قال الرسول دعوتكم نظراً لتعلقه بالدعوة حين دعاهم الروح القدس، وأنشأ فيهم هذا الرجاء الحي، ليكونوا شركاء في ميراث القديسين في النور.

  4. رب واحد - أي سلطة واحدة... لأجل إتمام مخططاته الإلهية في استخدام البشر. ويفعل ذلك اتفاقاً مع تسليمهم الكامل لروحه ولكلمته. أنه رب الكنيسة الجامعة ورأسها وملكها ومالكها ومالئها. وهو رب واحد لجميع المؤمنين، فكلهم به متحدون، وكلهم فيه متساوون. وبما أنه افتدانا فنحن لسنا لذواتنا، بل نحن له. ويجب أن نمجده بأرواحنا، وتكون قلوبنا وأعمالنا موافقة لإرادته الصالحة المرضية الكاملة.

  5. إيمان واحد - إيمان موضوعه الرب الواحد. وهذا الإيمان سلم مرة للقديسين. وهو يصدق على كل من يقرون قراراً واحداً أنهم أهل إيمان. لكن المؤمنين الحقيقيين، لا يقتصرون على الإقرار الشفهي، بل يعتقدون قلبياً بالرب الفادي الوحيد. فالكل يقبلون إليه كخطاة، ويقبلون خلاصه المجاني.

  6. معمودية واحدة - هذه هي النتيجة الطبيعية لقوة الخلاص، الذي يختبره المؤمن بالحصول على الرب والإيمان به. فبالمعمدوية ندخل في العهد مع المسيح. بمعنى أن المعتمدين على اسم الرب، قد وقفوا أنفسهم للرب الواحد. واعترفوا اعترافاً واحداً، وتعاهدوا تعاهداً واحداً. والواقع أن انتسابنا للمسيح، ليس فقط اتخاذ موقف معين، بل هو أيضاً فعل تكريس اختياري نتقدم إليه مرة واحدة. وهذا التكريس يعقبه تقديس الحياة يوماً بعد يوم إلى أن نصل إلى لاسماء. وهذا الانتساب للمسيح يستلرمنا معرفته له المجد في شركة آلامه، وفقاً للقول الرسولي: «أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ ٱعْتَمَدَ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ، فَدُفِنَّا مَعَهُ بِٱلْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ ٱلآبِ، هٰكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضاً فِي جِدَّةِ ٱلْحَيَاةِ» (رومية 6: 3 و4).

  7. إله وأب واحد - يختم الرسول هذه اللائحة المجيدة بالقول إله وأب واحد للكل، الذي على الكل وبالكل وفي كلكم. وهكذا يعود بجميع أبناء الله المفديين إلى ينبوع العائلة «الآب». وبهذا يوضح لنا، أن حياة المسيح والمؤمنين واحدة. وأن حياة المسيح وحياة الآب واحدة. فإذا وحدة الكنيسة قائمة لا باتحادها بالمسيح وحسب، بل ايضاً بالله المثلث الأقانيم. فقد جاء في الكتاب العزيز، أن الروح القدس يسكن في المؤمنين، وأن المسيح يحل بالإيمان في قلوبهم. وقد قال المسيح في صلاته الشفاعية: «لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا» (يوحنا 17: 21).

وفي يقيني أن أعظم ما يطلب للكنيسة، هو أن تمتلئ بالله كما امتلأ الهيك بمجده يوم تدشينه (2 ملوك 7: 1 و2) لأن حضوره فيها هو مجدها.

الصلاة: عظيمة هي عنايتك بالكنيسة، أيها الرب الإله. افتديتها بدم ابنك العزيز ومكثت فيها بالروح القدس. فليكن لك المجد في سلوكها في النور وتكريس أعضائها لك كاملاً. قدس جميع المؤمنين الذين أرسلت ابنك لكي يجمعهم إلى واحد. آمين.

7وَلٰكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أُعْطِيَتِ ٱلنِّعْمَةُ حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ ٱلْمَسِيحِ. 8لِذٰلِكَ يَقُولُ: «إِذْ صَعِدَ إِلَى ٱلْعَلاَءِ سَبَى سَبْياً وَأَعْطَى ٱلنَّاسَ عَطَايَا». 9وَأَمَّا أَنَّهُ صَعِدَ، فَمَا هُوَ إِلاَّ إِنَّهُ نَزَلَ أَيْضاً أَوَّلاً إِلَى أَقْسَامِ ٱلأَرْضِ ٱلسُّفْلَى. 10اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ ٱلَّذِي صَعِدَ أَيْضاً فَوْقَ جَمِيعِ ٱلسَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلَأَ ٱلْكُلَّ. 11وَهُوَ أَعْطَى ٱلْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً، وَٱلْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَٱلْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَٱلْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ، 12لأَجْلِ تَكْمِيلِ ٱلْقِدِّيسِينَ، لِعَمَلِ ٱلْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ ٱلْمَسِيحِ، 13إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ ٱلإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ.

في هذا القسم من الأصحاح، يشير بولس إلى باعث آخر على الوحدانية مبني على تنوع المواهب في الكنيسة. وكلامه هنا مشابه لكلامه في رومية 2: 3-8 و1 كورنثوس 12: 3 و4) وفيه يذكر الرسول بالعون الإلهي، الذي يتجدد يوماً فيوماً، تبعاً للحاجة. «ولكن لكل واحد منا أعطيت النعمة...» ولكن هذه الفقرة تلاشي كل شك أو حدث، وتبطل كل أعذارنا. فهي المفتاح الذي يعود إليه كل مسيحي أمين في خدمته.

(7) في الأصحاح 2: 11-22 تكلم بولس عن التغيير الجذري الذي لدى المؤمنين بفعل موت وقيامة المسيح، بالنسبة لليهود وللعالم. فمن جهة الخلاص، لا يوجد ثمة امتياز دون آخر. لأن الجميع أمام الله خطاة هالكون، يعوزهم مجد الله العظيم. وكلام الرسول هنا متعلق بالخدمة المسيحية، التي تختلف كلياً عن الخدمة الكهنوتية في العهد القديم.

حين أكمل يسوع الفداء ورفع خطية العالم، شق الله حجاب الهيكل من أعلى إلى أسفل، معلناً أنه منذ ا لآن وصاعداً، صار الطريق إلى الآب مفتوحاً للجميع. ومتيحاً للكل القدوم في المسيح بروح واحد إلى الآب (أفسس 2: 18) فقد أزال فادينا حاجز الفرائض، الذي كان يحد من امتيازات الخدمة، إذ يجعلها مقتصرة على عشيرة واحدة، احتكرت الكهنوت. هذا التدبير كان مقبولاً في القديم، ولكنه شاخ وعتق، ولا بد من زواله كما هو مكتوب: «فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِبْطَالُ ٱلْوَصِيَّةِ ٱلسَّابِقَةِ مِنْ أَجْلِ ضُعْفِهَا وَعَدَمِ نَفْعِهَا، إِذِ ٱلنَّامُوسُ لَمْ يُكَمِّلْ شَيْئاً. وَلٰكِنْ يَصِيرُ إِدْخَالُ رَجَاءٍ أَفْضَلَ بِهِ نَقْتَرِبُ إِلَى ٱللّٰهِ» (عبرانيين 7: 18 و19) وقد قيل في العهد الجديد: «إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2 كورنثوس 5: 17).

لقد اصطفى الله سفراءه بالروح القدس، وأعطاهم المواهب الروحية اللازمة لسفارتهم، وسربلهم بقوة الأعالي لكي يخدموه في السبل التي عينها لكل واحد. والنعمة أعطيت لهم، حسب قياس هبة المسيح.

والآن يعلن بولس بواسطة الكتاب أن مصدر النعمة وكل هذه الهبات هو المسيح. فالآلام الكفارية التي تحملها ربنا يسوع المسيح على الصليب، حين نزل إلى أقسام الأرض السفلى، أوجدت للمذنبين فداء أبدياً. فتم ما قيل بإشعياء النبي: «مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي ٱلْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ ٱلأَعِّزَاءِ وَمَعَ ٱلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ» (إشعياء 53: 11 و12).

(8-11) لذلك يقول الكتاب (مزمور 68: 18) إذ صعد إلى العلاء سبى سبياً وأعطى الناس عطايا... صعد أيضاً فوق جميع السموات لكي يملأ الكل. وهو أعطى:

  1. البعض أن يكونوا رسلاً - وظيفة الرسل أعطيت لهدف معين، ولزمن محدود: (أ) للإفصاح عن تدبير النعمة (ب) لتأسيس الكنائس (ج) لكتابة الأسفار المقدسة الموحى بها من الله، والمعدة للكنيسة في كل زمن. ويفترض في الرسول أن يكون قد عاين المسيح بعد القيامة وشهد لقيامته، وتعين لهذه الوظيفة منه رأساً. وهي رتبة ذهبت بذهاب العصر الرسولي.

  2. البعض أن يكونوا أنبياء - هذه الرتبة عرفت في العهد القديم، كما في العهد الجديد. والأنبياء هم رجال ذو بصائر أعلن الله لهم إرادته بإلهام خاص وأمرهم أن يبلغوها للناس. وبتعبير آخر أن الله كلم الناس بهم، سواء كان كلامهم تعليماً أو تحذيراً أو إنباء بما في المستقبل.

  3. البعض أن يكونوا مبشرين - المبشرون هم المرسلون للمناداة بالإنجيل حيث يجهله الناس. فيجولون بالبشائر السارة، من مكان إلى آخر. وقد حرص بولس وحده على أن ينوه بوظيفة المبشر، موضحاً أنها من المواهب التي منحها المسيح لرجال ائتمنهم على نشر كلمة الحق إنجيل الخلاص.

  4. البعض أن يكونوا رعاة ومعلمين - غالباً تعبر هاتان الكلمتان عن وظيفة واحدة أسندت لشخص واحد. فالرعاة هم المعلمون أيضاً. والفرق بينهم وبين المبشرين، أنهم معينون لخدمة كنائس معينة. وأنهم يقيمون في الأمكنة، التي فيها كنائسهم، ولا يجولون كالمبشرين. وسموا رعاة لأنهم أشبهوا رعاة الغنم بإرشاد جماعاتهم والاعتناء بها.

(12) بعد أن أبان الرسول المواهب المتنوعة المعطاة لخدام الرب، أوضح الهدف من إقامتهم: «لأجل تكميل القديسين...» فالرسول والنبي والمبشر والراعي، لهم هدف واحد «تكميل القديسين لعمل الخدمة وبنيان جسد المسيح، بمعنى أنه لا يوجد في المواهب شيء شخصي، بل خدمة مقدمة للجميع، وفقاً لما منح الله لخير كل الذين خلصهم بالنعمة.

(13) في هذه الآية جواب السؤال المطروح. إلى أي مدى تبقى الكنيسة يخدمها العاملين لبنيانها ولتقديس رعيتها؟ ونتعلم من الجواب أن الكنيسة المسيحية ليست نظاماً وقتياً، فهي تبقى حتى تبلغ غايات ثلاث:

  1. «الانتهاء إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله» - فالمسيح هو موضوع لكل من الإيمان والمعرفة.

  2. إلى إنسان كامل - ليس لنا كمال في ذاتنا، بل نحن كاملون باتحادنا بالمسيح الكامل.

  3. إلى قياس قامة ملء المسيح - هذا هو أعلى قياس أمام الكنيسة لتعسى إليه إلى أبد الدهر. فهو يرتقي فوقها وهي تسعى إليه. فهو حافزها على النمو وباعثها على التقدم.

الصلاة: اللهم المنعم الجواد، نشكرك لأجل المواهب التي وضعتها في كنيستك لأجل نموها وتقدمها ونشر إنجيل الحق بواسطتها. لا تسمح لنا أن نحتقر هذه المواهب، بل بالحري هب لنا النعمة كي نتاجر بالوزنات التي إئتمنتنا عليها. آمين.

14كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالاً مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ ٱلنَّاسِ، بِمَكْرٍ إِلَى مَكِيدَةِ ٱلضَّلاَلِ. 15بَلْ صَادِقِينَ فِي ٱلْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ ٱلَّذِي هُوَ ٱلرَّأْسُ: ٱلْمَسِيحُ، 16ٱلَّذِي مِنْهُ كُلُّ ٱلْجَسَدِ مُرَكَّباً مَعاً، وَمُقْتَرِناً بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِلٍ، حَسَبَ عَمَلٍ، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُوَّ ٱلْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي ٱلْمَحَبَّةِ.

(14) في هذه الآية تحذير ضمني للمؤمنين من خطر البقاء في طور الطفولة الروحية. وقد تكرر هذا الإنذار ثلاث مرات في الرسائل:

  1. 1 كورنثوس 3: 1-3 «وَأَنَا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَكُمْ كَرُوحِيِّينَ، بَلْ كَجَسَدِيِّينَ كَأَطْفَالٍ فِي ٱلْمَسِيحِ، سَقَيْتُكُمْ لَبَناً لاَ طَعَاماً، لأَنَّكُمْ لَمْ تَكُونُوا بَعْدُ تَسْتَطِيعُونَ، بَلِ ٱلآنَ أَيْضاً لاَ تَسْتَطِيعُونَ، لأَنَّكُمْ بَعْدُ جَسَدِيُّونَ. فَإِنَّهُ إِذْ فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَٱنْشِقَاقٌ، أَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ وَتَسْلُكُونَ بِحَسَبِ ٱلْبَشَرِ؟». في اعتقادي أن أكبر حاجز أمام تقدم المؤمن روحياً ناشيء عن فعل تركيز الإنسان حياته على الذات وليس على المسيح. وهذا من أكبر الأدلة على الطفولة في الحياة المسيحية.

  2. عبرانيين 5: 11-13 «... ٱلْكَلاَمُ كَثِيرٌ عِنْدَنَا، وَعَسِرُ ٱلتَّفْسِيرِ لِنَنْطِقَ بِهِ، إِذْ قَدْ صِرْتُمْ مُتَبَاطِئِي ٱلْمَسَامِعِ. لأَنَّكُمْ إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِسَبَبِ طُولِ ٱلّزَمَانِ، تَحْتَاجُونَ أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ مَا هِيَ أَرْكَانُ بَدَاءَةِ أَقْوَالِ ٱللّٰهِ، وَصِرْتُمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى ٱللَّبَنِ لاَ إِلَى طَعَامٍ قَوِيٍّ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَنَاوَلُ ٱللَّبَنَ هُوَ عَدِيمُ ٱلْخِبْرَةِ فِي كَلاَمِ ٱلْبِرِّ لأَنَّهُ طِفْلٌ» .

    فحال الطفولة هذه، تعرض المسيحي إلى خطر مستمر وإلى عناصر اضطراب وانقسامات وتخريبات، وغير ذلك من الأمور المنتشرة في زمننا. أو على الأقل تجعله محدود النشاط، متقوقعاً ربما على عقيدة كتابية، مما يجعله جامداً وكأنه في عزلة، مكتفياً لا شعور عنده بآلام جسد المسيح. وغير آبه لمسؤولياته أمام العالم الهالك وحاجة النفوس فيه. فالعدو لا تنقصه الحيلة لاستخدام الفرص ضد المؤمنين.

  3. أفسس 4: 14، لا نكون في ما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ربح تعليم... ففي طور طفولتهم كان الأفسسيين متقلبين، تتجاذبهم رياح تعاليم متعددة. وقد شبههم الرسول بسفينة، بمخر عباب اليم بدون ربان، تلعب بها الأمواج وتتقاذفها التيارات ذات اليمين وذات الشمال. ففي ذلك الوقت اندس في صفوفهم معلمون كذبة، وراحوا يبثون الضلال. هكذا قال بطرس: «وَلٰكِنْ كَانَ أَيْضاً فِي ٱلشَّعْبِ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ، كَمَا سَيَكُونُ فِيكُمْ أَيْضاً مُعَلِّمُونَ كَذَبَةٌ، ٱلَّذِينَ يَدُسُّونَ بِدَعَ هَلاَكٍ... وَسَيَتْبَعُ كَثِيرُونَ تَهْلُكَاتِهِمْ. ٱلَّذِينَ بِسَبَبِهِمْ يُجَدَّفُ عَلَى طَرِيقِ ٱلْحَقِّ» (2 بطرس 2: 1 و2).

هؤلاء الكذبة لم يخل منهم جيل من الأجيال، وخصوصاً جيلنا، ا لذي كثر فيه رسل الشيطان، وراحوا يزرعون البدع، التي تسبب الاضطرابات وتزرع الخصومات بين الجماهير. وتدفع بالكثيرين إلى الارتداد عن الله الحي والتمسك بالخرافات. وقد تنبأ بولس عن ذلك، إذ قال: «لأَنَّهُ سَيَكُونُ وَقْتٌ لاَ يَحْتَمِلُونَ فِيهِ ٱلتَّعْلِيمَ ٱلصَّحِيحَ، بَلْ حَسَبَ شَهَوَاتِهِمُ ٱلْخَاصَّةِ يَجْمَعُونَ لَهُمْ مُعَلِّمِينَ مُسْتَحِكَّةً مَسَامِعُهُمْ، فَيَصْرِفُونَ مَسَامِعَهُمْ عَنِ ٱلْحَقِّ، وَيَنْحَرِفُونَ إِلَى ٱلْخُرَافَاتِ» (2 تيموثاوس 4: 3 و4).

(15) حين نكون صادقين في المحبة، ننمو في كل شيء في الإيمان والمعرفة والصدق والمحبة، إلى ذلك الذي هو الرأس المسيح. وإن لم نكن كذلك فتقوانا نوع من الرياء الباطل. أي نكون في حكم أولئك الذين قال الرسول: «لهم صورة التقوى» إن كان أحد في الحقيقة، فينبغي أن يعيش هذه الحقيقة. بصلاح ووداعة وأمانة ونزاهة. وخلافاً لذلك، يضل نفسه، وليس الحق فيه.

(16) في هذه الآية أربعة أمور تتعلق بالكنيسة، التي هي جسد المسيح (أ) ان القوة التي تعمل لإنمائها، مستمدة من المسيح، لأنه مصدر حياتها وقوتها. وهي متمسكة به، تنمو من الله (كولوسي 2: 19) (ب) أن نموها يتوقف على اتحاد كل أعضاء الجسد بالرأس بواسطة ربط ووشائج مناسبة (ج) أن النمو عندما متناسب متعادل (د) أن النمو لا يكون بدون المحبة.

الصلاة: يا ربنا الحي يا مصدر كل صلاح وبر وحق. قدس كنيستك المجاهدة لأجل نشر بشرى الخلاص. قوّ الإلفة بين أعضائها لكي تتماسك بمؤازرة وتنمو في المحبة إلى ذلك الذي هو الرأس، المسيح. آمين.

17فَأَقُولُ هٰذَا وَأَشْهَدُ فِي ٱلرَّبِّ، أَنْ لاَ تَسْلُكُوا فِي مَا بَعْدُ كَمَا يَسْلُكُ سَائِرُ ٱلأُمَمِ أَيْضاً بِبُطْلِ ذِهْنِهِمْ، 18إِذْ هُمْ مُظْلِمُو ٱلْفِكْرِ، وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ ٱللّٰهِ لِسَبَبِ ٱلْجَهْلِ ٱلَّذِي فِيهِمْ بِسَبَبِ غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ. 19اَلَّذِينَ إِذْ هُمْ قَدْ فَقَدُوا ٱلْحِسَّ، أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي ٱلطَّمَعِ.

(17) ينحدر بنا الرسول من قمة إعلان سر المسيح ا لذي هو جسده، إلى حضيض هذا العالم لكي يسيرنا مع هذه الدعوة في المجتمع - وبلهجته القوية التي اشتهر بها، فضح أعمال الإثم، وتوسل إلى المسيحيين لكي يعرفوا مقامهم في المسيح، ويترفعوا عن نجاسات العالم. وأن يتذكروا إن إرادة الله هي قداستهم، «أَنْ يَعْرِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ أَنْ يَقْتَنِيَ إِنَاءَهُ بِقَدَاسَةٍ وَكَرَامَةٍ» (1 تسالونيكي 4: 3 و4)، بمعنى أننا كميسحيين قد دعينا للسلوك منفصلين عن الخطية. «بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا كَخُدَّامِ ٱللّٰهِ، فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ، فِي شَدَائِدَ... فِي طَهَارَةٍ، فِي عِلْمٍ، فِي أَنَاةٍ، فِي لُطْفٍ، فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، فِي مَحَبَّةٍ بِلاَ رِيَاءٍ، فِي كَلاَمِ ٱلْحَقِّ» (2 كورنثوس 6: 4-7).

لهذا يتحتم في الكنيسة أن يكون مسلك أعضائها، مخالفاً لمسلك أهل العالم، منافياً لتصرف أبناء هذا الدهر. ولم يكن على الرسول أن يمضي بعيداً، ليرينا مسلك أهل العالم. فقد كفاه أن يلفت أنظارنا إلى أبناء البشر المحيطين بنا. والعائشين بحسب شهوات الغرور. ولكي نسلك بصورة تليق بدعوتنا في العالم، طلب إلينا في الرب أن نعيش بحسب الحق الذي في المسيح، كما سمعناه، وعلمنا فيه. وأن نسلك فيه خطوة فخطوة، ونحن يقظون. أن القوة الشريرة التي تسوس العالم، مجتهدة باستمرار لتعطيل دعوة مفديي الرب. لذلك ينبغي أن لا نكتفي بالخضوع لكلمة الله والطاعة للمسيح، بل يجب أيضاً أن نكون دائماً مستنفرين ومستعدين للشهادة والكفاح، وفقاً لما سنراه في ختام هذه الرسالة.

(18) إن أشر ما في أبناء هذا الدهر، ليس فقط أفكارهم الفارغة بل أذهانهم المظلمة التي هي مكان أفكارهم أيضاً. وفي هذا يقول الرسول، «لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا ٱللّٰهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلٰهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ ٱلْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ» (رومية 1: 21 و22). وقد قال في مكان آخر: «إِنْ كَانَ إِنْجِيلُنَا مَكْتُوماً، فَإِنَّمَا هُوَ مَكْتُومٌ فِي ٱلْهَالِكِينَ، ٱلَّذِينَ فِيهِمْ إِلٰهُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ» (2 كورنثوس 4: 3 و4).

في الأصحاح 2: 12 قال الرسول للأفسسيين: «ٱذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ ٱلأُمَمُ... كُنْتُمْ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ... غُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ ٱلْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ إِلٰهٍ فِي ٱلْعَالَمِ» فالإنسان الطبيعي لا يستطيع أن يتكلم عن الله، وفي بعض الأحوال لا يستطيع أن يؤمن (يعقوب 2: 19) ولكن هذا لا يغير شيئاً من الحقيقة، التي تظهر أن الإنسان منذ ولادته، وبسبب السقوط متجنب عن حياة الله. ولهذا يجب أن يولد جديداً من الله، لكي يستيقظ ضميره من نوم الموت بفعل الروح القدس. ويحصل على حياة الله في المسيح. التي هي حياة الأبدية.

حين خاطب بطرس قتلة المسيح، قال لهم: «وَٱلآنَ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ، كَمَا رُؤَسَاؤُكُمْ أَيْضاً» (أعمال 3: 17) وقال بولس: «بَلْ نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ فِي سِرٍّ: ٱلْحِكْمَةِ ٱلْمَكْتُومَةِ، ٱلَّتِي سَبَقَ ٱللّٰهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ ٱلدُّهُورِ لِمَجْدِنَا، ٱلَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ - لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْدِ» (1 كورنثوس 2: 7 و8). فالناس بدون المسيح هم مظلمو الفكر، بسبب الجهل الذي فيهم. ولكن الجهل ليس بعذر! حتى بالنسبة لليهود حين صلبوا رب المجد. لأن المسيح وُلد وعاش وعلم بينهم وفقاً للنبوات، وكان مؤيداً بالعجائب والقوات المسيانية، التي ذكرت في الكتب. والجهل أيضاً ليس بعذر بالنسبة للعالم الحاضر، لأن إنجيل المسيح معروف في العالم. ولأن الله لم يترك ملايين البشر بدون شاهد لعمل نعمته. ومع ذلك فأبناء هذا الدهر ما زالوا يحسبون الكرازة بإنجيل الصليب جهالة... ولكن شكراً لله لأنه عند المخلصين قوة الله (1 كورنثوس 1: 18).

(19) يأتي وقت فيه يجف الضمير، فكيف عن التوبيخ. وعندئذ تتلاشى العواطف الطبيعية من القلب، فيصير الناس بعيدين عن الله، بلا حنو، بلا رضا، ثالبين عديمي النزاهة، شرسين غير محبين للصلاح، خائبين مقتحمين، محبين للذات دون محبة الله (2 تيموثاوس 3: 3 و4). لقد عرف بالاختبار أن التمادي في الشر يحجر الضمير، ويجعله عديم الإحساس وتبعاً لذلك يصبح ارتكاب الشر بالنسبة لفاعله، غير مستوجب الحكم.

ويختم الرسول هذه اللائحة بالإشارة إلى الدرك الذي يسقط فيه أبناء العالم وهم يمارسون الشر الاستسلام للدعارة ليعملوا كل نجاسة في الطمع. هذه نتيجة فقدان الحس بوخزات الضمير. فلنقف هنا ولنحاول أن نقنع أنفسنا بواسطة كلمة الله. ولنسأله تعالى أن يحفظ ضمائرنا، لتبقى حاجزاً يمنعنا من الانضمام إلى الأجيال الفاسدة، وبالتالي يسيرنا بحسب مشيئته.

الصلاة: أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا ٱلْيَوْمَ. وَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ ٱلْمُلْكَ، وَٱلْقُّوَةَ، وَٱلْمَجْدَ، إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ.

20وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَمْ تَتَعَلَّمُوا ٱلْمَسِيحَ هٰكَذَا - 21إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمُوهُ وَعُلِّمْتُمْ فِيهِ كَمَا هُوَ حَقٌّ فِي يَسُوعَ.

بعد أن وصف حالة العالم بسبع كلمات وجيزة، انتقل الرسول بسرعة إلى بنيوع مفديي الرب. لأنهم يعيشون على شفير الهاوية، والطوفان يهددهم بالإبادة. فقد حدث هذا حين كانت الأمبراطورية الرومانية في غمرة فسادها، وفيما هي في أوج ازدهارها ونجاحها. وكان شرها ونجاحها يسيران جنباً إلى جنب، كما كانت حال البشر في أيام نوح، وفجأة جاء الطوفان. ويا له من تحذير لعالمنا الحاضر!

(20) بيد أن هذا الفصل الموضوع لتأملنا، يؤكد لنا عدم ضياع كل شيء بالنسبة لكل طالب الله. لأن هناك بارقة أمل، يمكن لدعوتنا أن ترتكز عليها، وهي الرجاء بخلاص الله، لكل من يؤمن بيسوع. لقد أعطانا كلمته، التي هي روح وحياة. وإن كان العالم بسبب عدم اتباعنا له، يتجاهلنا ويبغضنا، فإن مخلصنا له المجد صلى إلى الآب لكي يحفظنا على الأرض ويبارك شهادتنا (يوحنا 17: 10-27). أما الآن فالأمر يتعلق بثبات حياتنا في الحق الذي في يسوع المسيح، كما سمعناه وعلمنا فيه، لكي نستمر على التعليم منه.

«أما أنتم» هاتان الكلمتات تدلان على موقف حازم، خارج العالم الذي وضع في الشرير. وهذا الموقف، يعيد إلى أذهاننا القول الرسولي: «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ ٱقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ ٱلظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ ٱلْعَجِيبِ» (1 بطرس 2: 9).

«لم تتعلموا المسيح هكذا» كم كان على قلب بولس أن يتلقى كل مؤمن تعليم المسيح ببساطة، ويقبله ببساطة، ويعيشه ببساطة! هذه الحقيقة تذهب بنا مرة أخرى إلى بيت تيرانس، حيث كان الرسول يعلم الأفسسيين كلمة الله. هناك أفرز التلاميذ عن المجمع اليهودي، محاجاً كل يوم (أعمال 19: 9).

لم يشأ الرسول الكريم أن ينطووا على ذواتهم، بل أن يكونوا أقوياء، وممتلئين من الروح القدس. لكي ينادوا هم في دورهم بإنجيل الخلاص إلى كل الذين بدونه سيهلكون إلى الأبد.

«فَكَمَا قَبِلْتُمُ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ ٱلرَّبَّ ٱسْلُكُوا فِيهِ، مُتَأَصِّلِينَ وَمَبْنِيِّينَ فِيهِ، وَمُوَطَّدِينَ فِي ٱلإِيمَانِ، كَمَا عُلِّمْتُمْ، مُتَفَاضِلِينَ فِيهِ بِٱلشُّكْرِ» (كولوسي 2: 6 و7) هذه كانت وصية بولس إلى أهل كولوسي.

(21) في هذه الآية يقدم الرسول المسيح كمعلم «إن كنتم قد سمعتموه». «وإن» هنا ليست للشرط وليست للشك، بل للقطع. والمراد بالسمع هنا طاعة القلب، وفقاً لقول المسيح: من له أذنان للسمع فليسمع (متى 13: 9) وقول الرسول: «اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم». إن الذين سمعوا المسيح غبر إنجيله المبارك، يستلزم أن لا يسلكوا كما يسلك سائر الأمم في بطل أذهانهم. لأنهم حين تعلموه وقبلوه، حل بالإيمان في قلوبهم، وصاروا من خرافة، التي تسمع صوته وتتبعه (10: 27 و28).

والذين تعلموا الحق فيه، يقتضي أن يكونوا مسيحيين بالحق، وعارفين الحق، وعائشين في الحق، بدليل قول المسيح: «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ ٱلإِلٰهَ ٱلْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (يوحنا 17: 3).

هل عرفت المسيح، وعلمت فيه؟ أن معرفة الحق في يسوع، تستلزم محبة يسوع، ومحبة الحق، ومحبة القداسة، لأن يسوع هو القدوس الحق. فالحق كما هو في يسوع، هو كلامه الذي علمه تلاميذه، فكتبوه ليكون سراجاً لأرجلنا ونوراً لسبيلنا.

الصلاة: نشكرك أيها الرب الإله، لأجل يسوع المذخر فيه كل كنوز العلم الصحيح. ثبتنا في كلام المسيح، وفي محبة المسيح إلى المنتهى. آمين.

22أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ ٱلتَّصَرُّفِ ٱلسَّابِقِ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ ٱلْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ ٱلْغُرُورِ، 23وَتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ، 24وَتَلْبَسُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ ٱلْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ ٱللّٰهِ فِي ٱلْبِرِّ وَقَدَاسَةِ ٱلْحَقِّ.

(22) إن ما تعلمه المؤمنمون من يسوع وما سمعوه منه، وما علموه فيه «كما هو الحق في سوع». هو أن يخلعوا الإنسان العتيق الفاسد ويلبسوا الجديد.

في رسالته إلى أهل رومية، أرانا بولس هذا الإنسان العتيق وقد صلب مع المسيح ليبطل جسد الخطية (رومية 6: 3) وفي رسالته إلى أهل كولوسي، أرانا إياه وقد خلعه المؤمن من أعماله (كولوسي 3: 9). ونستدل من هذا أن الإنسان العتيق هو الحالة العتيقة، التي كان عليها المؤمن، قبل أن يعرف المسيح. فالحق الذي تعلمه المؤمنون في يسوع، هو إذا حق عملي، لأنه يتناول التصرف السابق.

في تقديري أن بولس هنا، لاي عالج أفعالاً وتصرفات بل يميط اللثام عن مسبباتها. وبنفس الوقت يهيب بنا أن نعترف بأننا ساقطون ومولودون في الخطية ومشوهون كلياً. وأن أول فعل يجب أن نقوم به، هو أن نخلع الطبيعة العتيقة ونطرحها عنا بعيداً، عالمين أنها صلبت مع المسيح وعند ذاك يتم فينا اختبار بولس: «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلاطية 2: 20).

(23-24) بيد أن اتخاذ هذا الموقف من الإنسان لا يكفي، إذ يجب أن نكرر عملية الخلع باستمرار. لذلك ينبغي أن نفهم الناحية الإيجابية من هذا التعليم، كما فعل الأفسسيون. فهؤلاء حين خلعوا الإنسان العتيق، دعاهم بولس لكي يتجددوا بروح ذهنهم. ومعنى هذا جانبياً أن يتجددوا في أرواحهم وعقولهم، وأن يلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق. وفي تعبير آخر أن الإنسان الجديد هو المؤمن الذي انتزع الله منه «قلب الحجر» وأعطاه قلب لحم وجعل روحه في داخله (حزقيال 26: 26).

وهذه اللهجة التي تكلم بها بولس كانت قوية جداً ومعزية، بحيث يظهر فيها سلطانه الرسولي، وحسناً نفعل إن عملنا بوصيته، فنحصل على وقاية من الهلاك في وسط طوفان هذا العالم، حيث يعيش معظم الناس بلا رجاء وبلا إله.

وكم يجب أن نشكر الله ونحمده، لأنه في عملية الخلق الجديد يصيرنا إلى صورة ابنه يسوع المسيح. وبذلك يعطينا ما هو غريب عن طبيعتنا الساقطة، أي كل ما هو بار، كل ما هو مقدس، كل ما هو حق. إنه باركنا بكل بركة روحية في السماويات.

ويجوز أن نلخص حجة الرسول في هذه الآيات الثلاث التي مرت بنا هكذا: ها أنتم قد قطعتم كل صلة تربطكم بآدم الأول. ودخلتم في عهد جديد مع آدم الثاني، الذي هو يسوع الرب من السماء، فأضحى كل منكم شخصاً جديداً، بعد أن خلع تلك الشخصية العتيقة.

الصلاة: ما أعظم اسمك أيها السيد الرب! نشكرك لأجل هذا الدرس المهم الذي تعلمناه بوجوب خلع الطبيعة القديمة مع أعمالها الفاسدة. ساعدنا لكي نتحصن فيك ضد كل محاولات إبليس، الذي نشط في الأيام الأخيرة. آمين.

25لِذٰلِكَ ٱطْرَحُوا عَنْكُمُ ٱلْكَذِبَ وَتَكَلَّمُوا بِٱلصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ، لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ ٱلْبَعْضِ. 26اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ ٱلشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ 27وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً.

بعد أن أوصى الرسول الأفسسيين بوجوب القداسة وحضهم على أن يكونوا متمثلين بالله، دخل في تفاصيل ثمار الطبيعة العتيقة ابتداء من خطية اللسان الأكثر نجاسة، وهي الكذب وما يتعلق به.

(25) فأولاد الله الذين تبناهم بالمسيح وأعطاهم ميراثاً معه، يجب عليهم ليس فقط أن يتكلموا بالصدق، بل أيضاً أن يكونوا صادقين في المحبة. هذا كقوله «لاَ تَكْذِبُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِذْ خَلَعْتُمُ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ، وَلَبِسْتُمُ ٱلْجَدِيدَ ٱلَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ» (كولوسي 3: 9 و10) وقال في رومية 12: 9 «اَلْمَحَبَّةُ فَلْتَكُنْ بِلاَ رِيَاءٍ» فنلظهر محبتنا للرب بأن نطرح كل عاطفة معادية للقداسة. وخلافاً لذلك فلا تكون ديانتنا بحسب الحق. ولعل الرسول الكريم أراد بهذه الوصية أن يضع حداً لرذيلة الكذب، التي كانت متفشية في الأوساط اليونانية.

وبمكننا أن نوجز كلمة الرسول الواردة في هذه الآية هكذا: « بما أنكم عدلتم عن أن تسلكوا كسائر الأمم ببطل ذهنهم، ولأنكم متمثلون بالله» «ٱطْرَحُوا عَنْكُمُ ٱلْكَذِبَ وَتَكَلَّمُوا بِٱلصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ» (أفسس 4: 25) أو كما قال في مكان آخر «فَلْيُرْضِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا قَرِيبَهُ لِلْخَيْرِ، لأَجْلِ ٱلْبُنْيَانِ» (رومية 15: 2). نحن في الواقع أعضاء جسد واحد رأسه المسيح، لذلك لا يليق بنا أن يخدع أحدنا الآخر. وليس هذا فقط، بل إن هذه الفضيلة تستلزمنا بالضرورة أن نتخذ الموقف عينه حيال من هم من الخارج.

(26) هنا يتكلم الرسول عن الغضب، والغضب انفعال طبيعي، ولا يحسب شراً في حد ذاته، لأنه من الطبيعي أن يمتعض الإنسان حين يرى التصرفات الخاطئة، هكذا فعل يسوع، حين رأى جماعة اليهود يمتهنون كرامة بيت الرب (يوحنا 2: 15-17). وإنه لبديهي أن يغضب القدوس الحق، وهو يرى الإثم ويلحظ غياب الحق من العالم.ولكن عندما نتمعض من جراء هذه الأمور، يجب أن ننتبه ونصلي، لأن الطبيعة العتيقة يمكن أن تكسر القيود وتشرأب من خلال الامتعاض، وأي تحطيم يحصل عند ذلك لأن العدو المتربص بنا دائماً يعرف كيف يحرض فينا النزوات القديمة الكامنة.

في تحذيره من مغبة الغضب ذكر الرسول ثلاثة أشياء جديرة باهتمامنا:

  1. الغضب البريء - قال اغضبوا ولا تخطئوا، والرسول هنا اقتبس ما جاء في المزمور 4: 4 حيث يقول المرنم: ارتعدوا ولا تخطئوا. فالغضب بحسب هذا القول، يكون في الغالب انتصاراً للحق المجني عليه. ولكن في كل الحالات، يجب أن لا يتخذ امتعاضنا شكل الغيظ الحانق.

  2. تصريف الغضب - قال: لا تغرب الشمس على غيظكم. وقال حكيم الكتاب المقدس: إن الغضب يستقر في حضن الجهال (جامعة 7: 9) ولعل الرسول أوصانا بالتخلص من الغضب، لكي لا نترك له مجالاً للتفاعل في النفس، فيصبح غيظاً حاقداً. لهذا كانت وصية الرسول يعقوب: « لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ... مُبْطِئاً فِي ٱلْغَضَبِ، لأَنَّ غَضَبَ ٱلإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ ٱللّٰهِ» (يعقوب 1: 19 و20).

  3. التحوط ضد مكايد إبليس - قال: لا تعطوا إبليس مكاناً» هذا دليل على أنا لغضب يعطي إبليس فرصة، لكي يدخل قلوبنا ويجربنا ويجعلنا نخطئ. قيل أن موسى كان أحلم الناس. ولكن لما تذمر عليه الشعب في مريبة، اغتاظ حتى أنه فرط بشفتيه (مزمور 106: 33).

كن حليماً ولا تثر سريعاً، حين تتعرض للمعاكسات في هذا العالم. بل تمالك روحك، لأن «اَلْبَطِيءُ ٱلْغَضَبِ خَيْرٌ مِنَ ٱلْجَبَّارِ، وَمَالِكُ رُوحِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ يَأْخُذُ مَدِينَةً» (أمثال 16: 32).

الصلاة: يا سيدي الرب. اجعلني وديعاً كفادي، حتى أستطيع ضبط نفسي متحملاً بذلك قسطي من صليب ربنا يسوع المسيح. قوّ عندي المحبة التي لا تحتد، ولا تثور من أجل نفسها. آمين.

28لاَ يَسْرِقِ ٱلسَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ يَتْعَبُ عَامِلاً ٱلصَّالِحَ بِيَدَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَهُ ٱحْتِيَاجٌ. 29لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحاً لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ ٱلْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ. 30وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ ٱللّٰهِ ٱلْقُدُّوسَ ٱلَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ ٱلْفِدَاءِ.

(28) إن كان بولس يوصي بالنزاهة وبالعمل اليدوي، فإنما ذلك لهدف عملي، هو أن يحصل المؤمن ما يمكنه سد حاجاته، وبالتالي يتصدق على من له احتياج. ولعل الرسول يريد أن يضع المؤمن في جو الإيجابية باستمرار، ليكون مستعداً أن يصنع مشيئة الله في كل الاتجاهات.

هذا ليس مجرد إصلاح الذات، بل هو انقلاب جذري، ينقل الإنسان من الظلام الحالك إلى النور الساطع. من الإنسان العتيق الفاسد، إلى إنسان الله المخلوق جديداً بحسب الله.

قبل أن يعرف الإنسان المسيح، كان يحصر أفكاره في الوسائل التي تمكنه جمع الخيرات الأرضية لنفسه، ولو في معزل عن النزاهة والصدق. ولكنه بعد الإيمان، صار يعمل بكد ويفكر في الطرق التي تتيح له الربح الشريف ليعطي من له احتياج.

(29) جرى الرسول في قوله هنا كعادته في استعمال النهي، كمن له السلطان إلى الله. قال: لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم. الكلمة الردية هي الكلمة الفاسدة المجردة من النعمة، والتي تهيج الأفكار النجسة، وتقود إلى الأعمال الخبيثة، التي تهين قداسة الله. وهي أكبر دليل على فساد القلب. وهذا موافق لقول المسيح: «اَلإِنْسَانُ ٱلصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ ٱلصَّالِحِ يُخْرِجُ ٱلصَّلاَحَ، وَٱلإِنْسَانُ ٱلشِّرِّيرُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ ٱلشِّرِّيرِ يُخْرِجُ ٱلشَّرَّ. فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ ٱلْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ» (لوقا 6: 45). «وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا ٱلنَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَاباً يَوْمَ ٱلدِّينِ» (متى 12: 36).

ففي وسط هذا الجيل المعوج والملتوي، يشاء الله أن يكون أولاده عناصر معلمة سواء أكان بين القديسين أم بين أبناء هذا العالم الموضوع في الشرير. إنهم يمثلون في المجتمع القوة التي تصدق طوفان وطغيان الفوضى. إن حياتهم وفقاً للدعوة الإلهية تتمم كلمة ربهم وفاديهم: أنتم ملح الأرض (متى 5: 13) الملح الذي يمنع انتشار الفساد الأبدي.

سلم حياتك ليسوع، ودع روحه القدوس يعمل في حياتك، فينقي قلبك، ومتى نقى قلبك، ينقى لسانك، ويصير كلامك كل حين بنعمة مصلحاً بملح، وتعلم كيف يجب أن تجاوب كل واحد (كولوسي 4: 6).

(30) هنا يحذر الرسول من خطأ خطير جداً وهو أحزان الروح القدس قال: «لا تحزنوا روح الله القدوس...» روح الله ماكث فينا يعزينا ويرشدنا إلى جميع الحق، وبه ختمنا ليوم الفداء (أفسس 1: 18) وهو الذي يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله (رومية 8: 16) وهو الذي أعطانا الحياة في المسيح (أفسس 2: 5) وهو الذي به صار لنا قدوم إلى الآب في المسيح (أفسس 2: 18) وهو الذي يوزع لنا المواهب التي نحتاج إليها في خدمتنا (أفسس 4: 7 و8) لذلك لنحترز من إحزانه، ولننزع من حياتنا كل ما يحجب قوته.

في يوم الخمسين ظهر الروح القدس في السنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على التلاميذ (أعمال 2: 3) فلا غرابة إذا كان الروح المبارك رقيباً على الألسنة، وإن كل كلمة رديئة تحزنه.

لا ريب في أن سكنى الروح القدس في المؤمن يثبت أنه ابن لله، ويؤكد خلاصه، كما جاء في قوله: «الذي به ختمتم ليوم الفداء». فكل تصرف يحزنه يحسب تعدياً على الروح الإلهي الذي منحنا رجاء السماء. صحيح أن الروح القدوس متى سكن قلب المؤمن، لا يعود يفارقه أبداً. ولكن عرف بالاختبار أن المؤمن الذي يحزنه يخسر كثيراً من البركات.

الصلاة: يا إلهنا الحي، يا مصدر كل خير ومعطي كل بركة روحية. امنحنا القوة لكي نعيش في قداسة. واجعل ضمائرنا مستيقظة لكي لا نأتي عملاً يحزن روحك القدوس. هذا نطلبه باسم الكريم يسوع. آمين.

31 لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ وَسَخَطٍ وَغَضَبٍ وَصِيَاحٍ وَتَجْدِيفٍ مَعَ كُلِّ خُبْثٍ. 32وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً فِي ٱلْمَسِيحِ.

بعد أن حذر الرسول من التصرفات، التي تحزن الروح القدس، ختم الأصحاح بآيتين أشار فيهما إلى شيئين متاضدين: الانفعال الخبيث والشعور الطيب. فندد بالأول وطلب بشدة أن يزول من حياة المؤمنين. وحث على الالتزام بالثاني كفضيلة. يجب أن يرتديها المؤمنون.

(31) في هذه الآية، عدد الرسول ستة انفعالات حبيثة، لا تليق بالمؤمنين، بل يجب نفيها من حياتهم.

  1. المرارة - وهي شراسة الأخلاق التي تكمن في القلب المخاتل العنيف. كما انها تنشأ بكل سهولة من الانطواء على الذات. وهي من مخلفات الإنسان العتيق، التي كان يجب أن تصلب مع المسيح وتدفن منذ زمن بعيد. وشر ما فيها أنها تجعل الإنسان سريع الغضب بطيء الرضى. وعلى أي حال، فالمرارة أيا كان مصدرها أو علتها، تحزن الروح القدس. إنها تمنع الله من أن يعمل فينا أو بنا. وهي بالنسبة لأسلحتنا الوقائية، تشكل ثغرة تتسرب من خلالها سهام إبليس الملتهبة. وقد عرف بالاختبار أن المرارة تعبر عن ذاتها بالأفكار الحاقدة، التي لا تليق بقديسين. وحين يطلق عقالها، تذهب إلى حد الافتراء والنميمة.

  2. السخط - وهو يتميز عن الغضب، في كون الأول مرضاً مزمناً. وقيل أن السخط لا يصدر إلا عن العظماء نحو من هم دونهم مرتبة. ولعل المراد بالسخط ما ينتاب الإنسان من انفعال عند التجربة والمباغتة.

  3. الغضب - المراد بالغضب ما هو أعمق من السخط. إنه انفعال القلب الحاقد، الذي يحمل على الانتقام من المغضوب عليه، ولا يشفى إلا به.

  4. الصياح - وهو إظهار الغضب بالصوت، فيهيج بذلك غضب الغير. وهذا لا يليق بالمؤمن، الذي مثاله المسيح، الذي وصف بأنه لا يخاصم، ولا يصيح. ولا يسمع أحد في الشوارع صوته (متى 12: 19).

  5. التجديف - وهو شر فلتات اللسان، حين يقذف الغير باللعن وبكل ألوان السباب. وإطلاق مثل هذه الأقوال على إنسان، لا يخلو من تجديف على خالق هذا الإنسان (يعقوب 3: 8-10).

  6. الخبث - وهو أصل في القلب الشرير، وكل ما تقدم ذكره من انفعالات متفرع عنه. لذلك وجب اقتلاع الأصل وغرس عكسه، وهي «ٱلْمَحَبَّةُ التي تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ... وَلاَ تُقَبِّحُ... وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ ٱلسُّؤَ» (1 كورنثوس 13: 4 و5).

(32) ابتداء من هذه الآية إلى الثانية من الأصحاح الخامس، يتكلم بولس عن الشعور الطيب. أنه يضع نصب أعيننا صليب يسوع المسيح. ويستهل الآية بهذه الكلمة «كونوا لطفاء». هذه نقطة انطلاق، يجب على المسيحي أن لا ينساها أبداً. المسيحي الحقيقي، لا يجوز له أن يغادر صعيد الصليب.

«كونوا لطفاء شفوقين متسامحين» هذه سجايا «مُخْتَارِي ٱللّٰهِ ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفاً، وَتَوَاضُعاً، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً (بالمحبة)» (كولوسي 3: 12 و13).

«كما سامحكم الله أيضاً في المسيح» هذا كقوله: «إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ ٱلْمَسِيحُ هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً» (كولوسي 3: 13) ومما لا مراء فيه أن ممارسة هذه الفضائل تستلزم المؤمن أن يخلي من نفسه ما يسمونه «كبر النفس» ولعل في هذا إيلاماً شديداً. ولكن هذه هي دعوتنا التي دعانا بها الرب، حين قال: إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني.

هذا ما فهمه بطرس، وخبره وأوصانا به قائلاً: «لأَنَّكُمْ لِهٰذَا دُعِيتُمْ. فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ» (1 بطرس 2: 21).

كل مسامحة الله لنا هي في المسيح، لأنه بدل نفسه كفارة لخطايانا. ولهذا وجب أن تكون مغفرته لنا قياس مغفرتنا لغيرنا. ويجب أن نذكر قول المسيح: «وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلاَّتِكُمْ» (متى 6: 15).

الصلاة: لك الحمد أيها الآب رب السماء، لأجل قوتك العاملة فينا. حررني من الانفعالات الخبيثة: المرارة والغضب والصياح والتجديف وكل فلتات اللسان واجعل فمي بشريعتك نهاراً وليلاً.

اَلأَصْحَاحُ ٱلْخَامِسُ

1فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِٱللّٰهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ، 2وَٱسْلُكُوا فِي ٱلْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلّٰهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً.

في الأصحاح السابق، ناشد الرسول الأفسسيين أن يخلعوا الإنسان العتيق، ويقلعوا عن أعماله. وختم بصب كلامه على الخطايا التي تثير البغضاء بين الناس. وحض المؤمنين على ممارسة الفضائل التي تعزز وحدانتيهم ودعوتهم المقدسة التي هي محور هذه الرسالة.

(1) إن المحبة التي أحبنا بها الآب السماوي، وعبر عنها في شخص يسوع ابنه الذي صلب ليخلصنا من خطايانا. وأقيم لأجل تبريرنا. هي أقوى حافز لنا على قداسة حياتنا، القداسة التي كانت موضوعاً لاهتمام ربنا ومخلصنا. وقد عبر عن اهتمامه بها بصلاته الشفاعية حين قال: «أيها الآب... قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ» (يوحنا 17: 17).

«كونوا متمثلين بالله» تعتبر هذه العبارة حلقة اتصال بين هاتمة الأصحاح السابق وهلة هذا الأصحاح. ويا لها من دعوة! إنها ترفع من يلبيها عن الدنايا. وتدفعه صعداً إلى الفضائل العليا.

فكون المؤمنين أولاد الله يستلزم أن يكونوا مثل أبيهم السماوي. الذي هو نفسه محبة (يوحنا 4: 8) والذي لم يشفق على ابنه، بل بذله من أجلنا أجمعين (رومية 8: 32).

وبتعبير آخر أن التمثل بالله في محبته المتسامحة المضحية، هو الطابع الواجب أن تتميز به حياة أولاد الله. فيحيوا حياة تحاكي، على نوع ما حياة الله المتجلية في دائرة النعمة.

(2) «واسلكوا في المحبة» هذه الكلمة تجعلنا مكلفين أن نمارس هذه الفضيلة في كل سلوكنا. بمعنى أننا كأولاد أحباء ملأت المحبة قلوبهم، يجب أن نسلك بروح البنين، ودالة البنين، وحرية البنين.

«كما أحبنا السميح وأسلم نفسه لأجلنا...» هذا قياس محبتنا، محبة المسيح لنا. ولعل الرسول حين كتب هذه العبارات، كان يتردد في خاطره صدى كلمات المسيح في خطابه الوداعي لتلاميذه: «وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً» (يوحنا 13: 34) «هٰذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هٰذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ» (يوحنا 15: 12 و13).

«وأسلم نفسه» إن كلمة أسلم، تفيد التسليم التطوعي بروح منتدب، لكأن المسيح مقدم على عمل هو في غاية الشوق إلى القيام به. فهو أحبنا لأنه أراد أن يحبنا. وبالمحبة قدم نفسه للصلب، إتماماً لبرنامج الفداء العديب الذي دبرته المشورة الإلهية قبل كون العالم. وكلمة «لأجلنا» تفيد أن محبة المسيح لنا محبة فدائية، لأنه مات بديلاً عنا ليحيينا. ولكي ندرك مدى التضحية في عمل الميسح، يجب أن نذكر ما للمسيح من سمو وقداسة وما نحن عليه من انحطاط ونجاسة. هذا ما أشار غليه الرسول بقوله: «لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ، إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ، مَاتَ فِي ٱلْوَقْتِ ٱلْمُعَيَّنِ لأَجْلِ ٱلْفُجَّارِ. فَإِنَّهُ بِٱلْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ ٱلصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ. وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رومية 5: 6-8).

هذه هي محبة المسيح الفدائية، وقد جعلها الرسول قياساً للمحبة، التي بها ينبغي أن نحب بعضنا بعضاً. حتى الموت أحبنا مقدماً لنا أشرف باعث لهذه المحبة، إذ قدم نفسه ذبيحة للتكفير عن خطايانا.

الصلاة: يا الله سيدنا وإلهنا، نشكرك لمحبتك الفائقة التي أحببتنا بها. نقر أمامك بضعف محبتنا، ونسألك الغفران عن فتور محبتنا لك وللغريب. نسألك باسم فادينا المحب أن تضرم نار المحبة في قلوبنا. آمين.

3وَأَمَّا ٱلزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ، 4وَلاَ ٱلْقَبَاحَةُ، وَلاَ كَلاَمُ ٱلسَّفَاهَةِ وَٱلْهَزْلُ ٱلَّتِي لاَ تَلِيقُ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلشُّكْرُ. 5فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ هٰذَا أَنَّ كُلَّ زَانٍ أَوْ نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ، ٱلَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأَوْثَانِ لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ ٱلْمَسِيحِ وَٱللّٰهِ.

في القسم الأول من هذا الفصل، أرانا الرسول كيف نسلك طبقاً للحق الذي في المسيح يسوع، وكيف نتعلم فيه. وفي هذا القسم يحضنا على أن نسلك كأولاد نور. وهنا نلاحظ أن الروح القدس يرفع غطاء الاحترام عن المسيحيين الاسميين، لكي يشهر بالفساد الأدبي المستتر وراء ممارساتهم الدينية الخارجية، والذي يعمل لتقويض أركان حضارتنا. كان هناك خطر انتشار العدوى بين الشعب، ولهذا وجه الرسول تحذيره الصارم الذي ختمه بكلمة حازمة «فلا يسم بينكم».

وفي الفصل السابق نهى الرسول عن الخطايا التي يرتكبها الإنسان على أخيه، ونلاحظ أنه لم يكتف بالنهي عن الزنى، بل نهى عن كل ما يشاكله ويؤدي إليه، حتى ذكره، لكأنه ينجس شفتي المتكلم به وآذان سامعيه. وفي نطري أن الرسول قصد بتحذيره، ليس فقط أن نمتنع عن الشر، بل أيضاً أن نتجنب ذكره.

قرن بولس الطمع بالنجاسة، لأن الوثنيين كانوا يمارسون الخطايا المنافية للعفاف بلا ضابط، سوى ميولهم النهمة التي لم تكن تعرف حداً للشبع. وغير خاف أن رذيلتي النجاسة والطمع لهما معنى واحد عدم الاكتفاء. وهو وليد حب الذات.

إن هذا المثلث الفاسد: الزنى النجاسة الطمع، الذي استشرى في جيلنا، يجب أن يثير فينا ليس فقط القرف والاشمئزاز، بل أيضاً الشفقة على ضحاياه. لذلك وضعت علينا الضرورة لنكافح ضد هذه الآفة شاهرين سيف الحق الذي هو كملة الله.

كما يليق بقديسين هذه العبارة يجب أن تستوقفنا طويلاً. لأنها تذكرنا باختيار الله لنا للقداسة، وختمه إيانا بالروح القدس. وهذا يستلزمنا أن نلاحظ سيرتنا، فلا تكون لنا أدنى مشاركة في تلك الخطايا الدنسة.

(4) في نظرته إلى تصرفات البشر، وضع الرسول الخطايا الكلامية في مستوى واحد مع الخطايا الفعلية، لأنه نوع من الفساد الأدبي، ولأن الكلام يسوق إلى الفعل. لذلك يجب في هذا المجال أن يكون كلامنا لائقاً بدعوتنا المقدسة.

القباحة - كلمة تصف كل دنيء ومكروه قولاً وفعلاً. وقد درج الناس على أن يصفوا المناظر بالحسن والقبيح، وطبقوا هذه القاعدة على السجايا، فدعوا الفضائل حسنة والرذائل قبيحة.

السفاهة - تعني التكلم عن الشر بلسان الجاهل المستخف بخطاياه وخطايا الغير. وقد حذر المؤمنين من معبتها لأنها كثيراً ما تكون سبباً للعثرات.

الهزل - يعني المزاح والسخرية، التي اعتاد البعض ممارستها لإدخال السرور على نفوسهم ونفوس سامعيهم. وهي لا تليق بقديسين، لأنها تشغل الوقت بالأباطيل. ولعل الرسول وضع الهزل في هذا الإطار الأسود، لأن الأفسسيين اشتهروا به، حتى ضرب بهم المثل في المزاح. ويقول العارفون أن الأفسسيين كغيرهم من سكان آسيا الصغرى، كانوا متأثرين بفكرة الفيلسوف أريسطو الذي كان يحسب المجون ضرباً من الفنون الجميلة.

ويبدو أن الفوضى الأدبية كانت منتشرة في كنيسة كورنثوس. لذلك كان لا بد للرسول المغبوط من أن يتخذ موقفاً حازماً حيال الأعضاء العابثين بالفضيلة، والذين يدعون أنفسهم أخوة. فقال: كتبت إليكم في الرسالة أن لا تخالطوا الزناة. وليس مطلقاً زناة هذا العالم، أو الطماعين أو الخاطفين أو عبدة الأوثان. وإلا فيلزمكم أن تخرجوا من العالم، وأما الآن فكتبت إليكم إن كان احد مدعواً أخاً زانياً أو طماعاً أو عابد وثن أو شتاماً أو سكيراً أو خاطفاً، أن لا تخالطوا ولا تواكلوا مثل هذا... فاعزلوا الخبث من بينكم (1 كورنثوس 5: 9-13).

الصلاة: أيها الآب القدوس، قلوبنا تشكرك لأنك لأجل غفران خطايانا وتقديسنا بذلت ابنك الوحيد، أرسل روحك وحقك إلى قلوبنا لكي تحفظنا في البر وقداسة الحق. آمين.

6لاَ يَغُرَّكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ بَاطِلٍ، لأَنَّهُ بِسَبَبِ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ يَأْتِي غَضَبُ ٱللّٰهِ عَلَى أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ. 7فَلاَ تَكُونُوا شُرَكَاءَهُمْ.

(6) يبدو أن كثيرين من الأفسسيين استخفوا بأعمال الظلمة التي وبخها الرسول. لأن الفلاسفة الوثنيين حسبوا تلك الخطايا الشهوية من الأمور الطبيعية. وأن بعض المسيحيين السطحيين، وافقوهم، قائلين أنها أمور جسدية، ولا يمكن أن تدنس النفس. فحذر بولس المؤمنين من أن ينقادوا بغرور الفلسفات الباطلة. وأكد بسلطانه الرسولي، أنه بسببها «يأتي غضب الله على أبناء المعصية» وإننا لنرى من خلال لهجة الرسول، أن خطراً كبيراً كان يهدد المؤمنين، وهو الانجذاب في تيار الأشرار. لذلك وجد أن لزاماً عليه أن يشهر بهذه المعاصي، ويحذر من ارتكابها.

يقول المؤرخون أن أفسس في زمن كتابة هذه الرسالة، كانت مرتعاً لشتى الآراء الفلسفية، وبؤرة للنزعات الدينية المتباينة. وبينها شيعة الغنوسيين، التي كانت تزيع تعاليم مضلة مفادها أن يحق للإنسان أن يتصرف جسدياً كما يحلو له، من غير أن يؤثر تصرفه في حالته الروحية. فيشاطر أهل الظلام ممارساتهم، ويشاطر أبناء النور ممارساتهم. لكأنه من أبناء الله في النهار، ومن أبناء بليعال في الليل. هذا هو الكلام الباطل وقد شجبه الرسول الكريم بقوله: «لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَٱلإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ ٱلظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ ٱتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِ؟ وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ ٱللّٰهِ مَعَ ٱلأَوْثَانِ؟» (2 كورنثوس 6: 14-16).

إن الباعث على هذا الموقف الواجب أن يتخذه المؤمنون، هو وقوع غضب الله بسبب هذه الشرور على المرتكبين المصرين على العصيان. بمعنى أن هذه الكبائر لا يمكن أن تعفى من عقاب الله، كما توهم المضلون من فلاسفة وغنوسيين. لأنه إن كان غضب الناس في حد ذاته مخيفاً، مع أنه محدود، فكلم بالحري يكون غضب الله مخيفاً؟ (عبرانيين 10: 31) ولا ريب أن غضب الله على أبناء المعصية يبدأ بالحال. فإن الله يرفع روحه عنهم بسبب تماديهم في الشر بالرغم من الانذارات، وفقاً لقوله له المجد «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي ٱلإِنْسَانِ إِلَى ٱلأَبَدِ. لِزَيَغَانِهِ» (تكوين 6: 3) وهذا ما أشار إليه الرسول، إذ قال: «وَكَمَا لَمْ يَسْتَحْسِنُوا أَنْ يُبْقُوا ٱللّٰهَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ، أَسْلَمَهُمُ ٱللّٰهُ إِلَى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ لِيَفْعَلُوا مَا لاَ يَلِيقُ» (رومية 1: 28) هذه هي مغبة العناد في مقاومة الحق، الوقوع في قبضة الذهن المرفوض الخالي من كل إحساس، ومن القدرة على تمييز الأشياء المتخالفة. فانظر إلى أين تقود الخطية، وإلى أية هاوية يطرح الخاطي الذي يزدري بروح النعمة ويرفض خلاص الله.

في اعتقادي أنه عندما يتوافق الضمير والخطية يصبح الإنسان في طريقه إلى جهنم. أنه يفعل ما لايليق بكرامة الإنسان، ويناقض حتى ناموس الطبيعة، وهذا ما عبر عنه الرسول بإهانة الجسد (رومية 1: 24) فالإنسان الذي يرفض معرفة الله خالقه يتدهور أدبياً ويصبح أحط من البهائم التي تباد (مزمور 49: 20). وهكذا يسمح الله أن تكون إحدى السقطات قصاصاً للأخرى.

(7) لا تكونوا شركاء أي لا تكونوا شركاء أبناء الظلمة المستبيحين في التصرف، لئلا تصيروا شركاءهم في القصاص المعد لأبناء المعصية غير التائبين، الذين من أجل قساوتهم وقلبهم غير التائب يذخرون لأنفسهم غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة (رومية 2: 5) والواقع أن الذين يسلكون في طريق المعصية يكدسون لأنفسهم غضباً. لأن كل خطية ترتكب عن عمد تضيف المكيال وتضاعف المحاسبة. إن خزانة الغضب هي قلب الله، الذي عيناه لا تستطيعان أن تريا الشر.

وحين نتأمل في كلمة الرسول بعمق، نرى فيها تذكيراً لطيفاً لمؤمني أفسس بسلوكهم السالف قبل أن يعرفوا المسيح مخلصاً، حيث كانت لهم شركة مع أبناء المعصية. وفي الكلمة أيضاً حض لهم على الاحتفاظ بالنقاوة التي صارت إليهم بكلام المسيح.

الصلاة: كم نشكرك يا إلهنا الصالح، لأجل كلمتك التي بها تنقي قلوبنا. أعنا لكي تسكن كلمتك فينا بغنى لكي تحفظنا من السقوط في الجهالات بعد ما عرفنا الحق في المسيح، وصارت لنا حرية أولاد النور. آمين.

8لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلاً ظُلْمَةً وَأَمَّا ٱلآنَ فَنُورٌ فِي ٱلرَّبِّ. ٱسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ. 9لأَنَّ ثَمَرَ ٱلرُّوحِ هُوَ فِي كُلِّ صَلاَحٍ وَبِرٍّ وَحَقٍّ. 10مُخْتَبِرِينَ مَا هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ ٱلرَّبِّ.

(8-9) لقد دل الاختبار على أن الذي يسلك كابن نور، لا يمكن أن يرتد، أو يشترك في أعمال الظلمة، لأنه صار نوراً في الرب. ولأن الانفصال بين فريق الظلمة وفريق النور قد حصل تماماً، وإنما على ا بن النور أن يشدد السهر لكيلا ينجذب بأي كلام باطل يمكنه أن يعكر صفاء الرؤيا المجيدة التي الحت لبصيرته. قال ربنا المبارك: «لَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجاً وَيَضَعُهُ فِي خُفْيَةٍ، وَلاَ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ، لِكَيْ يَنْظُرَ ٱلدَّاخِلُونَ ٱلنُّورَ. سِرَاجُ ٱلْجَسَدِ هُوَ ٱلْعَيْنُ، فَمَتَى كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً، وَمَتَى كَانَتْ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ يَكُونُ مُظْلِماً. اُنْظُرْ إِذاً لِئَلاَّ يَكُونَ ٱلنُّورُ ٱلَّذِي فِيكَ ظُلْمَةً. فَإِنْ كَانَ جَسَدُكَ كُلُّهُ نَيِّراً لَيْسَ فِيهِ جُزْءٌ مُظْلِمٌ، يَكُونُ نَيِّراً كُلُّهُ، كَمَا حِينَمَا يُضِيءُ لَكَ ٱلسِّرَاجُ بِلَمَعَانِهِ» (لوقا 11: 33-36).

لاحظ دقة الكلام، فقد حرص لوقا الطبيب أن لا تفلت منه أية عبارة من هذه الفقرة الرائعة. أما كتبة الوحي الآخرن فلم يدونوا لنا هذه العبارة «فإن كان جسدك كله نيراً، ليس فيه جزء مظلم» هذا شرح إلهي رائع لقول الرسول: «لا يغركم أحد بكلام باطل» لأنه كم من المسيحيين يعيشون في حال شلل روحي، لأن جزءاً واحداً من حياتهم بقي في الظلمة.

والسبب في ذلك، أن هذا الجزء من حياتهم لم يخضع لطاعة المسيح.

قبل أن يعين بولس رسولاً، قال يسوع لسامعيه في الهيكل: «ٱلنُّورُ مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ، فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ ٱلنُّورُ لِئَلاَّ يُدْرِكَكُمُ ٱلظَّلاَمُ. وَٱلَّذِي يَسِيرُ فِي ٱلظَّلاَمِ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ. مَا دَامَ لَكُمُ ٱلنُّورُ آمِنُوا بِٱلنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ ٱلنُّورِ» (يوحنا 12: 35 و36). وقال أيضاً: «أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى ٱلْعَالَمِ، حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي ٱلظُّلْمَةِ» (يوحنا 12: 46).

فليتك تؤمن به وتسير في نوره كل أيام حياتك كابن نور، ليثمر روحه فيك صلاحاً وبراً وحقاً. هذه هي العناصر التي أنت في مسيس الحاجة إليها لحفظ شريعة الله.

(10) أن ما ذكر في الآية التاسعة، هو كلام معترض. أما كلام هذه الآية فمتمم لقوله في الآية الثامنة. فكأنه يقول: اسلكوا كأولا نور، مختبرين ما هي إرادة الله. إن أبناء هذا الدهر يهتمون بما يرضي أنفسهم أولاً، ثم من حولهم. أما أولاد الرب الذين «نَظَرُوا إِلَيْهِ وَٱسْتَنَارُوا وَوُجُوهُهُمْ لَمْ تَخْجَلْ» (مزمور 34: 5) فيجعلون رضى الله هدفاً ومقياساً لكل ما يأتون به، أو يمتنعون عنه.

ورب سائل: كيف يمكننا أن نميز، ما هو مرضي وما هو غير مرضي عند الرب؟ نجد الجواب عند بولس نفسه، حيث يقول: «وَلاَ تُشَاكِلُوا هٰذَا ٱلدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ ٱللّٰهِ ٱلصَّالِحَةُ ٱلْمَرْضِيَّةُ ٱلْكَامِلَةُ» (رومية 12: 2).

لاحظ هنا، أن المطلوب ليس تغيير جوهر النفس، بل تغيير صفاتها بتجديد الذهن، المعبر عنه أحياناً بكلمة «قلب» وتجديد الذهني يعني استنارة الذهن، واستنارة الضمير والفكر. وهكذا يصبح الإنسان غير ما كان. لأن الذهن هو الجزء المسيطر فينا. لذلك فإن تجديده يعني تجديد كياننا كله، لأن منه مخارج الحياة.

الصلاة: أجل يا رب فادينا ومخلصنا، انه بدون عملك نكون ظلمة ولكن نشكرك لأجل برك الذي وهبته لنا، حتى يستطيع كل من يؤمن بك أن يصير نوراً في الرب. ساعدنا لكي نسلك كأولاد نور ولك في خلاصنا المجد. آمين.

11وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ ٱلظُّلْمَةِ غَيْرِ ٱلْمُثْمِرَةِ بَلْ بِٱلْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا. 12لأَنَّ ٱلأُمُورَ ٱلْحَادِثَةَ مِنْهُمْ سِرّاً ذِكْرُهَا أَيْضاً قَبِيحٌ. 13وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ إِذَا تَوَبَّخَ يُظْهَرُ بِٱلنُّورِ. لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ نُورٌ. 14لِذٰلِكَ يَقُولُ: «ٱسْتَيْقِظْ أَيُّهَا ٱلنَّائِمُ وَقُمْ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ ٱلْمَسِيحُ».

(11-12) في الآيات السابقة، أبان الرسول أن كون المؤمنين أولاد الله، يستلزمهم أن يلاحظوا دعوتهم من جهتين: الأولى الجهة السلبية، وهي عدم اشتراكهم في أعمال الظلمة العقيمة. والثانية إيجابية، وهي توبيخ تصرفات أبناء الظلام. لأن ممارساتهم عبادة وثنية شيطانية. وقد قال الرسول جازماً: لا أريد أن تكونوا شركاء الشياطين (1 كورنثوس 10: 20). ولعل أجمل الأمثلة في هذا الموضوع، ما حدث مع النحات المشهور ثورو وولدش، الذي صنع تمثالاً ليسوع المسيح، يعتبر أروع التماثيل التي صنعت له. فقد طلب إليه أن يصنع تمثالاً للآلهة فينوس، ليوضع في قصر اللوفر. ومع أن الأجر الذي عرض عليه كان مغرياً جداً، إلا أنه رفض العرض، قائلاً: إن اليد التي نحتت شكل المسيح، لا يمكن أن تنحت شكل آلهة وثنية. هذا هو المبدأ الواجب أن يلتزم به المؤمن. فالذي لمس بإيمانه الرب يسوع، يجب أن يحفظ نفسه من التلوث بأعمال الظلمة، التي تدنس الحياة.

«بل بالحري وبخوها» لأن واجب المسيحي ليس مقصوراً على تلقي نور المسيح لحياته والتمتع به، بل عليه أن يعكس نور الحق الذي تلقاه على أعمال الظلمة، لكي يرى كل إنسان دنسها وفظاعتها. ولكن ليحرص على أن يؤدي التوبيخ بلطف، لكي لا يستفز المشاعر. وتبعاً لذلك يسكر باب التوبة أمام المرتكب.

(13) من المعروف بالبداهة أن النور يبدد الظلام، وهذا يعني أن تلك الخطايا غير متعذرة الشفاء، إذا ما توبخت بالنور. صحيح أن المسيح قال لنيقوديموس حين زاره ليلاً: «لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ ٱلسَّيِّآتِ يُبْغِضُ ٱلنُّورَ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى ٱلنُّورِ لِئَلاَّ تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ» . ولكن المسيح هو الحق، ومن يقبله يقبل الحق ويفعل الحق، ومن يفعل الحق «فَيُقْبِلُ إِلَى ٱلنُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِٱللّٰهِ مَعْمُولَةٌ» (يوحنا 3: 20 و21).

«كل ما أظهر فهو نور» أي أن قوة الحق الإلهي التي تشرق من الإنجيل، ومن خلال شهادة أولاد الله، تفعل فعل النور فتنير القلب وتقدسه. ومن الواضح أن تلك القوة المنيرة، تصدر من المسيح الذي قال: «أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا 8: 12).

(14) أمام نقل خطر الفتور الروحي السائد، وتعشب الآراء البشرية، التي تتداول في الأوساط حول هذه المواضيع، وتزرع التشويش هنا وهناك، رن نداء الرسول كبوق قائلاً: استيقظ أيها النائم وثم من الأموات فيضيء لك المسيح. هذا النداء أرسله إشعياء قديماً في شعبه، إذ قال: «قُومِي ٱسْتَنِيرِي لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ وَمَجْدُ ٱلرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ» (إشعياء 60: 1).

يقول ثقات المفسرين أن بولس اقتبس هذه الآية من ترنيمة قديمة كانت معروفة بين المسيحيين الأوائل، وكانوا يرنمونها في أثناء العماد. ولعلها نظم لقول المسيح: «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ يَسْمَعُ ٱلأَمْوَاتُ صَوْتَ ٱبْنِ ٱللّٰهِ» (يوحنا 5: 25).

تطلع حولك بعينين مفتوحتين، فترى أن ثبات نوم الموت يخيم على الجميع، بما فيهم أولئك الذين لهم «صورة التقوى وهم منكرون قوتها» فإن كنت يا أخي لا تساهم في تقويم الأوضاع بالسهر والصلاة فأنت نائم، بينما العالم حولك في حالة روحية سيئة جداً.

الصلاة: أيها السيد الرب إلهي، اغفر لي فتور محبتي وضعف إيماني. أيقظني من نوم التكاسل والتراخي، واسكب عليّ روح الصلاة، لكي أقرع باب نعمتك وأستصرخ مراحمك على جميع إخواني بني البشر. آمين.

15فَٱنْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِٱلتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ، 16مُفْتَدِينَ ٱلْوَقْتَ لأَنَّ ٱلأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ. 17مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ لاَ تَكُونُوا أَغْبِيَاءَ بَلْ فَاهِمِينَ مَا هِيَ مَشِيئَةُ ٱلرَّبِّ.

يتحدث الرسول إلينا هنا عن حكمة السماء والفهم المستنير بالله، الذي يحكم على الأشياء والناس، كما يفعل الرب. إنها ثمرة الشركة الحبية مع يسوع نفسه، التي بها نستطيع أن نفهم أفكاره، ويكون لنا نفس الرأي معه.

إن المؤمن الذي افتدي بدم المسيح من سوق العبيد الخاصة بإله هذا العالم، قد حصل على الحرية من روح هذا الزمان الحاضر. وحين ينمو في المسيح، يحصل على حكمة افتداء الوقت، فيعلم أن الأيام شريرة. وفي يقظته ونظرته إلى خطورة الأوقات، يفتدي كل هنيهة، ويحولها إلى خدمة ربه وفاديه. فيا له من مثال رائع، يقدمه لنا الرسول في هذه الناحية!

(15) هذه الآية متعلقة بالآيتين العاشرة والحادية عشر. فالمؤمنون لكونهم أولاد نور، وجب عليهم أن يسلكوا بتدقيق، لكي لا يميلوا عن سنن القداسة والطاعة لوصايا الله. مبتعدين عن جهالات هذا الدهر، وملتمسين الحكمة من الله، الذي يعطي كل من يطلب منه بسخاء ولا يعير. ولعل وصية الرسول مأخوذة من مثل العذارى الحكيمات اللائي انتهزن الفرصة وكوفئن بخلاف العذاري الجاهلات، اللائي تكاسلن واستغرقن في النوم، فضاعت عليهن الفرصة.

(16) لا توجد وسلية يظهر فيها الحكماء حكمتهم مثل اغتنام كل سانحة، تمكنهم من أن يصنعوا الخير مفتدين الوقت من الإتلاف وسوء الاستعمال. هذه النقطة كانت موضوعاً لاهتمام رجل الله موسى، إذ قال في صلاته: «إِحْصَاءَ أَيَّامِنَا هٰكَذَا عَلِّمْنَا فَنُؤْتَى قَلْبَ حِكْمَةٍ» (مزمور 90: 12).

إن أحصاء الأيام وافتداء الوقت، يعنيان وجوب صرف الأيام في عمل أشياء مفيدة جليلة. والباعث على ذلك هو أن الله وهبنا أياما لغايات ثمنية وشريفة، بحيث لا يجوز لنا إتلافها في أمور تافهة، لا تعود علينا بنفع. وهناك باعث آخر للسلوك بالحكمة، وهو أن الأيام تكثر فيها التجارب. وفي معظم الأحيان، تنجم عنها الشرور. فالذي على الإنسان أن يفعله يجب أن يفعله بحكمة وبدون إضاعة وقته في التفاهات.

(17) يؤكد الاختبار أن المستنيرين بنور الله، قد أعطوا حكمة لتمييز الأمور المتخالفة والابتعاد عنها. فهم قد تجددوا بروح ذهنهم، وأعطوا النعمة لاختبار إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة. فصارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر (عبرانيين 5: 14).

إن غرض روح الله، هو أن نكون دائماً في نمو مطرد وتقدم دائم في معرفة المسيح معرفة علمية. وبدون ذلك لا يمكننا أن نفهم مشيئة الله، لنجعلها دستوراً لسيرة حياتنا. ألم يقل المسيح، «أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاَّ بِي» (يوحنا 14: 6).

كم أتمنى من كل قلبي أن تعرف المسيح، ليس فقط المعرفة الخلاصية. بل أيضاً أن تنمو في معرفته لدرجة تجعل من السهل عليك أن تعرّف الآخرين بشخصه المبارك. بمعنى أن تصير إليك غيرة رسله في القديم، الذين قالوا: «نَحْنُ لاَ يُمْكِنُنَا أَنْ لاَ نَتَكَلَّمَ بِمَا رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا» (أعمال 4: 20) فمحبة الحق تجبر صاحبها على المناداة به.

الصلاة: أيها الآب القدوس، ملكي وإلهي. إنني أعترف قدامك بجهالتي، التي حملتني كثيراً على استهلاك الأوقات في أمور لا تمجد اسمك. وإذ أستغفرك عما سلف، أرجوك أن تضع في قلبي حكمة افتداء الوقت، لأصرف ما تبقى من أيام غربتي في عمل ما يرضيك بربنا يسوع المسيح. آمين.

18وَلاَ تَسْكَرُوا بِٱلْخَمْرِ ٱلَّذِي فِيهِ ٱلْخَلاَعَةُ، بَلِ ٱمْتَلِئُوا بِٱلرُّوحِ، 19مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ.

رأينا في ما تقدم، أن الكلام كان كله موجهاً إلى أولاد النور. أما في الآيات التالية، فإن الرسول يضع أمامنا المسيحي المستيقظ والممتلئ بالروح القدس، والمرتل في قلبه للرب، والذي يحذره الرسول من نجاسة الخمر التي فيها الخلاعة.

(18) أن شرور الأيام ومصائبها والمضايقات في طياتها، كثيراً ما تقود الجهلاء إلى ما يسمونه إغراق الهموم في كأس الخمر. ولكن الكأس سرعان ما تبتلع، ليس فقط الأموال والصحة، بل أيضاً الكرامة العزيزة، وفي الأخير تقتل النفس التي مات المسيح لأجلها. ولذلك أقول أن هذه أسوأ وسيلة للتغلب على الصعوبات والأوصاب، التي تأتي بها الأيام.

لعل الرسول خلال إقامته في مقاطعة أفسس، لاحظ عادة السكر التي كانت مستشرية بين السكان، فكتب وصيته هذه: «لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة». لأن السكر بالخمر يؤدي إلى إخضاع النفس للأهواء الجسدية.

ولكن قبل الرسول الكريم ودد من نيهي عن السكر وهو سليمان الحكيم. فقد كتب هذه الرجل العظيم بإلهان الروح القدس، محذراً من شرب الخمر: «لاَ تَكُنْ بَيْنَ شِرِّيبِي ٱلْخَمْرِ، بَيْنَ ٱلْمُتْلِفِينَ أَجْسَادَهُمْ، لأَنَّ ٱلسِّكِّيرَ وَٱلْمُسْرِفَ يَفْتَقِرَانِ... لِمَنِ ٱلْوَيْلُ؟ لِمَنِ ٱلشَّقَاوَةُ؟ لِمَنِ ٱلْمُخَاصَمَاتُ؟ لِمَنِ ٱلْكَرْبُ، لِمَنِ ٱلْجُرُوحُ بِلاَ سَبَبٍ؟ لِمَنِ ٱزْمِهْرَارُ ٱلْعَيْنَيْنِ؟ لِلَّذِينَ يُدْمِنُونَ ٱلْخَمْرَ، ٱلَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي طَلَبِ ٱلشَّرَابِ ٱلْمَمْزُوجِ. لاَ تَنْظُرْ إِلَى ٱلْخَمْرِ إِذَا ٱحْمَرَّتْ حِينَ تُظْهِرُ حِبَابَهَا فِي ٱلْكَأْسِ وَسَاغَتْ مُرَقْرِقَةً. فِي ٱلآخِرِ تَلْسَعُ كَٱلْحَيَّةِ وَتَلْدَغُ كَٱلأُفْعُوانِ. عَيْنَاكَ تَنْظُرَانِ ٱلأَجْنَبِيَّاتِ وَقَلْبُكَ يَنْطِقُ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ. وَتَكُونُ كَمُضْطَجِعٍ فِي قَلْبِ ٱلْبَحْرِ، أَوْ كَمُضْطَجِعٍ عَلَى رَأْسِ سَارِيَةٍ. يَقُولُ: «ضَرَبُونِي وَلَمْ أَتَوَجَّعْ. لَقَدْ لَكَأُونِي وَلَمْ أَعْرِفْ. مَتَى أَسْتَيْقِظُ أَعُودُ أَطْلُبُهَا بَعْدُ!» (أمثال 23: 20 و21 و29-35).

إن هذه اللوحة التي رسمها الحكيم للسكير، تصف لنا العطش المفترس الذي يسيطر على أي يقع في براثن هذه العادة السيئة، ويجعله عبداً ممسوخاً للشهوات الدنسة. أما الامتلاء بالروح القدس فيعني أن كل كيان المؤمن، هو تحت ضبط الروح المبارك، الأمر الذي يتيح له أن يظهر بسلوكه، غنى المسيح الذي لا يستقصى، والذي صيرته النعمة وريثاً مع هذا الفادي.

إن خير ما تفعله لنفسك هو أن تدع الروح القدس يسوس أفكارك، ويقدس نواياك فيعطيك القدرة على الخلاص من همومك بعيداً عن المسكرات التي تتلف الجسد. ويطهر نواياك وكل رغائبك فتنجو من الفوضى المسيطرة على العالم.

(19) يشير الرسول بهذه الآية إلى جو الاجتماعات الروحية، التي كان يعقدها المؤمنون برعاية الروح القدس، الذي من ثماره الفرح. لأن الترنيم يعبر عن الفرح بالرب. ولا شيء يماثل الفرح في الرب، فإنه يساعد المؤمن على اجتياز الأزمات.

«مترنمين في قلوبكم للرب» فما أروعها من عادة كريمة! يتناوب فيها الإخوة قراءة المزامير والتسابيح، وترانيم العبادة. إنها في الواقع تشكل قوة عظيمة ضد قوات الشر.

شعر مارتين لوثر ذات يوم، بأن الشيطان يهاجمه. ففتح نافذة غرفته. وحدق ببصره في الفضاء المتألق بالنجوم فوقه. ثم ألقى نظرة على الأحراش الكثيفة الظلال من حوله. وأخيراً اتجه بقلبه إلى الله وقال مترنماً يا إلهي إني أرى السموات ثابتة، وهي ليست قائمة على أعمدة. بل هي قائمة بقوتك الضابطة الكل. ثم أغلق النافذة وقال: إن الشيطان متجهم الوجه، لأنه يكره الموسيقى التي يحبها الله، لأن الموسيقى نور والشيطان ظلام.

الصلاة: يا إلهي الحي، يا مصدر القوة الحقيقية. اعترف أمامك بضعفي أمام التجارب والمغريات، وأسألك أن تقلدني قوة الأعالي، لكي أغالب أفكار هذا العالم وأتغلب عليها وأحيا بحسب مشيئتك. آمين.

20شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، لِلّٰهِ وَٱلآبِ. 21خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِي خَوْفِ ٱللّٰهِ.

(20) الترنم والشكر صنوان لا يفترقان. فإن كان الترنيم ينم عن فرحنا في الرب، فالشكر يدل على إيماننا الوثيق بالرب، واعترافنا بأفضاله. وقد عرف بالبداهة أن الذي لا يشكر الله. إنما هو إنسان لم يستحسن أن يبقى الله في معرفته، مع أن الله عن كل واحد منا ليس بعيداً لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد (أعمال 17: 28).

يقول بعض العارفين أن الأمم البدائية لم تكن في مفرداتها اللغوية كلمة شكر. وبقيت هكذا إلى أن جاءت المسيحية، وبشرتها بذبيحة المسيح الكفارية، التي يدين لها كل طالب الله بالحياة الأبدية. وقد عرفنا أن خدمة العشاء الرباني التي رسمها المسيح رمزاً لهذه الذبيحة، سميت «أفخارستيا» أي شكر، لأن المسيح لما رسمها شكر.

والشكر طابع تميزت به حياة الرب يسوع، ورافق خدمته وعجائبه. فقبل أن يقيم لعازر من القبر شكر، وقبل أن يرتفع على الصليب شكر. فلنتمثل بالفادي ولنكن شاكرين.

حين نتأمل بعمق في معاني هذه الآية المجيدة تبرز لنا عدة حقائق جديرة بالاهتمام:

  1. وقت الشكر - قال الرسول «كل حين» ومعنى هذا أن الشكر واجب في كل وقت وفي كل ظرف، في نور النهار، كما في ظلمة الليل، في وقت الضيق كما في وقت الفرج.

  2. موجب الشكر - على كل شيء، على الفقر، والغنى، على المرض والصحة، على العوز والبحبوحة، على دمعة اليأس كما على ابتسامة الرجاء، على مضايقات الناس، كما على ترحيبهم بنا. وفوق كل شكر يجب أن نشكر الله على عطيته التي لا يعبر عنها، يسوع المسيح الذي صار لنا من الله حكمة وبراً وفداء.

    لنشكر على كل شيء ننائه، لأن أقل خير نناله منه هو فوق استحقاقنا الطبيعي. استحقاقنا هو موت الهلاك بسبب خطايانا. ولكن الله المحب أعطانا حياة أبدية.

  3. وسيط الشكر - «يسوع المسيح ربنا» أنه وسيط صلحنا مع الآب. وهو شفيعنا لدى الأب. وهو وسيط شكرنا، لأننا نرفع شكرنا في اسمه. والآب يقبل شكرنا، ويتنسم منه رائحة الرضى، لأننا بالمسيح متحدون، ونحن فيه ثابتون.

«في اسم ربنا يسوع المسيح» بهذا الاسم المبارك، كرز الرسل للخلاص. وبهذا الاسم المجيد، صنعوا قوات، وبهذا الاسم العزيز، أمرنا أن نصلي وأن نشكر على كل شيء لله والآب. أي لله الذي هو أبونا بمقتضى عهد الفداء، الذي صار لنا قدوم كبنين، تبناهم الله في المسيح.

(21) تعد هذه الآية حلقة اتصال بين الفصل الذي تكلم فيه عن السلوك الأدبي، وبين الفصل الذي كرسه للعائلة المسيحية. فقبل أن ينتقل إلى الموضوع الجديد يضع الرسول أمام أعيننا قانوناً عاماً للخضوع المتبادل إذ قال «خاضعين بعضكم لبعض في خوف الله» هذا كقوله: «مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي ٱلْكَرَامَةِ» (رومية 12: 10) وكقوله حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم.

هذه هي المسيحية الحقة، أن نسارع في اكتشاف مواهب وسجايا إخوتنا وأعمالهم الصالحة. فنقدرها تقديراً طيباً. ونسر بأن نسمع الناس يمدحونهم، أكثر مما نسر بأن يمدحونا. وباختصار أن نسارع لا في طلب الكرامة، بل بإعطاء الكرامة. هذه هي المسيحية المجملة بالحكمة التي وصفها الرسول يعقوب بأنها «طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُّوَةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَاراً صَالِحَةً، عَدِيمَةُ ٱلرَّيْبِ وَٱلرِّيَاءِ» (يعقوب 3: 17).

الصلاة: أيها الرب إلهنا الصالح، لك شكرنا وحمدنا من كل القلب، لأنك تضع في قلوبنا عواطف الشكر. ونشكرك بنوع خاص لأجل عطيتك العظمى الرب يسوع المسيح، الذي هو وسيط صلحنا معك ووسيط شكرنا الذي نقدمه لجلالتك. اقبل شكر قلوبنا منعماً. آمين.

22أَيُّهَا ٱلنِّسَاءُ ٱخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ، 23لأَنَّ ٱلرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ ٱلْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً رَأْسُ ٱلْكَنِيسَةِ، وَهُوَ مُخَلِّصُ ٱلْجَسَدِ. 24وَلٰكِنْ كَمَا تَخْضَعُ ٱلْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ، كَذٰلِكَ ٱلنِّسَاءُ لِرِجَالِهِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

بعد أن تكلم الرسول عن المواهب الروحية في الكنيسة، وأهاب بالمؤمنين أن يتعاملوا فيما بينهم على أسس المودة الأخوية، مقدمين بعضهم بعضاً في الكرامة، انتقل بنا إلى موضوع بالغ الأهمية وهو بناء البيت المسيحي في الرب. ناظراً إلى الزواج من ناحية كونه سنة رسمها الخالق من أجل خير البشر. وفي نظرته إلى هذه الشرعة الإلهية، شبه ارتباط الرجل بالمرأة بالاتحاد القائم بين المسيح والكنيسة. وبذلك وضع الزواج في أعلى مستوى.

(22) «أيها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب» في االآية 21 تكلم الرسول عن مبدأ الخضوع العالم المتبادل بين المؤمنين، الذي يتضمن هذا الخضوع من قبل النساء لرجالهن. إلا أن هذا الخضوع، لا يجوز أن يأخذ شكل السيطرة من قبل الرجل، بل هو خضوع المحبة من أجل الرب. وذلك لإشاعة روح الانسجام في العائلة.

وقد عرفت بالاختبار أن قوام البيت السعيد هو المرأة الفاضلة، التي تستطيع بلطفها وخضوعها كما يليق في الرب، أن تجعل من بيتها فردوساً حقيقياً (كولوسي 3: 18) وحسناً قال فيها سليمان الحكيم: «اِمْرَأَةٌ فَاضِلَةٌ مَنْ يَجِدُهَا؟ لأَنَّ ثَمَنَهَا يَفُوقُ ٱللآلِئَ. بِهَا يَثِقُ قَلْبُ زَوْجِهَا فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى غَنِيمَةٍ. تَصْنَعُ لَهُ خَيْراً لاَ شَرّاً كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهَا» (أمثال 31: 10-12).

البيت المسيحي هو نور في الظلمات، لأن العائلة المسيحية تأسست وفقاً لنموذج العهد الجديد. وهي شهادة حية للمسيح، بأنه جاء لكي تكون لهم حياة ويكون لهم أفضل. فالزوجان اللذان قرنهما الرب في المسيح، يتحملان مسؤوليتهما المشتركة بمحبة الله وصبر المسيح. وبهذا يكونان مشعلاً في وسط الظلمة، وشهادة حية في وسط الفساد الذي في العالم.

(23-24) في هذه الآية أوضح الرسول أن علة خضوع المرأة هو أن الحكمة الإلهية جعلت الرجل رأساً للمرأة، وقد حباه الله قوى ومؤهلات تجعله الأصلح لترؤس العائلة. وفي رسالة سابقة، أوضح الرسول هذا الباعث بكلمات مماصلة لهذه إذ قال: «وَلٰكِنْ أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَأْسَ كُلِّ رَجُلٍ هُوَ ٱلْمَسِيحُ. وَأَمَّا رَأْسُ ٱلْمَرْأَةِ فَهُوَ ٱلرَّجُلُ» (1 كورنثوس 11: 3) ومعنى هذا ان السلطان الذي للرجل على المرأة يرتب خضوعاً من جانب الرجل للمسيح. وعلى أي حال فالكلمة المترجمة «تخضع» تحمل ضمناً معنى التطوع الاختباري الذي توصي به المحبة، وتحتاج إليه الإلفة، لأن المرأة مرتبطة بالرجل برباد المحبة، الذي يجمع نظيرين متساوين في الحقوق.

إن اعتبار الزواج المسيحي كعمل إلهي «في الرب» يرفع من شأنه. وخصوصاً يرفع مقام المرأة ويجعلها على قدم المساواة مع الرجل. ففي الاعتبار اليهودي كانت المرأة كسلعة يقتنيها الرجل، تماماً مثلما يقتني أمتعته، ولم تكن تتمتع بأدنى الحقوق. فمثلاً في ظل القانون اليهودي، كان للرجل أن يطلق امرأته لأتفه الأسباب. بينما لم يكن للمرأة أي حق في طلب الطلاق. وفي المجتمع اليوناني، كانت المرأة الشريفة تعيش حياة العزلة الكاملة. وكانت تقضي حياتها في الجناح الخاص بالنساء. ومع أنه كان يطلب منها الخضوع الكامل والعفة التامة، إلا أن زوجها كان له مطلق الحرية للدخول في علاقات كثيرة خارج دائرة الزواج، دون أن يصيبه شيء يسيء إلى سمعته. أما المسيحية فقد جاءت بالالتزامات المتبادلة بين الزوج وزوجته. أي أن المسيحية جاءت لتنظم العلاقات الشخصية للأزواج، ولكي تجعلها علاقات مقدسة، جعلتها «في الرب».

الصلاة: يا إلهنا الصالح، نرفع إليك آيات الشكر والحمد لأجل البيت المسيحي الذي هو شهادة حية لعمل المسيح، الذي يسكن في كل بيت ويفرح في أن يباركه. نسألك أن تكثر من هذه البيوت المؤسسة على المسيح. آمين.

25أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً ٱلْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، 26لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ ٱلْمَاءِ بِٱلْكَلِمَةِ، 27لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذٰلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ. 28كَذٰلِكَ يَجِبُ عَلَى ٱلرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءَهُمْ كَأَجْسَادِهِمْ. مَنْ يُحِبُّ ٱمْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ.

حين نتأمل التعليم الرسولي الخاص بالعلاقات الزوجية، نرى أن المبدأ الأول في الأخلاق المسيحية هو الالتزام المتبادل. فلا تتفق مع الكرامة أن نضع الواجبات كلها على جانب واحد، ونعفي الجانب الآخر منها. والأمر كما يضعه الرسول أمامنا يحتم بأن يلتزم الأزواج بواجباتهم، كما تلتزم الزوجات بواجباتهن.

(25) رأينا في آيات سابقة أن الرابطة بين الزوج والزوجة يجب أن تقوم على صلة متبادلة، فالخضوع من جانب المرأة تقابله المحبة من جانب الرجل. وقد جعل الرسول قياس هذه المحبة محبة المسيح للكنيسة.

في جملة الأشياء التي رتبها الله، جعل للكنيسة رئيساً يسهر عليها ويرعاها. وعملاً بهذا المبدأ قام رئيساً على العائلة. معترفاً به من الزوجة المؤمنة التي تجد فيه راعياً ومشيراً وحامياً. ولكن المؤسف له أن عدداً عديداً من الأزواج، في اهتمامهم بسلطة الرئيس يهملون وظيفة الراعي المحب، الأمر الذي يرتب عواقب محزنة للبيت، وآلاماً شديدة للزوجة والأولاد. لأن الإهمال ينتيح للذئاب الخاطفة المتربصة بالعائلة، أن تنقض عليها، فتفسد ما أعطاه الله وتفرق ما جمعه.

إن تعدد واجبات الأب، كرئيس وراع ومحام، هي بحسب فكر الخالق. ولما كان الخالق غيوراً على ما نظمته حكمته الإلهية، فإنه يجعل الأب مسؤولاً أمامه. ومسؤوليته هذه تستلزمه أن يبذل حبات قلبه لإشاعة السرور في قلب الزوجة. وأن يبذل جهوداً لإشاعة الانسجام بين أفراد الأسرة لحفظ وحدتها.

شبه أحد الأتقياء البيت المسيحي بالفلك التي بناها نوح لنجاة عائلته من الطوفان. وكما أن الفلك قد طليت بالزفت داخلاً وخارجاً منعاً لتسرب الميها (تكوين 6: 14) هكذا البيت المسيحي يجب أن تكون المحبة سداه ولحمته منعاً لتسرب الإهمال. لأنه حين يتنكر أحد الزوجين لواجباته، تحدث ثغرة في الفلك، فتتسرب مياه الخصام وتكون النتيجة غرق السفينة بمن فيها.

(26-27) «كما أحب المسيح الكنيسة» هذا قياس حب الرجل لامرأته فهو حب من نوع المثال الذي أشار إليه المسيح حين قال: «ليس لأحد حب أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه» فمحبة الزوج تستلزمه أن ينكر نفسه لأجل زوجته، كما أنكر المسيح نفسه لأجل الكنيسة، فقد أحبها حتى أنه أسلم نفسه لأجلها.

ويبدو أن الرسول انتهز فرصة التكلم عن واجبات الأزواج، لإيضاح محبة المسيح للكنيسة، وما ينتج هم خذت تلجب «لكي يقدسها». سبق للرسول أن تكلم في الآية الخامسة، عن محبة المسيح لنا فقال: أسلم نفسه لأجلنا، هناك أشار إلى محبة المسيح في عملها الكفاري المقبول لدى الله قرباناً وذبيحة رائحة طيبة.

وهنا يرينا محبة المسيح في عملها الفدائي، لكي يقدس الكنيسة... ويحضرها لنفسه. هذه هي غاية المسيح الأخيرة، أن يحضر كنيسته بعد تقديسها وتنقيتها من كل دنس أو شائبة، إلى حد يبتهج بها وهي حاوية على كل كمال. لأنها سكتون في شبه صورته. لأن الله عين مختاريه «لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ٱبْنِهِ» (رومية 8: 29).

(28) إنه لمن البديهي أن يحب الرجل امرأته، كما يحب جسده. لأن الزواج في الرب يصير الزوجان واحداً. ويجب أن أذكر هنا أن حب الرجل لزوجته في مفهوم المسيحية ليس حباً جسدياً شهوانياً، بل حب روحي مؤسس على رابطة مقدسة.

الصلاة: أيها الرب الإله، حافظ الكل بقدرتك. لك الشكر والحمد لأجل حكمتك التي صنعت تدبيراً كهذا، أن يتعاون الأزواج فيما بينهم على أساس المحبة. اطلب اليك مبتهلاً أن تنظر بعين رأفتك إلى البيوت المحطمة في هذه الأيام. وأن تزرع بذور الإيمان والمحبة في القلوب حتى يرجع الكل اليك فيتم الوئام في كل بيت. آمين.

29فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا ٱلرَّبُّ أَيْضاً لِلْكَنِيسَةِ. 30لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ. 31مِنْ أَجْلِ هٰذَا يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ ٱلٱثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً. 32هٰذَا ٱلسِّرُّ عَظِيمٌ، وَلٰكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ ٱلْمَسِيحِ وَٱلْكَنِيسَةِ. 33وَأَمَّا أَنْتُمُ ٱلأَفْرَادُ، فَلْيُحِبَّ كُلُّ وَاحِدٍ ٱمْرَأَتَهُ هٰكَذَا كَنَفْسِهِ، وَأَمَّا ٱلْمَرْأَةُ فَلْتَهَبْ رَجُلَهَا.

(29) هذه الآية تعقيب على الأية السابقة، وفيها يبين الرسول أن محبة الرجال لنسائهم طبيعية كمحبة الإنسان لنفسه. فكما أنه غير معقول أن يبغض الإنسان جسده، كذلك الرجل المؤمن بالله لا يمكن أن يبغض امرأته التي اقترن بها في الرب.

مر بنا أن حب الرجل لامرأته، شبيه بحب المسيح للكنيسة. والمسيح في حبه للكنيسة لم يرض نفسه (رومية 15: 3)، بل ارتضى من أجل الكنيسة، أن يتحمل الآلام حتى الموت. صحيح أن المسيح قد صنع للكنيسة أكثر مما في وسع الرجل أن يصنع لامرأته، إذ قدم نفسه ذبيحة على الصليب ليفتدي الكنيسة ويقدسها. ولكن الرجل الذي صمم على أن يتمثل بالمسيح في إنكار الذات، يمكنه أن يجد الفرصة في احتمال كل المشقات في سبيل إسعاد امرأته وهو في نفس الوقت مدعو من الله لبذل كل طاقة قولاً وعملاً، يقودها إلى الاتكال على الرب يسوع.

وليتذكر كل رجل أن الشريعة الطبيعية وأوامر الله، تقضي بأنه على الرجل أن يعامل امرأته بكل رقة. وأن يعتني بها، ويسهر على راحتها باستمرار ويقوم بحاجاتها.

«كما الرب أيضاً للكنيسة» هنا يثبت الرسول ما قاله في واجبات الرجل لامرأته، بما فعله المسيح للكنيسة. فإنه عالها ولم يقصر عليها في شيء.

ومن جهة المحبة، فكما أن المسيح هو رأس الرجل الأعلى، وقد خصه بحب فائق. كذلك الرجل باعتباره رأس المرأة يتوجب عليه أن يتمثل بالمسيح، بأن يكن لامرأته محبة شديدة بلا رياء. هذا الالتزام الذي وضعه الله، يجعل من يقصر في محبته لامرأته مسيئاً لنفسه، ويحكم على ذاته بالخروج على مبدأ الأخلاق المسيحية. وفوق ذلك فإن من يقصر في حق زوجته يحسبه التعليم الإلهي مقصراً في حق الرب الذي أحبه وافتداه.

(30) في هذه الآية يعلل الرسول ما قاله في الآية السابقة عن الكنيسة. فلأن المؤمنين المتحدين بالمسيح بالإيمان هم «أعضاء جسمه» فإن المسيح يقوت هذا الجسم الروحي ويربيه، كما يقوت الإنسان جسده ويربيه. أما ما قيل في الآية فمقتبس من قول آدم، حين أحضر الله حواء له: «هٰذِهِ ٱلآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي» (تكوين 2: 23) والمعنى أن النسبة بين المسيح والكنيسة تشبه النسبة بين آدم وحواء. ويقول المصلح كالفن: كما أن حواء صورت من جوهر جسم آدم، كذلك صورت الكنيسة من جوهر جسم المسيح، الذي «اشترك معنا في اللحم والدم» ويقول هودج: كما أن حواء صارت شريكة في حياة آدم، كذلك أصبحنا نحن شركاء في حياة المسيح.

(31) هذه الآية مقتبسة من تكوين 2: 24 وقد أوردها الرسول للدلالة على متانة الصلة بين المسيح والكنيسة. وبالتالي ببين الواجب الذي تفرضه هذه الصلة على الرجل، أن يحب امرأته وأن لا ينفصل عنها. وقد اقتبس المسيح هذه الآية كسلاح لمحاربة بدعة الطلاق، التي كانت منتشرة في المجتمع اليهودي منذ أيام موسى.

(32) «هذا السر العظيم» معنى السر هنا، ما لا يصل العقل إلى إدراكه، ويميل بعض المفسرين إلى اعتبار هذا السر أمراً عسير الفهم، يحتمل تأويلات أكثر مما يرى في ظاهره. ولكن الرسول بقوله: «من نحو المسيح والكنيسة» وضع حداً للتأويل. فالمقصود بالسر هو الاتحاد بين المسيح والكنيسة، كأنهما جسد واحد.

(33) في هذه الآية يلخص الرسول تعليمه في واجبات الزوجين، الخضوع من جهة المرأة، يقابله الحب من جانب الرجل. هذا الترابط يؤمن الانسجام. فالزوجة التي تنتظر وتسمع وتتفهم، تتمم قصد الله في التعاون الذي عبر عنه في تكوين 2: 20 والزوج المحب الذي لا يتنكر لواجباته كرأس المرأة ورئيس العائلة، يسعد بهذا التعاون. وقد عرف بالاختبار، أنه ليس من ضرر أو فاجعة للعائلة أشد من الزوج الضعيف المهمل، إلا الزوجة المتسلطة التي تخلت عن لطفها وإيناسها.

الصلاة: لك الشكر يا رب السماء لأجل وحيك المبارك، الذي كتبه رسلك القديسون لنهتدي به. اعمل يا رب لكي ينتشر هذا التعليم في أوساطنا لتحقق سعادة البيوت. آمين.

اَلأَصْحَاحُ ٱلسَّادِسُ

1أَيُّهَا ٱلأَوْلاَدُ، أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ فِي ٱلرَّبِّ لأَنَّ هٰذَا حَقٌّ. 2أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، ٱلَّتِي هِيَ أَوَّلُ وَصِيَّةٍ بِوَعْدٍ، 3لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ خَيْرٌ، وَتَكُونُوا طِوَالَ ٱلأَعْمَارِ عَلَى ٱلأَرْضِ.

بعد أن أوضح الرسول أن الزواج في المسيحية ليس مجرد وسلية لراحة الزوجين. بل هو قبل كل شيء تعاون وزمالة يجد فيها الزوجان فرحاً، انتقل إلى واجبات الأولاد نحو والديهم:

(1) «أطيعوا والديكم» هذا أول ما أوجبه الله على الأولاد. ومما لا ريب فيه أن الطاعة البنوية، من أهم أركان الحياة في العائلة. فعندما تنعدم الطاعة من قلوب الأولاد نحو والديهم، ينهدم أهم ركن في حياة العائلة والكنيسة والمجتمع.

في رسالته إلى أهل رومية، ندد بولس بالخطايا الشنيعة، التي كان الوثنيون يرتكبونها، ومن بينها عدم إطاعة الوالدين (رومية 1: 30). وفي رسالته الثانية إلى تيموثاوس، أنبأ بالأمراض الخلقية التي ستنتشر في الأزمنة الأخيرة، ومنها عدم طاعة الوالدين (2 تيموثاوس 3: 2). وقد ذكرها جنباً إلى جنب مع خطية التجديف.

«أطيعوا والديكم في الرب» هذا هو إطار الطاعة المطلوبة «في الرب» أي أنه على الأولاد أن يعتبروا أن الطاعة للوالدين هي طاعة للرب يسوع المسيح.

ومما يجب ذكره هو أن الكلمة «في الرب» تحذر الوالدين من الطلب إلى أولادهم، بأن يقوموا بأعمال تاخالف شريعة الرب. كأن يطلبوا إليهم أن يسرقوا أو يقتلوا أو يكذبوا، أو يدنسوا يوم الرب إرضاء لهم. لهذا يجدر بكل ولد قبل المبادرة إلى تنفيذ رغبة والديه، أن يتحقق ويتأكد من أن ما أمر به غير مخالف لمشيئة الرب. ويجب أن يصلي حتى الرب يرشده في كل شيء.

«لأن هذا حق» أي أن الطاعة للآباء، ليست استحساناً أو شيئاً كمالياً. بل هي حق إلهي، رسمه الله في شريعته الأدبية. وعلى الأبناء أن يعرتفوا بهذا الحق.

(2) مما يجب الالتفات إليه هنا، هو أن اله أمر بإكرام الوالدين، كما أمر بإكرام الرب. وقد أثبت الرسول هذه الحقيقة، بتقديم الوصية الخامسة كشاهد، التي هي إحدى الوصايا التي كتبت بأصبع الله على لوحين من حجر (خروج 20: 12، تثنية 5: 16) وقد صادق عليها الرب يسوع في جوابه لوالديه، (متى 15: 4).

ولهذه الوصية أهمية خاصة، وهي أنها أول وصية اقترنت بوعد. أي الوعد ببركة خاصة للمطيع، بأن يكون له خير وطول عمر. ولكن هذا لا يمنع من أن بعض أولاد الطاعة، يكونون قصار الأعمار، وإنما الوعد بإطالة عمر الشباب المطيع لوالديه، يقرر كقاعدة عامة.

وقد عرف بالاختبار أن من الخطايا التي تقصر الحياة، إباء الأولاد أن يسمعوا نصح والديهم، وعدم إطاعتهم التوجيهات التي يشير بها الأباء عليهم لنفع نفوسهم.

وفي الكتاب المقدس أمثلة على ذلك، منها ولدا عالي الكاهن وأبيشالوم ابن داود الملك. فهؤلاء إذ لم يكترثوا لوصايا الأب، ماتوا وهم في شرخ الشباب. وكان موتهم فاجعاً جداً.

الصلاة: أيها الرب الإله، ساكن الأبد القدوس اسمه، نشكرك لأنك في المسيح يسوع قد أعلنت أنك آب سماوي لجميع الذين يطلبونك بالحق. بارك كل آب وكل أم وكل ولد ببركة الطاعة لوصاياك.آمين.

4وَأَنْتُمْ أَيُّهَا ٱلآبَاءُ، لاَ تُغِيظُوا أَوْلاَدَكُمْ، بَلْ رَبُّوهُمْ بِتَأْدِيبِ ٱلرَّبِّ وَإِنْذَارِهِ.

توجد مشكلة قائمة في العلاقة بين الآباء وأبنائهم. فإذا كان الأب متساهلاً في تهذيب ابنه، نشأ الابن عديم التربية لا يصلح لموجهة الحياة. فكم من أولاد يتبعون طرق العالم الغرار، بدون تبصر ولا تحفظ! لأن أباءهم انشغلوا عنهم في مجالات أخرى بكل أنانية حتى في المجال الديني، بدلاً من أن يكرسوا لهم قسماً من الوقت لتربيتهم وإعدادهم للحياة الأفضل.

وهناك خطر آخر لا يقل خطورة، وهو القساوة في المعاملة. فقد تأكد بالاختبار أن الآب إذا كان صارماً متشدداً، لا يعرف أن يعامل ابنه إلا بالتأنيب والتهديد والردع والزجر، ينشأ الولد معقداً ضعيف الشخصية، منطوياً على ذاته.

في رسالته إلى كولوسي قال بولس: «أَيُّهَا ٱلآبَاءُ، لاَ تُغِيظُوا أَوْلاَدَكُمْ لِئَلاَّ يَفْشَلُوا» (كولوسي 3: 21). ويقيناً أن لا شيء يهيج الغيظ في قلوب الأولاد، مثل إظهار الغيظ عليهم. ويندر أن يستفيد الولد شيئاً من القصاص، الذي يأتيه الوالد وهو مغتاظ. ومن أشد الأسباب إثارة للغيظ، هو المحاباة حين يؤثر الأب أحد أولاده أكثر من إخوته. ولنا في قصة يوسف وإخوته أكبر مثال على الغيظ المدمر الذي امتلأت به نفوس إخوته. لأن أبا الأسباط، أثر يوسف عليهم، فباعوا يوسف للإسماعليين وكذبوا على أبيهم، مدعين أن الذئب قد افترسه (تكوين 37: 1-36).

إن من أولى واجبات الوالدين تجاه أولادهم، أن يهيئوا لهم الجو العائلي اللطيف، الذي يستطيعون أن يجدوا فيه ما يرضيهم. فيعتبرونه ويحبونه فوق كل شيء.

قد يزعم أحدهم أنه في حبه لابنه وغيرته علي مستقبله،يوجه له نقداً حازماً، لأجل تقويم اعوجاجه. غير عالم أن التصرف على هذا النحو لا يصلح للتعبير عن المحبة. اذكر على سبيل المثال العبارة المؤثرة، التي كان يقولها جون نيوتن: أنا أعرف أن أبي يحبني، ولكنه على ما يبدو لي لم يشأ أن ألمس هذا الحب.

إن الخطورة من وراء هذه المعاملة الصارمة هي أن يصير الابن يائساً فاقداً الروح المعنوية. في الحقيقة أن واجب الآباء والأمهات، لا يجوز أن ينحصر في التهذيب والتأديب. بل عليه أن يمتد أيضاً إلى التشجيع. بمعنى أن التأديب والتشجيع، يجب أن يسيرا معاً.

وكلما ازداد الآب فهماً وتقديراً لمركزه كان من الواجب عليه أن يتجنب إغاظة ابنه لئلا يفشل في حياته. والأب الحكيم، هو من يقدم لابنه التأديب والتشجيع بأجزاء متساوية.

«وربوهم في تأديب الرب وإنذاره» فالسلطة الأبوية على الأبناء، هي من الشرائع الأولى التي أعطيت، وليس من موسى بل من الخالق نفسه. ولا يستطيع أحد أن يتعدى حدودها بدون أن يحصد عواقب وخيمة.

كم هي دقيقة وخطيرة مسؤولية الحفاظ على الأولاد وتوجيههم في السبل السوية! ولكن إذا كان الوالدان مؤمنين بالحق، فلن تكون ثمة حواجز أمام صلواتهما. لأن الاثنين في ا تحادهما معاً. وفي استعمال اللهجة الواحدة بالروح الواحد، يستطيعان بقوة شركتهما ان يدفعا الأولاد في طريق الرب، الذي يسره أن يكافئ إيمانهما وطاعتهما.

الصلاة: شكراً لك يا ربنا الصالح لأجل الآباء المؤمنين الذين يستطيعون بما وهبوا من حكمة السماء، أن يربوا نسلاً يسلك في النور. وزع من هذه الحكمة على آباء كثيرين. آمين.

5أَيُّهَا ٱلْعَبِيدُ، أَطِيعُوا سَادَتَكُمْ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، فِي بَسَاطَةِ قُلُوبِكُمْ كَمَا لِلْمَسِيحِ - 6لاَ بِخِدْمَةِ ٱلْعَيْنِ كَمَنْ يُرْضِي ٱلنَّاسَ، بَلْ كَعَبِيدِ ٱلْمَسِيحِ، عَامِلِينَ مَشِيئَةَ ٱللّٰهِ مِنَ ٱلْقَلْبِ، 7خَادِمِينَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَمَا لِلرَّبِّ، لَيْسَ لِلنَّاسِ. 8عَالِمِينَ أَنْ مَهْمَا عَمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ ٱلْخَيْرِ فَذٰلِكَ يَنَالُهُ مِنَ ٱلرَّبِّ، عَبْداً كَانَ أَمْ حُرّاً. 9وَأَنْتُمْ أَيُّهَا ٱلسَّادَةُ، ٱفْعَلُوا لَهُمْ هٰذِهِ ٱلأُمُورَ، تَارِكِينَ ٱلتَّهْدِيدَ، عَالِمِينَ أَنَّ سَيِّدَكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مُحَابَاةٌ.

ينتقل بولس إلى أصعب المشاكل الاجتماعية جميعاً، وهي العلاقة بين العبد والسيد. ومن المعلوم أن العبيد في زمن بولس كانوا كثيرين في كل البلاد، سيما في الأمبراطورية الرومانية. وقد كان الرق في ذلك الزمن أمراً يقره القانون، ولهذا لم يقاومه المسيح ولا رسله نصاً. ولكنهم علموا بأن كل الناس أخوة. وهذا ينافي الاسترقاق، ويحمل على إبطاله في العالم. وبولس في جهاده وتعليمه أسس المسيحية، لم يجد نجاحاً أعظم من هذا الذي أصابه في معالجة الاسترقاق، وبهذا اقتحم قلعة الوثنية، التي لم يسبق أن تزعزعت. لأن تعاليم الرسول في هذا المجال، رفعت العلاقة بين السادة والعبيد إلى مستوى الأخوة في ا لمسيح، الذي هو نفسه تطوع ليكون كالذي يخدم (لوقا 22: 27).

ونرى أن بولس تكلم بإسهاب في هذه المشكلة. ولعل كلامه المستفيض فيها، يعزى إلى أحاديث طويلة متشعبة، أجواها الرسول مع أنسيموس العبد الأبق، الذي بعد أن قضى وقتاً طويلاً معه أعاده إلى سيده فيلمون.

(5-8) يصر الرسول الكريم على أن العبد يجب أن لا ينظر إلى وظيفته كمركز منحط، وأنه يجب أن يكون عاملاً حي الضمير. وفي واقع الأمر يريد الرسول أن يقول، أن مسيحية العبد يجب أن تجعل منه خادماً أفضل خلقاً وأكثر كفاية. ونلاحظ أن الرسول في تعليمه، اتخذ المسيح ثلاث مرات مثالاً:

  1. «أيها العبيد أطيعوا سادتكم.. كما للمسيح». أي معتبرين خدمتكم لسادتكم قسماً من الخدمة للمسيح، الأمر الذي يجعلها شريفة.

  2. «لا بخدمة العين كمن يرضي الناس، بل كعبيد المسيح» أي أنه لا ينبغي للعبد أن يكتفي بخدمة العين، فلا يع مل إلا إذا كانت عين سيده عراقبه. بل كعبد المسيح، معتبراً أن المسيح يراقبه ويجازيه على قدر أمانته وإتقانه العمل. ولا ريب في أن سيرة المسيح، هي مثال لكل الخدم. لأنه مع كونه رب المجد، أخل نفسه آخذا صورة عبد (فيلبي 3: 7).

  3. «خادمين بنية صالحة كما للرب» هذه العبارة تحتوي ضمناً النهي للخدم عن الحقد على السادة والتذمر على الله، الذي أنزل الخادم تلك المنزلة. وكلمة «كما للرب» تعني قبول الأمر وكأن الرب قد قسمه بحكمته ومحبته. وهذا يحمل الخادم على الأمانة في العمل والصبر على العناء. وتذكره برسالة يسوع الذي جاء «لا ليُخدم، بل ليَخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين».

(9) أما السادة فقد أمرهم الرسول، بكل ما أمر به العبيد من العمل بمقتضى الضمير المسيحي، والمبادئ المتعلقة بإتمام مشيئة الله وبساطة القلب، معتبرين أنفسهم تحت سيادة الله كالعبيد، وإنهم تحت المسؤولية أمام الله في كل أعماله.

وخلاصة القول أن المسيحية، التي مثالها المسيح في كل شيء، تلزم السيد أو رب العمل أن يعامل الذين تحت سلطته لا كسلع، بل كأشخاص يقدم لهم المساواة والتقدير. وليس لسيد أو رب عمل أن يقول هذا عملي وأنا حر فيه، بل يجب ان يقول هذا عمل الله وانه عينني وكيلاً عليه. ويجب أن أديره وفقاً لمشيئة الله، الذي أنا مسؤول أمامه.

وهذا المبدأ يلزم السيد والعامل أن يؤدي كل منهما ما عليه، كما لو كان يؤديه لأجل المسيح. وبكلمة أخرى إننا نعمل لكي نأتي بكل عمل ونقدمه للمسيح.

الصلاة: يا رب إلهنا الحي، نشكرك لأجل الحرية التي اشتراها لنا المسيح بدم صليبه. فاعطنا أن نثبت في هذه الحرية فلا نستعبد للشر، ونؤدي واجباتنا بكل أمانة متمثلين بالمسيح. آمين.

10أَخِيراً يَا إِخْوَتِي تَقَوُّوا فِي ٱلرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ. 11ٱلْبَسُوا سِلاَحَ ٱللّٰهِ ٱلْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ.

كان الرسول قد وصف الفداء الذي اشتراه يسوع بأنه مجاني. لكن هذا لا يمنع من أن يبقى على المؤمن جهاد طويل شديد قبل أن يتمتع بفوائد الفداء كاملاً. لقد عرفنا في ما سبق أن الله باركنا بكل بركة روحية في السماويات، وأننا أبناء التبني الذين فداهم الله بالدم، وختمهم بالروح القدس، وأحياهم مع المسيح، وأقامهم وأجلسهم معه في السماويات. أما بالنسبة لحياتنا هنا قدام الناس، فنحن عمله مخلوقين في المسيح لأعمال صالحة، قد أعدها الله لكي نسلك فيها. هذا الخلق يسير في درب الكمال، وإعداد كل عضو في كنيسة المسيح ليوم مجيئه.

من مقدس البيت كما يجب أن يكون في الله، ينقلنا الرسول الملهم إلى ساحة الحرب. لأن حياة وخدمة ابن الرب تتم في بلاد معادية، في وسط قوات الظلمة. والرب يعد شعبه للجهاد. إنه يقدسه بواسطة كلامه (يوحنا 17: 17). ثم يعطيه القوة لكي يغلب، ومن يغلب فسيعطيه المسيح أن يجلس معه في عرشه (رؤيا 3: 21).

(10) «تقووا في الرب» هذا هو سر القوة، الرب. وهو مستعد لإعطاء جنوده المحاربين هذه القوة، وفقاً لقول المسيح: «لٰكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُّوَةً مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْكُمْ» (أعمال 1: 8). إذا ما علينا إلا أن نتقلد هذه القوة، وحيئنذ يطيب لنا أن نقول مع بولس: «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي يُقَّوِينِي» (فيلبي 4: 13).

قد يقول أحدهم: نحن ضعفاء ولا قبل لنا بالصراع ضد قوات الشر الروحية. ولكن الله يقول لكل مستضعف: «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُّوَتِي فِي ٱلضُّعْفِ تُكْمَلُ» (2 كورنثوس 12: 9).

(11) نحن عرضة دائماً لهجمات عدة الصلاح إبليس. وقد قال بطرس: «اُصْحُوا وَٱسْهَرُوا لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ» (1 بطرس 5: 8). فحيال هذه الهجمات العنيفة المستمرة، طلب إلينا الرسول أن نتقلد سلاح الله الكامل ضد هجمات الشرير. التي لا تترك للمؤمن هوادة. وغاية العدو منها أن يحولنا عن المسيح. وسلاحه الأول هو الخديعة، التي يعرف كيف يحوكها. لذلك كان تحذير الرسول للكورنثيين: «وَلٰكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ كَمَا خَدَعَتِ ٱلْحَيَّةُ حَّوَاءَ بِمَكْرِهَا، هٰكَذَا تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ ٱلْبَسَاطَةِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ» (2 كورنثوس 11: 3). ومما لاريب فيه أن إبليس يتقن الخداع ويعرف كيف يموهه بالغيرة على المؤمن مستخدماً الأنبياء الكذبة المندسين بين المسيحيين، والذين لم يخل منهم عصر. هؤلاء قال الرسول: «هُمْ رُسُلٌ كَذَبَةٌ، فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ، مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ ٱلْمَسِيحِ. وَلاَ عَجَبَ. لأَنَّ ٱلشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ! فَلَيْسَ عَظِيماً إِنْ كَانَ خُدَّامُهُ أَيْضاً يُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ كَخُدَّامٍ لِلْبِرِّ» (2 كورنثوس 11: 13-15).

ولكن الرسول في حكمته، التي أعطيها من فوق، يشجع المؤمنين في كل عصر قائلاً لهم: «لَمْ تُصِبْكُمْ تَجْرِبَةٌ إِلاَّ بَشَرِيَّةٌ. وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ أَمِينٌ، ٱلَّذِي لاَ يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ، بَلْ سَيَجْعَلُ مَعَ ٱلتَّجْرِبَةِ أَيْضاً ٱلْمَنْفَذَ، لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا» (1 كورنثوس 10: 13).

الصلاة: أبانا السماوي نعترف بأننا ضعفاء، ولا قبل لنا بالكفاح ضد قوات الشرير الروحية، المتسلطة في هذا العالم. لذلك نسألك أن تلبس جميع أولادك قوة الأعالي، لكي يحاربوا حربك. آمين.

12فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ ٱلرُّؤَسَاءِ، مَعَ ٱلسَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ ٱلْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ ٱلشَّرِّ ٱلرُّوحِيَّةِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ. 13مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ ٱحْمِلُوا سِلاَحَ ٱللّٰهِ ٱلْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي ٱلْيَوْمِ ٱلشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا.

ككل قائد حكيم، أراد الرسول أن يبين للمؤمنين ما أمامهم من الخطر وعظمة قوة العدو، فالمصارعة التي دعينا لدخولها، ليست مع بشر دم ولحم بل مع قوات منظمة في عالم الروح. ليست كما يتوهم البعض مجرد تأثيرات وهواجس، لكنها شخصيات روحية شريرة، تعمل تحت قيادة إبليس.

ويقول البعض أن هذه الحرب، لا تخص أولاد الله. هذا خطأ جسيم ودليل على جهل ما في الكتب المقدسة. فمسيحنا له المجد حين أعطى نموذج الصلاة الربانية، ضمنه هذه العبارة «لكن نجنا من الشرير» وهذا يعني أن أولاد الله عرضة لهجمات قوات الشر. والذي لا يؤمن بهذه الحقيقة مغلوب سلفاً من إبليس الشرير، الذي يعرف كيف يموه الحقائق على الناس لكي يضلهم.

وفي تعبير آخر أن الذي يتوهم أن المؤمن لا يمكن أن يجرب أو يهاجم روحياً من القوات الروحية المعادية، يعيش في اللاحقيقة، أو على الأقل يتناسى قول المسيح لتلاميذه: «اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ» (متى 26: 41). وقد عرف رجال الله بالاختبار أو أوضاع المؤمنين في المسيح، هي بالأحرى تهيج غضب العدو. ويخبرنا تاريخ الكنيسة أن قوات الشر تضافرت ضد كنيسة المسيح وحاولت أن تقضي عليها في مهدها، وما زالت جاهدة ضدها.

وهوذا الآن نداء ينطلق من الرسول الكريم، مهيباً بأولاد الله لكي يلاحظوا أنفسهم ويسلكوا كما يليق بدعوتهم. فالمعركة قائمة ولا يجوز لمؤمن أن يتهرب من خوضها، أو يتوهم أنها ليست معركة المفديين. بل يجب أن يسهر ويصلي، لكي لا يقع في النوم أو السلبية. وبذلك يصبح لقمة سائغة في فم إبليس، الذي يعرف كيف يصيده بكائده.

(13) «احملوا سلاح الله الكامل» احملوا كل قطعة لأنها جميعها معدة للحرب، وهي ماضية جداً بحيث تصلح للمقاومة في اليوم الشرير، حين يركز عدو الصلاح كل قواه على أضعف نقطة في حياتنا الروحية، لينال منا. إن الأمر اليومي للمعركة هو الكلمة الرسولية «قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ» (يعقوب 4: 7).

استعمل الأسلحة، التي جهزك الله بها ضد قوات الشر. عالماً هذا، أن كل سلاح لا يستعمل معرض للصدأ. ولهذا يهيب بك الرسول اليوم أن تحمل السلاح الكامل، وتقاوم العدو لكي تغلب. وبعد أن تتمم الغلبة، أن تثبت، حتى إذا شن العدو هجوماً معاكساً تكون على أهبة للقتال لدحره وتحطيم هجومه.

يا ابن النور، قف منتصباً بسلاح الله ولا تتزعزع! لعلك أصبت بجراح دامية في أثناء المعمعة، ولكن لا تخف لأن نورك لم يطفأ. يا مفدي الرب، لعل طول الكفاح أضناك، ولكنك لم تصرع! لا تخش، فأنت جالس في السماويات في المسيح. لذلك مهما حمى وطيس المعركة وكان الضرب عنيفاً، فأنت تبقى حياً قوياً في الرب. ولكن احرص في حياتك وفي ممارسة خدمتك على أن لا تنسى أن العدو أكثر منك دهاء، وما من أحد يقدر أن يعاركه سوى يسوع الرب. لذلك لا تحارب وحيداً، بل اثبت في يسوع، ويسوع يقودك في موكب نصرته كل حين. وما عليك إلا أن تستصرخ اسمه المبارك.

داوم على شركتك مع الرب يسوع، عد إليه دوماً، وتنشط في حضوره. فهو يعرف الكل، وقد وعد بأن يتابع عمله فيك وبك.

الصلاة: يا رب إلهي انظر اليّ في الحرب التي دُعيت لخوضها ضد قوات الشر الروحية. علّم يدي القتال، وشدد عزيمتي لأجل الكفاح معطياً لي روح السهر باسم يسوع. آمين.

14فَٱثْبُتُوا مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِٱلْحَقِّ، وَلاَبِسِينَ دِرْعَ ٱلْبِرِّ، 15وَحَاذِينَ أَرْجُلَكُمْ بِٱسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ ٱلسَّلاَمِ. 16حَامِلِينَ فَوْقَ ٱلْكُلِّ تُرْسَ ٱلإِيمَانِ، ٱلَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ ٱلشِّرِّيرِ ٱلْمُلْتَهِبَةِ. 17وَخُذُوا خُوذَةَ ٱلْخَلاَصِ، وَسَيْفَ ٱلرُّوحِ ٱلَّذِي هُوَ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ.

حين كتب بولس هذه الرسالة، كان سجيناً مقيداً بسلسلة مع الجندي الروماني المكلف بحراسته. فلا عجب إذن إن هو اقتبس أسماء ستة من الأسلحة من عدة حارسه، مضيفاً إليها سلاحاً سابعاً وهو الصلاة:

  1. منطقة الحق - كانت منطقة الجندي الروماني من الجلد، عليها صفائح صغيرة من الحديد وبها يعلق السيف. وكان شد المنطقة فوق الثياب علامة التأهب للقتال. أما منطقة الجندي المسيحي فهي الحق.

    من الناحية العلمية، هذه الوصية بارتداء منطقة الحق، تعني ضمناً أن كل تحركاتنا وكل أقوالنا، يجب أن تعبر عن الحق. معتزلين كل ما يمت بصلة إلى الرياء، أو عدم الولاء للرب. هذا هو سلام المسيحي الأول، الواجب ان يركز عليه كل اهتمام إلى جانب التقوى. المسيحي الحقيقي هو من كان محقاً في تصرفاته، وفي أعماله وفي أقواله. إنه يتجنب الغموض والدس واللف والكذب والنميمة والأحكام المتجنية. لأن كل عضو في جسد المسيح الذي هو كنيسته، مدعو لأن يكون مثالاً للقدوة في ما يختص بالحق.

  2. درع البر - هذا سلاح له أهمية كبرى، لأنه يقي القلب. نقرأ في رسالة أخرى قوله: «وَأَمَّا نَحْنُ ٱلَّذِينَ مِنْ نَهَارٍ، فَلْنَصْحُ لاَبِسِينَ دِرْعَ ٱلإِيمَانِ وَٱلْمَحَبَّةِ» (1 تسالونيكي 5: 8) فقلوبنا تحتاج إلى الحفظ. وقديماً قال سليمان: «فَوْقَ كُلِّ تَحَفُّظٍ ٱحْفَظْ قَلْبَكَ لأَنَّ مِنْهُ مَخَارِجَ ٱلْحَيَاةِ» (أمثال 4: 23) فلنشدد قلوبنا لأن في هذه الحرب الروحية، لا يصح أن نبدي أي ضعف أمام العدو. لأن حبنا لله يجب أن يكون مصاناً، ليبقى نقياً وحراً من كل عاطفة غريبة. فدرع البر إذن هو القسم الرئيسي من سلاح جندي الرب.

    إن التسربل بدرع البر في المعنى الروحي، هو أن نسلك بحسب كلام الحق، لكي نميز بين الخير والشر. وبذلك نؤمن أفضل وقاية لقلوبنا في أثناء المعركة اليومية. لأن حواسنا تكون قد صارت مدربة (عبرانيين 5: 14).

  3. حذاء استعداد إنجيل السلام - إن كان الحذاء في حالة غير جيدة يكون المشي به صعباً. ولهذا يحرص قادة الجيوش على تزويد جنودهم بأحذية متينة. أما الجندي المسيحي فمجهز بحذاء عجيب هو التأهب ا لذي يولده الإنجيل في قلب من يسمعه ويقبله، فيصبح متأهباً لتبليغ بشائر الإنجيل السارة إلى النفوس الواقعة في أسر الظلام. فيرحب به الجميع، مرددين ذلك النشيد القديم: «مَا أَجْمَلَ عَلَى ٱلْجِبَالِ قَدَمَيِ ٱلْمُبَشِّرِ، ٱلْمُخْبِرِ بِٱلسَّلاَمِ، ٱلْمُبَشِّرِ بِٱلْخَيْرِ، ٱلْمُخْبِرِ بِٱلْخَلاَصِ» (إشعياء 52: 7).

    وعملاً بهذا المبدأ، اتخذ بولس صفة القائد وأصدر أمره اليومي لتلميذه تيموثاوس: «وَأَمَّا أَنْتَ فَٱصْحُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. ٱحْتَمِلِ ٱلْمَشَقَّاتِ. ٱعْمَلْ عَمَلَ ٱلْمُبَشِّرِ. تَمِّمْ خِدْمَتَكَ» (2 تيموثاوس 4: 5).

  4. ترس الإيمان - بهذا السلام يصبح الكيان كله معطة. إنه سلاح لا بد منه، لأنه سهام إبليس الملتهبة عنيفة جداً، وطيرانها سريع، بحيث تصيبنا قبل أن نراها. فكم هو أمين الرب في التحذيرات، التي يوجهها إلى ابنه المحارب!

    لقد وردت كلمة ترس لأول مرة في سفر التكوين، والترس بالمعنى الروحي هو الله نفسه، بدليل قوله لإبراهيم: «لاَ تَخَفْ يَا أَبْرَامُ. أَنَا تُرْسٌ لَكَ. أَجْرُكَ كَثِيرٌ جِدّاً» (تكوين 15: 1). وهذه الحقيقة عن الحماية الإلهية اكتشفها كاتب المزامير وتمتع بها، وكتب عنها بمداد الاختبار، إذ قال: «اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ ٱلْعَلِيِّ فِي ظِلِّ ٱلْقَدِيرِ يَبِيتُ. أَقُولُ لِلرَّبِّ: «مَلْجَإِي وَحِصْنِي. إِلٰهِي فَأَتَّكِلُ عَلَيْهِ». لأَنَّهُ يُنَجِّيكَ مِنْ فَخِّ ٱلصَّيَّادِ وَمِنَ ٱلْوَبَإِ ٱلْخَطِرِ. بِخَوَافِيهِ يُظَلِّلُكَ وَتَحْتَ أَجْنِحَتِهِ تَحْتَمِي. تُرْسٌ وَمِجَنٌّ حَقُّهُ. لاَ تَخْشَى مِنْ خَوْفِ ٱللَّيْلِ، وَلاَ مِنْ سَهْمٍ يَطِيرُ فِي ٱلنَّهَارِ» (مزمور 91: 1-5).

  5. خوذة الخلاص - من المعروف أن الخوذة تستعمل لوقاية الرأس الذي هو مركز الأفكار. فإذا سيطر القلب الشرير على الأفكار، تصبح هذه آلة شريرة ترتفع منها الظنون ضد معرفة الله. لذلك كانت لخوذة الخلاص هذه الأهمية بين مجموعة الأسلحة. والخوذة تعني ضمناً اكتمال المعرفة الخلاصية واختبار كل ما يتعلق بخلاص الله. والرسول يطلب هنا من المحارب أن يرتديها في صلواته كل يوم من أجل وقاية أفكاره وحفظها في ملء النقاوة.

فيا جند الرب، يا أولاد التبني، أيها المختومون بروح الموعد القدوس، احرصوا دائماً على ارتداء خوذة الخلاص!

الصلاة: أيها الآب القدوس، نشكرك لأجل هذا الدرس الذي أوحيت به لرسولك لتعليمنا. علمنا كيف نستخدم هذه الأسلحة ضد قوات الشر، التي تحاول الفتك بقداستنا كمقدمة لإهلاكنا، قوّنا ضدها. ولك المجد الدائم. آمين.

18مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي ٱلرُّوحِ، وَسَاهِرِينَ لِهٰذَا بِعَيْنِهِ بِكُلِّ مُواظَبَةٍ وَطِلْبَةٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ، 19وَلأَجْلِي، لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ ٱفْتِتَاحِ فَمِي، لِأُعْلِمَ جِهَاراً بِسِرِّ ٱلإِنْجِيلِ، 20ٱلَّذِي لأَجْلِهِ أَنَا سَفِيرٌ فِي سَلاَسِلَ، لِكَيْ أُجَاهِرَ فِيهِ كَمَا يَجِبُ أَنْ أَتَكَلَّمَ.

بعد أن استعرض الرسول الأسلحة الدفاعية، التي أعدها الله لأولاده، لكي يحاربوا ضد قوات الشر الروحية. وبعد أن عدد مزايا كل قطعة وكيفية استعمالها، انتقل إلىالأسلحة الهجومية وهي:

  1. سيف الروح - الذي هو كلمة الله. «لأَنَّ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ ٱلنَّفْسِ وَٱلرُّوحِ وَٱلْمَفَاصِلِ وَٱلْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ ٱلْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (عبرانيين 4: 12). يا لها من تعزية كبرى! أن الله يتعامل معنا بكلمته. وكلمته ليست مجرد حرف، بل هي كلمة حية وفعالة بالروح القدس.

    تقبل كلمة الله بكل قلبك وفي ضميرك. لأنه بفعلها ينقي قلبك وتتحرر وتصير إلى شبه سيدك. وكسيدك تنتضي سيف الروح هذا في ساعة التجرية، فتهزم العدو بالقول: مكتوب... (متى 4: 1-11).

    إن الكنيسة المسلحة بسيف الروح تستطيع دحر العدو ونهب أمتعته، كما حصل في أيقونية حين نادى بولس وصحبه بكلمة الحق إنجيل الخلاص. إذ يخبرنا لوقا الطبيب، أن جمهوراً كبيراً آمن (أعمال 14: 1).

    كم يجب أن نشكر الله لأجل عنايته في إلهام الرسول الكريم، أن يصف حالة العالم الحاضر في جهله وفساده. وأن يهيب بالمؤمنين أن يجاهدوا من أجل النفوس الهالكة. وبما أن يوم النعمة ما زالت فيه ساعات، يجب على المؤمنين أن يبذلوا قصارى جهدهم لأجل نشر إنجيل الخلاص. إن حاجة الساعة تضع الضرورة على كنيسة المسيح، لكي تجند كل طاقاتها، رعاة ومبشرين، حتى أبسط عضو فيها، لكي تعلن تحت كل سماء اسم يسوع الذي هو فوق كل اسم، والذي ليس بأحد غيره الخلاص. ولنذكر أننا قد دعينا جميعاً، لكي نفتدي الوقت، لأن الأيام شريرة.

    أنت يا مؤمن في أرض مسيطر عليها عدو النفوس، والرب دعاك للجهاد. لذلك تقلد سيفك وخض المعركة ضد قوات الظلمة.

  2. سلاح الصلاة - كان الدندي الذي ربط مع بولس بالسلسلة لأجل حراسته، يجهل كل شيء عن هذا السلام المقتدر كثيراً في فعله. ولكن بولس إضافة إلى مجموعة الاسلحة وأوصى المؤمنين باستعماله في المعركة، إذ قال: مصلين بكل صلاة وطلبة في كل وقت في الروح.

والواقع أنه بدون الصلاة تكون أسلحة المسيحي غير كاملة، ولكن بها تكون كاملة وفعالة. وتتيح للمحارب أن ينتصر. إنها تشحذ كل الأسلحة الأخرى وتجعلها ماضة. وبالتالي تجعل المحارب غير قابل للغلبة في وسط المعمعة. الصلاة في روحها، تعني عدم استقلالنا عن الله، فمن يصلي إذا يشرك الله في جهاده، وهذا لا بد له أن ينتصر.

أنت تعلم أن الحرب الروحية قد حقت وإن لم تخضها تحسب هارباً، والهارب يكون مستوجب الحكم. وفي وسعك أن تخوض غمارها بمقاومة الأفكار الردية، وبرفض كل روح مضل. وإن ثبت في المسيح، يمكنك أن تنتصر. لأنك في المسيح بوركت بكل بركة روحية في السماويات «ساهرين لهذا بعينه بكل مواطبة وطلبة» هذا تحذير ضمني من غياب الصلاة المجاهدة والمواظبة في حياة المؤمنين. وفي العبارة إشارة إلى قول الرب يسوع: «إِنِ ٱتَّفَقَ ٱثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى ٱلأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لأَنَّهُ حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ» (متى 18: 19 و20). هذا هو امتياز المحاربين المصلين، أن الرب يحضر بينهم ويتشفع بصلواتهم.

الصلاة: أيها الآب رب السماء، نشكرك لأجل الصلاة بالروح، التي تقتدر لفعلها، لأنك تستجيبها بالبركات والنعم. اسكب على المؤمنين روح الصلاة في هذه الأيام، حتى تقاد صلواتهم بالروح والحق. آمين.

21وَلٰكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ أَيْضاً أَحْوَالِي، مَاذَا أَفْعَلُ، يُعَرِّفُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ تِيخِيكُسُ ٱلأَخُ ٱلْحَبِيبُ وَٱلْخَادِمُ ٱلأَمِينُ فِي ٱلرَّبِّ، 22ٱلَّذِي أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ لِهٰذَا بِعَيْنِهِ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَحْوَالَنَا، وَلِكَيْ يُعَزِّيَ قُلُوبَكُمْ. 23سَلاَمٌ عَلَى ٱلإِخْوَةِ، وَمَحَبَّةٌ بِإِيمَانٍ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلآبِ وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. 24اَلنِّعْمَةُ مَعَ جَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ رَبَّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. آمِينَ.

عهدنا ببولس أنه لا يحتسب لنفسه، ولا يطلب شيئاً لذاته (أعمال 20: 24) ولكنه في ختام تعليمه الخاص بالحرب الروحية خرج على هذا المبدأ، إذ توسل إلى الأفسسيين أن يرفعوه بصلواتهم، لكي يستطيع أن يعرّف الأمم بكل مجاهرة وحرية وثقة بسر الإنجيل، الذي من أجله صار سفيراً في سلاسل.

لم يخبرنا التاريخ عن خادم للمسيح، استطاع أن يجاري بولس في أمانته لله، أوفي شجاعته بالوقوف في وجه البدع. أو يماثله في تواضعه بين القديسين. لأنه بعد أن أغدق على الأفسسيين من غنى المسيح الذي لا يُستقصى، لم يحسب أن عمله قد انتهى. فقد شعر بالضرورة لمتابعة جهاده في سبيل انتشار إنجيل الله. لذلك يسأل مختاري الله لكي يصلوا لأجله. إن لم يتوقف أبداً، ولم يسكت أبداً. وكأنه لم يكن في وسعه الرضى طالما توجد نفوس هالكة، يجب أن تخلص، أو أرض تحت الشمس لم يمتلكها مخلصه الحبيب.

«سفير في سلاسل» يا لها من لوحة منقطعة النظير! سفير ملك الملوك مقيد. ولكن هذا هو الإنجيل، المليء بالمفارقات التي تظهر الحقيقة بأكثر جلاء. وبما أننا في أرض غريبة، شاء الرب أن يقلد بولس السلطة، ويكلفه تمثيل سيده المرفوض من الناس، قبل أن يتمجد في السماء. والذي وعد بأنه سوف يأتي مع ملائكة قوته، في نار لهيب معطياً نقمة للذين لا يعرفون الله، وللذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح، الذين سيبعاقبون بهلاك أبدي من وجه الرب ومن مجد قوته، متى جاء ليتمجد في قديسيه ويتعجب منه في جميع المؤمنين (2 تسالونيكي 1: 8-10).

كان لبولس أن يفتخر بسلاسله حقاً، لأنها كانت تعني حرية كلمة الله. وقد عبر عن ذلك بقوله للفيلبيين: «ثُمَّ أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أَنَّ أُمُورِي قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ ٱلإِنْجِيلِ، حَتَّى إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً فِي ٱلْمَسِيحِ فِي كُلِّ دَارِ ٱلْوِلاَيَةِ وَفِي بَاقِي ٱلأَمَاكِنِ أَجْمَعَ. وَأَكْثَرُ ٱلإِخْوَةِ، وَهُمْ وَاثِقُونَ فِي ٱلرَّبِّ بِوُثُقِي، يَجْتَرِئُونَ أَكْثَرَ عَلَى ٱلتَّكَلُّمِ بِٱلْكَلِمَةِ» (فيلبي 1: 12-14).

«صلوا... لكي يعطى لي كلام عند افتتاح فمي» بهذه الملحوظة تختتم الرسالة المجيدة. فما تسلمناه من الرب، يجب ان نعطيه. وما تعلمناه يجب أن نعلنه. وما عمله الرب فينا يجب أن نخبر به شهادة لعمل نعمته.

(21-22) قل ختام الرسالة أراد بولس أن يخبر أحباءه الأفسسيين أنه يرسل إليهم تيخيكس، الذي وصفه بالأخ الحبيب والخادم الأمين في الرب. وهذا يعني أنه كان أخا لبولس في الإيمان، وخادماً للإنجيل ولعله خدمه في الجسديات.

(23-24) «سلام على الأخوة» هذه تحية اعتاد الرسول أن يوجهها إلى المكتوب إليهم. والسلام يتضمن كل فوائد النعمة، وقد قدم الكل في إطار المحبة. وطلب الكل من الله الآب وابنه يسوع المسيح.

وأخيراً ختم الرسالة بالبركة الرسولية، فطلب فيها نعمة المسيح الخاصة، للذين يحبونه في عدم فساد. وهذا أجمل ختام لأجمل رسالة خطتها براعة بولس.

الصلاة: أيها السيد الرب، تشكرك قلوبنا لأجل هذه الرسالة المجيدة، التي فيها عرفنا محبتك في المسيح في أجلى مظاهرها. رسخ في أذهاننا كل ما ورد فيها من تعليم، لتكون لنا المرشد في سلوكنا. آمين.

المسابقة الثانية لرسالة أفسس

إن أجبت على 24 سؤال بصواب، نرسل إليك أحد الكتب الذي تختاره من قائمة مطبوعاتنا.

  1. ماذا سأل الرسول في هذا الأصحاح؟

  2. عم ينتج السلام في الكنيسة؟

  3. ماذا ذكر الرسول في الآيات موضوع تأملنا؟

  4. ماذا أعطى المسيح الكنيسة؟

  5. ما هو التحذير الذي وجهه الرسول للمؤمنين؟

  6. ماذا يتحتم في الكنيسة؟

  7. ماذا تعني الكلمتان اللتان استهل الرسول الآية العشرين بهما «وأما أنتم»؟

  8. ما هي وصية الرسول في هذه الآيات؟

  9. ما هي الرذيلة التي أوصى الرسول بولس الأفسسيين أن يطرحوها؟

  10. بمَ أوصى الرسول مؤمني أفسس في الآية 28؟

  11. ما هي المرارة؟

  12. كيف أوصانا الرسول بأن نسلك؟

  13. لماذا قرن الرسول الطمع بالنجاسة؟

  14. ما هو سبب استخفاف الأفسسيين بأعمال الظلمة؟

  15. بمَ يهتم أبناء هذا الدهر، وبمَ يهتم أبناء الرب؟

  16. ما هو سبب النداء الذي أطلقه الرسول في الآية الرابعة عشرة؟

  17. ما هي الوسيلة التي بها يظهر المؤمن حكمته؟

  18. ماذا يفعل بعض الجهلاء حين تنتابهم المصاعب؟

  19. ماذا تعد الآية الحادية والعشرون؟

  20. ما هو قوام البيت السعيد؟

  21. ما هو المقياس الذي عينه الرسول لمحبة الرجل لامراته؟

  22. بمَ شبه الرسول حب الرجل لزوجته؟

  23. ما معنى الكلمة «أطيعوا في الرب»؟

  24. ما هي أولى واجبات الآباء تجاه أبنائهم؟

  25. بمَ أوصى الرسول السادة؟

  26. ما هو سلاح إبليس الأول؟

  27. ما هو النداء الذي أطلقه الرسول للمؤمنين؟

  28. ماذا تعني وصية الرسول فيما يختص بمنطقة الحق؟

  29. ما هو سيف الروح وبماذا وصف؟

  30. ماذا طلب بولس في ختام رسالته؟

اذكر اسمك وعنوانك كاملاً ونحن بانتظار رسالتك.


Call of Hope
 P.O.Box 10 08 27 
D-70007
Stuttgart
Germany