العودة الى الصفحة السابقة
أمثال المسيح

أمثال المسيح

الدكتور القس. منيس عبد النور


List of Tables

1.

Bibliography

أمثال المسيح. منيس عبد النور. Copyright © 2005 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . 2005. SPB 4315 ARA. English title:The parables of Jesus. German title: Die Gleichnesse Jesu . Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 70007 Stuttgart Germany http: //www.call-of-hope.com .

الجزء الأول طبيعة ملكوت الله

هذا الكتاب

دراسة أمثال المسيح دراسة ممتعة، تنقلنا من واقع الحياة إلى السماويات، ببساطة وعُمق، فالمسيح هو «الراوي الأعظم» صاحب الأسلوب السهل الممتنع، الذي لا يفقد طلاوته مهما نُقل إلى مختلف اللغات، أو انتشر في كل الحضارات، لأن المبادئ الروحية في تعليمه هي الأساس.

وأمثال المسيح بالغة الإعجاز في توضيح كيفية انتشار ملكوت الله في العالم، وفي وصف السعادة التي يحصل عليها الإنسان الذي يُملِّك الله على حياته، وفي شرح نوعية حياة الإنسان الذي ينتمي إلى ملكوت الله.

ولقد اخترت من أمثال المسيح سبعة وثلاثين مثلاً، قدَّمتها بحسب موضوعاتها، فبدأتُ بخمسة عشر مثلاً تشرح طبيعة ملكوت الله، وأتبعتها باثني عشر مثلاً تتحدث عن امتيازات أبناء ملكوت الله، ثم ختمت بعشرة أمثال عن مسؤوليات أبناء ملكوت الله.

وكل ما يرجوه الكاتب هو أن يدرك القارئ روعة الحياة التي يجدها كل من ينتمي إلى ملكوت الله، وتكون كلمات المسيح دستور حياته، وطاعة الله أقصى أمانيه.

مقدمة

تميَّز تعليم المسيح برواية الأمثال «وَبِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ» (مرقس 4: 34). والمثل قصة أرضية تعبِّر عن حقائق أوحى الله بها، فهو يشبه مسكناً على الأرض وقد فُتحت نافذته نحو السماء. وما أن تقول «أمثال المسيح» حتى تتذكَّر أروع القصص من وقائع الحياة العادية. ولا غرابة، فالمسيح هو «كلمة الله» المتجسِّد، الذي شارك الناس في أحداث حياتهم اليومية.. عندما ولدته العذراء القديسة مريم أضجعته في مذود، وزاره في مهده رعاةُ الأغنام البسطاء، وعاش في الناصرة لا في عاصمة البلاد، وكسب عيشه من أعمال النجارة، واختار تلاميذه من الصيادين البسطاء. غير أنه كان صاحب رسالة محبة الله للبشر جميعاً على اختلاف نوعياتهم ومعتقداتهم، فهو «الكلمة» والمتكلم، وهو الرسالة والرسول والرسالة. وقد جاء إلى العالم برسالة واضحة قوية عن محبة الله، وعدالته، وأعلن هذه الرسالة بطريقة واضحة قوية جذابة، حتى «بُهِتَتِ ٱلْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَٱلْكَتَبَةِ» (متى 7: 28 و29).وكانت الأمثال إحدى طرق تعليمه الجذابة.

وتصوِّر الأمثال التي ضربها المسيح حالاتٍ من واقع حياة الناس، ولذلك نطلق عليه «الراوي الأعظم» فهو الذي يُرينا أباً يفيض قلبه حباً وشوقاً إلى ابن ضال نادم راجع من البلد البعيد إلى الأحضان الأبوبة المنتظرة، الواثقة أنه لا بد راجع (لوقا 15: 20)، ويرينا راعي أغنام منحنٍ على طرف هاوية ليرفع حمَلاً له سقط في حفرة (لوقا 15: 4)، ويرينا جريحاً وقع بين اللصوص يسعفه مسافر يختلف عنه في الوطن والدين (لوقا 10: 33). وتنقلنا أمثال المسيح لنرى فلاحاً يبذر بذوره (متى 13: 3) أو يحرث بمحراثه (لوقا 7 :17)،وصياداً يلقي شباكه (متى 13: 48)، وأرملة تستنجد بقاضٍ مرتشٍ (لوقا 18: 3)، وبنّاء يبني قلعة (لوقا 14: 28)، وملكاً يتّجه بجيشه لأرض المعركة (لوقا 14: 31). ولمس المسيح في أمثاله الحياة العائلية كما في مثَل الابنين (متى 21: 28-31)، والحياة الزراعية كما في مثَل التينة غير المثمرة (لوقا 13: 6-9) والحياة التجارية كما في مثَل الوزنات (متى 25: 14-30)، والحياة السياسية كما في مثَل الملك الذي طلب حكماً فانقلب شعبه عليه أثناء سفره (لوقا 19: 11-27).

ولم يكن المسيح أول من استخدم أسلوب التعليم بأمثال، فقد سبقه أنبياء العهد القديم وغيرهم في ذلك. ولكن أمثال المسيح تخلو من القصص الخرافية، وحديث الأشجار والحيوانات، فهو «الطريق والحق والحياة» الذي أعلن الأخبار المفرحة الحقيقية بأسلوب تعامل الله الحقيقي مع البشر, فجاءت أمثاله واقعية تحمل دروس الأبد لكل بشرٍ في كل زمن وفي كل مكان، فقد قال «ٱَلْكَلاَمُ ٱٰلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ» (يوحنا 6: 63).

لماذا علَّم المسيح بأمثال؟

قبل أن يبدأ المسيح التعليم بالأمثال كان قد وعظ تعليماً صريحاً وقال لمفلوجٍ شفاه: «مغفورة لك خطاياك» (مرقس 2: 9)، ودخل بيوت الخطاة وأكل معهم (مرقس 2: 16)، وشفى صاحب يدٍ يابسة يوم سبتٍ، فرفضه قادة بني إسرائيل وتشاوروا معاً على قتله (مرقس 3: 6)، فغيَّر المسيح طريقة تعليمه إلى الأمثال التي يفهمها البسطاء الراغبون في التعلُّم، لأنهم سيسألون عن معناها. أما الرافضون فسيظنون أن المسيح يضرب أمثالاً، أو يروي حكايات، فيتوقَّفون عن مقاومته، ويتركونه يعظ الجموع الراغبة في المعرفة. ويتَّضح لنا هذا من أنه عندما روى أول أمثاله، وهو مثل الزارع، سأله تلاميذه: «لماذا تكلمهم بأمثال؟» فأجاب: «قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ. وَأَمَّا ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِٱلأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ، لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا» (مرقس 4: 11، 12). وختم مثل الزارع بقوله: «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!» (مرقس 4: 9)

فالمثل يعطي الراغب في المعرفة مزيداً من المعرفة، لأنه سيفتش عن معناه. أما المشاغب الرافض فسينصرف عن المعنى الكامن في المثَل لأن قلبه مغلق، ولذلك قال المسيح: «فَإِنَّ مَنْ لَهُ (الرغبة في المعرفة) سَيُعْطَى وَيُزَادُ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ (هذه الرغبة) َٱلَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ» (متى 13: 12)

كيف نفسِّر الأمثال؟

عند تفسير الأمثال يجب أن نراعي ثلاثة قوانين:

  1. يجب أن نعرف المناسبة التي روى فيها المسيح المثل، فنفسِّره في نور القصد الرئيسي من روايته. وتساعدنا مناسبة رواية المثل على إدراك المعنى الرئيسي المقصود منه.

  2. ليس لكل تفاصيل المثل معاني روحية، فلا يجب أن نحمِّل النصَّ أكثر من جوهر التعليم، ولا أن نستقي منه استنتاجات فرعية لا ترتبط بالقرينة، ولا أن نستخرج من كل تفاصيل المثل دروساً. وقد نصحنا القديس يوحنا فم الذهب أن نأخذ المعنى الرئيسي من المثَل: «وألا نشغل نفوسنا كثيراً بالبقية». ففي مثَل السامري الصالح، يكفي أن نرى أن قريبي هو المحتاج لمساعدتي، مهما اختلف عني في الدين والجنسية، دون داعٍ لأن نتساءل عن المقصود بالحمار أو صاحب الفندق أو الدينارين.

  3. لا يمكن أن يُؤخَذ المثل وحده أساساً لعقيدة دينية، بل يجب أن نقرن آيات الكتاب معاً قبل أن نكوِّن عقيدتنا (1كورنثوس 2: 13). وقد روى المسيح أمثاله للبسطاء الذين سمعوها بسرور لأنها لمست واقع حياتهم.

1 - الملكوت انتقال إلى حالة جديدة

(أ) الملكوت حياة جديدة - مثلا الرقعة والزقاق (لوقا 5: 27-39)

(ب) الملكوت تعليم جديد - مثل الكاتب المتعلم (متى 13: 52)

(ج) دعوتان واستجابتان - مثل الأولاد اللاعبين (لوقا 7: 31-35)

(أ) الملكوت حياة جديدة مثلا الرُّقعة والزِّقاق

27وَبَعْدَ هٰذَا خَرَجَ فَنَظَرَ عَشَّاراً ٱسْمُهُ لاَوِي جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ ٱلْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: ٱتْبَعْنِي. 28فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ. 29وَصَنَعَ لَهُ لاَوِي ضِيَافَةً كَبِيرَةً فِي بَيْتِهِ. وَٱلَّذِينَ كَانُوا مُتَّكِئِينَ مَعَهُمْ كَانُوا جَمْعاً كَثِيراً مِنْ عَشَّارِينَ وَآخَرِينَ. 30فَتَذَمَّرَ كَتَبَتُهُمْ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ عَلَى تَلاَمِيذِهِ قَائِلِينَ: لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ؟ 31فَأَجَابَ يَسُوعُ: لاَ يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى. 32لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ.

33وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا كَثِيراً وَيُقَدِّمُونَ طِلْبَاتٍ، وَكَذٰلِكَ تَلاَمِيذُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ أَيْضاً، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟ 34فَقَالَ لَهُمْ: أَتَقْدِرُونَ أَنْ تَجْعَلُوا بَنِي ٱلْعُرْسِ يَصُومُونَ مَا دَامَ ٱلْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ 35وَلٰكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ. 36وَقَالَ لَهُمْ أَيْضاً مَثَلاً: لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ رُقْعَةً مِنْ ثَوْبٍ جَدِيدٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، وَإِلاَّ فَٱلْجَدِيدُ يَشُقُّهُ، وَٱلْعَتِيقُ لاَ تُوافِقُهُ ٱلرُّقْعَةُ ٱلَّتِي مِنَ ٱلْجَدِيدِ. 37وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ لِئَلاَّ تَشُقَّ ٱلْخَمْرُ ٱلْجَدِيدَةُ ٱلزِّقَاقَ، فَهِيَ تُهْرَقُ وَٱلزِّقَاقُ تَتْلَفُ. 38بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ، فَتُحْفَظُ جَمِيعاً. 39وَلَيْسَ أَحَدٌ إِذَا شَرِبَ ٱلْعَتِيقَ يُرِيدُ لِلْوَقْتِ ٱلْجَدِيدَ، لأَنَّهُ يَقُولُ: ٱلْعَتِيقُ أَطْيَبُ (لوقا 5: 27-39).

(ورد هذان المثلان أيضاً في متى 9: 14-17 ومرقس 2: 13-22)

مناسبة رواية المثَلين:

روى المسيح هذين المثَلين أثناء وليمة أقامها له لاوي العشار (جابي الضرائب). وكان جمع العشور (أو جباية الضرائب) وظيفة محتقرة عند اليهود، لأن الذي يقوم بها لصٌّ، وخائنٌ لوطنه، لأنه يتقاضى ضرائب أكثر مما يحقُّ له، كما أنه كان يأخذ أموال أبناء شعبه ليؤدّيها للسادة المستعمرين الرومان. فكان العشَّار (في نظرهم) يرتكب خيانتين: خيانةً أخلاقية، وخيانة وطنية.

وكان المسيح قد مرَّ بلاوي وهو يؤدي عمله، فدعاه: «اتبعني» (لوقا 5: 27)، فأطاع وترك كل شيء وقام وتبعه. وكان لدعوة المسيح له، ولقبوله هو لتلك الدعوة أثرٌ عظيم في نفسه، فقد شعر أنه ذو قيمة كبيرة في نظر الله. وفاض قلبه بأفراح الخاطئ التائب الذي غُفرت خطاياه، وأراد أن يعبِّر عن ابتهاجه، فأقام وليمة للمسيح احتفالاً بالتجديد الذي جرى له، دعا إليها زملاءه وأصدقاءه من العشارين أمثاله.

وفي أثناء الوليمة كانت جماعتان مختلفتان تراقبان المسيح، أولهما جماعة الفريسيين، وهم اليهود المتديِّنون المتزمِّتون، فانتقدوا السيد المسيح والمحيطين به من الذين حضروا وليمة لاوي، وقد اعتبروهم صحابته، وتساءلوا: كيف يقبل معلِّمٌ ديني محترم دعوة الخطاة ويأكل معهم؟ لا بد أنه مثلهم! وأخذوا يراقبون ليروا إن كان لاوي وضيوفه سيراعون مطالب شريعة موسى في الاغتسال قبل الأكل.

أما الجماعة الثانية فكانوا بعض تلاميذ يوحنا المعمدان، المعلِّم المتنسِّك المتقشف الذي كان لفرط تقشُّفه «لاَ يَأْكُلُ خُبْزاً وَلاَ يَشْرَبُ خَمْراً» (لوقا 7: 33). وكان قد قال عن المسيح إنه «ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي، ٱلَّذِي صَارَ قُدَّامِي، ٱلَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ.. هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ.. ينْبَغِي أَنَّ ذٰلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ» (يوحنا 1: 27، 29 و3: 30). فاندهشوا وهم يرون المسيح يأكل ويشرب ويحضر الولائم ويصادق العشارين والخطاة، وهو أسلوبُ حياةٍ يناقض أسلوب معلّمهم المعمدان!

سؤالان:

وبسبب هذه الوليمة طُرح على المسيح وتلاميذه سؤالان، أحدهما من الفريسيين، والآخر من تلاميذ المعمدان. سأل الفريسيون تلاميذ المسيح: «لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ؟» (لوقا 5: 30). وسألوا المسيح: «لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا كَثِيراً... أَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟» (لوقا 5: 33). وسأل تلاميذ المعمدان السيد المسيح: «لمَاذَا نَصُومُ نَحْنُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ كَثِيراً، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟» (متى 9: 14).

جواب المسيح على سؤال الفريسيين:

وأجاب المسيح على سؤال الفريسيين بقوله: «لاَ يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ» (لوقا 5: 31 و32). وقد أوضحت إجابة المسيح هذه خمسة أمور:

  1. أوضحت طبيعة رسالة المسيح، فهي رسالة الحب الكامل لأنه الطبيب الذي يحب الخطاة، ويتعامل معهم ويختلط بهم، لا لأنه مثلهم، بل لأنه يقدم لهم الشفاء المجاني. إنها رسالة المحبة ذات العرض الذي يشمل كل أمم الأرض، وذات الطول الذي يطول كل العصور، وذات العمق الذي يصل إلى الخاطئ حيثما يكون لينتشله من أعماق سقوطه، وذات العلو الذي يرفع التائب إلى سماء المجد والعظمة. إنها المحبة الفائقة المعرفة، لأنها مجانية، ومتأنية، ودائمة (أفسس 3: 18 و19).

  2. أوضحت طبيعة خلاص المسيح، فهو هبته المجانية لمرضى الخطية، ففي المسيح لنا الفداء، «بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ» (أفسس 1: 7). فخلاص المسيح هو الشفاء من مرض الخطية، وهو عطية الطبيب لمرضاه، كما يقول الوحي: «لأَنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ ٱللّٰهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية 6: 23). ونحن نخلص برحمة الله ونعمته، فالرحمة تمنع عنا العقاب الذي نستحقه، والنعمة تمنحنا البركات التي لا نستحقها.

  3. وأوضحت طبيعة البشر الذين جاء ليخدمهم، فهُم مرضى يحتاجون إلى الطبيب، وهم خطاة يحتاجون إلى التوبة. أما الذين يظنون أنفسهم أبراراً فلا نصيب لهم في شفاء المسيح وخلاصه المفرح.

  4. وأوضحت طبيعة الخطية، فهي عصيان يُغضب الله، ويحجب وجهه عن الخاطئ، ويفصل الخاطئ عنه.

  5. وأوضحت طبيعة التوبة، فهي رجوع الضال عن ضلاله وتغييره تغييراً كاملاً، لأن روح الله ينيره فيدرك سوء مصيره، ويبكته فيعزم أن يترك خطاياه، فإن «مَنْ يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لاَ يَنْجَحُ، وَمَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ»(أمثال 28: 13). كان لاوي مريضاً بحب المال، وكان خائناً لبلده. ولما فتح قلبه وبيته للمسيح نال الشفاء من الجشع، وأقلع عن خيانة بلده.. بل إنه أصبح مبشراً لزملائه الخطاة والضالين، فدعاهم ليلتقوا بالمسيح المخلِّص الذي أنقذه وفرَّح قلبه، ليتمتعوا بما تمتَّع هو به. كما أنه أرادهم أن يشاركوه فرحه، فالسماء تفرح بالخاطئ التائب، كما يفرح التائب بخلاص نفسه.

لماذا يصوم الفريسيون؟

كان اليهود، ومنهم الفريسيون، يصومون لأن شريعة موسى طالبتهم بصوم يومٍ واحد في السنة هو «يوم الكفارة العظيم» وهو يوم الاعتراف بالخطايا وانكسار القلوب بسببها. وفي هذا اليوم من كل سنة كان رئيس الكهنة يدخل إلى «قُدس الأقداس» في الهيكل، أولاً بدمٍ عن نفسه ليغفر الله له. وعندما يرضى الله عنه يدخل إلى قدس الأقداس مرة ثانية بدمٍ للتكفير عن خطايا الشعب (لاويين 16 وعبرانيين 9: 7).

وأضاف الفريسيون إلى هذا الصوم السنوي الذي طالبت به الشريعة صوم يومي الإثنين والجمعة من كل أسبوع، باعتبار أنهما تذكار لصعود موسى إلى جبل سيناء ليأخذ لوحي الشريعة اللذين كتب الرب عليهما الوصايا العشر. وهو صومٌ تطوعي، فوق ما طالبت الشريعة به! وكانت هناك أصوامٌ أخرى، فقد صام بنو إسرائيل يوماً كاملاً مع الصلاة والبكاء، بسبب حزنهم لاضطرارهم للقيام بحرب أهلية (قضاة 20: 26)، وصام دانيال النبي عن الطعام الشهي وعن الاغتسال والادِّهان مدة ثلاثة أسابيع بسبب حزنه، وبسبب انتظاره لإعلانٍ من الرب (دانيال 10: 3).

لماذا يصوم تلاميذ يوحنا؟

أما تلاميذ يوحنا فكانوا يصومون أصوام الطقس اليهودي. ولما سجن الملك هيرودس معلِّمهم المعمدان حزنوا، فصاموا وصلّوا طالبين أن ينقذ الله معلِّمهم من سجنه.

وسأل المسيح: «أَتَقْدِرُونَ أَنْ تَجْعَلُوا بَنِي ٱلْعُرْسِ يَصُومُونَ مَا دَامَ ٱلْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ وَلٰكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ» (لوقا 5: 34، 35). وفي هذا القول شبَّه المسيحُ يوحنا المعمدانَ، كما شبَّه نفسه بعريس، وتلاميذهما بأنهم بنو العرس. فلن يصوم بنو العرس والعريس معهم. ولكن يحقُّ لتلاميذه أن يصوموا ويصلّوا طالبين نجاته، لأنه كان سجيناً.

ولم يكن اليهود يقيمون مراسيم عبادة في حفلات الزفاف، كما نفعل اليوم، بل كانت وليمة العُرس عندهم هي كل شيء. ففي يوم العُرس يُحضِر العريس عروسه من بيتها إلى بيته في موكبٍ يجتاز كل طرقات القرية، يسمعان منهم كل تمنياتهم لهما بالسعادة، ثم يبدأ العشاء الذي يستمر طول الليل. وبالطبع لن يصوم الناس في يوم العرس.

لماذا لا يصوم تلاميذ المسيح؟

شبَّه المسيح ملكوت السماوات بحفل عرس، وشبَّه نفسه بالعريس، وشبَّه تابعيه بالعروس. وسبب هذا التشبيه أن المسيح العريس هو الرأس المحب، والعائل، ونبع السرور. وأن المؤمنين عروسه لأنهم جسده. ولا يستطيع المؤمنون أن يصوموا ما دام العريس معهم.

كانت حياة المسيح على أرضنا مصدر الأفراح والولائم، فبمناسبة ميلاده، قال ملاك الرب: «أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ» (لوقا 2: 10، 11). ولأول مرة في تاريخ أرضنا، احتشد أكبر تجمُّع للملائكة يسبحون الله ويقولون: «ٱلْمَجْدُ لِلّٰهِ فِي ٱلأَعَالِي، وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ» (لوقا 2: 14). ودُعي اسمه «يسوع» لأنه يخلِّص شعبه من خطاياهم (متى 1: 21).

وأفراح خلاصه تبدأ وتستمر، لأنه عمانوئيل «الله معنا» (متى 1: 23). فبعدما تجسَّد المسيح، عمانوئيل، لم تعُد صورة الله عندنا صورة السيد البعيد المتعالي، بل صورة الأب المحب القريب، الذي ندعوه: «يا أبانا الذي في السماوات» (متى 6: 9)، والذي ندنو منه لنسمع تطويباته وهو يصف أصحاب السعادة (متى 5: 1-12)، والذي سكن في وسطنا بحسب وعده: «يَقُولُ ٱلرَّبُّ. وَيَكُونُونَ لِي شَعْباً فَأَسْكُنُ فِي وَسَطِكِ» (زكريا 2: 10 و11). وبسكناه وسطنا يرفع المتَّضعين، ويخفض المتكبرين، كما قالت العذراء المطوَّبة: «أَنْزَلَ ٱلأَعِزَّاءَ عَنِ ٱلْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ ٱلْمُتَّضِعِين» (لوقا 1: 52) «فَيُعْلَنُ مَجْدُ ٱلرَّبِّ وَيَرَاهُ كُلُّ بَشَرٍ جَمِيعاً» (إشعياء 40: 5).. وكل الذين يقبلونه وينالون خلاصه، يُقال لهم: «فتبتهجون بفرح لا يُنطَق به ومجيد» (1بطرس 1: 8).

متى يصوم تلاميذ المسيح؟

لا بد أن يصوم تلاميذ المسيح يوم صلبه: «سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ» (لوقا 5: 35). وارتفاع المسيح هو يوم عُلِّق على الصليب، فقد قال: «كَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 14، 15). وقال أيضاً: «وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ» (يوحنا 12: 32).

وقد تنبأ المسيح بصلبه قبل حدوثه، فقال لتلاميذه: «ٱبْن ٱلإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً، وَيُرْفَضَ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ» (مرقس 8: 31). ثم قال: «ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ» (مرقس 9: 31). ثم قال: «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِٱلْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى ٱلأُمَمِ، فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ» (مرقس 10: 33، 34)

ولا شك أن تلاميذ المسيح صاموا يوم رُفع مصلوباً، فكيف يقدرون أن يأكلوا ومعلِّمهم يعاني كل هذه الآلام؟ واليوم يصوم معظم المسيحيين يوم الجمعة العظيمة الذي فيه يذكرون آلام مخلِّصهم. ففي يوم الصليب تحقَّق قول سمعان الشيخ للعذراء القديسة مريم: «وَأَنْتِ أَيْضاً يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ» (لوقا 2: 35)

ويصوم تلاميذ المسيح مشتركين معه في آلامه، فقد وُهب لهم لا أن يؤمنوا به فقط، بل أيضاً أن يتألموا لأجله (فيلبي 1: 29). وعندما يتألمون يصومون في انكسار أمام الله طالبين عونه، وهم يعلمون أن أحزانهم ومتاعبهم مؤقَّتة «لأَنَّ لِلَحْظَةٍ غَضَبَهُ. حَيَاةٌ فِي رِضَاهُ. عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ يَبِيتُ ٱلْبُكَاءُ، وَفِي ٱلصَّبَاحِ تَرَنُّمٌ» (مزمور 30: 5)

وقد علَّمنا المسيح أن نصوم، فقال: «مَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَٱلْمُرَائِين... وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَٱدْهُنْ رَأْسَكَ وَٱغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِماً، بَلْ لأَبِيكَ ٱلَّذِي فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً» (متى 6: 16-18). وبالصلاة والصوم نتعلَّم أن نتحكم في أجسادنا، فلا تسود علينا، بل نسود نحن عليها، فنكون خداماً أفضل للمسيح.

أولاً - الحاجة إلى خَلْقٍ جديد

يتَّضح لنا من مثلي الرُّقعة والزِّقاق أن هدف مجيء المسيح إلى العالم لم يكن إصلاح أمر الإنسان، بل إعادة خلقه روحياً وتجديده وتغييره تغييراً كاملاً. ويتَّضح لنا أيضاً أن الذي يصبح خليقةً جديدة هو الذي يفتح قلبه للمسيح ولتعليمه.

1 - نحتاج إلى ثوب جديد، لأن الترقيع يؤذي ولا يُصلح:

قال المسيح عن الرقعة: «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ رُقْعَةً مِنْ ثَوْبٍ جَدِيدٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، وَإِلاَّ فَٱلْجَدِيدُ يَشُقُّهُ، وَٱلْعَتِيقُ لاَ تُوافِقُهُ ٱلرُّقْعَةُ ٱلَّتِي مِنَ ٱلْجَدِيدِ... لأَنَّ ٱلْمِلْءَ يَأْخُذُ مِنَ ٱلثَّوْبِ، فَيَصِيرُ ٱلْخَرْقُ أَرْدَأَ» (لوقا 5: 36 ومتى 9: 16).

نشأ المسيح في بيئة فقيرة، ولا بد أنه رأى السيدات الفقيرات يرقِّعن الثياب القديمة بقطع قماش جديد، فيزِدْنَ الأمر سوءاً. مع أن الأوجب والأنسب أن يتخلَّصن من القديم ويحصُلن على الجديد.

والمعنى المقصود من المثَل أننا نحتاج إلى تجديد كامل، وليس إلى ترقيع القديم. خلق الله أبوينا الأولين آدم وحواء في حالة البراءة، ولكنهما عصيا ربَّهما فأفسد العصيان كل شيء. ولما أخطأ آدم أخطأت ذريته، وسقطت، وصار بعضهم لبعضٍ عدو، فقتل الأخ أخاه! فسدت طبيعتنا ففسدت أعمالنا، وصارت نفوسنا أمَّارة بالسوء، وصرنا بالطبيعة أبناء الغضب. عتُق ثوبنا، الذي هو كناية عن برِّ الإنسان وصلاحه، وصار مهلهلاً لا يستر لابسه، ولهذا لا يرضى الخاطئ بحاله أبداً، ويجد نفسه عاجزاً عن إصلاح نفسه بنفسه. لقد حاول أبوانا الأولان عبثاً أن يسترا نفسيهما بأوراق الشجر، لأن الأرضي مؤقَّت وزائل، ولا يمكنه أن يُصلح الدائم الذي جهَّزه الله للحياة الأبدية.. وكان ما فعله آدم وحواء بأوراق الشجر محاولة ترقيع الثوب القديم بقماش جديد لا يناسبه ولا يساعده. فالترقيع هو محاولة الإنسان العاري أن يستر نفسه بمحاولة ذاتية لإصلاحها بالتوقُّف عن خطية معينة، يتبعها الامتناع عن خطية أخرى.. أعرف شخصاً جرح إصبعه، وكتب تعهُّداً على نفسه بإصلاح أموره، ولكنه عاد إلى سابق عهده، لأنه اعتمد على قوة إرادته وحدها، ولم يأخذ من المسيح قلباً جديداً.. وهناك من يجتهدون لأداء أعمال صالحة بمجهودهم الذاتي، ظانين أن كفَّة حسناتهم الكثيرة تزيل تأثير سيئاتهم، كما أن هناك من يطلب من المسيح أن يُجري بعض التحسينات فيهم، بينما كان الواجب أن يطلبوا منه تغييراً كاملاً، لأن حاجتنا هي إلى تجديد كامل. وهذا ما لا يفعله لنا إلا المسيح، آدم الثاني، الذي لا يُرَقِّع الطبيعة القديمة بل يمنحنا طبيعة جديدة.

2 - نحتاج إلى زقاق جديد لأن الزقاق القديم لا يقدر أن يستقبل الجديد:

«لَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ لِئَلاَّ تَشُقَّ ٱلْخَمْرُ ٱلْجَدِيدَةُ ٱلزِّقَاقَ، فَهِيَ تُهْرَقُ وَٱلزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ، فَتُحْفَظُ جَمِيعاً» (لوقا 5: 37، 38). كان اليهود يحتفظون بالخمر في أزقَّة تُصنع من جلود الجداء أو الحملان. فبعد ذبح الحيوان يعملون فتحة عند الرقبة، ينفخون فيها ليسلخوا الجلد، ثم يربطون مواضع الأرجل الأربعة، فيُصبح الجِلد زقاقاً يضعون الخمر فيه. وكانوا يضعون الخمر الجديدة في زقاقٍ جديدة، لأن الزقاق الجديدة تحتمل تمدُّد الخمر الناتج عن تخمُّرها، ويمتد عمرها إلى الوقت الذي تحتاجه الخمر لتتعتَّق.

والمعنى المقصود أن قلب المؤمن المتجدِّد يحوي معرفة المسيح الجديدة، التي تنمو وتزيد داخله. وكلما عرف نعمة الله يشتاق أن يعرفها أكثر، فينمو في النعمة (2بطرس 3: 18).

الزقاق إذاً هي الشكل والقالب، والخمر هي الروح والقلب. وكما أن الخمر الجديدة تتمدَّد فتحتاج إلى زقاق جديدة تتفاعل معها، هكذا روح المسيح فينا يوسِّع قلوبنا، ويعطينا حرية أكثر ومحبة أعمق للآخرين. وكل من يملأه روح المسيح لا يمكن أن يبقى في القالب القديم المتحجِّر الذي لا ينمو ولا يمتد، لأن الحب دائماً يجعل صاحبه يمتد إلى خارج نفسه ليخدم كل من يحتاجون إلى خدمته، مهما كان لونهم أو دينهم. كما أن الحياة الجديدة التي ننالها من المسيح تعطينا امتلاءً وغيرة لنوصِّل رسالة الخلاص إلى غيرنا، فنكون للمسيح شهوداً «فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى ٱلأَرْض»ِ (أعمال 1: 8). ونجدِّد عهودنا مع الله باستمرار طاعةً للوصية الرسولية: «تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ ٱللّٰهِ ٱلصَّالِحَةُ ٱلْمَرْضِيَّةُ ٱلْكَامِلَةُ» (رومية 12: 2). ونخلع الإنسان العتيق الفاسد، ونتجدَّد دوماً بروح ذهننا، ونلبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق (أفسس 4: 22-24 وكولوسي 3: 10).

ثانياً - الحاجة إلى تعليم جديد

جاء المسيح بتعليم جديد يُشبع القلب الجديد. وقد لاحظ الناس أنه يعلِّم تعليماً جديداً تؤيده المعجزات، فعندما شفى رجلاً تسكنه الأرواح الشريرة وقف الناس مذهولين يتساءلون: «مَا هٰذَا ٱلتَّعْلِيمُ ٱلْجَدِيدُ؟» (مرقس 1: 27).. وعندما شفى مريضاً بالفالج (الشلل) قال له: «يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ» (مرقس 2: 5) ثم أمره أن يقوم ويحمل فراشه، فبُهِت الحاضرون وقالوا: «مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هٰذَا قَطُّ!» (مرقس 2: 12)، لأنهم لم يسبق لهم أن سمعوا أو رأوا شيئاً مثل هذا من قبل. ولا زال تعليم المسيح باقياً شامخاً يعلو على كل تعليم، لأنه تعليم المحبة أم الفضائل.

وأذكر ثلاثة تعاليم جديدة جاءنا بها المسيح:

1 - تعليم جديد عن أبوَّة الله:

علَّمنا المسيح أن الله أبٌ محب وأنه قريبٌ منا، وقال: «صَلُّوا أَنْتُمْ هٰكَذَا: أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ..» (متى 6: 9-13). عندما نزلت شريعة موسى نزلت على جبل مضطرم بالنار، وسط ضباب وظلام وزوبعة وهتاف بوق، حتى استعفى السامعون من أن تُزاد لهم كلمة، وكان المنظر مخيفاً حتى قال موسى: «أَنَا مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ!» (عبرانيين 12: 18-21). أما شريعة المسيح فقد جاءت لسامعيها بالفرح، فقد جلس المسيح ودنا إليه تلاميذه فأخذ يعلِّمهم مبادئ ملكوته مبتدئاً بالقول «طوبى» بمعنى: يالسعادة! (متى 5: 1-3). ولما كان الله أبانا، فإن قوته تعمل في خدمة محبته. وقد كلَّمنا الله في المسيح كلمته المتجسد، الذي عاش بيننا، وكان يأكل ويشرب مع العشارين والخطاة، ودعا نفسه إلى بيت زكا العشار الخاطئ وقضى يوماً في بيته، فكشف لنا وجه الله المحب (لوقا 19: 5).

2 - تعليم جديد عن شريعة المحبة:

حين سُئل المسيح: «أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ ٱلْعُظْمَى فِي ٱلنَّامُوسِ؟» أجاب: «تُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ... وَٱلثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ ٱلْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ ٱلنَّامُوسُ كُلُّهُ وَٱلأَنْبِيَاءُ» (متى 22: 36-40). وشريعة المحبة تمنح حريةً «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16). وهو تعليم يسمو على شريعة موسى وفروضها الثقيلة، التي قال عنها الرسول بطرس إنها: «نِيرٌ عَلَى عُنُقِ ٱلتَّلاَمِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ» (أعمال 15: 10). وهكذا توقَّفت شريعة الطهارة الطقسيَّة، من غسل الجسد والملابس والأواني، وبدأ تطبيق التعليم عن طهارة القلب التي تؤهِّل صاحبها لمعاينة وجه الله (متى 5: 8)، وجاء الجديد بدل القديم، فتعلَّمنا أن ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً، بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس (رومية 14: 17).

ويسمو ناموس المحبة على كل ناموس، لأن المحبة تكميل الناموس (رومية 13: 10)، وهي أعظم من كل شريعة لأنها تجعل الواجب محبَّباً إلى نفوسنا. في العهد القديم يدعونا الناموسُ عبيداً، أما العهد الجديد فيدعونا «أبناء» و «أحباء» لأن الله أنعم علينا بالتبني، فقد قال المسيح: «لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً، لأَنَّ ٱلْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لٰكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي» (يوحنا 15: 15).. ومع أن الله يعتبرنا أبناء، إلا أننا نفتخر بأننا عبيده، نستعبد أنفسنا له بكل رغبتنا، لأننا محتاجون إلى ربوبيته. وهذه العبودية الاختيارية هي التي تحررنا. فعندما نسلم سلاحنا له ونخضع أمامه ننال منه الانتصار.

3 - تعليم جديد عن الخلاص:

تكلم الله في العهد القديم بالرموز التي تشير للمسيح، أما في العهد الجديد فقد تحقَّقت هذه الرموز.. أشارت ذبائح العهد القديم إلى حمل الله الوحيد الذي يرفع خطية العالم (يوحنا 1: 29)، وكان الختان علامةً في الجسد رمزاً إلى المعمودية التي تعبِّر عن الغسل والتنقية، وكانت وليمة الفصح احتفالاً بالنجاة السياسية والاقتصادية رمزاً لوليمة العشاء الرباني التي تعبِّر عن الحرية الروحية، وكان البخور في الهيكل رمزاً للصلاة التي قال المسيح عنها: «يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ» (لوقا 18: 1).

وجاءنا المسيح بطريق جديد للخلاص، لا بالطقوس والأعمال، لكن «بِٱلنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ» (أفسس 2: 5) فقد ظهرت نعمة الله المخلِّصة الساترة لخطايانا. وليست النعمة مثل الشريعة، فالشريعة كالمسطرة التي تُظهِر عوَجنا ونقصنا، ولكنها لا تساعدنا على إصلاح العوَج وتكميل النقص. أما النعمة فيقول صاحبها: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2كورنثوس 5: 17).

٭ ٭ ٭

وختم المسيح مثَل الزِّقاق بقوله: «لَيْسَ أَحَدٌ إِذَا شَرِبَ ٱلْعَتِيقَ يُرِيدُ لِلْوَقْتِ ٱلْجَدِيدَ، لأَنَّهُ يَقُولُ: ٱلْعَتِيقُ أَطْيَبُ» (آية 39). وهو قولٌ يصف ردَّ فعل من يستمع إلى تعليم جديد، فإنه لأول وهلة يقول إن العتيق الذي اعتاده أفضل. فعندما تُعرَض الديانة الروحية على إنسان يعتنق ديانةً طقسية يقف أمام هذا العرض موقف المتردد، لأنه مستريح إلى القديم الذي عاش فيه. ولكن عندما ينير روح الله قلبه فإنه ينفتح لكلمة الوحي المقدس. وهذا ما حدث مع شاول الطرسوسي الذي كان يهودياً متعصِّباً، ولكن عندما ظهر الله له بنور يفوق نور النهار، قال: «يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» (أعمال 9: 6)، فغيَّر الله حياته وجعل منه بولس الرسول.

ثالثاً - جاء المسيح بالخَلْق والتعليم الجديدين

كان اليهود يحلمون بالجديد، فكانوا يطلبون اسماً جديداً، كما قيل: «تُسَمَّيْنَ بِٱسْمٍ جَدِيدٍ يُعَيِّنُهُ فَمُ ٱلرَّبِّ» (إشعياء 62: 2) والاسم الجديد يعني شخصية جديدة وإنساناً جديداً، لأن المؤمنين يصيرون «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (1بطرس 1: 23).. وكانوا يريدون قلباً جديداً، طاعةً للأمر: «اِطْرَحُوا عَنْكُمْ كُلَّ مَعَاصِيكُمُ ٱلَّتِي عَصِيْتُمْ بِهَا، وَٱعْمَلُوا لأَنْفُسِكُمْ قَلْباً جَدِيداً وَرُوحاً جَدِيدَةً» (حزقيال 18: 31). وبتعليم المسيح الجديد وخلقه الجديد يصير المؤمنون «رِسَالَةَ ٱلْمَسِيحِ... مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ، لاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ» (2كورنثوس 3: 3).. وعندما يتغيَّر القلب وتتغير الشخصية يرنمون للرب ترنيمة جديدة ويقولون: «جَعَلَ فِي فَمِي تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً تَسْبِيحَةً لإِلٰهِنَا» (مزمور 40: 3)

وقد نتساءل: من أين لنا هذا الجديد؟ وكيف ندفع تكلفة الحصول عليه؟ ربما نظن أن الأسهل هو أن نرقِّع القديم. لكن الرب الصالح يقدم لنا الجديد الذي دفع هو كل تكلفته. فما أجمل أن نسمع سؤال إسحاق وهو يسير مع أبيه إبراهيم: «هُوَذَا ٱلنَّارُ وَٱلْحَطَبُ، وَلٰكِنْ أَيْنَ ٱلْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟» فيجيبه أب المؤمنين: «ٱللّٰهُ يَرَى لَهُ ٱلْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ٱبْنِي» (تكوين 22: 7، 8). ويكشف الله عن عيني إبراهيم فيرى كبشاً وراءه مُمسكاً في الغابة بقرنيه، يفدي به ابنه، ويدعو اسم المكان «يهوه يرأه» بمعنى أن الرب يرى ويدبِّر.

لا تحاول أن تصلح نفسك بنفسك، فالمحاولة فاشلة كما فشلت محاولة أبوينا الأوَّلين أن يسترا نفسيهما. لكن تعالَ إلى المسيح ليخلق منك إنساناً جديداً ويمتعك بحياة جديدة.

سؤالان

  1. ما هو التعليم الجديد الذي جاء به المسيح عن الله، وما هو الفرق بينه وبين التعليم القديم؟

  2. لماذا تفشل المجهودات الذاتية في تغيير الحياة؟ وما هو الطريق الصحيح للتغيير؟

(ب) الملكوت تعليم جديد مَثل الكاتب المتعلم

كُلُّ كَاتِبٍ مُتَعَلِّمٍ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ يُخْرِجُ مِنْ كَنْزِهِ جُدُداً وَعُتَقَاءَ (متى 13: 52).

لا يمكن أن نكون أعضاء في ملكوت الله إلا إن صرنا خليقة جديدة، وهذا ما يسمِّيه المسيح «ولادة من فوق» (يوحنا 3: 3، 7) و «ولادة من الماء والروح» (يوحنا 3: 5). ويحتاج المؤمنون الجدد إلى معلِّمين من نوع خاص، يكونون قد صاروا أعضاء في ملكوت الله بالولادة من فوق، ويكونون قد سمعوا دعوة الله لهم ليقدموا خدمتهم لغيرهم من المؤمنين، ويكون كل واحد منهم كاتباً متعلماً في ملكوت السموات، يشبه رجلاً رب بيت، يُخرج من كنزه جدداً وعتقاء.

الكاتب المتعلم هو الذي يتعلَّم أولاً في ملكوت الله، ثم يعلّم الآخرين ما تعلَّمه عن ملكوت الله، كما قال النبي: «أَعْطَانِي ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ لِسَانَ ٱلْمُتَعَلِّمِينَ لأَعْرِفَ أَنْ أُغِيثَ ٱلْمُعْيِيَ بِكَلِمَةٍ. يُوقِظُ كُلَّ صَبَاحٍ، يُوقِظُ لِي أُذُناً، لأَسْمَعَ كَٱلْمُتَعَلِّمِينَ» (إشعياء 50: 4)، فهو يصغي بأذن وقلب مفتوحين لله، فيأخذ منه ما يُغيث به المعيي.

أولاً - صفات الكاتب المتعلم

1 - هو كاتب:

  1. كانت وظيفة الكاتب بالغة الاحترام، لأنه ينسخ التوراة بيده. تصوَّر أنك تكتب الكتاب المقدس بيدك كلمة كلمة.. لا بد أنه يملأ عقلك، ويفيض القلب بما امتلأ به العقل، فتحكم الأفكار الإلهية سلوكك لأنها تصبح غذاء فكرك. ويتحقَّق فيك الوصف: «فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ مَسَرَّتُهُ، وَفِي نَامُوسِهِ يَلْهَجُ نَهَاراً وَلَيْلا» (مزمور 1: 2). وكلمة «يلهج» في اللغة العبرية تعني «يجتر». فالكاتب المتعلم يلتهم كلمة الله بسرعة، ثم يبدأ في التأمل فيها، فيسترجعها ويُمعن التفكير فيها من جديد ليستفيد منها أكثر.

  2. وكانت وظيفة الكاتب أيضاً أن يشرح كلمة الله للشعب. لقد عرفها وكتبها وانطبعت على عقله وقلبه، فيقدِّمها لغيره، لأنه يشعر بعظيم فائدتها، ويدرك أهمية المسؤولية التي وضعها الله عليه، لأن الوحي يقول: «ٱكْرِزْ بِٱلْكَلِمَةِ. ٱعْكُفْ عَلَى ذٰلِكَ فِي وَقْتٍ مُنَاسِبٍ وَغَيْرِ مُنَاسِبٍ» (2تيموثاوس 4: 2).

  3. وكان الكاتب المتعلم عادة يقدِّم صيغة مختصرة للشريعة، وهذا يعني أنه يجب أن يكون قد درسها وعرفها بعمق يسمح له أن يقدمها مختصرةً وبوضوح في كلمات قليلة. وقد اعتاد الناس أن يسألوا الكاتب المتعلم عن صيغته المختصرة للشريعة، فجاء مرة ناموسيٌّ (أي معلم للناموس) إلى المسيح يسأله عن الوصية الأولى والعظمى، وكأنه يطلب ملخصاً للشرائع من المسيح، فأجابه: «أَوَّل كُلِّ ٱلْوَصَايَا هِيَ: ٱسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هٰذِهِ هِيَ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلأُولَى. وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ» (مرقس 12: 28-31).

وقد كان الرسول بولس كاتباً متعلماً في ملكوت السماوات، وأراد لتلميذه تيموثاوس أن يكون كذلك، فقال له: «إِلَى أَنْ أَجِيءَ ٱعْكُفْ عَلَى ٱلْقِرَاءَةِ (تلاوة كلمة الله في اجتماعات الكنيسة) وَٱلْوَعْظِ (حثّ الناس على تطبيق ما سمعوه) وَٱلتَّعْلِيمِ (شرح العقيدة والدفاع عنها)... لاَحِظْ نَفْسَكَ وَٱلتَّعْلِيمَ وَدَاوِمْ عَلَى ذٰلِكَ، لأَنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ هٰذَا تُخَلِّصُ نَفْسَكَ وَٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَكَ أَيْضاً» (1تيموثاوس 4: 13، 16).

2 - هو عضو في ملكوت الله:

يصبح الكاتب المتعلم من أبناء الملكوت السماوات عندما يولد من الروح القدس، فيصير الله ملكاً على حياته وسيداً لتصرُّفاته، لأن دستور الملكوت يحكمه، فيطبِّق في حياته اليومية ما يقرأه وما يعلّمه للآخرين.

وعضوية هذا الكاتب المتعلم في ملكوت الله تجعله وديعاً، يجلس عند قدمي سيده ليتعلَّم منه ما يعلِّمه للآخرين، مثل مريم التي جلست عند قدمي المسيح تسمع كلامه (لوقا 10: 39)، وهو يصلي بتواضع: «طُرُقَكَ يَا رَبُّ عَرِّفْنِي. سُبُلَكَ عَلِّمْنِي. دَرِّبْنِي فِي حَقِّكَ وَعَلِّمْنِي. لأَنَّكَ أَنْتَ إِلٰهُ خَلاَصِي» (مزمور 25: 4، 5) فيجيبه الرب: «أَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَأُعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ» (خروج 4: 12).

وهناك معلمون لم يختبروا الولادة الثانية، تمتلئ عقولهم بالمعرفة دون أن تختبرها قلوبهم. ولكن الكاتب الذي نحتاجه هو الذي يعرف بعقله والذي اختبر بقلبه، فيستطيع أن يُشبع الآخرين مما شبع هو به. لقد عرف طريق الشبع السماوي، فيرشد الآخرين إلى طريق الشبع.

والكاتب المتعلم المولود من الله يتحدث حديث الاختبار الذي يختلف جداً عن حديث صاحب المعرفة الفلسفية العقلية. والكلمة «حكمة» في اللغة العبرية تعني تطبيق ما نعرفه، فإن «رَأْسَ ٱلْحِكْمَةِ مَخَافَةُ ٱلرَّبِّ» (مزمور 111: 10). أما كلمة «حكمة» في اليونانية فتعني المعرفة المجرَّدة. وقد نادى المسيح بضرورة المعرفة التي تتحوَّل سلوكاً وتطبيقاً عندما قال: «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ» (يوحنا : 37). وأتبع هذا بالقول: «مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ ٱلْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (آية 38). فإن كل من ارتوى من ماء الحياة يستطيع أن يروي الآخرين مما رواه الله به، ويقدر أن يشبعهم بالغذاء الروحي الذي شبع هو به.

3 - هو رب بيت:

  1. يشعر الكاتب المتعلم بمسؤوليته من نحو الذين كلَّفه الله برعايتهم، لأنه رب البيت المسؤول بعائلته. ولما كان قلبه متَّسعاً عامراً بالمحبة لله والناس، فإنه يعتبر أفراد مجتمعه أعضاء في عائلته الكبيرة، فيعاملهم كما يعامل أهل بيته، ويوجِّههم بالمحبة كما يوجِّه أفراد عائلته. بل إنه يقدِّم أولاده الروحيين على نفسه، ويرعى رعية الله، كما أوصى الرسول بولس قسوس كنيسة أفسس: «اِحْتَرِزُوا اِذاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ ٱلرَّعِيَّةِ ٱلَّتِي أَقَامَكُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً، لِتَرْعُوا كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي ٱقْتَنَاهَا بِدَمِهِ» (أعمال 20: 28). وكلمة «أسقف» تعني ناظر أو مشرف، يفتقد ويرعى الجميع.

  2. ورب البيت مسؤول عن إعالة أسرته ومدِّها بالطعام المغذي، ومنع ما يضرها ويؤذيها. والكاتب المتعلم كربِّ بيت يهتم بإطعام عائلته الطعام الباقي للحياة الأبدية، ويحرص على صحتهم الروحية بإبعاد كل تعليم زائف عنهم.

  3. ورب البيت يلد نفوساً للرب، كما قال الرسول بولس عن أنسيمس: «ٱلَّذِي وَلَدْتُهُ فِي قُيُودِي» (فليمون 10). وكان أنسيمس عبداً سرق بيت سيده في كولوسي، وهرب إلى العاصمة روما، وهناك سمع رسالة الرب من الرسول بولس، فتاب وصلُح حاله وصار مثل اسمه (أنسيمس يعني «نافع»). وكل كاتب متعلم يربح الناس للمسيح طاعةً للدعوة الإلهية: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ ٱلنَّاسِ» (مرقس 1: 17).

عندما سلَّم الواعظ الأمريكي دوايت مودي حياته للرب كان يعمل بائعاً في محل أحذية، فأصبح واعظاً باركه الرب، وقطع عهداً على نفسه أمام الله ألا تمضي عليه ليلة دون أن يكون قد كلَّم شخصاً عن المسيح. وذات ليلة كان متعَباً جداً، فذهب لينام. ولكنه تذكر أنه لم يكلم أحداً في ذلك اليوم عن المسيح، فارتدى ثيابه ونزل إلى الشارع، فوجد سكيراً دعاه للتوبة، فصاح السكران: «ليس هذا شغلك!» فأجابه: «بل هو شغلي!» فقال السكران: «إذاً لا بد أن تكون أنت مودي»! لقد كان مودي كاتباً متعلِّماً، رب بيت كبير، يقود البعيدين إلى الحياة القريبة من الرب. وكان جون وسلي قد عبَّر عن هذا بقوله: «كل العالم أبروشيتي» لأنه شعر أن العالم كله هو مسؤوليته.

ثانياً - عمل الكاتب المتعلم

1 - اقتنى كنزاً:

المؤمنون أوانٍ خزفية بسيطة صنعها الفخاري الأعظم، لكنه وضع داخلها كنزاً ثميناً (2كورنثوس 4: 7) يُخرج منه الكاتب المتعلم جُدداً وعُتقاء، لأن الكنز أصبح ملكه، وصار هو مسؤولاً عنه. وهذا ينطبق على كل كنز روحي وجسدي ومادي أنعم الرب علينا به، فقد أعطاه لنا وجعلنا وكلاء عليه لنستخدمه في خدمته.

  1. كنز الكاتب المتعلم هو كلمة الله: وهي أشهى من الذهب والإبريز الكثير (مزمور 19: 10)، وهي كنز لأنها تجيب على أسئلة الحياة الأساسية التي لا نجد لها إجابات إلا فيها، ومنها: كيف أحصل على غفران خطاياي، وكيف أتأكد أنها غُفرت؟ كيف أنال الحياة الأبدية، وكيف أضمنها لنفسي؟ كيف تُستجاب صلاتي؟ وغيرها من الأسئلة.. فكلمة الله تؤكد للتائب خلاصه وحياته الأبدية في المسيح الذي سدَّد ديون اللاجئين إليه فلا تُحسب عليهم. ولا يمكن أن يتقاضى الله أجرة الخطية من المسيح، وفي نفس الوقت يتقاضاها من الخاطئ الذي احتمى بفداء المسيح. فإن كنا قد احتمينا بكفارة المسيح فإنه يطهِّرنا ويستر خطايانا قائلاً: «إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَٱلْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَٱلثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَٱلدُّودِيِّ تَصِيرُ كَٱلصُّوفِ» (إشعياء 1: 18). «يَعُودُ يَرْحَمُنَا، يَدُوسُ آثَامَنَا، وَتُطْرَحُ فِي أَعْمَاقِ ٱلْبَحْرِ جَمِيعُ خَطَايَاهُمْ» (ميخا 7: 19). ولما كان الله قد غفر لنا، يجب علينا أن نغفر لأنفسنا ولغيرنا.

  2. كنز الكاتب المتعلم هو اختباره: تحوي الكلمة المقدسة حقائق تُترجم واقعاً حياتياً، وتحوي مواعيد سماوية تتحقق حرفياً. والكاتب المتعلم الذي حصل على كنز الكلمة الإلهية يحصل أيضاً على اختبارات يومية. لقد عرف النبي داود الكثير عن الله من وحي الله له، ولكنه أيضاً اختبر صلاح الله معه، فقال: «اَلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْ» (مزمور 23: 1).. واستمع الرسول بطرس لتعاليم المسيح، ومنها قوله: «إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لٰكِنَّ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 16: 17)، ولكنه اختبر اختبارات عظيمة، منها أنه كان على جبل التجلي، عندما التقى النبيان موسى وإيليا بالسيد المسيح، وتحدثوا عن صلبه، وسمعوا صوت الآب من المجد الأسنى قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سُررتُ به». وقال عن هذا: «كنا معه في الجبل المقدس، وعندنا الكلمة النبوية، وهي أثبت» (راجع 2بطرس 1: 16-19).

  3. الكاتب المتعلم حصل على كنزه ليوزِّعه: لم يعطنا الله كنز نوره السماوي لنخبئه تحت سرير الكسل، ولا تحت مشغوليات العمل. «هَلْ يُؤْتَى بِسِرَاجٍ لِيُوضَعَ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ أَوْ تَحْتَ ٱلسَّرِيرِ؟ أَلَيْسَ لِيُوضَعَ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ؟» (مرقس 4: 21). «وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 5: 15، 16). فالكاتب المتعلم يضيء على الآخرين بالنور الذي منحه الله له، ويشارك غيره في ما منحه الله له من معرفة وبركة. والمعروف أن كل ما نوزِّعه على غيرنا ينقص، إلا شيئان، هما المحبة والإيمان، فكلما شاركنا غيرنا في محبتنا وإيماننا زادا عندنا. والكاتب المتعلم يحب الناس، ويريد أن يختطف نفوس الخطاة من النار (يهوذا 23)، ولهذا فهو يشرح لهم إيمانه، ويوضح مباهج غفران الخطية لكل من يقابله.

هذا الكاتب الذي يملك الكنز لا يبخل بتقديم معونة لمَن يحتاج إلى عون، أو نصيحة لمن يحتاج إلى نُصح. إنه يشارك الرسول بولس قوله: «إِذِ ٱلضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ، فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ» (1كورنثوس 9: 16)، وقال أيضاً لقسوس كنيسة أفسس: «لَمْ أُؤَخِّرْ شَيْئاً مِنَ ٱلْفَوَائِدِ إِلاَّ وَأَخْبَرْتُكُمْ وَعَلَّمْتُكُمْ بِهِ جَهْراً وَفِي كُلِّ بَيْتٍ، شَاهِداً لِلْيَهُودِ وَٱلْيُونَانِيِّينَ بِٱلتَّوْبَةِ إِلَى ٱللّٰهِ وَٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (أعمال 20: 20، 21).

2 - الكاتب المتعلم يملك جدداً وعتقاء:

أذكر ثلاثة معانٍ للتعبير «جدد وعُتقاء»:

  1. هما العهدان القديم والجديد: وكلاهما يشهدان للعناية الإلهية، فالقديم يروي كيف شقَّ الله بقوته ومحبته مياه البحر الأحمر ليعبر العبيد الأذلاء على اليابسة، الأمر الذي لما شرع فيه الظالمون غرقوا! وفي مدة أربعين سنة أطعم المستضعفين في الأرض بالمن والسلوى، ورواهم بماء من الصخر، وقال لهم: «سِرْتُ بِكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، لَمْ تَبْلَ ثِيَابُكُمْ عَلَيْكُمْ، وَنَعْلُكَ لَمْ تَبْلَ عَلَى رِجْلِكَ» (تثنية 29: 5). وفي العهد الجديد نقرأ عن معجزات المسيح في إسكات العاصفة، وإطعام خمسة آلاف من خمس خبزات وسمكتين (مرقس 4: 35-41 و6: 38-44).

    ويحكي العهدان عن الفداء الإلهي، ففي العهد القديم نقرأ عن ستر آدم وحواء بأقمصة من جلد من ذبيحة حيوانية (تكوين 3: 21)، وفي العهد الجديد نقرأ عن الستر بدم المسيح (عبرانيين 9: 12). في القديم نقرأ عن وليمة الفصح تذكاراً لنجاة الأبكار من الموت (خروج 12: 13)، وفي الجديد نقرأ عن وليمة العشاء الرباني تذكاراً لنجاة كل من يؤمن بالمسيح الفادي من لعنة الخطية (لوقا 22: 19). في القديم قدَّم الله الشريعة، وفي الجديد قدَّم النعمة «لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا ٱلنِّعْمَةُ وَٱلْحَقُّ فَبِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ صَارَا» (يوحنا 1: 17).

  2. هما الاختبارات الجديدة والقديمة: عند الكاتب المتعلم معلومة قديمة، يضيف إليها كل يوم شيئاً جديداً، فيكون عنده دائماً كنز جديد مع مخزون الاختبارات القديمة، فيرنم ترنيمة جديدة بالإضافة إلى الترنيمة القديمة! ولذلك قال الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس: «أَتَذَكَّرُ ٱلإِيمَانَ ٱلْعَدِيمَ ٱلرِّيَاءِ ٱلَّذِي فِيكَ، ٱلَّذِي سَكَنَ أَوَّلاً فِي جَدَّتِكَ لَوْئِيسَ وَأُمِّكَ أَفْنِيكِي، وَلٰكِنِّي مُوقِنٌ أَنَّهُ فِيكَ أَيْضاً. فَلِهٰذَا ٱلسَّبَبِ أُذَكِّرُكَ أَنْ تُضْرِمَ أَيْضاً مَوْهِبَةَ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي فِيكَ بِوَضْعِ يَدَيَّ لأَنَّ ٱللّٰهَ لَمْ يُعْطِنَا رُوحَ ٱلْفَشَلِ، بَلْ رُوحَ ٱلْقُوَّةِ وَٱلْمَحَبَّةِ وَٱلنُّصْحِ» (2تيموثاوس 1: 5-7).

    وفي كل يوم يختبر المؤمن اختبارات جديدة مع الرب يضيفها إلى ما سبق أن اختبره، فلنردِّد مع النبي إرميا قوله: «لأَنَّ مَرَاحِمَهُ لاَ تَزُولُ هِيَ جَدِيدَةٌ فِي كُلِّ صَبَاحٍ. كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ. نَصِيبِي هُوَ ٱلرَّبُّ قَالَتْ نَفْسِي، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْجُوهُ. طَيِّبٌ هُوَ ٱلرَّبُّ لِلَّذِينَ يَتَرَجُّونَهُ، لِلنَّفْسِ ٱلَّتِي تَطْلُبُهُ» (مراثي إرميا 3: 22-25). ووجود الله معنا كل يوم يضمن لنا اختبارات متجدِّدة. وحتى لو استهلكت مصاعب الحياة بعض قوتنا الروحية، فإن الرب يمنحنا قوة روحية جديدة كل يوم، ويُلبسنا سلاحه الكامل فنقدر أن نثبت ضد مكايد إبليس (أفسس 6: 11).

  3. هما المعرفة والتطبيق: فالمعرفة هي المعلومة التي تعلمناها، والتطبيق هو ممارسة المعلومة الموجودة عندنا. نحن نعلم أن يسوع مات، ودُفن، وقام هازماً الموت، وهذه حقيقة تاريخية، ولكنها في الوقت نفسه اختبار معاصر، لأننا نقول: «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية 2: 20). وانتصار المسيح هو انتصار المؤمنين به، فيقولون: «ٱبْتُلِعَ ٱلْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ». أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟.. شُكْراً لِلّٰهِ ٱلَّذِي يُعْطِينَا ٱلْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (1كورنثوس 15: 54-57). القديم إذاً هو معرفة التاريخ، والجديد هو الاختبار المعاصر في الحياة اليومية الحاضرة.

دعونا ندعو الله الذي جعلنا خليقة جديدة في المسيح، وعمَّر قلوبنا بتعليمه الجديد، أن يجعل من كلٍّ منا كاتباً متعلماً في ملكوته، يُخرج من كنزه جدداً وعتقاء، لشِبع نفسه، وشِبع كل المحيطين به.

سؤالان

  1. ما هي البركة التي يأخذها الكاتب وهو ينسخ كلمة الله؟ وما هي البركة التي ينالها السامعون وهو يفسِّرها لهم؟

  2. اذكر باختصار ثلاثة معانٍ للجدد والعتقاء.

(ج) دعوتان واستجابتان مَثَل الأولاد الذين يلعبون في السوق

31 ثُمَّ قَالَ ٱلرَّبُّ: فَبِمَنْ أُشَبِّهُ أُنَاسَ هٰذَا ٱلْجِيلِ، وَمَاذَا يُشْبِهُونَ؟ 32يُشْبِهُونَ أَوْلاَداً جَالِسِينَ فِي ٱلسُّوقِ يُنَادُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا. نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَبْكُوا. 33لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ لاَ يَأْكُلُ خُبْزاً وَلاَ يَشْرَبُ خَمْراً، فَتَقُولُونَ: بِهِ شَيْطَانٌ. 34جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَتَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ. 35 وَٱلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ جَمِيعِ بَنِيهَا(لوقا 7: 31-35).

(ورد المثَل أيضاً في متى 11: 16-19).

رأينا في مثلي الرقعة والزقاق أن ملكوت الله حياة جديدة، ورأينا في مثل الكاتب المتعلم أن الذي يقوم بالتعليم في الملكوت معلم يقدِّم التعليم الجديد، ويعلن الله من خلاله رسالة حبه لكل الناس بمختلف خلفياتهم، ويتواصل معهم بواسطة هذا المعلم، ويستخدم كل وسيلة لتحريك مشاعرهم وأشواقهم نحوه. وهذا المعلم كارز يدعو الجميع للتوبة بأساليب متنوعة.

ويعلِّمنا مَثَل «الأولاد الذين يلعبون في السوق» أن هناك دعوة موجَّهة دائماً لكل الناس من كل نوع وبكل أسلوب، فقد كلَّم الله الآباء بالأنبياء بأنواع وطرق كثيرة (عبرانيين 1: 1). كما يعلمنا المثل أن بعض الناس يقبلون التعليم الجديد والبعض الآخر يرفضونه، بغضّ النظر عن أسلوبه. والذين يخافون الله ويقبلون تعليمه الحكيم يدافعون عن هذا التعليم ويبرِّرونه أمام العالم بكلامهم وأفعالهم.

وصف المسيح في هذا المثل أولاداً خرجوا ليلعبوا في ساحة القرية الكبرى. وكان القرويون يستخدمون الساحة في الصباح الباكر سوقاً يبيعون فيه ما يستغنون عنه، ويشترون فيه ما يحتاجون إليه. وكانت الساحة تخلو من الباعة والمشترين وقت الظهر تقريباً، فيتجمَّع الأولاد ليلعبوا فيها. ويقول هذا المثل إن الأولاد الذين خرجوا ليلعبوا انقسموا إلى فريقين، ووقفوا صفَّين متقابلين، فاختار أحد الفريقين أن يلعبوا لعبة «وليمة العُرس»، فزمَّروا لزملائهم ليبدأوا اللعبة بالرقص، ولكن الفريق الآخر لم يتجاوب، وقالوا إن مزاجهم ليس مزاج فرح وسعادة، ورفضوا أن يرقصوا.. فقرَّر أفراد الفريق الأول أن يلعبوا لعبة الجنازة وبدأوا ينوحون، ولكن الفريق الآخر عاد ورفض الاشتراك في اللعب بحُجَّة أنهم لا يرغبون في هذه اللعبة أيضاً، ورفضوا أن يبكوا أو أن يلطموا.. ويتَّضح من المثَل أن الفريق الثاني غير متعاون، بل ورافض لكل نداءٍ يُوجَّه إليهم مهما كان موضوعه، ولا يستجيبون لأية دعوة مهما كان نوعها.

وقصد المسيح بهذا المثل أن أناس جيله سمعوا دعوةً للتوبة من يوحنا المعمدان تنذرهم وتحذِّرهم، فلم ينتبهوا إليها، ولم يؤمنوا بها، وانتهى الأمر بالمعمدان إلى السجن في قلعة مدينة «مخيروس» ثم قُطعت رأسه (متى 14: 10). وجاءتهم دعوةٌ ثانية من المسيح فيها ترغيب وتشجيع وتشويق، فرفضوها، وانتهى الأمر بالمسيح إلى الصليب، الذي تبعته القيامة فالصعود إلى السماء، ومنها ننتظر عودته ثانيةً. والدعوتان مختلفتان في أسلوبهما، متَّفقتان في موضوعهما. وكان يجب أن أناس جيله يستجيبون لإحدى الوسيلتين الكرازيتين، فيتوبون ويرجعون إلى الله، ولكن كثيرين منهم رفضوا.

أولاً - دعوتان

هناك أوجه شبَه كثيرة بين المسيح والمعمدان، منها صلة القرابة الجسدية، فقد قال الملاك جبرائيل للعذراء مريم وهو يبشِّرها بالحبَل بالمسيح: «هُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضاً حُبْلَى بِٱبْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهٰذَا هُوَ ٱلشَّهْرُ ٱلسَّادِسُ لِتِلْكَ ٱلْمَدْعُوَّةِ عَاقِراً» (لوقا 1: 36). وقد طلب المسيح من المعمدان أن يعمِّده ليكمل كل بر (متى 3: 13-15). وشهد يوحنا للمسيح أنه المخلِّص الآتي إلى العالم، وأنه «حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 1: 29). وقال المعمدان عن المسيح: «وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ» (يوحنا 1: 34) وقال أيضاً: «يَنْبَغِي أَنَّ ذٰلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ، وَٱلَّذِي مِنَ ٱلأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ، وَمِنَ ٱلأَرْضِ يَتَكَلَّمُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ» (يوحنا 3: 30، 31). واشترك المسيح مع المعمدان في تعميد الناس بمعمودية التوبة، ونادى كلاهما بمجيء ملكوت الله (يوحنا 3: 22، 23).

وبالرغم من هذا التشابه فإننا نرى بينهما اختلافاً في أسلوب الكرازة، فقد استخدم المعمدان أسلوب التوبيخ والتحذير، وهو ما يسميه المثل «نُحنا لكم». واستخدم المسيح أسلوب التشجيع والتشويق، وهو ما يسميه المثل «زمَّرنا لكم». ونحن نحتاج إلى رسالة التحذير، كما نحتاج إلى رسالة التشويق، لأن بعض الناس يستجيبون للتوبيخ، وبعضهم الآخر يقبلون الكلمة الرقيقة. ويستخدم الله معنا طول الأناة، كما يستخدم التأديب لنتوب ونرجع إليه، ونصبح أبناء الملكوت.

1 - دعوة التوبيخ والتحذير:

كان يوحنا ناسكاً متقشِّفاً حتى قالوا إنه «لاَ يَأْكُلُ خُبْزاً وَلاَ يَشْرَبُ خَمْراً» (لوقا 7: 33) وكان يلبس وبر الإبل، ويأكل جراداً وعسلاً برياً (متى 3: 4)، ووصف نفسه بالقول: «أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ ٱلنَّبِيُّ» (يوحنا 1: 23). وكان وعظه تحذيرياً نبَّر فيه على الدينونة قائلاً: «يَا أَوْلاَدَ ٱلأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ ٱلْغَضَبِ ٱلآتِي؟ فَٱصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِٱلتَّوْبَةِ...وَٱلآنَ قَدْ وُضِعَتِ ٱلْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ ٱلشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّارِ» (متى 3: 7، 8، 10).. وكان مستمعو يوحنا من العشارين والخطاة، ومن الجنود الذين سألوه: «وَمَاذَا نَفْعَلُ نَحْنُ؟» فَأجَابَ: «لاَ تَظْلِمُوا أَحَداً، وَلاَ تَشُوا بِأَحَدٍ، وَٱكْتَفُوا بِعَلاَئِفِكُمْ» (لوقا 3: 14). وهذا الوعظ دعوة للتوبة وعمل الصلاح، خوفاً من العقاب الإلهي، وتحذيراً من الدينونة الأخيرة. وقد وصف واعظٌ حكيم يوحنا المعمدان بقوله: «كان يوحنا كئيباً وحقيقياً مثل جنازة، ولا مفرَّ من الاستماع إليه».

2 - دعوة التشويق والتشجيع:

جاء المسيح يدعو الناس لحياة التوبة المفرحة، «وَبَعْدَ مَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ وَيَقُولُ: «قَدْ كَمَلَ ٱلزَّمَانُ وَٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِٱلإِنْجِيلِ» (مرقس 1: 14، 15)، والإنجيل هو الخبر المفرح. والمسيح هو المملوء « نِعْمَةً وَحَقّاً... وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ. لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا ٱلنِّعْمَةُ وَٱلْحَقُّ فَبِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ صَارَا» (يوحنا 1: 14، 16، 17)، وقد قال عن نفسه: «أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ» (يوحنا 10: 10)، وكان يلبي الدعوات ويشارك في الأفراح، وقد أجرى معجزته الأولى في حفل عرس لتستمر أفراح المدعوّين وسعادة أصحاب العرس (يوحنا 2: 1-11)، وذهب إلى بيت لاوي العشار، وجاء عشارون وخطاةٌ كثيرون واتكأوا ليأكلوا معه ومع تلاميذه (متى 9: 10). وضرب مثل «الابن الضال» ليعلن أنه «هٰكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ» (لوقا 15: 7).

وأعلن المسيح ترحيبه بكل من يُقبل إليه حين قرأ في مجمع الناصرة ما تنبأ به النبي إشعياء عنه قبل ميلاده بسبعمئة سنة (61: 1-3) والذي يقول: «رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِٱلْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ فِي ٱلْحُرِّيَّةِ» (لوقا 4: 18). وحقَّق المسيح إعلان محبته بأعمال رحمته، فعندما كان في بيت بطرس في كفرناحوم شفى حماة بطرس من الحمى، وفي المساء «قَدَّمُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ ٱلسُّقَمَاءِ وَٱلْمَجَانِينَ. وَكَانَتِ ٱلْمَدِينَةُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى ٱلْبَابِ. فَشَفَى كَثِيرِينَ كَانُوا مَرْضَى بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَخْرَجَ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً» (مرقس 1: 32-34).

وقد أحب المسيح الخطاة والزناة واللصوص ورحَّب بهم وأكل معهم، فاتَّهمه شيوخ اليهود بأنه محبٌّ للعشارين والخطاة (متى 11: 19 ولوقا 7: 34)، أما هو فقال: «مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً» (يوحنا 6: 37)، ورحَّب بالمرأة الخاطئة التي جاءت بقارورة طيب، ووقفت من ورائه عند قدميه وهو متكئ «بَاكِيَةً، وَٱبْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِٱلدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِٱلطِّيبِ» (لوقا 7: 38)، «فقال: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا ٱلْكَثِيرَةُ لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيراً» (لوقا 7: 47). وطلب المسيح من الآب أن يبقى تلاميذه في العالم ليكونوا نوره وملحه، وشبَّههم بمدينة موضوعة على جبل، وسراج موضوع على منارة (متى 5: 13-16)، وصلى من أجلهم: «لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ» (يوحنا 17: 15) فيكونون مثل سفينة وسط الماء، دون أن يدخلها الماء.

وقد اتَّبع كثيرون من تلاميذ المسيح طريقته في الوعظ، ومنهم يوسف القبرصي الذي أُطلق عليه لقب «ابن الوعظ» لأنه كان يشجع الناس (أعمال 5: 36).

ثانياً - استجابتان

كما تليِّن الشمس الشمع وتيبِّس الطين، يقبل البعض رسالة المسيح شمس البر وتلين قلوبهم لها، بينما تتقسَّى قلوب البعض الآخر وترفض قبولها. ونجد استجابتين مختلفتين للأسلوبين المختلفين للوعظ:

1 - الاستجابة الرافضة:

رفض أبناء جيل المسيح رسالة اللطف واعتبروها تسيُّباً، كما سبق أن رفضوا رسالة التوبيخ واعتبروها تزمُّتاً. وواضح أن الواعظ لا يقدر أن يجتذب كل الناس، ولا يمكن أن يُرضي كل سامع، وعلى الوعاظ أن يتوقَّعوا الرفض بل والمقاومة من بعض سامعيهم، فقد قال المسيح لتلاميذه: «تُسَاقُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ. فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ» (متى 10: 18 و19).

ومع أن بعض الناس يرون في كلمة الله حكمة، ويدركون أن «رَأْسَ ٱلْحِكْمَةِ مَخَافَةُ ٱلرَّبّ»ِ (مزمور 111: 10)، إلا أن كثيرين يرون فيها جهالة وحماقة. وقد أوضح الوحي هذه الحقيقة المؤسفة بقوله: «لأَنَّ ٱلْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَٱلْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُوَّةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ. لأَنَّ جَهَالَةَ ٱللّٰهِ أَحْكَمُ مِنَ ٱلنَّاسِ! وَضَعْفَ ٱللّٰهِ أَقْوَى مِنَ ٱلنَّاسِ!» (1كورنثوس 1: 22-25). وواضحٌ من هذا أن اليهود لم يقتنعوا بتعاليم المسيح السامية ولا بمعجزاته الخارقة، فطلبوا آية جديدة، كأن ينزل من على الصليب، أو أن يردَّ المُلك الأرضي لبني إسرائيل. وطلب اليونانيون براهين منطقية يقبلونها، لا إعلانات إلهية يجب أن يقبلوها، واعتبروا معجزات المسيح خرافات أو أعمال سحر. وفي كل عصر نجد من يطلبون المعجزة، أو يعظمون العقل البشري. غير أن رسل المسيح، ومعهم كل المدعوّين من الله، رأوا في المسيح المصلوب مخلِّصاً وفادياً، فكان الخلاص بالصليب هو حكمة الله السامية حتى لو حسبه بعض الناس جهالة، وكان الفداء بالدم قوة الله المنقذة، حتى لو حسبه بعض الناس ضعفاً.. هكذا ظهر لبعض الناس أن الأبواق ضعيفة أمام أسوار أريحا الشامخة (يشوع 6: 20)، وأن مقلاع داود لا شيء أمام ضخامة جليات الجبار (1صموئيل 17: 45). لكن قوة الله وحكمته جعلت من الأبواق والمقلاع وسائل انتصار مذهلة.

وقد ظهر المسيح في الجسد إنساناً بسيطاً، فرفضه اليهود، ولكن «ٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ. كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذٰلِكَ ٱلْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ؟» (لوقا 20: 17، 18)

لما أخطأ أبوانا الأوَّلان وأكلا من الشجرة المنهي عنها اكتشفا عريهما واختبئا من الله، ففتَّش عليهما وقدَّم الحل لمشكلتهما بحكمته السامية. فدبَّر أمر فدائهما بذبيحة ستر عريهما بجلدها، وهذا هو لباس البر من عند الله. وهكذا أعلن الله في جنة عدن لأبوينا الأوَّلين طريق الخلاص العظيم، إذ قال للحية التي أغوتهما: «هُوَ (نسل المرأة) يَسْحَقُ رَأْسَكِ (الحية) وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تكوين 3: 15). ولا يوجد إلا نسل امرأة واحد، هو المسيح ابن مريم. ولم يسحق رأس الحية أحدٌ غيره، فهو الوحيد الذي لم يخطئ. وقد سحقت الحيِّة عقبه يوم صليبه، لكنه قام منتصراً غالباً ولكي يغلب.

وكان يجب على الرافضين أن يدركوا حكمة الله في الصليب، لأن فيه تتلاقى عدالة الله مع رحمته. فالله غفور رحيم، ولكنه قاضٍ عادل. ولو أنه كان غفوراً فقط ما كان عادلاً. ولو أنه كان عادلاً فقط ما كان غفوراً. لكن في الصليب تلتقي العدالة مع الرحمة، كما قال المرنم: «ٱلرَّحْمَةُ وَٱلْحَقُّ ٱلْتَقَيَا. ٱلْبِرُّ وَٱلسَّلاَمُ تَلاَثَمَا» (مزمور 85: 10). وأساس هذه الحكمة إلهي، وموضوعها روحي، وهي أقوى من كل حكمة أرضية وأسمى من كل شريعة وضعية، لأنها أبدية تقودنا إلى الله، وما أسعد من يدركها.

2 - الاستجابة المنفتحة:

ولكننا نشكر الله على الذين قبلوا رسالة التوبة على فم يوحنا المعمدان، ومنهم تلاميذ المعمدان، ومنهم الجنود القساة الذين تابوا بعد أن سمعوه. ونحن نمجد المسيح على كل من فتح قلبه له، ومنهم زكا العشار الذي برهن على صدق توبته فقال المسيح عنه: «ٱلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضاً ٱبْنُ إِبْرَاهِيمَ» (لوقا 19: 9)، ومنهم المرأة السامرية التي تابت وصارت المبشِّرة بالخلاص لمدينتها (يوحنا 4: 28-30)، ومنهم قائد المئة الروماني الذي قال المسيح عن إيمانه: «لَمْ أَجِدْ وَلاَ فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَاناً بِمِقْدَارِ هٰذَا» (متى 8: 10). ولا زال الرب يضمّ إلى الكنيسة الذين يخلصون.

3 - التائبون يدافعون عن حكمة الله:

ختم المسيح مثل «الأولاد الذين يلعبون في السوق» بقوله: «والحكمة تبرَّرت من جميع بنيها» بمعنى أن الذين يقبلون رسالة التوبة هم أبناء الحكمة الذين يدافعون عنها ويبرِّرونها، إذ يستجيبون لصوت العقل والضمير، ويقبلون رسالة الله، سواء كان الوعظ بها توبيخاً وترهيباً أو تشويقاً وترغيباً. وكل مَن يقبل رسالة الله يجب أن يدافع عن الحكمة التي آمن بها ويبرِّرها بالتغيير الذي أحدثته التوبة فيه، وبسلوكه الجديد، كما قال الرسول بولس للكورنثيين: «أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا، مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا، مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً مِنْ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ. ظَاهِرِينَ أَنَّكُمْ رِسَالَةُ ٱلْمَسِيحِ» (2كورنثوس 3: 2 و3). وهذا يعني أن الناس ستقرأ رسالة المؤمن، أراد أم لم يُرد، شعر أم لم يشعر. فهل ستُقرأ فيك رسالة حب، أم رسالة كراهية.. رسالة خدمة أم رسالة أنانية.. رسالة قداسة أم رسالة نجاسة؟.

فيا من قبلتم رسالة المسيح وتبرَّرتم بكفارته، أنتم الذين ستبرِّرون حكمة الله وتدافعون عنها، لأن الحكمة يجب أن تتبرَّر من بنيها لا من الأغراب عنها.. ولن يبرر الملائكة حكمة الله، لأن الذين سقطوا منهم حفظهم الله إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام (يهوذا 6) ويقول الوحي: «حَقّاً لَيْسَ يُمْسِكُ ٱلْمَلاَئِكَةَ، بَلْ يُمْسِكُ نَسْلَ إِبْرَاهِيمَ» (عبرانيين 2: 16). فلا بد أن يبرِّر حكمة الله الذين استفادوا من هذه الحكمة. وهذه مسؤولية صعبة، غير أنها مسؤولية مفرحة.

هل كلَّمك الله بالمحبة، كما قال المسيح «زمرنا لكم»؟ أو هل تعامل معك بالتأديب «نُحنا لكم»؟ أحياناً يغدق لك العطاء لتتوب، وأحياناً يضغط عليك ويحاصرك حتى تسلِّم أمورك له.. وفي الحالتين هو يريدك أن تتمتع بكل بركات غفرانه وفدائه.

سؤالان

  1. ما هي الحكمة، وكيف نكون حكماء؟

  2. ماذا نفعل لنبرر الحكمة؟

2 - تشبيهات لملكوت الله

(أ) أراضي الملكوت - مثل الزارع (متى 13: 3-9 و18-23)

(ب) أعداء الملكوت - مثلا الزوان وسط الحنطة، والشبكة في البحر (متى 13: 24-30 و47-50)

(ج) نمو الملكوت - مثل البذور التي تنمو سرا (مرقس 4: 26-29)

(د) قوة الملكوت - مثلا حبة الخردل والخميرة (متى 13: 31-33)

(ه) عظمة قيمة الملكوت - مثلا الكنز المخفى، واللؤلؤة الثمينة (متى 13: 44-46)

(أ) أراضي الملكوت مثل الزارع

3فَكَلَّمَهُمْ كَثِيراً بِأَمْثَالٍ قَائِلاً: هُوَذَا ٱلزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، 4وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى ٱلطَّرِيقِ، فَجَاءَتِ ٱلطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ. 5وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلأَمَاكِنِ ٱلْمُحْجِرَةِ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. 6وَلٰكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ ٱلشَّمْسُ ٱحْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. 7وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلشَّوْكِ، فَطَلَعَ ٱلشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. 8وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَراً، بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ. 9مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ

18فَٱسْمَعُوا أَنْتُمْ مَثَلَ ٱلزَّارِعِ: 19كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ كَلِمَةَ ٱلْمَلَكُوتِ وَلاَ يَفْهَمُ، فَيَأْتِي ٱلشِّرِّيرُ وَيَخْطَفُ مَا قَدْ زُرِعَ فِي قَلْبِهِ. هٰذَا هُوَ ٱلْمَزْرُوعُ عَلَى ٱلطَّرِيقِ. 20وَٱلْمَزْرُوعُ عَلَى ٱلأَمَاكِنِ ٱلْمُحْجِرَةِ هُوَ ٱلَّذِي يَسْمَعُ ٱلْكَلِمَةَ، وَحَالاً يَقْبَلُهَا بِفَرَحٍ، 21وَلٰكِنْ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي ذَاتِهِ، بَلْ هُوَ إِلَى حِينٍ. فَإِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ ٱضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ ٱلْكَلِمَةِ فَحَالاً يَعْثُرُ. 22وَٱلْمَزْرُوعُ بَيْنَ ٱلشَّوْكِ هُوَ ٱلَّذِي يَسْمَعُ ٱلْكَلِمَةَ، وَهَمُّ هٰذَا ٱلْعَالَمِ وَغُرُورُ ٱلْغِنَى يَخْنُقَانِ ٱلْكَلِمَةَ فَيَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ. 23وَأَمَّا ٱلْمَزْرُوعُ عَلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ فَهُوَ ٱلَّذِي يَسْمَعُ ٱلْكَلِمَةَ وَيَفْهَمُ. وَهُوَ ٱلَّذِي يَأْتِي بِثَمَرٍ، فَيَصْنَعُ بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ (متى 13: 3-9 و18-23).

(ورد هذا المثل أيضاً في مرقس 4: 2-9 و14-20 ولوقا 8: 4-8 و11-15)

رأينا في الأمثال الثلاثة السابقة أن الحياة المسيحية حياة جديدة، كالثوب الجديد، ورأينا أن كل كاتب متعلم في ملكوت السماوات يعظ عن هذه الحياة الجديدة. ثم رأينا أن للوعظ أساليب مختلفة، كما أن استجابة السامعين للوعظ تختلف. وفي «مثل الزارع» يشبِّه المسيح الكاتب المتعلم بفلاح يلقي بذوره على الأرض، فيجد أن مستمعيه أربعة أنواع: الذين يشبهون الطريق، والأرض المحجرة، والأرض الشائكة، والأرض الجيدة. ولا تنمو البذور إلا في الأرض الجيدة.. والبذور هي كلمة الله التي إن دخلت القلب تمنحه حياة روحية جديدة تتجدَّد فيه باستمرار، وتجعل القلب يعطي ثمراً صالحاً ووفيراً، وتحفظه من الخطإ، فيقول المؤمن: «خَبَّأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْكَ» (مزمور 119: 11).

«خرج الزارع ليزرع». لكن بعض البذور لم تثمر ليس لخطإٍ في الزارع لأن يده مدرَّبة وحكيمة.. وليس بسبب عيب في البذور بدليل أن بعضها نما وأثمر، وكلمة الله فعّالة فهي «سَيْفُ ٱلرُّوح»، وهي «أَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ ٱلنَّفْسِ وَٱلرُّوحِ وَٱلْمَفَاصِلِ وَٱلْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ ٱلْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (أفسس 6: 17 وهي كنارٍ وكمطرقة تحطم الصخر (إرميا 23: 29). ويأمرنا الوحي: «ٱقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ ٱلْكَلِمَةَ ٱلْمَغْرُوسَةَ ٱلْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ» (يعقوب 1: 21) فنصبح «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (1بطرس 1: 23)

إذاً لا بد أن يكون العيب في التربة، لأن البذور هي نفس البذور في كل حالة، والزارع هو نفسه لم يتغيَّر. كما يعود العيب على إبليس الذي يخطف البذور، وإلى القلب البشري الذي يرفضها.

ومع أن الزارع يعلم أن التربة أنواع، وأن جزءاً من بذوره سيضيع بدون فائدة، إلا أنه يستمر يلقيها بسخاء، وينتظر منها أن تثمر، لأنه يريد أن يبارك الأرض ويجعلها تثمر، ولأن الثمر يُفرح قلبه، ولأنه يريد أن يَشبع بالنفوس الراجعة إلى الله، ولأنه يريد أن تجد تلك النفوس شِبعها. والزارع يرجو أن تتغيَّر بعض أنواع التربة نتيجة العناية والرعاية، فقد تُشَقُّ الطريق فتقبل البذور بعد أن رفضتها، وقد تُزال الأحجار فتجد البذور عمق أرض، وقد تُقلَع الأشواك فلا تعود تخنق النبات الصالح.

أولاً - البذور التي سقطت على الطريق البذور المسروقة

خرج الزارع ليزرع، هذا فضل نعمة الله الواضحة في أنه يلقي البذور حتى على الطريق، الذي هو قلب الإنسان المهمل الذي يعطي إبليس فرصة خطف الكلمة فلا تثمر فيه. وكم سرق إبليس البذور الصالحة، حتى من الفريسيين المتديِّنين، ومن أهل كورزين وبيت صيدا، البلدتين اللتين رأتا معجزات المسيح، فقال لهما: «وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ ٱلْقُوَّاتُ ٱلْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا، لَتَابَتَا قَدِيماً فِي ٱلْمُسُوحِ وَٱلرَّمَادِ» (متى 11: 21)

ويقول المسيح إن صاحب «الأرض الطريق» «لا يفهم» قيمة الكلمة ولا معناها (متى 13: 19) ولا يقدِّر قيمة البذور، ولا يبالي إلا بأن يحيا لدنياه. كل شيء عنده خارجي لا يترك في داخله تأثيراً. يسمع بأذنه لا بقلبه، فلا ينتبه لما يسمعه ولا يدرك معناه الروحي، ولا يعتبر أنه هو المخاطب. إنه كالطريق المكشوف للطير وللرياح، اللذين يسرقان البذور، فلا يبقى منها شيء في الأرض.

تُرى لماذا صارت تلك الأرض طريقاً؟.. لا بد أنها كانت يوماً أرضاً صالحة، ولكن دَوْس أقدام الإنسان والحيوان حجَّرها. ويتقسى قلب الإنسان بسبب التعوُّد على الخطية. لقد خلق الله الإنسان مستقيماً «أَمَّا هُمْ فَطَلَبُوا ٱخْتِرَاعَاتٍ كَثِيرَةً» (جامعة 7: 29). إنهم مثل المدعوّين إلى عُرس ابن الملك «لٰكِنَّهُمْ تَهَاوَنُوا وَمَضَوْا، وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ، وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ» (متى 22: 5) لأنهم أحسوا أن الحقل والتجارة أكثر أهمية من التعبير عن مشاعر الاحترام للملك، أو الاشتراك مع ابن الملك في حفل عرسه. كان تقييمهم خاطئاً، فقيَّموا المؤقَّت على أنه أهم من الدائم، وقيَّموا الرخيص على أنه أهم من الثمين، وقيَّموا المصلحة الذاتية الحاضرة أكثر من المصلحة الأبدية الباقية، لأن «إِلٰهَ هٰذَا ٱلدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ ٱلْمَسِيحِ» (2كورنثوس 4: 4)

ليحفظك الرب من أن يكون قلبك كالطريق، فلا تبالي بالمهم، ولا تقدِّر قيمة الأشياء الثمينة، لأن اللامبالي يشبه الذي لا يرى في الأهرام العظيمة إلا كومة أحجار، ولا يسمع في السيمفونية الرائعة إلا أصواتاً مختلطة.

ثانياً - البذور التي سقطت على الحجر البذور العطشانة

الأرض المحجرة طبقةٌ رقيقة من التربة فوق أرض كلها حجرية، ليس لها عمق أرض، فتنمو فيها البذرة وتصبح نبتة، ولكن مصيرها مثل يقطينة يونان التي «بِنْتَ لَيْلَةٍ كَانَتْ وَبِنْتَ لَيْلَةٍ هَلَكَتْ» (يونان 4: 10)

وأصحاب الأرض المحجرة أفضل من الأرض «الطريق» لأنهم قبلوا البذور فنمَت، ولكن الحجر لا يسمح للجذور أن تمتد لتحصل على الغذاء والماء، فتموت النبتة المبتدئة. إن ميولهم دينية، ربما بسبب التأثير العائلي، أو بسبب تربيتهم الأولى، أو بسبب التأثير الحضاري للدين، فيسمعون الكلمة ويقبلونها بسرور. لكن ما أن تلفحهم حرارة شمس الصعوبات حتى يحترق فيهم النبات الغض ويذبل ويموت. إنهم يشبهون الكاتب الذي لم يكن بعيداً عن ملكوت الله، ولكنه لم يكن قريباً منه، ولا دخله، فقال له المسيح: «لَسْتَ بَعِيداً عَنْ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ» (مرقس 12: 34). إذاً لم يكن تجديد هؤلاء كاذباً، لكنه لم يكن عميقاً، بل كان سطحياً ومؤقتاً. لم يتأصَّل الحق في ذاكرتهم وضميرهم، فانتهى بسبب الصعوبة والاضطهاد، وتغلَّبت الإغراءات الوقتية على المجد غير المنظور.

صاحب الأرض المحجرة إذاً يعجب بالكلمة ويحبها ويريد أن يتمسَّك بها، لكنه غير مستعد أن يدفع تكلفة اتِّباع المسيح. إنه مثل الشاب الذي قال للمسيح: «يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (لوقا 9: 57، 58)، فهناك مَن يحسبون تكلفة الاتِّباع ويستكثرونها، ويرتدّون. إنهم مثل يهوذا الإسخريوطي الذي ربما حسب أنه سيكون وزيراً في مملكة أرضية. ولكن عندما اكتشف أن المسيح يقيم ملكوتاً روحياً، وأن اتِّباعه يعني التضحية، باع سيده بثلاثين قطعة فضة (متى 26: 15). وقد قال الرب للنبي حزقيال إن رسالته ستكون لبعض الناس «كَشِعْرِ أَشْوَاقٍ لِجَمِيلِ ٱلصَّوْتِ يُحْسِنُ ٱلْعَزْفَ، فَيَسْمَعُونَ كَلاَمَكَ وَلاَ يَعْمَلُونَ بِهِ» (حزقيال 33: 32).

ومن أصحاب القلوب المحجرة جماعة أشبعهم المسيح من خمس خبزات وسمكتين، فآمنوا به. ولكن لما بدأ يتكلم عن أن جسده مأكل حق وأن دمه مشرب حق رجعوا إلى الوراء، لأنهم رأوا الكلام صعباً ومُبهَماً، ولم يريدوا أن يفكروا في المعنى الروحي الكامن وراءه (يوحنا 6: 53-66). لقد قبلوا تعليم المسيح بسرعة، لكن صعوبة المعاني جعلتهم يرتدّون. فلم يكن سماعهم الكلمة كافياً لخلاص نفوسهم، إذ كان يجب أن يستمروا في سيرهم مع المسيح. «وَكَانَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ سَائِرِينَ مَعَهُ، فَٱلْتَفَتَ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَٱمْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً» (لوقا 14: 25-27).

لقد كلَّف خلاصنا غالياً، لأن المسيح تجسَّد وصُلب ليتمِّمه. ومهما كلفنا اتِّباع المسيح فهو ليس شيئاً بالمقارنة بالثمن الذي دفعه المسيح، فنقول: «مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱلْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضَِيْقٌ أَمِ ٱضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ ٱلنَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ. وَلٰكِنَّنَا فِي هٰذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ ٱنْتِصَارُنَا بِٱلَّذِي أَحَبَّنَا. فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ، وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ، وَلاَ قُوَّاتِ، وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ، وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية 8: 35-39).

ليحفظك الرب من الأحجار التي تقتل نمو كلمة الله فيك.

ثالثاً - البذور التي سقطت على الشوك البذور المخنوقة

سقطت البذور على أرض فيها شوك، فنمت، لأنها أرض صالحة ينمو فيها الشوك كما تنمو فيها البذور الجيدة. وكانت هناك إمكانية حصاد، لولا أن الشوك خنق النبات الجيد.. والشوك موجود بالتربة، ويستمد غذاءه منها، وهو ينمو بسرعة أكبر من سرعة نمو البذور، فيلتهم غذاءها، ويعلو فوقها فيحجب عنها أشعة الشمس، فيموت الزرع الجيد مختنقاً.

ويرمز الشوك إلى الطبيعة القديمة فينا، والتي تهدد الطبيعة الجديدة، «لأَنَّ ٱلْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ ٱلرُّوحِ وَٱلرُّوحُ ضِدَّ ٱلْجَسَدِ، وَهٰذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا ٱلآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ» (غلاطية 5: 17). ولذلك قال المسيح: «اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا ٱلرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا ٱلْجَسَدُ فَضَعِيفٌ» (متى 26: 41).

قال شابٌّ للمسيح: «أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلٰكِنِ ٱئْذِنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ ٱلَّذِينَ فِي بَيْتِي». فأجابه: «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى ٱلْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى ٱلْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ» (لوقا 9: 61 و62). إنه «رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ» (يعقوب 1: 8)، وهو مثل الشاب الغني الذي رفض أن يتبع المسيح «وَمَضَى حَزِيناً، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ» (مرقس 10: 22)، وهو مثل ديماس الذي قال الرسول بولس عنه: «تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ ٱلْعَالَمَ ٱلْحَاضِرَ» (2تيموثاوس 4: 10). صحيحٌ أنه «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ ٱلْوَاحِدَ وَيُحِبَّ ٱلآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ ٱلْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ ٱلآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا ٱللّٰهَ وَٱلْمَالَ. لٰكِنِ ٱطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ وَبِرَّهُ، وَهٰذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ» (متى 6: 24، 33).

وما أكثر الشوك الذي ينافس البذور الجيدة. هناك أشواك هموم هذا العالم ومتاعبه عند الفقراء، مع أن المسيح يقول لهم: «لاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ، أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ، أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هٰذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا ٱلأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هٰذِهِ كُلِّهَا» (متى 6: 31 و32).. وهناك أشواك غرور الغِنى الذي يجتذب عيون الأغنياء، مع أن الوحي يقول لهم: «لأَنَّنَا لَمْ نَدْخُلِ ٱلْعَالَمَ بِشَيْءٍ، وَوَاضِحٌ أَنَّنَا لاَ نَقْدِرُ أَنْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ» (1تيموثاوس 6: 7)، و «مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ» (لوقا 12: 5).. وهناك أشواك غرور المركز الاجتماعي أو العلمي، وغرور الصحة والشباب.. وهناك أشواك شهوات سائر الأشياء، مع أن الوحي يقول: «وَٱلْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا ٱلَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ ٱللّٰهِ فَيَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ» (1يوحنا 2: 17).

ليحفظك الرب من الأشواك التي تخنق كلمة الله فيك.

رابعاً - البذور التي سقطت على الأرض الجيدة البذور المثمرة

أصحاب «الأرض الجيدة» هم الذي «يَسْمَعُونَ ٱلْكَلِمَةَ فَيَحْفَظُونَهَا فِي قَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ وَيُثْمِرُونَ بِٱلصَّبْرِ» (لوقا 8: 15). والقلب الصالح «يسمع» ويقبل.. ثم «يحفظ» بمعنى أنه يفكر ويتأمل ويسترجع الكلمة مرة ومرات، ويلهج بها، فتنمو وتثمر بالصبر سلوكاً صالحاً لنفسه وللآخرين. والقلب الجيد يقبل البذور فتنمو فيه.. ثم «يثمر بالصبر» والمثابرة، فتتغيَّر الحياة تماماً، طاعة للوصية «بِصَبْرِكُمُ ٱقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ» (لوقا 21: 19)، وعندما تُقتنى النفس يضيء نورها أمام الناس، وتُرى أعمالها الحسنة فيتمجَّد الآب السماوي (متى 5: 16) ويصبح المؤمن «كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ جَدَاوِلِ ٱلْمِيَاهِ، ٱلَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ، وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ» (مزمور 1: 3)

صاحب الأرض الجيدة هو المستعد المُخْلص، مثل تيموثاوس الذي قال له الرسول بولس: «مُنْذُ ٱلطُّفُولِيَّةِ تَعْرِفُ ٱلْكُتُبَ ٱلْمُقَدَّسَةَ، ٱلْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاَصِ، بِٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (2تيموثاوس 3: 15)

وكم نشكر الله من أجل الأرض الجيدة، فقد قال المسيح: « ٱلْحُقُولَ قَدِ ٱبْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ» (يوحنا 4: 35). «لأَنَّهُ كَمَا يَنْزِلُ ٱلْمَطَرُ وَٱلثَّلْجُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَلاَ يَرْجِعَانِ إِلَى هُنَاكَ، بَلْ يُرْوِيَانِ ٱلأَرْضَ وَيَجْعَلاَنِهَا تَلِدُ وَتُنْبِتُ وَتُعْطِي زَرْعاً لِلزَّارِعِ وَخُبْزاً لِلآكِلِ، هَكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي ٱلَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لاَ تَرْجِعُ إِلَيَّ فَارِغَةً، بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ» (إشعياء 55: 10، 11).

والأراضي الجيدة أنواع متعددة، فبعضها يثمر ثلاثين ضعفاً، وبعضها ستين، وبعضها مئة ضعف. وعندما ألقى المسيح هذا المثل كانت الأرض تعطي عادةً ما بين ثمانية أضعاف إلى خمسة عشر ضعفاً، فيكون أن الرب ينتظر من المؤمنين ثمراً أكثر، عملاً بالوصية: «إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱلسَّماوَاتِ» (متى 5: 20).

لكن لماذا يعطي مؤمن ثلاثين ضعفاً بينما يعطي غيره ستين أو مئة ضعف؟.. الفرق بينهم هو مدى استعداد كلٍّ منهم لطاعة الرب. فصاحب المئة ضعف هو الذي يقول مع إشعياء: «هَئَنَذَا أَرْسِلْنِي» (إشعياء 6: 8). وكلما كنا مستعدين أن نطيع الله أكثر يجعلنا نثمر أكثر.. ويعود الفرق أيضاً إلى مقدار الوقت الذي نصرفه في الصلاة، إذ يكون شعارنا: «أَمَّا أَنَا فَصَلاَةً» (مزمور 109: 4) لأنه بمقدار صلاتنا يكون ثمرنا، ونصبح عاملين بالكلمة، لا سامعين فقط خادعين نفوسنا (يعقوب 1: 22).

٭ ٭ ٭

وختم المسيح هذا المثل بالقول: «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ» (متى 13: 9). وهذا يعني أن الحق مُعلَنٌ للجميع، ولكل مستمع الحرية أن يقبل الحق إن هو أراد، كما أن له مطلق الحرية أن يرفضه. قال المسيح: «هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى ٱلْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ ٱلْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا 3: 20). لا يجبر الله أحداً، لكنه أعطى لكل إنسان أذنين، ثم يوجِّه الدعوة ويُعيد توجيهها. فلنقل: «مَرَّةً وَاحِدَةً تَكَلَّمَ ٱلرَّبُّ، وَهَاتَيْنِ ٱلٱثْنَتَيْنِ سَمِعْتُ» (مزمور 62: 11).

فأي نوع من التربة قلبك؟ إن كان كالطريق فإن الله يمكن أن يحرثه بمحراث نعمته، بالرقَّة أو بالتأديب، كما قال: «وَأُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ لِكَيْ يَشْعُرُوا» (إرميا 10: 18). وقد ينفتح قلبك بعد نور مبهر يُعمي العيون كما حدث مع شاول الطرسوسي (أعمال 9: 3، 4)، وقد ينفتح بسرعة وهدوء كما حدث مع ليديا (أعمال 16: 14) وقد ينفتح بعد زلزلة كما حدث مع سجان فيلبي (أعمال 16: 26-34).. فإن كان قلبك حجرياً فالرب قادر أن ينزع منك قلب الحجر ويعطيك قلب لحم (حزقيال 11: 19).. وإن كان يحوي الشوك الذي يخنق البذور الصالحة فهو قادر أن يقتلع الشوك من داخلك. وإن كنت تثمر ثلاثين ضعفاً يجعلك تثمر مئة ضعف.

سؤالان

  1. اشرح هذه العبارة: «لم تثمر البذور، ليس بسبب خطإ في الزارع، وليس بسبب عيب في البذور، بل بسبب عيب في التربة».

  2. كيف تُصلح القلب الذي يشبه الطريق، والذي يشبه الأرض المحجرة، والذي يشبه الأرض التي ينمو بها الشوك؟

(ب) أعداء الملكوت مثلا الزوان وسط الحنطة والشبكة في البحر

24 قَالَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً زَرَعَ زَرْعاً جَيِّداً فِي حَقْلِهِ. 25وَفِيمَا ٱلنَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَاناً فِي وَسَطِ ٱلْحِنْطَةِ وَمَضَى. 26فَلَمَّا طَلَعَ ٱلنَّبَاتُ وَصَنَعَ ثَمَراً، حِينَئِذٍ ظَهَرَ ٱلزَّوَانُ أَيْضاً. 27فَجَاءَ عَبِيدُ رَبِّ ٱلْبَيْتِ وَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، أَلَيْسَ زَرْعاً جَيِّداً زَرَعْتَ فِي حَقْلِكَ؟ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ زَوَانٌ؟. 28فَقَالَ لَهُمْ: إِنْسَانٌ عَدُوٌّ فَعَلَ هٰذَا. فَقَالَ لَهُ ٱلْعَبِيدُ: أَتُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ وَنَجْمَعَهُ؟ 29فَقَالَ: لاَ! لِئَلاَّ تَقْلَعُوا ٱلْحِنْطَةَ مَعَ ٱلزَّوَانِ وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ. 30دَعُوهُمَا يَنْمِيَانِ كِلاَهُمَا مَعاً إِلَى ٱلْحَصَادِ، وَفِي وَقْتِ ٱلْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ: ٱجْمَعُوا أَوَّلاً ٱلزَّوَانَ وَٱحْزِمُوهُ حُزَماً لِيُحْرَقَ، وَأَمَّا ٱلْحِنْطَةَ فَٱجْمَعُوهَا إِلَى مَخْزَنِي.

47أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ شَبَكَةً مَطْرُوحَةً فِي ٱلْبَحْرِ، وَجَامِعَةً مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. 48فَلَمَّا ٱمْتَلأَتْ أَصْعَدُوهَا عَلَى ٱلشَّاطِئِ، وَجَلَسُوا وَجَمَعُوا ٱلْجِيَادَ إِلَى أَوْعِيَةٍ، وَأَمَّا ٱلأَرْدِيَاءُ فَطَرَحُوهَا خَارِجاً. 49هٰكَذَا يَكُونُ فِي ٱنْقِضَاءِ ٱلْعَالَمِ: يَخْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَيُفْرِزُونَ ٱلأَشْرَارَ مِنْ بَيْنِ ٱلأَبْرَارِ، 50وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ ٱلنَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ (متى 13: 24-30 و47-50).

ذكر المسيح أن ملكوت الله حياةٌ جديدة وتعليم جديد (مثَلا الرقعة والزقاق)، يدعو له معلّمون يُخرجون من كنوزهم جدداً وعتقاء (مثَل الكاتب المتعلم)، وأن هناك طرقاً مختلفة للدعوة له (مثَل الأولاد الذين يلعبون في السوق)، وأن هناك أنواعاً مختلفة من الاستجابة له (مثَل الزارع)، فالبعض يرفضه، والبعض يقبله مؤقَّتاً، والبعض الثالث يريد أن يحتفظ به إلى جوار أشياء أخرى مناقضة له. ولكن هناك أرضٌ جيدة تقبله وتعطي أثماراً مفرحة.

وفي مثَلي الزوان وسط الحنطة والسمك الرديء وسط السمك الصالح يوضح لنا المسيح أن من طبيعة ملكوت الله أن عدو الملكوت يحاول الإساءة إلى الزرع الصالح بأن يزرع وسطه نباتاً ساماً. لقد خلق الله كل شيء صالحاً، من حنطة مغذية وسمك جيد، ووصف ما خلقه بأنه «حسنٌ جداً» (تكوين 1: 31). ولكن عدو الله زرع الزوان وسط الحنطة، وأوجد السمك الرديء وسط الجيد.

ويلاحظ أبسط الناس أن في عالمنا مملكتين، مملكة الرب ومملكة الشرير، والمملكتان تتصارعان دائماً، وستُحسَم النتيجة في اليوم الأخير، وقت الحصاد، أو يوم تُسحب الشبكة إلى الشاطئ، فيتمتع الصالح في ملكوت الله، ويُعاقب الرديء في نار جهنم.

وقد فسَّر المسيح لتلاميذه مثَل الزوان وسط الحنطة، فقال إن الذي يزرع الزرع الجيد هو ابن الإنسان، والحقل هو العالم، والزرع الجيد هو بنو الملكوت، والزوان هم بنو الشرير، والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس، والحصاد هو اليوم الآخِر، وإن الحصادين هم الملائكة. وفي اليوم الأخير يُرسل ابن الإنسان ملائكته ليجمعوا من ملكوته كل فاعلي الإثم ويطرحونهم في النار، بينما يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم.

وختم المسيح شرحه للمثل بقوله: «من له أذنان للسمع فليسمع».

ونتعلم من هذين المثَلين أننا لا يجب أن نندهش من وجود الصالح مع الرديء في البيت والكنيسة والمجتمع، ففي عالمنا يختلط الزوان بالحنطة. ويصعب علينا في بادئ الأمر أن نميِّزهما، لأنهما متشابهان في الشكل. لكن في وقت الحصاد يتَّضح الفرق ويختلف المصير، وما أعظمه بين سنابل القمح المغذية التي تُجمَع للمخازن والثمار السامة التي تُحزَم لتُحرَق. وفي شباك الصياد بالبحر يختلط السمك الجيد والرديء، ولا يمكن فصلهما في الماء، إنما يُفصلان على الشاطئ، في نهاية رحلة الصيد.

أولاً - وجود الجيد والرديء

منذ وُجد الإنسان وجدنا ولدي آدم: قايين الزوان وهابيل الحنطة (تكوين 4: 4-8)، وفي نسل إسحاق ابن خليل الله إبراهيم وجدنا يعقوب الحنطة وعيسو الزوان (تكوين 25: 23)، ويهوذا الاسخريوطي الزوان بين تلاميذ المسيح الحنطة (متى 26: 14-25).. وهكذا كان الحال في فلك نوح، فقد سكنته الحيوانات الطاهرة طقسياً (التي يمكن تقديمها كذبائح لله)، كما وُجدت الحيوانات النجسة طقسياً (التي لا تُقدَّم كذبائح) (تكوين 7: 2).. وقال يوحنا المعمدان إن الله في اليوم الأخير «يَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى ٱلْمَخْزَنِ، وَأَمَّا ٱلتِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ» (متى 3: 12). وحدَّثنا المسيح أنه في نهاية العالم سيقيم الخراف عن اليمين والجداء عن اليسار، هؤلاء إلى الحياة الأبدية وأولئك إلى العذاب الأبدي (متى 25: 32). وحدَّث الرسول بولس تلميذه تيموثاوس عن أننا نجد في البيت الواحد آنية كرامة وآنية هوان، وكلاهما من عمل يدي الفخاري الواحد (2تيموثاوس 2: 20).

بل إننا نجد في داخل نفوسنا زواناً وحنطة، وسمكاً رديئاً وسمكاً جيداً. ولا غرابة، لأن الطبيعة القديمة موجودة فينا إلى جوار الطبيعة الجديدة الموهوبة لنا من الله، وهاتان الطبيعتان تتصارعان دائماً، حتى يفعل الإنسان أحياناً ما لا يريده (رومية 7: 14-25 وغلاطية 5: 16، 17).

1 - مصدر الزرع الجيد:

يعلّمنا المسيح في هذين المثلين أن العالم (كحقل أو كشبكة) مِلك الرب الصالح، الذي يشرق بنور كلمته على البشر جميعاً، «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16). والله يبذر في عالمه بذوراً صالحة نهاراً، تلد الأبرار الذين يدعوهم «أبناء الملكوت» وقد جاء المسيح ليعطيهم حياة فضلى (يوحنا 10: 10) فيصبحون حنطة في حقله، وأسماكاً جيدة في شبكته، ينتمون إليه، ويرثون بركاته، لأنه أنعم عليهم بالتبني، كما قيل: «أَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ» (يوحنا 1: 12)، فيهنئون بعضُهم بعضاً قائلين: «أُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا ٱلآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ» (1يوحنا 3: 1).

«أبناء الملكوت» إذاً هم الذين قبلوا البذور في أرض قلوبهم الجيدة، ففهموها وتأملوها، وأثمروا ثمراً صالحاً، فصاروا «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (1بطرس 1: 23). وهم الذين يقولون: «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس 2: 10). إنهم رجال الله الغيورون على خدمته.

2 - مصدر الزرع الرديء:

سمح الله بقيام حزب معارضة في عالمنا يرأسه إبليس، الذي يبذر بذوره سراً في الليل، لأنه عاجز عن المجيء في وضح النهار، فهو كذابٌ وأبو الكذاب (يوحنا 8: 44). إنه يأتي والناس نيام أو غافلون ليلقي زوانه الشبيه بالحنطة، والذي يصعب تمييزه إلا في يوم الحصاد.

ولإبليس جنود يعاونونه في ترويج أكاذيبه، قال الوحي عنهم: «هُمْ رُسُلٌ كَذَبَةٌ، فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ، مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ ٱلْمَسِيحِ. وَلاَ عَجَبَ. لأَنَّ ٱلشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ! فَلَيْسَ عَظِيماً إِنْ كَانَ خُدَّامُهُ أَيْضاً يُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ كَخُدَّامٍ لِلْبِرِّ. ٱلَّذِينَ نِهَايَتُهُمْ تَكُونُ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ» (2كورنثوس 11: 13-15).

ونلاحظ أنه كلما زاد نشاط ملكوت الله زاد نشاط إبليس الذي يهزأ بالحق ويزيِّفه «وَلٰكِنْ حَيْثُ كَثُرَتِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱزْدَادَتِ ٱلنِّعْمَةُ جِدّاً» (رومية 5: 20). فتكون النصرة النهائية للنعمة.

ثانياً - ماذا يُفعل بالزرع الرديء؟

انزعج عبيد صاحب الحقل من وجود الزوان، فسألوه: «أليس زرعاً جيداً زرعته في حقلك، فمن أين له زوان؟» ثم سألوه: «أتريد أن نذهب ونجمعه؟». لقد خافوا أن يعطل الزوان نمو الحنطة، كما يخاف المؤمنون من وجود الأشرار في دوائر الأبرار، لعلمهم أن العدو متجبر قاسٍ، ولمعرفتهم بخطورته لأنه في الداخل لا في الخارج فيسهل عليه أن يهزَّ ثقة المؤمنين في قوة الله. ولكن صاحب الحقل لم ينزعج، لأنه كان يملك زمام الموقف، وكان رائعاً في ردِّه وهو يقول: «دعوهما ينميان كلاهما معاً إلى الحصاد». ووقتها يُجمع الزوان ليُحرق، أما الحنطة فتُجمَع في المخزن.

فلماذا نصح صاحب الحقل بعدم قلع الزوان فوراً؟

1 - خوفاً من حُكم ظالم متعجِّل:

أحكام البشر على غيرهم سطحية، لأنهم لا يستطيعون أن يغوصوا إلى عُمق الأمور. واحد فقط يعرف الدواخل هو الله «ٱلْفَاحِصُ ٱلْكُلَى وَٱلْقُلُوبَِ» (رؤيا 2: 23) والذي يعرف كل شيء، لأن كل الأمور مكشوفة أمامه، وهو «يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعَ» وهو ليس «مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي ٱلإِنْسَانِ» (يوحنا 2: 24، 25). أما البشر فيقول المسيح لهم: «لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ ٱلظَّاهِرِ بَلِ ٱحْكُمُوا حُكْماً عَادِلاً» (يوحنا 7: 24)، ويقول لهم الوحي: «مَنْ أَنْتَ ٱلَّذِي تَدِينُ عَبْدَ غَيْرِكَ؟ هُوَ لِمَوْلاَهُ يَثْبُتُ أَوْ يَسْقُطُ. وَلٰكِنَّهُ سَيُثَبَّتُ، لأَنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ أَنْ يُثَبِّتَهُ» (رومية 14: 4).. وفي أحكامنا المتعجِّلة قد نعتبر المؤمن الضعيف زواناً فنقلعه، مع أن يد الله تكون لا تزال تعمل فيه وتصوغه لتجعل منه إناءً للكرامة، مقدساً، نافعاً للرب، مستعداً لكل عمل صالح (2تيموثاوس 2: 21). ولكننا عندما لا نراه مكتملاً نظنُّه إناءً للهوان، فنكسره أو نلقي به بعيداً. فلو كنا في زمن بطرس وسمعناه ينكر المسيح أمام جارية لقُلنا إنه إناءٌ للهوان. ولكن المسيح رآه إناءً للكرامة، وسأله ثلاث مرات: «يا سمعان بن يونا، أتحبني؟» فأعلن بطرس حبَّه للمسيح (يوحنا 21: 15-18)، كما أعلن المسيح حبَّه الغافر لسمعان، ومنحه تكليفاً وتشريفاً لما قال له: «ارعَ غنمي».. وبعد هذا بأيام قليلة ألقى بطرس عظته في يوم الخمسين فخلص نتيجة سماعها نحو ثلاثة آلاف نفس (أعمال 2: 41).

2 - رغبةً في تعليم الحنطة دروساً:

عدم قلع الزوان من وسط الحنطة يعلّم الحنطة دروساً روحية متنوعة في الصبر وطول الأناة، لأن وجود الخطاة وسط المؤمنين يعطي المؤمنين فرصةً للصلاة لأجل الخطاة وإعلان الفضائل المسيحية لهم بحياتهم بينهم، ويعمل على ربحهم للمسيح. وهذا التدريب يجعل المؤمنين أقوى إيماناً، بل إنه يجعلهم لآلئ لامعة، فاللآلئ تتكوَّن من دخول حبة رمل صغيرة في قوقعة حيوان رخوي، فيتألم الحيوان ويفرز مواد تكون سبباً في تكوين اللؤلؤة. وهكذا يسمح الرب بوجود الزوان وسط الحنطة ليعين الحنطة على صُنع اللآلئ!

3 - رغبة في إصلاح أمر الزوان:

عدم قلع الزوان من وسط الحنطة يعطي الزوان فرصةً للتوبة. يقول الوحي للزوان: «أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ ٱللّٰهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ؟» (رومية 2: 4). إن الرب «لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ ٱلْجَمِيعُ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ» (2بطرس 3: 9). فلنترك الزوان والحنطة ينميان كلاهما معاً، والرب قادر أن يحوِّل الزوان إلى حنطة بعمل نعمته. لقد تفاضلت نعمة الله على شاول الطرسوسي، فقال: «أَنَا ٱلَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً. وَلٰكِنَّنِي رُحِمْتُ، لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْلٍ فِي عَدَمِ إِيمَانٍ. وَتَفَاضَلَتْ نِعْمَةُ رَبِّنَا جِدّاً مَعَ ٱلإِيمَانِ وَٱلْمَحَبَّةِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (1تيموثاوس 1: 13، 14).

ثالثاً - مصير الحنطة ومصير الزوان

«لأَنَّ ٱلرَّبَّ يَعْلَمُ طَرِيقَ ٱلأَبْرَارِ، أَمَّا طَرِيقُ ٱلأَشْرَارِ فَتَهْلِكُ» (مزمور 1: 6). «وَكَثِيرُونَ مِنَ ٱلرَّاقِدِينَ فِي تُرَابِ ٱلأَرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ، هَؤُلاَءِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ وَهَؤُلاَءِ إِلَى ٱلْعَارِ لِلازْدِرَاءِ ٱلأَبَدِيِّ. وَٱلْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ ٱلْجَلَدِ، وَٱلَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى ٱلْبِرِّ كَٱلْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ ٱلدُّهُورِ» (دانيال 12: 2 و3). ففي النهاية يكافئ الرب أبناء ملكوته فيضيئون كالشمس في ملكوته، ويعاقب من يرفضون مُلكه عليهم بالهلاك الأبدي.

1 - مصير الحنطة:

يقول سليمان الحكيم: «أَمَّا سَبِيلُ ٱلصِّدِّيقِينَ فَكَنُورٍ مُشْرِقٍ، يَتَزَايَدُ وَيُنِيرُ إِلَى ٱلنَّهَارِ ٱلْكَامِلِ» (أمثال 4: 18) ويقول الرسول بولس: «مَتَى أُظْهِرَ ٱلْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ فِي ٱلْمَجْدِ» (كولوسي 3: 4). تنال الحنطة الكرامة، وتُجمع إلى المخزن، ويقول المسيح إنهم «يضيئون كالشمس» في البهاء والطهارة والفرح والإنارة على الآخرين (متى 13: 43).

2 - مصير الزوان:

خلق الله الإنسان على صورته كشبَهه ليعبده ويتمتع به وبخلاصه، وليحيا حياة الأُنس معه هنا على الأرض، وفي سماواته إلى الأبد، وهو لا يشاء أن يهلك أحد. ولكن الذين يرفضون خلاصه يجنون على أنفسهم، إذ يُجمعون ليُحرقوا في النار الأبدية، وهي نار القصاص لا التطهير، المُعدَّة لا للبشر بل لإبليس وجنوده، «وَإِبْلِيسُ ٱلَّذِي كَانَ يُضِلُّهُمْ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ ٱلنَّارِ وَٱلْكِبْرِيتِ، حَيْثُ ٱلْوَحْشُ وَٱلنَّبِيُّ ٱلْكَذَّابُ. وَسَيُعَذَّبُونَ نَهَاراً وَلَيْلاً إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤيا 20: 10). لقد أعطى الرب الزوان فرصة التوبة، ولكنهم لم يغتنموها، بل رفضوها، فحقَّ عليهم العقاب من «ٱلَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى ٱلْمَخْزَنِ، وَأَمَّا ٱلتِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ» (متى 3: 12). «هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ» (متى 13: 42). «ٱلْحَائِدُونَ عَنِّي فِي ٱلتُّرَابِ يُكْتَبُونَ لأَنَّهُمْ تَرَكُوا ٱلرَّبَّ يَنْبُوعَ ٱلْمِيَاهِ ٱلْحَيَّةِ» (إرميا 17: 13).

يطيل الرب أناته على الخطاة ليتوبوا، لكن يجيء وقت يُغلق فيه باب التوبة. «لِذٰلِكَ كَمَا يَقُولُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُس: ٱلْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ» (مزمور 95: 7، 8 وعبرانيين 3: 7, 8). «هُوَذَا ٱلآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا ٱلآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ» (2كورنثوس 6: 2). والإنسان الحكيم هو الذي يفهم أنّ الآن هو وقت الرجوع إلى الله.

لقد جهَّز الله في ملكوته مكاناً للجميع، ويوجد لك مكان أيضاً. كان يوسف حنطة وكان إخوته زواناً. وبعد أن باعوه عبداً وتقدمت بهم الأيام نُخست قلوبهم وهم يرون أباهم يعقوب وقد أصابه العمى حزناً على يوسف، ثم ذُهلوا وهم يرون يوسف يحتل مكانته العظيمة كرئيس لوزراء مصر، وقد تحقَّقت أحلامه، فتغيَّروا من زوان إلى حنطة، بعد أن تابوا وبكوا وندموا عن شرِّهم (تكوين 44: 14-17) فصاروا أسباط إسرائيل الاثني عشر.

فإذا لم تكن متأكداً إن كنت من أبناء الملكوت أو من أبناء الشرير، اطلب الآن من الرب أن يغيِّر حياتك تغييراً كاملاً، ولينقلك من الظلمة إلى النور ومن ملكوت الشيطان إلى ملكوت ابن محبته. وبدل أن تكون من بني الشرير تصبح من أبناء الملكوت، فتتمتع بالحاضر وبالمستقبل أيضاً. ولتكن صلاتك: «ٱخْتَبِرْنِي يَا اَللّٰهُ وَٱعْرِفْ قَلْبِي. ٱمْتَحِنِّي وَٱعْرِفْ أَفْكَارِي. وَٱنْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَٱهْدِنِي طَرِيقاً أَبَدِيّاً» (مزمور 139: 23، 24).

سؤالان

  1. اذكر ثلاثة أسباب جعلت صاحب الحقل يرفض قلع الزوان قبل موسم الحصاد.

  2. اكتب ثلاث آيات من الكتاب المقدس تصف سعادة المؤمنين المتبررين بدم المسيح.

(ج) نمو الملكوت مثل البذور التي تنمو سراً

26وَقَالَ: هٰكَذَا مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ: كَأَنَّ إِنْسَاناً يُلْقِي ٱلْبِذَارَ عَلَى ٱلأَرْضِ، 27وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَاراً، وَٱلْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ، 28لأَنَّ ٱلأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَّوَلاً نَبَاتاً، ثُمَّ سُنْبُلاً، ثُمَّ قَمْحاً مَلآنَ فِي ٱلسُّنْبُلِ. 29وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ ٱلثَّمَرُ فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ ٱلْمِنْجَلَ لأَنَّ ٱلْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ (مرقس 4: 26-29)

يُلقي الزارع بذوره في الأرض، لكنه لا يقدر أن يجعلها تنبت. إنه يقدر أن يحيط حقله بسياج، ويحرسه من دَوْس الحيوان، لكنه لا يقدر أبداً أن يفعل شيئاً للبذور التي بذرها، لأن الله وحده هو الذي ينميها. وبمضيّ الأيام يكبر النبات وتظهر سنابله، وينضج قمحه، إذ تشرق عليه الشمس، وترويه الأمطار، وتقاومه العواصف فيثبت أمامها وتتعمَّق جذوره. وعندما يجيء وقت الحصاد يرسل الزارع المنجل ليحصد محصوله ويجمعه في مخزنه.. وهذا يعني أن علينا أن نعمل باجتهاد تاركين النتائج لله الذي وحده سبحانه ينمّي الكلمة في القلب بقوة خفيَّة هي قوة الروح القدس، الذي يكون في بدء عمله سرّياً في القلب لكنه فعَّال، سرعان ما يظهر تأثيره في سيرة المؤمن وسلوكه، فينمو في النعمة ويثمر ثمراً صالحاً. وكلما تقدَّمت الأيام بالمؤمن ينضج ويدرك ما أدركه المسيح لأجله بفعل دفء شمس البر، وإرواء الماء الحي، وإنضاج تجارب الحياة (فيلبي 3: 12).

وعندما تنتهي حياة المؤمن على الأرض، ويحين وقت دخوله إلى راحته الأبدية في السماء، يرسل الرب ملائكته ليحملوه إلى بيته الأبدي، فقد قال المسيح: «أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يوحنا 14: 2، 3). والمؤمن الذي قَبِل بذور الكلمة ونمت فيه ونضجت يتطلع إلى يوم الحصاد، لأنه يوم انتهاء آلامه الأرضية، ويوم بداية الفرح الحقيقي في السماء، ويقول مع الرسول بولس: «لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً» (فيلبي 1: 23)

روى البشير مرقس هذا المثل، الذي يصف حياته هو شخصياً في أطوار نموها المختلفة، من نبات إلى سنبل إلى قمح ملآن في السنبل، فقد كان أحد أتباع المسيح، لكن عندما أقبل الجنود للقبض على سيده في بستان جثسيماني، هرب حرصاً على سلامته، تاركاً عباءته (مرقس 14: 50، 51). ولكن إيمانه الضعيف الخائف نما وتقوَّى بعد هذا، فسافر بصُحبة الرسولين بولس وبرنابا في رحلتهما التبشيرية الأولى (أعمال 12: 25). ولكن بسبب شدة المتاعب وضغوط الاضطهاد، قرر في منتصف الرحلة أن يعود إلى بيته المريح في أورشليم (أعمال 13: 13) ولكن إيمانه الذي لم يقوَ على احتمال المتاعب نما وزاد، فأخذه برنابا في رحلة تبشيرية جديدة (أعمال 15: 36-39). وشعر الرسول بولس بهذا النمو الكبير في إيمان مرقس، فكتب لتلميذه تيموثاوس يقول: «خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ لأَنَّهُ نَافِعٌ لِي لِلْخِدْمَةِ» (2تيموثاوس 4: 11). ثم كتب مرقس الإنجيل الذي يحمل اسمه، وجاء يكرز في مصر.. لقد بدأ مرقس اتِّباعه للمسيح وكأنه نبات متبدئ، ثم سافر رحلته الأولى مع بولس وبرنابا وهو مثل السنبل، ولكنه في النهاية صار مثل القمح الملآن في السنبل.

ونتعلم من مثَل البذور التي تنمو سراً أربعة دروس:

أولاً - الله والإنسان يعملان معاً

يقبل المؤمنون الكلمة المقدسة التي يزرعها الرب في قلوبهم فيصبحون خليقة جديدة في المسيح، وتُكتَب أسماؤهم في سفر الحياة، ويصيرون ورثة ملكوت الله، فيهتفون: «مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ» (1بطرس 1: 3، 4). ولكنهم لا يكتفون بفائدتهم الشخصية، بل يعملون على إفادة غيرهم وخلاصهم.. وكما يعمل الفلاح باجتهاد عالماً أن الله سينمي الزرع في موعده، وهو لا يعلم كيف يحدث هذا، يعمل المؤمنون باجتهاد، عالمين أن الله سيعطيهم غلة عظيمة، تُشبعهم وتُشبع غيرهم.

ويدعو الله المؤمنين للعمل معه، فقد وجَّه في محبته للبشر نداءً إلهياً يقول: «مَنْ أُرْسِلُ، وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟» (إشعياء 6: 8). وهو ينتظر أن يسمع الإجابة: «هئنذا أرسلني». ومع أنه قادر أن يعمل وحده، إلا أنه يريد أن يكرمنا بأن نذهب من أجله وأن نعمل معه، بالصلاة، ودرس الكلمة، والطاعة، والشهادة. وكل من قبل الكلمة يبذرها، والله ينميها، كما قال الرسول بولس: «أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى، لٰكِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ يُنْمِي. إِذاً لَيْسَ ٱلْغَارِسُ شَيْئاً وَلاَ ٱلسَّاقِي، بَلِ ٱللّٰهُ ٱلَّذِي يُنْمِي. وَٱلْغَارِسُ وَٱلسَّاقِي هُمَا وَاحِدٌ، وَلٰكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَأْخُذُ أُجْرَتَهُ بِحَسَبِ تَعَبِهِ. فَإِنَّنَا نَحْنُ عَامِلاَنِ مَعَ ٱللّٰهِ، وَأَنْتُمْ فَلاَحَةُ ٱللّٰهِ» (1كورنثوس 3: 6-9). والمؤمن العامل مع الله يُقال عنه ما قيل عن المرأة التي سكبت الطيب على رأس المسيح: «عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا» (مرقس 14: 8)، لأنه ينتهز كل فرصة ليزرع كلمة الله في قلوب المحيطين به ويرويها، لأنهم لن يسمعوا بلا كارز (رومية 10: 14).

ومع أن «الأرض من ذاتها تأتي بالثمر» لأن حياة البشر والنبات هي من عند الله، إلا أن الزارع يعمل وهو يحس بضآلة عمله المتواضع، وبعظمة عمل قوة الله التي تجعل الأرض تثمر، لأن الزارع ألقى البذور ولكن الله يرسل المطر وأشعة الشمس والهواء.

والزارع المؤمن «ينام ويقوم ليلاً ونهاراً» فيكون نومه ليلاً لا نوم المهمل أو الكسلان، بل نوم العامل الذي يستريح لأنه واثق، لا يخاف من فشل البذور، وينطبق عليه الوصف «يُعْطِي حَبِيبَهُ نَوْماً» (مزمور 127: 2).. وهو الذي يقوم نهاراً لأنه يرى النمو المتزايد، ثم يفرح بالحصاد، فإن «ٱلَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِٱلدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِٱلابْتِهَاج.ِ ٱلذَّاهِبُ ذِهَاباً بِٱلْبُكَاءِ حَامِلاً مِبْذَرَ ٱلزَّرْعِ، مَجِيئاً يَجِيءُ بِٱلتَّرَنُّمِ حَامِلاً حُزَمَهُ» (مزمور 126: 5، 6) الزارع باليأس عندما يتأخَّر ظهور النبات، ولكن الله يشجعه بالقول: «لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَقْتٌ. لِلْوِلاَدَةِ وَقْتٌ وَلِلْمَوْتِ وَقْتٌ. لِلْغَرْسِ وَقْتٌ وَلِقَلْعِ ٱلْمَغْرُوسِ وَقْتٌ» (جامعة 3: 1، 2).

كان ألبرت شوايتزر أستاذ فلسفة يدرِّس في كلية لاهوت بألمانيا (1875-1965)، وذات يوم رتَّبت له زوجته أوراق مكتبه المبعثرة، فاختلطت أوراقه ببعضها. ولما أخذ يُعيد ترتيبها وجد بين أوراقها مجلة عنوانها «جمعية باريس المُرسَليَّة»، فتساءل: ما الذي جاء بها إلى هنا؟.. ولكنه قرأ فيها مقالة عن الحاجة إلى مرسَلين لأفريقيا الاستوائية، وأحسَّ أن هذه المقالة رسالة شخصية له من الله. كان يحمل خمس درجات دكتوراه في اللاهوت والفلسفة والأدب والموسيقى والطب، فسافر بهذا كله إلى «الجابون» ليخدم الله، وكتب يقول «وجدَتْ حياتي تحقيقها في هذه الخدمة».. لقد كان الزارع هنا كاتباً كتب مقالةً حرَّكت قلب العالِم الكبير. ولم يكن كاتب المقال يعلم كيف سيثمر ما كتبه، لكن كتابته أثمرت قمحاً ملآن في السنبل في حياة الدكتور ألبرت شوايتزر، وحياة الذين خدمهم!

وذات مرة كان شابٌّ جامعي يسير على غير هُدى في السابعة صباحاً في شوارع جزيرة مانهاتن (نيويورك) حائراً، يفكر في ما هي فائدة الأديان، عندما مرَّ بكنيسة مفتوحة، فدخلها. واندهش وهو يرى أحد أساتذته المشهورين منحنياً يصلي، فقال الشاب في نفسه: لا بد أن هذا الأستاذ العظيم وجد في إيمانه المسيحي فائدة ومعنى. وقرر أن يتبع المسيح. لقد زرع الأستاذ المصلي بذوراً نمَت، وهو لا يعلم كيف. تُرى لو أن الأستاذ الجامعي تكاسل عن الذهاب للكنيسة ذلك الصباح، هل كان الشاب الحائر يجد إجابة صحيحة لسؤاله؟

إنها ساعةٌ عظيمة لندرك عظمة مسؤوليتنا في العمل مع الله الذي ينمي، حتى لو كنا لا نعرف كيف يحدث النمو. وهو يناديك: «يا ابني اذهب اليوم اعمل في كرمي» فجاوِبْهُ: «ها أنا يا سيد» (متى 21: 28، 30). واعمل عمل الله ما دام نهار، فسيأتي ليلٌ حين لا يستطيع أحدٌ أن يعمل (يوحنا 9: 4).

ثانياً - الله يعمل في صمت

يعلّمنا هذا المثل أن ملكوت الله يعمل سراً وفي صمت، لكن النتائج الباهرة لا بد أن تظهر، لأن ملكوت الله ليس عقيدة ولا عاطفة ولا شعائر، بل هو بذور تدخل القلب وتنمو فيه، وتتجذَّر في أعماق نفس الإنسان وتغيِّره. إن المسيحية هي حياة المسيح فينا، فنقول: «أَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ» (غلاطية 2: 20).

طلب أحدهم من صديق له أن يشرح له الولادة الثانية، فأجابه: «اختبِر الولادة الثانية، وستعرف ما هي». ويقول المسيح: «اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لٰكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هٰكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱلرُّوحِ» (يوحنا 3: 8). وعندما سأل الفريسيون المسيح: «مَتَى يَأْتِي مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ؟» أَجَابَهُمْ: «لاَ يَأْتِي مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ بِمُرَاقَبَةٍ، وَلاَ يَقُولُونَ: هُوَذَا هٰهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ، لأَنْ هَا مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ دَاخِلَكُمْ» (لوقا 17: 20، 21). فملكوت الله داخل المؤمن، وداخل كل إنسان يقبل كلمة الله، لأن البذور تنمو سراً وفي هدوء.

في البذور حياة كامنة، لا نراها ولا نفهم سر عملها. وحتى لو كانت الأرض التي تستقبلها رديئة، فإن «كَلِمَةَ ٱللّٰهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ ٱلنَّفْسِ وَٱلرُّوحِ وَٱلْمَفَاصِلِ وَٱلْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ ٱلْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (عبرانيين 4: 12). وهذا ما رأيناه في تلاميذ المسيح البسطاء الذين فتنوا المسكونة، لأن قوة الروح القدس عملت بهم، فحرَّكوا قلوب سامعيهم ليروا أنهم خطاة، وأن الله رحيم، وأن الخلاص جاء في المسيح الفادي، فقَبِل سامعوهم رسالة إنجيل محبة الله، وإذا قوة الله تعمل في سرائر مستمعيهم، عملاً تَظهَر ثماره العظيمة بوضوح. وهذا يجعلنا نركز على عمل قوة الله، بغَضّ النظر عن قوتنا الشخصية وعن نوعية التربة وقلوب البشر، إن كانت ستقبل البذور أو سترفضها.

ثالثاً - الله يعمل بتأنٍّ

كان كثير من اليهود يستعجلون مجيء ملكوت الله، فاستخدموا العنف ليجعلوا الناس يطيعون الله، ولكن ملكوت الله لا يأتي بالسيف «لأَنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلسَّيْفَ بِٱلسَّيْفِ يَهْلِكُونَ!» (متى 26: 52). ويستطيع الله أن يهزم الشر في العالم بقوته، ولكنه لا يشاء أن يمارس الضغط على البشر، لأنه خلقهم ذوي إرادة حرة وعرَّفهم سبُل الحياة. ثم أن الضغط في ذاته شر. ومن المؤسف أننا نجد في عالمنا مَن يمارسون العنف لنشر كلمة الله، لأنهم يظنون أنهم بهذا يسارعون بمجيء ملكوت الله على الأرض!.. وإذا كنا نواجه إبليس العدو الذي لا يهدأ ولا يرحم، فإننا نؤمن أن المسيح هزمه على الصليب. إذاً «شُكْراً لِلّٰهِ ٱلَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي ٱلْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ» (2كورنثوس 2: 14). وهذا يدفعنا لأن نسلّم أنفسنا للمسيح المنتصر فننتصر.

قبل أن يمتلئ تلاميذ المسيح بالروح القدس انتظروا نتائج سريعة، وفقدوا صبرهم لما أبطأت. وذات يوم أرادوا أن يتوِّجوا المسيح ملكاً بعدما أشبع خمسة آلاف من خمس خبزات وسمكتين «وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً، ٱنْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى ٱلْجَبَلِ وَحْدَهُ» (يوحنا 6: 15). لقد ظنوا «أَنَّ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ عَتِيدٌ أَنْ يَظْهَرَ فِي ٱلْحَالِ» (لوقا 19: 11). لكن ملكوت الله سيجيء في اليوم الذي عيَّنه الله، لا في الوقت الذي نطلبه أو نريده نحن، فقد قال المسيح: «لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا ٱلأَزْمِنَةَ وَٱلأَوْقَاتَ ٱلَّتِي جَعَلَهَا ٱلآبُ فِي سُلْطَانِهِ» (أعمال 1: 7).

صرف الكارز العظيم وليم كاري أربعين سنة في الهند قبل أن يرى متجدداً واحداً. وفي أثناء هذه المدة لم ييأس، لأنه كان يعلم أن البذور تنمو سراً، فقام بإلقائها، وأعطاه الله النجاح، بعد أن وجد التشجيع في كلمات الوحي: «نَشْتَهِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يُظْهِرُ هٰذَا ٱلٱجْتِهَادَ عَيْنَهُ لِيَقِينِ ٱلرَّجَاءِ إِلَى ٱلنِّهَايَةِ، لِكَيْ لاَ تَكُونُوا مُتَبَاطِئِينَ بَلْ مُتَمَثِّلِينَ بِالَّذِينَ بِٱلإِيمَانِ وَٱلأَنَاةِ يَرِثُونَ ٱلْمَوَاعِيدَ» (عبرانيين 6: 11، 12).

وكثيراً ما نسمع الناس يوجّهون للكنيسة انتقادات بسبب ضعف ثمارها. ومن الأمانة أننا نعترف بضعفاتنا، ولكننا لا ننسى أيضاً نواحي القوة، فلكل شيء موعد، وللثمر قوانين. فلا تستعجِل النتائج، وعدّل نفسك مع التوقيت والفكر الإلهيين، وانتظر الرب. لا تفتِّح الوردة قبل الأوان فإن هذا يدمِّرها، ولا تحفر الأرض لترى إن كانت جذور الزرع الذي زرعته ينمو، فإن هذا يقتله. لكن بالصبر والإيمان ثِق في نوال المواعيد، ولا تقلق إن لم تنْمُ البذور في الآخرين بالسرعة التي تريدها. احذر من أن تضغط على أولادك أو على أصدقائك لتستعجل نموّهم، بل بالمحبة أَدفئ قلوبهم فتراهم ينمون ويثمرون.. ولا تقلق إن لم تنْمُ أنت في النعمة بالسرعة التي تتوق إليها، فإنك كالقمح الذي شرح لنا المسيح نموَّه في هذا المثل، لا ترى نموَّه بعينيك، لكنه يحدث. فإن كنت تهتم بتصرفاتك، وتجدِّد تكريسك لله، فإن طبيعتك الروحية تنمو من ذاتها. ولا تنسَ أن النبات الذي يعمِّر هو الذي ينمو ببطء. وكما أن الله صبور معك كن أنت صبوراً مع نفسك ومع غيرك. لا تُنقِص عمل النعمة فيك بالقلق على عمل النعمة. «إِنْ تَوَانَتْ فَٱنْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَاناً وَلاَ تَتَأَخَّرُ» (حبقوق 2: 3).

رابعاً - الله يبدأ عمله ويكمله

يبدأ ملكوت الله بالعمل الإلهي في القلوب، ويقول الوحي: «ٱلَّذِي ٱبْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (فيلبي 1: 6). ويقول المسيح إنّ النمو يكون نباتاً، ثم سنبلاً، ثم قمحاً ملآن في السنبل. وهذا يعني أن الله لا يتوقَّف عن العمل حتى يكمل نصره على الشر، خطوة خطوة. وعندما يتم عمل الله يقول: «أَرْسِلُوا ٱلْمِنْجَلَ لأَنَّ ٱلْحَصِيدَ قَدْ نَضَجَ» (يوئيل 3: 13). «وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ تُظْلِمُ ٱلشَّمْسُ، وَٱلْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَٱلنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، وَقُوَّاتُ ٱلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ فِي ٱلسَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ ٱلصَّوْتِ، فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ ٱلأَرْبَعِ ٱلرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ ٱلسَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا» (متى 24: 29-31).

والحصاد هو كمال عمل الله بنهاية العالم عندما يسمع المؤمنون قول ربهم: «نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ وَٱلأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى ٱلْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (متى 25: 21). «فَإِنَّ ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً» (غلاطية 6: 7). «لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِٱلْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً» (2كورنثوس 5: 10).

لقد بدأ الحصاد المجيد للنفوس يوم الخمسين، ولا يزال مستمراً طيلة العشرين قرناً التي مضت، وسيستمر في الازدياد لأن الله يعمل في عالمنا بقوة روحه القدوس معلناً للجميع الأخبار المفرحة عن موت المسيح وقيامته. فلا يجب أن يعيش أي مؤمن لذاته، لأن المسيح «مَاتَ لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ ٱلأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ» (2كورنثوس 5: 15). «لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ وَلاَ أَحَدٌ يَمُوتُ لِذَاتِهِ. لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ» (رومية 14: 7، 8).

ولكننا نجد للأسف بعض مَن يقضون حياتهم في خدمة نفوسهم فقط، ناسين التحذير: «مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هٰذَا ٱلْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يوحنا 12: 25). وكلما سمحْتَ للرب أن يبدأ عمله فيك ويتممه، ستخلِّص نفسك والذين يسمعونك أيضاً، وستنتهي حياتك بالفرح والتهليل.

وقد يصيب اليأس المؤمنين أحياناً وهم يرون الشر منتشراً في العالم، لكنهم يجب أن يتشجعوا لأن هزيمة إبليس قد بدأت بسحق رأس الحية، وقد أُكمِل الانتصار في الصليب والقيامة المجيدة، لأن المسيح «إِذْ جَرَّدَ ٱلرِّيَاسَاتِ وَٱلسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ» (كولوسي 2: 15). وسيكمل الرب النصر لملكوته في النهاية. نعم «سَيَأْتِي كَلِصٍّ فِي ٱللَّيْلِ، يَوْمُ ٱلرَّبِّ، ٱلَّذِي فِيهِ تَزُولُ ٱلسَّمَاوَاتُ بِضَجِيجٍ، وَتَنْحَلُّ ٱلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ ٱلأَرْضُ وَٱلْمَصْنُوعَاتُ ٱلَّتِي فِيهَا» (2بطرس 3: 10). ولذلك «جَيِّدٌ أَنْ يَنْتَظِرَ ٱلإِنْسَانُ وَيَتَوَقَّعَ بِسُكُوتٍ خَلاَصَ ٱلرَّبِّ» (مراثي إرميا 3: 26). عالمين أن «ٱللّٰهَ هُوَ ٱلْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسَرَّةِ» (فيلبي 2: 13).

إن القائد المنتصر معنا، وهو الذي يجهِّز القلوب لتقبل الرسالة، فهو يبكت على الخطايا، ويغيِّر القلوب. وسيمنحك الشجاعة والحكمة والفرح عندما تقود النفوس للمسيح، وترى نموهم: نباتاً، ثم سنبلاً، ثم قمحاً ملآن في السنبل.

سؤالان

  1. كيف ترى اختبار القديس مرقس في مثل البذور التي تنمو سراً؟

  2. استعجل تلاميذ المسيح في أول معرفتهم بالمسيح مجيء ملكوت الله، فماذا تعلَّموا هم، وماذا نتعلم نحن من مثل البذور التي تنمو سراً؟

(د) قوة الملكوت مثلا حبة الخردل والخميرة

31قَالَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ، 32وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ ٱلْبُزُورِ. وَلٰكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ ٱلْبُقُولِ، وَتَصِيرُ شَجَرَةً، حَتَّى إِنَّ طُيُورَ ٱلسَّمَاءِ تَأْتِي وَتَتَآوَى فِي أَغْصَانِهَا». 33قَالَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا ٱمْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى ٱخْتَمَرَ ٱلْجَمِيعُ (متى 13: 31-33).

(ورد هذان المثلان أيضاً في مرقس 4: 30-32 ولوقا 13: 18-21 )

في إحدى سفرات المسيح مع تلاميذه اتَّجهوا نحو مدينة للسامريين، فرفضهم أهلها. وغضب لذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا، فقد كانت خدمة المسيح في بدايتها، وخافا من فشلها، ظنّاً منهما أنه لو أن كل بلدٍ ذهبوا إليه رفضهم لفشلت الرسالة قبل أن تكتمل. ودفعهما خوفهما هذا لأن يطلبا نزول النار على المدينة السامرية، فقالا للمسيح: «يَا رَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضاً؟»فَٱلْتَفَتَ وَٱنْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ ٱلنَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ» (لوقا 9: 54-56) وأطلق عليهما لقب «ابني الرعد» (مرقس 3: 17).

ويُطمئِن مثلا حبة الخردل والخميرة، الصغيرتين في حجميهما والكبيرتين في تأثيرهما، كل تلاميذ المسيح عبر العصور بأن ملكوت الله قوي قادر على الانتشار بفضل القوة الداخلية الكامنة فيه، مع أنه يبدو في بدئه صغيراً. وهو في غير حاجة إلى معونة عنيفة من خارجه لينتشر، لأن هذه البداية الصغيرة لن تتوقَّف عن النمو، وهي لا تحتاج إلى سيف أو نار، لأنها مصحوبة بقوة الروح القدس وعمله.

ويعطي مثلا حبة الخردل والخميرة شرحاً جديداً لطبيعة ملكوت الله، فقد رأينا في مثَل «الزارع» أن المسيح وتلاميذه يُلقون بذور كلمة الله في كل مكان، سواء أتت بثمر أم لم تأتِ. وفي مثَل «الزوان وسط الحنطة» رأينا وجود المنافقين وسط المؤمنين الصادقين، ولكن اليوم الأخير سيحسم النتيجة. وفي مثَل «الزرع الذي ينمو سراً» أولاً نباتاً، ثم سنبلاً، ثم قمحاً ملآن في السنبل، رأينا قوة كلمة الله وفعاليتها بعمل الروح القدس، دون أن «نعرف كيف». أما في مثَلي حبة الخردل والخميرة فنرى حتميَّة امتداد ملكوت الله واتِّساعه، بالرغم من بدايته التي تبدو متواضعة.

أولاً - بداية الملكوت سماوية

مصدر ملكوت الله ليس من هذا العالم، فهو مثل حبة خردل أخذها إنسان من خارج التربة وألقاها فيها. وهو مثل خميرة أخذتها امرأة من خارج الدقيق وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق.. فالملكوت قوةٌ أُدخِلت إلى العالم من خارجه، جاءته من فوق وليس من اختراع الناس. فلم يكن الخلاص من الخطية نتاج تفكير إنساني، ولا من عملٍ قام به البشر، إنما هو عمل قوة نعمة الله المحيية، وعطاء اليد الإلهية المُحِبَّة التي تنازلت من السماء إلى البشر لتحيي وتجدِّد وتقدِّس.

عندما أخطأ أبوانا الأولان اختبئا من الله، وحاولا ستر عريهما بورق الشجر. فجاء الله يفتش عليهما، ثم سترهما بأقمصة من جلد حيوان، فأوضح لهما ولنا مبدأ الفداء والتكفير بالذبح العظيم، الذي يرمز إلى المسيح «حَمَل الله». لقد أخذ الله زمام المبادرة، كما يقول الوحي: «وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيح... أَيْ إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ» (2كورنثوس 5: 18، 19). و «لَمَا جَاءَ مِلْءُ ٱلزَّمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ» (غلاطية 4: 4، 5).

ثانياً - بداية الملكوت صغيرة

يبدأ ملكوت الله صغيراً مثل حبة خردل، أو مثل خميرة. وكان اليهود يضربون المثل بصِغر حجم حبَّة الخردل. ولكن هذه الحبة السوداء الصغيرة متى زُرعت ونمَت صارت شجرة تتآوى فيها الطيور لتلتقط بذورها. وكانت بذور الخردل تُستعمل كدواء، وتُعصر للحصول على زيت الخردل.. أما الخميرة فهي صغيرة بالمقارنة بحجم الدقيق الذي ستُخبَّأ فيه.

وقد حدثنا الوحي عن أشياء كثيرة صغيرة لكنها ذات نتائج باهرة، منها ملء كف الدقيق وقليل من الزيت التي لم تفرغ ولم تنقص، فأعالت النبي إيليا، وأرملةً، وابنها (1ملوك 17: 10-16)، ومنها كأس ماء بارد قال المسيح عنه: «مَنْ سَقَى أَحَدَ هٰؤُلاَءِ ٱلصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِٱسْمِ تِلْمِيذٍ، فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ» (متى 10: 42). ومنها فلسا الأرملة التي قال الوحي عنها إن المسيح: «تَطَلَّعَ فَرَأَى ٱلأَغْنِيَاءَ يُلْقُونَ قَرَابِينَهُمْ فِي ٱلْخِزَانَةِ، وَرَأَى أَيْضاً أَرْمَلَةً مِسْكِينَةً أَلْقَتْ هُنَاكَ فَلْسَيْنِ. فَقَالَ: بِٱلْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هٰذِهِ ٱلأَرْمَلَةَ ٱلْفَقِيرَةَ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنَ ٱلْجَمِيعِ، لأَنَّ هٰؤُلاَءِ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا فِي قَرَابِينِ ٱللّٰهِ، وَأَمَّا هٰذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ ٱلْمَعِيشَةِ ٱلَّتِي لَهَا» (لوقا 21: 1-4)، ومنها خمس خبزات وسمكتان كانت مع ولد أعطاها للمسيح، فباركها وأشبع بها خمسة آلاف نفس (يوحنا 6: 9-12).

ولقد بدأ إنجيل يسوع المسيح ابن الله (مرقس 1: 1) بميلاد المسيح «كلمة الله» طفلاً مولوداً في مذود، من أم عذراء فقيرة، سافرت رحلة طويلة مع خطيبها لتلده. وبسبب الاضطهاد تركوا مسقط رأسه ولجأوا إلى مصر، ومنها إلى قرية «الناصرة» تحقيقاً لنبوات التوراة. ولمدة اثنتي عشرة سنة لا نسمع عنه شيئاً، حتى نراه في الهيكل يتكلم بعبارات الحكمة (لوقا 2: 46-50). ثم اختفى عن العيون حتى عمر الثلاثين عندما بدأ خدمة علنية امتدَّت لثلاث سنوات وثلث السنة، انتهت بصلبه. لكن ملكوت الله كان ينبغي أن ينمو ويزيد، فقد قام المسيح من الموت، وظل يظهر لتلاميذه أربعين يوماً، ثم صعد إلى السماء، ومنها ننتظر عودته إلى أرضنا ديّاناً للأحياء والأموات. وقتها ستجثو له كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن المسيح هو رب (فيلبي 2: 10 و11). إنه كحبة الخردل، مات ودُفن، ولكنه قام منتصراً، وحقَّق قوله: «إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ ٱلْحِنْطَةِ فِي ٱلأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلٰكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» (يوحنا 12: 24)

وفي بداية خدمته اختار المسيح صحابته من بسطاء الناس الذين وصفهم الرسول بولس بالقول: «ٱخْتَارَ ٱللّٰهُ أَدْنِيَاءَ ٱلْعَالَمِ وَٱلْمُزْدَرَى وَغَيْرَ ٱلْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ ٱلْمَوْجُودَ» (1كورنثوس 1: 28)، فقد دعا الصيادَيْن يوحنا وأندراوس لاتِّباعه (يوحنا 1: 39)، فدعا أندراوس أخاه بطرس الصياد (يوحنا 1: 42). ثم دعا المسيح فيلبس ليتبعه (يوحنا 1: 43)، فدعا فيلبس صديقه نثنائيل ليتعرَّف على المسيح (يوحنا 1: 47). ثم اختار المسيح تلاميذه الاثني عشر من الفقراء المتواضعين (مرقس 3: 13-19). ولكنهم، بعد أن أرسل المسيح لهم عطية الروح القدس، صاروا ملحاً للأرض ونوراً العالم، وفتنوا المسكونة (أعمال 17: 6) وبدأوا كنيسة امتدَّت إلى كل الأرجاء، وتآوت «طيور السماء» في ظلها. وكل من يسلِّم نفسه لله ويمتلئ بالروح القدس يخلق الله منه بطلاً، كما خلق من داود راعي الغنم بطلاً هزم جليات الجبار، ثم ملَّكه على بني إسرائيل، وجعل لقبه «سراج إسرائيل» (1صموئيل 16: 5-13 وأصحاح 17 و2صموئيل 21: 17).

ومع أن التلاميذ البسطاء نشروا في العالم رسالة محبة الله، إلا أنهم لاقوا الاضطهاد والمتاعب والطرد، فقيل عنهم: «وَحَدَثَ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱضْطِهَادٌ عَظِيمٌ عَلَى ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ، فَتَشَتَّتَ ٱلْجَمِيعُ... فَٱلَّذِينَ تَشَتَّتُوا جَالُوا مُبَشِّرِينَ بِٱلْكَلِمَةِ... أَمَّا ٱلَّذِينَ تَشَتَّتُوا مِنْ جَرَّاءِ ٱلضِّيقِ... فَٱجْتَازُوا إِلَى فِينِيقِيَةَ وَقُبْرُسَ وَأَنْطَاكِيَةَ» (أعمال 8: 1، 4 و11: 19)، فنشروا رسالة المسيح التي أنارت المسكونة.

وإلى جانب التأثير الكرازي يحدِّثنا التاريخ عن التأثير الحضاري لهؤلاء البسطاء، منه أن الراهب تليماخوس الذي كان يتعبَّد في الصحراء سمع عن مباريات المبارزة بالسيوف في روما، فشعر بدعوة الله له أن يوقف نزيف الدم هذا. وفي أثناء مبارزة كان يشاهدها ثمانون ألفاً، نزل تليماخوس بثيابه الرهبانية بين المتبارزَيْن ليوقف القتل، فقتله أحدهما. وتأثر الجمهور من قتل الراهب، ومن يومها أُوقفت مبارزات القتل بالسيوف. لقد كانت البداية متواضعة ومكلفة، لكن تأثيرها كان عظيماً ومستمراً.

ثالثاً - بداية الملكوت هادئة

حبة الخردل حبة صغيرة يخفيها رجل في الأرض، والخميرة ضئيلة الحجم تخبئها امرأة في العجين، فلا نعود نسمع صوت الحبَّة ولا صوت الخميرة، حتى نظن أنهما انتهتا في الأرض، وفي العجين. لكن الحبة والخميرة تخترقان التربة والعجين وتنتشران فيهما، وتتفاعلان معهما، وتؤثِّران فيهما تدريجياً وفي صمت وهدوء، وتعطيان نتائج كبيرة أكبر من حجميهما. فالبداية صغيرة وخافتة لا صوت لها، شأنها شأن السيد المسيح صاحب الملكوت، فهو «لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي ٱلشَّوَارِعِ صَوْتَهُ» (متى 12: 19 تحقيقاً لنبوة عنه في إشعياء 2: 42). ولا غرابة فالنصيحة العظيمة تقول: «كُفُّوا (اهدأوا) وَٱعْلَمُوا أَنِّي أَنَا ٱللّٰهُ. أَتَعَالَى بَيْنَ ٱلأُمَمِ. أَتَعَالَى فِي ٱلأَرْضِ» (مزمور 46: 10)، وما أجمل قول النبي صفنيا: «إن الله يَسْكُتُ فِي مَحَبَّتِهِ» (صفنيا 3: 17). فهي محبة قوية فعّالة بدون ضوضاء، لأنها مثل النور الذي يضيء المكان دون أن نسمع له صوتاً، ومثل الملح الذي ينتشر في صمت كامل فيعطي الطعام طعمه المقبول ويحفظه من الفساد. فحبة الخردل وهي تنمو في الأرض، والخميرة وهي تخمر العجين، تعملان بهدوء وبغير ضوضاء.

وقد عمل ملكوت الله في عالمنا بهدوء الواثق، لا بضوضاء الخائف. وكل من ينضمّون إلى هذا الملكوت يسمعون نصيحة موسى لبني إسرائيل: «ٱلرَّبُّ يُقَاتِلُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ تَصْمُتُونَ» (خروج 14: 14)

رابعاً - بداية الملكوت فعّالة

يبدأ ملكوت الله بداية صغيرة، ولكنه ينمو تدريجياً في هدوء، ولا شك أن النصرة النهائية هي لرب الملكوت ولكل من هم له.. وقد تصيبنا البدايات الصغيرة باليأس، فنحاول أن نسندها بالقوة البدنية، لكن ملكوت الله لا يحتاج إلى مثل هذا العون، لأن القوة الكامنة فيه لا تحتاج إلى معونة خارجية، وهي تُنتج نتائج عظيمة وكبيرة. ومهما كان أتباعه قليلين فإنهم أقلية فعالة، وقد قال لهم: «لاَ تَخَفْ أَيُّهَا ٱلْقَطِيعُ ٱلصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ ٱلْمَلَكُوتَ» (لوقا 12: 32).

نعم، هناك قوة مغيِّرة كامنة في حبة الخردل وفي الخميرة، وضعها الله داخلهما. فحبة الخردل صغيرة جداً، ولكنها تنمو ليصل ارتفاعها من مترين إلى أربعة أمتار في سنة واحدة. والخميرة صغيرة، لكنها تخمِّر ثلاثة أكيال دقيق (هي الإيفة) يُصنع منها خبز يكفي مئة شخص لوجبة واحدة، فيُقال عنها: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ خَمِيرَةً صَغِيرَةً تُخَمِّرُ ٱلْعَجِينَ كُلَّهُ؟» (1كورنثوس 5: 6)، لأنها تجعل العجين مشابهاً لها، وتصيِّره كله من نفس النوع.

يبدأ ملكوت الله في قلب الإنسان الذي يسمع قول المسيح: «هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى ٱلْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ ٱلْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا 3: 20). وعندما يطيعه ويطلب منه أن يدخل قلبه يولد ولادة جديدة، فيبدأ طفلاً في الإيمان، ثم ينمو فيه ويشتهي اللبن العقلي العديم الغش (1بطرس 2: 2)، ثم ينمو أكثر فيأكل الطعام الروحي القوي الذي يناسب البالغين (عبرانيين 5: 14). وكل من يسلّم حياته للرب يمتلئ قلبه بالفرح، ويبدأ الروح القدس يعلّمه دروس كلمة الله العميقة، ويشرح له أبعادها، فيستوعبها ويبدأ فهم ما حدث له، ويشتاق أن يشارك غيره في ما اختبره، ويجاوب الذين يسألونه عن سبب الرجاء الذي فيه (1بطرس 3: 15).

وقد يقرع المسيح باب قلب الإنسان بآية أو عظة أو قصة تغيير حياة شخص، أو نتيجة مواجهة مشكلة يصعب عليه حلّها، فيقول للرب: «مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» (أعمال 9: 6)، وعندما يستجيب لعمل الرب في قلبه يُستأثر كل فكر فيه لطاعة المسيح (2كورنثوس 10: 5)، ويصبح شعاره: «خَبَّأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْكَ» (مزمور 119: 11)، وأخيراً يقول: «قَدْ جَاهَدْتُ ٱلْجِهَادَ ٱلْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ ٱلسَّعْيَ، حَفِظْتُ ٱلإِيمَانَ» (2تيموثاوس 4: 7).

ما أسعد من يختار النصيب الصالح الذي لا يُنزع منه (لوقا 10: 42)، ويقبل عمل الله في قلبه.

سؤالان

  1. اشرح باختصار طبيعة ملكوت الله كما تراها في مثلي حبة الخردل والخميرة.

  2. كيف ترى تحقيق مثلي حبة الخردل والخميرة في حياة المسيح على أرضنا؟

(هـ) عظمة قيمة الملكوت مثلا الكنز المخفى واللؤلؤة الثمينة

44أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ كَنْزاً مُخْفىً فِي حَقْلٍ، وَجَدَهُ إِنْسَانٌ فَأَخْفَاهُ. وَمِنْ فَرَحِهِ مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَٱشْتَرَى ذٰلِكَ ٱلْحَقْلَ. 45أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً تَاجِراً يَطْلُبُ لآلِئَ حَسَنَةً، 46فَلَمَّا وَجَدَ لُؤْلُؤَةً وَاحِدَةً كَثِيرَةَ ٱلثَّمَنِ، مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَٱشْتَرَاهَا (متى 13: 44-46)

يوضِّح مثلا الكنز واللؤلؤة طبيعة ملكوت الله في أنه ثمين ومفرح، مثل حقل يحوي كنزاً، ولؤلؤة رائعة يخطف بريقها الأبصار. وكل من يجد هذا الكنز وهذه اللؤلؤة لا يملك إلا أن يترك كل ما معه، ويتنازل عن كل ما يملكه في سبيل الحصول عليهما. وفي المثلين نرى أن الذي اشترى الحقل واللؤلؤة هو الخاطئ، وأن الحقل هو العالم، وأن الكنز واللؤلؤة هما المسيح، وأن الثمن المدفوع في الشراء هو ترك الإنسان لحياته القديمة بالتوبة، واتِّباع المسيح بكل القلب.

ومن هذين المثلين نتعلم أن البعض يجدون ملكوت الله بدون أن يبحثوا عنه، كما وجد الفلاح الكنز في الحقل، بينما يجده البعض الآخر بعد بحث وتفتيش، كما وجد التاجر اللؤلؤة. ولكن سواء كان العثور عليه بغير بحث، أو بعد بحث كبير، فإن الفضل في العثور عليه يرجع إلى الرب الصالح الذي يفتش عن الواحد الضال حتى يجده (لوقا 15: 4)، «لأَنَّكُمْ بِٱلنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِٱلإِيمَانِ، وَذٰلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ ٱللّٰهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ» (أفسس 2: 8 و9). وفي كل حال يستحق ملكوت الله أن نضحي بكل شيء لنحصل عليه.

وقد يرمز الكنز واللؤلؤة إلى المسيح المخلِّص نفسه «ٱلْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْعِلْمِ» (كولوسي 2: 3)، أو قد يشيران إلى عطاياه: وهي الحياة الأبدية، وغفران الخطايا، وسماء المجد التي تلمع كحجر يشب بلوري (رؤيا 21: 11). فعندما تكون لنا علاقة شخصية بالمسيح تُكتب أسماؤنا في سفر الحياة، وننال غفران خطايانا، ونصبح ورثة السماء، ونسمع القول: «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا ٱلْمَلَكُوتَ ٱلْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (متى 25: 34)

ويعلِّمنا المثلان أن الملكوت أمر شخصي، يجب أن يبيع الإنسان كل ما عنده ليحصل عليه، فيصير الملكوت له «كَمَخْبَأٍ مِنَ ٱلرِّيحِ وَسِتَارَةٍ مِنَ ٱلسَّيْلِ، كَسَوَاقِي مَاءٍ فِي مَكَانٍ يَابِسٍ، كَظِلِّ صَخْرَةٍ عَظِيمَةٍ فِي أَرْضٍ مُعْيِيَةٍ» (إشعياء 32: 2). ونحن لا ننتمي إلى الملكوت لأننا ننتمي إلى كنيسة معيَّنة، ولا لأننا وُلدنا في عائلة مؤمنة، لكن لأن الواحد منّا اتَّخذ قراراً شخصياً بتسليم حياته للمسيح، فيختبر الرب لنفسه. صحيحٌ أن تربيتنا الأولى في بيتٍ مؤمن تساعدنا أن نجد المسيح بسبب قدوة أبوينا وصلواتهما لأجلنا وتعليمهما الديني لنا، لكن العثور على الكنز مسؤولية فردية.

وليس المقصود بالمثلين أننا نشتري ملكوت الله، فهو لا يُشتَرى بمال، لذلك يهبه الله لنا مجاناً، فإن هبة الله هي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا (رومية 6: 23).

وليس المقصود بمثل كنز الحقل أن نخفي ثروة يملكها غيرنا لنأخذها نحن، فقد أوضح العلاّمة «إدارشايم» أن القانون اليهودي كان يقول إن من يجد عملات في وسط قمح اشتراه، تكون العملات له، وإن من وجد كنزاً في حقل يكون الكنز له، إن هو اشترى الحقل. ولكن المقصود بالمثلين هو قيمة الملكوت العظيمة وتكلفته الكبيرة، فهو ثمين جداً، يستحق أن نضحي بكل شيء لنحصل عليه. وهو كنز ثمين لأن فيه رضى الله، وفيه الحياة الأبدية، وهو الميراث الذي لا يفني ولا يتدنس ولا يضمحل (1بطرس 1: 4)، والذي وحده يملأ احتياج كل إنسان.. ولذلك يضحي الإنسان بكل شيء في سبيل امتلاكه، كما حسب موسى عار المسيح غنى أفضل من خزائن مصر (عبرانيين 11: 26)، وكما ترك الرسول بولس كل شيء ليحصل على الكنز واللؤلؤة، وقال: «لٰكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهٰذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ ٱلْمَسِيحَ وَأُوجَدَ فِيهِ» (فيلبي 3: 7-9). وقال القديس أغسطينوس في اعترافاته: «الذي كنتُ أخاف من مفارقته صار تسليمُه موضوعَ فرحي، لأنك يا رب، يا صاحبَ الحلاوة المطلَقة الحقيقية طردتَه من داخلي، وحللتَ بنفسك مكانه، يا أحلى مِن كل لذَّة!».

وكل من يتأكَّد من بركات المسيح يترك خطاياه، ولا يعنيه حُكم الناس عليه، ويضع كل خير دنيوي في المرتبة الثانية، وينكر نفسه ليتبع المسيح.. بل إنه يترك أغلى ما عنده حتى لا يتعطل عن الحصول على بركات الإنجيل، فيترك محبُّ المال بُخله، ويهجر الكسلان خموله، ويتخلى الشهواني عن شهواته، لأنه يفهم قول المسيح: «مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ٱبْناً أَوِ ٱبْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (متى 10: 37-39).

وسنتأمل في مثل الكنز المخفى الذي يرمز للذين يلتقي المسيح بهم دون أن يطلبوه، فهؤلاء يطلبهم المسيح. ثم نتأمل مثل اللؤلؤة الثمينة الذي يرمز للذين يلتقون بالمسيح بعد أن يكونوا قد طلبوه وفتَّشوا عليه.

أولاً - الذين يطلبهم المسيح

يصوِّر لنا مثَل الكنز المخفى في حقل حالة الإنسان الذي يجد المسيح بما يصفه البعض أنه «محض الصدفة» ولو أن الحقيقة هي أن الله يكشف هذا الكنز للإنسان دون طلب من ذلك الإنسان.

وفي زمن رواية المثَل لم تكن هناك بنوك، وكان الغزاة واللصوص يهاجمون البيوت والقرى والمدن وينهبون كل شيء، فكان الناس يحتفظون بكنوزهم في أوانٍ فخارية يدفنونها في الحقول، ليستردُّوها بعد جلاء الغزاة. وكان بعض أصحاب الكنوز يموتون تاركين كنوزهم وراءهم فتظل مدفونة إلى أن يعثر أحدهم عليها بالصدفة. ويقول مثَل الكنز المخفى في حقل إن فلاحاً كان يعمل في حقل عندما اصطدم فأسه بآنية فخارية تحوي كنزاً، فأخفى ما وجده، ومضى وباع كل ما يملكه واشترى الحقل ليكون الكنز له.

وفي عالمنا حقول كثيرة فيها كنوز، منها الأسرة، والعلم، والفن، والمال، والصداقة، والأدب، والرياضة، والسياسة، والمركز الاجتماعي.. لكنها كلها كنوز مؤقتة وفانية، ولا تُشبع إلا حاجات الجسد الفاني. لكن الحاجة الحقيقية الأبدية التي تُشبع النفس والروح هي إلى الكنز الواحد الذي هو المسيح، الذي يستحق أن نترك كل شيء في سبيل اتِّباعه، فنكون مثل مريم التي تركت كل شيء وجلست عند قدمي المسيح تسمع كلامه، بينما أختها مرثا (التي كانت أيضاً تحب المسيح) مهتمَّة بأمور أخرى كثيرة إلى جانب اهتمامها بالمسيح! وعندما اشتكت مرثا من أختها مريم، قال المسيح: «مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلٰكِنَّ ٱلْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَٱخْتَارَتْ مَرْيَمُ ٱلنَّصِيبَ ٱلصَّالِحَ ٱلَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا» (لوقا 10: 41، 42). ويقول المرنم: «نَظَرُوا إِلَيْهِ وَٱسْتَنَارُوا وَوُجُوهُهُمْ لَمْ تَخْجَلْ... ذُوقُوا وَٱنْظُرُوا مَا أَطْيَبَ ٱلرَّبَّ! طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ. ٱتَّقُوا ٱلرَّبَّ يَا قِدِّيسِيهِ لأَنَّهُ لَيْسَ عَوَزٌ لِمُتَّقِيهِ. ٱلأَشْبَالُ ٱحْتَاجَتْ وَجَاعَتْ، وَأَمَّا طَالِبُو ٱلرَّبِّ فَلاَ يُعْوِزُهُمْ شَيْءٌ مِنَ ٱلْخَيْرِ» (مزمور 34: 5 و8-10)، فيحتلُّ الله المكانة الأولى في عواطفنا وإرادتنا وعقلنا، ويجيء كل شيء في حياتنا بعده.

ومن المؤسف أن كثيرين في هذا العالم عندما يسمعون عن هذا الكنز السماوي لا يفهمون قيمته، لأنهم يظنون أنفسهم أغنياء وحكماء وأبراراً، أو لأنهم لامبالين، أو ساخرين. ويقول الوحي: «ٱلإِنْسَانُ ٱلطَّبِيعِيُّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ ٱللّٰهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً» (1كورنثوس 2: 14)، ولأن «إِلٰهُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِين» (2كورنثوس 4: 4)

ولكن كم نشكر الله الذي يفتح عيوننا لنرى كنزه. وما أجمل قول «ذو النون» الصوفي المصري: «عرفت ربي بربي. ولولا ربي ما عرفت ربي». ويقول المسيح: «لَيْسَ أَنْتُمُ ٱخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا ٱخْتَرْتُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ» (يوحنا 15: 16). وعندما نحصل على الكنز الإلهي تُسدَّد كل ديون ماضينا، وتتوفَّر لنا حياة سعيدة هانئة بدون هموم ولا احتياجات، ويكون الكنز بركة لمستقبلنا ومستقبل أولادنا «ٱلذُّرِّيَّةُ تَتَعَبَّدُ لَهُ. يُخَبَّرُ عَنِ ٱلرَّبِّ ٱلْجِيلُ ٱلآتِي. يَأْتُونَ وَيُخْبِرُونَ بِبِرِّهِ شَعْباً سَيُولَدُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ» (مزمور 22: 30، 31).

ونحن نجد كنز الغِنى الأبدي في الكتاب المقدس الذي هو «أَشْهَى مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلإِبْرِيزِ ٱلْكَثِيرِ» (مزمور 19: 10)، وقد أوصانا المسيح: «فَتِّشُوا ٱلْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ ٱلَّتِي تَشْهَدُ لِي» (يوحنا 5: 39).. كما نجده في ممارسة وسائط النعمة من صلاة وتعبُّد.. ونجده في صُحبة المؤمنين الذين نشتهي أن نكون مثلهم، لأننا نرى أعمالهم الحسنة فنمجد الآب السماوي (متى 5: 16). وعندما نجد الكنز نغتني، ونكون قد أطعنا وصية المسيح: «أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنِّي ذَهَباً مُصَفًّى بِٱلنَّارِ لِكَيْ تَسْتَغْنِيَ، وَثِيَاباً بِيضاً لِكَيْ تَلْبَسَ» (رؤيا 3: 18)، فنضع قلوبنا على هذا الغِنى الروحي و «حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً» (متى 6: 21).. وفي غِنانا نقدر أن نُغني غيرنا كما قال الحكيم: «شَفَتَا ٱلصِّدِّيقِ تَهْدِيَانِ كَثِيرِينَ» (أمثال 10: 21). ولا خوف من نفاد الكنز وانتهائه، فلنشارك غيرنا فيه، لأنه يكفي الجميع.

وكما وجد الفلاح الكنز في الحقل دون أن يفتش عنه، وجد كثيرون المسيح دون أن يطلبوه، بحسب القول: «وُجِدْتُ مِنَ ٱلَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي، وَصِرْتُ ظَاهِراً لِلَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِّي» (رومية 10: 20 مقتبسة من إشعياء 65: 1).. ومن هؤلاء: الرعاة الذين ظهرت لهم الملائكة وبشَّرتهم بولادة المسيح، فتركوا قطعانهم ليروا الأمر الواقع الذي أعلمهم الرب به، وزاروا الطفل في المذود (لوقا 2: 15، 16)، ومنهم لاوي الذي دعاه المسيح ليتبعه، فترك وظيفته وتبع المسيح (متى 9: 9)، ومنهم السامرية التي عرض المسيح عليها الماء الحي فارتوت، ومضت تخبر أهل بلدها سوخار عن المسيح (يوحنا 4: 28)، ومنهم زكا الذي طلب المسيح أن يحلَّ ضيفاً في بيته، فرحَّب زكا به، ثم أعلن المسيح أن زكا وأهل منزله قد نالوا الخلاص (لوقا 19: 1-10). ومنهم شاول الطرسوسي الذي صار بولس الرسول (أعمال 9: 1-22). ومنهم الأسقف الميثودستي جون سبحان من حيدرأباد، الذي قرأ نسخة من الإنجيل أهداها له صديق يظن أن الإنجيل محرَّف. ولكنه لم يجد فيه أثراً لزندقة، ولا ما يدفع أصحابه لتحريفه، ولا سبباً يجعلهم يلفِّقون قصة الصلب بما فيها من عار على مؤسس المسيحية، وأذهلته المبادئ السامية في الموعظة على الجبل، فقبل خلاص المسيح.. وما أكثر من يجدون اليوم رسالة الخلاص وهم يتنقلون بين إذاعات الراديو أو قنوات التلفزيون، بدون قصد منهم.

ثانياً - الذين يطلبون المسيح

يقدِّم لنا مثل التاجر الذي كان يطلب اللآلئ الحسنة، فوجد لؤلؤة فريدة جعلته يبيع كل ما عنده ليشتريها، صورةً للذين يفتشون على ملكوت الله فيجدونه، وينطبق عليهم القول: «إِنْ دَعَوْتَ ٱلْمَعْرِفَةَ وَرَفَعْتَ صَوْتَكَ إِلَى ٱلْفَهْمِ، إِنْ طَلَبْتَهَا كَٱلْفِضَّةِ وَبَحَثْتَ عَنْهَا كَٱلْكُنُوزِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُ مَخَافَةَ ٱلرَّبِّ وَتَجِدُ مَعْرِفَةَ ٱللّٰه»ِ (أمثال 2: 3-5). فإن الحكمة «أَثْمَنُ مِنَ ٱللآلِئِ وَكُلُّ جَوَاهِرِكَ لاَ تُسَاوِيهَا» (أمثال 3: 15). ويشجعنا المسيح على طلب ملكوت الله بقوله: «اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ» (متى 7: 7).

لقد خرج هذا التاجر وهو يطلب شيئاً غير عادي، لا يطلبه معظم الناس، فوجد كل ما يرجوه في لؤلؤة واحدة بهرت عينيه وجذبت قلبه، فقرر أن يحصل عليها ولو كلفه هذا كل ما يملك.. وهو يعلمنا أننا نجد في المسيح الغِنى كله، فنبيع أحقادنا وكراهيتنا وشهواتنا وأحلامنا الجسدية، ونتبع المسيح بغير إبطاء، وبعزم القلب، وبفرح حقيقي. وهي صفقة لا نندم عليها أبداً، وكلما مضت الأيام بنا نكتشف روعة ما وجدناه، ونقول مع الرسول بولس: «كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِماً فَرِحُونَ. كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ. كَأَنْ لاَ شَيْءَ لَنَا وَنَحْنُ نَمْلِكُ كُلَّ شَيْ» (2كورنثوس 6: 10).

ومن المفرح أن هناك رجاءً لكل من يطلب وجه الله، لأنه يقدر أن يقول: «لَمْ تَتْرُكْ طَالِبِيكَ يَا رَبُّ... لَكَ قَالَ قَلْبِي: قُلْتَ ٱطْلُبُوا وَجْهِي. وَجْهَكَ يَا رَبُّ أَطْلُبُ» (مزمور 9: 10 و27: 8).

ومن الذين فتشوا على الملكوت فوجدوه: المجوس، الذين قالوا إنهم رأوا نجم ملكٍ يولد لبني إسرائيل، فجاءوا إلى أورشليم ليسجدوا له، ثم مضوا إلى بيت لحم حيث وجدوه وسجدوا له، وقدموا له هدايا: ذهباً ولباناً ومُراً (متى 2: 1-12)، ومنهم وزير المالية الحبشي الذي سافر من الحبشة إلى أورشليم، واشترى مخطوطة سفر النبي إشعياء، وجعل يقرأ «مثل شاة سيق إلى الذبح، ومثل خروف صامت أمام الذي يجزُّه..» وهو يتساءل: عن من يقول النبي هذا؟ فأرسل الله له فيلبس المبشر ليشرح له نبوات التوراة، ويقوده لمعرفة المسيح، ويعمدّه، فيمضي في طريقه عائداً إلى الحبشة بكل الفرح (أعمال 8: 26-40).

ويُشبِّه المثل المسيح بلؤلؤة لأنه صلب قوي لا يتغير في إعلان الحق وفي خدمة البشر، وقد ظهرت صلابته يوم «ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ» (لوقا 9: 51)، وهو يعلم أنها ستصلبه، ولكنه «مِنْ أَجْلِ ٱلسُّرُورِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ ٱحْتَمَلَ ٱلصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِٱلْخِزْيِ» (عبرانيين 12: 2).

واللؤلؤة ذات بريق رائع. وبريق المسيح هو نور حياته، ونور تعليمه، ونور خلاصه، وهو القائل: «أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا 8: 12).

واللؤلؤة لا يطرأ عليها تغيير ولا تصدأ. والمسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد (عبرانيين 13: 8).

واللؤلؤة تبقى ثروة للعائلة جيلاً بعد جيل. والمسيح هو الغني الذي يُغني، وهو الذي من أجلنا افتقر وهو غني، لنستغني نحن بفقره (2كورنثوس 8: 9).

واللؤلؤة تُجمِّل. والمسيح «يُجَمِّلُ ٱلْوُدَعَاءَ بِٱلْخَلاَصِ» (مزمور 149: 4)

واللؤلؤة تترك تأثيرها الذي لا يُمحى في كل من وما تحتكُّ به. والمسيح يشفي منكسري القلوب، وينادي للمأسورين بالإطلاق، وللعمي بالبصر، ويرسل المنسحقين في الحرية (لوقا 4: 18).

٭ ٭ ٭

لقد وُجد الكنز بعد حفر، ووُجدت اللؤلؤة بعد طول طلب. وفي الحالتين اعتُبر الكنز واللؤلؤة فوق كل شيء، ويستحق التضحية بكل شيء في سبيل الحصول عليه. فماذا ستفعل ليكون ملكوت الله لك؟.. الكنز قيِّم تعتمد عليه وحده لضمان مستقبلك. ولكنك قد تجد كنزاً تظنه ذا قيمة، وهو في الواقع لا قيمة له، فتضحي لأجله بلا فائدة. وهناك معادن زائفة، وقد قال الحكيم: «تُوجَدُ طَرِيقٌ تَظْهَرُ لِلإِنْسَانِ مُسْتَقِيمَةً، وَعَاقِبَتُهَا طُرُقُ ٱلْمَوْتِ» (أمثال 14: 12)! فابحث عن القيِّم، ولا تنسَ أننا لن نحصل على اللؤلؤة إلا في هذه الحياة، فلنغتنم الفرصة السانحة الآن «لأَنَّهُ يَقُولُ: فِي وَقْتٍ مَقْبُولٍ سَمِعْتُكَ، وَفِي يَوْمِ خَلاَصٍ أَعَنْتُكَ. هُوَذَا ٱلآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا ٱلآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ» (2كورنثوس 6: 2).

سؤالان

  1. استخرِج مِن مثَلَي الكنز المخفى واللؤلؤة الثمينة كيف يجد الناس ملكوت الله؟

  2. ما هي أوجه الشَّبه بين المسيح واللؤلؤة الثمينة؟

3 - الآب يطلب أبناء لملكوته

(أ) التفتيش عن الضال- مثلا الخروف الضائع، والدرهم المفقود (لوقا 15: 1-10)

(ب) انتظار عودة الضال - مثل الابنين الأكبر والأصغر (لوقا 15: 11-32)

(أ) التفتيش عن الضال مثلا الخروف الضائع والدرهم المفقود

1وَكَانَ جَمِيعُ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ. 2فَتَذَمَّرَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: هٰذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ. 3فَكَلَّمَهُمْ بِهٰذَا ٱلْمَثَلِ: 4أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَأَضَاعَ وَاحِداً مِنْهَا، أَلاَ يَتْرُكُ ٱلتِّسْعَةَ وَٱلتِّسْعِينَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، وَيَذْهَبَ لأَجْلِ ٱلضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟ 5وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحاً، 6وَيَأْتِي إِلَى بَيْتِهِ وَيَدْعُو ٱلأَصْدِقَاءَ وَٱلْجِيرَانَ قَائِلاً لَهُمُ: ٱفْرَحُوا مَعِي، لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي ٱلضَّالَّ. 7أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هٰكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ. 8أَوْ أَيَّةُ ٱمْرَأَةٍ لَهَا عَشْرَةُ دَرَاهِمَ، إِنْ أَضَاعَتْ دِرْهَماً وَاحِداً، أَلاَ تُوقِدُ سِرَاجاً وَتَكْنِسُ ٱلْبَيْتَ وَتُفَتِّشُ بِٱجْتِهَادٍ حَتَّى تَجِدَهُ؟ 9وَإِذَا وَجَدَتْهُ تَدْعُو ٱلصَّدِيقَاتِ وَٱلْجَارَاتِ قَائِلَةً: ٱفْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ ٱلدِّرْهَمَ ٱلَّذِي أَضَعْتُهُ. 10هٰكَذَا أَقُولُ لَكُمْ يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ. (لوقا 15: 1-10).

(ورد مثل الخروف الضائع أيضاً في متى 18: 12-14)

روى المسيح ثلاثة أمثال هي «الخروف الضائع» و «الدرهم المفقود» و «الابن الضال» رداً على النقد الذي وجَّهه إليه الفريسيون المتزمِّتون والكتبة العارفون بالشريعة، الذين تذمروا عليه لأنه يقبل خطاة ويأكل معهم. فقد كان جميع العشارين والخطاة يقتربون منه ليسمعوه، لأنهم شعروا بخطاياهم، ولم يجدوا في تعاليم شيوخ اليهود ما يرشدهم إلى طريق المصالحة مع الله، بينما وجدوا عنده قبولاً، وسمعوا في تعليمه ما ملأ نفوسهم بالأمل في الغفران الإلهي، بعد أن كانوا يظنون أنهم مرفوضون من السماء والأرض!

لقد رأى المتديِّنون والخطاة معاً كيف سمح المسيح لامرأة خاطئة أن تبل قدميه بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها، وتقبِّل قدميه وتدهنهما بالطيب، فقال سمعان الفريسي: «لَوْ كَانَ هٰذَا نَبِيّاً لَعَلِمَ مَنْ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئِةٌ» (لوقا 7: 37-39). كما سمع المتدينون والأشرار معاً المسيح وهو يقول لزكا العشار الخاطئ: «يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ ٱلْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ» فأسرع زكا وقبله فرحاً. فلما رأى الجميع ذلك تذمروا قائلين: «إِنَّهُ دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئٍ» (لوقا 19: 5-7).

وقال شيوخ اليهود إن المسيح الذي يجلس مع الأشرار لا بد أن يكون منهم، وإن شبيه الشيء منجذبٌ إليه، وإن الإنسان يُعرَف من أصحابه. ولم يفهموا قوله: «لاَ يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى... لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ» (متى 9: 12، 13)، وتغافلوا قول الله: «لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ: هَئَنَذَا أَسْأَلُ عَنْ غَنَمِي وَأَفْتَقِدُهَا... وَأَطْلُبُ ٱلضَّالَّ، وَأَسْتَرِدُّ ٱلْمَطْرُودَ، وَأَجْبِرُ ٱلْكَسِيرَ، وَأَعْصِبُ ٱلْجَرِيحَ» (حزقيال 34: 11، 16). وعندئذٍ شرح المسيح طبيعة رسالته، وهي طلب البعيد والتفتيش عن الضال.

وتصوِّر لنا هذه الأمثال الثلاثة محبة الله، فالخروف الضائع والدرهم المفقود يرياننا المحبة التي تحتمل كل شيء وهي تطلب الضال وتفتش عليه، أما مثل الابن الضال فيرينا محبة الله التي تنتظر عودة الضال وترحِّب به عند رجوعه، «وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْ» (1كورنثوس 13: 7).

ونرى في الأمثال الثلاثة عُمق شقاء الخاطئ، فيُرينا مثل الخروف الضائع غباوة الخاطئ الذي يترك المرعى الأخضر ليضيع في أرض الجوع، معرِّضاً نفسه لافتراس الذئاب وذبح اللصوص. ويرينا مثل الدرهم المفقود الخاطئ غير العاقل الذي يضل ولا يدري أنه ضل، فيُدفَن تحت التراب. ويرينا مثل الابن الضال الخاطئ الثائر على الله.

وفي الأمثال الثلاثة نرى شرحاً واضحاً لخُطة المسيح لخلاص البشر، وردّ المسيح على المتعصِّبين المتكبِّرين، وتشجيعاً قوياً للتائبين الراجعين إلى الله.

فتعالوا نتأمل تصويراً مؤلماً للضياع، واهتماماً جاداً في التفتيش، وحفلاً مليئاً بالابتهاج.

أولاً - الضياع المؤلم

1 - ضياع الخروف:

تشتهر الخراف بسرعة الضلال، فهي تتبع أي خروف من القطيع دون أن تنتبه إلى توجيهات الراعي. وهي لا تعرف كيف ترجع، كما أنها لا تقدر أن تحمي نفسها من المخاطر. ويقول الوحي إن الخاطئ يشبه الخروف الضال: «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ» (إشعياء 53: 6). ويصفهم النبي إرميا بقوله: «أَمَّا أَنَا فَقُلْتُ: إِنَّمَا هُمْ مَسَاكِينُ. قَدْ جَهِلُوا لأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ» (إرميا 5: 4). ويحدِّثنا الرسول بطرس عن حماقة الأثمة، ويذكر بلعام كنموذج لهم، فيقول: «تَرَكُوا ٱلطَّرِيقَ ٱلْمُسْتَقِيمَ، فَضَلُّوا تَابِعِينَ طَرِيقَ بَلْعَامَ بْنِ بَصُورَ ٱلَّذِي أَحَبَّ أُجْرَةَ ٱلإِثْمِ. وَلٰكِنَّهُ حَصَلَ عَلَى تَوْبِيخِ تَعَدِّيهِ، إِذْ مَنَعَ حَمَاقَةَ ٱلنَّبِيِّ حِمَارٌ أَعْجَمُ نَاطِقاً بِصَوْتِ إِنْسَانٍ» (2بطرس 2: 15 و16 - قصة بلعام وحماقته في سفر العدد 22-24). وكان «ديماس» أحد الذين ضلوا عن الراعي الصالح بعد أن اختبر صلاحه، بالرغم من أنه كان من صحابة الرسول بولس، فكتب عنه يقول: «دِيمَاس قَدْ تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ ٱلْعَالَمَ ٱلْحَاضِرَ» (2تيموثاوس 4: 10). وقال الرسول بولس عن بعض الضالين: «لأَنَّ كَثِيرِينَ يَسِيرُونَ مِمَّنْ كُنْتُ أَذْكُرُهُمْ لَكُمْ مِرَاراً، وَٱلآنَ أَذْكُرُهُمْ أَيْضاً بَاكِياً، وَهُمْ أَعْدَاءُ صَلِيبِ ٱلْمَسِيحِ» (فيلبي 3: 18).

وعندما يضل الخروف يفقد رعاية الراعي وعنايته الحكيمة، ولا يجد المرعى الآمِن والماء المروي، ويعرِّض نفسه لمخاطر القفر وسط الأشواك والذئاب واللصوص، دون أن يُدرك مقدار الخطر الذي يتعرَّض له. ولكن الراعي الصالح في محبته ورعايته لا يترك الضائع، لأنه مرتبطٌ به عاطفياً، فقد رآه وهو يولد، واعتنى به، وسيعتني بنسله. ولهذا يذهب ليفتش عنه بغير كلل إلى أن يجده، مع أن هذا الضائع هو الذي آذى نفسه.

وبالمعنى الروحي يرى «الراعي الصالح» بداية الإنسان الذي خلقه على صورته ليعيش معه لكنه ضل عنه، فشوَّهته الخطية، ويرى حاضره السعيد لو أنه رجع إلى حظيرته فوجد الأمان والطعام، ويرى مستقبله إذ يصبح عضواً صالحاً في ملكوت الله، يهدي غيره، ويكون مصيره حياةً أبدية. ولهذا يفتش على الواحد الضال.

2 - ضياع الدرهم:

ضاع الخروف خارج نطاق رعاية الراعي، وضاع الدرهم في البيت وسط القش أو في التراب، ولو أن هذا الضياع لم يمحُ الصورة المنقوشة عليه، والتي تميِّزه وتوضح قيمته. كان الدرهم واحداً من عشرة دراهم نظمتهم المرأة عقداً تتزيَّن به وتدَّخره، فكان ضياعه تشويهاً للعقد وتنقيصاً لقيمته. والأغلب أنها «شبكة» عريسها لها، أو هديته لها يوم زواجهما. وكان انفراط العقد، أو ضياع درهمٍ منه يؤلمها عاطفياً لأنه رمز ارتباطها بمن تحب، ولأنها كانت تعتبر الضياع فألاً سيئاً يؤذن بموت زوجها، أو طلاقها منه. فكانت خسارة الدرهم مادية ومعنوية معاً.

ويضيع الإنسان وهو يجري وراء المال أو الشهوة، فلا يرى العلامات الإرشادية التي تحدِّد له الاتِّجاه الصحيح وطريق السير الآمِن، متغافلاً النصيحة الإلهية: «أُعَلِّمُكَ وَأُرْشِدُكَ ٱلطَّرِيقَ ٱلَّتِي تَسْلُكُهَا. أَنْصَحُكَ. عَيْنِي عَلَيْكَ» (مزمور 32: 8). وهو بهذا يضيِّع نفسه ويضيِّع أسرته، ويخسر صلته بإلهه، وهو يجهل أنه ضائع.

ثانياً - التفتيش الجاد

كشف لنا المسيح أن الضائع لا ولن يُنسى، فلا بدَّ أن «صاحبه ومالكه» سيفتش عليه، لأنه يعتبره ذا قيمة كبيرة. لهذا بذل الراعي والسيدة غاية جهدهما في التفتيش. ولم يكن تفتيشهما روتينياً ولا مجرد تأدية واجب، لكنه كان بعزم وإصرار «حتى يجده» و «حتى تجده».

أحب الراعي خروفه الضائع، فلم يقُل إنه مجرد واحد من مئة، بل ترك التسعة والتسعين وذهب يفتش عن هذا الواحد. وفي بحثه ثابر وهو يصعد جبلاً وينزل وادياً ويدوس على أشواك وأحجار تُدمي قدميه. إنه صورة باهتة للمسيح المصلوب، الذي أدمته مسامير اليدين والرجلين وإكليل الشوك وطعنة الحربة، ولكن هذا كله لم يثنِه عن إصراره على تخليص الضالين، فهو يبحث عنهم دائماً ويقول: « أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ كُلَّ عَبِيدِي ٱلأَنْبِيَاءِ مُبَكِّراً وَمُرْسِلاً قَائِلاً: ٱرْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ ٱلرَّدِيئَةِ وَأَصْلِحُوا أَعْمَالَكُمْ، وَلاَ تَذْهَبُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لِتَعْبُدُوهَا، فَتَسْكُنُوا فِي ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أَعْطَيْتُكُمْ وَآبَاءَكُمْ» (إرميا 35: 15). ويظل يدعو الضال حتى يسمع ويفتح باب قلبه!.. وفتشت المرأة بلهفة، دون أن تنتظر إلى الصباح، فأضاءت المصباح، وجعلت تبحث وهي تكنس كل ركن من أركان البيت، وفعلت كل هذا بلا تردد ولا تذمر ولا توقُّف، إلى أن وجدت درهمها المفقود.

البحث عن الضال هو إرادة الإله الذي يحب البشر، وهو المنطق السليم، فقد سأل المسيح سامعيه من اليهود الذين يحفظون السبت بتزمُّت: «مَنْ مِنْكُمْ يَسْقُطُ حِمَارُهُ أَوْ ثَوْرُهُ فِي بِئْرٍ وَلاَ يَنْشِلُهُ حَالاً فِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ؟» (لوقا 14: 5) فإن انتشال الغريق والبحث عن الضال المعرَّض للخطر أهم من طقوس حفظ يوم السبت. و بسبب حبه للخطاة عاد يسأل منتقديه: «أي إنسان منكم له مئة خروف وأضاع واحداً منها.. أو أية امرأة لها عشرة دراهم، إن أضاعت درهماً واحداً؟». وأراد بتساؤله أن يفتح بصيرتهم ليدركوا قيمة النفس الإنسانية الخالدة التي تفوق قيمة الخروف والدرهم!

ويعلّمنا المثلان أن الله يملك البشر جميعاً لأنه خلقهم، ولأنه يعتني بهم، ثم لأن المسيح افتداهم «بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ» (1بطرس 1: 19).. ولما كانوا مِلكه فهم أعزّاء عليه، يدعوهم أولاده. فليس الله خالقاً فقط، ولا هو اسم عَلمٍ مجرَّد بعيد عن خليقته، ولا هو مجرد حضور باهت في الخلفية البشرية، بل هو أبٌ قبل أي شيء. والأب يفرِّط في جبل من الذهب ولا يفرط في ابن واحد له. لقد سُئل أعرابي عن أحبّ أولاده إليه، فأجاب: «صغيرهم حتى يكبر، ومريضهم حتى يُشفى، وغائبهم حتى يرجع». فإن كانت هذه مشاعر أبٍ أرضي، فكم تكون مشاعر الآب السماوي!

ثالثاً - حفل الابتهاج

الحياة المسيحية حياة فرح عظيم، هو فرح الراعي الذي وجد خروفه الضائع، والمرأة التي وجدت درهمها المفقود. وهي في الوقت نفسه حياة فرح الضال الذي وُجد، فالخروف حُمل على الكتفين وأُعيد إلى الأمان مع باقي القطيع، والدرهم عاد إلى مكانه مع سائر الدراهم حول عنق المرأة. ودعا الراعي، كما دعت المرأة الأصدقاء والجيران ليشاركوهما الفرح العظيم.. ويُضيف المسيح إلى هذه الأفراح بُعداً رابعاً، هو فرح ملائكة السماء بعودة الضال لأنه «هكذا يكون فرحٌ في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة.. هكذا أقول لكم يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب»، فالملائكة يعرفون قدر النفس البشرية الثمين، ويدركون محبة الله للبشر، ويفهمون الأشواق الإلهية لتوبة الضالين، ويقدِّرون عظمة النجاة من عذاب النار، وروعة الحياة في النعيم في محضر الله، ويشتاقون إلى امتلاء السماء بربوات العائدين من أرض الضلال إلى الحياة مع الله.

كان اليهود يقولون إن السماء والأرض تفرحان بخاطئ واحد يهلك لأن الأرض تستريح من شره. ولكن المسيح يعلمنا أنهما تفرحان بتوبته، فتستريح الأرض من شره، لا لأنه هلك، بل لأنه تاب، فإن «مُخَلِّصنَا ٱللّٰه، ٱلَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1تيموثاوس 2: 3، 4).

وقد كان هذا الفرح مكلفاً للراعي وللمرأة، كما أن فرح السماء بالتائب مكلف، فيقول إشعياء النبي الإنجيلي عن الراعي الصالح: «مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ ٱلنَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحُزْنِ... لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا... وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا... ٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا... أَمَّا ٱلرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِٱلْحُزْنِ» (إشعياء 53: 3-6 و10).

ويعلن لنا مثل الخروف الضائع محبة الله التي لا تعرف حدوداً، فقد حمل الراعي خروفه «على منكبيه». والخروف دائماً يقاوم الحَمْل على كتفي الراعي، ويحاول جاهداً أن ينزل إلى الأرض، فيُتعِب الراعي ويُتعِب نفسه. ولكن الراعي الذي يدرك مصلحة الخروف أكثر من إدراك الخروف لها يمسك به، ويبقيه على كتفيه حتى يصل به إلى الأمان.. وما أكثر ما يفعل التائبون الشيء نفسه مع الرب الذي يحملهم، فيحاولون أن يستقلوا عنه. ولكنه يريدهم أن يعتمدوا عليه، لأنهم بدونه لا يقدرون أن يفعلوا شيئاً (يوحنا 15: 5). فلنتكل عليه، قائلين مع المرنم: «يَرُدُّ نَفْسِي. يَهْدِينِي إِلَى سُبُلِ ٱلْبِرِّ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ» (مزمور 23: 3).

٭ ٭ ٭

في هذين المثلين شرح المسيح خطته في خلاص البشر، وردَّ على المتعصِّبين والمتكبِّرين الذين انتقدوه. أما كل من يشعر أنه خاطئ ويرجع تائباً فإنه يقبله ويغفر له.. فليفحص كل واحدٍ منّا نفسه: هل يسير وراء الراعي المحب، أم هل هو في طريق الضلال؟ «وَأَنْتَ فَٱرْجِعْ إِلَى إِلَهِكَ» (هوشع 12: 6).

سؤالان

  1. ما هي التهمة التي وجَّهها شيوخ اليهود للمسيح؟ اذكر برهانين قدَّموهما على هذه التهمة، واذكر ردَّ المسيح عليها كما جاء في متى 9: 12 و13.

  2. لماذا فتَّش الراعي عن خروفه الضائع؟ ولماذا يفتش الله على الخاطئ الضال؟

(ب) انتظار عودة الضال مثل الابنين الأكبر والأصغر

11وَقَالَ: إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ٱبْنَانِ. 12فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي ٱلْقِسْمَ ٱلَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ ٱلْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ. 13وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ ٱلٱبْنُ ٱلأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ. 14فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ، حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ ٱلْكُورَةِ، فَٱبْتَدَأَ يَحْتَاجُ. 15فَمَضَى وَٱلْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ ٱلْكُورَةِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. 16وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلأَ بَطْنَهُ مِنَ ٱلْخُرْنُوبِ ٱلَّذِي كَانَتِ ٱلْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ. 17فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ ٱلْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً! 18أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، 19وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ. 20فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ، فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ. 21فَقَالَ لَهُ ٱلٱبْنُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً. 22فَقَالَ ٱلأَبُ لِعَبِيدِهِ: أَخْرِجُوا ٱلْحُلَّةَ ٱلأُولَى وَأَلْبِسُوهُ، وَٱجْعَلُوا خَاتَماً فِي يَدِهِ، وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ، 23وَقَدِّمُوا ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ وَٱذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ، 24لأَنَّ ٱبْنِي هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ. فَٱبْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ.

25وَكَانَ ٱبْنُهُ ٱلأَكْبَرُ فِي ٱلْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ ٱلْبَيْتِ، سَمِعَ صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصاً، 26فَدَعَا وَاحِداً مِنَ ٱلْغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هٰذَا؟ 27فَقَالَ لَهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ، لأَنَّهُ قَبِلَهُ سَالِماً. 28فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ. 29فَقَالَ لأَبِيهِ: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هٰذَا عَدَدُهَا، وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ، وَجَدْياً لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي. 30وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ ٱبْنُكَ هٰذَا ٱلَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ ٱلزَّوَانِي، ذَبَحْتَ لَهُ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ. 31فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ، وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ. 32وَلٰكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ، لأَنَّ أَخَاكَ هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ (لوقا 15: 11-32).

رأينا أن أمثال الخروف الضائع، والدرهم المفقود، والابن الضال تصوِّر مشاعر الله الذي يريد أن يردَّ الضال. ويُصوِّر مثل «الابن الضال» حالة الضال قبل عودته، فهو يثور ضد أبيه ويرفض تكليفاته، ويحيا في خطاياه، ويتصرَّف مثل أهل المدينة الذين قالوا عن حاكمهم: «لاَ نُرِيدُ أَنَّ هٰذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا» (لوقا 19: 14)، ومثل المستأجرين الأشرار الذين رفضوا أن يقدِّموا ثمر الكرم لصاحبه، فلما أرسل إليهم ابنه لعلهم يهابونه، قالوا: «هٰذَا هُوَ ٱلْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ!» (متى 21: 38)، فأضرّوا أنفسهم أبلغ الضرر، كما أضرَّ الابن الأصغر نفسه بصورة مؤقَّتة، أنهاها برجوعه، وكما أضرَّ الابن الأكبر نفسه بصورة دائمة، إذ انتهت قصته به خارج بيت أبيه.

ونرى في مثل الابن الضال ثلاث شخصيات: الابنين الأكبر والأصغر، والأب الذي هو بطل القصة. ومع أننا نسمّي المثل «مثل الابن الضال» إلا أننا يجب أن نسميه «مثل الأب المحب» فليس هناك بطولة في الضلال، لكن هناك بطولة عظيمة في قبول الضال الراجع.

أولاً - الضال

1 - خطوات سقوطه:

  1. ضجر من العيشة مع أبيه: بدأ الضلال فكراً في عقله، فكانت أول كلمة قالها وسجَّلها لنا الوحي: «أعطِني». لم يفكر في انزعاج أبيه لو أنه هجر البيت، ولا اهتمَّ بأن يعرف إرادة أبيه، بل انحصر كل فكره في أن الحياة في بيت أبيه هي مصدر ضجره وضيقه. فكان ضلاله في أنانيته سابقاً لضلاله في الكورة البعيدة، وكان اتجاهه الفكري السلبي أساس تصرُّفه المنحرف.. لقد تنكَّر لمكانه الطبيعي وبيته وماضيه وأبيه ونفسه وإيمانه، وأراد أن يبتعد عن بيت أبيه بقدر ما يستطيع، لأنه ظنَّ أن هذا يحرِّره، ويجعله شخصاً آخر أسعد حالاً. ولكن عندما يغترب الإنسان عن أبيه وعن نفسه كما يجب أن تكون، يفقد الأمان، لأن الله خلقنا بهدف معيَّن، فإذا لم نحقِّقه ضاع منّا معنى حياتنا.

  2. ظنَّ أنه يقدر أن يستقل عن أبيه: رسم الفكر الخاطئ للابن الأصغر أوهاماً زائفة، منها أنه يقدر أن يعيش سعيداً بعيداً عن أبيه، فطلب نصيبه من الميراث بدون أن يكون له الحق في طلبه، لأن أباه ما زال على قيد الحياة. وكان خطؤه أنه اعتبر أباه مصدراً للماديات، يأخذ منه، ولم يعتبره شخصاً ينتمي إليه ويحبه. وكان يمكن أن الأب يرفض طلب ابنه ويخيِّره بين البقاء في البيت أو الخروج منه خالي اليدين، ولكن الأب في محبته أراد أن يعلّمه درساً مكلفاً لكنه أساسي، فالدروس التي نتعلمها بدون ثمن سرعان ما تُنسى، أما الدروس التي تكلفنا كثيراً فتبقى في أعماقنا. وأراد الأب لابنه أن يتعلم بالطريق الصعب. ثم أنه لو أجبره على البقاء لحرمه من إنسانيته، ولكانت نتيجة الإجبار تأجيل انفجار ثورة الابن. لهذا منح الأب الحكيم ابنه حرية الاختيار.

    ومن الغريب أن الخاطئ اليوم يحيا بكل ما يمنحه الله له من خيرات، وفي وقت الحاجة يدعوه: «أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ... خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا ٱلْيَوْمَ» (متى 6: 9، 11)، لأنه يعلم أننا «بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ» (أعمال 17: 28)، ويعرف قول المسيح: «بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً» (يوحنا 15: 5).. ولكنه يريد أن يستقلَّ عنه، ويردِّد قول فرعون: «مَنْ هُوَ ٱلرَّبُّ حَتَّى أَسْمَعَ لِقَوْلِهِ ؟.. لاَ أَعْرِفُ ٱلرَّبَّ» (خروج 5: 2).

  3. استخدم مال أبيه استخداماً سيئاً: بحسب الشريعة الموسوية كان للوالد سلطان كامل على ممتلكاته، فكان يمكن أن يسند إدارتها لأولاده، لكنه لم يكن يملِّكها لهم. ولكن بطل قصتنا كان حكيماً، فأعطى ابنه نصيبه من المال، وترك له حرية التصرف، وسمح له بالبقاء في بيته لفترة باع أثناءها ما أعطاه له. بعدها حمل مال أبيه، الذي اعتبره ماله، وسافر إلى بلد بعيد، فتجمَّع حوله أصدقاء السوء، وأخذوا يتملقونه ويسهِّلون له طرق الغواية، فبذَّر ماله بإسراف حتى انتهى، فانفضَّ أصدقاؤه عنه. ولم يجد إلا واحداً منهم سمح له أن يرعى خنازيره. وواضحٌ أنه غير متديِّن، لأنه كان يخالف شريعة موسى التي أمرت بعدم أكل لحم الخنزير (لاويين 11: 7 وتثنية 14: 8).

  4. وصل إلى نهاية سيئة: نهاية الاغتراب عن الله خراب ودمار، وهذا ما انتهى إليه أمر الابن الضال. ففي نهاية المطاف أخذ يتأمل ما وصل إليه: إنه وحيد، رث الثياب، جائع، تفوح منه رائحة الخنازير! وبعد وقت اكتشف أن الخنازير كانت أفضل منه حالاً، لأنها كانت تأكل الخرنوب الذي لا يجده هو ليأكله! لقد انتقل من الغنى إلى الفقر، ومن الكرامة إلى الهوان، ونال الشوك من قدميه، وضاعت منه صورة أبيه، وشعر بالخجل من نفسه. لكن المؤسف أنه تمادى في الطريق الخاطئ، ولم يفكر في تصحيح مساره، ولسان حاله ما قاله رُديارد كبلنج في قصيدته «الابن الضال»:

أبي ينصحني عابساً،

وأخي ينظر إليَّ باحتقار.

أمي تستجوبني،

حتى رغبتُ أن ألعن الكل وأهرب!.

2 - اكتشاف مؤلم:

  1. اكتشف خطأ التحلُّل من قيود أبيه: صار الابن الضال سجين اختياره وأسير ذاته، بلا عائلة ولا أصدقاء. وقد وصف أبوه حالته بأنه «ميت وضال» فالضلال موت روحي بالانفصال عن الله، وأبدي بالنهاية المرعبة في جهنم. كان الابن الضال قد تساءل: لماذا أسير على قضيبين، هما وصاية أبي ونصائحه، يحدّان حريتي؟.. ولكنه اكتشف بعد أن خرج عنهما أنه اصطدم بالذل والجوع والضياع، فإنه «تَكْثُرُ أَوْجَاعُهُمُ ٱلَّذِينَ أَسْرَعُوا وَرَاءَ آخَرَ» (مزمور 16: 4).. لم يدرك هذا الابن أن القضيبين نعمة، وأن الحرية المنظمة هي الاستقلال والأمان، فاستيقظ ليرى أنه يحتاج إلى قوانين أبيه وحمايته. وقادته حاجته إلى تساؤل آخر: لماذا أبقى حيث أنا وعبيد أبي أفضل حالاً منّي؟.. وكان فُقدان أمله في إصلاح حاله بداية العمل الإلهي في قلبه.

  2. اكتشف قِصر لذة الخطية: نعم في الخطية لذة، والذي ينكر هذا يخدع نفسه، لكنها لذة مؤقتة، فالخطية كالماء المالح الذي يزيد شاربه عطشاً. وبعد السكرة تجيء العبرة، وبعد أكل الحصرم تضرس الأسنان، وبعد شُرب الكأس تحمرّ العينان!

3 - نهوض الروح:

  1. نهض فكره: كأنه كان سكراناً فأفاق، أو تائهاً فعثرت قدماه على بداية الطريق الصحيح. إنه يذكِّرنا بالملك نبوخذنصر الذي ضلَّ ضلالاً بعيداً، ومدح نفسه واغترَّ، وقال عن عاصمته: «أَلَيْسَتْ هَذِهِ بَابِلَ ٱلْعَظِيمَةَ ٱلَّتِي بَنَيْتُهَا لِبَيْتِ ٱلْمُلْكِ بِقُوَّةِ ٱقْتِدَارِي وَلِجَلاَلِ مَجْدِي!» فطار عقله وأخذ يأكل العشب كالثيران، إلى أن عاد إلى نفسه، فعادت إليه نفسُه، ورفع عينيه إلى السماء، فرجع إليه عقله، وسبَّح وحمد الله الحي إلى أبد الآبدين، صاحب السلطان الأبدي، فعاد إلى جلال مملكته ومجده وبهائه، وطلبه مشيروه وعظماؤه (دانيال 4: 28-37).

    نهض فكر الابن الضال، فقال: «أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ». وهذه بداية الاعتراف الصحيح، لأن إصلاح علاقتنا بالله يسبق إصلاح علاقاتنا بالناس، فكان كمال الاعتراف قوله: «يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاك».

    كانت خمس طبقات من الناس تعيش في البيت العبري، أولها الأبوان، ثم الأبناء، ثم العبيد الذين يشترونهم بالمال ويقيمون في البيت، ثم الخدَم الذين يجيئون يومياً للمساعدة، ثم الأجرى الذين يجلسون في السوق ينتظرون أن يستأجرهم من لا يهمُّه حتى أن يعرف أسماءهم. وفكَّر الابن الضال أنه لا يستحق أن يكون ابناً لأنه أضاع كل امتيازات بنويته، وهو لا يصلح أن يكون عبداً لأن صحته تدمَّرت، وهو لا يظن أنهم سيقبلونه خادماً فيرون وجهه في البيت كل يوم بعدما ارتكب في حقِّهم كل حماقة. فلم يبقَ له إلا استجداء عمل الأجير، وكأنه يقول لأبيه: إن قبلتني كأحد أجراك، سأبقى بعيداً حتى تستدعيني عندما تحتاج إلى عملي. وسأبقى بعيداً حتى لا أحرجك.

  2. نهضت عزيمته: كان جالساً في التراب عندما نهض فكره بعد أن جاءه الخاطر الصالح بالرجوع إلى أبيه، فنهضت عزيمته وأطاع، وترك الخنازير التي ترمز إلى الخطايا وأصدقاء السوء، فهي تتمرغ في الوحل وتأكل الفضلات. ولم يفكر في بُعد المسافة التي تفصله عن بيت أبيه، ولم يقف في سبيل عودته عائق!.. وما أن وصل إلى بداية الشارع الذي يقع فيه بيت أبيه حتى رآه أبوه قبل أن يرى هو أباه. وكانت دهشته شديدة، لأنه انتظر الرفض فلقي الترحيب، وكان يتوقَّع الإهانة فوجد الخاتم علامة الرضى والإكرام، وأُلبِس الحذاء علامة البنويَّة (كان العبيد حفاةً). وكان يظن أن نصيبه سيكون العمل الشاق فوجد الوليمة. ثم كانت مكافأة التوبة أنه صار ضيف الشرف.. لقد أظلمت حياته وتكدَّر بيت أبيه بسبب عصيانه، ولكن غفران الأب أنهى الظلام، فضاءت أرجاء البيت بأنوار الحفل المبهج. فما أجمل الرجوع إلى الآب لأنه الرجوع إلى الأصل.

    بدأ الابن الضال ثائراً، وقادته ثورته إلى الحسابات الخاطئة والضياع، فبدأ يحتاج ويجوع. وقاده الجوع والحاجة إلى تذكُّر امتيازات بيت أبيه، فتاب ورجع وفرح، وهكذا شُفيت جروح الخطية وسمومها. أما ندوب الجروح وآثار السموم فلا تُمحى كلها، فالمال الذي أُنفق لن يعود، والوقت الضائع في الكورة البعيدة لن يُسترجَع، وستبقى ذكريات خيانة الأصدقاء وصُحبة الخنازير وطعم الخرنوب عالقة في ذاكرة التائب الراجع.

    دعونا نرجع إلى الله تائبين إن لم نكن قد فعلنا هذا. ليس أبوك غاضباً عليك، بل هو حزينٌ لبُعدك. لا تخف من الرفض. ارجع إليه تلقَ القبول، وتسمعه يقول: «أَخْرِجُوا ٱلْحُلَّةَ ٱلأُولَى وَأَلْبِسُوهُ، وَٱجْعَلُوا خَاتَماً فِي يَدِهِ، وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ، وَقَدِّمُوا ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ وَٱذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ، لأَنَّ ٱبْنِي هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاّ ًفَوُجِدَ».

ثانياً - الابن الأكبر

قصد المسيح بالابن الأصغر العشارين والخطاة الذين هم خارج الهيكل، وقصد بالأكبر الفريسيين والكتبة الذين هم حسب الظاهر داخل الهيكل، لكن قلوبهم خارجه. والفريقان متشابهان في أنهما محرومان من العلاقة الشخصية برب الهيكل. وكلاهما خاطئ، ولو أن أحدهما كالابن الأصغر تتقدَّمه خطيته رافعةً أعلامها، والآخر تتبعه خطيته ولا تكاد تُرى. كان الابن الأكبر ضالاً داخل البيت، بينما ضلَّ أخوه الأصغر خارج البيت. وكل الذين يعبدون الرب كواجب ويؤدّون واجباتهم الدينية كفروض يشبهون الابن الأكبر، الذي كان يمتلك كل ما لأبيه، ولكنه لم يكن فرحاناً. وكم كنا نتمنى لو أن هذا المثل انتهى برجوع الابن الأصغر، والجميع يحتفلون بعودته بمن فيهم الابن الأكبر. ولكن المثل ينتهي بالابن الأكبر خارج البيت غاضباً على أبيه وأخيه.

ونرى تصويراً للابنين الأكبر والأصغر في مثل «الفريسي والعشار»، فالفريسي يقول: «اَللّٰهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي ٱلنَّاسِ... وَلاَ مِثْلَ هٰذَا ٱلْعَشَّارِ» (لوقا 18: 11)، والعشار لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء بل قرع على صدره قائلاً: «ٱللّٰهُمَّ ٱرْحَمْنِي أَنَا ٱلْخَاطِئَ» (لوقا 18: 13)، فنزل إلى بيته مُبرَّراً.

عندما رجع الابن الأكبر من عمله في الحقل، وعرف أن أخاه الضال قد عاد، كان يجب أن يقول: «ما أسعدني لأن أبي فرح بعد أن انزاح عن قلبه حِمل همِّه الثقيل، ولأن أخي الذي كان ضالاً متعَباً اطمأن واستراح». لكنه كان أنانياً ومنفصلاً عن مشاعر أبيه بسبب طباعه المتكبِّرة ومحبته لنفسه دون الآخرين. كان أخوه الأصغر يأكل خرنوب العالم أما هو فكان يأكل خرنوب عقله الثائر على مشاعر أبيه، وهو يظن أنه صالح بار، في غير حاجة إلى طبيب مع أنه المريض الحقيقي، فأقام حواجز نفسية بينه وبين أبيه. وربما كان بكبريائه وتعنُّته سبب ضلال أخيه الأصغر. فتعالوا نتأمل أخطاءه لنحترس منها:

  1. كراهيته لأخيه: البيت هو المكان الذي نعيش فيه على طبيعتنا، ونطمئن فيه لبعضنا، فإذا فرح أحد أفراده فرح الجميع، وإذا تألم أحدهم تألم الكل، لأنهم عائلة واحدة. ولكن الابن الأكبر لم يكن يملك هذه المشاعر العائلية الطيبة. ومع أنه عاش في البيت إلا أن قلبه كان خارج البيت. وعندما سمح الأب بسفر الابن الأصغر ومعه نصيبه من المال تضايق الأكبر من أبيه ومن أخيه، ولكنه كتم غيظه لأن أباه صاحب الكلمة الأخيرة. وعندما رجع أخوه زاد غضبه لأنه ظن أنه رجع ليقاسمه في ما بقي من ميراث. ولا بد أنه تساءل: لماذا يقبل أبي من لا يستحق القبول؟ لماذا يرحِّب بمَن بدَّد ماله بعيش مسرف ولوَّث سمعة الأسرة؟

    لم يفرح الابن الأكبر بعودة الضال، بل تحدث عنه باحتقار. لم يقل «أخي» بل قال: «ابنك هذا»! لأنه لا يحبه ولا يشفق عليه، ولم يقدِّر آلام أبيه أثناء غيبة أخيه، ولا قدَّر الثمن الذي دفعه أخوه في بُعده عن بيت أبيه من شقاءٍ وحرمان وندم. ولكنه ضخَّم خطايا أخيه وقال إنه «أكل معيشتك مع الزواني» مع أن المثل لم يذكر للابن الضال هذه الخطية. وقال: ذبحت «له» العجل المسمَّن، ولم يقل: ذبحت «لنا».

    كان الابن الأكبر مثل قايين الذي أبغض أخاه هابيل وقتله (تكوين 4: 8)، لا بسبب ضيقٍ اقتصادي، فقد كانت الأرض متَّسعة أمامهما، لكنه قتله بسبب شرِّ قلبه.. وتصرَّف الابن الأكبر مثل عيسو الذي (لأنه البكر) كان يجب أن يكون كاهن العائلة. وكان نصيبه المضاعف من الميراث بمثابة مكافأة له لأنه قائد الأسرة الروحي، والمحافظ على كتبها المقدسة، والمسؤول عن العبادة فيها (تكوين 25: 27-34 و27: 41). ولكنه احتقر مسؤوليته الدينية، فأخذ يعقوب (أب الأسباط) منه امتيازه. فحقد عيسو على أخيه وعزم أن يقتله بعد موت إسحاق أبيهما.. وكان الابن الأكبر مثل إخوة يوسف الذين باعوه عبداً في مصر، لأن أباه كان يميِّزه عنهم (تكوين 37: 18-24).

  2. عدم احترامه لأبيه: لم يفهم الابن الأكبر مشاعر أبيه، ولم يقدر أبداً أن يدرك مقدار حزنه على ضلال ابنه الأصغر. ونسي أن رجوع الضال هو رغبة قلب أبيه واستجابةٌ لصلواته الكثيرة.. ولم يفهم حياة أبيه الإيمانية، فقد كان قلب الأب عامراً بالإيمان والرجاء والمحبة: الإيمان في ابنه الأكبر الذي يعيش معه، وفي عودة ابنه الضال.. والرجاء في حياة أفضل بعد لمّ شمل العائلة، فيكون الغد المشرق قادماً.. والمحبة للابنين الأكبر والأصغر، القريب والبعيد. لكن لم يكن في قلب الابن الأكبر إيمان ولا رجاء ولا محبة! كان يحيا وسط البَرَكة دون أن تمسَّ البركةُ قلبه!.. ولم يفهم امتياز العمل مع أبيه ولا تمتُّعه بالرعاية والأمان في القرب منه، فقال له: «هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هٰذَا عَدَدُهَا» فاعتبر العمل المفرح في حقول أبيه خدمة عبودية وعبئاً ثقيلاً، وكان الواجب أن يدرك أنه يعمل لخيره ولخير العائلة كلها. صحيحٌ أنه كان يعمل باجتهاد، وكان في الحقل عندما عاد أخوه، لكنه أدّى العمل بتذمر، ولم يكن فرحاناً به. إنه يذكِّرنا بالعمال الذين كانوا يقطعون الأحجار في الجبل، فسألهم شخصٌ عمّا يعملون، فقال أحدهم: أكسر حجارة. وقال الثاني: أعول أولادي. وقال ثالث: نبني كنيسة. والإجابات الثلاث صحيحة، ولكن روح صاحب كل إجابة تكشف عن نظرته للحياة. فالأول كان يعمل بتذمُّر، ولا بد أن مشاعره النفسية تركت أثرها على صحته. وكانت دوافع الثاني إنسانية، لأنه يرى عمله خدمةً لأسرة يحبها. أما الثالث فقد رأى إلى جوار العمل وإعالة الأسرة علاقةً مفرحة مع الله، فهو يبني كنيسة، ويقدم خدمة للرب. وكان الابن الأكبر يفكر كالعامل الأول بدليل قوله لأبيه: «هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هٰذَا عَدَدُهَا».

    ولعل قمة التعبير عن عدم احترامه لأبيه أنه «غَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُل» البيت احتجاجاً على تصرفات أبيه، فخرج أبوه إليه، وشرح له ما حدث، ولكنه استمر خارج البيت.

  3. إحساسه الزائد بصلاحه: قارن نفسه بأخيه الضال فوجد أنه أفضل منه لأنه لم يخطئ، فقال لأبيه: «قَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ». واعتبر أنه أفضل حكماً على الأمور من أبيه الذي قبل أن يقسم معيشته بين ولديه في حياته، ونسي أن كل «مَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ، وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ» (متى 23: 12).

  4. إحساسه بأنه مظلوم: اعتقد أنه لم ينل المكافأة الواجبة، فقال لأبيه: «جَدْياً لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي». ولا بد أن أباه صُدم وفزع من إجابته، فقال له: «يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ، وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَك». ثم عاتبه عتاب الحب، وحاول أن يفتح بصيرته لمباهج يومهم بعودة أخيه، وهي أفراحٌ كان يجب أن تغسل كل شكوى وضغينة.. وإحساس الابن الأكبر بالظلم ورثاء الذات إحساسٌ طفولي أناني، لأنه أراد أن يكون وحده مركز الاهتمام، فنسي أن يشكر أباه، وتناسى أن كل ما عنده هو من فضل أبيه عليه.

  5. خطيته غير معلَنَة: كان الجميع يحترمونه، ويقارنون بينه وبين أخيه الأصغر العاق، فيزيدون احتراماً له. ولكن خطاياه كانت داخلية نفسية مختفية، حتى جاء وقت تفجير مشاعره المكبوتة وإعلانها. لقد عاشت خطيته في قلبه بالرغم من أنه يعيش في بيت أبيه. وينتهي المثل به خارج البيت غاضباً، بينما أخوه داخل البيت فرحاً.. ولم يطرده أحدٌ، لكنه طرد نفسه بإرادته، بعد أن حجبت كراهيته لأخيه وعدم احترامه لأبيه باب السعادة عن عينيه.

ثالثاً - الأب

الشخصية الرئيسية العظمى في هذا المثَل هي شخصية الأب، لأن المثَل يبدأ بالقول: «إنسان» كان له ابنان، فالأداء الأكبر في المثل هو أداء الأب. صحيح أن الابن الضال شخصية رئيسية، لكنه ليس الشخصية الأساسية الرئيسية، فالشخصية الرئيسية هي شخصية الأب الذي حرَّك كل شيء، فهو الذي منح الابن الضال حرية الاختيار، وهو الذي استقبله بالترحيب عندما رجع، وهو الذي احتمل بأسى تصرفات ابنه الأكبر الذي لم يفارقه بجسده ولكنه كان منفصلاً عنه بمشاعره، وبقي يمدُّ له يد المحبة. والحوار الذي دار بين الأب وابنه الأكبر أطول من الحوار الذي دار بينه وبين الابن الذي ضلَّ. وكان حوار الأكبر حوار الاحتجاج والغضب والإحساس بالظلم، ورفض كل توضيح قدَّمه الأب له. أما الحوار مع الابن الضال فكان بالعمل أكثر منه بالكلام، فقد أعطاه الأب نصيبه في الميراث حسبما طلب، ومنحه حرية التصرف. ولما رجع تائباً لم يعاتبه، بل قَبِلَهُ وأغدق عليه عطاءً غير محدود. وفي الحالتين كان حوار الأب مع ابنيه حوار المحبة المتأنية الغافرة المحتمِلة.

1 - الأب وابنه الأصغر:

في توضيح مشاعر الأب نحو ابنه الضال الراجع شرح لنا المسيح مشاعر الله الحقيقية من نحو البشر. لقد ظنَّه اليهود قاضياً جباراً لا يرحم في قضائه، يطالب الإنسان دائماً بدفع ثمن أخطائه. فأعلن لنا المسيح أنه الأب المحب الشفوق الذي يحب الخاطئ ولو أنه يكره خطيته. هنا نرى الأب الذي أُسيء إليه، وأُخذ ماله ليُنفَق بطريقة خاطئة. ولكن ما أن رجع الضال تائباً حتى استقبله بالفرح. ولم يتوقع الابنان مثل هذا الغفران من الأب!

حكى قسيس قصة عن نفسه عندما كان صبياً، فقال إنه كان يحترم أباه ويجلُّه جداً، ولكنه كان يخشاه ويخاف منه. وكان الأب متديِّناً يأخذ عائلته كلها إلى الكنيسة بانتظام. وذات يوم حار رطب ذهب الصبي مع أبيه إلى الكنيسة، فثقُلت أجفانه وبدأ يغمض عينيه، فمدَّ أبوه ذراعه نحوه، فخاف، لأنه ظن أن أباه سيعنِّفه ويهزُّه ليوقظه. ولكنه لدهشته وجده يحتضنه ويسنده في وضعٍ مريح لينام، فانفتحت عيناه على حب أبيه له. وقال الابن بعد ذلك: «كنت أظن أبي قاسياً، لكني منذ ذلك اليوم عرفت حقيقة أبي، فهو يحبني ولا يمدُّ يده ليرعبني، لكن ليسندني». ثم قال: «وهكذا قدرت أن أفهم مشاعر أبي السماوي من نحوي».

أظهر الأب تعاملات محبته لابنه التائب، حتى بعد أن أخذ منه كل ما أخذ، وأنفقه بطريقة سيئة. فلما عاد، أعطاه الحُلّة، والخاتم، والحذاء، وقدَّم للجميع وليمة الفرح. حقاً إن عدم أمانتنا لا يبطل أمانة الله، ونقص حبنا للرب لا ينقص حبه لنا أبداً (2تيموثاوس 2: 13).

2 - الأب وابنه الأكبر:

«خَرَجَ يَطْلُبُ إِلَيْهِ». لم يدخل الابن الأكبر البيت بعد أن عرف سبب الاحتفال البهيج، فترك أبوه الوليمة والضيوف وابنه التائب، وخرج إليه يرجوه أن يدخل، لأن سعادته لا تكمل إلا وولداه معه في بيته. مع أن الواجب كان أن الابن الأكبر يدخل ليشارك أباه وأخاه فرحة التوبة والعودة.

قال الأب للابن الأكبر: «يا بنيَّ» فذكَّره ببنوَّته ودعاه ابناً مع أنه لم يدعُه أباً، لأنه أراد أن يطفئ نار الغضب داخله على أبيه، ونار الحسد والغيرة من أخيه.

ثم قال له: «أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ» فذكَّره بصُحبته وإقامته الدائمة معه في البيت. إنه لم يغِب عن أبيه، ولم يذُق مرارة الفراق، ولا وصل إلى حافة الهاوية، فلم يكن هناك ما يدعو إلى احتفال خاص به، بعكس الأمر مع الأخ الأصغر.

وقال له: «وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ» فذكَّره بممتلكاته، وأنه لا داعي لخوفه من قسمةٍ أخرى للمال، فقد أخذ الأصغر نصيبه، وكل ما تبقّى الآن هو للأكبر.

وختم الأب حديثه بقوله: «وَلٰكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ، لأَنَّ أَخَاكَ هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ» فذكَّره بضرورة تغيير موقفه الفكري من نحو أخيه الراجع، لأن الضال وُجد والميت عاش، فالأخ أخوه أينما كان، ولا يمكن أن تنقطع صلة الرحم، ومن الأبهج له أن يكون أخوه داخل البيت عن أن يكون ضالاً.

٭ ٭ ٭

يعلِّمنا هذا المثل أن الله يغفر للتائب مهما كانت خطاياه. وحتى عندما لا يرى أملاً في الغفران يمنحه الله الأمل، لأنه أبٌ غفور رحيم، فيقول التائبون: «أُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا ٱلآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ!» (1يوحنا 3: 1). و «حَيْثُ كَثُرَتِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱزْدَادَتِ ٱلنِّعْمَةُ جِدّاً» (رومية 5: 20).

ويعلِّم المسيح الآباء أن يتحلّوا بالصبر والمحبة وطول الأناة نحو أولادهم المخطئين الراجعين بتوبة حقيقية، ولا يعاملوهم بقسوة، طاعةً للوصية: «أَيُّهَا ٱلآبَاءُ، لاَ تُغِيظُوا أَوْلاَدَكُمْ لِئَلاَّ يَفْشَلُوا» (كولوسي 3: 21). فلنستقبل أولادنا التائبين فور توبتهم، ولنفتح قلوبنا لهم كما يفتح الآب السماوي قلبه لهم ولنا.. افتحوا بيوتكم لأبنائكم الضالين، سواء كانوا كالابن الأكبر أو كالابن الأصغر، كما أن أباكم السماوي يفتح باب السماء دائماً لكم.

ويعلّم المثل الأبناء أن يطيعوا والديهم، ولا يغترّوا بمباهج العالم الزائلة. ويقول الحكيم: «اِسْمَعْ لأَبِيكَ ٱلَّذِي وَلَدَكَ، وَلاَ تَحْتَقِرْ أُمَّكَ إِذَا شَاخَتْ» (أمثال 23: 22).

فإذا زلَّت القدم فثِق أن الرب المحب ينتظر عودتك في شوق ومحبة وقلب غافر صفوح.

سؤالان

  1. اشرح باختصار خطوات ضلال الابن الأصغر.

  2. كيف أظهر الأب محبته لابنه الأكبر؟

الجزء الثاني امتياز أبناء ملكوت الله

1 - امتياز غفران الخطايا مثل المديونَين

36 وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ ٱلْفَرِّيسِيِّ وَٱتَّكَأَ. 37 وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِ ٱلْفَرِّيسِيِّ، جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ 38 وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَٱبْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِٱلدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِٱلطِّيبِ. 39 فَلَمَّا رَأَى ٱلْفَرِّيسِيُّ ٱلَّذِي دَعَاهُ ذٰلِكَ، قَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْ كَانَ هٰذَا نَبِيّاً لَعَلِمَ مَنْ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئَةٌ. 40 فَقَالَ يَسُوعُ: يَا سِمْعَانُ عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ. فَقَالَ: قُلْ يَا مُعَلِّمُ. 41 كَانَ لِمُدَايِنٍ مَدْيُونَانِ. عَلَى ٱلْوَاحِدِ خَمْسُ مِئَةِ دِينَارٍ وَعَلَى ٱلآخَرِ خَمْسُونَ. 42 وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَا يُوفِيَانِ سَامَحَهُمَا جَمِيعاً. فَقُلْ: أَيُّهُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ حُبّاً لَهُ؟ 43 فَأَجَابَ سِمْعَانُ: أَظُنُّ ٱلَّذِي سَامَحَهُ بِٱلأَكْثَرِ. فَقَالَ لَهُ: بِٱلصَّوَابِ حَكَمْتَ. 44 ثُمَّ ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْمَرْأَةِ وَقَالَ لِسِمْعَانَ: أَتَنْظُرُ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِٱلدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. 45 قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. 46 بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِٱلطِّيبِ رِجْلَيَّ. 47 مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أَقُولُ لَكَ: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا ٱلْكَثِيرَةُ لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيراً. وَٱلَّذِي يُغْفَرُ لَهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلاً. 48 ثُمَّ قَالَ لَهَا: مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ. 49 فَٱبْتَدَأَ ٱلْمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أَيْضاً؟. 50 فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ! اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ (لوقا 7: 36-50).

مناسبة رواية المثَل:

اعتاد أغنياء اليهود أن يقيموا ولائم يلتقي فيها الأهل والأصدقاء. وفي الصيف كانوا يقيمون الوليمة في فناء البيت، فيخلعون نعالهم، ويتكئون على مرافقهم اليسرى، ويمدّون أرجلهم إلى الخلف، ويتناولون الطعام بأيديهم اليمنى. وكان أصحاب البيت يسمحون للعامَّة بالدخول إلى مكان الوليمة، ويضعون لهم حشايا يجلسون عليها متكئين على الحوائط، ليشاهدوا مشاهير القوم، ويروا عظمة المضيف وغِناه وكرمه الواضح في الطعام الكثير الشهي، وليستمعوا للأحاديث التي تدور حول المائدة. وكان للعامة حق الحديث مع الضيوف، ولو أنه لم يكن مسموحاً لهم أن يتناولوا الطعام معهم.

وذات يوم دعا فريسيٌّ غنيٌّ اسمه «سمعان» السيدَ المسيح إلى وليمة. ولعل سمعان طلب من المسيح أن يلقي كلمة، فتحدَّث عن ضرورة التوبة. وسمعته امرأةٌ خاطئة من العامَّة كانت قد دخلت إلى البيت، فعزمت أن تتوب، وأن تعبِّر عن ذلك علناً.. وكان واجب الضيافة الأساسي أن يُقبِّل الضيف ضيفه ليعبِّر عن الترحيب به، كما كان يعطي ماءً لغسل رجليه لأنهم كانوا يلبسون صنادل مفتوحة فتتَّسخ أقدامهم أثناء السير في الطرق الترابيَّة. وكلما كان الضيف عزيزاً صبَّ المضيف على رأسه زيتاً عطراً تملأ رائحته أرجاء المكان. ولم يكن سمعان الفريسي قد فعل شيئاً من هذا، فلا هو قبَّل ضيفه، ولا أعطى ماءً لغسل رجليه، ولا صبَّ على رأسه عطوراً.. فقامت المرأة الخاطئة بهذا الواجب بمحبة وتلقائية أعظم مما كان يجب على «سمعان» أن يفعله، وبصورة فاقت كل ما تخيَّله الحاضرون.

كانت المرأة اليهودية عادةً تضع حول رقبتها قارورة طيب لتستخدمها في المناسبات العظيمة. وكانت لا تحل شعرها أمام الغرباء أبداً. إلا أن هذه الخاطئة غسلت قدمي المسيح بدموعها التي ذرفتها من قلب تائب نادم على خطيتها، وحلَّت شعرها، تاج جمالها، ومسحتهما به، وهي تقبِّلهما وتدهنهما بالطيب. فما أعظم الفرق بين سمعان وبين المرأة الخاطئة! هو لم يعطِ ماءً لغسل رجلي المسيح، فسكبت هي دموع توبتها عليهما. هو لم يقبِّل وجه المسيح، أما هي فقبَّلت قدميه. هو لم يدهن رأس المسيح بأي عطور، أما هي فطيَّبت قدميه. ولم يحس هو أنه خاطئ، أما هي فأحسَّت بخطاياها. واحتقر هو المسيح في نفسه، كما احتقر المرأة الخاطئة، فقال: «لو كان هذا نبياً لعَلِم مَن هذه المرأة التي تلمسه، وما هي! إنها خاطئة» (آية 39).

ولما كان المسيح هو النبي والمخلِّص عرف ما يدور بخاطر سمعان، وأجابه بمحبة، وضرب له مثَل المديونَيْن، فقال: كان لمدايِن مديونان، على واحدٍ خمسمائة دينار وعلى الآخر خمسون (الدينار كان أجر عامل في اليوم). وعجز المديونان عن وفاء الدين، فسامح المداين المديونين. وسأل المسيحُ سمعانَ: «أيهما يكون أكثر حباً له؟» فأجاب سمعان: «أظن الذي سامحه بالأكثر».

والمعنى الواضح أن المداين هو الرب، والمديونَيْن هما سمعان الفريسي والمرأة الخاطئة.. سمعان يظن أن دَيْنه صغير، أما المرأة الخاطئة فهي تعلم أنها مديونة ديناً كبيراً. وعندما يسامح الله المديون بالكثير لا بد أنه سيحبُّه أكثر مما يحبُّه صاحب الدَّين القليل.

حادثتان متشابهتان: وردت في الإنجيل قصتان عن امرأتين سكبتا الطيب على المسيح: إحداهما ورد ذكرها في إنجيلي متى 26 ومرقس 14، والأخرى في لوقا 7. ويروي لوقا 7 حادثة جرت في الجليل، في بداية خدمة المسيح الجهارية، في بيت سمعان الفريسي.. أما في متى 26 ومرقس 14 فقد جرت الحادثة في بيت سمعان الأبرص في قرية بيت عنيا بولاية اليهودية، في نهاية خدمة المسيح الجهارية. ويلتبس الأمر على القارئ لأن اسم المرأة غير مذكور في القصتين ، ولأن اسم المضيف في القصتين هو سمعان، ولو أن سمعان الأول فريسي، وسمعان الآخر سمعان الأبرص (والأغلب أنه كان مريضاً بالبرص، فشفاه المسيح).

ونتعلم من هذا المثل درسين عظيمين:

أولاً - كلنا مديونون

كل خطية دَيْن يؤرق صاحبه ويُذلّه.. ولو أن بعض الناس ينظرون إلى الخطية باستخفاف، وكأنها شيء بسيط. ويقول البعض الآخر إن هناك خطية كبيرة وأخرى صغيرة، كما يقولون إن هناك كذباً أبيض وكذباً أسود. لكن كلمة الله تقول إن كل خطية دَيْن ثقيل يَجْلب غضب الله. فإذا تصوَّرنا الوصايا العشر كسلسلة من عشر حلقات، طرفها الأول مثبَّت في السماء، والإنسان يمسك بالطرف الآخر، فإنه يكون في أمان طالما كان متَّصلاً بالسماء بالسلسلة المتكاملة الحلقات. ولكن لو كسر الإنسان أية حلقة في السلسلة فإنه يسقط منفصلاً عن السماء. وهذا ما أوضحه الرسول يعقوب بقوله: «لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ ٱلنَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي ٱلْكُلِّ» (يعقوب 2: 10).

وكل خاطئ مديون عاجز عن سداد الدين، لأنه «لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً. اَلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي ٱلْبَشَرِ، لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ ٱللّٰهِ؟ ٱلْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعاً، فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (مزمور 14: 1-3). «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ» (إشعياء 53: 6). وقال النبي إرميا: «هُمْ مَسَاكِينُ. قَدْ جَهِلُوا لأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، قَضَاءَ إِلٰهِهِمْ» (إرميا 5: 4). فالذي لم يعرف طريق الرب مسكين مديون عاجز عن السداد.

لكن المسيح يؤكد لنا أن به وحده تصبح الخطية قابلة للغفران مهما كان لونها. وكلما فهمنا كلمة الله في العهدين القديم والجديد ندرك أنه كلما أحسَّ الإنسان بخطئه واعترف به تائباً عنه يسامحه الله.. وهذا ما حدث مع البلايين، نكتفي بتقديم نموذجين من العهدين القديم والجديد:

إشعياء: عندما رأى النبي إشعياء مجد الرب وسمع الملائكة يسبِّحون: «قدوس قدوس قدوس رب الجنود، مجده ملء كل الأرض» قال: «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ ٱلشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ ٱلشَّفَتَيْنِ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا ٱلْمَلِكَ رَبَّ ٱلْجُنُودِ». (إشعياء 6: 5). فأرسل الله ملاكاً يحمل جمرة مسَّ بها شفتي النبي ليكفِّر عن إثمه، وليطهر شفتيه، وليجعل منه «النبي الإنجيلي» الذي تنبأ كما لم يتنبأ غيره عن ميلاد المسيح وحياته على أرضنا وموته لفدائنا.

بطرس: صرف الصيادُ الجليليُّ بطرسُ الليلَ كله يحاول أن يصيد السمك، فلم يمسك شيئاً. وفي الصباح أمره المسيح أن يلقي شباكه للصيد، فأطاع، مع أن الصيد الناجح عادةً يكون في الليل. وما أن أطاع حتى امتلأت الشبكة بالسمك، فخرَّ عند ركبتي المسيح وقال: «ٱخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَارَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ» (لوقا 5: 8). ولم يكن بطرس يعني أن يخرج المسيح من سفينته، لكن إحساسه بعدم الاستحقاق وشعوره أنه رجل خاطئ دفعه ليقول ما قال! ولم يخرج المسيح من سفينة بطرس ولا من حياته، ولكنه باركه أكثر، وجعل منه صخرة يبني عليها كنيسته التي لن تقوى أبواب الجحيم عليها (متى 16: 18).

وكلما اقتربنا من المسيح اكتشفنا ضعفنا وعيوبنا، ولكنه يشجعنا بالقول: «لاَ يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً (أو مَن يظنون أنهم أبرار) بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ» (متى 9: 13).

عندما نحس بخطايانا ونعترف بها ونتوب عنها يغفرها الله لنا، بفضل ما فعل المسيح لأجلنا على الصليب، فهو «ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ» (أفسس 1: 7). ويتحقَّق لنا الوعد الرسولي الصادق: «اِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (1يوحنا 1: 9)

وهذا ما جرى مع المرأة الخاطئة، فقال المسيح لها: «مغفورة لك خطاياك». فابتدأ المتكئون معه يقولون في أنفسهم: «من هذا الذي يغفر خطايا أيضاً؟». فشجَّع المرأة أكثر بقوله لها: «إيمانك قد خلَّصك. اذهبي بسلام».

لقد فتح الرب بصيرة المرأة الخاطئة، فرأت في المسيح ما لم يره سمعان الفريسي وضيوفُه. وكان سبب عجزهم عن الرؤية أن جسد المسيح كان الحجاب (الساتر) الذي حجب مجد المسيح، كلمة الله المتجسِّد. وكم تحجب إنسانية المسيح مجده الإلهي عن عيون الكثيرين، كما حدث مع أهل الناصرة، فقالوا عنه: «مِنْ أَيْنَ لِهٰذَا هٰذِهِ ٱلْحِكْمَةُ وَٱلْقُوَّاتُ؟ أَلَيْسَ هٰذَا ٱبْنَ ٱلنَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ، وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعُهُنَّ عِنْدَنَا؟ فَمِنْ أَيْنَ لِهٰذَا هٰذِهِ كُلُّهَا؟» (متى 13: 54-56). لقد ظن أهل الناصرة، كما ظنَّ سمعان الفريسي وضيوفه، أن المسيح مجرد إنسان لا حقَّ له أن يغفر الخطايا لأحد. لكننا اعتماداً على الإعلان الإلهي في الكلمة المقدسة، ونتيجةً لإقناع الروح القدس، نقول: «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (1تيموثاوس 3: 16).

أحبَّت المرأة الخاطئة التائبة المسيح كثيراً لأنها وثقت أنه غفر لها الكثير، وأمر لها بالسلام.

ومفتاح حصولك على الغفران والسلام مع الله هو أن تؤمن بالمسيح المخلِّص، وتضع ثقتك فيه وفي فعالية كفارته، فتسترك وتمنحك غفران خطاياك، وتبدأ في التعبير العميق الصادق عن محبتك للمسيح.

ثانياً - الخدمة تعبير عن المحبة

المحبة لله علامة الحصول على الغفران، ولكنها ليست سبباً له.. كانت محبة المرأة الخاطئة للمسيح برهان الغفران الذي حصلت عليه، فقال المسيح عنها: «غُفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبَّت كثيراً». والقول «لأنها أحبَّت» تعبير برهاني وليس سببياً، مثل قولنا: «هذا الشخص فرحان جداً لأنه يضحك كثيراً». فلم يغفر المسيح للمرأة لأنها أحبت كثيراً، لكنها عبَّرت عن امتنانها العميق بمحبة كثيرة بعد أن غفر لها الكثير.

الغفران اختبار داخلي تعبِّر عنه أعمال المحبة الظاهرة. وعندما ننال الغفران نحب الله لأنه أحبنا أولاً (1يوحنا 4: 19). ثم نعبّر عن حبنا بأساليب منظورة.

أيقنت المرأة الخاطئة أن المسيح يمكن أن يقبلها، وجذبتها كلماته ونبرة صوته العطوفة. ولعل هذه الخاطئة سبق لها أن سمعته أو سمعت عنه، فجاءت إلى بيت الفريسي لتستزيد من الاستماع له. يدفعنا لهذا الاستنتاج تساؤلنا: ما الذي يُدخل مثلها إلى بيت فريسي متكبِّر في وقت وليمة أمام مشاهير القوم وبسطاء الناس، وهي المعروفة في بلدها بشرِّها؟.. لا بد أنها وجدت في المسيح الرجاء والخلاص للمرفوضين والمهمّشين مثلها، وهو الذي عُرف عنه أنه محبٌّ للعشارين والخطاة، فخلَّصها إيمانُها. ولعل دخولها بيت الفريسي كان إعلاناً لإيمانها وثقتها بالمسيح، وكان كل ما فعلته من غسل رجليه بدموعها تعبيراً عن محبةٍ لشخصٍ أدركت أنه يقبلها بينما كل رجال الدين يرفضونها. وحتى الذين يتظاهرون بأنهم يقبلونها كانوا يعاملونها باحتقار.

بطرس مرة ثانية: ظهرت المحبة الكثيرة نتيجة الغفران الكثير في حياة الرسول بطرس الذي أنكر المسيح ثلاث مرات، فنظر المسيح إليه نظرة الشفقة والغفران، فخرج إلى خارج دار رئيس الكهنة، وبكى بكاءً مُراً (لوقا 22: 61-62). وبعد القيامة وجَّه له المسيح سؤالاً ثلاث مرات أتبعه في كل مرة بتكليف: «أتحبني؟ ارع خرافي.. أتحبني؟ ارع غنمي.. أتحبني؟ ارع غنمي» (يوحنا 21: 15-17). أنكر بطرس المسيح ثلاثاً فكلَّفه المسيح بخدمته تكليفاً مثلثاً، وكأنه يقول له: أنت أنكرتني، لكني أعرف أنك تحبني. لقد كنتَ ضعيفاً، لكني أقبلك، وأغفر لك، وأطلب أن ترعى خرافي الصغيرة وأغنامي الكبيرة، فتكون مسؤولاً بالجميع. وتكليف المسيح لبطرس يعني أنه غفر له، وقبله، واستأمنه على خدمته، وكأنه يقول له: أحبك، ولا زلت أريدك أن تعبِّر عن محبتك لي وأن تبرهنها بأن تخدمني.

يتردَّد كثيرون في أن يشهدوا للمسيح قبل أن يتعمَّقوا في معرفة المسيح وفي المعرفة عنه. والحقيقة هي أننا يجب أن نشهد للمسيح فنتقوَّى وننمو في النعمة، كما شهدت المرأة السامرية للمسيح، دون حاجة إلى أن تحصل على دراسة لاهوتية. فقد مضت من فورها تشهد لأهل مدينتها بما جرى معها، قائلةً: «هَلُمُّوا ٱنْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ» (يوحنا 4: 29).

إن كنت تدرك أن الله سامحك بالكثير، فعبِّر عن حبك الكثير له بأن تحبه وتحب البشر الذين خلقهم على صورته. «اِرْمِ خُبْزَكَ عَلَى وَجْهِ ٱلْمِيَاهِ فَإِنَّكَ تَجِدُهُ بَعْدَ أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ (روحياً ومادياً)» (جامعة 11: 1). كُن مثل السامري الصالح الذي داوى اليهودي الجريح، المختلف معه في العقيدة والجنس. ويقول لك المسيح: «ٱذْهَبْ أَنْتَ أَيْضاً وَٱصْنَعْ هٰكَذَا» (لوقا 10: 37). إن كنت قد قَبِلتَ المسيح مخلِّصاً فعبِّر عن حبك له بخدمة المحتاجين، والشهادة لهم عن المسيح. وليكن شعارك: «إِذِ ٱلضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ، فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ». (1كورنثوس 9: 16).

أما إن كنت خاطئاً مثل المرأة الخاطئة، فثِق أن المسيح يحبك ويريد أن يغفر لك كل خطاياك، فتبدأ معه بداية جديدة.. تعرَّف على المسيح معرفة شخصية، وبيِّن محبتك الكثيرة له بكل أسلوب ممكن.

سؤالان

  1. اشرح العبارة التالية: «المحبة لله علامة على الحصول على الغفران، وليست سبباً له».

  2. اذكر أمرين تقدر أن تبرهن بهما محبتك للمسيح.

2 - امتياز سكنى المسيح مثل البيت العامر بالمسيح

43 إِذَا خَرَجَ ٱلرُّوحُ ٱلنَّجِسُ مِنَ ٱلإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ، يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِدُ. 44 ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي ٱلَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغاً مَكْنُوساً مُزَيَّناً. 45 ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذٰلِكَ ٱلإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ. هٰكَذَا يَكُونُ أَيْضاً لِهٰذَا ٱلْجِيلِ ٱلشِّرِّيرِ (متى 12: 43-45).

(ورد هذا المثل أيضاً في لوقا 11: 14-26)

مناسبة رواية المثل:

أجرى المسيح معجزات كثيرة أظهرت سلطانه على عالم البشر وعالم الأرواح الشريرة، فقد شفى الناس من أمراضهم الجسدية، وطرد الشياطين من أجسادهم. ولكن شيوخ اليهود لم يؤمنوا بسماويَّة معجزاته، وقال بعضهم إنها سحر، وقال البعض الآخر إنها من عمل الشيطان، وقالوا جميعاً إنها ليست برهاناً كافياً على أنه من عند الله، فطلبوا منه معجزة من السماء، كما أنزل موسى المن الذي أكله بنو إسرائيل مدة أربعين سنة (هي سنوات تيهانهم في شبه جزيرة سيناء). فأجابهم: «جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ ٱلْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هٰكَذَا يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي قَلْبِ ٱلأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ» (متى 12: 39 40). وفي هذا الرد أوضح المسيح أنهم فاسقون غير أمناء للعهد الذي قطعوه على أنفسهم بأن يكونوا أمناء لله، وقال إنه لن يعطيهم معجزة من النوع الذي طلبوه، ولكن معجزة قيامته بعد موته، ستكون البرهان على صدق رسالته.

ولم يكن المسيح أول من قام من الموت، لكنه أعظم من قام، لأن كل ميت قام مات ثانيةً بعد قيامته. أما المسيح فقد قام وصعد إلى السماء، وهو حيٌّ يشفع فينا. ومن سمائه سيأتي ديّاناً عادلاً للأحياء والأموات. وقد تحقَّقت نبوَّته عن نفسه، إذ صُلب يوم الجمعة، وقام من الموت صباح يوم الأحد، فكانت قيامته أعظم معجزاته.. ومضت بين موته وقيامته ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ طِبقاً للحساب اليهودي، فقد كان اليهود يحسبون الجزء من النهار نهاراً كاملاً والجزء من الليل ليلاً كاملاً. وكان التلمود (أقدس كتب اليهود بعد كتاب الله عندهم) يقول: «إضافة ساعة إلى يوم تُحسَب يوماً آخر، وإضافة يوم إلى سنة يُحسَب سنة أخرى». وبهذا حسب جزءاً من يوم الجمعة 24 ساعة، وكل يوم السبت 24 ساعة، وجزءاً من يوم الأحد 24 ساعة، فكانت تلك ثلاثة أيام وثلاث ليال.

ثم قال المسيح لمنتقديه إن أهل نينوى سيقفون أمام عرش الله الديان يدينون يهود عصر المسيح، لأنهم آمنوا بوعظ النبي يونان، بينما لم يؤمن يهود عصر المسيح بوعظ المسيح، مع أنه أعظم من يونان.. ثم قال لهم إن ملكة التيمن (أي ملكة الجنوب) وهي ملكة سبا، ستقوم لتدين يهود عصر المسيح، لأنها تجشَّمت متاعب السفر لتسمع حكمة سليمان (1ملوك 10: 1)، بينما رفض يهود عصر المسيح تعاليمه، مع أنه أعظم من سليمان.

ثم ضرب المسيح لسامعيه المثل الذي نتأمله الآن، وهو عن صاحب بيت اكتشف أن بيته مسكونٌ بروح نجس، فطرد الساكن وبدأ يكنس آثاره السيئة، ثم زيَّن البيت. ولكنه ارتكب خطأً جسيماً، هو أنه ترك البيت بدون علامة حياة، ولا حركة، ولا عمل نافع، وأهمل أن يسلِّمه لساكن جديد يشغله ويحرسه ويصونه.

وخرج الروح النجس المطرود إلى أماكن ليس فيها ماء، وطلب راحةً فلم يجد، لأنه لا يستريح إلا إذا وجد بشراً يؤذيهم، وليس في الصحراء مَن يؤذيه. فقرَّر أن يرجع ليستطلع حال البيت الذي كان يسكنه. ولما اقترب منه ودار حوله وجد أنه بلا ساكن. ثم اكتشف أنه صار أفضل حالاً مما تركه، فقد كان مكنوساً مزيَّناً، فقرَّر أن يصحب معه سبعة شياطين آخرين ليسكنوا معه، فصارت أواخر صاحب البيت أشر من أوائله، لأنه بعد أن كان عنده ساكن نجس واحد صارت عنده ثماني أرواح نجسة! كان الشيطان الأول وحده، لكن خطأ صاحب البيت في أنه بدأ إصلاحاً ولم يكمله أدَّى إلى نتائج وخيمة، فقد صارت الشياطين الثمانية معاً قوة متحكِّمة موجِّهة مدنِّسة.

ماذا قصد المسيح بهذا المثل؟

قصد أن بني إسرائيل استمروا يعبدون الله وفي الوقت نفسه يعبدون الوثن. ولكنهم بعد السبي البابلي (الذي استمر سبعين سنة) هجروا العبادة الوثنية، ولم يعودوا إليها أبداً، فيكونون بهذا قد أخرجوا الروح النجس. ولكنهم لم يسمحوا للمسيح أن يملك عليهم، فدخلت فيهم أرواح شريرة كثيرة أردأ من الأولى.. صحيحٌ أن قلوبهم اغتسلت من عبادة الوثن، لكنها لم تتعمَّر بنعمة الله. والمسيح في هذا المثَل لا يهاجم تنظيف البيت، لأن هذا واجب، لكنه يطالب بوجود الساكن الصالح، حتى لا يعود إليه الساكن الشرير القديم بحالة أشر. إن الإصلاح الجزئي، بتَرْك الخطية، دون الامتلاء بالفضيلة، هو إصلاح سلبي.

ويشبه حال الذين يُصلِحون من أخلاقياتهم، فيتوقفون مثلاً عن الغضب والسرقة والنميمة، ولكنهم لا يُدخِلون المسيح إلى قلوبهم، حال بني إسرائيل، فإنهم سرعان ما يسقطون في الكبرياء الروحية، ويرضون عن أنفسهم، فتكون أواخرهم أشرَّ من أوائلهم، وينطبق عليهم الوصف الرسولي: «لأَنَّهُ إِذَا كَانُوا بَعْدَمَا هَرَبُوا مِنْ نَجَاسَاتِ ٱلْعَالَمِ، بِمَعْرِفَةِ ٱلرَّبِّ وَٱلْمُخَلِّصِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، يَرْتَبِكُونَ أَيْضاً فِيهَا، فَيَنْغَلِبُونَ، فَقَدْ صَارَتْ لَهُمُ ٱلأَوَاخِرُ أَشَرَّ مِنَ ٱلأَوَائِلِ. لأَنَّهُ كَانَ خَيْراً لَهُمْ لَوْ لَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقَ ٱلْبِرِّ، مِنْ أَنَّهُمْ بَعْدَمَا عَرَفُوا يَرْتَدُّونَ عَنِ ٱلْوَصِيَّةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ ٱلْمُسَلَّمَةِ لَهُمْ» (2بطرس 2: 20، 21).

وقصد المسيح أن يعلِّمنا أيضاً أن إصلاح أخلاقياتنا لا يعني أننا خلُصنا من خطايانا، فالإصلاح بدون التغيير الكامل بعمل الروح القدس يجلب اللعنة لا البركة، لأننا لا يمكن أن نفرِّغ حياتنا من الخطية بدون أن نملأها بنعمة المسيح. ولا يمكن أن يملأ فراغ حياتنا إلا الله نفسه.

وقصد المسيح أيضاً أن يعلِّمنا أنه لا مكان للحياد في حياتنا الروحية، فإن لم نكن عبيداً للمسيح سنكون عبيداً للشيطان، لأن لكل بيت رب بيت، يسكنه ويشغله ويحرسه ويصونه ويهتم به. فإن لم يكن المسيح ربَّ البيت سيكون الشيطان ربَّه.. فليكن المسيح رب حياتنا، لأنه قال: «مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ» (لوقا 11: 23).

أولاً - إخلاء البيت ثم تسكينه

كلنا نرغب أن نصلح أمر حياتنا وبيوتنا فنُخليها من الخطايا. وهذا ما فعله صاحب البيت إذ أخرج الروح النجس من بيته، طلباً للحياة الأفضل، لأنه رأى أن أول خطوات الإصلاح هي أن يطرد الشرير. ويقول المسيح إن الروح النجس خرج، مما يوضِّح لنا أن إبليس لا يبقى في بيت أحد بغير رضاه، وهو لا يرغم أحداً على طاعته، لكنه يكتفي بأن يقترح الأكاذيب والخداع. وللبشر كامل الحرية أن ينفذوا اقتراحاته أو أن يرفضوها.

لم يُجبِر إبليس آدم وحواء ليأكلا من الشجرة الممنوعة، لكنه اقترح عليهما أن الأكل منها سيوصلهما إلى سعادة ورقي لا يريد الله أن يمنحهما لهما. وفوراً تغيَّرت نظرتهما إلى الشجرة، فرأيا أنها جيدة للأكل وبهِجة للعيون وشهيَّة للنظر، فأكلا منها (تكوين 3: 6) وسرعان ما اكتشفا أنه كذب عليهما وخدعهما وعرّاهما. وعجزا عن ستر نفسيهما، فافتقدهما الله بالأقمصة الجلدية التي سترت عريهما.

عندما جاء يوحنا المعمدان إلى اليهود من معاصري المسيح يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا (لوقا 3: 3) «حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ بِٱلأُرْدُنِّ، وَٱعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي ٱلأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ». فقال لهم: «أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلٰكِنِ ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، ٱلَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَنَارٍ» (متى 3: 5، 6، 11). فقبلوا منه معمودية الماء، وبهذا يكونون قد طردوا الروح الشرير.. لكنهم لم يقبلوا شهادة المعمدان للمسيح، ورفضوا شهادة الروح القدس له. صحيحٌ أن ماء معمودية يوحنا غسل أجسادهم، ولكن حاجتهم الحقيقية كانت إلى غسل نفوسهم الداخلية بمعمودية الروح القدس ونار.. لقد هيّأ المعمدان بيت بني إسرائيل للساكن الجديد، فتاب السكير عن سُكره، وترك الزاني زناه، ولكنهم لم يُدخِلوا المسيح قلوبهم، فصارت أواخرهم أشرَّ من أوائلهم.

ويشبِّه المسيح محاولاتنا إصلاح نفوسنا بأنها وضع رقعة من قماش جديد على ثوب عتيق، فيصير الحال أردأ. بينما الحاجة هي إلى ثوب جديد يقدِّمه الله لنا مجاناً (لوقا 5: 36). نحتاج إلى ساكن جديد في بيوتنا ينظفها ويحفظها.

الحاجة إذاً هي إلى تغيير كامل يُجريه المسيح في حياتك عندما تفتح قلبك له، فيحل فيه بالإيمان. وهو يقرع دائماً على باب قلبك ويقول لك: «هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى ٱلْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ ٱلْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا 3: 20). فهو الساكن القدوس الذي إن دخل القلب يُشِبع الحياة.. الساكن الأول شرير يسلب صاحب البيت كل سلام، ويضيِّع منه كل فرح، ويملأ نفسه بالرعب. وعندما يشعر صاحب البيت بهذه الشرور ويطلب التغيير، يجب أن يسمح للقارع الجديد أن يدخل البيت ليُعمِّره بالمحبة والفرح والسلام.

وعندما يدخل المسيح قلبك يجب أن يكون هو المالك الوحيد، لأنه يغار عليك غيرة مقدسة تطالبك بأن تحبه وحده، ولا تُشرك معه في قلبك أحداً، لأن «ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ إِلٰهٌ غَيُورٌ» (خروج 20: 5) يطلب الولاء الكامل له، ولا يسمح للشرير أن يمسَّك (1يوحنا 5: 18)، فتفرِّغ البيت من الساكن الشرير بأن تخلع «ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ ٱلْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ ٱلْغُرُورِ» (أفسس 4: 22). ولكنك لا تتوقف عند هذا التفريغ والخلع، بل تمضي إلى تعمير البيت بالساكن الجديد، «وَتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ» (أفسس 4: 23) فتصبح أفكارك جديدة، وعواطفك مقدسة، وإرادتك خاضعة للرب «وَتَلْبَسُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ ٱلْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ ٱللّٰهِ فِي ٱلْبِرِّ وَقَدَاسَةِ ٱلْحَقِّ» (أفسس 4: 24).

ولكي يتَّضح لنا أننا خلعنا القديم وفي الوقت نفسه لبسنا الجديد، يجب أن نطرح عنا الكذب وأن نتكلم بالصدق كل واحد مع قريبه (أفسس 4: 25). ويجب أن لا تغرب الشمس على غيظنا حتى لا نعطي إبليس مكاناً، فنغفر ونتصالح مع المسيئين إلينا قبل أن ينتهي يومنا (أفسس 4: 26، 27). و «لاَ يَسْرِقِ ٱلسَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ يَتْعَبُ عَامِلاً ٱلصَّالِحَ بِيَدَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَهُ ٱحْتِيَاجٌ» (آية 28)، و «لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحاً لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ ٱلْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ» (آية 29). و «لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ وَسَخَطٍ وَغَضَبٍ وَصِيَاحٍ وَتَجْدِيفٍ مَعَ كُلِّ خُبْثٍ. وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً فِي ٱلْمَسِيحِ» (آيتا 31، 32).

لا بد أن نطرد الساكن القديم باتجاهاته الفاسدة وميوله الشريرة وأفعاله الأثيمة، ثم نعمِّر حياتنا بالساكن الجديد مع كل فضائله. «إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2كورنثوس 5: 17).

ثانياً - الحذر من عودة الساكن الأول

من الغريب أن الساكن القديم الشرير قال: «أرجع إلى بيتي». فهل حقاً كان البيت بيته؟.. إنه لم يخلقه ولا تعب فيه، لكنه عاث فيه فساداً. فقوله: «أرجع إلى بيتي» اختلاقٌ وكذبٌ، لأنه الكذاب وأبو الكذاب. أما المستحق الوحيد أن يسكن بيتك فهو صاحبه الحقيقي الذي خلقك والذي يشفق عليك، والذي خاطبه المرنم بالقول: «نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي. أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ ٱمْتَزْتُ عَجَباً. عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذٰلِكَ يَقِيناً» (مزمور 139: 13، 14). هو الذي يهتمُّ ويعتني بك، والذي اشتراك بالفداء. هو الذي به تحيا وتتحرك وتوجد (أعمال 17: 28). أنت تتنفَّس هواءه، وتشبع بغذائه وترتوي بمائه، وتتمتَّع برعايته الأبوية الصالحة. وهو الذي اشتراك بفدائه. حقاً «ٱشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا ٱللّٰهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ ٱلَّتِي هِيَ لِلّٰهِ» (1كورنثوس 6: 20). أنت فعلاً بيته الذي له حق امتلاكه مرتين، مرةً لأنه صنعك، ومرةً لأنه اشتراك.. مرةً بالولادة الجسدية، ومرة بالولادة الثانية من الروح القدس. فلتعطه حق الدخول والامتلاك، فيمنحك الحماية والضمان.

وعندما نُخلي البيت من الساكن الشرير ويعمِّره مالكه الحقيقي يجب أن نكون على حذر، لأن الساكن القديم الذي طُرد وأُجبر على الخروج سيشعر بالهزيمة، ويتحيَّن الفُرص ليسترجع ما كان يدَّعي أنه يملكه. لذلك «اُصْحُوا وَٱسْهَرُوا لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ. فَقَاوِمُوهُ رَاسِخِينَ فِي ٱلإِيمَانِ» (1بطرس 5: 8، 9). وهو ليس أسداً إنما يخدعنا بأنه أسد، فيزأر ليرعب، وهو في واقع الأمر لا يملك إلا صوته. لكنه يجول ملتمساً النائمين والغافلين ليبتلعهم. إنه لا يترك المؤمن الجديد في حاله الجديد يتمتع بحياته الجديدة، لكنه يحاربه ويحاول استعادته. فلنتوقَّع الحرب، ولنكن صاحين يقظين داخل دائرة نعمة الله، فقد حذَّرنا المسيح بقوله: «اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ» (متى 26: 41).. وعندما يقول لك الشيطان إنك بيته، قُل له إنك هيكل الرب، وإن روحه يسكن فيك (1كورنثوس 6: 19)، وستراه يركض مذعوراً، لأن المسيح صاحب البيت سيرعبه.

ثالثاً - بقاء المالك الجديد

يوجد ساكن شرير يجب طرده، ويوجد ساكن جديد يجب أن يملُك ويستمر امتلاكه وملكه، لأنه المالك الحقيقي الوحيد. ولكي يستمر المسيح سيداً لك وساكناً دائماً في قلبك أقدِّم لك ثلاث نصائح:

  1. اعرِف حجم المشكلة: الشيطان يهاجمنا دائماً، خصوصاً بعد قبولنا المسيح مخلِّصاً وفادياً. ولكن وعد المسيح لتلميذه بطرس هو لكل من فتح قلبه لخلاص المسيح: «ٱلشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَٱلْحِنْطَةِ! وَلٰكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لا يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ» (لوقا 22: 31، 32). وإدراكك لحجم المشكلة يجعلك تطيع الوصية الرسولية: «تَقَوَّوْا فِي ٱلرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ. ٱلْبَسُوا سِلاحَ ٱللّٰهِ ٱلْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ... ٱحْمِلُوا سِلاحَ ٱللّٰهِ ٱلْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي ٱلْيَوْمِ ٱلشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا» (أفسس 6: 10، 11، 13)، «قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ» (يعقوب 4: 7)، فتقول: «إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا!... َلٰكِنَّنَا فِي هٰذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ ٱنْتِصَارُنَا بِٱلَّذِي أَحَبَّنَا» (رومية 8: 31، 37).

  2. سيادة المسيح على الحياة كلها: يجب أن يسيطر المسيح على كل أمور حياتك، طاعةً للنصيحة الرسولية: «أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ ٱللّٰهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ ٱللّٰهِ، عِبَادَتَكُمُ ٱلْعَقْلِيَّةَ» (رومية 12: 1) فتضع جسدك بكامل رغبتك واختيارك على المذبح الإلهي ليصبح ملكاً للرب. كانت ذبيحة العهد القديم تُذبَح ثم توضع على المذبح. أما ذبيحة العهد الجديد فهي ذبيحة المؤمن الحي، الذي يقدِّم نفسه لله بكامل رضاه وإرادته قائلاً: «حَبِيبِي لِي وَأَنَا لَهُ» (نشيد 2: 16).

  3. املأ وقتك بخدمة الرب: عندما يدخل المسيح قلبك ويغيِّر حياتك يجب أن تبدأ الشهادة لعمل النعمة فيك، وتقول: «لأَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ ٱللّٰهِ لِلْخَلاصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ» (رومية 1: 16)، وتطيع تكليف المسيح: «ٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَهْلِكَ، وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ صَنَعَ ٱلرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ» (مرقس 5: 19).. وهذه الخدمة والشهادة للرب تحفظك قوياً لأن قلبك سينشغل بخير النفوس الأبدي، وستنال المكافأة السماوية: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ ٱلآبُ» (يوحنا 12: 26).

وما أكثر الخدمات التي يمكن أن تقدِّمها للرب وللمؤمنين، بالعمل والقدوة الحسنة، متمثِّلاً بالمسيح، فيرى الناس المسيح فيك، وتفيح منك رائحته الذكية (2كورنثوس 2: 15).

فإن أردت أن يكون بيتك عامراً بالرب، فلتكن دوماً في خدمة الرب، تملأ حياتك بما ينفع الناس.

سؤالان

  1. كيف نتخلَّص من الساكن النجس؟

  2. كيف نضمن استمرار المالك الجديد؟

3 - امتياز الحياة ذات التحدِّيات مثلا البرج المُكمَل والملك المستعد للحرب

25 وَكَانَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ سَائِرِينَ مَعَهُ، فَٱلْتَفَتَ وَقَالَ لَهُمْ: 26 إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلا يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَٱمْرَأَتَهُ وَأَوْلادَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. 27 وَمَنْ لا يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. 28 وَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجاً لا يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَحْسِبُ ٱلنَّفَقَةَ، هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟ 29 لِئَلاَّ يَضَعَ ٱلأَسَاسَ وَلا يَقْدِرَ أَنْ يُكَمِّلَ، فَيَبْتَدِئَ جَمِيعُ ٱلنَّاظِرِينَ يَهْزَأُونَ بِهِ، 30 قَائِلِينَ: هٰذَا ٱلإِنْسَانُ ٱبْتَدَأَ يَبْنِي وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَمِّلَ. 31 وَأَيُّ مَلِكٍ إِنْ ذَهَبَ لِمُقَاتَلَةِ مَلِكٍ آخَرَ فِي حَرْبٍ، لا يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَتَشَاوَرُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُلاقِيَ بِعَشَرَةِ آلافٍ ٱلَّذِي يَأْتِي عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفاً؟ 32 وَإِلاَّ فَمَا دَامَ ذٰلِكَ بَعِيداً، يُرْسِلُ سَفَارَةً وَيَسْأَلُ مَا هُوَ لِلصُّلْحِ. 33 فَكَذٰلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لا يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ، لا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً (لوقا 14: 25-33).

كان المسيح في طريقه إلى الصليب فتبعته جموعٌ سبق أن أطعمهم فشبعوا، وأبرأهم فشُفوا، وربما تبعوه لأنهم أرادوا أن يأخذوا منه أكثر. وصحيحٌ أنه كلما سرنا وراء المسيح نأخذ منه أكثر، لكننا نخطئ لو حسبنا أن الأخذ هو كل شيء، لأن كل أخذٍ يقابله عطاء. إنه يعطيك مجاناً لكي تعطي الآخرين. وقد أعطاك ذاته لتعيش له ولخدمته. وعندما تكتفي بالأخذ دون العطاء تموت.. يمنحنا المسيح بركات ويطالبنا بحَمْل مسؤوليات، ويقول: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلا يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَٱمْرَأَتَهُ وَأَوْلادَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذا.. فَكَذٰلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لا يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ، لا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً» (لوقا 14: 26، 33). وليس معنى هذا أن يكره الإنسان أحباءه، بل أن يكون للمسيح المقام الأول في حياتنا قبل العائلة والأصدقاء والعمل والمال وكل شيء، فهو اللؤلؤة الواحدة كثيرة الثمن الذي يستحق أن نهجر كل شيء في سبيل اتِّباعه (متى 13: 45، 46). كل ما نملكه بدون نعمة المسيح فانٍ، وفي نوره المجيد يخبو بريق كل شيء، ويصير مثل ضوء شمعة في نور الشمس، يبدو باهتاً كأن لا وجود له، بل يمكن الاستغناء عنه، لأن الشمس تمنح كل النور والدفء.

ونبَّه المسيح الجموع التي تبعته لتكلفة السير وراءه، فقد تبعه البعض دون أن يدركوا ثمن اتِّباعه. وسار البعض الآخر وراءه بحماس عاطفي حتى نالهم الاضطهاد فارتدّوا عنه. وسار البعض الثالث وراءه طمعاً في عطاياه، وعندما لم يعطهم ما طالبوا به هجروه.. وهو لا يريد جمعاً غفيراً يتبعه كالقطيع، بل يطلب مؤمنين يدركون أن «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (متى 16: 25).

ولا شك أن من يتبع المسيح يجب أن يدخل من الباب الضيق ويسير في الطريق الكرب (متى 7: 14). ولم يقصد المسيح أن يضيف للباب الضيق ضيقاً ولا للطريق الكرب كرباً، ولم يُرِد أن يطفئ حماس الذين أرادوا اتِّباعه، بل قصد إبعاد العاطفيين الذين يقبلون الكلمة بفرح، ولكن عندما تصادفهم المتاعب يرتدّون، كما أراد إبعاد التابعين المتعجِّلين المندفعين الذين يجهلون تكلفة التلمذة له (لوقا 9: 57، 58).

وفي حياتنا اليومية نجد كثيرين يبدأون ولا يكملون، فهناك من يشتري شيئاً بالتقسيط، ويدفع أول الأقساط ثم يعجز عن السداد، فيصبح أضحوكة جيرانه. وهناك من يدفع ثمن سيارة أو آلة تصوير ثم يعجز عن دفع نفقات تشغيلها، فتبقى عنده بلا فائدة. وهناك من ينذر نذوراً يعجز عن الوفاء بها، لذلك قال إمام الحكماء سليمان: «أَنْ لا تَنْذُرُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَنْذُرَ وَلا تَفِيَ» (جامعة 5: 5).

ولكي يوصِّل المسيح فكرة حساب التكلفة، وليبصِّر سامعيه بنفقة اتِّباعه، ضرب لهم مثَليْن: المثل الأول أن مَن يريد أن يبني برجاً يجب أن يجلس أولاً ويحسب نفقة البناء لئلا يضع الأساس ولا يقدر أن يكمل فيهزأ به الناس. ولعله وقت رواية هذا المثل كان يرى بناءً ناقصاً من المباني التي اعتاد أفراد عائلة الملك هيرودس أن يبدأوا بناءها دون أن يكملوها، فضرب بهم هذا المثل.. أما المثل الثاني فعن الملك الذي يجب أن يتشاور أولاً مع قادة جيشه قبل أن يشنَّ حرباً، ليعرف إن كان عنده ما تحتاجه الحرب من رجال وعتاد ومؤن. ثم يقرر هل يحارب العدو أو يرضى بعقد معاهدة صلح معه.

أولاً - هدفنا أن نبني وأن ننتصر

الحياة مع المسيح بناءٌ كما أنها حرب، فكلما أردنا بناء أنفسنا في الإيمان لقينا المقاومة.. والحياة الإيمانية جهادٌ أكبر داخلي مع النفس، كما أنها جهاد أصغر مع المصاعب التي تقاومها من خارج النفس. هي مثل بناء برج أو جهاد في معركة حربية.. وكل من يريد أن يتبع المسيح يجب أن يعطيه المكان الأول في حياته قبل كل علاقاته الاجتماعية والاقتصادية، وعليه أن يصلب الجسد مع الأهواء والشهوات (غلاطية 5: 24) وعليه أن يحمل صليبه كل يوم ويسير وراء المسيح متتلمذاً له (لوقا 14: 27). «لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَٱلْخَطِيَّةَ ٱلْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِٱلصَّبْرِ فِي ٱلْجِهَادِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ ٱلإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِ ٱلسُّرُورِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ ٱحْتَمَلَ ٱلصَّلِيبَ» (عبرانيين 12: 1، 2).

عندما تريد أن تبنى حياتك الإيمانية، وترفع قامة عائلتك وكنيستك، يجب أن تتوقَّع الحرب. وكلنا يبني، سواء أردنا أم لم نُرِد. قد يبني الإنسان بيتاً أرضياً. وقد يبني سجناً.. وكل أب متسلِّط يجعل من بيته سجناً لزوجته وأولاده. وقد يبني ملهى يضيِّع فيه حياته في شهواته وملذاته.. وقد يبني سفينة لا تستقر في مكان. ولكنه يمكن أن يبني هيكلاً للرب يَفرح به، ويُفرِح به من هم حوله.. والحكيم هو الذي يبني برجاً روحياً يرتفع ويعلو كل يوم، فينمو في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح (2بطرس 3: 18). فإن كنت تبني، لا تكتفِ ببناء كوخ فتصرف جهدك في بناءٍ متواضع، بل أَقِم بناءً عظيماً. اعمل للمسيح بفكر كبير. لا تفكر بإمكانياتك أنت بل بعجائبه هو، ولا بقوتك المحدودة لكن بقدراته غير المحدودة.. كثيرون ينظرون إلى أنفسهم أنهم أصفار، وأن كل ما معهم مجرد خمس خبزات وسمكتين فيقولون للمسيح: «وَلٰكِنْ مَا هٰذَا لِمِثْلِ هٰؤُلاءِ؟» (يوحنا 6: 9). ولكن ما أن يضعوا إمكانياتهم المحدودة في يد المسيح حتى يُطعم بهم الآلاف، بل وتفيض اثنتا عشرة قُفَّة. ولا تقنع ببناء رمال على الشاطئ بل ادخُل إلى العُمق، وابْنِ على الصخر. عندئذ لا تخاف من رياح أو أمطار، لأنك مؤسَّس على المسيح صخر الدهور. كم من مؤمنين حزانى على أنفسهم وعلى بيوتهم وعلى كنائسهم، ويفكرون دوماً بمنطق اليأس، ولا يرون إلا نصف الكوب الفارغ.. وعلى هؤلاء أن يرفعوا أنظارهم إلى المسيح رئيس الإيمان، ليكتشفوا أنه لا يأس معه (عبرانيين 12: 2). «كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِماً فَرِحُونَ. كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ. كَأَنْ لا شَيْءَ لَنَا وَنَحْنُ نَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ» (2كورنثوس 6: 10).

عندما يرتفع بناء البرج يراه الجميع، «لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 5: 16) سيرى الناس عملك على أي حال، فليروا فيك شيئاً عظيماً من عمل نعمة المسيح. إنك معه بطل. «لِيَقُلِ ٱلضَّعِيفُ: بَطَلٌ أَنَا!.. يَعْظُمُ ٱنْتِصَارُنَا بِٱلَّذِي أَحَبَّنَا» (يوئيل 3: 10 ورومية 8: 37). «أَنْتُمْ مِنَ ٱللّٰهِ أَيُّهَا ٱلأَوْلادُ، وَقَدْ غَلَبْتُمُوهُمْ لأَنَّ ٱلَّذِي فِيكُمْ أَعْظَمُ مِنَ ٱلَّذِي فِي ٱلْعَالَمِ.. لأَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ يَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ. وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْغَلَبَةُ ٱلَّتِي تَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ: إِيمَانُنَا» (1يوحنا 4: 4 و5: 4).

ما أعظم المعجزات التي يمكن أن يُجريها المسيح بواسطة المؤمنين الذين يسلِّمون نفوسهم له، ويبنون أنفسهم على إيمانهم الأقدس (يهوذا 20). فلتكن نفوسنا كباراً حتى لو تعبت في مرادها الأجسام، لأننا نحلم للرب ونبني له بغير يأس، متذكرين تاريخ الرسل والقديسين الذين بنوا وربحوا أفراداً وشعوباً للرب.

ثانياً - يجب أن نحسب التكلفة

إن أردت أن تبني حياتك مثل برج يعلو لمجد الله فاحسب تكلفة البناء، ثم تكلفة حراسته، وتخيَّر طريقة الدفاع عنه.

  1. ليكن عندك خطة للبناء: أعدَّ الله للمؤمنين خُطة حياة، وعلى كل مؤمن أن يسأل: «ماذا تريد يا رب أن أفعل؟». ويقول الرسول بولس عن هذه الخطة: «لأَنَّنَا نَحْنُ (المؤمنين) عَمَلُهُ (الله)، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس 2: 10).

    وستجد خطة الله لحياتك في كتابك المقدس. اقرأ الكلمة لتعرف ماذا يريد الله منك.

  2. ابدأ مبكراً بكل قلبك: أَطِع نصيحة إمام الحكماء سليمان: «فَٱذْكُرْ خَالِقَكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ، قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ أَيَّامُ ٱلشَّرِّ أَوْ تَجِيءَ ٱلسِّنِينَ إِذْ تَقُولُ: لَيْسَ لِي فِيهَا سُرُورٌ» (جامعة 12: 1).. ضع كل قلبك على البناء، وأعطِه كل الانتباه، وارفع صلاة المرنم: «عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ، أَسْلُكْ فِي حَقِّكَ. وَحِّدْ قَلْبِي لِخَوْفِ ٱسْمِكَ» (مزمور 86: 11)، ولا تنسَ أن رجلاً ذا رأيين «هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ» (يعقوب 1: 8).

  3. ابدأ بالأساس: قال الرسول بولس: «لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاساً آخَرَ غَيْرَ ٱلَّذِي وُضِعَ، ٱلَّذِي هُوَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ» (1كورنثوس 3: 11). فيجب أن يكون المسيح هو المخلِّص والفادي وسيد الحياة.. وقال أيضاً: «مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ ٱلرُّسُلِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ ٱلزَّاوِيَةِ، ٱلَّذِي فِيهِ كُلُّ ٱلْبِنَاءِ مُرَكَّباً مَعاً يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّساً فِي ٱلرَّبِّ» (أفسس 2: 20 و21). فالأساس هو المسيح الذي علَّمنا عنه رسله الكرام مما سمعوه من تعاليمه، ورأوه من معجزاته، بعد أن لمسته أيديهم لأنه الكلمة المتجسِّد (1يوحنا 1: 1)، ونقلوا تعاليمه إلى الناس من بعدهم، فقام أنبياء العهد الجديد ينشرون هذه التعاليم ويبنون الناس في الإيمان، ويعظونهم مشجِّعين، ويسلّونهم برواية تواريخ معاملات الله مع شعبه (1كورنثوس 14: 3).. أما حجر الزاوية فهو المسيح الذي يربط جدران البناء معاً، فهو الذي يجمع أبناء الله المتفرِّقين إلى بعضهم البعض، ويقرِّب المؤمنين الذين جاءوا من خلفيات مختلفة ليكونوا بناءً واحداً، مركبا معاً، يرتبط أحدهم بالآخر هيكلاً مقدساً في الرب. المسيح إذاً هو أساس الحياة الروحية، وتعاليمه هي أساس الإيمان.

  4. اختَرْ أفضل مواد البناء: بعد أن اخترتَ الأساس السليم ابْنِ بأفضل المواد. احترس من الأشياء التي لا تبني، والتي قال عنها الرسول بولس: «كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لٰكِنْ لَيْسَ كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تُوافِقُ. كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، وَلٰكِنْ لَيْسَ كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تَبْنِي» (1كورنثوس 10: 23) والذين يبنون على الأساس الصحيح يبنون ذهباً، أو فضةً، أو حجارةً كريمة، أو خشباً أو عشباً أو قشاً (1كورنثوس 3: 12). فليكن بناؤك ذهباً وفضة وحجارة كريمة، واحترس من القش وما شابهه، فإن الرب في اليوم الأخير سيمتحن بالنار عمل كل واحد. فإن بقي ما عملته، بعد أن تكون قد بنيته على أساس المسيح، ستأخذ أجرة (1كورنثوس 3: 13، 14).

    والذهب والفضة والحجارة الكريمة هي كلمة الله، والصلاة. لا يمكن أن نبني نفوسنا بالأشياء الهشَّة، إنما نبنيها بدراسة الكلمة والتعمُّق فيها، فتمتلئ قلوبنا بها، وتصبح سراجاً لأرجلنا ونوراً لسبيلنا (مزمور 119: 105). فلنقْتَدِ بالنبي إرميا الذي قال «وُجِدَ كَلامُكَ فَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ كَلامُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي» (إرميا 15: 16). ابنِ حياتك في مخدع الصلاة حيث يجهِّز لك الرب في محضره مائدة دسمة مُشبعة من كلمته (مزمور 23: 5)، فلا تصيبك الأنيميا الروحية فتخور في الطريق وتشتهي الخرنوب الذي تأكله الخنازير (لوقا 15: 16). اصعد على جبال الصلاة العالية ولا تسكن في وديان العالم المنخفضة، لأن الرب يدعوك أن تعلو معه إلى جبل التجلي، فترى ناموس موسى وتعاليم إيليا، لكنك فوق هذا كله تحظى برؤية المسيح الذي يبقى معك فتبقى معه.. ومعروفٌ أن التلاميذ الثلاثة الذين صعدوا مع المسيح إلى جبل التجلي رأوا مجده الأسنى، أما التلاميذ الذين بقوا في الوادي فقد أصابهم اليأس وهم يرون الروح النجس يصرع ولداً بائساً! (لوقا 9: 28-43).

    لا تبدأ البناء بقوتك الذاتية، بل اعتمِد على النعمة، وليكن شعارك: «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لا أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية 2: 20). في اعتمادك على حياة المسيح فيك ستكون مثل بطرس وهو يمشي على الماء. فاحترِس من أن تعتمد على قوتك الشخصية لئلا تبدأ تغرق (متى 14: 28-30). في حياة المسيح فيك ستختبر سلطانه وقوته، ويتحقَّق لك وعده: «مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَٱلأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي. وَمَهْمَا سَأَلْتُمْ بِٱسْمِي فَذٰلِكَ أَفْعَلُهُ لِيَتَمَجَّدَ ٱلآبُ بِٱلٱبْنِ. إِنْ سَأَلْتُمْ شَيْئاً بِٱسْمِي فَإِنِّي أَفْعَلُهُ» (يوحنا 14: 12-14).

    إن وضعت أساساً متيناً، وبنيت عليه بأفضل مواد بناء، ودافعت عن نفسك بسيف الروح الذي هو كلمة الله، سيرتفع برجك الروحي لأن ربَّك سيؤيدك بقوته، فيُعجَب بك جميع الناظرين ويقولون: هذا الإنسان بدأ وأكمل، لأنه آمن بالوعد الإلهي: «لا تَخَفْ لأَنِّي فَدَيْتُكَ. دَعَوْتُكَ بِٱسْمِكَ. أَنْتَ لِي. إِذَا ٱجْتَزْتَ فِي ٱلْمِيَاهِ فَأَنَا مَعَكَ، وَفِي ٱلأَنْهَارِ فَلا تَغْمُرُكَ. إِذَا مَشَيْتَ فِي ٱلنَّارِ فَلا تُلْذَعُ، وَٱللَّهِيبُ لا يُحْرِقُكَ» (إشعياء 43: 1، 2).

  5. ابْنِ بيد، وامسك السلاح باليد الأخرى: كل من يبني برجاً يرفع بناء حياته وعائلته وكنيسته ومجتمعه لا بد يلقى المقاومة، وعليه أن يطبِّق نموذج رجال نحميا «ٱلْبَانُونَ عَلَى ٱلسُّورِ بَنَوْا وَحَامِلُو ٱلأَحْمَالِ حَمَلُوا. بِٱلْيَدِ ٱلْوَاحِدَةِ يَعْمَلُونَ ٱلْعَمَلَ، وَبِالأُخْرَى يُمْسِكُونَ ٱلسِّلاحَ. وَكَانَ ٱلْبَانُونَ يَبْنُونَ وَسَيْفُ كُلُّ وَاحِدٍ مَرْبُوطٌ عَلَى جَنْبِهِ» (نحميا 4: 17، 18)، فلم يكن البناء سهلاً، لأن إبليس عدوٌّ شرس، وهو يعلم أن بناء البرج سيهدِّد حصونه فلا بد يحارب ويقاوم ويهدد.

وفي حياتك الروحية ستجد حرباً عليك من داخل نفسك، فإن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعل ما لا تريد (غلاطية 5: 17). وستجد حرباً عليك من المجتمع الذي لا يخاف الله، والذي تختلف قِيَمه عن قِيَم ملكوت السماوات، والذي يُقال لنا عنه: «لا تُحِبُّوا ٱلْعَالَمَ وَلا ٱلأَشْيَاءَ ٱلَّتِي فِي ٱلْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ ٱلْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ ٱلآبِ. لأَنَّ كُلَّ مَا فِي ٱلْعَالَمِ شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ ٱلْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ ٱلْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ ٱلآبِ بَلْ مِنَ ٱلْعَالَمِ. وَٱلْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا ٱلَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ ٱللّٰهِ فَيَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ» (1يوحنا 2: 15-17).

فمن الواجب ومن الأسلم لك أن تتسلَّح بسلاح الله الكامل، وتُمسك دوماً سيف الروح (أفسس 6: 17) لأنه أمضى من كل سيف ذي حدين، يخترق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، ويميِّز أفكار القلب ونيّاته (عبرانيين 4: 12).

ثالثاً - نصائح أساسية للبناء

هناك تكلفة ونفقة كبيرة لبناء حياتك الإيمانية بناءً سليماً ولحربك المنتصرة. وأقدم لك النصائح التالية لتعاونك:

  1. اترُك كل ما لا يُرضي الله: يُجرَّب البنّاء أن يبني ما يُرضي الناس، ويهتم أحياناً بأحكامهم ووُجهات نظرهم في ما يبنيه. لكن عليه أن يدرك أن رضى الرب على بناء حياته وحياة عائلته هو الأهم، «لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ ٱلْوَاحِدَ وَيُحِبَّ ٱلآخَرَ، أَوْ يُلازِمَ ٱلْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ ٱلآخَرَ» (متى 6: 24).. فليكن شعارك: «لَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي ٱلنَّاسَ لَمْ أَكُنْ عَبْداً لِلْمَسِيحِ» (غلاطية 1: 10). اترُك كل ما تعلم أن الله يرفضه، وصلِّ كل يوم: «لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ، صَخْرَتِي وَوَلِيِّي» (مزمور 19: 14).

  2. تدرَّج في البناء: ابدأ بالقاعدة لتصل إلى القمة. لا تحاول أن تبني الدور الثالث قبل الدور الأول، بمعنى أنك يجب أن تبدأ بالقيام بالواجبات البسيطة، مهما كانت بسيطة، حتى لو كانت غسل أرجل إخوتك. «يُقَاوِمُ ٱللّٰهُ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا ٱلْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً» (يعقوب 4: 6). لا تفكِّر في العظائم، بل كُن متواضعاً «غَيْرَ مُهْتَمِّينَ بِٱلأُمُورِ ٱلْعَالِيَةِ بَلْ مُنْقَادِينَ إِلَى ٱلْمُتَّضِعِينَ. لا تَكُونُوا حُكَمَاءَ عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ» (رومية 12: 16). اخضع لصوت الله في كل ما يوجِّهك إليه، واسمح له أن يستخدمك حيث يريد، فيجهِّزك لعملٍ أكبر. ولا تنسَ أنك عندما تطيعه يكشف لك المزيد من إرادته، ويكلِّفك بخدمات متنوِّعة، ويقول لك: «نِعِمَّا (اختصار: نِعْم ما فعلت، بمعنى: أحسنْتَ) أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ وَٱلأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى ٱلْكَثِير» (متى 25: 21).

  3. توقَّع المقاومة: كلما ارتفع بناؤك تصبح عرضةً لمقاومة الرياح العاتية، فقد قال المسيح لتابعيه: « لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ، بَلْ أَنَا ٱخْتَرْتُكُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ، لِذٰلِكَ يُبْغِضُكُمُ ٱلْعَالَمُ... إِنْ كَانُوا قَدْ حَفِظُوا كَلامِي فَسَيَحْفَظُونَ كَلامَكُمْ» (يوحنا 15: 19 و20). ولا تنسَ أنه «وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ لا أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ» (فيلبي 1: 29).

  4. كُن متأكداً من النصرة: هدف المؤمن هو تمجيد الله الذي يمدّ يد محبته بكل تأييد ومساندة، فيعلو البناء ويرتفع بالرغم من المعطلات والمقاومات. النصرة هي لك وأنت تبني حياتك وحياة عائلتك وكنيستك ومجتمعك، «لأَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ يَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ. وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْغَلَبَةُ ٱلَّتِي تَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ: إِيمَانُنَا» (1يوحنا 5: 4). « لِذٰلِكَ لا نَفْشَلُ... لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا ٱلْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً. وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى ٱلأَشْيَاءِ ٱلَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى ٱلَّتِي لا تُرَى. لأَنَّ ٱلَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا ٱلَّتِي لا تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ» (2كورنثوس 4: 16-18).

سؤالان

  1. لماذا طالبنا المسيح بأن نحسب حساب النفقة؟

  2. ما معنى أن تتدرَّج في البناء؟

4 - امتياز الحكمة مثل البنّاء الحكيم

24 فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هٰذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى ٱلصَّخْرِ. 25 فَنَزَلَ ٱلْمَطَرُ، وَجَاءَتِ ٱلأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ ٱلرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى ٱلصَّخْرِ. 26 وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هٰذِهِ وَلا يَعْمَلُ بِهَا، يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِلٍ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى ٱلرَّمْلِ. 27 فَنَزَلَ ٱلْمَطَرُ، وَجَاءَتِ ٱلأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ ٱلرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتَ فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيماً! (متى 7: 24-27).

(ورد هذا المثل أيضاً في لوقا 6: 46-49)

ألقى المسيح الموعظة على الجبل (إنجيل متى أصحاحات 5-7) بأسلوب وعظٍ يختلف عن أسلوب وعظ أهل زمانه الذين كانوا يعتمدون على النقل، شرح فيها بسلطانه الشخصي كل الجوانب التي تهمُّ المؤمن، فبدأ بوصف السعداء، ثم قدَّم شريعة العهد الجديد التي تكمِّل شريعة موسى ولا تنقضها.

والموعظة على الجبل هي دستور الحياة المسيحية، الذي يبدأ بضرورة فحص دواخل النفس (متى 5: 1-16)، فنرى إن كنا مساكين بالروح (متى 5: 3) نحس بفقرنا الروحي واحتياجنا الدائم إلى رحمة الله.. وإن كنا حزانى على خطايانا فيكرمنا الرب ويعزينا بغفرانها (متى 5: 4)، وهكذا.. في هذه الموعظة أعلن المسيح أنه لم يأتِ لينقض شريعة موسى بل ليكملها (5: 17-20).. ثم تحدَّث عن واجبات المؤمن به من نحو الناس، فقدَّم شريعة الصُّلح (متى 5: 21-26) وشريعة نقاوة القلب (5: 27-32) وشريعة الحق (5: 33-37) وشريعة الحب (5: 38-48) ثم علَّم عن واجباتنا من نحو الله في شريعة الصدقة (6: 1-4) وشريعة الصلاة (6: 5-15) وشريعة الصوم (6: 16-18). ثم واجباتنا من نحو المال (6: 19-34)، ومن نحو غيرنا من المؤمنين (7: 1-6)، ومن نحو انتظار استجابة الصلاة (7: 7-12)، ومن نحو الأبدية فندخل من الباب الضيق (7: 13، 14) ونحترس من الأنبياء الكذبة (7: 15-23).

ثم ختم المسيح موعظته على الجبل بمثَل البنّاء الحكيم الذي يبني على الصخر، وهو الذي يسمع كلمة الملكوت ويعمل بها، بالمفارقة مع الجاهل الذي يبني على الرمل، وهو الذي يسمع ولا يعمل. ومن المفرح أن نجد السامع العامل، ولكن من المؤسف أن نجد أيضاً أصحاب العبادة الكلامية، الذين يقتربون إلى الرب بأقوالهم، ويكرمونه بشفاههم، أما قلوبهم فبعيدة عنه (إشعياء 29: 13 ومتى 15: 8).. ويقول المسيح لكل البنّائين الحكماء: «أَنْتُمْ أَحِبَّائِي إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أُوصِيكُمْ بِهِ» (يوحنا 15: 14). ويقول للبنّائين الجهَلة: «لِمَاذَا تَدْعُونَنِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، وَأَنْتُمْ لا تَفْعَلُونَ مَا أَقُولُهُ؟» (لوقا 6: 46).

أولاً - أساسان وبِناءان

خلق الله أبوينا الأوَّلين على صورته، وأسكنهما جنة عدن، ومنحهما إرادةً حُرَّة، ودبَّر لهما كل ما يساعدهما على حياة الطاعة، ولكنهما عصيا ربهما. ولما كان الله محبة فتَّش عليهما ودبَّر لهما الفداء، وأوضح لهما أن الكفارة هي السبيل الوحيد للخلاص، وأن هناك أساساً واحداً يصلح لبناء علاقة حيَّة مع الله، هو نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية (تكوين 3: 15). وقد وصف الرسول بطرس هذا الأساس في قوله إنه المسيح «ٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي ٱحْتَقَرْتُمُوهُ أَيُّهَا ٱلْبَنَّاؤُونَ، ٱلَّذِي صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ. وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ ٱلْخَلاصُ. لأَنْ لَيْسَ ٱسْمٌ آخَرُ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ» (أعمال 4: 11، 12). وكل حكيم يبني على الأساس الوحيد السليم، أما الجاهل فهو الذي يختار لنفسه أساساً آخر دخيلاً زائفاً، ينهدم كل بناء يقوم عليه. فلنتأمل الأساسين والبنائين:

  1. بناء على أساس صخري: والأساس الصخري هو الأساس الوحيد الذي يُقيم عليه الإنسان الحكيم بناء حياته. إنه المسيح وتعاليمه، لأنه «لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاساً آخَرَ غَيْرَ ٱلَّذِي وُضِعَ، ٱلَّذِي هُوَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ» (1كورنثوس 3: 11). فكل وعود الغفران مبنيَّة على عمل المسيح الكفاري. هو المخلِّص والفادي، ويجب أن يكون سيد الحياة. وهو الحي الذي يقدِّم الفداء لكل إنسان، ويقول: «أَصْغَيْتُ إِلَى ٱلَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا. وُجِدْتُ مِنَ ٱلَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي. قُلْتُ: هَئَنَذَا هَئَنَذَا لأُمَّةٍ لَمْ تُسَمَّ بِٱسْمِي» (إشعياء 65: 1).

    ويعلِّمنا مثَل البنّاء الحكيم أن تعاليم المسيح مُلزِمة، وعملية، وقابلة للتطبيق بمعونة الروح القدس. فليس الإنجيل مجرد أخبار تُسمع، بل أوامر تُنفَّذ، لأنه يأمرنا «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متى 11: 28). «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلامِي» (يوحنا 14: 23). «يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلا يُمَلَّ» (لوقا 18: 1). «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ» (متى 5: 44). «اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ» (لوقا 6: 37). «ٱرْعَ خِرَافيِ... ٱرْعَ غَنَمِي» (يوحنا 21: 15، 16). «ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ» (لوقا 22: 32). والحكيم هو الذي يعمل بهذه الأوامر، فيبني بيته على أساس سليم دائم لا يتزعزع.

    احتضنت فتاةٌ أمَّها وقالت لها بابتسامة كبيرة: «ماما، أنا أحبك، وأنا مستعدة أن أطيع كل أمر تأمرينني به.. هل تحتاجين إلى شيء أذهب لأشتريه؟ هل أجهِّز مائدة الغداء؟ هل أذهب لأُحضر أخي من المدرسة؟».. هذه الفتاة أقامت بناءً عظيماً من ثقة أمها بها. ولو أن الأم مرضت ستكون متأكدة أن هناك من سيعتني بها وبعائلتها أثناء مرضها. كما بَنَت الفتاة ذكريات سعيدة عندها من نحو أمها، وعند أمها من نحوها. وما قالته هذه الفتاة لأمها يجب أن يقوله لله كل مؤمن حكيم، وينفِّذه. فلنكن عاملين بالكلمة، لا سامعين فقط خادعين نفوسنا (يعقوب 1: 22).

  2. بناء على أساس رملي: والرمل هو الأساس المتسيِّب غير المتماسك، الذي لا يحتاج إلى مجهود في إقامة البناء عليه. إنه الأساس الذي يبني عليه من يقولون لله: «ٱبْعُدْ عَنَّا. وَبِمَعْرِفَةِ طُرُقِكَ لا نُسَرُّ» (أيوب 21: 14) «ٱلَّذِينَ فِيهِمْ إِلٰهُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ» (2كورنثوس 4: 4).

ويوضح هذا المثل أن الناس ينقسمون أمام أوامر المسيح إلى نوعين: حكيم مطيع مستعد لكل عمل صالح، وجاهل عاصٍ يقول في قلبه «ليس إله». ومن المؤسف أن هناك نقاط تشابه كثيرة بينهما، فكلاهما متديِّنان يتعبَّدان في بيت الله، وسمع كلاهما كلمات الموعظة على الجبل، ووصلهما نفس التعليم، وشعرا بحاجتهما إلى ضرورة البناء للاحتماء والاطمئنان، وكانت لكليهما فرصة البناء على أساس صخري، وكانا قادرين على البناء، وقاما به حتى اكتمل، وكان كلٌّ منهما واثقاً من البناء الذي أقامه.

ولكنهما اختلفا في اختيار أساس البيت، وهو رغم أهميته ليس ظاهراً لمن ينظر من الخارج، لكن الله يراه «لأَنَّ ٱلإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا ٱلرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْقَلْبِ» (1صموئيل 16: 7). أخذ الحكيم في اعتباره أهمية الأساس، وأصرَّ أن يحفر ويعمِّق حتى يرتفع بأساس سليم. أما الجاهل فلم يهتمَّ بالعُمق، وكان متعجِّلاً يريد أن يرتفع بناؤه بسرعة.

اهتمَّ الجاهل بالمظهر الخارجي ليُرضي الناس، وهو ما ندعوه رياءً ونفاقاً. فقد فاق اهتمامه بالشكليات المنظورة اهتمامه بالتأسيس والتعميق الذي يؤهِّل للصمود. ولم يصفه المسيح بأنه شرير، بل سمّاه «جاهلاً» وهي تسمية تعبِّر عن الأسى عليه أكثر منها على الإدانة له. إنه شريك العذارى الجاهلات اللواتي ملأن مصابيحهن بالزيت ولكنهنَّ لم يعملن حساب تأخُّر العريس (متى 25: 1-13)، وهو شريك الغني الغبي الذي عمل حساب دنياه ونسي حساب آخرته (لوقا 12: 13-21)، ويشاركه كثيرون من الناس، ومنهم الأديب الأمريكي مارك توين الذي قال إن الآيات التي ضايقته من الكتاب المقدس لم تكن الآيات التي لم يفهمها، بل الآيات التي فهمها، لأنه لم يشأ أن يطبِّقها في حياته!

وواضحٌ من بناء الجاهل أن شخصيته متسرِّعة تحاول أن تأخذ بسرعة، فتفقد ما تحصل عليه بسرعة، إذ سرعان ما تظهر الشقوق الداخلية في حوائط البيت المؤسَّس على الرمل، فتهبط أرضيَّته وينهار سقفه في مواجهة العوامل الطبيعية عند نزول المطر ومجيء الأنهار وهبوب العواصف، فيسقط ويكون سقوطه مدوياً!

ثانياً - امتحان حتمي

«فنزل المطر، وجاءت الأنهار، وهبَّت الرياح». هذه ثلاثة أمور لا مفرَّ من أن يواجهها كل بناء، ثبت أمامها البيت المبني على الصخر، وانهار أمامها البيت المبني على الرمل. وهي صعوبات تبيِّن معدن الإنسان، إن كان أساسه على الصخر أو على الرمل، وتُعلِن ثبات العاقل، وتفضح نفاق الجاهل. وواضح أن تعقُّل المؤمن لا يمنع إتيان الصعوبات عليه، لكن هذا التعقُّل يساعده على احتوائها، والثبوت أمامها.

  1. امتحان من السماء: جاء الامتحان الأول في صورة مطر نزل من فوق، يضرب الرأس، ويجرف ما تحت القدمين، فيكشف الوجوه ويزيل أقنعة الزيف! وهو يرمز إلى التجارب التي يسمح الله لنا بها، كمرض أو أزمة مالية أو فشل في مجال العمل، ويقصد به أن يرفع أنظارنا إليه. والحكيم هو الذي يثبت في الامتحان، فإنه «طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي يَحْتَمِلُ ٱلتَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ إِكْلِيلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلَّذِي وَعَدَ بِهِ ٱلرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ» (يعقوب 1: 12). أما الجاهل فينهار أمام هذا الامتحان، لأنه جاهل غير مطيع.

    كان رجل أعمال في بدء حياته قريباً من الرب جداً، ولكن شواغل العمل استغرقته حتى ابتعد عن الرب مدة أربعين سنة. وحدث أن أُصيب بمرض ألزمه الفراش، فرقد على ظهره مدة أربعين يوماً أتاحت له فرصةً إجبارية للتأمل والصلاة، فقال: «أربعون سنة ابتعدتُ فيها عن ربي، ولكنه في محبته فتش عليَّ ورفع وجهي إلى أعلى مدة أربعين يوماً. ونظرت، فلم أجد سواه، فدعوته: ربي وإلهي! وأدركت أن المرض الذي أصابني كان برهاناً على محبة الرب لي واهتمامه بي».

    وامتحان السماء بركة دائمة للعاقل والجاهل، لأن الله لا يمتحن العقلاء ليفشِّلهم، بل ليقرِّبهم إليه أكثر وليزيدهم حكمة. وامتحان السماء للجهال هو إحدى الطرق التي يقرع بها المسيح باب قلوبهم ليتوبوا ويطلبوا وجهه، ولو أن أكثر الناس ساهون! كم من مرة يمنح الله الإنسان نجاحاً فيفرح بالعطية ولا يُعير المعطي الوهّاب انتباهاً، وهذا هو الهلاك الذي يُفسد في الظهيرة (مزمور 91: 6)، فيُنزل الرب مطره ليوقظ الإنسان لمسؤوليات حياته الأبدية، ويقول له: «ٱلْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلا تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ... هُوَذَا ٱلآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا ٱلآنَ يَوْمُ خَلاص» (عبرانيين 3: 15و 2كورنثوس 6: 2).

  2. امتحان من الأرض: «جاءت الأنهار» وهي ترمز إلى الأشرار من البشر حولنا، الذين يسخرون منّا أو يوقعون بنا الأذى. وقد تجيئنا الأنهار من أعدائنا أو من داخل عائلاتنا، كما باع أبناء يعقوب أخاهم يوسف عبداً لتُجّار قافلةٍ مسافرة إلى مصر. ويصف المرنم الامتحان الأرضي الذي يجيئنا من المحيطين بنا بقوله: «أَكْثَرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي ٱلَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلا سَبَبٍ» (مزمور 69: 4). فإن كانت هناك بغضة بلا سبب، فكم تكون البغضة لو كان هناك سبب! وسواء كانت البغضة بسبب أو بغير سبب فإن الله يعلِّم العاقل أن يحتمي به أكثر، ويُلفت نظر الغافل الجاهل أن يطلب الحماية من الملجأ الوحيد، فيقول العاقل والجاهل معاً: «أُحِبُّكَ يَا رَبُّ يَا قُوَّتِي. ٱلرَّبُّ صَخْرَتِي وَحِصْنِي وَمُنْقِذِي. إِلٰهِي صَخْرَتِي بِهِ أَحْتَمِي. تُرْسِي وَقَرْنُ خَلاصِي وَمَلْجَإِي. أَدْعُو ٱلرَّبَّ ٱلْحَمِيدَ فَأَتَخَلَّصُ مِنْ أَعْدَائِي» (مزمور 18: 1-3).

  3. امتحان غامض: «هبَّت الرياح» وهي ترمز إلى الغامض المجهول الذي لا نعرف مصدره، ولا نتوقَّعه كالكوارث الطبيعية من فيضانات وزلازل وبراكين، فإن «اَلرِّيحَ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لٰكِنَّكَ لا تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلا إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ» (يوحنا 3: 8). وقال الشاعر العربي «تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن».

تدهمنا المصاعب كما دهمت أيوب، ولم يكن يعرف لها سبباً، لكنها برهنت أنه كان حكيماً بنى بيت إيمانه على صخر. ويتساءل المؤمن مع داود: «إِلَى مَتَى يَا رَبُّ تَنْسَانِي كُلَّ ٱلنِّسْيَانِ! إِلَى مَتَى تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي! إِلَى مَتَى أَجْعَلُ هُمُوماً فِي نَفْسِي وَحُزْناً فِي قَلْبِي كُلَّ يَوْمٍ! إِلَى مَتَى يَرْتَفِعُ عَدُوِّي عَلَيَّ!» (مزمور 13: 1، 2). وتزيد المصاعب الغامضة المؤمن تمسُّكا بالرب، وفي الوقت نفسه تهدم بيت الجاهل على رأسه.

ثالثاً - نتيجتان

ارتفع بناءان، أحدهما بسرعة دون مراعاة لمواصفات البناء الهندسية، ودون اعتبار لقوة تحمُّل الأساس. وبُني الثاني بتأنٍّ. وراقب الناس البيتين يرتفعان. وربما صفَّقوا للبنّاء الذي ارتفع بناؤه بسرعة مع أنه بنى على الرمل فوق سطح الأرض، وربما انتقدوا الذي بنى ببطء، مع أنه حفر وعمَّق حتى وصل إلى الصخر. ولكن عندما جاءت ساعة الامتحان على البيتين ظهر الاختلاف في مصيرهما! «فنزل المطر، وجاءت الأنهار، وهبَّت الرياح» ووقعت على البيتين، فثبت الأول لأنه كان مؤسساً على الصخر. أما الثاني فسقط وكان سقوطه عظيماً.

كم هو مؤلم أن يبني الإنسان ثم ينهدم بيته. لكننا نشكر الله المحب الذي لا يُسرُّ « بِمَوْتِ ٱلشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ ٱلشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا» (حزقيال 33: 11)، فهو «يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1تيموثاوس 2: 4). إنه في محبته يقرع على باب الجاهل الذي بنى على الرمل منبِّهاً ومنذراً ليعطيه فرصة ثانية ليبني من جديد بطريقة حكيمة. ولعله يتعلم من الحكيم الذي بنى على الصخر.

فإن كنت إلى الآن تبني على الرمل، وتكتفي بمدح الناس، ولا تفكر في يوم الحساب، ندعوك للتوبة، ونذكِّرك بوعد المسيح: «مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لا أُخْرِجْهُ خَارِجاً» (يوحنا 6: 37). إنه يدعو أصحاب البيوت التي سقطت يوم الامتحان قائلاً: «إِلَى مَتَى أَيُّهَا ٱلْجُهَّالُ تُحِبُّونَ ٱلْجَهْلَ، وَٱلْمُسْتَهْزِئُونَ يُسَرُّونَ بِٱلٱسْتِهْزَاءِ، وَٱلْحَمْقَى يُبْغِضُونَ ٱلْعِلْمَ؟ اِرْجِعُوا عِنْدَ تَوْبِيخِي. هَئَنَذَا أُفِيضُ لَكُمْ رُوحِي. أُعَلِّمُكُمْ كَلِمَاتِي» (أمثال 1: 22، 23). ثم يمنح صاحب البيت المنهدم فرصة إعادة البناء.

ولكي تكون نتيجة بنائنا مشرِّفة لننتبه للنقاط التالية:

  1. اهتم بالأساس: أساس بنائك هو علاقتك الشخصية بالمسيح، والتي فيها تقول عنه «ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلاطية 2: 20). وعلى هذا الأساس تثق أن المسيح غفر خطاياك وستر عيوبك، لأن «دَمَ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (1يوحنا 1: 7).

    وكل من يقبل دعوة المسيح الشخصية «هلمَّ ورائي» ويتجاوب معها يبني حياته على أساس سليم، كما فعل زكا العشار الذي كان قد بنى بيتاً أرضياً، وكان يمتلك ثروة كبيرة، ولكنه كان يعاني من فراغ روحي عظيم. ولما سمع أن المسيح آتٍ إلى بلده تسلَّق شجرة جميز ليراه، فقد كان قصير القامة. ورآه المسيح فدعا نفسه إلى بيت زكا. وعندما أعلن زكا توبته قال المسيح عنه: «ٱلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاصٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضاً ٱبْنُ إِبْرَاهِيمَ، لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لوقا 19: 1-10).

  2. تأكد من سلامة البناء: كُن متيقِّظاً وأنت تبني وتعلو، فإن إبليس سيحاول جاهداً أن يحوِّل اهتمامك إلى مشغوليات جانبية، تصرف نظرك عن أولوية بناء حياتك.. سيجرِّبك أن تتحارب مع جيرانك الذين يبنون على الصخر وعلى الرمل، وفي انشغالك بالاختلافات تتعوَّج حوائط مبناك . فلتكن صلاتك: «ٱخْتَبِرْنِي يَا اَللّٰهُ وَٱعْرِفْ قَلْبِي. ٱمْتَحِنِّي وَٱعْرِفْ أَفْكَارِي. وَٱنْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَٱهْدِنِي طَرِيقاً أَبَدِيّاً» (مزمور 139: 23، 24). اطلب من الله أن يعدِّل أي انحراف أو عوج أو انحناء في حياتك.

  3. أَعطِ كل المجد للرب: أعط الفضل لله صاحب الفضل، فكلما ارتفع بناؤك على أساسٍ سليم اعترِف أن فضل القوة هو لله لا منك، فإنه «إِنْ لَمْ يَبْنِ ٱلرَّبُّ ٱلْبَيْتَ فَبَاطِلاً يَتْعَبُ ٱلْبَنَّاؤُونَ. إِنْ لَمْ يَحْفَظِ ٱلرَّبُّ ٱلْمَدِينَةَ فَبَاطِلاً يَسْهَرُ ٱلْحَارِسُ» (مزمور 127: 1). «هٰكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: لا يَفْتَخِرَنَّ ٱلْحَكِيمُ بِحِكْمَتِهِ، وَلا يَفْتَخِرِ ٱلْجَبَّارُ بِجَبَرُوتِهِ، وَلا يَفْتَخِرِ ٱلْغَنِيُّ بِغِنَاهُ. بَلْ بِهٰذَا لِيَفْتَخِرَنَّ ٱلْمُفْتَخِرُ: بِأَنَّهُ يَفْهَمُ وَيَعْرِفُنِي أَنِّي أَنَا ٱلرَّبُّ ٱلصَّانِعُ رَحْمَةً وَقَضَاءً وَعَدْلاً فِي ٱلأَرْضِ، لأَنِّي بِهٰذِهِ أُسَرُّ يَقُولُ ٱلرَّبُّ» (إرميا 9: 23، 24).

سؤالان

  1. ما هو الامتحان الثلاثي الذي تجوزه بيوتنا الروحية؟

  2. ماذا كان يكون تعليقك وأنت تشاهد البيتين يعلوان بسرعتين مختلفتين؟ وما هو تعليقك بعد دراسة هذا المثل؟

5 - امتياز الثمر مثل شجرة التين

6 وَقَالَ هٰذَا ٱلْمَثَلَ: كَانَتْ لِوَاحِدٍ شَجَرَةُ تِينٍ مَغْرُوسَةٌ فِي كَرْمِهِ، فَأَتَى يَطْلُبُ فِيهَا ثَمَراً وَلَمْ يَجِدْ. 7 فَقَالَ لِلْكَرَّامِ: هُوَذَا ثَلاثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ ثَمَراً فِي هٰذِهِ ٱلتِّينَةِ وَلَمْ أَجِدْ. اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ ٱلأَرْضَ أَيْضاً؟ 8 فَأَجَابَ: يَا سَيِّدُ، ٱتْرُكْهَا هٰذِهِ ٱلسَّنَةَ أَيْضاً، حَتَّى أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً. 9 فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَراً، وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطَعُهَا (لوقا 13: 6-9).

مناسبة رواية المثل:

كان المسيح يلقي إحدى مواعظه عندما أخبره سامعوه أن بيلاطس الوالي قتل بعض أهل الجليل وخلط دماءهم بدماء ذبائحهم. ولعله فعل ذلك لأنهم ثاروا ضده، أو لعلهم رفضوا أن يدفعوا الجزية بحُجَّة أن الحاكم أجنبيّ عنهم في الجنسيَّة والدّين، فلا يحقُّ له أن يحكمهم ولا أن يتقاضى منهم جزية، وبحُجَّة أنهم لا يعترفون بملكٍ عليهم إلا الله. وفي ثورتهم احتموا داخل الهيكل، وأخذوا يقدِّمون ذبائحهم لله، وهم يعتقدون أن بيلاطس سيتردَّد في قتلهم لأنه سيراعي حُرمة الهيكل وقداسته. ولكن بيلاطس لم يحترم شعباً ولا هيكلاً، وأمر بقتلهم حيث هم داخل الهيكل، فسالت دماؤهم مختلطة بدماء ذبائحهم. وكان أهل الجليل مشهورين بأنهم أقل أهل فلسطين تحضُّراً، كما كانوا كثيري الثورات على الحكام وأقل خضوعاً لهم.

لم يبرِّر المسيح الجليليين الذين قُتلوا، ولا برَّر بيلاطس، لكنه أجاب إجابةً حكيمة وعميقة أوضحت أن آلام البشر لا تعني دائماً أنهم أشرار، كما أوضحت أن الله يطيل أناته على بعض الأشرار فلا يعاقبهم فوراً، ليعطيهم فرصة للتوبة. بل إن بعض الأشرار قد يحقِّقون نجاحاً علمياً وعملياً بينما يفشل بعض المؤمنين، كما اشتكى المرنم وقال: «غِرْتُ مِنَ ٱلْمُتَكَبِّرِينَ، إِذْ رَأَيْتُ سَلامَةَ ٱلأَشْرَارِ» (مزمور 73: 3).. وقال المسيح إن الله لم يسمح بقتل هؤلاء الجليليين لأنهم أكثر أهل الجليل شراً، ولكن لنتعلَّم من موتهم ضرورة التوبة، لأن الذين لا يتوبون لا بدَّ يهلكون. ثم إن طريقة موت الإنسان لا تحدِّد مصيره الأبدي، بل تحدده الطريقة التي يعيش بها.

ثم ذكر المسيح لسامعيه نموذجاً آخر من المصائب التي تحل بالبشر، ولكنها لا تعني أن الذين نزلت بهم أردأ حالاً من غيرهم، فذكر سقوط برجٍ في سلوام، خارج أسوار أورشليم على ثمانية عشر شخصاً فقتلهم. وقال إن هذا لا يعني أن هؤلاء القتلى كانوا أكثر من غيرهم شراً. ثم كرر نداءه بضرورة التوبة، وضرب مثَل التينة التي أعطاها صاحبها كل فرصة للإثمار، ثم طلب منها الثمر ولم يجده.. وهي مثَلٌ للبشر الذين يُنعم الله عليهم بكل ما يمكِّنهم من العمل الصالح، ولكنهم لا يفعلون إلا الخطايا.

لماذا اشتكوا للمسيح؟

ولعل سامعي المسيح رفعوا شكواهم له من بيلاطس وأخبروه بقتل الجليليين، لأنهم انتظروا منه أن يكون المخلِّص السياسي الآتي لينقذهم من نير الرومان. ولكنه دعاهم للتوبة لأن مملكته ليست من هذا العالم، بل هي روحية تسعى لتغيير حياة الناس.

أو لعلهم قدَّموا شكواهم له ليشرح لهم سرَّ ألم المؤمنين مع أنهم يقدِّمون ذبائحهم لله، وليوضِّح لهم لماذا نجح بيلاطس الشرير في قتل العابدين. ومشكلة الألم مشكلة كبيرة غامضة.

وربما أرادوا أن يناقشوا قضية فكرية تُبعِد عنهم نظرة المسيح الفاحصة. وعادةً عندما يخطئ الإنسان ويعذبه ضميره يهرب من الحديث المباشر عن صلته بالرب إلى حديثٍ فقهي عقائدي يبتعد به عن مواجهة نفسه الأمّارة بالسوء، كما فعلت المرأة السامرية عندما واجهها المسيح بأنها تعيش مع رجل ليس هو زوجها، فقالت له: «يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ! آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ» (يوحنا 4: 19، 20) فأجابها إن المطلوب ليس مكان العبادة بل روح العابد، الذي يجب أن يعبد الرب بالروح والحق. وبهذا حوَّل انتباهها إلى علاقتها الشخصية بالله.

أولاً - مع كل امتياز مسؤولية

كان لواحد شجرة تين مغروسة في كرمه، وكانوا يزرعون أشجار العنب عادةً على المنحدرات لتحصل على أكبر نسبة من التهوية والتعرُّض لأشعة الشمس. وقد وجدت شجرة التين (التي تحدَّث عنها المسيح في المثَل) كل ما تحتاجه من شمس ومن أكسجين، فتمتَّعت بكل امتياز طبيعي، وبكل عناية من الزارع وسط أشجار كرمه. ومع أن شجرة التين العادية تثمر بعد سنتين، إلا أن صاحب الكرم منح هذه الشجرة ثلاث سنوات قبل أن يطلب منها ثمراً، مما يعني أنه وفَّر لها كل ما يؤهِّلها للغرض من زرعها، وهو الإثمار.

ثم جاء صاحب الكرم وقال للكرّام: «هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمراً في هذه التينة ولم أجد، اقطعها. لماذا تبطِّل الأرض أيضاً؟». لقد أخذت هذه الشجرة وقتاً كافياً، وظروفاً مناسبة، وعناية كبيرة، ولكنها لم تثمر. أخذت ولم تعطِ، وخُدِمَت ولم تخدم، فعطَّلت الأرض وعطَّلت غيرها. والحُكم العادل عليها هو أن تُقطع، لأن مع كل امتياز مسؤولية، وكل من يأخذ ولا يعطي لا بد أن يموت، كالبحر «الميت». ولصاحب الكرم كل الحق أن يقطع ما لا يثمر، كما قال المسيح: «كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لا يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ، وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ» (يوحنا 15: 2).

تحدَّث الله على فم النبي إشعياء أنه زرع كرماً من أفضل الأنواع على أكمة خصبة، ونزع الأشواك من حوله، وانتظر منه ثمراً، فنقر معصرة ليعصر فيها العنب الذي سينتجه. ولكن الكرم صنع عنباً رديئاً.. وتساءل الله: «مَاذَا يُصْنَعُ أَيْضاً لِكَرْمِي وَأَنَا لَمْ أَصْنَعْهُ لَهُ؟.. فَٱلآنَ أُعَرِّفُكُمْ مَاذَا أَصْنَعُ بِكَرْمِي... َأَجْعَلُهُ خَرَاباً... وَأُوصِي ٱلْغَيْمَ أَنْ لا يُمْطِرَ عَلَيْهِ مَطَراً» (إشعياء 5: 1-6).

ولا بد أن نسأل كل زوج وأب، وكل زوجة وأم، وكل ابن وابنة: لقد منحكم الله امتياز الوجود في عائلة، فهل أنتم مثمرون؟ هل يحب أفراد العائلة بعضهم بعضاً؟ هل يقدمون خدمة لمجتمعهم؟.. إن الله يفتِّش في حياتكم وعلاقاتكم: هل هي مثمرة؟ لا تنسوا أن الإنسان السعيد هو الذي يبدأ بالعطاء «مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ ٱلْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ ٱلأَخْذِ» (أعمال 20: 35) وهو ما تحقَّقه القديس فرنسيس الأسيسي، فقال: «إننا في العطاء نأخذ».

ثانياً - يمنحنا الله فرصة ثانية

منح الله شجرة التين ثلاث سنوات لتثمر. وقال بعض المفسرين إن هذه السنوات الثلاث ترمز لثلاث مراحل من حياة الإنسان: مرحلة طفولته، وشبابه، وشيخوخته.. وقال القديس أغسطينوس إنها ترمز لثلاث مراحل من عمر البشرية: مرحلة الشريعة غير المكتوبة من آدم إلى موسى، ومرحلة الشريعة المكتوبة من موسى إلى المسيح، ومرحلة النعمة من عصر المسيح إلى نهاية الدهر.

عطَّلت التينة غير المثمرة الأرض، فقال العدل إنها يجب أن تُقطع، ولكن الرحمة قالت: «يا سيد، اتركها هذه السنة أيضاً حتى أنقب حولها وأضع زبلاً. فإن صنعت ثمراً (فهذا هو المرجو). وإلا ففيما بعد تقطعها».. وواضحٌ أن الشفيع هو المسيح الذي يشفع في البشر، والذي قال: «لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ» (يوحنا 3: 17).

وقد قبل الله توسُّلات خليله إبراهيم، عندما مثل أمام المولى يسأله العفو عن سدوم وعمورة، فوجد أن الله مستعد أن ينقذ المدينتين لو كان بهما عشرة أبرار (تكوين 18: 22-33). وقد أُبيدت المدينتان، لا لأن الله رفض توسُّلات خليله، ولكن لأن المدينتين كانتا خاليتين من عشرة أشخاص صالحين.

وقبل الله توسلات كليمه موسى وهو يطلب نجاة بني إسرائيل من الهلاك الشامل الذي كان الله سيوقعه بهم لأنهم عبدوا العجل، فصلى موسى: «قَدْ أَخْطَأَ هٰذَا ٱلشَّعْبُ خَطِيَّةً عَظِيمَةً وَصَنَعُوا لأَنْفُسِهِمْ آلِهَةً مِنْ ذَهَبٍ. وَٱلآنَ إِنْ غَفَرْتَ خَطِيَّتَهُمْ وَإِلاَّ فَٱمْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ ٱلَّذِي كَتَبْتَ» (خروج 32: 31-33). وقبل الله توسّلات موسى، وغفر لشعبه.

فما أعظم رحمة الله التي تمنع عنّا ما نستحقه من عقاب، وما أمجد نعمته التي تمنحنا ما لا نستحقه من بركة. وفي كلمات الكرّام نسمع صوت الرحمة تمنع عن التينة غير المثمرة عقاباً تستحقه، وتمنحها فرصة ثانية عامرة بالعطاء والبركات، لا تستحقها في نفسها، ولكن لأجل تعب الكرام وجهده ومحبته لعمل يديه، وانتظاره لثمر يفرح قلبه. وهذا ما يفعله الله معنا «وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ ٱلأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لا لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ» (2كورنثوس 5: 15).. فلنسكن في دائرة محبة المسيح، ولنشبع به فنثمر.

بطَّلت التينة الأرض عندما امتصَّت العصارة ولم تثمر. ولكن الكرام رأى أن يمنحها فرصة ثانية، هي سنة كاملة، ثم أنعم عليها بنعمة التنقية في أن ينقب حولها ليرفع الأحجار التي تعطل امتداد الجذور، ولينزع الأشواك الضارة والحشائش التي تمتص غذاء التينة. ثم أنعم عليها بالمعونة الفائقة في أن يضع حولها زبلاً (وهو السماد الطبيعي القوي). فإن صنعَت ثمراً كان هذا خيراً لها ولصاحب الكرم. وهو ثمرٌ لا فضل لها فيه، لأنها تكون قد عملت المطلوب. وإن لم تثمر يُنفَّذ فيها حكم القطع الذي تستحقه.

يعطيك الرب دوماً فُرصاً للإثمار، ويهيئ لك جوّ العمل الصالح، فهو شمس البر الذي يشرق عليك بنوره ودفئه، وهو ماء الحياة الذي يروي عطشك في برية الحياة، وهو المن الذي يشبع جوعك فتثمر، «لأَنَّ ثَمَرَ ٱلرُّوحِ هُوَ فِي كُلِّ صَلاحٍ وَبِرٍّ وَحَقٍّ. مُخْتَبِرِينَ مَا هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ ٱلرَّبِّ» (أفسس 5: 9 10). فإذا ضيَّعت الفرصة الأولى لا تنزعج، لأن الرب يريد أن يعطيك فرصة ثانية، ويتيح لك أيضاً معونته العظيمة لتثمر. «يَعُودُ يَرْحَمُنَا، يَدُوسُ آثَامَنَا، وَتُطْرَحُ فِي أَعْمَاقِ ٱلْبَحْرِ جَمِيعُ خَطَايَاهُمْ» (ميخا 7: 19).

  1. لا بد أن ينقب الله حولك: وهذا ينقي حياتك من معطلات النمو الروحي التي تمنع إتيانك بالثمر. وقد تزعزع عملية التنقية استقرارك، فهناك استقرار في ما تعوَّدنا أن نفعله، حتى إن كان خاطئاً ويقود إلى الهلاك. فقد تستقر بك الأحوال الاجتماعية، أو المالية، أو الصحية فتطمئن. وفي دفء هذا الاطمئنان تكتفي بالتمتع بالعطايا الموهوبة لك وتنسى الوهّاب، وتظن أنك حصلت عليها باجتهادك، لكن «لا بِٱلْقُدْرَةِ وَلا بِٱلْقُوَّةِ بَلْ بِرُوحِي قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ» (زكريا 4: 6) ينقب الرب حولك ليوقظك فتدرك أن الاستقرار الحقيقي هو عنده وحده. «كَمَا يُحَرِّكُ ٱلنَّسْرُ عُشَّهُ وَعَلَى فِرَاخِهِ يَرِفُّ، وَيَبْسُطُ جَنَاحَيْهِ وَيَأْخُذُهَا وَيَحْمِلُهَا عَلَى مَنَاكِبِهِ، هٰكَذَا ٱلرَّبُّ» (تثنية 32: 11، 12). وما أكثر المؤمنين الذين يتكلون على أنفسهم ويكتفون بحالهم ويرضون بما هم عليه، فيشبهون شعب موآب «مُسْتَرِيحٌ مُوآبُ مُنْذُ صِبَاهُ وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى دُرْدِيِّهِ (ما ترسَّب منه أو عَكَره)، وَلَمْ يُفْرَغْ مِنْ إِنَاءٍ إِلَى إِنَاءٍ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى ٱلسَّبْيِ. لِذٰلِكَ بَقِيَ طَعْمُهُ فِيهِ وَرَائِحَتُهُ لَمْ تَتَغَيَّرْ (إلى ما هو أفضل)» (إرميا 48: 11).

    ولا شك أن شجرة التين لم تكن مستريحة للنَّقب حولها، كما أن تأديب الأب لابنه لا يُفرح قلب الابن، و «كُلُّ تَأْدِيبٍ فِي ٱلْحَاضِرِ لا يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيراً فَيُعْطِي ٱلَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلامِ» (عبرانيين 12: 11).

  2. يمدُّك الله بالمساندة: قال: «أضع زبلاً» سماداً يقوّي الشجرة غير المثمرة فتثمر. ويمدُّك الله بالنعمة التي تغذي وتقوي، وواضح أن الله يعطي المؤمن ما يعاونه في حياته الروحية، فإنه «مَنْ تَجَنَّدَ قَطُّ بِنَفَقَةِ نَفْسِهِ؟» (1كورنثوس 9: 7). وحين تتقوى حياة المؤمن الروحية تنعكس على تصرفاته، فلا يحب العالم، لأن «ٱلْعَالَمَ يَمْضِي وَشَهْوَتَهُ، وَأَمَّا ٱلَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ ٱللّٰهِ فَيَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ» (1يوحنا 2: 17).ويساند الله المؤمن بصُحبته الكريمة، تحقيقاً لوعد المسيح: «أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متى 28: 20).

٭ ٭ ٭

إن كانت قد ضاعت منك الفرصة الأولى، اغتنم الفرصة الثانية التي تقدِّمها لك نعمةُ الله.. ولا تنسَ أن الفرصة الثانية لن تدوم إلى الأبد، فقد قال الله للخطّائين قبل الطوفان: «لا يَدِينُ رُوحِي فِي ٱلإِنْسَانِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (تكوين 6: 3). «بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذٰلِكَ تَهْلِكُونَ» (لوقا 13: 3، 5).

سؤالان

  1. اشرح هذه العبارة: «طريقة موت الإنسان لا تحدِّد مصيره الأبدي، بل تحدده الطريقة التي يعيش بها».

  2. علِّق على العبارة التالية: «الرحمة تمنع عنا ما نستحقه، والنعمة تمنحنا ما لا نستحقه».

6 - امتياز الصلاة مثلا صديق نصف الليل والأرملة المُلحَّة

5 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: مَنْ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ صَدِيقٌ، وَيَمْضِي إِلَيْهِ نِصْفَ ٱللَّيْلِ وَيَقُولُ لَهُ: يَا صَدِيقُ أَقْرِضْنِي ثَلاثَةَ أَرْغِفَةٍ، 6 لأَنَّ صَدِيقاً لِي جَاءَنِي مِنْ سَفَرٍ، وَلَيْسَ لِي مَا أُقَدِّمُ لَهُ. 7 فَيُجِيبَ ذٰلِكَ مِنْ دَاخِلٍ وَيَقُولَ: لا تُزْعِجْنِي! اَلْبَابُ مُغْلَقٌ ٱلآنَ، وَأَوْلادِي مَعِي فِي ٱلْفِرَاشِ. لا أَقْدِرُ أَنْ أَقُومَ وَأُعْطِيَكَ. 8 أَقُولُ لَكُمْ: وَإِنْ كَانَ لا يَقُومُ وَيُعْطِيهِ لِكَوْنِهِ صَدِيقَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَجْلِ لَجَاجَتِهِ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ. 9 وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ٱسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. 10 لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. 11 فَمَنْ مِنْكُمْ، وَهُوَ أَبٌ، يَسْأَلُهُ ٱبْنُهُ خُبْزاً، أَفَيُعْطِيهِ حَجَراً؟ أَوْ سَمَكَةً، أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ ٱلسَّمَكَةِ؟ 12 أَوْ إِذَا سَأَلَهُ بَيْضَةً، أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَباً؟ 13 فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلادَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلآبُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ، يُعْطِي ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ.

1 وَقَالَ لَهُمْ أَيْضاً مَثَلاً فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلا يُمَلَّ: 2 كَانَ فِي مَدِينَةٍ قَاضٍ لا يَخَافُ ٱللّٰهَ وَلا يَهَابُ إِنْسَاناً. 3 وَكَانَ فِي تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ أَرْمَلَةٌ. وَكَانَتْ تَأْتِي إِلَيْهِ قَائِلَةً: أَنْصِفْنِي مِنْ خَصْمِي. 4 وَكَانَ لا يَشَاءُ إِلَى زَمَانٍ. وَلٰكِنْ بَعْدَ ذٰلِكَ قَالَ فِي نَفْسِهِ: وَإِنْ كُنْتُ لا أَخَافُ ٱللّٰهَ وَلا أَهَابُ إِنْسَاناً، 5 فَإِنِّي لأَجْلِ أَنَّ هٰذِهِ ٱلأَرْمَلَةَ تُزْعِجُنِي، أُنْصِفُهَا، لِئَلاَّ تَأْتِيَ دَائِماً فَتَقْمَعَنِي. 6 وَقَالَ ٱلرَّبُّ: ٱسْمَعُوا مَا يَقُولُ قَاضِي ٱلظُّلْمِ. 7 أَفَلا يُنْصِفُ ٱللّٰهُ مُخْتَارِيهِ، ٱلصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَاراً وَلَيْلاً، وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟ 8 أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعاً! وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ ٱلإِيمَانَ عَلَى ٱلأَرْضِ؟ (لوقا 11: 5-13 و18: 1-8).

هذان مثلان من واقع الحياة، يعلِّماننا ضرورة الصلاة، وامتياز الالتجاء إلى الله وقت الضيق «فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ ٱلنِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْناً فِي حِينِهِ» (عبرانيين 4: 16). والمثلان متشابهان في المعنى، ويصفان الاحتياج الذي يُلجئ صاحبه إلى اللجاجة والإلحاح في الطلب بدون خجل بالرغم من الرفض، الأمر الذي قد يضايق المطلوب منه، ولكن الطالب ينال مراده.. في كل مثلٍ منهما نجد ثلاث شخصيات، اثنتان ظاهرتان على مسرح الأحداث، والثالثة كامنة في خلفية المثل.

في المثل الأول (مثل صديق نصف الليل) نجد ثلاثة أصدقاء: الزائر والمضيف والجار. الصديق الذي جاء، والصديق الذي احتاج، والصديق الذي أعطى. وهذه صورة مبهجة للضيافة الكريمة التي لا تجد ما تقدمه للضيف، فتلحُّ على صديق أن يعطي ما تكرم به الضيف، وتصف روعة الصداقة وأهميتها. ولذلك أوصانا الحكيم: «لا تَتْرُكْ صَدِيقَكَ وَصَدِيقَ أَبِيكَ... ٱلْجَارُ ٱلْقَرِيبُ خَيْرٌ مِنَ ٱلأَخِ ٱلْبَعِيدِ» (أمثال 27: 10)

ويقدِّم المثل الثاني (الأرملة المُلحَّة) ثلاث شخصيات: ظالماً لا نراه، وأرملة مظلومة وقاضياً ظالماً تطالبه بإنصافها، وتلحُّ عليه حتى ينصفها. وهذه صورة مؤلمة للظلم الإنساني.

يقول المثل الأول إن شخصاً وصل في نصف الليل إلى بيت صديقه طالباً الضيافة. وكان المسافرون يبدأون السفر عند انكسار حدَّة الحر، فيبلغون وُجهتهم في وقت متأخر. لهذا وصل الصديق إلى بيت صديقه في منتصف الليل، ففتح له ليستضيفه. ولكن صاحب البيت خجل لأنه لا يملك خبزاً يقدِّمه لضيفه، فقد كانت العادة أن يخبز أهل البيت كل صباح، خبز كل يومٍ بيومه. ولضرورة القيام بواجب الضيافة قصد المضيف بيت جارٍ له وطلب ثلاثة أرغفة: رغيفاً لإطعام الضيف، وآخر للمضيف ليؤاكله ويؤنسه من باب كرم الضيافة، وثالثاً لملاك المائدة (حسب تعليم التلمود).. وكان سبب إلحاح المضيف في طلب ثلاثة أرغفة من جاره: أنه يطلب من صديق، وأنه لا يطلب لنفسه بل لصديق ثالث، ثم أنه يطلب الحدَّ الأدنى.

وكان أهل القرى يتركون أبواب بيوتهم مفتوحةً طول النهار، ولا يغلقونها إلا ليلاً، فلا يطرق الباب أحدٌ إلا للضرورة القصوى. وكان البيت العادي يتكوَّن من غرفة واحدة، لها باب واحد وكُوَّة واحدة. وكانوا يخصِّصون ثلث مساحة الغرفة للنوم والثلثين الآخَرين للدواجن والحيوانات. وكان أهل البيت ينامون متجاورين تحت غطاء واحد، فإذا استيقظ أحدٌ فإنه يُقلِق كل أهل البيت ودواجنهم وحيواناتهم!.. ولهذا حاول الجار أن يعتذر عن فتح الباب لصديقه الذي يطلب الأرغفة. ولكن إلحاح جاره اضطرَّه أن يقوم ويفتح ويعطيه طلبه ليُكرم ضيفه قبل أن يصحو كل الجيران! ولا بد أن زوجته وأولاده استيقظوا على كل حال!

ويقدِّم المثل الثاني (مثل الأرملة الملحَّة) أرملة مظلومة اضطرَّها الظلم للإلحاح في طلب الإنصاف. فقد اعتدى ظالمٌ عليها وليس لها من يدافع عنها. وعندما لجأت إلى القاضي اكتشفت أنه لا يحترم القوانين الأخلاقية، ولا يهتم بالرأي العام، بل إنه يعلن أنه لا يخاف الله ولا يهاب إنساناً. ولم يكن عندها ما ترشوه به، فلم يكن أمامها إلا أن تلحّ في الطلب، فظلت تلح على خلاف الرجاء، حتى تضايق وأنصفها ليتخلَّص من إلحاحها.

ربما يُضحكنا مثل «صديق نصف الليل» بمفاجآته، ولكن مثل «القاضي الظالم» يحزننا بشخصياته الظالمة والمظلومة.. ولكن المثلين يعلِّماننا أهمية الصلاة في كل حين بدون ملل.

مناسبة رواية المثَل:

روى المسيح مثل صديق نصف الليل لما طلب منه تلاميذه أن يعلِّمهم الصلاة، كما علَّم المعمدان تلاميذه. وخير تعليم هو تعليم المعلّم الذي يمارس ما يعلّمه. وكان التلاميذ قد رأوا المسيح يصلي بطريقة تختلف عن طريقة معلِّمي اليهود، الذين كانوا يصلّون ثلاث مرات يومياً، طاعة لوصية التلمود: «محظورٌ على الإنسان أن يصلي أكثر من ثلاث مرات في النهار، لأن الله يملُّ من الصلاة كل ساعة». وكان المعلمون اليهود يصلّون صلوات محفوظة، يؤدّونها في الشوارع ليراهم الناس. وكان اليهودي العادي متحفِّظاً في الحديث مع الله لخوفه من قداسته وعظمته.

أما المسيح فكان يصلي في أُنسٍ كامل بالله، ولأوقات طويلة، وباستمرار. صلى وقت معموديته فانفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة (لوقا 3: 21)، وقيل عنه: «وَفِي ٱلصُّبْحِ بَاكِراً جِدّاً قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ» (مرقس 1: 35) كان يعتزل في البراري ويصلي (لوقا 5: 16)، وقضى الليل كله في الصلاة قبل أن يختار الاثني عشر تلميذاً (لوقا 6: 12)، وكان يصلي على انفراد (لوقا 9: 18)، وصلى على جبل التجلي (لوقا 9: 28، 29).

وإجابةً لطلب التلاميذ علَّمهم الصلاة الربانية (لوقا 11: 1-4)، ثم روى لهم مثَل صديق نصف الليل (آيات 5-8)، ثم أكَّد لهم استجابة الصلاة (آيتا 9، 10)، وأن الله أبٌ محب (آيات 11-13).. وبعد ذلك بوقت قصير ضرب لهم مثل القاضي الظالم ليشجعهم على الاستمرار في الصلاة.

والمعنى المقصود من المثلين أنه إن كانت اللجاجة جعلت النائم يصحو ويعطي، وجعلت الظالم يُنصف، فكم بالحري الله! إنه ينصف مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً. ويصوِّر المثلان المفارقة بين الصديق والقاضي الظالم من جهة، والله من جهة أخرى. فإن الله محسنٌ كريم، وهو ليس كالصديق الذي قال لصديقه إنه يزعجه، وليس كالقاضي الظالم الذي لم يتحرَّك إلا باللجاجة.

في هذين المثلين نجد المحتاج، ونسمع صلاته، ونرى استجابة الله له.

أولاً - احتياج شديد

في كل وقت يواجه كل البشر احتياجات، مثل المسافر المحتاج إلى مكان للمبيت وإلى طعام، ومثل صاحب البيت المحتاج للقيام بواجبات الضيافة من نحو ضيفه، ومثل الأرملة المظلومة التي تحتاج إلى العدالة. ويقول الله: «ٱدْعُنِي فِي يَوْمِ ٱلضِّيقِ أُنْقِذْكَ فَتُمَجِّدَنِي» (مزمور 50: 15)، ويقول: «يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ. مَعَهُ أَنَا فِي ٱلضِّيقِ. أُنْقِذُهُ وَأُمَجِّدُهُ. مِنْ طُولِ ٱلأَيَّامِ أُشْبِعُهُ، وَأُرِيهِ خَلاصِي» (مزمور 91: 15، 16)، ويقول: « وَيَكُونُ أَنِّي قَبْلَمَا يَدْعُونَ أَنَا أُجِيبُ، وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بَعْدُ أَنَا أَسْمَعُ» (إشعياء 65: 24).

وقد علَّمنا المسيح أن نصلي الصلاة الربانية في قوله عنها: «مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا» (لوقا 11: 2) كما علَّمنا أن تكون نموذجاً لصلواتنا في قوله: «فَصَلُّوا أَنْتُمْ هٰكَذَا» (متى 6: 9). وتُعلِّمنا الصلاة الربانية أن الله أبونا، وأننا أولاده، وفي شدة احتياجنا نتوجَّه إليه، فنرفع ثلاث طلبات خشوعية نبدأها بطلب تقديس اسمه بين البشر الذين يجب أن يهتفوا «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ ٱلْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ ٱلأَرْضِ» (إشعياء 6: 3)، ثم نطلب إتيان ملكوته بأن يملك على قلوبنا وقلوب كل البشر، ثم نطلب أن تنفذ مشيئته الصالحة على الأرض كما ينفذها الملائكة السماويون. ونطلب منه طعام يومنا، وغفران خطايانا، ونصرتنا على التجارب.. ثم نختم صلاتنا بأن له المُلك، إذ يتقدَّس اسمه في أفكارنا وكلامنا وأفعالنا، ونعلن أن له القوة عندما يأتي ملكوته في قلوبنا وعلى عالمنا، ونعترف بأن له المجد عندما تتحقَّق مشيئته في الأرض كما هي محقَّقة في السماء.

وبسبب احتياج المؤمنين الدائم يجب أن يصلّوا بعضهم من أجل بعض، طاعةً للأمر الرسولي: «صَلُّوا بَعْضُكُمْ لأَجْلِ بَعْضٍ لِكَيْ تُشْفَوْا» (يعقوب 5: 16).. ويحتاج القادة والقسوس وخدام الله أكثر من غيرهم إلى العون الإلهي بسبب عملهم ومسؤولياتهم. فيجب أن يواظب الشعب على الصلاة من أجلهم، كما طالب الرسول بولس المؤمنين: «وَاظِبُوا عَلَى ٱلصَّلاةِ سَاهِرِينَ فِيهَا بِٱلشُّكْرِ، مُصَلِّينَ فِي ذٰلِكَ لأَجْلِنَا نَحْنُ أَيْضاً، لِيَفْتَحَ ٱلرَّبُّ لَنَا بَاباً لِلْكَلامِ، لِنَتَكَلَّمَ بِسِرِّ ٱلْمَسِيحِ» (كولوسي 4: 2-4).

ويعلِّمنا المثلان أنه ينبغي أن نكون دوماً في روح الصلاة، على صلة مستمرة بالرب، وفي حالة تعبُّد دائم كما قال داود: «أَمَّا أَنَا فَصَلاةً» (مزمور 109: 4)، وأن نتحدث إلى الله بانتظام، فقد قال المسيح: «يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلا يُمَلَّ» (لوقا 18: 1) وقال الرسول بولس: «صَلُّوا بِلا ٱنْقِطَاعٍ» (1تسالونيكي 5: 17).

ويعلمنا المثلان أن نصلي بلجاجة، فنطلب بدون خجل رغم ما يبدو أحياناً أن استجابة صلاتنا مرفوضة.. لقد كانت لجاجة طالب الأرغفة أقوى تأثيراً من الصداقة، لأنها نجحت في ما لم تنفع فيه الصداقة، وكانت أقوى من كسل الجار الذي لم يكن يريد أن يستيقظ لئلا يوقظ أولاده النائمين، وكانت أقوى من ظلم القاضي.

ثانياً - طلب بلجاجة

كان الصديق يعلم أن لجاجته في الطلب ستوقظ جاره ليسعفه بالأرغفة المطلوبة، فألحَّ على جاره بسبب حَرَج موقفه أمام زائر نصف الليل، فنال ما طلب.. ولم يكن عند الأرملة وسيلة تحصل بها على الإنصاف عند القاضي الظالم إلا اللجاجة التي لا تقبل التراجع، فأنصفها. ولم ينَل المصليان في المثلين استجابة طلبهما لأن الطلب كان منطقياً، بل لأنهما ألحّا في الطلب، وأن الشخص الذي اتَّجها إليه هو الذي يملك حلَّ مشكلتهما.

ويعلم كل مؤمن أن الله صديق وأب، يعرف ما نحتاجه من قبل أن نسأله (متى 6: 8). كما يعلم أنه إله عادل ينصف المسكين ويحامي عن اليتيم والأرملة، فيدرك أن الله لا بد يستجيب الصلاة. وتقدم لنا كلمة الله نماذج كثيرة لصلوات بلجاجة.. فقد صارع يعقوب مع الملاك قائلاً: «لا أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي» (تكوين 32: 26) حتى باركه. وطلب موسى من الله أن يغفر خطايا الشعب الذي عبد العجل الذهبي، فاستجاب له وعفا عنهم (خروج 32: 31، 32).

وكل من يتأمل السيدة المؤمنة «حنَّة» وهي تصلي في الهيكل قد يظن أنها سكرانة (كما ظنَّ عالي الكاهن)، ولكن الله رأى مرارة نفسها وهي تلحُّ في الطلب، فاستجاب صلاتها وأعطاها ابناً هو صموئيل، فعادت به إلى كبير الكهنة تقول: «لأَجْلِ هٰذَا ٱلصَّبِيِّ صَلَّيْتُ فَأَعْطَانِيَ ٱلرَّبُّ سُؤْلِيَ ٱلَّذِي سَأَلْتُهُ مِنْ لَدُنْهُ. وَأَنَا أَيْضاً قَدْ أَعَرْتُهُ لِلرَّبِّ. جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِهِ هُوَ مُعَارٌ لِلرَّبِّ». فصار صموئيل رجلاً عظيماً لله (1صموئيل 1: 12-28).

ثالثاً - استجابة مفرحة

ونتعلَّم من مثلي صديق نصف الليل والقاضي الظالم ضرورة استجابة الصلاة، فقد قال المسيح تعليقاً على مثَل صديق نصف الليل: «ٱسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ» (لوقا 11: 9، 10). وهذا يعني أن الله يحب العطاء، وهو لا ينزعج من طلباتنا ليلاً ونهاراً لأن الليل عنده مثل النهار، وهو يعطي دوماً بسخاء ولا يعيِّر (يعقوب 1: 5).. ثم قال المسيح: «فَمَنْ مِنْكُمْ، وَهُوَ أَبٌ، يَسْأَلُهُ ٱبْنُهُ خُبْزاً، أَفَيُعْطِيهِ حَجَراً؟ أَوْ سَمَكَةً، أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ ٱلسَّمَكَةِ؟ أَوْ إِذَا سَأَلَهُ بَيْضَةً، أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَباً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلادَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلآبُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ، يُعْطِي ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ» (لوقا 11: 11-13).. لا يأس في الصلاة: اسأل. اطلُب. اقرع.

إن «طِلْبَةُ ٱلْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيراً فِي فِعْلِهَا. كَانَ إِيلِيَّا إِنْسَاناً تَحْتَ ٱلآلامِ مِثْلَنَا، وَصَلَّى صَلاةً أَنْ لا تُمْطِرَ، فَلَمْ تُمْطِرْ عَلَى ٱلأَرْضِ ثَلاثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ صَلَّى أَيْضاً فَأَعْطَتِ ٱلسَّمَاءُ مَطَراً وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ ثَمَرَهَا» (يعقوب 5: 16-18).

فإن كان الصديق يتوقَّع المعروف من صديقه، وإن كانت الأرملة المظلومة تتوقع الإنصاف من القاضي الظالم، ألا يجب على أولاد الله أن يتوقَّعوا أفضل الأشياء من أبيهم السماوي؟ ستنال خبزاً لا حجراً، وسمكة لا حيَّة، وبيضة لا عقرباً.. وفوق هذا كله ستنال ملء الروح القدس «لأَنَّ أَبَاكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هٰذِهِ كُلِّهَا. لٰكِنِ ٱطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ وَبِرَّهُ، وَهٰذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ» (متى 6: 32 و33).

ونتعلم من المثلين أنه إن كان الصديق قد نجح في الحصول على ثلاثة أرغفة من إنسان مثله، فكم يمكننا أن ننجح في الحصول على ما نحتاجه من الله، الذي يحب أن يستجيب، وقد وعدنا بالاستجابة، كما أكد لنا المسيح: «إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كَلامِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ» (يوحنا 15: 7).

وقال المسيح تعليقاً على مثل القاضي الظالم: «أَفَلا يُنْصِفُ ٱللّٰهُ مُخْتَارِيهِ، ٱلصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَاراً وَلَيْلاً، وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعاً!» (لوقا 18: 7، 8). فالإنصاف سريع من وُجهة نظر الله، لكنه يبدو أحياناً متأنياً من وُجهة نظر البشر، لأن حركة ساعة الله تختلف عن حركة ساعات البشر! والاستعجال أمر نسبي. وكلما نضج الإنسان صار أكثر قدرةً على الانتظار.. فلنستمر في الصلاة، ولنطرح عنا الشكوك، ولنثق في محبة الله التي تعطي الجميع بسخاء «مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ» (1بطرس 5: 7).

وحين يبدو أن الله متمهِّلٌ في الاستجابة يكون هذا لحكمةٍ عنده، ولخُطَّة صالحة لمصلحتنا، لأن إرادته دائماً صالحة وكاملة، وأفكاره أسمى من أفكارنا. لقد تأخَّر المسيح في استجابة طلب الأختين مريم ومرثا، فوصل إلى بيت عنيا بعد موت لعازر بأربعة أيام. وكانت حكمة تأخيره أنه أراد أن يُجري معجزة إقامة من الموت، ويعلن من خلالها أنه القيامة والحياة، وأن كل من يؤمن به وإن مات فسيحيا (يوحنا 11: 11، 35).. وتأخَّر المسيح في استجابة طلبة امرأة فينيقية طلبت منه شفاء ابنتها المريضة، ليس رفضاً منه لطلبها، بل ليُظهِر قوة إيمانها. وعندما ألحَّت في الطلب أعطاها سؤلها، وقال لها: «يَا ٱمْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ. فَشُفِيَتِ ٱبْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ» (متى 15: 28).

تأخير استجابة الصلاة:

  1. يتأخر الله علينا لنقيِّم احتياجنا: هل حقاً نحتاج ما نطلبه؟ فما أكثر ما نطلب أشياء لا نحتاجها، لكننا فقط نريدها. وهناك فرقٌ بين ما تحتاج إليه وما ترغب في الحصول عليه، لأن في الاحتياج عوَز، لكن الرغبة تحب أن تحصل على المزيد. وما أجمل الحكمة في قول أحد المؤمنين: «السماء تُصرّ أن ترفض إعطاءنا ما لا نُصِرُّ نحن على أخذه». فهل إذا تأخرت الاستجابة سنتوقَّف عن الطلب، أم سنستمر نسهر ونصلي؟ قال المسيح: «هٰكَذَا مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ: كَأَنَّ إِنْسَاناً يُلْقِي ٱلْبِذَارَ عَلَى ٱلأَرْضِ، وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَاراً، وَٱلْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لا يَعْلَمُ كَيْف» (مرقس 4: 26، 27).. فهل نقوم ليلاً ونهاراً نصلي، منتظرين طلوع البذار ونموّه وإثماره؟

  2. تتأخر الاستجابة لنستمر في طلب الرب: فنقترب منه أكثر، كما أوصانا «يَا ذَاكِرِي ٱلرَّبِّ لا تَسْكُتُوا وَلا تَدَعُوهُ يَسْكُتُ، حَتَّى يُثَبِّتَ وَيَجْعَلَ أُورُشَلِيمَ تَسْبِيحَةً فِي ٱلأَرْضِ» (إشعياء 62: 6، 7). لا يريدنا الرب أن نأخذ ونجري، بل يحب أن يرانا ماثلين في حضرته، كما قال المرنم: «اِنْتِظَاراً ٱنْتَظَرْتُ ٱلرَّبَّ فَمَالَ إِلَيَّ وَسَمِعَ صُرَاخِي» (مزمور 40: 1).. ولا شك أن تأخير الاستجابة يعلِّمنا طول الأناة وانتظار الرب، فتتقوى حياتنا الروحية، كما قيل: «وَلَمَّا فَتَحَ ٱلْخَتْمَ ٱلْخَامِسَ، رَأَيْتُ تَحْتَ ٱلْمَذْبَحِ نُفُوسَ ٱلَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ ٱللّٰهِ وَمِنْ أَجْلِ ٱلشَّهَادَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ، وَصَرَخُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: حَتَّى مَتَى أَيُّهَا ٱلسَّيِّدُ ٱلْقُدُّوسُ وَٱلْحَقُّ، لا تَقْضِي وَتَنْتَقِمُ لِدِمَائِنَا مِنَ ٱلسَّاكِنِينَ عَلَى ٱلأَرْضِ؟ فَأُعْطُوا كُلُّ وَاحِدٍ ثِيَاباً بِيضاً، وَقِيلَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَرِيحُوا زَمَاناً يَسِيراً أَيْضاً حَتَّى يَكْمَلَ ٱلْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُمْ، وَإِخْوَتُهُمْ أَيْضاً، ٱلْعَتِيدُونَ أَنْ يُقْتَلُوا مِثْلَهُمْ» (رؤيا 6: 9-11).

  3. وتتأخر الاستجابة حتى نفرح بالحصول على ما انتظرنا أن نحصل عليه: كما قيل: «فَتَأَنَّوْا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ إِلَى مَجِيءِ ٱلرَّبِّ. هُوَذَا ٱلْفَلاَّحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ ٱلأَرْضِ ٱلثَّمِينَ مُتَأَنِّياً عَلَيْهِ حَتَّى يَنَالَ ٱلْمَطَرَ ٱلْمُبَكِّرَ وَٱلْمُتَأَخِّرَ. فَتَأَنَّوْا أَنْتُمْ وَثَبِّتُوا قُلُوبَكُمْ، لأَنَّ مَجِيءَ ٱلرَّبِّ قَدِ ٱقْتَرَبَ» (يعقوب 5: 7، 8).

  4. وتتأخر الاستجابة لأن الرب يريد أن يجيبها بطريقة أفضل مما طلبناها: حين أُلقي يوسف الصدِّيق في الجب لا بدَّ أنه صلى أن يرقِّق الله قلوب إخوته عليه فيخرجونه من الجب ويعيدونه لأبيه. لكن الله تأنى في استجابة صلاته ليحييه ويحيي عائلته من سني الجوع، فأدرك أخيراً أن إخوته قصدوا به شراً، أما الرب فقصد بشرِّ إخوته خيراً ليحيي شعباً كثيراً (تكوين 50: 20). وقد تكرر الأمر مع الرسول بولس، فقال: «مِنْ جِهَةِ هٰذَا (المرض) تَضَرَّعْتُ إِلَى ٱلرَّبِّ ثَلاثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي» (2كورنثوس 12: 8). ولم يفارقه المرض، إلا أن الله استجاب له بطريقة أخرى، إذ منحه نعمةً رفعته، في قوله له: «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي ٱلضَّعْفِ تُكْمَلُ» (2كورنثوس 12: 9).

فتعالوا نصلي في كل حين ولا نمل، لأن إلهنا يستجيب المصلي الذي يطلب وجهه. وهو ليس كالصَّديق المتضايق من الإلحاح، ولا مثل القاضي الظالم، لكنه المحب الألزق من الأخ (أمثال 18: 24) والعادل الذي يحب أن يعطي.

سؤالان

  1. اذكر وجه الاختلاف ووجه الشبَه بين الله من جانب، والصَّديق وقاضي الظلم من الجانب الآخر.

  2. اذكر نموذجاً من استجابة صلاة حدثت معك.

7 - امتياز الفرح مثل العشاء العظيم

16 إِنْسَانٌ صَنَعَ عَشَاءً عَظِيماً وَدَعَا كَثِيرِينَ، 17 وَأَرْسَلَ عَبْدَهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعَشَاءِ لِيَقُولَ لِلْمَدْعُوِّينَ: تَعَالَوْا لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ. 18 فَٱبْتَدَأَ ٱلْجَمِيعُ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ يَسْتَعْفُونَ. قَالَ لَهُ ٱلأَوَّلُ: إِنِّي ٱشْتَرَيْتُ حَقْلاً، وَأَنَا مُضْطَرٌّ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْظُرَهُ. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. 19 وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي ٱشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ أَزْوَاجِ بَقَرٍ، وَأَنَا مَاضٍ لأَمْتَحِنَهَا. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. 20 وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ بِٱمْرَأَةٍ، فَلِذٰلِكَ لا أَقْدِرُ أَنْ أَجِيءَ. 21 فَأَتَى ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ بِذَلِكَ. حِينَئِذٍ غَضِبَ رَبُّ ٱلْبَيْتِ، وَقَالَ لِعَبْدِهِ: ٱخْرُجْ عَاجِلاً إِلَى شَوَارِعِ ٱلْمَدِينَةِ وَأَزِقَّتِهَا، وَأَدْخِلْ إِلَى هُنَا ٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْجُدْعَ وَٱلْعُرْجَ وَٱلْعُمْيَ. 22 فَقَالَ ٱلْعَبْدُ: يَا سَيِّدُ، قَدْ صَارَ كَمَا أَمَرْتَ، وَيُوجَدُ أَيْضاً مَكَانٌ. 23 فَقَالَ ٱلسَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: ٱخْرُجْ إِلَى ٱلطُّرُقِ وَٱلسِّيَاجَاتِ وَأَلْزِمْهُمْ بِٱلدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي، 24 لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ ٱلرِّجَالِ ٱلْمَدْعُوِّينَ يَذُوقُ عَشَائِي (لوقا 14: 16-24).

(ورد مثل مشابه في متى 22: 1-14)

مناسبة رواية المثَل:

بلغت علاقة الفريسيين بالمسيح حدّاً بعيداً من الخلاف، بسبب اختلاط المسيح بالخطاة وقبوله لهم، ولأنه علَّم تعاليم مفرحة جديدة تخالف تعاليمهم المتزمِّتة المتجهِّمة، ومنها أنه كان يقوم بأعمال الرحمة في أيام السبوت فاتَّهموه بكسر وصية السبت.. ومع ذلك فقد دعا أحد الفريسيين المسيح ليتناول طعاماً في بيته، وقبل المسيح الدعوة لأنه وجدها فرصة مناسبة لتقديم تعليمه إلى من يحتاجونه.

ولعل الفريسي أراد أن يعبِّر للمسيح عن مشاعر التوقير والاحترام، وقد يكون أنه أراد أن يرى معجزة تُجرى في بيته، وربما أراد أن يستفتيه في قضية عقائدية، أو لعله أراد أن يكرم نفسه في عيون ضيوفه بأن يقدِّم لهم الواعظ الناصري ليسمعوه ويسألوه ويحاوروه، ونرجو ألاّ يكون قد دعاه ليوقعه في شَركٍ.

ويبدو أن ضيوف الفريسي كانوا يراقبون المسيح ليشتكوا عليه. ووجد المسيح أمامه مريضاً مصاباً بالاستسقاء، ومن أعراض هذا المرض ورم الجسد بسبب احتباس الماء فيه. فسأل المسيح الحاضرين إن كان شفاء المريض حلالاً في يوم السبت، فلم يجاوبوه، فشفى المريض. ثم سألهم: «من منكم يسقط حماره أو ثوره في بئر ولا ينشله حالاً في يوم السبت؟» فلم يقدروا أن يجاوبوا سؤاله.. وهكذا أرسى المسيح قاعدة أن الرحمة تتفوَّق على الشريعة، وأن السبت «إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ ٱلإِنْسَانِ، لا ٱلإِنْسَانُ لأَجْلِ ٱلسَّبْتِ. إِذاً ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ ٱلسَّبْتِ أَيْضاً» (مرقس 2: 27 و28).

ولاحظ المسيح أن المدعوّين للطعام في بيت الفريسي يختارون المتكآت الأولى، وهي الأقرب إلى صدر المائدة، وهو مكان رب البيت، وعن يمينه يجلس ضيف الشرف. فعلَّمهم عن التواضع، وطالبهم بالاتكاء في المتَّكأ الأخير، حينئذ يقدمونهم إلى مكان أرفع.

ولاحظ أيضاً أن كل المدعوين من أصدقاء الداعي، فطلب منه أن يدعو الفقراء، والجُدع المشوَّهين، والعُرج والعمي، الذين لا يقدرون أن يكافئوا صاحب البيت، فيكافئه الرب في قيامة الأبرار.

ولابد أن جو الوليمة توتَّر بعد تعليم المسيح هذا، فأراد أحد المتَّكئين أن يغيِّر الموضوع ليلطِّف جوَّ المكان، فعلَّق على حديث المسيح بقوله: «طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله». وقد عبَّر بهذا القول عن فكر اليهود في أن ملكوت الله الذي يبدأ عند مجيء المسيّا المخلِّص المنتَظر سيكون ملكوتاً زمنياً، يبدأ باحتفال عظيم ووليمة دسمة، اعتماداً على تفسيرهم لنبوَّة إشعياء «وَيَصْنَعُ رَبُّ ٱلْجُنُودِ لِجَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ وَلِيمَةَ سَمَائِنَ، وَلِيمَةَ خَمْرٍ عَلَى دُرْدِيٍّ، سَمَائِنَ مُمِخَّةٍ، دُرْدِيٍّ مُصَفّىً» (إشعياء 25: 6).. تُرى هل سأل صاحب التعليق نفسه إن كان قد جهَّز قلبه لتلك الوليمة السماوية، وإن كان قد قبِل الدعوة لحضورها. وهل سأل نفسه: ما هي فائدة الوليمة الدسمة إن لم يكن قد قبِل الدعوة لحضورها؟.. لا شك أن صاحب التعليق لم يفهم طبيعة ملكوت الله، «لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ أَكْلاً وَشُرْباً، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلامٌ وَفَرَحٌ فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (رومية 14: 17). فروى المسيح له وللحاضرين مثل العشاء العظيم، وهو أن إنساناً عظيماً دعا كثيرين ليستعدوا لحضور وليمة عشاء، وأعلنهم بموعد الحفل. ويبدو أنهم قبلوا الدعوة مبدئياً، لأن صاحب الوليمة كرَّر لهم الدعوة ليخبرهم بحلول وقت العشاء. وكانت العادة أن صاحب الدعوة يذكِّر مدعوّيه بساعة العشاء قبل العشاء مباشرةً. ولكن المدعوّين استعفوا من الذهاب، وكأنهم اتفقوا على رفض الدعوة! قال واحد إنه اشترى حقلاً وهو مضطرٌّ أن يذهب ويراه. فكيف اشتراه دون أن يراه؟! وقال الثاني إنه اشترى خمسة أزواج بقر ويريد أن يمتحنها، فهل يمتحنها في الليل؟! وما الفائدة من امتحان أبقاره بعد شرائها؟! لقد كانا مشغولين بالعمل الذي يُعمي عيني صاحبه عن الأهم.. أما الثالث فقال إنه تزوَّج، ولا يقدر أن يذهب إلى العشاء. وكانت شريعة موسى تقول: «إِذَا اتَّخَذَ رَجُلٌ ٱمْرَأَةً جَدِيدَةً، فَلا يَخْرُجْ فِي ٱلْجُنْدِ، وَلا يُحْمَلْ عَلَيْهِ أَمْرٌ مَا. حُرّاً يَكُونُ فِي بَيْتِهِ سَنَةً وَاحِدَةً، وَيَسُرُّ ٱمْرَأَتَهُ ٱلَّتِي أَخَذَهَا» (تثنية 24: 5). وهذا يعني أن الشريعة تعفيه من المسؤوليات العسكرية نحو وطنه، والمسؤوليات العائلية نحو سبطه.

وقد شعر الأوَّلان بتقصيرهما، فطلبا أن يعفيهما صاحب الدعوة، بقولهما: «أسألك أن تعفيني». لكن الثالث لم يشعر بالتقصير، لأنه اعتمد على إعفاء الشريعة له، وقال: «لا أقدر أن أجيء».

وكان المفهوم، زمن رواية المثل، أن رفض ملكٍ دعوة ملكٍ آخر يعني إعلان الحرب على الملك الداعي. ولهذا غضب الداعي على رافضي دعوته، بعد أن أعدَّ كل شيء، وأمر عبده أن يخرج إلى شوارع المدينة وأزقَّتها ليدعو المساكين من جُدع مشوَّهين، وعُرج وعُمي. ففعل العبد، وعاد يقول لسيده إن كل من دعاهم جاءوا، ولكن لا زال حول المائدة مكان. فأمره أن يخرج إلى السياجات حيث يسكن أفقر فقراء المدينة ليلحَّ عليهم ليحضروا للعشاء حتى يمتلئ بيته. وهكذا تمتَّع بالوليمة كل من قبل الدعوة، بينما خسرها المدعوّون الأوَّلون لأنهم رفضوها.

وواضحٌ أن المسيح قصد بمثَله هذا أن الله هو العظيم صاحب البيت، لأنه ضرب هذا المثل بعد القول: «طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله». وقصد بالوليمة الإيمان بالمسيح وقبول خلاصه، فالمسيح هو خبز الحياة، ومن يُقبِل إليه لا يجوع، ومن يؤمن به لا يعطش أبداً (يوحنا 6: 35). والاجتماع حول المسيح في بيت الآب يجمع الأحبّاء المبتهجين بالمصالحة مع الله، وبالغفران، وبمواعيد الله، وبتعزيات الروح القدس، وبرجاء الحياة الأبدية. وفي الالتفاف حول الوليمة تظهر محبة المسيح للمؤمنين، ومحبتهم له.

ومن المؤسف أن هناك من يرفضون الوليمة، رغم دعوتهم إليها. وقد قصد بهم المسيح قادة اليهود الذين رفضوه رغم معرفتهم بالكتب المقدسة التي تنبأت عنه، وكأنهم يقولون له: «ٱبْعُدْ عَنَّا. وَبِمَعْرِفَةِ طُرُقِكَ لا نُسَرُّ» (أيوب 21: 14). وقد ادَّعى هؤلاء القادة أنهم أول المدعوين لملكوت الله بعد أن دعاهم يوحنا المعمدان لقبول خلاص المسيح الذي هو حمل الله رافع خطية العالم (يوحنا 1: 29)، ولكنهم رفضوه وقالوا: «أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ ٱلرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟» (يوحنا 7: 48)، ففتح الله باب وليمة خلاصه لكل البشر، من خطاة ومضطهَدين ومهمَّشين ومرفوضين من المجتمع، وقال المسيح: «لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ... لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (مرقس 2: 17 ولوقا 19: 10).

ملحوظة: روى المسيح «مثل العشاء العظيم» في بيت أحد الفريسيين في بداية خدمته، وروى مثلاً مشابهاً في مناسبة أخرى، أثناء تعليمه للفريسيين في أسبوع الآلام (متى 22: 1-14).

ونتعلم من هذا المثل عدة دروس:

أولاً - ملكوت الله وليمة

في هذا المثل أعلن المسيح أن قبول خلاصه ومُلكه على حياتنا يوم فرح ووليمة كالوليمة التي أُقيمت بمناسبة عودة الابن الضال من أرض ضلاله (لوقا 15: 23).. ليست المسيحية كئيبة فهي بشارة فرح أعلنها الملاك: «هَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ» (لوقا 2: 10، 11) وليست المسيحية مخيفة تلوِّح بالعقاب، فهي ترفع راية المحبة والسلام وتفتح أبواب الرجاء أمام المتعَبين اليائسين الذين قبلوا تعليم المسيح الذي بدأ موعظته على الجبل بكلمة «طوبى» (يا لسعادة!) ووصف المطوَّبين أصحاب السعادة بأنهم المساكين بالروح والحزانى والودعاء والجياع والعطاش إلى البر والرحماء والأنقياء القلب وصانعو السلام والمضطهَدون من أجل البر (متى 5: 3-12). وكان يعلن دائماً ترحيب السماء وفرحها بالخاطئ التائب، وفرح الخاطئ التائب بتوبته وعودته إلى أحضان الله (لوقا 15). وأعلن المسيح قبوله للص التائب على الصليب (لوقا 23: 43). وكان تعليم المسيح الذي ينبِّر عن الملكوت المفرح مختلفاً عن وعظ المعمدان الذي نبَّر على دينونة الله، وأكَّد لأتباعه أنه لا يمكن لشيء أن يسلب فرح الملكوت منهم، ووعدهم: «اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا، لِيَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً» (يوحنا 16: 24).

وتحدَّث المسيح كثيراً عن أن ملكوت الله يشبه حفل عرس فقال: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً صَنَعَ عُرْساً لٱبْنِهِ» (متى 22: 2)، وقال: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ عَشَرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ ٱلْعَرِيسِ» (متى 25: 1). ويشبِّه سفر الرؤيا مجيء المسيح ثانية ليأخذ المؤمنين إليه بأنه حفل عرس، فيقول المؤمنون المستعدون لمجيئه ثانيةً: «لِنَفْرَحْ وَنَتَهَلَّلْ وَنُعْطِهِ ٱلْمَجْدَ، لأَنَّ عُرْسَ ٱلْحَمَلِ (المسيح حمل الله) قَدْ جَاءَ، وَٱمْرَأَتُهُ (الكنيسة) هَيَّأَتْ نَفْسَهَا» (رؤيا 19: 7).

قدَّم وليمة الفرح هذه الداعي الغني الكريم المحب، الذي دعا من لا يستحقون. في المرة الأولى وجَّه الدعوة للذين رفضوها بعد أن وعدوا بحضورها، لأنهم غافلون متكبِّرون. وفي سخائه لم يُلغِ العشاء، وأراد أن يشبع به آخرون، فوجَّه الدعوة مَرَّةً ومرة لمدعوّين آخرين من كل مكان «وَلٰكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَٱلآخِرُونَ أَوَّلِينَ» (مرقس 10: 31). ولم يكن الآخرون مستحقين ولا مستعدين، لأنهم فقراء من جُدع مشوَّهين، وعُرج وعُمي لم يكن يخطر على بالهم أن صاحب الوليمة سيدعوهم إليها! «مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ ٱللّٰهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ. فَأَعْلَنَهُ ٱللّٰهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ» (1كورنثوس 2: 9 و10).

تحمَّل الداعي كل التكلفة وقدَّم العشاء العظيم مجاناً، فوصلت دعوته إلى آدم ومعه كل البشر ليأكلوا من شجرة الحياة ويمتنعوا عن الأكل من «شجرة معرفة الخير والشر»، وهي الدعوة التي عصوها. ولكن المسيح يعد بها كل من يطيع، ويقول: «هَا أَنَا آتِي سَرِيعاً وَأُجْرَتِي مَعِي لأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُهُ. أَنَا ٱلأَلِفُ وَٱلْيَاءُ، ٱلْبِدَايَةُ وَٱلنِّهَايَةُ، ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ. طُوبَى لِلَّذِينَ يَصْنَعُونَ وَصَايَاهُ لِكَيْ يَكُونَ سُلْطَانُهُمْ عَلَى شَجَرَةِ ٱلْحَيَاةِ» (رؤيا 22: 12-14).. ثم وصلت نوحاً، ومعه كل العالم القديم ليحتموا بالفُلك، عندما قال الله: «هَا أَنَا آتٍ بِطُوفَانِ ٱلْمَاءِ عَلَى ٱلأَرْضِ لأُهْلِكَ كُلَّ جَسَدٍ... وَلٰكِنْ أُقِيمُ عَهْدِي مَعَكَ، فَتَدْخُلُ ٱلْفُلْكَ أَنْتَ وَبَنُوكَ وَٱمْرَأَتُكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ» (تكوين 6: 17، 18).. ثم وصلت إبراهيم، ومعه كل الجنس المختار ليحتموا في عناية الخالق الفادي، عندما قال الله له: «ٱذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أُرِيك.َ فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ ٱسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً» (تكوين 12: 1، 2).. ولا تزال هذه الدعوة تتكرَّر اليوم للجميع ليؤمنوا بالمسيح المخلِّص وبعمله الكفاري لأجلهم: «تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى ٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (أعمال 2: 38).

أُرسلت دعوة العشاء العظيم مرتين: «يقول للمدعوين تعالوا». وقد جاءت دعوة الله لمعاصري المسيح مرة على لسان المعمدان، والثانية بلسان المسيح. وهي تتكرَّر لنا اليوم من المسيح الواقف على باب قلوبنا يقرع ليُشبعنا بعشائه، قائلاً: «هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى ٱلْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ ٱلْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا 3: 20)، فإن العشاء العظيم جاهز «كل شيء قد أُعد»، وعلى المدعوين أن يقبلوا الدعوة ليأكلوا.. وهو عشاء وفير و «يوجد أيضاً مكان» «حَسَبَ كَرَمِ ٱلْمَلِكِ» (أستير 1: 7) لكل من يقبل الدعوة.

وهناك ثلاثة أسباب على الأقل جعلت المسيح يقول إن الوليمة هي وليمة عشاء:

  1. العشاء هو الوجبة الرئيسية: كان طعام الإفطار بسيطاً، يتناوله الإنسان بسرعة قبل أن يخرج إلى عمله، وكان الغداء بسيطاً وسريعاً يتناوله الإنسان في محل عمله. أما العشاء فكان الوجبة الرئيسية الدسمة، التي يجتمع فيها ربُّ الأسرة بأهل بيته. ويقدم الرب لنا أشهى وليمة روحية وصفها المرنم بالقول: «تُرَتِّبُ قُدَّامِي مَائِدَةً» (مزمور 23: 5) فهي مرتَّبة ووفيرة ودسمة، تشبعنا، فندعو آخرين معنا: «ذُوقُوا وَٱنْظُرُوا مَا أَطْيَبَ ٱلرَّبَّ!» (مزمور 34: 8).

  2. يتناول الإنسان عشاءه مستريحاً بعد انتهاء عمل اليوم: ويوجِّه صاحب العشاء دعوته لهذه الوجبة بعد أن يكون ضيوفه قد انتهوا من أعباء عمل يومهم.. إنها وجبة دسمة بعد عناء يوم عمل، وقد آن أوان الراحة الذي يدعونا المسيح إليه بقوله: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متى 11: 28)، ففي حضرة المسيح تجد الراحة الكاملة.

  3. العشاء وليمة أُنس ومحبة: كانت وجبة العشاء تسمح للضيوف أن يتحادثوا ويتسامروا ويستمتعوا بالوقت معاً دون أن يقلقهم شيء عاجل يجب أن يؤدّوه. وقد قصد المسيح أن العشاء العظيم ليس مجرد أكل وشرب، ولكنه أنس ومودَّة، يقول لنا الله فيه: «ٱسْتَمِعُوا لِي ٱسْتِمَاعاً وَكُلُوا ٱلطَّيِّبَ، وَلْتَتَلَذَّذْ بِٱلدَّسَمِ أَنْفُسُكُمْ. أَمِيلُوا آذَانَكُمْ وَهَلُمُّوا إِلَيَّ. ٱسْمَعُوا فَتَحْيَا أَنْفُسُكُمْ. وَأَقْطَعَ لَكُمْ عَهْداً أَبَدِيّاً» (إشعياء 55: 2، 3).

واليوم يدعوك الرب لوليمة عشاء، فيها الشبع الحقيقي لحياتك، وفي قبولها تتمتَّع بالأُنس بالله الذي هو محبة. و «فِي هٰذَا هِيَ ٱلْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا ٱللّٰهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ٱبْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا» (1يوحنا 4: 10).

ثانياً - الذين يرفضون الوليمة

قال رجل حكيم: «يفعل الناس في حياتهم الروحية ما لا يفعلونه أبداً في حياتهم اليومية». فعندما تُوجَّه لنا دعوة لحفل نقبلها، ولكن عندما يدعونا الله للتوبة والتمتُّع بالعشرة معه نتردد ونعتذر. ومساكين أولئك الذين لا يدركون مقدار ما يخسرونه روحياً عندما يرفضون الدعوة للعشاء الروحي العظيم.

كان اليهود أول المدعوين للوليمة، ولكنهم رفضوا الدعوة، فقُدِّمت للأمم، وقال المسيح لليهود: «إِنَّ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ» (متى 21: 43). واليهود في مثَل العشاء العظيم هم الأغنياء بشريعة موسى ومواعظ الأنبياء. وقد ظنوا أنفسهم أبراراً لأن عندهم شريعة لا توجد عند غيرهم، ومنهم الفريسي الذي افتخر بصلاحه، فرفض الله افتخاره بتقواه، وأعلن قبوله للعشار الخاطئ الذي صرخ: «ٱللّٰهُمَّ ٱرْحَمْنِي أَنَا ٱلْخَاطِئَ. فنَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً» (لوقا 18: 9-14). وما أكثر من يقولون مع ملاك كنيسة لاودكية: «إني أنا غني وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيء» فقال المسيح له: «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ ٱلشَّقِيُّ وَٱلْبَائِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ... فَكُنْ غَيُوراً وَتُبْ» (رؤيا 3: 17، 19).

قدَّم الرافضون أعذاراً متنوِّعة سخيفة وواهية. ومن الغريب أن الناس مستعدون للاعتذار أكثر من استعدادهم لقبول دعوة الله.. اعتذر واحد بأنه اشترى حقلاً، ومشتري الحقل شغلته الماديات والممتلكات، وقال فيه القس إبراهيم سعيد إنه «في الحقيقة لم يشترِ الأرض، ولكنه باع نفسه للأرض»!.. واعتذر الثاني بأنه اشترى عشر بقرات، فشغلته التجارة والمعاملات.. والذي تزوَّج شغلته الأمور العاطفية.

وهناك عامل مشترك في كل هذه الاعتذارات التي قدَّمها المدعوّون الأوَّلون، هو أن ملكوت الله كانت له المكانة الثانية في حياتهم، وفي حالة الشخصين الأوَّلين جاء عملهما قبل ملكوت الله، وكانت العائلة عند الثالث أهم من الملكوت.. ولم يرفضوا لأسباب شريرة، فلا خطأ في شراء الأرض أو الأبقار، ولا عيب في الزواج. لكن الخطأ كان في ترتيب الأولويات ووضع أيٍّ من هذه قبل المسيح، فإن الحسن هو عدو الأحسن. ولم يشعر المعتذرون بقيمة الوليمة، ولا كانوا جائعين لها، لأنهم ظنوا أن الحقول والأبقار والاهتمامات العاطفية تشبع كل احتياجاتهم. لمثل هؤلاء يقول المسيح: «مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلا يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ٱبْناً أَوِ ٱبْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلا يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ لا يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلا يَسْتَحِقُّنِي» (متى 10: 37، 38).

ويعتذر بعض الناس اليوم عن عدم قبول دعوة الله المشبعة بأعذار واهية، فيقولون مثلاً إن من بين رجال الدين وروّاد الكنائس أشخاصاً سيئين، وهذا يبعدهم عن عبادة الله.. ولكن من يرفض الصحة لأن بعض الأطباء مرضى؟ ومن يحكم على موسيقى بيتهوفن أنها سيئة لأن عازفاً أساء عزفها؟

ويقول آخرون إن أمور الحياة تشغلهم بسبب غلاء المعيشة وكثرة المسؤوليات العائلية.. ولكن «مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي ٱلإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟» (متى 16: 26).

وما أرهب نتيجة الرفض، فإن صاحب الوليمة غضب وقال: «ليس أحدٌ من أولئك الرجال المدعوّين يذوق عشائي».. وفي المثل المشابه الذي رواه المسيح في أسبوع الآلام قال إن عقوبة الذين رفضوا دعوة الملك كانت: «فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْمَلِكُ (باعتذاراتهم) غَضِبَ، وَأَرْسَلَ جُنُودَهُ وَأَهْلَكَ أُولَئِكَ ٱلْقَاتِلِينَ وَأَحْرَقَ مَدِينَتَهُمْ» (متى 22: 7). أما المدعو الذي رفض أن يلبس الحُلَّة الملوكية فقد عاقبه الملك بقوله: «ٱرْبُطُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَخُذُوهُ وَٱطْرَحُوهُ فِي ٱلظُّلْمَةِ ٱلْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ» (متى 22: 13).

أليس غريباً أن يرفض الإنسان امتياز الشبع والأُنس والراحة، ويحصل على البكاء وصرير الأسنان والهلاك؟ «فَتُوبُوا وَٱرْجِعُوا لِتُمْحَى خَطَايَاكُمْ، لِكَيْ تَأْتِيَ أَوْقَاتُ ٱلْفَرَجِ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ» (أعمال 3: 19).

ثالثاً - الذي يدعو للوليمة

ونتوقَّف عند شخصية هامة في المثل، هي شخصية العبد الذي أرسله سيده في ساعة العشاء ليقول للمدعوين: «تعالوا، لأن كل شيء قد أُعِدَّ» فذهب وقدَّم لهم الدعوة. ولا بد أن العبد تألم وتأسف عندما رفض المدعوون الأوَّلون الدعوة، ولكنه علم أن الرَّفض ليس موجَّهاً له بل لسيده، «فأتي ذلك العبد وأخبر سيده بذلك» . فأصدر السيد أمره مرة ثانية للعبد: «اخرُج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقَّتها، وأَدخِل إلى هنا المساكين والجدع والعرج والعمي». فأطاع دون أن يسأل إن كان مثل هؤلاء مستحقين أن يجلسوا على مائدة سيده. وعاد بعد أن دعاهم يقول لسيده: «يا سيد، قد صار كما أمرت. ويوجد أيضاً مكان». فعاد السيد يأمره ثالثة: «اخرُج إلى الطرق والسياجات وأَلزِمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي». ففعل بغير تردد!

وكل مؤمن ذاق حلاوة عشاء الرب، ونال خلاصه العظيم يصبح عبداً للرب، لأن المسيح اشترى من المؤمنين أنفسهم بفدائه الكريم، وله كل الحق أن يكلِّفهم بخدمته. وهم يفرحون بطاعة تكليفه لهم كل يوم، ويقومون فوراً بكل ما يطلبه منهم.

وعلى كل مؤمن أن يوصِّل دعوة الرب الخلاصية للمحيطين به قائلاً مع الرسول بولس: «ٱلضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ، فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لا أُبَشِّرُ» (1كورنثوس 9: 16).. هكذا فعل إشعياء النبي. لقد عرف أنه عبدٌ للرب. وعندما سمع دعوةً عامةً من الرب تقول: «مَنْ أُرْسِلُ، وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟» عرف أن الدعوة موجَّهة إليه هو شخصياً، فأجاب: «هَئَنَذَا أَرْسِلْنِي» (إشعياء 6: 8). وكل مؤمن يعلم أنه عبدٌ للرب، كما قال الرسول بولس: « بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْمَدْعُوُّ رَسُولاً، ٱلْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ ٱللّٰهِ» (رومية 1: 1)، لذلك قال: «إِذْ نَحْنُ عَالِمُونَ مَخَافَةَ ٱلرَّبِّ نُقْنِعُ ٱلنَّاس... إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ ٱلْمَسِيحِ، كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ» (2كورنثوس 5: 11، 20).

دعونا نقبل دعوة العشاء العظيم فنشبع بخلاص المسيح المخلِّص، ثم ندعو الجميع ليشبعوا كما شبعنا، وليفرحوا كما فرحنا. «هٰكَذَا قَالَ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ: هُوَذَا عَبِيدِي يَأْكُلُونَ... هُوَذَا عَبِيدِي يَشْرَبُونَ... هُوَذَا عَبِيدِي يَفْرَحُون... هُوَذَا عَبِيدِي يَتَرَنَّمُونَ مِنْ طِيبَةِ ٱلْقَلْبِ» (إشعياء 65: 13، 14).

سؤالان

  1. ما هي المناسبة التي روى المسيح فيها مثل العشاء العظيم؟

  2. اشرح كيف تقوم بدور العبد كما تراه في مثَل العشاء العظيم.

8 - امتياز المجازاة

(أ) المجازاة للجميع - مثل الساعات المختلفة (متى 20: 1-16)

(ب) المجازاة للساهرين - مثل العذارى الحكيمات (متى 25: 1-13)

(ج) المجازاة للعاملين - مثل الوزنات (متى 25: 14-30)

(أ) المجازاة للجميع مثل العاملين في ساعات مختلفة

1 فَإِنَّ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ مَعَ ٱلصُّبْحِ لِيَسْتَأْجِرَ فَعَلَةً لِكَرْمِهِ، 2 فَٱتَّفَقَ مَعَ ٱلْفَعَلَةِ عَلَى دِينَارٍ فِي ٱلْيَوْمِ، وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ. 3 ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلثَّالِثَةِ وَرَأَى آخَرِينَ قِيَاماً فِي ٱلسُّوقِ بَطَّالِينَ، 4 فَقَالَ لَهُمُ: ٱذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً إِلَى ٱلْكَرْمِ فَأُعْطِيَكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَمَضَوْا. 5 وَخَرَجَ أَيْضاً نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ وَٱلتَّاسِعَةِ وَفَعَلَ كَذٰلِكَ. 6 ثُمَّ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلْحَادِيَةَ عَشَرَةَ خَرَجَ وَوَجَدَ آخَرِينَ قِيَاماً بَطَّالِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا وَقَفْتُمْ هٰهُنَا كُلَّ ٱلنَّهَارِ بَطَّالِينَ؟ 7 قَالُوا لَهُ: لأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْنَا أَحَدٌ. قَالَ لَهُمُ: ٱذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً إِلَى ٱلْكَرْمِ فَتَأْخُذُوا مَا يَحِقُّ لَكُمْ. 8 فَلَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ قَالَ صَاحِبُ ٱلْكَرْمِ لِوَكِيلِهِ: ٱدْعُ ٱلْفَعَلَةَ وَأَعْطِهِمُ ٱلأُجْرَةَ مُبْتَدِئاً مِنَ ٱلآخِرِينَ إِلَى ٱلأَوَّلِينَ. 9 فَجَاءَ أَصْحَابُ ٱلسَّاعَةِ ٱلْحَادِيَةَ عَشَرَةَ وَأَخَذُوا دِينَاراً دِينَاراً. 10 فَلَمَّا جَاءَ ٱلأَوَّلُونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ. فَأَخَذُوا هُمْ أَيْضاً دِينَاراً دِينَاراً. 11 وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَ تَذَمَّرُوا عَلَى رَبِّ ٱلْبَيْتِ 12 قَائِلِينَ: هٰؤُلاءِ ٱلآخِرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ ٱلَّذِينَ ٱحْتَمَلْنَا ثِقَلَ ٱلنَّهَارِ وَٱلْحَرَّ! 13 فَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا صَاحِبُ، مَا ظَلَمْتُكَ! أَمَا اتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟ 14 فَخُذِ ٱلَّذِي لَكَ وَٱذْهَبْ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَ هٰذَا ٱلأَخِيرَ مِثْلَكَ. 15 أَوَمَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَالِي؟ أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ لأَنِّي أَنَا صَالِحٌ؟ 16 هٰكَذَا يَكُونُ ٱلآخِرُونَ أَوَّلِينَ وَٱلأَوَّلُونَ آخِرِينَ، لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ (متى 20: 1-16).

مناسبة رواية المثل:

جاء شاب غني، كان رئيساً لأحد المجامع (كما يظهر من لوقا 18: 18)، وبحماسة وتواضع سجد أمام المسيح (كما يظهر من مرقس 10: 17). ولعله كان قد سمعه يقول: «أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ» (يوحنا 10: 10) فسأله: «أَيُّهَا ٱلْمُعَلِّمُ ٱلصَّالِحُ، أَيَّ صَلاحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ؟».. فذكَّره المسيح ببعض الوصايا العشر التي لا بد أنه كسرها، حتى يُشعره بحاجته للتوبة التي توصِّله إلى الحياة الأبدية، فقال له: «لا تَقْتُلْ. لا تَزْنِ. لا تَسْرِقْ. لا تَشْهَدْ بِٱلزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَأَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». ولعله ظنَّ أن المطلوب هو معرفة الوصايا، كما أن ضميره لم يكن حسّاساً، فقال: «هٰذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. فَمَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ؟». فعاد المسيح يضع إصبعه على نقطة ضعف أخرى في حياة ذلك الشاب، لعله ينتبه إليها فيعترف بها ويتوب عنها، وقال له: «ٱذْهَبْ وَبِعْ أَمْلاكَكَ وَأَعْطِ ٱلْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي ٱلسَّمَاءِ وَتَعَالَ ٱتْبَعْنِي. فَلَمَّا سَمِعَ ٱلشَّابُّ ٱلْكَلِمَةَ مَضَى حَزِيناً، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ» (متى 19: 16-22).

ولما سمع بطرس هذه الإجابة قارن نفسه بذلك الشاب، فرأى أنه أفضل منه، لأنه ترك شِباك صيده وتبع المسيح ليصير صياداً للناس، فسأل المسيح: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» فأجابه أن من يضحّي بأي شيء من أجله «يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ» (متى 19: 27، 29). ثم ضرب مثَل صاحب الكرم الذي استأجر فعلة ليعملوا في كرمه لساعات مختلفة، وفي نهاية اليوم منحهم جميعاً أجراً متساوياً، ليؤكد لسامعيه أن الأجر والحياة الأبدية يُعطَى لكل المؤمنين سواء كانوا أوَّلين أم آخِرين، وأنه لا يحقُّ لأحدٍ أن يدَّعي أنه يستحق الحياة الأبدية لأنه ضحى لأجل المسيح، أو لأنه أكثر من غيره عطاءً للرب.

في هذا المثل قال المسيح إن ملكوت السماوات يشبه صاحب الكرم الذي خرج في مطلع اليوم إلى السوق، حيث يتواجد الفَعَلة ليستأجر بعضهم. فوجد مجموعةً أرسلهم للعمل في كرمه، وقال لهم: «أُعْطِيكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ» (آية 4). وكان أجر العامل الذي يشتغل طيلة اليوم ديناراً واحداً. ولما كان محصول العنب قد نضج ووجب قطافه قبل موسم المطر، فقد احتاج صاحب الكرم إلى عمال آخرين كثيرين، فخرج في ذلك اليوم إلى السوق أربع مرات، في الساعة الثالثة والسادسة والتاسعة والحادية عشرة من النهار، وفي كل مرة وجد عُمّالاً لم يستأجرهم أحد، فطلب منهم أن يذهبوا للعمل في كرمه، ولم يتَّفق معهم على أجر. ولا بد أنهم توقَّعوا أجراً أقل من دينار، لأنهم لم يشتغلوا اليوم كله.

وكان يوم الأجير يبدأ من طلوع الشمس وينتهي بمغيبها. وكان اليهود يعتبرون شروق الشمس الساعة الأولى من النهار (السادسة صباحاً بتوقيتنا)، ويحسبون الغروب الساعة الثانية عشرة (السادسة مساءً بتوقيتنا)، فيكون أن صاحب الكرم استأجر عمالاً في الساعة السادسة والتاسعة صباحاً، والثانية عشرة ظهراً، والثالثة والخامسة بعد الظهر، بحسب توقيتنا. وعندما انتهى اليوم بغروب الشمس أعطى الجميع أجراً متساوياً، لا ظُلم فيه للأوَّلين لأنه اتَّفق معهم على الأجر، وإنما فيه إنعام على المتأخرين.

أولاً - كل من يدعو الرب يخلص

يعلِّمنا هذا المثَل أن كل الذين يقبلون دعوة الله في أي مرحلة من مراحل العمر متساوون في نوال خلاصه والحياة الأبدية، لأن «كُلُّ مَنْ يَدْعُو بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَخْلُصُ» (يوئيل 2: 32 وأعمال 2: 21). ولم يتوقَّع أصحاب الساعة الحادية عشرة أن يأخذوا أجراً مساوياً للأجر الذي أخذه الذين اشتغلوا في الكرم أكثر منهم، ولكن إحسان صاحب الكرم منح الجميع بركته.. ويرجع هذا التساوي إلى أن خلاص نفوسنا لا يتوقَّف على ما نفعله نحن، بل على ما فعله المسيح لأجلنا على الصليب، فهو عطيةٌ وإنعامٌ منه، ومِن عمله وحده. فإذا احتمينا بكفارته نخلُص «لأَنَّكُمْ بِٱلنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِٱلإِيمَانِ، وَذٰلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ ٱللّٰهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلا يَفْتَخِرَ أَحَدٌ. لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس 2: 8-10).. «كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلادَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلا مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلا مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ» (يوحنا 1: 12، 13).

وبعد قبول دعوة الله لنا نجد أنفسنا تلقائياً نقوم بالأعمال الصالحة التي سبق فجهَّزها لنا لنعملها. فهو لا يُنعِم علينا بالحياة الأبدية لأننا عملنا في كرمه، لكن لأننا قبلنا دعوته. أما عملنا في كرمه فهو ثمر إيماننا. وهو تشريف لا يشتري لنا خلاصنا، لكنه يبرهن أننا خلُصنا، لأنه «مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ» (متى 7: 16، 20). و «مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ» (لوقا 17: 10).

وتساوي المؤمنين في الحصول على الحياة الأبدية لا يعني أنهم متساوون في الجزاء السماوي «لأَنَّ نَجْماً يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي ٱلْمَجْدِ» (1كورنثوس 15: 41). صحيحٌ أن المسيح هو الأساس الواحد والوحيد الذي يبني عليه المؤمنون إيمانهم، ولكنهم يبنون هيكلهم الروحي بمواد مختلفة. البعض يبنون بمواد ذهبية وغيرهم بمواد فضية وغيرهم بحجارة كريمة، وغيرهم يبنون خشباً أو عشباً أو قشاً. وفي اليوم الأخير تمتحن النار الإلهية عمل كل واحد، ما هو. فإن بقي عمل أحدٍ قد بناه على المسيح، الذي هو الأساس الواحد، يأخذ أجرة. أما من احترق عمله فسيخلُص، ولكنه سيخسر مكافأة العمل الصالح (1كورنثوس 3: 11-15). ولا شك أن الذي يقيم مبنى من ذهب ينال جزاءً سماوياً أفضل من الذي يبني بالقش.

ثانياً - تحذير من التذمُّر

عندما ساوى صاحب الكرم بين العاملين في كرمه تذمر الذين عملوا النهار كله، فقال لقائد المتذمِّرين: «أم عينك شريرة لأني أنا صالح؟». وهناك أسباب كثيرة تمنعنا من التذمر على صاحب الكرم:

  1. اهتمام الرب بكرمه: وكرم الرب هو شعبه (إشعياء 5: 7). وهو يحتاج دوماً إلى فعَلة، ويكرمنا بأن يدعونا كل وقت للعمل فيه، كما أمرنا المسيح: «ٱرْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَٱنْظُرُوا ٱلْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ٱبْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ. وَٱلْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ، لِكَيْ يَفْرَحَ ٱلزَّارِعُ وَٱلْحَاصِدُ مَعاً» (يوحنا 4: 35، 36). وكل من يعمل ينال أجراً سماوياً.

  2. ينال كل مَن يعمل أجراً: فتَّش صاحب الكرم عن الفعلة. ويتنازل الرب ويدعو كل مستعدٍّ للعمل لديه ليتبارك العامل والعمل. إنه يدعو العاملين وأجرته معه ليجازي كل واحد.. وما أعظم الجزاء السماوي العادل لكل من يترك شيئاً ويضحي به في سبيل الله غير ناظر للمكافأة، وهو يقول: «إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ ٱلْمَسِيحَ» (فيلبي 3: 8). وما أسعد من يحترس، فلا يقول: «ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك، فماذا يكون لنا؟» وكأن الله مديون له! ولا يجب أن نحسد إخوتنا الذين ينالون إنعامات أكثر منا، كما لم يكن يحقُّ للذين دُعُوا أولاً وتعبوا وقتاً طويلاً أن يطالبوا بجزاءٍ أكبر من جزاء الذين دُعُوا أخيراً وتعبوا وقتاً قصيراً، فإن الجزاء هو الحياة الأبدية لجميع من يقبل دعوة الله ويخدمه. وخلاص الله هو عطية لكل مؤمن.

  3. يعطي صاحب الكرم المتقدِّمين والمتأخرين فرصة: يرحِّب الله بالخطاة التائبين الذين يقبلون دعوته، ويكافئهم بأن يمنحهم حياةً أبدية، حتى لو قبلوا دعوته في وقت متأخر من عمرهم.. نعم توجد فرصة للتوبة في كل لحظة من لحظات الحياة، فينال التائب أجراً سماوياً. يقبل بعض الناس دعوة التوبة في عمر الشباب، والبعض الآخر في مرحلة الرجولة، والبعض الثالث عندما يبلغون الشيخوخة، والبعض وهم على فراش الموت، فيقول المسيح لهم جميعاً: «لا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللّٰهِ فَآمِنُوا بِي. فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ» (يوحنا 14: 1، 2).

    كان اللص المصلوب التائب من أصحاب الساعة الحادية عشرة، فقد أعلن توبته في اللحظات الأخيرة من حياته، وقال لزميله المصلوب معه: «أَوَلا أَنْتَ تَخَافُ ٱللّٰهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هٰذَا ٱلْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ، لأَنَّنَا نَنَالُ ٱسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هٰذَا (المسيح) فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ». ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: «ٱذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ» لأن عيني إيمانه رأتا في المصلوب رباً صاحب ملكوت. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ» (لوقا 23: 40-43). وكان الفردوس للص التائب إنعاماً من الله لا يستحقُّه، لأنه كان يستحق الهلاك الأبدي «لأَنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ ٱللّٰهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية 6: 23).

    ولا شك أن كل لحظة من لحظات الحياة فرصة للتوبة، ولو أن أحد الحكماء قال إن 20+40 أفضل من 40+20، ولما سُئل: «كيف يكون هذا مع أن حاصل الجمع في الحالتين هو 60؟» أجاب: «عندما يتوب إنسان في عمر العشرين ويسير مع الله أربعين سنة، يكون أفضل حالاً من الإنسان الذي يتوب في عمر الأربعين، ويسير مع الله عشرين سنة، لأنه يكون قد عاش حياة أفضل وأسعد!». صدق الرجل الحكيم. لذلك يدعونا الوحي: «ٱلْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلا تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ... هُوَذَا ٱلآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا ٱلآنَ يَوْمُ خَلاص» (عبرانيين 3: 15. وما أحكم قول النبي إرميا: «جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْمِلَ ٱلنِّيرَ فِي صِبَاهُ» (مراثي 3: 27)، فاغتنِم الفرصة لتتوب وتخدم الله لتنال الأجر الآن قبل أن تنتهي أيام العمر.

    ومن المؤسف أن بعض من يظنّون أنفسهم متقدِّمين يتذمَّرون على قبول الله للمتأخرين، كما تذمَّر يهود عصر المسيح عليه لما زار زكا العشار وأكل في بيته لأنه «دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئٍ» (لوقا 19: 7)، لأنهم ظنّوا أنفسهم أصحاب الفرصة الأولى، ونسوا أن الرب يرحِّب بكل من يقبل دعوته ويعمل في كَرْمه، ويمنحه أجراً سماوياً، كما فرح الأب بعودة ابنه الضال، ولو أن ابنه الأكبر تذمَّر على أبيه لأنه استقبل أخاه الراجع من ضلاله، وأخذ يلومه على قبوله والاحتفاء بعودته (لوقا 15: 25-32).

  4. الآخِرون أوَّلون: علَّق المسيح قبل رواية هذا المثل، وبعد أن رواه، بالقول: «وَلٰكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ.. هٰكَذَا يَكُونُ ٱلآخِرُونَ أَوَّلِينَ وَٱلأَوَّلُونَ آخِرِينَ» (متى 19: 30 و20: 16).. فهناك أولون في نظر أنفسهم وفي نظر الناس ولكنهم آخِرين في نظر الله. وهناك أوَّلون في وصول الدعوة إليهم، مثل بني إسرائيل، لكنهم صاروا آخِرين لأن الأمم سبقوهم إلى ملكوت الله (متى 21: 31 ويوحنا 1: 11، 12). وهناك أوَّلون في الفرصة الممنوحة لهم ليعرفوا الله مثل أهل الناصرة، ولكنهم كانوا آخِرين في نوال فوائد هذه المعرفة (متى 13: 54-58). وهناك أوَّلون في الغِنى والحصول على ممتلكات هذا العالم ولكنهم يكونون آخِرين في الحياة الأبدية، مثل الغني الذي لم يلتفت للعازر (لوقا 16: 19-25).

ثالثاً - تحذير من الكسل

سأل صاحب الكرم الفعَلة: «لِمَاذَا وَقَفْتُمْ هٰهُنَا كُلَّ ٱلنَّهَارِ بَطَّالِينَ؟» (آية 6). ولا زال المسيح يسألنا اليوم هذا السؤال نفسه: «لماذا لا تعملون في كرمي؟». هذا سؤال مهم جداً لأن الوقت مقصَّر، فليس عند صاحب الكرم وقت يضيِّعه الفعلة العاطلون عن العمل، وهو الذي قال: «يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ» (يوحنا 9: 4). إنه مستعجل في جمع محصوله قبل هطول الأمطار.

والحقيقة الواضحة هي أن الخطاة يمضون إلى مصيرهم الأبدي المحزن بينما المؤمنون يهتمون بما هو لأنفسهم. فلماذا لا يعملون بينما الاحتياج شديد؟ النفوس الموشكة على الهلاك تصرخ: «ٱعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ وَأَعِنَّا!» (أعمال 16: 9)، ومؤمنون كثيرون لا يردّون، لأن بعضهم خاملون، وبعضهم مشغولون بتفاهات، وبعضهم أصحاب أولويات خاطئة، وبعضهم يقولون إن الناس غير جاهزين للأمور الروحية أو أنهم غير مهتمين بخلاص نفوسهم. وقد يعتذرون عن عدم الخدمة بحُجَّة أن المسؤولين في الكنيسة لم يعطوهم فرصة، وكأن قادة الكنيسة يقدرون أن يكمِّموا أفواه الناس فلا تشهد للمسيح.. مع أن الكرم واسع وجاهز للحصاد.

ولكن كم نشكر الله من أجل الفعلة الذين عندما سُئلوا: «لماذا وقفتم هنا؟» أطاعوا الدعوة فوراً. ومنذ وصولهم إلى الكرم عملوا بدون توقُّف، فنالوا أجرهم بالرغم من قِلَّة ساعات عملهم، لأن صاحب الكرم كريمٌ وصالح، لا يُطالب أحداً من فَعَلته بالمستحيل، فهو يعرف ظروفهم، وهو يطعم العاملين عنده ويكافئهم، ولا يوجد صاحب عمل أفضل ولا أكرم منه.

في هذا العالم يظلم أصحاب العمل عمّالهم أحياناً، فقد تقدِّم خدمةً لإنسان يتنكَّر لها، وقد تخدم إنساناً اليوم وقت حاجته فيتقاعس عن خدمتك وقت حاجتك، لأن البشر لا يكافئون إخوتهم البشر حقَّ مكافئتهم، بل إنهم قد يسيئون إليهم. أما الله فإنه لا يظلم أحداً، ويقول: «يا صاحب، ما ظلمتك. أما اتَّفقت معي على دينار؟ فخُذ الذي لك واذهب، فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك. أوَما يحل لي أن أفعل ما أريد بمالي؟».

فما هو مال الرب؟.. إنه الأرض وملؤها، والمسكونة والساكنون فيها، لأن له البهائم على الجبال الألوف، وهو يملك كل شيء (مزمور 50: 7-12).. إنها الآن ساعة لنعمل مع الله، ونقوم ونذهب إلى كرمه المتَّسع، وهو الكريم السخي الذي يدعو: «هَلُمَّ فَأُرْسِلُك»َ (خروج 3: 10)، وأجرته معه ليكافئ كل العاملين. فهيا بنا نعمل عمل الرب بدون رخاوة و «كُلُّ مَا تَجِدُهُ يَدُكَ لِتَفْعَلَهُ فَٱفْعَلْهُ بِقُوَّتِكَ» (جامعة 9: 10)، لأن الذين لا يعملون يدمِّرون مواهبهم، مثل الرجل الذي أخذ وزنته وطمرها، بينما كان يمكنه أن يستغلها (متى 25: 24).

تحدَّث قسيس في إحدى عظاته عن فلاح اشترى محراثين، شغَّل واحداً منهما فكان يلمع، وحفظ الثاني في مخزنه فعلاه الصدأ. وتأثرت سيدة مؤمنة مما سمعت، فقالت للقسيس: «أحتاج إلى مكنسة لأنظِّف غُرف مدرسة الأحد، وأحب أن أعرف أسماء المرضى في كنيستنا لأزورهم وأصلي معهم، لأني لا أريد أن أكون محراثاً صدئاً».. فلنطلب من الرب أن يجعلنا محاريث لامعة.

إن المؤمنين الذين لا يعملون يشبهون الفراشة التي تطير فخورة بألوانها الزاهية، أما الذين يعملون فيشبهون النحلة التي تطير لتجمع الرحيق لتصنع منه عسلاً مغذياً ومشبعاً. وينتظر الله منا أن تكون لنا التقوى الجميلة الزاهية الألوان، وأن نبرهن قوة عملها فينا بأن نكون بركة للآخرين. وكل من يخدم يحقِّق نفسه ويشبع قلبه، لأنه يرى نفوساً ترجع إلى الرب فيفرح، وتفرح معه النفوس التائبة وملائكة السماء.. والنفوس المحتاجة للرب كثيرة من حولنا.

ربما كنا مشغولين بأشياء كثيرة، ولكنها بالتأكيد أقل قيمة وأهمية من خدمة الرب. فدعونا نعمل في كرم الرب، فننال بركاته العظيمة جداً المذخَّرة لكل عامل مُخْلص. ولا زال صاحب الكرم ينادي: «اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فتأخذوا ما يحق لكم». فهيا اخدمه لتأخذ منه ما يحق لك «وَٱلْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ، لِكَيْ يَفْرَحَ ٱلزَّارِعُ وَٱلْحَاصِدُ مَعاً» (يوحنا 4: 36).

سؤالان

  1. ما هو الأجر الذي يتساوى فيه كل العاملين في كرم الرب؟

  2. اشرح العبارة التالية: «كان اللص المصلوب التائب من أصحاب الساعة الحادية عشرة».

(ب) المجازاة للساهرين مثل العذارى الحكيمات

1 حِينَئِذٍ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ عَشَرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ ٱلْعَرِيسِ. 2 وَكَانَ خَمْسٌ مِنْهُنَّ حَكِيمَاتٍ، وَخَمْسٌ جَاهِلاتٍ. 3 أَمَّا ٱلْجَاهِلاتُ فَأَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَلَمْ يَأْخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيْتاً، 4 وَأَمَّا ٱلْحَكِيمَاتُ فَأَخَذْنَ زَيْتاً فِي آنِيَتِهِنَّ مَعَ مَصَابِيحِهِنَّ. 5 وَفِيمَا أَبْطَأَ ٱلْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ. 6 فَفِي نِصْفِ ٱللَّيْلِ صَارَ صُرَاخٌ: هُوَذَا ٱلْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَٱخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ! 7 فَقَامَتْ جَمِيعُ أُولَئِكَ ٱلْعَذَارَى وَأَصْلَحْنَ مَصَابِيحَهُنَّ. 8 فَقَالَتِ ٱلْجَاهِلاتُ لِلْحَكِيمَاتِ: أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ فَإِنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئُ. 9 فَأَجَابَتِ ٱلْحَكِيمَاتُ: لَعَلَّهُ لا يَكْفِي لَنَا وَلَكُنَّ، بَلِ ٱذْهَبْنَ إِلَى ٱلْبَاعَةِ وَٱبْتَعْنَ لَكُنَّ. 10 وَفِيمَا هُنَّ ذَاهِبَاتٌ لِيَبْتَعْنَ جَاءَ ٱلْعَرِيسُ، وَٱلْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى ٱلْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ ٱلْبَابُ. 11 أَخِيراً جَاءَتْ بَقِيَّةُ ٱلْعَذَارَى أَيْضاً قَائِلاتٍ: يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ، ٱفْتَحْ لَنَا. 12 فَأَجَابَ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ. 13 فَٱسْهَرُوا إِذاً لأَنَّكُمْ لا تَعْرِفُونَ ٱلْيَوْمَ وَلا ٱلسَّاعَةَ ٱلَّتِي يَأْتِي فِيهَا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ (متى 25: 1-13).

مناسبة رواية المثل:

دخل المسيح مدينة أورشليم يوم أحد السعف (الشعانين) كملك سلامٍ راكباً على حمار، فهتفت له الجماهير: «أُوصَنَّا لٱبْنِ دَاوُدَ! (بمعنى: خلِّصنا) مُبَارَكٌ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي ٱلأَعَالِي!» (متى 21: 9). ودخل الهيكل وطهَّره من الباعة والصيارفة، وهو يقول: «مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ ٱلصَّلاةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!» (متى 21: 13).. ثم وبَّخ المسيح نفاق قادة الدين اليهود، وقال لهم سبع مرات: «وَيْلٌ لَكُمْ» (متى 23: 14). وفي اليوم التالي دخل الهيكل وقال عنه: « إِنَّهُ لا يُتْرَكُ هٰهُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لا يُنْقَضُ!» فسأله التلاميذ: «مَتَى يَكُونُ هٰذَا، وَمَا هِيَ عَلامَةُ مَجِيئِكَ وَٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ؟» (متى 24: 2، 3). فروى لهم علامات خراب أورشليم، ثم علامات مجيئه ثانية. وضرب لهم مثَلين: مثَل العذارى الحكيمات والجاهلات، ومثل المسافر الذي أعطى عبيده وزنات ليتاجروا بها.

وكان أول المثَلين عن حفل عرس، وهو مأخوذ من البيئة والعادات اليهودية، رواه المسيح ليوضح لسامعيه حقائق روحية سامية، فقال إن عشر عذارى كنَّ في بيت صديقة لهنَّ ستتزوَّج، مع كل واحدة منهنَّ مصباح. وحدث أن تأخر العريس فنعسن جميعهن ونمن، وانتهى زيت كل المصابيح. وكانت خمسٌ منهنَّ حكيمات جئن معهن بزيت إضافي يُبقي مصابيحهنَّ مضيئة إن تأخَّر العريس.. بينما اكتفت الخمس الأخريات (ويدعوهنَّ المسيح جاهلات) بما في مصابيحهنَّ من زيت، لأنهن كنَّ يترجَّين أن يأتي العريس مبكراً ومصابيحهن مضيئة. وأخيراً جاء العريس مع أصدقائه وهم يصيحون بابتهاج: «العريس قادم فاخرجن للقائه» فاستيقظت العذارى العشر بسرعة، وأصلحن مصابيحهن لأن تشغيل المصباح كان يحتاج إلى تنظيف، وأضافت الحكيمات زيتاً إلى مصابيحهن. واكتشفت الجاهلات انتهاء زيت مصابيحهنَّ، فحاولن استعارة زيتٍ من الحكيمات، فاعتذرن لأن ما معهنَّ لا يكفي إلا لهنَّ. فذهبت العذارى الخمس إلى الباعة لشراء مزيد من الزيت، فتأخرّن. ووصل موكب العروسين إلى بيت العريس وأُغلق الباب. ولما وصلت العذارى الخمس متأخرات لم تكن لهنَّ فرصة الاشتراك في الاحتفال.

وقال المسيح تعليقاً على هذا المثل: «اسهروا إذاً لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن الإنسان». فلا يعرف أحدٌ موعد مجيء المسيح ثانيةً، ولكن على كل حكيمٍ أن يكون مستعداً لهذا المجيء.

كان علماء الدين اليهود يقولون إن لكل يهودي الحق أن يترك درس الشريعة ليشترك في مباهج احتفال عرس، وهناك مَثَل عبري يقول: «على كل يهودي من عمر ست سنين إلى عمر ستين سنة أن يجري وراء الاحتفال بالعرس». وكانت العادة في يوم العرس أن تنتظر العروسُ عريسَها في بيتها مع صديقاتها، وعددهن عشر على الأقل. ويجيء العريس مع أصدقائه إلى بيت العروس في وقت غير محدَّد ليأخذها إلى بيته ومعها أصحابها، ويسير موكبهما أطول مدة ممكنة في شوارع القرية ليحصلا على أكبر قدر من التمنِّيات الطيبة من أهل البلد. وكان هناك قانون يمنع السير ليلاً لمن لا يمتلك مصباحاً منيراً، كما كان قانونٌ آخر يمنع دخول أي شخص مهما كان مقامه إلى بيت العريس بعد دخول موكب العروسين إليه مع أصحابهما فيُغلق الباب. وكل مستعد ساهر يتمتع بالاحتفال، وكل جاهل غافل يحرم نفسه منه.

ونتعلم من مثل العذارى الحكيمات والجاهلات عدة دروس:

أولاً - أفراح ملكوت الله

الحياة مع الله احتفالات فرح روحي.. جاء يوحنا المعمدان «لا يأكل ولا يشرب» بمعنى أنه كان ناسكاً متقشِّفاً معتزلاً في الصحراء يقول: «أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ» (يوحنا 1: 23). أما المسيح فقد عاش وسط الناس، وشاركهم أفراحهم وتحنَّن عليهم، وكان يقبل الخطاة ويأكل معهم، فقيل عنه إنه «أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ» (متى 11: 18، 19). وهو هنا يشبِّه ملكوته بحفل عرس، فالحياة المسيحية حياة بهجة دائمة، وفرح لا يُنطَق به ومجيد.

  1. إنه ملكوت القبول: هو دعوة حُبِّية موجَّهة للجميع ليتمتعوا باحتفالات بهيجة مستمرة بالرب، تشبه الاحتفال بالعرس وبدء بيت جديد، كما وصف كاتب الرؤيا السماء بأنها «أُورُشَلِيمَ ٱلْجَدِيدَةَ... مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا» (رؤيا 21: 2). وكل من يقبل دعوة الرب يقبله الرب، ويضمُّه إلى ملكوت أفراحه، ويغفر جميع ذنوبه، فيبارك الرب (مزمور 103: 3). وكل مَن يقبل دعوة المسيح وخلاصه يختبر فرح الغفران، فيُنشِد:

    Table 1. 

    ما أبهج اليوم الذيآمنتُ فيه بالمسيح
    أضحى سروري كاملاًورنَّ صوتي بالمديح
    حُبّي لفاديَّ المجيديوماً فيوماً سيزيد
    عمرٌ جديد. يومٌ سعيديوم اختصاصي بالوحيد

    الإحساس بالذنب يطحن الإنسان فتيبس عظامه، لكن خبر الغفران المفرح يُسمِّنها (أمثال 15: 30)، «فَتَرَوْنَ وَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ وَتَزْهُو عِظَامُكُمْ كَٱلْعُشْبِ وَتُعْرَفُ يَدُ ٱلرَّبِّ عِنْدَ عَبِيدِهِ» (إشعياء 66: 14)، لأنه «إِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (1يوحنا 1: 9) فيفرح الخاطئ الذي قبلته نعمة المسيح، وتفرح الملائكة والجار والصديق، وكل نفسٍ سالكة في الحق والطريق، ويفرح الآب السماوي بابنه رب الفدا!.. تصوَّر معي كم سيكون فرح عائلة وجيران خاطئ تاب فنال سعادة الغفران ومباهج الحياة الإيمانية الصحيحة.. الأب القاسي سيصبح رقيقاً، والزوج الخشن سيصير مُحبّاً، والجار المشاكس سيتغيَّر إلى صانع سلام، لأنه «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2كورنثوس 5: 17).

  2. إنه ملكوت أُنسٍ بالله: فهو احتفال الأصحاب بالمناسبة السعيدة وبالصُّحبة المفرحة، كما قال المسيح: «سَأَرَاكُمْ أَيْضاً فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ، وَلا يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ... اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا، لِيَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً» (يوحنا 16: 22، 24).. في ملكوت الله يسير المؤمن كل اليوم مع أبيه السماوي، ويتأكد من صِدق الوعد «أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متى 28: 20). وهذا الاحتفال نصيب كل من فرح بغفران خطايا الماضي، وأصبح حاضره استمتاعاً دائماً بالرب، لأنه يقوم بخدمة المسيح الذي يقول: «مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَٱلأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا» (يوحنا 14: 12). وهذا الأُنس بمحضر الرب والاستمتاع به يقود إلى ثبوت فرح المسيح الكامل في المؤمن (يوحنا 15: 11).. وفرح المؤمن بالأُنس بربِّه يبدأ بدخوله إلى ملكوت الله ولا ينتهي أبداً، لأنه يبدأ هنا على الأرض ليستمرَّ في السماء بلا نهاية.

  3. إنه ملكوت النور: فلا بد أن العذارى يحملن مصابيحهن المضيئة التي تقشع ظلام الليل وتبدد كل خوف وتُظهِر كل حق. قال المسيح: «أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلا يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا 8: 12). وصاحب نور الحياة الذي استنار بالمسيح يمسك مصباحه لينير لنفسه ولغيره، فإنهم «لا يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 5: 15، 16). وتعلن مصابيحنا المضيئة الممتلئة بزيت النعمة أننا ساهرون مستعدون لمجيء العريس. «لِتَكُنْ أَحْقَاؤُكُمْ مُمَنْطَقَةً وَسُرُجُكُمْ مُوقَدَةً» (لوقا 12: 35) «لِكَيْ تَكُونُوا بِلا لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ، أَوْلاداً لِلّٰهِ بِلا عَيْبٍ فِي وَسَطِ جِيلٍ مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي ٱلْعَالَمِ. مُتَمَسِّكِينَ بِكَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ» (فيلبي 2: 15 و16). وخيرٌ للعينين أن تنظرا الشمس، كما قال سليمان الحكيم (جامعة 11: 7).

ثانياً - المسيح آتٍ ثانيةً

كانت العذارى العشر ينتظرن مجيء العريس، ولكنهن لم يكنَّ كلهن مستعدات. فلما تأخَّر موكب العريس «نعسن جميعهن ونمن» ولم تتمكن من حضور حفل العرس إلا خمسٌ منهنَّ!

كان اليهود (ولا يزالون) يتوقَّعون مجيء المسيح مخلصاً سياسياً، يعيد لهم أمجاد مملكة سليمان. وعندما جاء كان أكثرهم غير مستعدين.

واليوم نعلم كلنا أن المسيح آتٍ ثانيةً، ونرجو أن لا يكون حالنا كحال اليهود الذين كان أغلبهم غير مستعدين، لأن المسيح أوصانا: «اِسْهَرُوا إِذاً لأَنَّكُمْ لا تَعْلَمُونَ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ يَأْتِي رَبُّكُمْ... كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مُسْتَعِدِّينَ، لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لا تَظُنُّونَ يَأْتِي ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ» (متى 24: 42، 44).. «ٱسْهَرُوا إِذاً لأَنَّكُمْ لا تَعْرِفُونَ ٱلْيَوْمَ وَلا ٱلسَّاعَةَ ٱلَّتِي يَأْتِي فِيهَا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ» (متى 25: 13).. وأوصانا الرسول بطرس: «لا يَتَبَاطَأُ ٱلرَّبُّ عَنْ وَعْدِهِ كَمَا يَحْسِبُ قَوْمٌ ٱلتَّبَاطُؤَ، لٰكِنَّهُ يَتَأَنَّى عَلَيْنَا، وَهُوَ لا يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ ٱلْجَمِيعُ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ. وَلٰكِنْ سَيَأْتِي كَلِصٍّ فِي ٱللَّيْلِ، يَوْمُ ٱلرَّبِّ، ٱلَّذِي فِيهِ تَزُولُ ٱلسَّمَاوَاتُ بِضَجِيجٍ، وَتَنْحَلُّ ٱلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ ٱلأَرْضُ وَٱلْمَصْنُوعَاتُ ٱلَّتِي فِيهَا» (2بطرس 3: 9، 10).

انتظر تلاميذ المسيح مجيئه ثانيةً أثناء حياتهم، وأدّوا مهمَّتهم العظيمة التي كلَّفهم بها، لأنه وعدهم: «سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ.. وَلَمَّا قَالَ هٰذَا ٱرْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ، إِذَا رَجُلانِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ وَقَالا: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هٰذَا ٱلَّذِي ٱرْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ سَيَأْتِي هٰكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى ٱلسَّمَاءِ» (أعمال 1: 8-11).

علينا أن نتوقَّع مجيء المسيح ثانيةً في كل لحظة، لأن الرائي يقول: «هُوَذَا يَأْتِي مَعَ ٱلسَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ، وَٱلَّذِينَ طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ» (رؤيا 1: 7).. سينوح البعض بدموع الفرح لأنهم مستعدون لمجيئه كما كانت العذارى الحكيمات. وسينوح البعض الآخر حزناً لأنهم غير مستعدين كالعذارى الجاهلات.. وما أعظم مكافأة المستعدين لمجيئه ثانية، فإن «المستعدات دخلن معه إلى العرس» وتمتَّعن ببهاء الوجود معه. فطوبى للساهر وقت مجيء المسيح، فإنه يُدخِله الحفل ويقول له: «نِعِمَّا (اختصار: نِعْم ما فعلت، بمعنى: أحسنْتَ) أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ وَٱلأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى ٱلْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (متى 25: 21).

دعونا نفحص أنفسنا ونمتحنها. هل نحن مستعدون لمجيء المسيح ثانيةً؟.. كان هناك تشابه ظاهري بين الحكيمات والجاهلات، فكلهن معهن مصابيح. لكن الفرق عميق وداخلي، ولا يظهر إلا في وقت الامتحان.

يرمز المصباح إلى عمل الإنسان وشهادته للرب، ويرمز الزيت إلى الروح القدس. فلنسأل أنفسنا: هل نحن مولودون من الله؟ هل نحن شبعانون من نعمته؟ هل امتلأنا بروحه؟ لا يجب أن نغترَّ بمظاهر العبادة الخارجية، فهناك تشابه ظاهري بين الحكيم الذي بنى على الصخر والجاهل الذي بنى على الرمل، ولكن الفرق ظهر يوم الامتحان (متى 7: 24-27) وفي يوم الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان!

ثالثاً - حاضرنا يحدِّد مستقبلنا

يحدِّد حاضرُنا مستقبلَنا. وقد كشفت صرخة نصف الليل: «هوذا العريس مقبلٌ، فاخرُجنَ للقائه» ما عند كل واحدة من العذارى. وستكشف الصرخة نفسها ما بناه كل واحد منا في الأيام التي تسبق مجيء المسيح ثانيةً. وقتها سنكتشف ثلاثة أمور:

  1. هناك أشياء لا يمكن أن نؤجِّل الحصول عليها إلى اللحظات الأخيرة: لم تستطع الجاهلات الحصول على مزيد من الزيت في اللحظات الأخيرة. فاحصل الآن على نعمة الله المخلِّصة، واستمع إلى صوت الله الذي ينبِّهك إلى هذا بطرق متنوِّعة. قد يربت على كتفك بحنان، وقد يضربك بعصا تأديبه. إنه يحذرك بصوت منخفض خفيف أحياناً، وقد يحدثك بالرعد. «قَدْ تَنَاهَى ٱللَّيْلُ وَتَقَارَبَ ٱلنَّهَارُ، فَلْنَخْلَعْ أَعْمَالَ ٱلظُّلْمَةِ وَنَلْبَسْ أَسْلِحَةَ ٱلنُّورِ» (رومية 13: 12).

    وعظ نوحٌ قومه مدة مئة وعشرين سنة، وكانت كل دقَّة مسمار في الفُلك دعوةً لمعاصريه ليتوبوا عن شر أفعالهم.. وقبل الطوفان مباشرةً دخل الفُلك كل من صدَّقوا دعوة نوح، أما المستهزئون الذين طالما ضحكوا عليه فقد رفضوا الدخول، لأنه لم يسبق لهم أن رأوا أحداً يبني سفينة على اليابسة، ولا سمعوا في كل التاريخ السابق بحدوث طوفان مثل الطوفان الذي يهدِّدهم نوحٌ به. وأغلق الله باب فلك نوح، وجاء الطوفان، وحدَّد حاضرُ الناجين والمستهزئين مستقبلَهم. فالذين دخلوا نجوا، والذين رفضوا الدخول غرقوا.. ولا بد أن بعضهم حاول أن يدخل الفلك بعد أن رأى الخطر، ولكن الفرصة كانت قد ضاعت. والمسيح هو فُلك نجاتنا، الذي إن احتمينا بكفارته الكريمة ننجو بفضل ذبحه العظيم.

  2. هناك أشياء لا نقدر أن نستعيرها من غيرنا: لا يأكل شخصٌ آخر أو يشرب لك بدلاً منك، بل عليك أنت أن تشرب من الماء الحي لنفسك، وأن تأكل من خبز الحياة لتشبع أنت. يمكن أن يكون أبوك قد بنى كنيسة، ولكن هذا لا يعني أنك ستدخل السماء. فيمكن أن تولد في بيتٍ تقي لكن هذا لا يجعل منك ابناً لله، فإن البنوية لله مسألة فردية، وعلاقتك بالرب أمرٌ شخصي.

  3. هناك أشياء لا نحصل عليها إلا من مصدرها الصحيح: فمن المسيح وحده تأخذ زيت نعمتك، وليس من عند إخوتك المؤمنين، لأنه لا يوجد من يعطي «الزيت» إلا الذي أرسل الروح القدس ليحل على تلاميذه، بحسب وعده: «أَطْلُبُ مِنَ ٱلآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى ٱلأَبَدِ، رُوحُ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي لا يَسْتَطِيعُ ٱلْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأَنَّهُ لا يَرَاهُ وَلا يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ» (يوحنا 14: 16، 17). فلنأتِ إلى المسيح لنحصل منه على زيت النعمة.

يشبه ملكوت الله حفل عرس، يدعوك الله إليه. فهل تحب أن تحتفل اليوم بخلاص نفسك؟ هل تحب أن تنال غفران خطاياك؟ هل تحب أن يُكتب اسمك في سفر الحياة لأنك تنتمي للمسيح؟.. يمكنك اليوم أن تحصل على زيت النعمة، لأن عند الرب كفايتك من كل شيء، وهو يمنحك الكل مجاناً، وبسخاءٍ، ولا يعيِّر (يعقوب 1: 5).. سيعطيك إن كنت تقول له: الآن أفتح قلبي لك يا سيدي، فادخُل فيه واملك على حياتي لتجعل مني إنساناً حكيماً مستعداً لكل عمل صالح.

سؤالان

  1. لماذا يشبه ملكوت الله حفل عرس؟

  2. اذكر بعض الأشياء التي لا يمكن أن تحصل عليها في اللحظة الأخيرة.

(ج) المجازاة للعاملين مثل الوزنات

14 وَكَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ دَعَا عَبِيدَهُ وَسَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ، 15 فَأَعْطَى وَاحِداً خَمْسَ وَزَنَاتٍ، وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزْنَةً كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ. وَسَافَرَ لِلْوَقْتِ. 16 فَمَضَى ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَتَاجَرَ بِهَا، فَرَبِحَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ. 17 وَهٰكَذَا ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْوَزْنَتَيْنِ، رَبِحَ أَيْضاً وَزْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ. 18 وَأَمَّا ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْوَزْنَةَ فَمَضَى وَحَفَرَ فِي ٱلأَرْضِ وَأَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ. 19 وَبَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَتَى سَيِّدُ أُولَئِكَ ٱلْعَبِيدِ وَحَاسَبَهُمْ. 20 فَجَاءَ ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَقَدَّمَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، خَمْسَ وَزَنَاتٍ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا خَمْسُ وَزَنَاتٍ أُخَرُ رَبِحْتُهَا فَوْقَهَا. 21 فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ وَٱلأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى ٱلْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ. 22 ثُمَّ جَاءَ ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْوَزْنَتَيْنِ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، وَزْنَتَيْنِ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا وَزْنَتَانِ أُخْرَيَانِ رَبِحْتُهُمَا فَوْقَهُمَا. 23 قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ ٱلأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى ٱلْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ. 24 ثُمَّ جَاءَ أَيْضاً ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْوَزْنَةَ ٱلْوَاحِدَةَ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ. 25 فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي ٱلأَرْضِ. هُوَذَا ٱلَّذِي لَكَ. 26 فَأَجَابَ سَيِّدُهُ: أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلشِّرِّيرُ وَٱلْكَسْلانُ، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ، 27 فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ ٱلصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ ٱلَّذِي لِي مَعَ رِباً. 28 فَخُذُوا مِنْهُ ٱلْوَزْنَةَ وَأَعْطُوهَا لِلَّذِي لَهُ ٱلْعَشْرُ وَزَنَاتٍ. 29 لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَٱلَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ. 30 وَٱلْعَبْدُ ٱلْبَطَّالُ ٱطْرَحُوهُ إِلَى ٱلظُّلْمَةِ ٱلْخَارِجِيَّةِ، هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ (متى 25: 14-30).

مناسبة رواية المثل:

هذا هو المثَل الثاني الذي رواه المسيح تعليقاً على سؤال التلاميذ: «مَا هِيَ عَلامَةُ مَجِيئِكَ وَٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ؟» (متى 24: 3). وقد تأملنا أول المثَلين (مثل العذارى الحكيمات والجاهلات) الذي علَّمنا ضرورة الاستعداد لمجيء المسيح ثانيةً. ونتأمل الآن ثاني المثَلين الذي يعلِّمنا ضرورة الاجتهاد في خدمة الرب إلى أن يجيء، طاعةً لقول الحكيم: «كُلُّ مَا تَجِدُهُ يَدُكَ لِتَفْعَلَهُ فَٱفْعَلْهُ بِقُوَّتِكَ» (جامعة 9: 10)، ولقول الرسول: «كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ، مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ ٱلرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي ٱلرَّبِّ» (1 كورنثوس 15: 58).

وقد أعطانا المسيح مسؤولية الكرازة للعالم. ويقول تقليد قديم إن المسيح عندما صعد إلى السماء بعد صلبه وقيامته، اجتمع حوله الملائكة وسألوه إن كان كل الخطاة قد تابوا، وإن كان كل المرضى قد نالوا الشفاء، فقال: «لقد تركتُ المسؤولية لتلاميذي، وأعطيتُهم كل ما يمكِّنهم من أداء المهمَّة». لذلك يأمرنا الوحي: «لِيَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا أَخَذَ مَوْهِبَةً يَخْدِمُ بِهَا بَعْضُكُمْ بَعْضاً، كَوُكَلاءَ صَالِحِينَ عَلَى نِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُتَنَوِّعَةِ» (1بطرس 4: 10).. وأنت مسؤول أن تعمل وتربح.

يقول هذا المثل إن رجل أعمال عزم على السفر، فاستدعى عبيده وأعطاهم وزنات ليتاجروا بها، فأعطى الأول خمس وزنات، وأعطى الثاني وزنتين، وأعطى الثالث وزنة واحدة (الوزنة أجر عامل مدة عشر سنوات).. وكان رجل الأعمال منصفاً في ما فعل، لأنه أعطى «كل واحد على قدر طاقته». وظهر حكمه السليم على رجاله يوم رجع ليحاسبهم، فالذي أخذ الخمس الوزنات تاجر وربح خمس وزنات أُخر، وصاحب الوزنتين ربح أيضاً وزنتين، فكان ربح كل منهما مئة بالمئة.. ولا شك أن صاحب المال كان أكثر كرماً مع العبد الثالث، فقد منحه فرصة العمل وأعطاه وزنةً واحدة، مع أنه كان لا يستحقُّ، لأنه كان خاملاً كسولاً.

بدأ المسيح المثل بالقول: «كأنما إنسان مسافر» لأن الله يترك المؤمنين يتصرَّفون وكأنه غائب، فقد أعطاهم حرية الإرادة والحركة. وما أحكم القول: «الله هو الضيف غير المنظور على كل مائدة، والسامع الصامت لكل حديث». فهو يرانا ويسمعنا حتى إن كنا لا نراه بعيون أجسادنا، ولا نسمعه بآذاننا الطبيعية. وقد يُخيَّل لنا أحياناً أنه ائتمننا على أشياء كثيرة ثم تركنا ولم يعُد يراقبنا، أو أنه لن يعود ليحاسبنا. ولكن الحقيقة أنه الحاضر الذي يبدو غائباً لنفعل نحن ما نريد، ولكن لا بد أن يعود ليسألنا أن نعطي حساباً عمّا فعلنا.

أولاً - كلنا وكلاء

الأرض وما عليها وكل مَن عليها ملكٌ للرب، ولكنه وكّل البشر على كل شيء، وهذا امتياز هو في الوقت نفسه مسؤولية كبرى. استأمن الرب الأبوين على أولادهما، واستأمن المعلِّم على تلاميذه، واستأمن الطبيب على مرضاه، واستأمن الغني على غِناه، واستأمن الرئيس على مرؤوسيه. وسيأتي الوقت الذي فيه يطالبنا أن نقدِّم له الحساب.. وقد أراد الله أن يعلِّم هذا الدرس الهام لبني إسرائيل، فقال لهم: «ٱلأَرْضُ لا تُبَاعُ بَتَّةً، لأَنَّ لِيَ ٱلأَرْضَ وَأَنْتُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاءُ عِنْدِي» (لاويين 25: 23)، وقال: «لِي ٱلْفِضَّةُ وَلِي ٱلذَّهَبُ يَقُولُ رَبُّ ٱلْجُنُودِ» (حجي 2: 8)، وقال المرنم: «لِلرَّبِّ ٱلأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. ٱلْمَسْكُونَةُ وَكُلُّ ٱلسَّاكِنِينَ فِيهَا. لأَنَّهُ عَلَى ٱلْبِحَارِ أَسَّسَهَا، وَعَلَى ٱلأَنْهَارِ ثَبَّتَهَا» (مزمور 24: 1 و2). ويقول الوكيل الحكيم: «إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ» (رومية 14: 8).

يملك السيد الوزنات كلها، وقد استأمن رجاله الثلاثة على استخدامها، ويمكنه أن يقول لكل منهم: «أَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟» (1كورنثوس 4: 7).. ومع أنه كان يعلم أن العبد الثالث كسول ومتذمر، إلا أنه أعطاه وزنةً، فإن الله «يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلأَشْرَارِ وَٱلصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى ٱلأَبْرَارِ وَٱلظَّالِمِينَ» (متى 5: 45). فكل الناس وكلاء السيد، وهو يحبهم جميعاً، ويعطيهم كلَّهم، ويمنحهم فرصة إثبات أمانتهم، وينتظر منهم أن يكونوا سامعين عاملين بالكلمة (يعقوب 1: 22)، وأن يكون إيمانهم عاملاً بالمحبة (غلاطية 5: 6). ويقول الرسول بولس: «فَلْيَحْسِبْنَا ٱلإِنْسَانُ كَخُدَّامِ ٱلْمَسِيحِ وَوُكَلاءِ سَرَائِرِ ٱللّٰهِ ثُمَّ يُسْأَلُ فِي ٱلْوُكَلاءِ لِكَيْ يُوجَدَ ٱلإِنْسَانُ أَمِيناً» (1كورنثوس 4: 1، 2). ولا يضع الله مسؤولية على أحدٍ تفوق قدراته، ولا يترك أحداً بدون امتياز ومسؤولية.

ومع أننا جميعاً متساوون في محبة الرب لنا، إلا أننا لسنا متساوين في نوعية الفُرص الممنوحة لنا، لأننا مختلفون في الإمكانيات ومتنوِّعون في القدرات، فعند بعض الناس خمس وزنات، ولكن الله لا يحتقر صاحب الوزنة الواحدة، فقد أعطاه وسيطالبه بقدر ما أعطاه، ويقول لهم جميعاً: أنتم وكلائي.

وقد أعطانا الله مواهب طبيعية، فمنحنا الحياة والجسد وما يطعم الجسد ويكسوه، وأعطانا الماء والهواء، ومنحنا العمر والوقت، وفي كل صباح جديد يهبنا أربعاً وعشرين ساعة. وقد أكرمنا بأن وُلدنا في عائلات علَّمتنا الأخلاقيات الأساسية التي رُبينا عليها منذ صغرنا، وأعطانا وطناً ونظاماً سياسياً يهتم بالتعليم والقضاء ويوفر لنا الأمن. كما أنه وهبنا نعمة العقل الذي يميِّزنا عن سائر مخلوقاته، ومنحنا فُرص العمل، «وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْراً، يُعْطِينَا مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَمْطَاراً وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَاماً وَسُرُوراً... لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ» (أعمال 14: 17 و17: 28).

ومنحنا مواهب روحية فوق طبيعية، فإنه «لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أُعْطِيَتِ ٱلنِّعْمَةُ حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ ٱلْمَسِيحِ. لِذٰلِكَ يَقُولُ: إِذْ صَعِدَ إِلَى ٱلْعَلاءِ سَبَى سَبْياً وَأَعْطَى ٱلنَّاسَ عَطَايَا» (أفسس 4: 7، 8). «قَاسِماً (الروح القدس) لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمُفْرَدِهِ، كَمَا يَشَاءُ» (1كورنثوس 12: 11). «وَلٰكِنْ لَنَا مَوَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلْمُعْطَاةِ لَنَا: أَنُبُوَّةٌ فَبِٱلنِّسْبَةِ إِلَى ٱلإِيمَانِ (والنبوَّة هي إعلان الحقائق الروحية لبنيان الكنيسة وتوضيح الواجبات والأمور القادمة)، أَمْ خِدْمَةٌ فَفِي ٱلْخِدْمَةِ (وهي عمل الشمامسة الذين أشرفوا على إطعام المساكين)، أَمِ ٱلْمُعَلِّمُ فَفِي ٱلتَّعْلِيم (مثل التعليم في مدرسة الأحد، لإقناع العقول)ِ، أَمِ ٱلْوَاعِظُ فَفِي ٱلْوَعْظِ (لتشجيع القلوب)، ٱلْمُعْطِي فَبِسَخَاءٍ، ٱلْمُدَبِّرُ (مدير الأعمال) فَبِٱجْتِهَادٍ» (رومية 12: 6-8).

ولا يهتم الله بكمية إنتاج وكلائه، بل بنيَّتهم وأمانتهم ومشاعرهم من نحوه. وهذا ما يظهر من أن المدح الذي ناله مَن ربح الوزنتين هو نفس المدح الذي ناله مَن ربح الخمس وزنات، فقد قال لهما كليهما: «نِعِمَّا (اختصار: نِعْم ما فعلت، بمعنى: أحسنْتَ) أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ وَٱلأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى ٱلْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (متى 25: 21، 23). لم يقُل له «أيها العبد الصالح والمجتهد» ولا «الصالح الناجح» بل «الصالح والأمين»، فالأمانة هي أهم ما يبحث عنه السيد.

وقد يحتقر صاحب الوزنة الواحدة نفسه، لكن المسيح لم يحتقر الأشياء الصغيرة أبداً، حتى أنه قال: «مَنْ سَقَى أَحَدَ هٰؤُلاءِ ٱلصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِٱسْمِ تِلْمِيذٍ، فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لا يُضِيعُ أَجْرَهُ» (متى 10: 42)، وأعلن أن ورثة الملكوت هم الذين أطعموا جائعاً وسقوا عطشاناً وآووا غريباً وكسوا عارياً وزاروا مريضاً أو سجيناً (متى 25: 34-36). وعندما جلس المسيح تُجاه صندوق العطاء يراقب المتبرِّعين، لم يهتم بكم أعطوا، ولكن بكيف أعطوا. ومدح أرملةً فقيرة تبرَّعت بفلسين رغم ضآلتهما، وقال إنها أعطت أكثر من جميع الذين أعطوا، لأن الجميع أعطوا مما فاض عنهم، أما هي فقدَّمت كل ما عندها، رغم ضآلته (مرقس 12: 41-44).

ثانياً - العاملون

لكل عُملَة ووزنة وجهان، وجهٌ يحمل كلمة «امتياز» ويحمل الوجه الآخر كلمة «مسؤولية»، فمع كل بركة يمنحها الرب لنا ينتظر أن نستخدمها لنموِّنا الروحي، ولخير عائلاتنا وكنائسنا ومجتمعنا، فإننا قد قبلنا من الله لأجل اسم المسيح «نِعْمَةً وَرِسَالَةً» (رومية 1: 5) فالنعمة تحمِّلنا مسؤولية إعلان الرسالة. ومن الغريب أن بعض الناس يطالبون بامتيازات صاحب الخمس وزنات، ولكنهم يريدون أن يتهرَّبوا من مسؤولياته.

  1. الدوافع على العمل: ربح صاحب الخمس وزنات خمس وزنات أُخر، وربح صاحب الوزنتين وزنتين أخريين لأنهما كانا يدركان ماذا يريد صاحب المال، وكانا متأكِّدين أن ما يريده هو الصالح والمَرْضِيُّ والكامل، ووجدت إرادته منهما الرضى والقبول، فأطاعاه. ولا بد أنهما كانا يحبان سيدهما ويريدان أن يُدخلا السعادة إلى قلبه. ثم أنهما كانا مجتهدَين في عملهما، وفرحانَين بنجاحهما فيه لمصلحة صاحب العمل ولمصلحتهما، لأنهما سينالان رضاه ومجازاته.

    وواضحٌ أن تسليم الإرادة لله هو أهم ما يُنجح خدمتنا له. قال القديس أغسطينوس: «إن عملت مشيئة الله كأنها مشيئتك، يفعل الله مشيئتك كأنها مشيئته» لأن الذي يستسلم لله يرغب في عمل ما يرضيه، ويحبه بكامل قلبه، ولا يريد أن يترك خدمته، فيصير عبداً مؤبَّداً يقول: «أُحِبُّ سَيِّدِي» (خروج 21: 5)، فيجتهد في خدمته بكل سعادة، ويفرح قلبه كلما زاد الثمر. والمؤمن الذي يحب الرب يكون سعيداً بأن يصف نفسه بأنه «عبد الرب»، كما وُصِف إبراهيم (مزمور 105: 6)، وموسى (مزمور 105: 26)، وداود (مزمور 78: 70)، ودانيال (دانيال 6: 20)، وبولس (رومية 1: 1)، ويعقوب (يعقوب 1: 1)، وبطرس (2بطرس 1: 1)، وتيموثاوس (فيلبي 1: 1). و «ٱلْعَبْدُ يُكْرِمُ سَيِّدَهُ» (ملاخي 1: 6).

  2. مكافأة العاملين: بعد زمان طويل جاء سيد أولئك العبيد ليحاسبهم. ومهما طالت مدة غياب السيد فلا بد أن يجيء ليجازي كل واحد كما يكون عمله.. وقد كافأ السيد عبديه الأمينين، فقال لكل منهما: «ِنعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ وَٱلأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى ٱلْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ». وفي القول «نعمّا» تكريمٌ لهما لأنهما أحسنا الصنيع. وفي القول «كنت أميناً» اعتراف بخدمتهما الحسنة الأمينة. وفي القول «أقيمك على الكثير» ترقية لكل منهما هي تحمُّل مسؤولية أكبر ومزيداً من التكليف. وفي القول «ادخُل إلى فرح سيدك» بهجة لقلبيهما بالدخول إلى أفراح السيد، فيسمعان منه « لا أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً... لٰكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ» (يوحنا 15: 15). «طُوبَى لأُولَئِكَ ٱلْعَبِيدِ... إِنَّهُ يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدِمُهُمْ» (لوقا 12: 37). «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ هُمْ أَمَامَ عَرْشِ ٱللّٰهِ وَيَخْدِمُونَهُ نَهَاراً وَلَيْلاً فِي هَيْكَلِهِ، وَٱلْجَالِسُ عَلَى ٱلْعَرْشِ يَحِلُّ فَوْقَهُمْ. لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ وَلا تَقَعُ عَلَيْهِمِ ٱلشَّمْسُ وَلا شَيْءٌ مِنَ ٱلْحَرِّ، لأَنَّ ٱلْحَمَلَ ٱلَّذِي فِي وَسَطِ ٱلْعَرْشِ يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ ٱللّٰهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ» (رؤيا 7: 15-17).

ثالثاً - الخاملون

كنا نرجو أن يكون كل المؤمنين عاملين، ولكن هناك الخاملون.

  1. أسباب الخمول: في كل عمل مخاطرة. ولم يكن صاحب الوزنة الواحدة راغباً في أن يخاطر لأنه لم يكن يملك شجاعة المحاولة، فوصفه سيده بأنه «العبد الشرير والكسلان». وقد وصف إمام الحكماء سليمان هذا العبد وأمثاله بالقول: «قَالَ ٱلْكَسْلانُ: ٱلأَسَدُ فِي ٱلْخَارِجِ فَأُقْتَلُ فِي ٱلشَّوَارِعِ!» (أمثال 22: 13). ولما كان الناس يُخفون كنوزهم بدفنها في الأرض، فقد حفر العبد الكسلان الأرض وأخفى فضة سيده. وربما فعل هذا لأنه قارن نفسه بالعبدين زميليه، وحسدهما لأنهما أخذا أكثر منه.. أو ربما قال في نفسه: لماذا أُتعِب نفسي بالاتِّجار في وزنة واحدة، وسيدي لم يساوِ بيني وبين زميليَّ؟.. أو لعله لم يتوقَّع سرعة عودة سيده ليحاسبه..

    ولكن السبب الأكبر لكسله هو أنه كان يحمل مشاعر سلبية من نحو سيده، فقال له: «يا سيد، عرفتُ أنك إنسان قاسٍ، تحصد حيث لم تزرع، وتجمع من حيث لم تبذر». ويوضِّح قوله هذا مشاعره الشريرة من نحو سيده الذي أعطاه الوزنة وجعله وكيلاً له، واستأمنه على العمل! وهو مثل الشعب الذي أنكر الجميل وقال: «لَيْسَتْ طَرِيقُ ٱلرَّبِّ مُسْتَوِيَةً» (حزقيال 18: 25). ولو أن مشاعر هذا العبد كانت صالحة من نحو سيده فتاجر وخسر لكان سيده أكثر سعادةً به. وهذا واضح من قول السيد له: «كان ينبغي أن تضع فضتي عند الصيارفة، فعند مجيئي كنت آخذ الذي لي مع ربا».. وكان الصيارفة وقتها يقومون بما تقوم به البنوك اليوم، وهو أقل ما كان يمكن أن يقوم العبد به، لأنه لا يحتاج إلى فكر ولا إلى مجهود. وكانت شريعة موسى توصي اليهودي أن يعطي الأجنبي سُلفة بفوائد، ولكنها كانت تُلزمه أن يُقرِض أخاه اليهودي بغير فوائد (تثنية 23: 19). وواضحٌ من هذه الوصية أن الشريعة اليهودية تأمر اليهودي أن يرحم أخاه اليهودي فقط. ولكن المسيحية تنادي بأخويَّة جميع البشر، وقد علَّمنا المسيح أن الله أبٌ للبشر جميعاً، فنصلي: «أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَات» (متى 6: 9).. وقد منعت الشريعة اليهودية الربا والفوائد الفاحشة لأن المدين يكون عادةً أفقر من الدائن، لأنه يستدين ليسدِّد احتياجاته، فهو يستحق المساعدة.. أما في وقتنا الحاضر فإن الذي يودع فضته في البنوك لتستثمرها له هو الضعيف، لأنه عاجز عن استثمارها بنفسه، فيستفيد المودع، والبنك، ومن يقترض من البنك. والمديون في زمننا (البنك) هو القوي، والدائن (المودع) هو المحتاج. فلا ظلم ولا ضرر أن يدفع البنك فوائد للدائن المحتاج.. وعلى هذا فإننا نفهم قول السيد بالصورة التالية: «فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ البنوك (ٱلصَّيَارِفَةِ)، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ ٱلَّذِي لِي مَعَ الفوائد (رِباً)» (متى 25: 27)، لأن الصيارفة يستثمرون المال، ويشاركون المودع في الفوائد. وليس في المنفعة المتبادلة خطأ، فالاستثمار واجب، ولكن الاستغلال والفائدة المجحفة مرفوضان.

  2. عقوبة الخمول: حلَّت بالكسلان ثلاث عقوبات قاسية:

    (أ) «خذوا منه الوزنة»: أعطاه سيده فرصة العمل والربح فلم ينتهزها، ففقدها، «لأن كل من له يُعطَى فيزداد» وكل من لا يستفيد مما حصل عليه يخسره، وكل من لا يتقدَّم يتأخَّر. أما «من ليس له فالذي عنده يُؤخذ منه» فإن من لا يستفيد مما منحه الرب له، يضيِّعه. «شَهْوَةُ ٱلْكَسْلانِ تَقْتُلُهُ لأَنَّ يَدَيْهِ تَأْبَيَانِ ٱلشُّغْلَ» (أمثال 21: 25).. «يَدُ ٱلْمُجْتَهِدِينَ تَسُودُ، أَمَّا ٱلرَّخْوَةُ فَتَكُونُ تَحْتَ ٱلْجِزْيَةِ» (أمثال 12: 24).

    (ب) «اطرحوه إلى الظلمة الخارجية»: قال لكل من العبدين الأمينين «ادخُل» ولكنه قال عن الكسلان «اطرحوه». والصورة هنا تُظهِر بيتاً فيه احتفال ليلي، وهو عامر بالأفراح والأنوار، يُطرد منه شخصٌ إلى الظلام والوحدة والصقيع.. وأكبر عقوبة تحل بالخائن الكسلان هي حرمانه من محضر الله.

    (ج) «البكاء وصرير الأسنان»: والذي يبكي ويُصرُّ بأسنانه هو النادم الغاضب الحزين اليائس على الفرصة الضائعة التي لا يمكن أن تعود، حيث لا ينفع بكاء ولا ندم.

لقد أعطاك الرب مواهب كثيرة، فماذا فعلتَ بها؟ كأنما هو مسافر، لكنه لا بدَّ سيعود ويطالبك أن تقدِّم حساباً عما فعلت. فليعطنا الله أن نسمع منه: «نِعمّا».

سؤالان

  1. اشرح معنى قول المسيح: «كأنما إنسانٌ مسافر».

  2. ما هي البركات التي منحها السيد للعبدين الأمينين؟

الجزء الثالث مسؤوليات أبناء ملكوت الله

1 - ضرورة العمل

(أ) العمل واجب - مثل العبد العامل (لوقا 17: 1-10)

(ب) الجميع يعملون - مثل السامري الصالح (لوقا 10: 25-37)

(ج) الأبناء يعملون - مثل الابنين (متى 21: 28-32)

(د) العاملون يعملون - مثل الكرامين (متى 21: 33-41)

(أ) العمل واجب مثَل العبد العامل

وَقَالَ لتَلامِيذِهِ: لا يُمْكِنُ إِلا أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ، وَلَكِنْ وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ! خَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحىً وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنْ يُعْثِرَ أَحَدَ هَؤُلاءِ الصِّغَارِ. اِحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ. وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ. وَإِنْ تَابَ فَاغْفِرْ لَهُ. وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ، وَرَجَعَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ قَائِلاً: أَنَا تَائِبٌ فَاغْفِرْ لَهُ . فَقَالَ الرُّسُلُ لِلرَّبِّ: زِدْ إِيمَانَنَا . فَقَالَ الرَّبُّ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذِهِ الْجُمَّيْزَةِ انْقَلِعِي وَانْغَرِسِي فِي الْبَحْرِ، فَتُطِيعُكُمْ .

وَمَنْ مِنْكُمْ لَهُ عَبْدٌ يَحْرُثُ أَوْ يَرْعَى يَقُولُ لَهُ إِذَا دَخَلَ مِنَ الْحَقْلِ: تَقَدَّمْ سَرِيعاً وَاتَّكِئْ. بَلْ أَلا يَقُولُ لَهُ: أَعْدِدْ مَا أَتَعَشَّى بِهِ، وَتَمَنْطَقْ وَاخْدِمْنِي حَتَّى آكُلَ وَأَشْرَبَ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ أَنْتَ. فَهَلْ لِذَلِكَ الْعَبْدِ فَضْلٌ لأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ؟ لا أَظُنُّ. كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ، لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا (لوقا 17: 1-10).

مناسبة رواية المثَل

حدَّث المسيح تلاميذه عن موضوعين أساسيين: أولهما التحذير من تعثير الآخرين، والعثرة تعني خُطّاف الطُّعم في الفخ «وهي أيضاً العقبات والأحجار التي تعترض طريق التقدُّم الروحي للإنسان، فيعثر ويسقط بسببها. وواضحٌ أننا نحيا في عالم شرير يعيش فيه بشر ميّالون دائماً إلى السقوط، يعرِّضون تلاميذ المسيح للتعثُّر والسقوط. كما أن تلاميذ المسيح أنفسهم يخطئون أحياناً ويعثِّرون غيرهم، فيرفض غيرهم أن يتبعوا المسيح بحُجَّة أن أتباعه يعثرون ويسقطون مثل غيرهم من الخطاة. وقد شرح المسيح عقوبة من يعثِّر غيره، وقال إنها أشد هولاً من تعليق حجر طاحون كبير في عنق شخص وإلقائه في بحر. ثم حذّر تلاميذه بالقول: احترزوا لأنفسكم» (آية 3).

أما الثاني فهو ضرورة الغفران لإخوتنا الذين يسيئون إلينا، وعندما يخطئون نوبِّخهم، فإن احتملوا النوبيخ واعتذروا نغفر لهم. ويؤكد المسيح أننا يجب أن نغفر لهم دائماً، حتى إن أساءوا إلينا سبع مرات في اليوم، واعتذروا سبع مرات في اليوم! وواضح أن هذا لا يعني عدم غفران الخطأ الثامن، لأن المسيح علَّم أن الغفران يكون حتى إلى سبعين مرة سبع مرات (متى 18: 21، 22).

ورأى التلاميذ صعوبة ما طلبه المسيح منهم، وأنه يحتاج إلى إيمان كبير، فقالوا له: زِدْ إيماننا (لوقا 17: 5)، فأجابهم إن من له إيماناً بمقدار حبة خردل يقدر أن يقتلع شجرة ضخمة ويلقيها في البحر، مشبِّهاً الكراهية حين تتأصل في القلب بشجرة ضخمة ممتدَّة الجذور. ولكن أقل إيمان بقدرة الرب ومعونته يقدر أن يقتلعها ويلقيها في بحر الغفران والنسيان. وليس السر في حجم الإيمان، بل في موضوعه، وهو قدرة الرب، كما أن السر أيضاً في أصالة الإيمان وصدقه في قلب صاحبه.

وقد ضرب المسيح لتلاميذه ولنا مثل العبد العامل الذي صار لنا درساً في الطاعة والتواضع لننال رضى الرب ملكنا وسيدنا، لأننا متى فعلنا كل ما أمرنا به (ولن نقدر أن نفعل)، فلنقُل إننا عبيد بطالون غير منتجين، لأننا في أحسن حالاتنا نكون قد عملنا ما كان يجب علينا.

أولاً - أنت عبد للرب

  1. شرف العبودية لله: يتشرَّف المؤمنون الحقيقيون بأن يكونوا عبيداً للرب. قال النبي داود للرب: «أنا عبدك ابن أمتك» (مزمور 116: 16)، ويقول الوحي المقدس «إن موسى كليم الله عبد الرب» (تثنية 34: 5 و1أخبار 6: 49)، وهكذا وُصف يشوع (يشوع 24: 29)، والنبي إيليا (1ملوك 18: 36)، ودانيال (دانيال 6: 20)، والرسول بولس (رومية 1: 1)، والرسول بطرس (2بطرس 1: 1)، والرسول يعقوب (يعقوب 1: 1). وقد وصفت العذراء مريم نفسها بهذا اللقب عندما قالت للملاك: «هوذا أنا أمة الرب» (لوقا 1: 38). وكل الذين يحرِّرهم المسيح من خطاياهم يصبحون عبيداً للمسيح لأنه اشتراهم لله بدمه من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة (رؤيا 5: 9).

    وكل مؤمن يستعبد نفسه للرب بكامل رغبته، ويقول له: «أنا محتاج إلى ربوبيَّتك، ولكنك لستَ محتاجاً إلى عبوديتي». وما أسعد من يقول: كنتُ عبداً للخطايا التي سلكت فيها، عاملاً مشيئات جسدي وأفكاري، وكنت ابناً للغضب. لكن الله الذي هو غني في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة التي أحبني بها، وأنا ميت بالخطايا، افتداني واشتراني وجعلني ملكاً له. فسأقوم بخدمة سيدي الجديد، لأنه خلقني في المسيح لأعمالٍ صالحة، قد سبق فأعدَّها لكي أسلك فيها (أفسس 2: 1-10).

    في هذا المثَل قال المسيح إن ذلك السيد كان له عبد واحد فقط يعمل خارج البيت، وسيده ينتظر منه أن يعمل داخل البيت أيضاً. وهو بهذا يعرِّفنا أن هناك خدمةً مطلوبة من كل مؤمن يحب الرب، يجب أن يقوم بها، وكأنه الإنسان الوحيد المتوافرعلى الأرض للقيام بهذه الخدمة. فيا له من شرف للمؤمن!

    عندما يكلفك المسيح بخدمة ستتشرَّف بالقيام بها، لأنك تعرف أن هذا التكليف موجَّه لك شخصياً، فلا مجال للتراخي والكسل بحُجَّة أن غيرك يمكن أن يؤديها. وما أعظم الشرف الذي تناله لأن الله اختارك أنت لتؤدي خدمةً خاصةً له.

  2. سبب العبودية لله: أنت مِلكٌ للملك الوحيد، لأسباب كثيرة نذكر منها:

    (أ) لأنه خلقك: فقد جبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفساً حية (تكوين 2: 7). إنه الخالق الماهر الذي صنع الإنسان وأبدعه على صورته، «فالإنسان على صورة الرحمان. والخالق يملك ما خلق. للرب الأرض وملؤها. المسكونة وكل الساكنين فيها» (مزمور 24: 1).

    (ب) لأنه فداك: عصى آدم ربه، واختبأ منه لأنه وجد نفسه عارياً، ولكن الرب في محبته لم يتركه في عريه وخجله وهروبه، بل جاءه وفداه وستره. وهذا ما فعله المسيح الفادي ويقدمه لكل من يؤمن به. عالمين أنكم افتُديتم لا بأشياء تفني، بفضةٍ أو ذهبٍ، من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدمٍ كريم، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم، ولكن قد أُظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم (1بطرس 1: 18-20). «أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم، الذي لكم من الله، وأنكم لستم لأنفسكم، لأنكم قد اشتُريتم بثمن. فمجّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله» (1كورنثوس 6: 19، 20).

    ويمكن أن نشرح الفداء بصورتين:

    ٭ صورة مديون عجز عن سداد دينه، فباعه المداين واشتراه السيِّد، فصار ملكاً لسيده.

    ٭ صورة أسير حرب، دفع شخصٌ كريم فدية لإطلاقه حراً، فأصبح مِلكاً لمن فكَّ أسره.

    وفي الحالتين اختار المديون أو الأسير بمحض إرادته أن يستمر عبداً للسيد الذي افتداه. وحتى عندما تُعرض عليه الحرية يقول: «أحب سيدي. لا أخرج حُراً» (خروج 21: 5)، لأنه يرى أن الحرية الحقيقية هي في العبودية للسيد الكريم الذي اشترى وفدى وحرَّر!

    (ج) لأنه يعتني بك: خلقك فأنت له، واشتراك بفدائه، وهو يعتني بك دائماً، فأنت به تحيا وتتحرك وتوجد (أعمال 17: 28). لقد أعطاك الجسد ويمنحك كل ما يحفظ هذا الجسد من طعام تأكله، وماء تشربه، وهواء تتنفسه، وكساء يسترك. وينصحنا المسيح: «لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس؟.. ولماذا تهتمون باللباس؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو. لا تتعب ولا تغزل. ولكن أقول لكم إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها!» (متى 6: 25، 28، 29).

    ويقول الرسول بولس لكل إنسان: أيُّ شيءٍ لك لم تأخذه؟ (1كورنثوس 4: 7)، فكل ما عندنا عطية كريمة من الله. وعندما يأمرك: «تمنطق واخدمني لا يظلمك، ولا يطلب منك ما لا يحقَّ له، ولا يكلفك بما لا طاقة لك به، فإن منه جميع ما عندك، ومن فضله تخدمه. وعندما يأمرك: أعدِد ما أتعشى به.. حتى آكل وأشرب»تعرف أنه ينتظر أن يتناول من يدك ما يشبع نفسه ويسر قلبه.

  3. أولوية الخدمة لله: يضع العبد الصالح ربَّه أولاً، ويضع نفسه أخيراً. فسيده يأكل أولاً «وبعد ذلك تأكل وتشرب أنت». الرب أولاً، وخدمته قبل كل شيء، وسعيد هو الذي يطلب أولاً ملكوت الله وبره، فيُزيده الله من كل شيء، كما فعلت أرملة صرفة، وأطاعت طلبة إيليا: «اعملي لي منها كعكة صغيرة أولاً، واخرجي بها إليَّ، ثم اعملي لك ولابنك أخيراً» (1ملوك 17: 13). ولما أطاعت لم يفرغ كوَّار الدقيق ولم ينقص كوز الزيت (1ملوك 17: 16).

لا تتقاعس ولا تؤجل خدمة الرب. وكعبدٍ عامل عنده في الحقل والبيت قُل له قولة يشوع: «بماذا يكلم سيدي عبده؟» (يشوع 5: 14)، وقولة بولس: «يا رب، ماذا تريد أن أفعل؟» (أعمال 9: 6)، لأنه رسم لحياتك خطة وهدفاً، وعيَّن لك موقعاً محدداً، ومنحك مواهب ومعرفة لتأدية هذا التكليف على خير وجه.

فماذا يحدث عندما يقصِّر العبد في القيام بواجبه؟

يكلف السيد عبداً آخر ليؤدي العمل، فيخسر المتقاعس أجره، ويحرم نفسه من بركة الخدمة، بل ويعرِّض نفسه للعقاب.

وقد أعطانا المسيح النموذج الذي نتبعه في التواضع والخدمة عندما غسل أرجل تلاميذه، وقال: «فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض، لأني أعطيتكم مثالاً، حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً. الحق الحق أقول لكم: إنه ليس عبد أعظم من سيده، ولا رسول أعظم من مرسله. إن علمتم هذا فطوباكم إن عملتموه» (يوحنا 13: 14-16).

ثانياً - خدمة الملكوت مكلِّفة

  1. تتطلَّب الخدمة تكريساً: محبة الله لنا عظيمة، وقد كلَّفته الكثير «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا 3: 16). ومحبتنا لله وعبوديتنا له تطالباننا بالتكريس الكامل، طاعة للأمر الإلهي: «فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية» (رومية 12: 1) فنقول: «إن عشنا فللرب نعيش، وإن متنا فللرب نموت. فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن»(رومية 14: 8). ولا يمكن أن نخدم الله ونخدم سيداً آخر معه، فالخدمة دائماً لسيد واحد، فلا نعرج بين فرقتين.

  2. تتطلَّب الخدمة استمراراً: يعمل العبد في الليل والنهار، كما قال أيوب: «بخطواته استمسكت رِجْلي. حفظتُ طريقه ولم أَحِد (أيوب 23: 11)، وكما قال الرسول بولس لقسوس كنيسة أفسس: أنتم تعلمون من أول يوم دخلت أسيا كيف كنت معكم كل الزمان أخدم الرب بكل تواضع ودموع كثيرة، وبتجارب أصابتني بمكايد اليهود، كيف لم أؤخر شيئاً من الفوائد إلا وأخبرتكم وعلَّمتكم به جهراً وفي كل بيت.. لست أحتسب لشيء، ولا نفسي ثمينة عندي، حتى أتمم بفرح سعيي والخدمة التي أخذتها من الرب يسوع، لأشهد ببشارة نعمة الله.. احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه.. لذلك اسهروا متذكرين أني ثلاث سنين ليلاً ونهاراً لم أفتر عن أن أنذر بدموع كل واحد» (أعمال 20: 18-20، 24، 28، 31). «لذلك نحن أيضاً إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا، لنطرح كل ثقل والخطية المحيطة بنا بسهولة، ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا» (عبرانيين 12: 1).

  3. تتطلَّب الخدمة إنكار ذات: ولنا في يوحنا المعمدان مثلاً عظيماً في إنكار الذات، لأنه عندما سمع من تلاميذه أن المسيح يعمد، قال: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص» (يوحنا 3: 30).

    العبد الصالح هو الذي يؤجل راحته ليريح سيده. قال المسيح لأحدهم: «اتبعني. فقال: يا سيد ائذن لي أن أمضي أولاً وأدفن أبي». فقال له: «دع الموتى يدفنون موتاهم، وأما أنت فاذهب ونادِ بملكوت الله» وقال لآخر: «ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله» (لوقا 9: 57-62). وهذا ما فعله الرسول بولس فحقَّ له أن يقول: «حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا. لأننا نحن الأحياء نُسلَّم دائماً للموت من أجل يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا المائت.. لأن خفَّة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً، ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى بل إلى التي لا تُرى. لأن التي تُرى وقتية، وأما التي لا تُرى فأبدية» (2كورنثوس 4: 10، 11، 17، 18).

  4. تتطلب الخدمة اتِّساع رؤية: يطالبنا المسيح أن نعمل في بيته وفي حقله. أما بيته فهو الكنيسة، وأما حقله فهو العالم، لأن له فيه خرافاً أُخر يجب أن يُؤتى بها لتكون رعية واحدة لراعٍ واحد (يوحنا 10: 16).

في الكنيسة نجتهد أن نحافظ على الوحدة والسلام «لأننا أعضاء جسمه، من لحمه ومن عظامه» (أفسس 5: 30)، استجابةً لطلبة المسيح: «أيها الآب القدوس احفظهم في اسمك الذين أعطيتني، ليكونوا واحداً كما نحن.. ليكون الجميع واحداً كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك. ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا، ليؤمن العالم أنك أرسلتني»(يوحنا 17: 11، 21). «والمباحثات الغبية والسخيفة اجتنبها عالماً أنها تولّد خصومات، وعبد الرب لا يجب أن يخاصم، بل يكون مترفِّقاً بالجميع، صالحاً للتعليم، صبوراً على المشقات»(2تيموثاوس 2: 23، 24).

وفي الكنيسة يجب أن نكون قدوة حسنة لسائر العبيد عملاً بالوصية الرسولية: «كُن قدوة للمؤمنين في الكلام، في التصرف، في المحبة، في الروح، في الإيمان، في الطهارة» (1تيموثاوس 4: 12).

أما في العالم فدورنا هو الكرازة، طاعة للوصية: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (متى 28: 19، 20). وعند طاعة هذه الوصية تقدر أن تقول: «قد جاهدت الجهاد الحسن. أكملت السعي. حفظت الإيمان. وأخيراً قد وُضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل. وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً» (2تيموثاوس 4: 7، 8).

ثالثاً - خدمة الملكوت واجب

بعد أن روى المسيح مثل العبد العامل في الحقل والبيت، قال: «متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون، لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا» (آية10).

  1. الخدمة واجب العبد المتواضع: ليس للعبد فضل في خدمة سيده، فمتى تمَّم كل المطلوب منه يعترف أنه لم يفعل شيئاً يستحق عليه الشكر، لأنه إنما قام فقط بالواجب عليه. فلا فضل للإنسان في أية خدمة يؤديها لله، لأن الله مصدر كل خير عند الإنسان. خدم العبد سيده بقدر طاقته ومعرفته، وقال: «عملنا ما كان يجب علينا»، لأنه تعلَّم من قول المسيح للآب السماوي: «أنا مجدتُك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملتُه» (يوحنا 17: 4).

    عندما يتبرع محسنٌ غني ببناء مستشفى لا يعود الفضل في البناء للعمال الذين قاموا بالبناء، بل يعود كله للمتبرع، ويكتفي العمال بالقول: «إننا إنما عملنا ما كان يجب علينا». والمسيح يحذرنا من الفخر، ويعلمنا التواضع، وهذا حال الإنسان الذي سما في حياته الروحية وتقدم في الإيمان، وهو ما اختبره الرسول بولس الذي قال في بدء حياته الإيمانية إنه أصغر الرسل (1كورنثوس 15: 9) «و لم أنقص شيئا عن سائر الرسل» (2كورنثوس 12: 11)، ثم ارتقى فقال إنه «أصغر جميع القديسين» (أفسس 3: 8)، ثم ارتقى أكثر فقال: «الخطاة الذين أولهم أنا» (1تيموثاوس 1: 15). لقد تدرج في التواضع، وهكذا يجب أن نفعل نحن، كما قال القديس فرنسيس الأسيسي عندما سُئل عن رأيه في نفسه، فقال: «أنا أكبر خاطئ في العالم، وأنا أخدم الله أقل من أي شخص آخر في العالم».

  2. للخدمة مجازاة عظيمة: «طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين. الحق أقول لكم: إنه يتمنطق ويتكئهم، ويتقدم ويخدمهم» (لوقا 12: 37). ما أعظم سعادة من يقوم بعمله كاملاً! إن السيد يتمنطق ويتكئهم، ويتقدم ويخدمهم، وهو أمر غير مألوف، ولا يخطر على بال العبد، لكنه من أمجد مواعيد المسيح للمؤمنين، فهو يعني أنه يمنح العبد الساهر العامل الأمين أسمى شرف ومجد، كما قال المرنم للرب: «ترتِّب قدامي مائدة تجاه مضايقيَّ. مسحت بالدهن رأسي. كأسي ريا» (مزمور 23: 5). إن رب البيت يخدم ضيوفه، فتكتمل سعادتهم لأن سيدهم يخدمهم!

هذا المثل يشجعنا أن نخدم الرب بكل قوتنا، وفي كل وقت، عالمين أن جزاءنا العظيم آتٍ من يدي سيدنا المبارك الأمين في مواعيده، والذي لا يمكن أن يكون مديوناً لأحد، فقد قال: «من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها.. من يقبل نبياً باسم نبي فأجر نبي يأخذ، ومن يقبل باراً باسم بار فأجر بار يأخذ. ومن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد باسم تلميذ فالحق أقول لكم إنه لا يضيع أجره» (متى 10: 39، 41، 42).

سؤالان

  1. لماذا يدعو المؤمن الرب سيده، ويدعو نفسه عبده؟

  2. اذكر ثلاثة أمور تتطلبها خدمتنا لله.

(ب) الجميع يعملون مثل السامري الصالح

وَإِذَا نَامُوسِيٌّ قَامَ يُجَرِّبُهُ قَائِلاً: يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟ فَقَالَ لَهُ: مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي النَّامُوسِ؟ كَيْفَ تَقْرَأُ؟ فَأَجَابَ: تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ. فَقَالَ لَهُ: بِالصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هَذَا فَتَحْيَا.

وَأَمَّا هُوَ فَإِذْ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّرَ نَفْسَهُ سَأَلَ يَسُوعَ: وَمَنْ هُوَ قَرِيبِي؟.

فَأَجَابَ يَسُوعُ: إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا، فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ، فَعَرَّوْهُ وَجَرَّحُوهُ وَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْتٍ. فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِناً نَزَلَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ، فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَكَذَلِكَ لاوِيٌّ أَيْضاً إِذْ صَارَ عِنْدَ الْمَكَانِ جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَلَكِنَّ سَامِرِيّاً مُسَافِراً جَاءَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ، فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتاً وَخَمْراً، وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى فُنْدُقٍ، وَاعْتَنَى بِهِ. وَفِي الْغَدِ لَمَّا مَضَى أَخْرَجَ دِينَارَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا لِصَاحِبِ الْفُنْدُقِ وَقَالَ لَهُ: اعْتَنِ بِهِ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ. فَأَيُّ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ تَرَى صَارَ قَرِيباً لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ اللُّصُوصِ؟ فَقَالَ: الَّذِي صَنَعَ مَعَهُ الرَّحْمَةَ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: اذْهَبْ أَنْتَ أَيْضاً وَاصْنَعْ هَكَذَا (لوقا 10: 25-37).

مناسبة رواية المثَل:

روى المسيح هذا المثَل عندما سأله أحد معلمي الناموس: «ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟». وقد جاوب المسيح عليه بالرغم من أن السؤال خاطئ موضوعاً، لأن الأجير لا يرث نتيجة عمله، بل لأنه ابن صاحب البيت، الذي وُلد في البيت.

ولم يكن من حق معلم الناموس أن يوجِّه هذا السؤال للمسيح، بل كان واجباً عليه أن يعرف إجابته من دراساته، فهو لم يكن «كاتباً» ينسخ الكتب المقدسة، بل كان «ناموسياً» حصل على درجة عالية من العلوم الدينية أهَّلته لأن يشرح الشريعة للناس.

ولم يكن معلِّم الناموس مخلصاً في سؤاله، فقد أظهر التواضع مع أن الكبرياء كانت دافعه. ولم يكن هدفه أن يعرف، بل أن يجرِّب المسيح كما جرَّبه إبليس في البرية (لوقا 4: 2). لذلك أجاب المسيح سؤاله بسؤال: «ما هو مكتوب في الناموس؟ كيف تقرأ؟». فأجاب أن المكتوب يوصي بمحبة الرب ومحبة القريب، وهي كتابة منسوجة على صُدرة ثوب كل معلم للناموس، ونصفها الأول مُقتَبس من التثنية 6: 5 «تحب الربَّ إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك» ونصفها الثاني من لاويين 19: 18 «تحبُّ قريبك كنفسك». وواضحٌ أن محبة الإنسان لله تجعله يحب الناس الذين خلقهم الله على صورته.

كان الناموسي يعرف ولكنه لا يعمل بما يعرف، فأراد أن يبرِّر نفسه، وعاد يسأل: «ومن هو قريبي؟». ولعله قصد بسؤاله هذا أن يوجِّه للمسيح امتحاناً آخر، لأن شريعة موسى نادت أن القريب هو اليهودي. ولكن المسيح كان يعلِّم أن القريب ليس فقط ابن شعبي، ولا قريبي قرابة الدم أو الدين، بل هو كل من يحتاج إلى المساعدة، مهما كانت عقيدته ولونه وخلفيته. ومع أن الناموسي طلب تعريفاً عقائدياً، إلا أن إجابة المسيح قدَّمت حالةً واقعيَّة، تحوِّل الناموسي من عالم النظريات والعقائد إلى عالم التطبيق والعمل، فروى المسيح حادثة وقعت على الطريق العام، نسميها اليوم «مثَل السامري الصالح» تطالبنا بأن نمدَّ يد العون للمحتاج، وتعلِّمنا أن نساعد الجميع بمن فيهم المختلفين عنا في العقيدة والجنسية.

«في مثَل السامري الصالح» وضَّح لنا المسيح عمق واتساع محبته للإنسان، كل إنسان. واستخدم سؤال الناموسي الموجَّه بنيَّة ملتوية ليجعله بركة لكل من يتبع المسيح ويطيع تعليمه، فتتحقَّق السعادة للبشر الذين أحبهم. لقد تجسَّد هو وصُلب ومات وقام كي يعيش أتباعه لا لأنفسهم، بل له، ولكل من يحتاج إلى معونتهم، دون تمييز بين جنس أو عقيدة أو لون أو مال أو علم.

بدأ المسيح المثل بكلمة «إنسان» لأن قلبه دائماً مشغول بالإنسان. لقد جاء إلى العالم في صورة إنسان، ودعا نفسه «ابن الإنسان» ليفتدي بني الإنسان، وقال: «ابن الإنسان لم يأت ليُخدَم بل ليخدِم، وليبذل نفسه فديةً عن كثيرين» (مرقس 10: 45). ولم يحدد المسيح هوية هذا الإنسان ليوضِّح لنا من بداية المثَل أنه ليس يهودي ولا يوناني. «ليس عبد ولا حر. ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع. فإن كنتم للمسيح فأنتم إذاً نسل إبراهيم، وحسب الموعد ورثة» (غلاطية 3: 28، 29).. الكل خليقة الله، وأبناء آدم، وأصحاب كرامة وسلطة على سائر المخلوقات. وبعد أن روى المسيح المثَل سأل الناموسي عمَّن يكون قريب ذلك الإنسان الجريح، فأجاب: «الذي صنع معه الرحمة» متفادياً ذكر أنه سامري «لأن اليهود لا يعاملون السامريين» (يوحنا 4: 9). وبهذه الإجابة الغامضة أكَّد الناموسي دون أن يدري أنه أيضاً إنسان جريح في معتقداته، ولكن المسيح الرحيم تحنن عليه وعلَّمه درساً عظيماً في الرحمة.

في هذا المثل نجد أربعة أنواع من الناس: الذين سلبهم الآخرون، والذين يسلبون الآخرين، والذين يحافظون على مالهم، والذين يساعدون غيرهم.

أولاً - الذين سلبهم الآخرون

روى المسيح عن الجريح الذي اعتدى اللصوص على ماله وثيابه عندما «عرّوه»، وهاجموا شخصه وصحته عندما «جرحوه» غير مكترثين بحياته ونفسه، «و مضوا وتركوه بين حي وميت» فأصبح عاجزاً عن مساعدة نفسه.

قد نلوم هذا الجريح لأنه سافر وحيداً في طريق خطرة ينتشر فيها قطاع الطريق، بينما كانت الحكمة تقتضي أن يسافر بصحبة آخرين حتى يكون بمأمن أفضل. فكان عدم حرصه سبباً في جلب الأذى والضرر على نفسه.

وفي عالمنا كثيرون يشبهون هذا الجريح. إنهم، بسبب خطئهم أو خطإ الغير، وقعوا ضحية ظروفٍ أعجزتهم عن الوقوف على أقدامهم، فلم يعودوا يملكون إلا البكاء وطلب العون، منتظرين يداً رحيمة تمتد إليهم لتنتشلهم وتقيمهم وتسندهم. من هؤلاء نزلاء السجون الذين أعمى الشر عقولهم فاقترفوا الجرائم، وهم يحتاجون إلى من يحمل إليهم رسالة محبة المسيح وخلاصه ليبدأوا معه حياة جديدة. ومنهم من يقتلهم الشعور بالذنب بسبب خطاياهم، فلا يغفرون لأنفسهم ولا يطلبون الغفران الإلهي، وهم يحتاجون إلى من يفتش عليهم ويفتقدهم بمحبة وعطف ويقودهم إلى من هو الطريق والحق والحياة، الذي «يريد أن جميع الناس يَخلصون وإلى معرفة الحق يُقبِلون» (1تيموثاوس 2: 4).

وهناك كثيرون فقدوا أساسيات الحياة لأسباب خارجة عن إرادتهم، كاليتامى والمهجَّرين واللاجئين والمشردين وضحايا الحروب والكوارث الطبيعية، الذين ضاعت البسمة من على شفاههم، وقد حُرموا من دفء العائلة وحنوها. وهناك كبار السن الذين يعانون من هجر أبنائهم وجحودهم بعد أن أفنوا العمر في تربيتهم، وهم يتلهفون لرنين الهاتف أو طرقات الباب، منتظرين المواساة والعون والدواء.

وهناك آلاف الفقراء الذين يموتون جوعاً في كثير من أرجاء العالم، بينما يعاني آخرون من التخمة وينفقون الأموال للتخلص من أوزانهم الزائدة!

إن البشر في حاجة لمن يعطف عليهم ويمد إليهم يد المحبة، ويحسن إلى المسيء ويشجع الضعيف، ويقيم المنحني، ويكون مستعداً بروح الخدمة أن يساعد الكسير ويجبره، ولا يحتقر ضعفات إخوته، وينظر إليهم كما فعل السامري الصالح، ويصلّون: «قلباً نقياً اخلق فيَّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدد في داخلي.. فأعلِّم الأثمة طرقك، والخطاة إليك يرجعون» (مزمور 51: 10، 13).

ثانياً - الذين يسلبون الآخرين

ويقدم لنا مثل «السامري الصالح» اللصوص الذين عرّوا المسافر وجرحوه وتركوه بين حي وميت. وشعارهم: «سأسلب مالك بالعنف والقوة». وهم يكسرون الوصية الثامنة: «لا تسرق» (خروج 20: 15).

وقد يسرق شخص لأنه محتاج، ولكن هناك لصوصاً يسرقون رغم عدم احتياجهم، فلم يكن الملك أخآب محتاجاً لبستان نابوت اليزرعيلي (1ملوك 21)، لكنه قتل نابوت وأخذ بستانه بدافع الاشتهاء والطمع، فكسر وصية: «لا تشتهِ بيت قريبك. لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره، ولا شيئاً مما لقريبك» (خروج 20: 17).

وقد يسلب شخص لأنه يحب المال الذي محبته أصل لكل الشرور، فإذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة (1تيموثاوس 6: 10).

وكثيراً ما تكون السرقة معنوية، كأن يسلب أحدهم سمعة غيره بالمذمّة، ويلطخها بافتراءات كاذبة وإشاعات مغرضة، فيهدم صورتهم النظيفة ليحصل على ما يتمتع به هؤلاء من مركز أو وظيفة أو قيادة أو محبة واحترام. وقد تكون السرقة أدبية، فيضع الإنسان اسمه على إنتاج قريحة غيره!

وما أكثر اللصوص الذين يأخذون الرشوة، ويظلمون الفقير، ولا يؤدون واجباتهم من نحو عائلاتهم أو جيرانهم!

وهناك مرض اسمه «مرض السرقة» ينشأ عن الحرمان أو الفقر أو القهر أو الغيرة، ويبدأ من الطفولة في مجتمع الأسرة الصغير، ثم يمتد إلى المجتمع الكبير. فليجتهد الآباء أن يكونوا لطفاء مع أولادهم، يعلمونهم بالقدوة والنصيحة مخافة الرب ووداعة الإيمان والشكر في كل حال، دون تفريق أو تمييز بينهم.

ثالثاً - الذين يحافظون على مالهم

«فعرض أن كاهناً نزل في تلك الطريق، فرآه وجاز مقابله. وكذلك لاوي أيضاً، إذ صار عند المكان جاء ونظر وجاز مقابله» (لوقا 10: 31، 32). والكاهن هو رجل الدين المتخصص في تفسير الشريعة، وتقديم الذبائح طلباً للغفران لنفسه وللشعب، كما كانت مهمته العناية بأواني الهيكل وأثاثه. أما اللاوي فكانت مكانته الدينية أقل من الكاهن ولو أنه أعلى من الشعب، لأنه كان أقرب إلى تابوت العهد من سائر الشعب، ولكن ليس له الحق في تقديم الذبائح.

والكاهن واللاوي نموذجان لمن لا يساعدون إلا أنفسهم، وشعارهم «دعني أحافظ على مالي». لقد فات الكاهن واللاوي أن يطبِّقا مبادئ الدين في الحياة اليومية، ولعلهما لم يدركا أن جسد الإنسان الجريح هيكلٌ للروح القدس، ونسيا أن وصية المحبة هي تكميل الشريعة. على أن اللاوي اقترب من الجريح أكثر مما اقترب الكاهن، فقد جاء ونظر، ولكنه حذا حذو الكاهن، وجاز مقابل الجريح.

وربما تعلَّل رجلا الدين بأعذار لعدم مساعدة الجريح، وكأنهما يتساءلان: ماذا يحدث لي لو أني ساعدته؟ وأذكر ثلاثة أعذار:

  1. قد يموت الجريح أثناء تقديم العون له، فيفقد رجل الدين طهارته الطقسية، كما قالت شريعة موسى: «من مسَّ ميتاً، مَيْتَة إنسان يكون نجساً سبعة أيام.. كل من مس ميتاً، مَيْتَة إنسان قد مات ولم يتطهر ينجس مسكن الرب، فتُقطع تلك النفس من إسرائيل» (عدد 19: 11، 13).

  2. قد يكون الجريح خدعة مدسوسة عليهما من اللصوص، الذين كانوا يحتالون على المسافرين بأن يلعب أحدهم دور الجريح الذي يطلب المعونة، حتى إذا تطوع مسافر بمساعدته ينقضُّ هذا اللص عليه ويمسك به فيأتي باقي اللصوص ليسلبوا الضحية، وقد يقتلونه.

  3. ربما يحتاج إنقاذ الجريح إلى وقت طويل، فيتعطَّل رجل الدين عن القيام بمسئولياته الطقسية في الهيكل، فيضيع عليه امتياز الخدمة الدينية، كما يلومه رؤساؤه.

لقد كان الواجب على الكاهن واللاوي أن يساعدا اليهودي الجريح، الذي يشترك معهما في العقيدة والجنس والوطن، والذي كان يعاني من الجراح الجسدية والنفسية. لكنهما تركاه معرضاً للموت متجاهلين أمر الشريعة القائل: «لا تنظر حمار أخيك أو ثوره واقعاً في الطريق وتتغافل عنه، بل تقيمه معه، لا محالة» (تثنية 22: 4)، فكم بالحري إن كان الأخ نفسه هو الذي وقع في الطريق! لقد قال الله: «أريد رحمة لا ذبيحة» (هوشع 6: 6). فكم كان مهماً أن ينقذا أخاهما، ولكنهما فكرا في حماية نفسيهما فقط.

رابعاً - الذين يساعدون غيرهم

نري في مثل «السامري الصالح» نموذجاً رائعاً للذين يساعدون غيرهم، وشعارهم «سأشاركك في مالي» وهُم يقدِّمون غيرهم على أنفسهم. ولا بد أن السامري الصالح عندما رأى اليهودي الجريح تساءل في نفسه: ماذا يحدث له لو أني لم أساعده؟ ولا بد أنه تساءل أيضاً: ماذا يحدث لي لو أني ساعدته؟

كانت إجابة السؤال الأول سهلة: الجريح سيموت! أما إجابة السؤال الثاني فلها احتمالات كثيرة، منها: قد يرفض الجريح مساعدتي، «لأن اليهود لا يعاملون السامريين»، فالسامريون جنس نتج عن تزاوج الأشوريين الغزاة بفقراء اليهود الذين لم يؤخذوا إلى السبي بعد سقوط المملكة الإسرائيلية. وعندما حاول السامريون مساعدة اليهود في بناء الهيكل الثاني على جبل صهيون، بعد الرجوع من السبي، رفض اليهود مساعدتهم، فحاربهم السامريون (عزرا 4: 2-5)، وأقاموا عبادتهم الخاصة على جبل جرزيم. ومع أنهم كانوا يحترمون موسى، ويقدسون شريعته، ويمارسون الختان، ويحفظون السبت، إلا أنهم لم يقبلوا من أسفار العهد القديم سوى أسفار موسى الخمسة. وقد دمر اليهود هيكل السامريين عام 128 ق. م، وأخذوا يجبرونهم على أن يتهودوا. وفي سنة 6 ق. م ألقى بعض السامريين عظاماً نجسة في هيكل أورشليم، فكره اليهود السامريين ولم يكونوا ينطقون كلمة «سامري» ويحسبون طعام السامري نجساً مثل لحم الخنزير!

ومع كل هذا كان السامري الصالح نموذجاً في المحبة العملية، لأنه حين رأى الجريح «تحنّن» وعبَّر عن هذا بأن ضمد جراحه، وصبَّ عليها زيت الزيتون ليخفِّف آلامه، ثم صبَّ خمراً لأن الكحول فيها يطهر الجروح. ولما كان الجريح عاجزاً عن السير أركبه السامري على دابته ومشى إلى جواره يسنده، وأتى به إلى فندق ليكون في مأمن، وبذل له كل عناية ممكنة، وقضى الليلة معه، فقدَّم راحة الجريح على نفسه. ولم يحسب أنه قام بكل شيء، فأدَّى واجب الرعاية حتى بعد سفره، إذ قدَّم لصاحب الفندق دينارين يقول المفسرون إنهما يكفيان لنفقات الإقامة مدة شهر في ذلك الزمان. ولم يكتفِ السامري بهذا، بل وعد أن يدفع أية نفقات تزيد عن الدينارين حتى يتعافى الجريح ويقدر أن يواصل رحلته، فكان إيمان السامري «هو الإيمان العامل بالمحبة» (غلاطية 5: 6) لأن الإيمان بدون أعمال ميت، ولأنه هبة مجانية من الله. وبقدر ما أن الإيمان امتياز فهو أيضاً مسؤولية، لأن من نال من الله كثيراً يطالبه الله بالكثير لخدمة الله ولخدمة أخيه الإنسان. لقد تمم السامري الصالح الوصف الرسولي: « إن قال أحد إني أحب الله وأبغض أخاه فهو كاذب، لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره، كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره؟!» (1يوحنا 4: 20).

ولنا على مساعدة السامري لليهودي أربع ملاحظات:

  1. لم تمنع الخلفية المؤلمة من كراهية اليهود للسامريين الرجل السامري من أن يساعد اليهودي الجريح، فقد كان السامري صاحب عين صالحة وقلب صالح، وكان يريد أن يفعل الخير للجميع. لقد تمَّم الوصية: «إن جاع عدوك فأَطعمه خبزاً، وإن عطش فاسقه ماء، فإنك تجمع جمراً على رأسه، والرب يجازيك» (أمثال 25: 21، 22). وهي الوصية المقتبسَة في العهد الجديد: «إن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه، لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه. لا يغلبنك الشر، بل اغلب الشر بالخير» (رومية 12: 20، 21).

  2. لم يقدم السامري العون لليهودي الجريح لغرض في نفسه، ولا لردِّ جميلٍ سابق، إذ لم تكن له معرفة سابقة به. ولم يقدم العون طلباً لمجد بشري، فلم يكن هناك من يراقب ما كان يفعله. لكنه فعل ما فعله لأنه كان يعلم «أن الرب في هيكل قدسه. الرب في السماء كرسيه. عيناه تنظران. أجفانه تمتحن بني آدم» (مزمور 11: 4).

    ولم تكن في الجريح امتيازات تجتذب انتباه السامري، بل بالعكس فالموقف يغري بالابتعاد عنه. من هذا جنسية الجريح، وديانته، وحالته الصحية، وخطورة مساعدته من احتمال هجوم اللصوص على من يساعده، واحتمال اتهامه بأنه هو الذي اعتدى على الجريح! كما كان هناك احتمال أن يرفض الجريح مساعدته، لأنه يكره السامريين!

  3. قدَّم السامري خدمته للجريح دون تخطيط سابق، فكانت خدمته تلقائية، كان سيقدمها لأي محتاج. لقد عمل بالوصية: «من كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجاً وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه؟» (1يوحنا 3: 17).

  4. خدم السامري بإصرار على الاستمرار حتى النهاية، وتابع خدمته ليكملها، فتحقق فيه القول الرسولي: «واثقاً أن الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحاً يكمل إلى يوم يسوع المسيح» (فيلبي 1: 3).

دروس من المثل

  1. ينظر الله للبشر باعتبارهم إخوة يجب أن يتعاونوا مهما اختلفت أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وعقائدهم فإنه «هكذا أحب الله العالم» (يوحنا 3: 16). وهو «يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين» (متى 5: 45).

  2. يريد الله أن تظهر محبته للبشر التي أعلنها في تجسُّد المسيح بمحبتنا نحن لسائر البشر. وسيكون البرهان قوياً إن كان من قلبٍ تدرب على حب الله، ومن أذنٍ تصغي لكلماته وتطيعها، ومن يدٍ تمتد لإخوةٍ متألمين، فنسمعه يقول: «تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المُعد لكم منذ تأسيس العالم، لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريباً فآويتموني» (متى 25: 34-40).

  3. لم يوجدنا الرب في العالم بمحض الصدفة بل باختيار سابق، وقال: «أنتم ملح الأرض.. أنتم نور العالم.. فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات» (متى 13: 5-16). «لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها» (أفسس 2: 10). فلنتشبَّه بسيدنا الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس (أعمال 10: 38).

سؤالان

  1. لماذا يكره اليهود السامريين؟

  2. بعد دراسة مثل «السامري الصالح» اشرح معنى قول الله «أريد رحمة لا ذبيحة».

(ج) الأبناء يعملون مثل الابنين

مَاذَا تَظُنُّونَ؟ كَانَ لإِنْسَانٍ ابْنَانِ فَجَاءَ إِلَى الأَوَّلِ وَقَالَ: يَا ابْنِي اذْهَبِ الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي. فَأَجَابَ: مَا أُرِيدُ. وَلَكِنَّهُ نَدِمَ أَخِيراً وَمَضَى. وَجَاءَ إِلَى الثَّانِي وَقَالَ كَذَلِكَ. فَأَجَابَ: هَا أَنَا يَا سَيِّدُ. وَلَمْ يَمْضِ. فَأَيُّ الاثْنَيْنِ عَمِلَ إِرَادَةَ الأَبِ؟ قَالُوا لَهُ: الأَوَّلُ. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ الْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ،لأَنَّ يُوحَنَّا جَاءَكُمْ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ فَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ، وَأَمَّا الْعَشَّارُونَ وَالزَّوَانِي فَآمَنُوا بِهِ. وَأَنْتُمْ إِذْ رَأَيْتُمْ لَمْ تَنْدَمُوا أَخِيراً لِتُؤْمِنُوا بِهِ (متى 21: 28-32).

في هذا المثَل نرى أباً يدعو ولديه للعمل في كرم العنب الخاص به. والأب هنا يرمز إلى الله، ويرمز الولدان الموجودان في البيت إلى أنواع البشر. إنهم جميعاً «عيال الله» لأنه خلقهم ويعولهم، ويوكِلُ إليهم أعمالاً ينتظر أن يقوموا بها في ما يدعوه هنا «كرمه». وتتَّضح بنوَّة البشر العامة لله من أن المسيح علَّمنا أن نبدأ الصلاة بدعائنا: «يا أبانا» (متى 6: 9). فالله هو الأب المُهاب، المحب، المعتني، المعطي، المدبِّر. ويصوِّر الوحي اللهَ بأنه «الكرَّام» (يوحنا 15: 1) و «الراعي» (مزمور 23: 1) و «الآب» (يوحنا 1: 12). وهي صورٌ تدفع البشر على العمل في «كرم» أبيهم، وتخفِّف مصاعب تكليفاته لهم، وتُشعرهم بعظمة المسؤولية، وتملأ قلوبهم بالفرح عندما يرون «كرمه» يعلو ويثمر.

ويرينا المثل نوعين مختلفين من الناس، ولو أننا نرثي لأبيهما كليهما، فأولهما سيئ القول ولو أنه ندم وأصلح سوء قوله بتغيير فكره ثم بطاعته. أما الثاني فمعسول اللسان، مع أن عمله سيئ. وكنا نود لو كان للأب ابنٌ يعد بلسانه وينفذ بعمله.. أو أن ولديه أحسنا القول والفعل!

يمثِّل الابن الأول الخطاة الذين يرفضون التكليف الإلهي، ولكن ضمائرهم تبكتهم فيستجيبون لتكليف أبيهم. إنهم الخطاة واللصوص والخونة والزواني وساقطو المجتمع الذين يجاوبون الله بقولهم: «ما أريد». ولكن عندما يحاصرهم الرب بمحبته فتعذِّبهم ضمائرهم يراجعون أنفسهم، ويستجيبون لندائه، قائلين: «تكلم يا رب لأن عبدك سامع» (1صموئيل 3: 9).

ويمثِّل الابن الثاني المتظاهرين بالتديُّن الذين يقولون إنهم سيفعلون، ولكنهم لا يفعلون. وهم اليوم بعض المتعبِّدين الذين يبدون طيبين، ويجيبون الله بأدب قائلين: «ها أنا يا سيد». إنهم لا ينسون يخاطبوه بالاحترام: «يا سيد» ولا يغفلون التعبير عن الطاعة بشفاههم، لكنهم يمضون إلى حال سبيلهم، دون أن يؤدوا ما وعدوا به. ولعل إجابتهم المؤدَّبة أرضت ضميرهم!

هذا المثل موجَّهٌ إلى البعيدين ليراجعوا أنفسهم ويتوبوا، كما أنه موجِّهٌ للمتديِّنين الذين يعلنون قبولهم لتكليف الله لهم ولكنهم لا ينفِّذون! والمثَل يدعوهم ليستيقظوا من اعتمادهم على طقوس العبادة دون روحها، وليتذكروا أن هناك خطاة وضالين كثيرين قد قبلوا رسالة الحق، سيسبقونهم إلى ملكوت الله (متى 21: 31)!

والسؤال الذي يثيره المسيح، ليس أي الابنين قال؟ «بل: أي الاثنين عمل؟». فلنفحص أفعالنا.

أولاً - التكليف الإلهي

1 - الكرم:

يدعو الله كل إنسان ليؤدي خدمة معينة، يشبِّهها بالعمل في كرم العنب، فالرب هو «الكرام» والمؤمنون هم «العاملون في الكرم». وكرم الرب قد يكون قلوبنا، ويقول الرب: «يا ابني أعطني قلبك، ولتلاحظ عيناك طرقي» (أمثال 23: 26). وقد يكون كرمه عائلاتنا و «طوبى لكل من يتقي الرب ويسلك في طرقه..امرأتك مثل كرمة مثمرة في جوانب بيتك. بنوك مثل غروس الزيتون حول مائدتك» (مزمور 128: 1-3). وقد يكون كرم الرب مكان عملنا، حيث يجب أن يرى الناس أعمالنا الحسنة فيمجدون أبانا الذي في السماوات (متى 5: 16). كما أن كرمه عالمنا الذي يجب أن نحيا فيه بلا عيب، وسط جيل معوج وملتوٍ نضيء بينهم كأنوار (فيلبي 2: 15)، طاعةً للأمر الرسولي: «اكرز بالكلمة. اعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب. وبِّخ، انتهِر، عِظ بكل أناة وتعليم.. احتمل المشقات.. تمِّم خدمتك» (2تيموثاوس 4: 2، 5).

طلب شاب من راعي كنيسة أن يقبل انضمامه إلى العُضوية، فسأله الراعي عن الخدمة التي يحب أن يقدمها للكنيسة بعد انضمامه، فسأل: «وماذا سأعمل في الكنيسة؟» فاقترح عليه الراعي التدريس في مدرسة الأحد، فاعتذر لأنه لا يحتمل شقاوة الأطفال. واقترح عليه زيارة المرضى، فاعتذر بأنه خجول ولا يحب التعامل مع الغرباء. واقترح عليه الانضمام لفريق الترنيم، فاعتذر لأن أذنه غير موسيقية. فقال له الراعي: «إذاً قد أخطأت اختيار الكنيسة التي يجب أن تنضم إليها». ثم أشار له إلى المقابر الموجودة خلف الكنيسة وقال له: «هذه كنيسة راحة القديسين التي كان يجب أن تطلب الانضمام إليها، فإن العضو الحي لا يمكن إلا أن يكون عاملاً!». وكل مؤمن مكلَّفٌ أن يخدم الله بالعمل في كرمه.

2 - فوائد الكرم:

عندما نعمل في هذا الكرم، داخل نفوسنا وخارجها سنكتشف أن للكرم ثلاث فوائد:

  1. إنه يظلل الناس من حرارة الشمس. والبشر يتظللون تحت ظل كرم الرب، وفي رعاية المؤمنين الحقيقيين. وعندما تتظلل وتحتمي تحت جناحي الرب، كما تكون مظلة للمتعَبين من البشر حولك، فيصير عالمنا أفضل. «الرب حافظك. الرب ظل لك عن يدك اليمنى. لا تضربك الشمس في النهار ولا القمر في الليل» (مزمور 121: 5، 6).

  2. يمنح الكرم الطبيعة جمالاً بأوراقه الخضراء التي تسرُّ الناظرين. والمؤمنون «مغروسين في بيت الرب. في ديار إلهنا يزهرون. أيضاً يثمرون في الشيبة. يكونون دساماً وخُضراً ليخبروا بأن الرب مستقيم» (مزمور 92: 13-15). ولا غرابة فإن الله يجمِّل الودعاء بالخلاص (مزمور 149: 4)، فيكتسبون جمالاً من نعمة الله، ويجمِّلون المكان الذي يوجدون فيه، كما هو مكتوب: «هوذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الإخوة معاً.. لأنه هناك أمر الرب بالبركة، حياةٍ إلى الأبد» (مزمور 133).

  3. يعطي الكرم ثمراً لذيذاً يُشبع الجائع ويغيث المعيي. وثمر الكرم هو العنب ذو الطعم اللذيذ في كل حالاته: طازجاً ومجففاً ومعصوراً. والمؤمن جميل المعشر في كل مراحل حياته الإيمانية، وفي مختلف حالاته، حتى لو كانت الآلام تعصره!

3 - تشريف العمل في الكرم:

  1. العمل في الكرم شرفٌ لأن الرب يدعو العامل فيه: «يا ابني». فانظروا وتأملوا أية محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله! (1يوحنا 3: 1). هذا التكليف هو دالة الأب على أولاده، فالمؤمنون لا يخدمون خدمة العبيد بل خدمة الورثة، فقد قال المسيح: «أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به. لا أعود أسمّيكم عبيداً، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتُكم بكل ما سمعتُه من أبي» (يوحنا 15: 14، 15).. فأية نعمة وأية تكريم أعظم من هذه!

    هناك دعوة شخصية موجَّهة إليك تكلفك بالعمل، لأنك موضع تقدير وثقة أبيك السماوي، فلا تقلل من شأن نفسك ولا تستهن بدعوته، وابدأ بتقديم خدمة عملية لله في يومك هذا. اطلب منه أن يساعدك لتخدم الجميع «وكل ما فعلتم فاعملوا من القلب، كما للرب، ليس للناس» (كولوسي 3: 23).

  2. والعمل في الكرم شرف لأنه عاجل، ولا يقوم به إلا الأبناء، فموعد العمل «هو اليوم». إنه إلحاح المسئوولية، الذي قدَّم المسيح لنا فيه نفسه قدوة، فقال: «ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار. يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل» (يوحنا 9: 4). فاليوم «إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم» (عبرانيين 4: 7).

  3. والعمل في الكرم شرف لأنه بالفعل لا بالقول، وهو عمل يراه الجميع، فالرب يقول: «اعمل» لأن الأعمال تعبِّر عن الحب لله. صحيحٌ أن للكلمات أهميتها، ولكنها لا تُحتَرم إن لم تصاحبها الأفعال التي تؤيدها، فصوت الفعل أعلى من صوت الكلام! «هكذا الإيمان أيضاً، إن لم يكن له أعمال، ميت في ذاته.. أنت لك إيمان، وأنا لي أعمال. أرني إيمانك بدون أعمالك، وأنا أريك بأعمالي إيماني» (يعقوب 2: 17، 18).

  4. والعمل في الكرم شرف بسبب الثمر العظيم الذي نجنيه، فبالرغم من أنه يشغل كل الوقت ويستغرق كل الجهد ويتطلب كل التفكير، إلا أن ثمره مفرحٌ جداً للزارع والحاصد معاً. ويقول الله : «لأنه كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجعان إلى هناك، بل يرويان الأرض ويجعلانها تلد وتنبت وتعطي زرعاً للزارع وخبزاً للآكل، هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي: لا ترجع إليَّ فارغة، بل تعمل ما سُررت به، وتنجح فيما أرسلتها له» (إشعياء 55: 10، 11). فإن «كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، ومميزة أفكار القلب ونياته» (عبرانيين 4: 12).

وكل مؤمن يبذر بذار الكلمة يكون قد شبع بها، واكتشف تأثيرها المدهش على حياته، فيقول: «وُجد كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي» (إرميا 15: 16)، وصيتك «جعلتني أحكم من أعدائي.. أكثر من الشيوخ فطنت لأني حفظت وصاياك» (مزمور 119: 98، 100). وعندما يبذرها يجدها تقرِّب البعيد وتحوِّل الخصام إلى مصالحة وسلام، فيقول: «إذاً نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا، نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله» (2كورنثوس 5: 19، 20).

ثانياً - عصيان بالقول لا بالعمل

كانت إجابة الابن الأول: «ما أريد». وهذه إجابة القلب الطبيعي الذي لم تلمسه نعمة التغيير والتجديد. إنه يرغب في الراحة، وينشغل بمسراته الشخصية، ولا يريد أن يؤدي عمل الرب، لأن قبول الدعوة يعني احتمال المصاعب في سبيل أداء الخدمة المطلوبة. لكنه «ندم أخيراً» وذهب لينفِّذ أمر أبيه.

تُرى ما الذي جعل هذا الابن يتغيَّر فيطيع بعمله، بعد أن أعلن العصيان بشفتيه؟

لا بد أنه فكَّر في لطف أبيه، وفي مسؤولياته من نحو هذا الآب! لقد طلب منه ولم يُجبره على الطاعة. كم هو محب، وكم هو طويل أناة. لا شك أنه افتكر تعاملات أبيه الماضية معه، فطالما اختبر غفرانه الكثير على سيئاته الكثيرة، وكان يعرف أن أباه لا بد سيقبل توبته واعتذاره، فبدأت استجابته لنداء أبيه في قلبه.

وتحوَّلت تلك المشاعر الداخلية إلى عمل، لأنه «ندم أخيراً، ومضى» ينفذ طلب أبيه. لم يرغب في أن يكون اعتذاره لأبيه بلسانه، بل عبَّر عن أسفه بعمله.

وكم من شخصٍ يدرك اليوم محاولات الرب الكثيرة لردِّه إلى طريق الإيمان، فينهض راجعاً تائباً! وكم من مؤمن يدرك أن الله يكلّفه ولكنه تهرَّب من التكليف. وفجأة تشرق محبة الله على قلبه، فيلتهب داخله أسفاً وحباً، يتحوَّل إلى طاعةٍ وخدمة!

إن كنتَ في مثل حالة هذا الابن، فطوبى لك إن قمت الآن لتنفذ ما كلفك الله به. وإن كنت تتعامل مع شخص في حالةٍ تشبه حالة هذا الابن، فكن شفوقاً به، لأن إبليس «أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح، الذي هو صورة الله.. لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح» (2كورنثوس 4: 4، 6). فلنعلم أن «من ردَّ خاطئاً عن ضلال طريقه يخلِّص نفساً من الموت، ويستر كثرة من الخطايا» (يعقوب 5: 20).

وكل من يعلم أن هناك فرصةً لمراجعة النفس، يعطي غيره فرصة ليراجع نفسه. فإذا أخطأ ابنك أو ابنتك، أو أخوك أو قريبك، فاعطه فرصة ثانية ليراجع نفسه، واقبل اعتذاره.. وإن كان الرب قد أعطاك فرصة توصيل الرسالة لشخصٍ يرفض دعوة الله، وترددتَ في اغتنامها، فهو الآن يُعيد تكليفك، لأنه يعلم أنك تحبه وستطيعه، فهو إله الفرصة الثانية.

ثالثاً - طاعة بالقول لا بالعمل

كان الابن الثاني سريعاً في التعبير عن الطاعة بلسانه، متقاعساً في التنفيذ بجسده! فهو يقول «نعم» لكنه لا يفعل. لقد أعلن الطاعة بشفتيه، أما قلبه فقد كان بعيداً عن مستوى قوله. إنه مثل شجرة تين ذات ورق، ولكنها بدون ثمر (مرقس 11: 13، 14). هذا الابن أشر من أخيه، لأنه أعطى أباه الانطباع الكاذب أنه سيقوم بالعمل المطلوب، فانصرف أبوه مطمئناً، ولكنه كان ينوي عدم الطاعة، فغشَّ أباه وكذب عليه. والكذب «من أبٍ هو إبليس.. ذاك كان قتَّالاً للناس من البدء، ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق. متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له، لأنه كذاب وأبو الكذاب» (يوحنا 8: 44).

فإن كان الله قد منحنا امتياز أن ندعوه: «يا أبانا» فليكن فينا الصدق في القول والفعل، ولا نكن كالمرائين المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون، «ولا نعرج بين الفرقتين» فنعطي من طرف اللسان حلاوةً، ونروغ كما يروغ الثعلب! بل لنفرح بعمل مشيئة الله الصالحة ونقول له: «هئنذا، ارسلني».

ما أكثر الذين تتوقف علاقتهم بالرب على حضور العبادة يوم الأحد، فيذهبون للكنائس وكأنهم ذاهبون في نزهة أو رحلة، يلقون تذكرة السفر في نهايتها، وينفضون أيديهم منها. لهؤلاء يقول الوحي: «إنكم عارفون الوقت. إنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم.. قد تناهى الليل وتقارب النهار، فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور» (رومية 13: 11، 12).. «كونوا عاملين بالكلمة، لا سامعين فقط خادعين نفوسكم» (يعقوب 1: 22)، ولنعلن طاعتنا لدعوة الرب بالفكر واللسان والسلوك.

أيها القارئ الكريم،

لا تنتظر حتى يكلفك الله بخدمة عظيمة، فإن العمل في كرم الرب رائع في أي موقع وفي كل حالة. كُن مكتفياً بأن تقوم بأبسط الأمور، وقُم بها بأفضل قدراتك. افتح عينيك على فُرص خدمة الآخرين، وتقديم الرسالة المفرحة لتملأ نفوسهم بالأمل.

اذهب إلى العمل ولا تنتظر حتى يجيء العمل إليك.

سؤالان

  1. اذكر ثلاث فوائد للكرم، وما يعنيه هذا لك اليوم.

  2. لماذا كنا نودُّ أن يكون لهذا الأب ابن ثالث؟ أو ما هو التغيير المطلوب في الابنين الأول والثاني؟

(د) العاملون يعملون مثل الكرامين الأردياء

اسْمَعُوا مَثَلاً آخَرَ: كَانَ إِنْسَانٌ رَبُّ بَيْتٍ غَرَسَ كَرْماً وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ، وَحَفَرَ فِيهِ مَعْصَرَةً وَبَنَى بُرْجاً، وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ. وَلَمَّا قَرُبَ وَقْتُ الأَثْمَارِ أَرْسَلَ عَبِيدَهُ إِلَى الْكَرَّامِينَ لِيَأْخُذَ أَثْمَارَهُ. فَأَخَذَ الْكَرَّامُونَ عَبِيدَهُ وَجَلَدُوا بَعْضاً وَقَتَلُوا بَعْضاً وَرَجَمُوا بَعْضاً. ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضاً عَبِيداً آخَرِينَ أَكْثَرَ مِنَ الأَوَّلِينَ، فَفَعَلُوا بِهِمْ كَذَلِكَ. فَأَخِيراً أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَهُ قَائِلاً: يَهَابُونَ ابْنِي! وَأَمَّا الْكَرَّامُونَ فَلَمَّا رَأَوْا الابْنَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هَذَا هُوَ الْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ! فَأَخَذُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ. فَمَتَى جَاءَ صَاحِبُ الْكَرْمِ مَاذَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْكَرَّامِينَ؟

قَالُوا لَهُ: أُولَئِكَ الأَرْدِيَاءُ يُهْلِكُهُمْ هَلاكاً رَدِيّاً، وَيُسَلِّمُ الْكَرْمَ إِلَى كَرَّامِينَ آخَرِينَ يُعْطُونَهُ الأَثْمَارَ فِي أَوْقَاتِهَا.

قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ فِي الْكُتُبِ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هَذَا، وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا؟ لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللَّهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ، وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ. وَمَنْ سَقَطَ عَلَى هَذَا الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ.

وَلَمَّا سَمِعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ أَمْثَالَهُ عَرَفُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَإِذْ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ خَافُوا مِنَ الْجُمُوعِ لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ (متى 21: 33-41).

(ورد هذا المثل أيضاً في مرقس 12: 1-9 ولوقا 20: 9-16)

روى المسيح هذا المثل ليؤكد حقيقة أن الآب يعمل وأنه هو أيضاً يعمل (يوحنا 5: 17)، وأن الآب لا يزال يعمل حتى بعد أن رفض اليهودُ الأنبياءَ الذين أرسلهم إليهم لتوصيل رسالته الإلهية، وقتلوهم. ثم أرسل ابنه الوحيد الحبيب فقتلوه أيضاً، فأقامه قيامة مجيدة، وأعطى الملكوت لأمَّة تعمل أثماره.

وبعد رواية المثَل اقتبس المسيح إحدى النبوَّات التي وردت عنه في مزمور 118: 22، 23 والتي تقول: «الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية. مِن قِبَل الرب كان هذا وهو عجيبٌ في أعيننا». وهو الحجر الذي قال الله عنه بفم إشعياء النبي: «هأنذا أؤسس في صهيون حجراً، حجر امتحانٍ، حجرَ زاويةٍ كريماً. أساساً مؤسَّساً» (إشعياء 28: 16)، وتحقَّق رفض «رأس الزاوية» إذ قال اليهود المتشككون عنه: «أَمِن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟» (يوحنا 1: 46) وتساءلوا: «أليس هذا ابن النجار؟ أليست أمه تُدعى مريم، وإخوته يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا؟.. فكانوا يعثرون به» (متى 13: 55، 57).

أما المؤمنون فيرون المسيح «رأس زاوية» إيمانهم، الذي عيَّنه الله منذ الأزل ليكون أساساً للكنيسة، لا يمكن أن يقوم البناء ويتماسك إلا به، فهو يربط ويوحِّد المؤمنين الذين جاءوا من خلفية يهودية ومن خلفية وثنية، ويجعل الاثنين واحداً، وينقض حائط السياج المتوسط أي العداوة، ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب، قاتلاً العداوة به (أفسس 2: 13-16) فيكونون «مبنيين على أساس الرسل والأنبياء، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية» (أفسس 2: 20). وكل من يقبله يخلُص، وكل من يرفضه يهلك. الذي يؤمن به لا يُدان، والذي لا يؤمن قد دين، لأنه لم يؤمن بابن الله الوحيد (يوحنا 3: 18).

ولم يفهم اليهود في البداية أن المسيح قصدهم بهذا المثل، فعندما سألهم: «ماذا يفعل صاحب الكرم بأولئك الكرامين؟» أجابوه: «أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً ردياً، ويسلِّم الكرم إلى كرامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها» (آية 41). ولكنهم سرعان ما أدركوا أنه يقصدهم، وأنهم وصفوا أنفسهم بالكرامين الأردياء، فأرادوا أن يقبضوا عليه، لأنه قال إنهم قتَلة الأنبياء، وإنه ابن الله، وإنهم سيقتلونه! لقد كانوا يعرفون من إشعياء 5: 1-7 أنهم كرم الرب، وكانوا ينقشون عنقود العنب على عملاتهم النقدية رمزاً لاقتصادهم الذي منحه الله لهم.. أما صاحب الكرم فهو الله الذي اختارهم ليعملوا في كرمه.. أما عبيد صاحب الكرم فهم أنبياؤه الذين قال عنهم: «مِن اليوم الذي خرج فيه آباؤكم من أرض مصر إلى هذا اليوم أرسلتُ إليكم كل عبيدي الأنبياء مبكراً كل يوم، ومرسِلاً، فلم يسمعوا لي، ولم يميلوا أذنهم بل صلّبوا رقابهم. أساءوا أكثر من آبائهم» (إرميا 7: 25، 26).. و «الابن» في المثَل ليس مجرَّد ابن، بل هو «الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب» (يوحنا 1: 18).. أما المستأجرون الجدد فهم المؤمنون بالمسيح من كل أمة وشعب، الذين قيل عنهم: «أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه» (يوحنا 1: 12).

هذا المثل نبوَّة واضحة عن عمل الله في الصليب، ليفتح باب الخلاص للأمم من كل قبيلة وشعب ولسان، فهو «يريد أن جميع الناس يَخلُصون، وإلى معرفة الحق يُقبِلون» (1تيموثاوس 2: 4). وهو مثَلٌ يصف حالة قومٍ يترددون على الكنائس ولكنهم لم يقبلوا المسيح مخلِّصاً، فهُم يؤدون عبادةً مظهرية خالية من العلاقة الشخصية بالرب. إنهم كالفريسيين الذين نادوا بمبادئ سليمة لم يمارسوها، وقدموا عبادة الشفتين لا القلب والسلوك.. فلنطلب من الرب أن يعطينا نعمةً لنكون سامعين عاملين بالكلمة، لا خادعين نفوسنا، فتكون عبادتنا نابعةً من أعماق قلوبنا «لأن الآب طالبٌ مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا» (يوحنا 4: 23، 24).

أولاً - صاحب الكرم

1 - زَرَعَ الكرم:

«إنسان رب بيت غرس كرماً، وأحاطه بسياج، وحفر فيه معصرة، وبنى برجاً، وسلَّمه إلى كرامين وسافر» (آية 33). يصوِّر هذا المثَل لنا الله «ربَّ بيت» هو السيد المطاع فيه، وهو الذي يدبر أموره، ويضع له القوانين، ويحمي أهله من كل شر، وهو القدوة له.. وقد غرس رب البيت كرماً لنفسه لا بد أنه من أجود الأنواع، وأحاطه بسور، وبنى فيه برج مراقبة يقدر الحرّاس منه أن يروا كل الجوانب فيكونون مستعدين للدفاع عنه، وليجدوا مكاناً يستريحون فيه أثناء التناوب على الحراسة. وبالسياج والبرج عمل على المحافظة على كرمه من هجوم اللصوص السارقين، ومن الثعالب المفسدين، وجعل له حدوداً تميِّزه عما يحيط به من خارجه، ومنع أي عدو من أن يأتي ليزرع في وسطه عنباً رديئاً (متى 13: 25).. وحفر فيه معصرة لأنه كان ينتظر منه ثمراً صالحاً وفيراً.

وما أجمل أن نفكر في الله باعتباره «رب بيت» فهو الخالق، رب كل شيء، المالك والمعطي. قبل أن يخلق أبوينا الأوَّلين خلق لهما جنةً فيها كل ما يحتاجه الإنسان. ونحن، من قبل أن نولد هيأ لنا كل شيء صالح «يداك صنعتاني وأنشأتاني» (مزمور 119: 73) وهو يقول عنا: «المحمَّلين عليَّ من البطن، المحمولين من الرحم. وإلى الشيخوخة أنا هو، وإلى الشيبة أنا أحمل. قد فعلت، وأنا أرفع، وأنا أحمل، وأنجي» (إشعياء 46: 3، 4). لقد هيَّأ لنا عائلة أحبتنا واعتنت بنا ورعتنا، فيُقال لنا: «أي شيء لك لم تأخذه؟ وإن كنت قد أخذت، فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟» (1كورنثوس 4: 7). وقد وهبنا كنز كلمته الحية المدوَّنة في الكتاب المقدس لنقول: «عرَّفتني سبل الحياة، وستملأني سروراً مع وجهك» (أعمال 2: 28)، وبهذا أعدَّ كل ما نحتاجه لنأتي بثمر ويدوم ثمرنا، ثم سلَّمنا هذا كلَّه وأعطانا حرية استخدامه «وسافر». والحقيقة هي «كأنه مسافر» فهو قريب منا، يتابعنا ويعتني بنا ويراقبنا ويقول لكل واحد منا: «لا أهملك ولا أتركك» (عبرانيين 13: 5). لقد أعطانا الحياة والعطايا وسلَّمها لنا أمانة لفترة قد تطول أو تقصر، ولكنه لا بد يعود ليجمع الثمر الذي ينتظره منا، والذي يجب أن يكون ثمراً جيداً، ويقول لنا: «ليس أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر، ويدوم ثمركم» (يوحنا 15: 16).

2 - أرسل العبيد:

أرسل الله عبيده الأنبياء إلى بني إسرائيل فقابلوهم بالرفض، فأطال أناته وأرسل عبيداً آخرين، ولكن اليهود ضربوهم وجلدوهم ورجموهم وقتلوا بعضهم. وقد وصف كاتب رسالة العبرانيين هذه المعاملة السيئة للأنبياء بقوله: «عُذِّبوا.. تجربوا في هُزءٍ وجَلْدٍ، ثم في قيودٍ أيضاً وحبس. رُجموا، نُشروا، جُرِّبوا، ماتوا قتلاً بالسيف. طافوا في جلود غنم وجلود معزى معتازين مكروبين مذلّين، وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم. تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض» (عبرانيين 11: 35-38).

ولمثل هؤلاء الذين استهانوا برسل صاحب الكرم، وافتكروا أنه سافر ولن يعود، يقول الوحي مؤنِّباً: «أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالمٍ أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة؟ لكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة، الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله. أما الذين بصبر في العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة والبقاء، فبالحياة الأبدية. وأما الذين هم من أهل التحزُّب ولا يطاوعون للحق بل يطاوعون للإثم، فسخط وغضب. شدة وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشر» (رومية 2: 4-9).

3 - أرسل الابن:

أظهر صاحب الكرم المزيد من طول الأناة على الكرامين الأردياء الذين أهانوا أنبياءه وقتلوهم، وفي محبته وعدالته لم يشأ أن يهلكهم قبل أن يمنحهم كل فرصة للتوبة والنجاة، وهو القائل: «هل مسرَّةً أُسرُّ بموت الشرير، يقول السيد الرب؟ أَلا برجوعه عن طرقه فيحيا؟» (حزقيال 18: 23). وكانت آخر فرصة قدَّمها لهم أن أرسل ابنه، وقال «يهابون ابني» ليقبلوه ويكرموه ويقدموا له الثمر، رغم وجود كل احتمال أن يفعلوا به ما سبق أن فعلوه بالعبيد! ولأنهم أردياء فكروا في قتله باعتباره الوارث، ظانين أنهم بهذا يرثون الأرض وما عليها، وكأن الميراث يؤخذ عنوة وليس بالحق، بالشرِّ لا بالمحبة!

«الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواعٍ وطرق كثيرة، كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه، الذي جعله وارثاً لكل شيء، الذي به أيضاً عمل العالمين، الذي وهو بهاء مجده، ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي، صائراً أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم» (عبرانيين 1: 1-4).

والمسيح هو الابن الوحيد، الذي سُرَّ الآب به (متى 3: 17 و17: 5)، وبنويته روحية لا جسدية، لا زوجة فيها ولا صاحبة، فيقول الآب للابن على لسان صاحب المزامير: «أنت ابني. أنا اليوم ولدتُك» (مزمور 2: 7 وعبرانيين 1: 5). أما في البنوية البشرية حيث الزوجة، فيقول الأب لابنه: «أنا اليوم ولدتك. أنت ابني» لأنه قبل ميلاد الابن لا يكون الأب أباً ولا يكون الابن ابناً، فعلاقة البنوية والأبوية لا تبدأ إلا بعد ولادة الابن. أما المسيح فهو الابن الأزلي، مولود غير مخلوق، موجود من قبل أن يولد من العذراء القديسة مريم.

وجاءت إرسالية المسيح بعد إرسالية العبيد، لأنه الأعلى والأسمى، فلا يمكن أن يجيء بعد الابن رسلٌ ولا أنبياء.. لقد أرسل الله المسيح بعد أن أرسل موسى، والمسيح أعظم من موسى. وفي هذا يقول الوحي: «لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته: المسيح يسوع، حال كونه أميناً للذي أقامه كما كان موسى أيضاً في كل بيته. فإن هذا (المسيح) قد حُسب أهلاً لمجدٍ أكثر من موسى بمقدار ما لباني البيت من كرامة أكثر من البيت. لأن كل بيت يبنيه إنسان ما، ولكن باني الكل هو الله. وموسى كان أميناً في كل بيته كخادمٍ، شهادةً للعتيد أن يُتكلَّم به (أي المسيحية)، وأما المسيح فكابنٍ على بيته. وبيتُه نحن إن تمسكنا بثقة الرجاء وافتخاره ثابتةً إلى النهاية» (عبرانيين 3: 1-6).

«مِن قِبَل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا». لقد ذهب الابن إلى الكرامين، فاستهانوا به وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه! جاءهم متواضعاً، مولوداً في مذود بسيط ليستطيع البسطاء والعظماء أن يأتوا إليه، وأخلى نفسه آخذاً صورة عبد (فيلبي 2: 7)، فألقوا القبض عليه وأخذوه خارج أورشليم وصلبوه، لأنهم لم يصدقوا أن المولود في مذود هو «الله الذي ظهر في الجسد» (1تيموثاوس 3: 16). ومن يقول إن موته وصلبه هو قوة الله وحكمة الله؟ ومن يقول إن الذي يُصلب ويُدفَن يقوم ويصعد، وينتظر البشر مجيئه ثانيةً قاضياً عادلاً للعالم كله؟ «من صدَّق خبرنا، ولمن استُعلنت ذراع الرب؟.. محتقرٌ ومخذولٌ من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن، وكمُستَّرٍ عنه وجوهنا، محتقرٌ فلم نعتدَّ به.. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه، وبحبُره شُفينا» (إشعياء 53: 1، 3، 5).

إن الإعجاز الأكبر هو أن الله افتدانا من لعنة الناموس، ورفع عنا خطايانا بموت ابنه على الصليب.. لقد أشار قيافا على اليهود أنه خيرٌ أن يموت إنسان واحدٌ عن الشعب (يوحنا 18: 14)، لكن المسيح لم يمُت عن شعبٍ واحد، بل عن البشر جميعاً «وهو مات لأجل الجميع، كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام» (2كورنثوس 5: 15).

لقد رفض «البناؤون» (شيوخُ اليهود) المسيحَ، مع أنه «حجر الزاوية الوحيد». وهذا ما أعلنه الرسول بطرس عندما امتلأ من الروح القدس، وقال لشيوخ اليهود: «يا رؤساء الشعب وشيوخ إسرائيل.. فليكن معلوماً عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم، الذي أقامه الله من الأموات. بذاك وقف هذا (الرجل المولود أعرج) أمامكم صحيحاً. هذا (المسيح) هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناؤون، الذي صار رأس الزاوية» (أعمال 4: 8، 10، 11). وعاد ليسجِّل بإرشاد الروح القدس هذا كتابةً: «لذلك يُتضمَّن أيضاً في الكتاب: هأنذا أضع في صهيون حجر زاوية مختاراً كريماً، والذي يؤمن به لن يُخزَى. فلكم أنتم الذين تؤمنون الكرامة. وأما للذين لا يطيعون، فالحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية» (1بطرس 2: 6، 7). وهو عين ما خاطب المسيح به أهل عاصمة اليهود: «يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردتُ أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا. هوذا بيتكم يُترَك لكم خراباً» (لوقا 13: 34، 35).

لقد رفض شيوخ اليهود المسيح، فحقَّ عليهم حكم الهلاك، لأنّ «من سقط على هذا الحجر يترضَّض» لأنه احتقر الحجر، «ومن سقط عليه هو يسحقه» كما كان يحدث وقت رجم المجرمين، فتمَّت فيهم النبوَّة: «ويكون مَقْدِساً، وحجرَ صدمةٍ، وصخرةَ عثرةٍ لبيتي إسرائيل، وفخاً وشَرَكاً لسكان أورشليم، فيعثر بها كثيرون ويسقطون فينكسرون، ويعْلَقون فيُلقَطون» (إشعياء 8: 13-15).

ثانياً - الكرامون

الكرامون في هذا المثل هم بنو إسرائيل الذين اختارهم الله لنشر كلمته وشريعته بين الشعوب، وقال لهم: «إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي، تكونون لي خاصةً من بين جميع الشعوب، فإن لي كل الأرض، وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة» (خروج 19: 5، 6). ولكنهم لم يسمعوا صوته ولم يحفظوا عهده، فوبَّخهم توبيخ الحب بقوله: «لأنشدَنَّ عن حبيبي نشيد محبّي لكرمه. كان لحبيبي كرمٌ على أكمة خصبة، فنقبه ونقَّى حجارته، وغرسه كرم سورق، وبنى برجاً في وسطه، ونقر فيه أيضاً معصرة، فانتظر أن يصنع عنباً، فصنع عنباً رديئاً» (إشعياء 5: 1، 2). ولكنه لم يتركهم في بُعدهم، بل أرسل إليهم ابنه الحبيب الذي «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله» (يوحنا 1: 11). ولما رفضوه وصلبوه تمَّ فيهم قول المسيح: «إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السموات، وأما بنو الملكوت فيُطرحون إلى الظلمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان» (متى 8: 11، 12).

ولا زال الرب واقفاً يقرع على باب كل قلب، ومن له أذنان للسمع فليسمع، فهو لا يُجبر أحداً أن يفتح له. فإن سمعت صوته وفتحت قلبك له تصبح له ابناً. أما إن رفضته فستخسر نصيبك الصالح، وتكون عبداً لإبليس. الأجدر بك أن تكرم الابن وتشكره لأنه استأمنك على الكثير، كما استأمن أولئك الكرامين على كرمه. إن كنت مثل شاول الطرسوسي، مضطهد الكنيسة، فاسمع قول المسيح: «صعبٌ عليك أن ترفس مناخس» (أعمال 9: 5). تُب واقبل المسيح الابن الحبيب، فيفتح أمامك باب الحياة الأبدية ويجعلك كارزاً بالإنجيل. إنه يمنحك حرية الاختيار، ثم يطالبك بتقديم حساب وكالتك الذي يجب أن تقدِّم فيه إجابتك على سؤالين: هل قبلت الابن المخلِّص؟ وهل قدَّمت ثمراً صالحاً؟. وهو لا يبدأ بسؤالك عن الثمر، بل عن قبول الابن، ثم عن الثمر الصالح، فابدأ بالخضوع لله وقبول نعمة المسيح المجانية، فتثمر فيك عملاً صالحاً، وتقول مع سائر المفديين: «لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها» (أفسس 2: 10).

لم يكن الكرامون الأردياء أصحاب الكرم، لكنهم كانوا وكلاء عن صاحبه، فتوقَّع منهم أن يأتوه بالثمر، ولكنهم كانوا وكلاء أردياء.. ونحن اليوم وكلاء من الله على أولادنا ووقتنا وممتلكاتنا، فكلها عطايا الله لنا. وهو يمنحنا الحرية لنطيعه أو نعصاه، ولا بد أن يطالبنا يوماً بحقوقه، قائلاً: «أعطِ حساب وكالتك» وهنيئاً لك إن كنت أميناً له فيقول لك: «نِعمّا (أحسنتَ) أيها العبد الصالح والأمين. كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير. ادخُل إلى فرح سيدك» (متى 25: 21) «لأنه أقام يوماً هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل، برجلٍ قد عيَّنه، مقدِّماً للجميع إيماناً، إذ أقامه من الأموات» (أعمال 17: 31).

ويحذرنا المثل من العصيان كما حذَّر بني إسرائيل من قبل، ولكنهم لم يقبلوا التحذير، فأُخربت عاصمتهم وتدمَّر هيكلهم، وفقدوا امتيازاتهم. وكان لا بد أن ينفذ الله خطته لفداء البشر، فأوجد آخرين أمناء من الأمم ليقوموا بما لم يقُم اليهود به.

واليوم إن لم تسمع النداء الإلهي وتثمر عملاً صالحاً وخدمةً مقدسة، يختار الله من يؤدي له الخدمة، لأن عمله لا يمكن أن يتعطل. أما أنت فستضيِّع على نفسك فرصة الحصول على البركة. ومن المفيد أن نسمع تحذير مُردَخاي للملكة أَستير: «لا تفتكري في نفسك أنك تنجين في بيت الملك دون جميع اليهود، لأنك إن سكتِّ سكوتاً في هذا الوقت يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر، وأما أنت وبيت أبيك فتبيدون. ومن يعلم ان كنت لوقتٍ مثل هذا وصلتِ إلى المُلك!» (أستير 4: 13، 14).

سؤالان

  1. ما هي مسؤوليات رب البيت من نحو أهل البيت، وكيف ترى الله «ربَّ بيت» العالم؟

  2. ما هو الفرق بين إرسالية العبيد وإرسالية الابن؟

2 - ضرورة التواضع

(أ) تواضع الاعتراف - مثل الفريسي والعشار (لوقا 18: 9-14)

(ب) تواضع السلوك - مثل المتكأ الأخير (لوقا 14: 7-11)

(أ) تواضع الاعتراف مثَل الفريسي والعشار

وَقَالَ لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرِينَ هَذَا الْمَثَلَ: إِنْسَانَانِ صَعِدَا إِلَى الْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا، وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ وَالآخَرُ عَشَّارٌ. أَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هَكَذَا: اَللَّهُمَّ، أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ، وَلا مِثْلَ هَذَا الْعَشَّارِ. أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ.

وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لا يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللَّهُمَّ، ارْحَمْنِي أَنَا الْخَاطي. أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هَذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً دُونَ ذَاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ (لوقا 18: 9-14).

اعتاد اليهود أن يصلوا ثلاث مرات يومياً، في التاسعة صباحاً والثانية عشرة ظهراً والثالثة بعد الظهر، كما يقول الوحي عن النبي دانيال: «جثا على ركبتيه ثلاث مرات في اليوم، وصلى وحمد قدام إلهه، كما كان يفعل قبل ذلك» (دانيال 6: 10). وكان اليهود يعتقدون أن أكثر الصلوات فاعلية هي التي تُرفع في الهيكل، فكان الهيكل مفتوحاً دائماً أمام الشعب للصلاة والتأمل.

في هذا المثل روى المسيح عن شخصين يمثلان شريحتين من المجتمع اليهودي في ذلك الوقت، تصلحان لتكونا نموذجين لمجتمعهم ولمجتمعنا أيضاً، يعلِّماننا أن من يرفع نفسه يتَّضع، ومن يضع نفسه يرتفع. وصلاة الإنسان الانفرادية تكشف حقيقة نفسه، فهو يعبِّر فيها عن واقعه بإخلاص، لأنه يحدِّث الله العالم بكل شيء.

كان أحد المصلِّيين «فريسياً» ومعنى الكلمة في اللغة الأرامية «منعزل». فالفريسيون هم الذين اعتزلوا الناس ليتفرغوا للعبادة. وكانوا أول الأمر نبلاء خُلُقاً وأنقياء ديناً، لكن دخلاء انضمّوا إليهم ففسد حزبهم، واشتهر معظمهم بالرياء والعُجب بأنفسهم، حتى وصفهم يوحنا المعمدان بأنهم «أولاد الأفاعي» (متى 3: 7).

أما المصلي الثاني فكان «عشّاراً» أي ملتزم جمع الأعشار (الضرائب). وكان المجتمع اليهودي يحتقر العشار ويعتبره خائناً لوطنه ودينه، لأنه يجمع من المواطنين ضرائب أكثر من المفروض عليهم، ثم يقدم بعض ما يجمعه للرومان المستعمِرين. فكان اليهود يبغضون العشارين ويمنعونهم من دخول الهيكل والمجامع والاشتراك في الصلاة.

بين هذين الشخصين المذكورين في المثَل وجها شبه، فهما متماثلان في أصلهما، فكلاهما «إنسان». وكلاهما «صعدا ليصلِّيا». لكنهما كانا مختلفين في أمرين: في نظر المجتمع، وفي تقدير كلٍّ منهما لذاته، فالفريسي في نظر اليهود عامود الدين، ووطني مخلص، أما العشار فهو اللص الخائن لأهله ووطنه.. والفريسي معتزٌّ غاية الاعتزاز بنفسه، يقف في مكان الصدارة في الهيكل مصلياً «في نفسه» منفصلاً عن سائر العابدين ومغترباً عن الله، يرفع أقوال الفم لا عبادة القلب، فيمدح نفسه وكأن الرب لا يعرف ما بداخله، ويُسقِط خطاياه على الآخرين، وينبِّر على تقواه ويبرِّر نفسه متأكداً أنه في غير حاجة للغفران الإلهي! صحيحٌ أنه «صعد إلى الهيكل» لكن صعوده كان جغرافياً فقط، لأن الهيكل كان على تل، لكنه لم «يصعد» روحياً، ولا ارتفعت نفسه لتتَّجه إلى الله، مع أنه العارف بالقول: «هلمَّ نصعد إلى جبل الرب وإلى بيت إله يعقوب، فيعلِّمنا من طرقه ونسلك في سبله» (ميخا 4: 2).

أما العشار فوقف من بعيد كأنه أبرص، وفي تواضع كامل وإحساس بالذنب لم يشأ أن يرفع عينيه نحو السماء، ولو أنه رفع قلبه لله في صلاة اعتراف طالباً الرحمة والغفران.

وقد اختلفت نتيجة صلاتيهما وتقييم الرب لهما، فلم يتبرر الفريسي، بينما نزل العشار إلى بيته مبرراً «لأن من يكتم خطاياه لا ينجح، ومن يُقرُّ بها ويتركها يُرحَم» (أمثال 28: 13)، ولأن «كل من يرفع نفسه يتَّضع، ومن يضع نفسه يرتفع».

أولاً - صلاة من يرفع نفسه

  1. من يرفع نفسه يظن أنه بار: كان مفهوم البر عند الفريسي أنه يحفظ الشريعة وينفذ الوصايا، فرأى نفسه كامل البر لأنه في أصله عبراني مختون، وفي عمله تقي فاضل، وهو يعمل بكل الوصايا منذ حداثته، فصلى وكأنه يقول: «يا رب، أنت تطلب صوم يوم واحد في السنة، هو يوم الكفارة العظيم، الذي فيه نذلل نفوسنا (لاويين 16: 29-34)، أما أنا فأصوم مرتين في الأسبوع.. وأنت يا رب تطلب عشور المزروعات والبهائم فقط (كما جاء في تثنية 14: 22، 23) أما أنا فأعشِّر كل ما أقتنيه. أنا أحفظ الناموس، ولا شك أن لي كل حقوق الفريسي التقي المنعزل عن سائر البشر».. وقد خلت هذه الصلاة من أي شعور بالتقصير أو الذنب. إنها بليغة اللغة منمَّقة الكلمات، ولعل الفريسي لو عاد في يومه ذلك إلى الهيكل ليصلي لكرَّر ذات هذه الكلمات العامرة بالكبرياء، الخالية من مخافة الله!

  2. من يرفع نفسه يفتخر: عندما دخل الفريسي الهيكل تقدم إلى الأمام ليحتلَّ المركز الأول لأنه شعر بالتفوُّق على الباقين. وقف «يصلي في نفسه» من نفسه، إلى نفسه، عن نفسه! فكانت صلاته صلاة افتخار بنفسه يرويها لنفسه، ذكر فيها اسم الله مرة واحدة، وأشار إلى نفسه ثلاث مرات!

    ولم يكن هذا الفريسي مختلفاً عن زملائه الفريسيين في روحه المتعالية، فقد قال الفريسي «سمعان بن يوكي»: «إن كان هناك باران في العالم فهما أنا وابني. أما إذا كان هناك بار واحد فهو أنا!». وكانت صلاتهم اليومية: «أشكرك لأنك خلقتني يهودياً لا أممياً، حراً لا عبداً، رجلاً لا امرأة». أما المرأة اليهودية فكانت تصلي: «اللهم أشكرك لأنك خلقتني هكذا!». وسجل «بيراكوث» صلاة رفعها فريسي عام 70م تقول: «اللهم، أشكرك لأنك أعطيتني مكاناً للجلوس في بيتك للدرس، فلست ممن يجلسون في زوايا الشوارع. أنا أستيقظ مبكراً وهم يستيقظون مبكرين، لكني أبكر لأدرس الناموس وهم يبكرون للعمل الباطل. أنا أشتغل وهم يشتغلون، لكني أشتغل لنوال مجازاة، وهم يشتغلون بلا فائدة. أنا أحيا وهم يحيون، لكني أحيا وغايتي الحياة في العالم الآتي، وهم يحيون ونهايتهم حفرة الهلاك».

  3. من يرفع نفسه يحتقر الآخرين: قال «أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس» ووصفهم بأنهم خاطفون ظالمون زُناة. ثم قال: «ولا مثل هذا العشار». وكأنه يقول: «كلهم خطاة، أما أنا فأفضل منهم جميعاً!». صحيحٌ أنه لا يخطف ولا يظلم ولا يزني ولا يسلب الناس، ولكن خطيته الكبرى كانت الكبرياء! لقد رأى نفسه غنياً بأعماله الصالحة وقد استغنى. ولكنه في نظر الرب فقير وأعمى وعريان، يحتاج أن يطلب من الله ذهباً مصفى بالنار لكي يستغني، وثياباً بيضاً لكي يلبس، وكُحلاً يكحل به عينيه لكي يبصر نفسه على حقيقتها (رؤيا 3: 17، 18).

    قارن الفريسي نفسه بالخطاة، فوجد نفسه متديِّناً، سليل عائلة من المتدينين العظماء، فلم يرَ عنده احتياجاً يطلب من الرب أن يسدده، ولا تقصيراً أو إهمالاً يكمله، مع أن الصوت الإلهي يقول له: «لا يفتخرنَّ الحكيم بحكمته، ولا يفتخر الجبار بجبروته، ولا يفتخر الغني بغناه. بل بهذا ليفتخرنَّ المفتخِر: بأنه يفهم ويعرفني أني أنا الصانع رحمة وقضاء وعدلاً في الأرض، لأني بهذه أُسرُّ يقول الرب» (إرميا 9: 23، 24).

    وفي احتقاره للآخرين نصَّب نفسه قاضياً على ضمائرهم وأصدر حكمه الظالم عليهم، فقال عن العشار: «هذا». وهو ما قاله الابن الأكبر لأبيه عن أخيه الضال الراجع: «ابنك هذا» (لوقا 15: 30). وكان الكتبة والفريسيون قد أصدروا حكماً ظالماً على اليهود الذين آمنوا بالمسيح، فقالوا عنهم: «هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون» (يوحنا 7: 49)، ناسين الحكمة القائلة: «مَن أنت يا مَن تدين عبد غيرك؟ هو لمولاه يثبت أو يسقط. ولكنه سيُثبَّت، لأن الله قادر أن يثبته» (رومية 14: 4).

  4. من يرفع نفسه لا يعترف بخطاياه: تقدَّم الفريسي إلى الله بغير شعور بالحاجة إلى غفران، لأنه ظنَّ أنه اشترى ملكوت الله بما قام به من أصوام وما دفعه من تبرعات. لكن ملكوت الله لا يُشترى «لأنه لا فرق، إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. متبرِّرين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدَّمه الله كفارةً بالإيمان بدمه، لإظهار برِّه، من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله، لإظهار بره في الزمان الحاضر، ليكون باراً، ويبرِّر مَن هو من الإيمان بيسوع» (رومية 3: 22-26).

إن الإنسان عاجز عن الحصول على الغفران بمجهوده، لهذا دبَّر الله المحب فداء البشر بموت المسيح على الصليب «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا 3: 16). ومع أن الصليب ترتيب إلهي، إلا أنه يشكِّل صخرة صدمةً وحجر عثرة لكثيرين، لأنه يعلن أن الإنسان خاطئ بطبيعته وبعمله، وهو لا يستطيع أن ينجي نفسه من العقاب، ولا يمكن أن ينال رضا الله مهما فعل. ومن المؤسف أن «كلمة الصليب عند الهالكين جهالة» لكننا نشكر الله لأنها «عندنا نحن المخلَّصين فهي قوة الله» (1كورنثوس 1: 18).

هذا المثَل يوبِّخ كل من يثق في صلاحه ويظن أنه يتبرر باجتهاده، فإن سبيل التبرير الوحيد هو الإيمان بما فعله المسيح على الصليب لأجل الخاطئ التائب، والذي كانت ذبائح العهد القديم رموزاً له. أما من يتكل على أعماله الصالحة فيشبه قدماء المصريين الذين كانوا يظنون أن الإله «أوزيريس» يزن أعمالهم الصالحة مقابل أعمالهم الشريرة، فمن رجحت كفة حسناته ينجو، ومن رجحت كفة سيئاته يهلك. ولا يمكن أن تزيد صالحاتنا على سيئاتنا لأن أعمالنا الشريرة ليست فقط ما نرتكبه من خطايا، بل ما لا نفعله من صلاح، فإن «من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل فذلك خطية له» (يعقوب 4: 17). كما أننا «في أشياء كثيرة نعثر جميعنا» (يعقوب 3: 2). فكم مرة أهملنا من يحتاجون لمساعدتنا ونحن قادرون، وبخلنا عليهم بمالنا ووقتنا ونصيحتنا! و «إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات» (متى 5: 20).

ثانياً - صلاة من يضع نفسه

كان اليهود يسمّون العشارين «خطاةً» وينسبونهم إلى عابدي الوثن، بسبب ما كانوا يقاسونه من مضايقاتهم وتعنتهم وجبايتهم منهم أكثر مما يجب. وبالرغم من كل هذه الكراهية الموجَّهة إلى العشار فقد أحبه المسيح ورأى فيه إنساناً صعد ليصلي، قبل الله صلاته، فنزل إلى بيته مبرَّراً.

  1. من يضع نفسه يرى عدم استحقاقها: صعد العشار من وهدة الخطية ليمثُل بين يدي الله القدوس، ووقف من بعيد لأنه أراد أن يتحاشى نظرات الناس إليه، ولأنه كان يطلب لقاءً شخصياً مع الله، وكله أمل في رحمته وغفرانه. وقد دفعه شعوره بالتقصير والخطية إلى الوقوف في خوف من الله، لاجئاً إلى مراحمه طالباً العفو، وهو يعلم أنه عاجز عن مساعدة نفسه، وأن لا سبيل للحصول على الغفران إلا بإنعامٍ إلهي.

    ويا لها من مفارقة بين الذي وقف قريباً من الهيكل فصار بعيداً عن الغفران، والذي وقف من بعيد تواضعاً وإحساساً بعدم الاستحقاق فصار قريباً، كما قيل: «أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح» (أفسس 2: 13)، و «طوبى للذي غُفر إثمه وسُترت خطيته. طوبى لرجلٍ لا يحسب له الرب خطية» (مزمور 32: 1، 2). «فانتُزِع إثمك وكُفِّر عن خطيتك» (إشعياء 6: 7). وكلمة «كفارة» مأخوذة عن العبرية «كافار» التي أخذت عنها الإنجليزية cover أي يغطي أو يستر. وينتفع بالكفارة من يعرف عجزه ويعترف به. «الذي لا يعمل، ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر، فإيمانه يُحسَب له براً، كما يقول داود في تطويب الإنسان الذي يحسب له الله براً بدون أعمال: طوبى للذين غُفرت آثامهم وسُترت خطاياهم» (رومية 4: 5-7) كما آمن إبراهيم فحُسب إيمانه له براً (تكوين 15: 6). إذا هي مسألة حسبان، لأن بر المسيح حُسب له، فمُحيت خطاياه الماضية وسُترت.

    في أعماق الإنسان حاسة دينية تنبئه بأنه لا بد أن يقابل الله كديان، فقال المرنم: «لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حي» (مزمور 143: 2). والتفكير في الله الديان يملأ الخاطئ بالرعب. هذا ما حدث مع العشار ومع الابن الضال، الذي رجع إلى نفسه وإلى الله فقال لأبيه: «يا أبي، أخطأت إلى السماء وقدامك، ولست مستحقاً بعد أن أُدعى لك ابناً» (لوقا 15: 19). ومقابلة الديان العادل بالخاطئ الأثيم لا بد تنتج الحكم والإدانة. ولكن ما أرأف الرب الرحيم المنعِم بالخلاص، الذي يلجأ إليه الإنسان المذنب الهالك فيوصف بالقول: «كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوجد» (لوقا 15: 24).

  2. من يضع نفسه يعترف بخطاياه: شعر العشار بثقل خطيته، لهذا «وقف من بعيد.. لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء.. وقرع على صدره». كان يعترف بكل حواسه، فكانت قدماه مترددتين خوفاً من أن يدنس الهيكل، ولم يجرؤ على الركوع خشية أن ترفض السماء صلاته، وطأطأ رأسه ونظرت عيناه إلى الأرض خجلاً واتضاعاً، وقرع بيديه على صدره في إحساس باللوم والندم والتوبة الحقيقية، واعترف بلسانه «أنا» «ال» «خاطئ» لأنه رأى نفسه كما لو كان الشرير الوحيد الذي أخطأ إلى الله وإلى وطنه وإلى إخوته، وتذلل أمام الله ليقبل توبته، فعرف أنه «صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول: أنّ المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلِّص الخطاة الذين أوَّلهم أنا» (1تيموثاوس 1: 15).

    لم يفكر العشار في مركزه المالي مع أنه كان ثرياً، ولا اعتمد على مكانته السياسية، بالرغم من حماية الدولة الرومانية له والسلطة التي أعطتها له. لكنه رأى نفسه أرضياً زائلاً، محطماً كسيراً، شريراً دنساً، بدون مجد شخصي، لا رجاء له إلا في رحمة الرب وغفرانه، فدعا ربَّه اللهم كما دعا الفريسي «اللهم» ولكنه دعاه بقلب متضع: «ارحمني» مردداً صلاة جدِّه داود: «ارحمني يا الله حسب رحمتك. حسب كثرة رأفتك امحُ معاصيَّ. اغسلني كثيراً من إثمي، ومن خطيتي طهِّرني، لأني عارف بمعاصيَّ، وخطيتي أمامي دائماً» (مزمور 51: 1، 2).

  3. 3 - من يضع نفسه يرفعه الله: استُجيبت صلاة العشار لأنه وضع نفسه في صلاة شخصية، محددة الطلب، بثقة كاملة في الاستجابة، لأنه كان يعلم أن الله يراه ويسمعه ويستجيبه. دخل الهيكل مثقلاً بالذنوب وخرج منه مرفوعاً بالرحمة. دخل مرتعباً من الله وخرج فرحاً بمحبة الله ورضاه. دخل يقرع صدره وخرج يهتف «هللويا».

ولا يقول المسيح في المثَل إن العشار «نزل باراً» بل يقول إنه «نزل مبرَّراً». فليس لدى الإنسان برٌّ مهما كانت تقواه! لكن العشار الخاطئ حصل على «التبرير» لأنه اعترف ولجأ مؤمناً بالوحيد القادر أن يبرره.

رفع الفريسي نفسه وظن أنه صالح يستحق أن يتمتع بالبر الإلهي، فعمي عن حقيقة نفسه. لأنه «إن كان بالناموس بر فالمسيح إذاً مات بلا سبب» (غلاطية 2: 21). أما الذين يضعون أنفسهم، فيعترفون بخطيتهم كالعشار، ويخزون من عريهم كآدم وحواء، ويخجلون من رائحة الخنازير التي تفيح منهم مثل الابن الضال، فيحوِّلهم التبرير السماوي من حالة المجرمين المطلوبين للقصاص إلى امتياز الأبناء المبررين الذين يتمتعون بغفران الله وسلامه «لأنكم بالنعمة مخلَّصون بالإيمان.. ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد» (أفسس 2: 8، 9).

فلنجتهد أن نتقدم إلى عرش النعمة، لا كأتقياء، بل كخطاة يطلبون تبريره، ويعتمدون على المخلِّص الذي يطهر ضمائرنا ويغفر خطايانا. وهذا هو الرجاء الذي يمنحه الإنجيل لنا، لأنه إنجيل البشارة المفرحة لجميع التائبين، فالمسيح يقول: «لم آتِ لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة» (لوقا 5: 32)، والسبب واضح ومنطقي: «لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى» (لوقا 5: 31).

سؤالان

Q: 1 - لماذا رفض الله صلاة الفريسي، ولماذا قبل صلاة العشار؟
Q: 2 - ما معنى كلمة «كفارة»؟ اذكر أساس التكفير عن الخطية.

Q:

1 - لماذا رفض الله صلاة الفريسي، ولماذا قبل صلاة العشار؟

Q:

2 - ما معنى كلمة «كفارة»؟ اذكر أساس التكفير عن الخطية.

(ب) تواضع السلوك مثل المتكأ الأخير

وَقَالَ لِلْمَدْعُوِّينَ مَثَلاً، وَهُوَ يُلاحِظُ كَيْفَ اخْتَارُوا الْمُتَّكَآتِ الأُولَى: «مَتَى دُعِيتَ مِنْ أَحَدٍ إِلَى عُرْسٍ فَلا تَتَّكِئْ فِي الْمُتَّكَإِ الأَوَّلِ. لَعَلَّ أَكْرَمَ مِنْكَ يَكُونُ قَدْ دُعِيَ مِنْهُ. فَيَأْتِيَ الَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ لَكَ: أَعْطِ مَكَاناً لِهَذَا. فَحِينَئِذٍ تَبْتَدِئُ بِخَجَلٍ تَأْخُذُ الْمَوْضِعَ الأَخِيرَ. بَلْ مَتَى دُعِيتَ فَاذْهَبْ وَاتَّكِئْ فِي الْمَوْضِعِ الأَخِيرِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الَّذِي دَعَاكَ يَقُولُ لَكَ: يَا صَدِيقُ، ارْتَفِعْ إِلَى فَوْقُ. حِينَئِذٍ يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ أَمَامَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَكَ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ» (لوقا 14: 7-11).

جاء في التلمود اليهودي: «إذا وُجدت ثلاثة أماكن في وليمة، فإن المكان الأوسط هو أفضلها، يليه المكان الذي عن اليمين، ثم المكان الذي عن اليسار». وذات يومٍ دعا أحد الفريسيين المسيح للطعام في بيته، فلاحظ كيف اختار المدعوون أماكن الصدارة الأولى، فقدَّم نصيحته الحكيمة وهي أن يختار الضيف المكان الأخير، وعلَّق على هذا بالقول: «كل من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع».

ولا زال المسيح يراقب البشر ويضعهم تحت ملاحظته ليرى ماذا يختارون، لأن اختيارهم يكشف عما في قلوبهم من كبرياء أو تواضع، قسوة أو رحمة، كراهية أو حب. فتصرفات الإنسان تكشف ما يكمن في أعماقه، كما أن ما ينطق به اللسان يكشف مكنونات القلب.. وقد جلس المسيح مرةً تُجاه الخزانة التي يضع فيها العابدون عطاياهم، وأخذ يراقب «كيف يلقي الجمع نحاساً في الخزانة». لم يراقب «كم» يلقون، بل «كيف» يلقون (مرقس 12: 42) «لأن عيني الرب تجولان في كل الأرض ليتشدَّد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه» (2أخبار 16: 9).

ولا شك أن الضيف الذي يختار المتكأ الأول حول مائدة الطعام يفعل هذا لأنه يشعر أنه أعظم من غيره، وأنه أجدر بالمكانة المتقدِّمة، لأنه سبق أن تعلّم أن التواضع صفة مكروهة لأنها صفة العبيد. ولكن المسيح علَّمنا التواضع بمثاله وكلامه، فقد وُلد في مذود بسيط مع أنه الملك، ولم يكن له أين يسند رأسه مع أنه رب المسكونة والساكنين فيها (متى 8: 20). ثم علَّم أن الخير والكرامة يبدآن بالتواضع واختيار المكان الأخير، فينال المدعوُّ الرفعة. وهذا خيرٌ من البدء بالكبرياء واختيار المكان الأول، فيصيب المدعوَّ الخزيُ والخجل، وهو ما قاله الحكيم: «لا تتفاخر أمام الملك، ولا تقف في مكان العظماء، لأنه خيرٌ أن يُقال لك: ارتفع هنا، من أن تُحطَّ في حضرة الرئيس الذي رأته عيناك» (أمثال 25: 6، 7).. وهو ما قاله الرسول بولس: «مقدِّمين بعضكم بعضاً في الكرامة.. مهتمّين بعضكم لبعضٍ اهتماماً واحداً، غير مهتمين بالأمور العالية، بل منقادين إلى المتَّضعين. لا تكونوا حكماء عند أنفسكم» (رومية 12: 10، 16).. وما قاله الرسول بطرس: «كونوا جميعاً خاضعين بعضكم لبعض، وتسربلوا بالتواضع، لأن الله يقاوم المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة. فتواضعوا تحت يد الله القوية لكي يرفعكم في حينه» (1بطرس 5: 5، 6).. وما أعلنته العذراء المطوَّبة: «شتّت المستكبرين بفكر قلوبهم. أنزل الأعزّاء عن الكراسي ورفع المتَّضعين. أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين» (لوقا 1: 51-53).

ولا زلنا نحتاج إلى هذا الدرس، فأولادنا يحبون الجلوس في مقعد السيارة الأمامي، أو إلى جوار النافذة لأنه الأفضل في نظرهم، والمتحدثون يذكرون مفاخرهم ونواحي قوتهم وما قدموه للفقراء وما خدموا به مجتمعهم وكنيستهم. لذلك قال المسيح: «احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لينظروكم.. فمتى صنعت صدقةً فلا تصوِّت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون في المجامع وفي الأزقة، لكي يُمجَّدوا من الناس» (متى 6: 1، 2).

ولم يكن المسيح هنا يعلِّم آداب السلوك، بل كان ينادي بتغيير دوافع البشر الداخلية التي تصنع السلوك، فالطبيب لا يهتم أولاً بارتفاع درجة حرارة المريض، بل بعلاج أسباب ارتفاعها. فليست المشكلة في اختيار المكان الأول للجلوس، لكن في نيَّة وأفكار القلب المتكبِّر المتعالي على الآخرين.

ويقدم الكتاب المقدس لنا شخصيات عظيمة متواضعة مع أن الله منحها كل شيء بسخاء، فموسى الذي مكث في حضرة الرب وقتاً طويلاً حتى انعكست نعمة الله على وجهه ببهاء، فصار وجهه يلمع حتى خاف الشعب أن يقتربوا إليه لم يكن يعلم أن جلد وجهه صار يلمع (خروج 34: 29).

ويوحنا المعمدان الذي قال عنه المسيح إنه أعظم المولودين من النساء (متى 11: 11) تواضع وأنكر ذاته وقال عن نفسه «أنا صوتُ صارخٍ في البرية» (يوحنا 1: 23) فاعتبر نفسه مجرَّد صوت! وقال عن المسيح: «هو الذي يأتي بعدي، الذي صار قدامي، الذي لست بمستحقٍّ أن أحلَّ سيور حذائه» (يوحنا 1: 27). وعندما تركه تلاميذه ليتبعوا المسيح لم يتذمر ولم تُجرَح كبرياؤه، بل قال: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص.. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع» (يوحنا 3: 30 ، 31).

ونرى في الرسول بولس صورة حية للتواضع وهو يقول: «بولس، عبد الله ورسول يسوع المسيح لأجل إيمان مختاري الله» (تيطس 1: 1) «أنا بولس أسير المسيح يسوع لأجلكم.. أنا أصغر جميع القديسين» (أفسس 3: 1، 8). «لأني أصغر الرسل، أنا الذي لست أهلاً لأن أُدعى رسولاً» (1كورنثوس 15: 9). ومع أن الله ميَّزه بالصعود إلى الفردوس حيث سمع كلماتٍ لا يُنطَق بها، إلا أنه لم يرتفع بفرط الإعلانات، وقال: «من جهة هذا أفتخر. ولكن من جهة نفسي لا أفتخر إلا بضعفاتي» (2كورنثوس 12: 4-10).

كل هؤلاء تتلمذوا على يد معلم صالح متواضع، قدّم نفسه نموذجاً لما علَّم به، فغسل أرجل تلاميذه «قبل عيد الفصح، وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، إذ كان قد أحبَّ خاصَّته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى- يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه، وأنه من عند الله خرج، وإلى الله يمضي، قام عن العشاء وخلع ثيابه وأخذ منشفة واتّزر بها، ثم صبّ ماءً في مغسل وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة التي كان متزراً بها.. فلما كان قد غسل أرجلهم وأخذ ثيابه واتكأ أيضاً قال لهم: أتفهمون ما قد صنعتُ بكم؟.. فإن كنتُ وأنا السيد والمعلّم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض» (يوحنا 13: 1، 3-5، 12، 14).

فلنتضع أمامه لأننا لن ننسى اتضاعه، لأنه ترك لنا مثالاً لكي نتَّبع خطواته (1بطرس 2: 21).

أولاً - مساوئ رفع النفس

  1. تحذيرات الوحي من رفع النفس: رفع النفس كبرياءً وتعظُّماً خطية كبيرة، حذرنا المسيح منها بقوله: «تحرَّزوا من الكتبة الذين يرغبون المشي بالطيالسة، والتحيات في الأسواق، والمجالس الأولى في المجامع، والمتكآت الأولى في الولائم» (مرقس 12: 38، 39). ومع أن الكتبة كانوا أساتذة الشريعة ومفسِّريها إلا أنهم رفعوا نفوسهم، وأرادوا أن يحتلوا المراكز الأولى، وأطالوا صلواتهم أمام الناس ليُظهِروا تقواهم فينالون المديح، فقال المسيح لهم: «ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، لأنكم تأكلون بيوت الأرامل، ولعلَّة تطيلون صلواتكم. لذلك تأخذون دينونة أعظم» (متى 23: 14).

    كانت خطية الكبرياء سبب سقوط أبوينا الأولين، إذ عصيا الرب وأطاعا نصيحة الحية التي قالت لهما: «يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما، وتكونان كالله عارفين الخير والشر» (تكوين 3: 5). ولهذا حذَّرنا الوحي بالقول: «هكذا قال العليُّ المرتفع، ساكن الأبد، القدوس اسمه: في الموضع المرتفع المقدس أسكن، ومع المنسحق والمتواضع الروح، لأحيي روح المتواضعين، ولأحيي قلب المنسحقين» (إشعياء 57: 15)، فقلب الرب القدوس، صاحب المكان العالي، نحو المسكين بالروح ليحييه، ونحو المتواضع ليرفعه، و «طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات» (متى 5: 3). أما عن المتكبر فيقول المرنم: «مستكبر العين ومنتفخ القلب لا أحتمله.. لأن الرب عالٍ ويرى المتواضع، وأما المتكبر فيعرفه من بعيد» (مزمور 101: 5، 138: 6)، لأنّ رائحة كبريائه تزكم الأنوف! لهذا قال المسيح: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه.. ويتبعني» (لوقا 9: 23).

    ولإمام الحكماء أقوال عظيمة عن خطورة الكبرياء، منها: «أبغضتُ الكبرياءَ، والتعظُّمَ، وطريقَ الشر، وفمَ الأكاذيب» (أمثال 8: 13) و «تأتي الكبرياء فيأتي الهوان، ومع المتواضعين حكمة» (أمثال 11: 2) و «الخصام إنما يصير بالكبرياء» (أمثال 13: 10) و «الرب يقلع بيت المتكبرين» (أمثال 15: 25) و «قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح» (أمثال 16: 18) و «أرأيت رجلاً حكيماً في عيني نفسه؟ الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء به!» (أمثال 26: 12). و «كبرياء الإنسان تضعه، والوضيع الروح ينال مجداً» (أمثال 29: 23).

  2. رفع النفس يضع النفس: الذي يرفع نفسه يعطيها مكاناً ليس من حقها، لأن الرفعة لله وحده. وقد صوَّر الواعظ الشهير «بل برايت» الكبرياء بأنها وضع الذات على عرش القلب، بينما المسيح على الصليب. وصوَّر التواضع بأنه المسيح يتربَّع على عرش القلب، بينما الذات على الصليب. فإن الكبرياء تقطع صلة المتكبر بالله وتجلب عليه تأديبه «فإن لرب الجنود يوماً على كل متعظم وعالٍ وعلى كل مرتفع فيوضع» (إشعياء 2: 12). ويستجيب الله ما طلبه أيوب: «انظر إلى كل متعظم وذلّله، ودُس الأشرار في مكانهم» (أيوب 40: 12).

ومن مشكلات المتكبِّر أنه يحب الذين يرضونه ويمدحونه ويتوافقون معه، ويُعرِض عمَّن يعارضونه أو يقدمون له النصيحة، فالكبرياء غرور وسوء تقييم للنفس.. يعطي الربُّ الإنسانَ نجاحاً فينسى صاحب الفضل، ويعزو النجاح لذكائه وقدراته ومواهبه الطبيعية. ولكن عندما تأتي ساعة التجربة يدرك المتكبر من هو المعطي الجواد.

ورفع النفس أسرع طريق لضعة النفس والأسرة، فإذا تكبَّر أحد الزوجين على شريك الحياة وافتخر بماله أو جاهه، فإنه يُضعِف المحبة في شريكه أو يقتلها، ويفرِّق أبناءه عن طاعته وطلب مشورته، ويجلب النكد على أسرته.

كما أن رفع النفس يؤدي إلى انهيار الممالك وسقوط الحكام. قال فرعون: «من هو الرب حتى أسمع لقوله فأطلق إسرائيل؟ لا أعرف الربَّ، وإسرائيل لا أطلقه» (خروج 5: 2) فحلَّت الكوارث بالمصريين، ومات بكر فرعون، وغرق جيشه فلم يبق منهم واحد (خروج 14).

وعندما انتصر بنو إسرائيل على أريحا ارتفعوا في نظر أنفسهم، ونتيجة لاستكبارهم ذهبوا ليهاجموا مدينة عاي وقالوا لقائدهم يشوع: «لا يصعد كل الشعب، بل يصعد نحو ألفي رجل أو ثلاثة آلاف رجل ويضربوا عاي. لا تكلِّف كل الشعب إلى هناك، لأنهم (أهل عاي) قليلون». فصعد من الشعب إلى هناك نحو ثلاثة آلاف رجل، فهزمهم أهلُ عاي (يشوع 7: 3، 4). فاتَّضعوا لأنهم ارتفعوا في نظر أنفسهم!

وهذا ما جرى لنبوخذنصر الذي قال: «أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها بقوة اقتداري ولجلال مجدي؟» فأزال الرب المُلك عنه، وطُرد من بين الناس وأكل العشب مع الحيوان، حتى تعلم أن «العليَّ» متسلطٌ في مملكة الناس، يعطيها من يشاء. وأدرك قوة الرب وعظمته ورحمته، فقال: «أنا نبوخذنصر رفعتُ عينيَّ إلى السماء، فرجع إليَّ عقلي وباركت العلي وسبحت وحمدت الحيَّ إلى الأبد، الذي سلطانه سلطان أبدي وملكوته إلى دور فدور.. وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض.. فالآن.. أسبِّح وأعظم وأحمد ملك السماء، الذي كل أعماله حق وطرقه عدل، ومن يسلك بالكبرياء فهو قادر على أن يذله» (دانيال 4: 28-37).

وقد هلك الملك هيرودس الذي في يوم معيَّن، لعله عيد ميلاده، لبس الحلة الملوكية وجلس على كرسي المُلك يخاطب الشعب. فصرخوا: «هذا صوت إله لا صوت إنسان! ففي الحال ضربه ملاك الرب لأنه لم يعطِ المجد لله، فصار يأكله الدود ومات» (أعمال 12: 21، 22).

ثانياً - بركات وضع النفس

كل من يضع نفسه ويأخذ الموضع الأخير ينال الرفعة، ويُقال له: «يا صديق، ارتفع إلى فوق!.. لأن كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع». وما أجمل الوصية: «أن لا يرتئيَ (الإنسان) فوق ما ينبغي أن يرتئيَ، بل يرتئي إلى التعقُّل، كما قسم الله لكل واحد مقداراً من الإيمان» (رومية 12: 3). «فإنك حينئذ تتلذَّذ بالرب، وأُركِّبك على مرتفعات الأرض» (إشعياء 58: 14).

  1. نصائح الوحي بوضع النفس: يقدم الوحي المقدس لنا المسيح نموذجاً في التواضع الذي يرفع صاحبه، فقد دخل وهو الملك عالمنا مولوداً من عذراء فقيرة في مذود، إذ لم يكن له موضع في المنزل، وبذل نفسه لأجلنا على الصليب مسحوقاً لأجل معاصينا، فجعلنا نطيع قوله: «تعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم» (متى 11: 29)، ونجتهد أن نطبِّق النصيحة الرسولية: «لكم محبة واحدة بنفس واحدة، مفتكرين شيئاً واحداً، لا شيئاً بتحزُّبٍ أو بعُجب، بل بتواضع، حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم. لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه، بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضاً. فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً، الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً في شِبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب. لذلك رفَّعه الله أيضاً، وأعطاه اسماً فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب» (فيلبي 2: 2-11).

  2. ما يساعدنا على وضع النفس: يساعدنا تقييمنا الواقعي لنفوسنا على التواضع، لأن الإنسان يميل إلى تقييم ذاته بأفضل مما هي عليه، وقد يكون في هذا التقييم الخاطئ مخلصاً أشد الإخلاص، كما قال بطرس للمسيح: «وإن شكَّ فيك الجميع فأنا لا أشكُّ أبداً» مع أن المسيح سبق وقال: «كلكم تشكون فيَّ في هذه الليلة، لأنه مكتوب: أني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية» (متى 26: 31، 33). ومع أننا نجد الكثيرين يقيِّمون ذواتهم تقييماً عالياً لا يتفق مع الواقع، إلا أننا نجد البعض يُنقِص من قدر نفسه فيعذبه الإحساس بالدونية. وما أقل من يقيِّمون نفوسهم تقييماً صحيحاً.

ولا يمكن أن يكون الإنسان متواضعاً إلا إن كان عظيماً حقاً. فالكبرياء تعبير النفس التي تخشى عدم احترام الآخرين، والتي لا تقدِّر نفسها، فتريد أن تفرض نفسها على المحيطين بها. ولكن لو عرف المؤمن أنه ملح الأرض، وأنه نور للعالم، لامتلأت نفسه بالإحساس بالقيمة التي تعلِّمه التواضع. ولا يوجد من يستحق أن يكون عظيماً إلا الذي فتح قلبه للمسيح فأصبح هيكلاً للروح القدس، ينتمي للرب الذي دُعي اسمه عليه، فالرب دائماً يميِّز تقيَّه (مزمور 4: 3).

وأذكر ثلاثة عوامل مساعدة تعيننا لنتواضع:

  1. نقيِّم أصلنا: يجيء البشر من خلفيات مختلفة، وينشأون في عائلات غنية أو فقيرة، متعلمة أو بسيطة، فهُم يختلفون في مراكزهم الاقتصادية والعلمية. لكنهم جميعاً يتشابهون في أنهم تراب، وإلى تراب يعودون، فقد جبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حيَّة (تكوين 2: 7 و3: 19). وعند الموت «يرجع التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها» (جامعة 12: 7). وقد قال المرنم: «لأنه يعرف جبلتنا. يذكر أننا تراب نحن. الإنسان مثل العشب أيامه. كزهر الحقل كذلك يزهر. لأن ريحاً تعبر عليه فلا يكون، ولا يعرفه موضعه بعد» (مزمور 103: 14-16). فلنذكر أصلنا لنتواضع!

  2. نقيِّم ما عندنا: عائلة وعِلم ومواهب ومال، وكلها من عطايا الله لنا «لأنه من يميِّزك؟ وأي شيء لك لم تأخذه؟ وإن كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟» (1كورنثوس 4: 7). ولنسمع تقييم الرسول بولس للمؤمنين: «فانظروا دعوتكم أيها الإخوة: أن ليس كثيرون حكماء حسب الجسد، ليس كثيرون أقوياء، ليس كثيرون شرفاء. بل اختار الله جُهّال العالم ليُخزي الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليُخزي الأقوياء.. لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه.. حتى كما هو مكتوب من افتخر فليفتخر بالرب» (1كورنثوس 1: 26-31).

  3. نقيِّم حالنا الروحي: يظن كثيرون أنهم يؤدون كل الطقوس الدينية الواجبة، مثل الشاب الغني الذي سأل المسيح: «أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟» فأجابه: «أنت تعرف الوصايا». فقال له: «يا معلم هذه كلها حفظتها منذ حداثتي!» ولكنه عند الامتحان اغتمَّ من أوامر المسيح ومضى حزيناً! (مرقس 10: 17-22). ويرجع سبب هذا الغم إلى تقييم النفس تقييماً روحياً خاطئاً.

فلنحترس من أن نقيس قامتنا الروحية بالتقييم المبالغ فيه لأنفسنا، أو بالبشر الناقصين مثلنا. ولنسعَ للنمو في النعمة «إلى أن ننتهي جميعنا إلى قياس قامة ملء المسيح» (أفسس 4: 13) الذي قال: «متى فعلتم كل ما أُمرتم به، فقولوا: إننا عبيدٌ بطالون، لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا» (لوقا 17: 10). فعلى كل من يحتل مركزاً قيادياً في الكنيسة أن يقول إنه «عبدٌ بطال»، وهكذا يجب أن يقول كل الأعضاء البارزين والمترددين على الكنائس، لأننا نعرف أنه «لا فرق، إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبرِّرين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح» (رومية 3: 22-24). ولنقُل دائماً إننا خطاة مخلَّصون بالنعمة.

سؤالان

  1. لماذا يقيِّم معظم الناس نفوسهم بأعظم من واقعهم؟

  2. اذكر ثلاثة أمور تساعد الإنسان أن يضع نفسه.

3 - ضرورة الغفران مثل العبد الذي لم يرحم

تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بُطْرُسُ وَقَالَ: يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لا أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ. لِذَلِكَ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً أَرَادَ أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ. فَلَمَّا ابْتَدَأَ فِي الْمُحَاسَبَةِ قُدِّمَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ مَدْيُونٌ بِعَشْرَةِ آلافِ وَزْنَةٍ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوفِي أَمَرَ سَيِّدُهُ أَنْ يُبَاعَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَأَوْلادُهُ وَكُلُّ مَا لَهُ وَيُوفَى الدَّيْنُ. فَخَرَّ الْعَبْدُ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. فَتَحَنَّنَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ وَتَرَكَ لَهُ الدَّيْنَ. وَلَمَّا خَرَجَ ذَلِكَ الْعَبْدُ وَجَدَ وَاحِداً مِنَ الْعَبِيدِ رُفَقَائِهِ كَانَ مَدْيُوناً لَهُ بِمِئَةِ دِينَارٍ، فَأَمْسَكَهُ وَأَخَذَ بِعُنُقِهِ قَائِلاً: أَوْفِنِي مَا لِي عَلَيْكَ. فَخَرَّ الْعَبْدُ رَفِيقُهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ قَائِلاً: تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. فَلَمْ يُرِدْ بَلْ مَضَى وَأَلْقَاهُ فِي سِجْنٍ حَتَّى يُوفِيَ الدَّيْنَ. فَلَمَّا رَأَى الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُ مَا كَانَ حَزِنُوا جِدّاً. وَأَتَوْا وَقَصُّوا عَلَى سَيِّدِهِمْ كُلَّ مَا جَرَى. فَدَعَاهُ حِينَئِذٍ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ كُلُّ ذَلِكَ الدَّيْنِ تَرَكْتُهُ لَكَ لأَنَّكَ طَلَبْتَ إِلَيَّ، أَفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّكَ أَنْتَ أَيْضاً تَرْحَمُ الْعَبْدَ رَفِيقَكَ كَمَا رَحِمْتُكَ أَنَا؟. وَغَضِبَ سَيِّدُهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُعَذِّبِينَ حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ. فَهَكَذَا أَبِي السَّمَاوِيُّ يَفْعَلُ بِكُمْ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مِنْ قُلُوبِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ لأَخِيهِ زَلاتِهِ (متى 18: 21-35).

مناسبة رواية المثل:

روى المسيح هذا المثَل بمناسبة سؤال أثاره بطرس بعد أن سمع تعليماً عميقاً عن الغفران، قال فيه المسيح: «إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما. إن سمع منك فقد ربحت أخاك. وإن لم يسمع فخُذ معك أيضاً واحداً أو اثنين، لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة. وإن لم يسمع منهم فقُل للكنيسة. وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار» (متى 18: 15-17). فسأل بطرس: «كم مرة يخطئ إليَّ أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرات؟».

ولعل عدة أفكار كانت تجول في فكر بطرس وهو يثير السؤال، ربما كان أولها التعليم الذي سبق أن سمعه من المسيح: «إن أخطأ إليك أخوك فوبِّخه. وإن تاب فاغفر له. وإن أخطأ إليك سبع مرات في اليوم، ورجع إليك سبع مرات في اليوم قائلاً: أنا تائب، فاغفر له» (لوقا 17: 3، 4) فسأل عن عدد مرات الغفران.. وربما كان يفكر في تعليم رجال الدين اليهود الذين قالوا إن الحد الأقصى لمرات الغفران هو ثلاث، اعتماداً على قول أليهو: «هوذا كل هذه يفعلها الله مرتين وثلاثاً بالإنسان ليردَّ نفسه من الحفرة، ليستنير بنور الأحياء» (أيوب 33: 29، 30). فضرب بطرس الثلاثة في اثنين وأضاف واحداً، جاعلاً الحدَّ الأقصى لعدد مرات الغفران سبعاً.. وربما كان يفكر في كلمات الرب على فم النبي عاموس: «من أجل ذنوب .. الثلاثة والأربعة» وقد تكرر هذا التعبير ثماني مرات في الأصحاحين الأول والثاني من نبوَّة عاموس. فجمع بطرس الثلاثة والأربعة، جاعلاً الحدَّ الأقصى لعدد مرات الغفران سبعاً.. أو ربما كان بطرس متأثراً بأن السبعة عدد مقدس، فظنَّ الحدَّ الأقصى لعدد مرات الغفران سبعاً.

وكان جواب المسيح على تساؤل بطرس: «لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات». ولم يقصد المسيح بهذه الإجابة تحديد رقم 490، بل قصد إطلاق الغفران بدون حدود كما أن الله يغفر بلا حدود، لأن الذي يحاول أن يحصي أخطاء شخص حتى 490 مرة يناله التعب والملل، فيتوقف، ويحوِّل تفكيره من إحصاء السلبيات إلى الغفران والمسامحة. ثم روى المسيح هذا المثل لبطرس ولنا.

شخصيات المثل:

نلتقي في هذا المثل بثلاث شخصيات رئيسية: الأولى شخصية الملك الذي أقرض أحد وزرائه مبلغاً كبيراً جداً، لا بد أنه اتفق معه على استثماره ليعود عليه بالربح.. والشخصية الثانية هي شخصية الوزير الطموح الذي لا بد عمل دراسة جدوى لمشروع عظيم، وجد نفسه عاجزاً عن تدبير المال اللازم له، فطلب من الملك الذي أقرضه عشرة آلاف وزنة. ولكن مشروع الوزير لم ينجح، فخسر أموال الملك وعجز عن السداد، فسامحه الملك.. والشخصية الثالثة لرفيق الوزير الذي كان مديوناً له بدَيْنٍ بسيط عجز أيضاً عن الوفاء به، فغضب الوزير الدائن على رفيقه المدين، وأمر ببيعه هو وامرأته وأولاده وكل ما يمتلك ليسدد الدين الصغير!

ويقدم المثَل لنا أيضاً مجموعةً من الزملاء الذين كانوا يشاهدون هذه الأحداث، منذهلين من كرم الملك ورحمته مع الوزير المديون، وحزانى على قرار بيع الرفيق العاجز عن السداد، فرفعوا الأمر كله للملك، الذي قال قولته العظيمة: «أيها العبد الشرير، كل ذلك الدَّين تركته لك لأنك طلبت إليَّ! أفما كان ينبغي أنك أنت أيضاً ترحم العبد رفيقك كما رحمتك أنا؟». ثم أمر بتوقيع العقاب على الوزير الذي لم يرحم.

ولنا في هذا المثل ثلاثة دروس:

أولاً - إفلاسنا الروحي

هذا ملكٌ عظيم أعطى الوزير مبلغاً، تظهر ضخامته لو عرفنا أن قيمة الضرائب السنوية التي تدفعها أقاليم اليهودية، وأدوم، والسامرة، والجليل، وبيرية، مجتمعةً معاً كانت 800 وزنة، أي أقل من عُشر دين الوزير. ولو تذكرنا أن كل الذهب المستخدم في عمل التابوت كان أقل من 30 وزنة (خروج 38: 24). أما ملكة سبا فقد قدمت هدية كبيرة لسليمان بلغت 120 وزنة (1ملوك 10: 10). واستأجر أمصيا ملك يهوذا من يوآش ملك إسرائيل مئة ألف جندي مدرَّب، وُصفوا بأنهم «جبارو بأس» مقابل مئة وزنة فضة (2أيام 25: 6).

وتتضح عظمة الدَّين أيضاً من القول إنه إذا حمل الرجل 60 رطلاً من الذهب، فسنحتاج إلى 8600 رجلاً ليحملوا العشرة آلاف وزنة! بينما يحمل رجل واحد مئة دينار في جيبه، فالدينار أجر عامل في اليوم.

لقد كان الملك سخياً في عطائه، كريماً في معاملاته مع وزيره، فلم يمسك ماله عنه ولم يطلب منه ضماناً لأنه عبده الذي يثق فيه، فأعطاه الفرصة أن يستثمر ويربح لنفسه وعائلته، ويحقق منفعة لمن يعملون في مشروعه وللمجتمع الذي يعيش فيه. لكن الوزير لم ينجح، ولم يحقق وعوده للملك، وعجز عن الوفاء حتى بأصل الدين! فكان للملك أن يأمر بسجنه أو يسامحه. وسجد الرجل وطلب مهلة للسداد. ورأى الملك عجز وزيره، فرحمه وأطلقه حراً.

وقد روى المسيح هذا المثل ليعلمنا عظمة عطاء الله لنا، فهو «الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها.. وهو يفعل خيراً: يعطينا من السماء أمطاراً وأزمنةً مثمرة، ويملأ قلوبنا طعاماً وسروراً» (أعمال 14: 15، 17). هذا الإله الكريم جهَّز لأبوينا الأوَّلين قبل خلقهما جنة عدن، التي تفوق قيمتها عشرة آلاف وزنة، فقد أعطاهما كل شجر الجنة، ومنحهما سلطاناً مطلقاً على كل الحيوانات والطيور، ووهبهما حياة الراحة والسلام. ولم يمنع عنهما سوى شجرة واحدة. ولكنهما عصيا ربهما فصارا مديونين عريانين عاجزين عن إرضاء ربهما! وسقط آدم فسقطت ذريته، وطُردوا من الجنة بعضهم لبعضٍ عدو!

ومن منّا لم يؤتَ من ربِّه وزنات رائعة؟ لقد وهبنا جسداً ونفساً وروحاً، وعائلة تعتني بنا، ووفَّر لنا تعليماً، ووظيفة أو مهنة أو تجارة. ولو أننا حاولنا أن نحصي نِعم الرب علينا لعجزنا، فهي أكثر مما نفتكر وأعظم من أن تُشترى بمال! لكن ما أصدق القول: «ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثُر في الأرض، وأن كل تصوُّر أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم» (تكوين 6: 5) فأمر بالطوفان، وقال بعده: «تصوُّر قلب الإنسان شرير منذ حداثته» (تكوين 8: 21). وقال الحكيم سليمان في صلاته وهو يدشِّن الهيكل الأول: «لأنه ليس إنسانٌ لا يخطئ» (1ملوك 8: 46). وقال المرنم: «إن كنت تراقب الآثام يا رب يا سيد، فمن يقف؟» (مزمور 130: 3). وقال الجامعة: «لأنه لا إنسان صِدّيق في الأرض يعمل صلاحاً ولا يخطئ» (جامعة 7: 20). وقال الرسول يوحنا: «إن قلنا إنه ليس لنا خطية نُضل أنفسَنا وليس الحقُّ فينا» (1يوحنا 1: 8).

وكل من يكتشف في نفسه هذا الإفلاس الروحي، يجب أن يعترف بخطاياه تائباً مصلّياً «اللهم، ارحمني أنا الخاطي» (لوقا 18: 13)، ثم يكون رحيماً بالخطائين.

ثانياً - عظمة المراحم الإلهية

وقف الوزير أمام الملك مفلساً من المال، ذليلاً تملأه مشاعر الخزي بسبب فشله وعجزه، منتظراً وقوع العقاب. وفي خوف شديد استعطف الملك أن يمهله حتى يوفي الدين الكبير، ووعد أن يظل ملتزماً بسداده، مع أنه لو بيع هو وامرأته وأولاده وكل ما يملكه لما تمكَّن من الوفاء. كان يعلم أنه يستحق أن يُقال له ما قيل للملك بيلشاصر: «منا منا، تَقَيْلُ وفَرْسِينُ. وهذا تفسير الكلام: منا: أحصى الله ملكوتك وأنهاه. تَقَيْلُ: وُزنت بالموازين فوُجدت ناقصاً. فَرْسِ: قُسمت مملكتك وأُعطيت لمادي وفارس» (دانيال 5: 25، 26). ولكنه لجأ إلى مراحم الملك، وكأنه يقول: يا سيدي، إن ذنبي عظيم لكن إمهالك أعظم!

وقد ظهرت عظمة رحمة الملك، وتفوَّقت على القصاص، إذ تحنن على المديون، ولم يكتفِ بأن يعطيه مهلةً، بل منحه عفواً شاملاً! ويعلمنا هذا المثَل أننا كلنا أخطأنا وعوَّجنا المستقيم وارتكبنا الشر في عيني الله، فتضخَّمت ديوننا، وحقَّ علينا حكم الموت. وإذ لم يكن لنا ما نوفي به تنازل مالك نفوسنا وسيدنا وسامحنا، فيُقال لنا: «إذ كنتم أمواتاً في الخطايا وغلف جسدكم أحياكم معه، مسامحاً لكم بجميع الخطايا، إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض، الذي كان ضداً لنا، وقد رفعه من الوسط مسمِّراً إياه بالصليب» (كولوسي 2: 13، 14).. لقد «كنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين أيضاً. الله الذي هو غني في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها، ونحن أموات بالخطايا، أحيانا مع المسيح.. وأقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع.. لأنكم بالنعمة مخلَّصون بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطية الله. ليس من أعمال كي لا يفتخر أحد» (أفسس 2: 3-9). فيحقَّ أن نقول مع المرنم: «ما أكرم رحمتك يا الله، فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون» (مزمور 36: 7).

لقد أظهر الرب لنا عظمة مراحمه، فإنه «رحيم ورؤوف، طويل الروح وكثير الرحمة.. مثل ارتفاع السماوات فوق الأرض قويت رحمته على خائفيه.. كما يترأف الأب على البنين يترأف الرب على خائفيه. لأنه يعرف جبلتنا. يذكر أننا تراب نحن» (مزمور 103: 8، 11، 13، 14). ورحمته بلا حدود، فقال المرنم له: «رحمتك قد عظمت فوق السماوات، والى الغمام حقك.. رحمتك يا رب قد ملأت الأرض» (مزمور 108: 4، 119: 64). وقال النبي إرميا إنه لولا هذه الرحمة ما كانت لنا حياة، فإنه «من إحسانات الرب أننا لم نفنَ، لأن مراحمه لا تزول» (مراثي 3: 22).

هذه الرحمة تشجعنا لنتوب، طاعةً لنداء الوحي: «مزِّقوا قلوبكم لا ثيابكم، وارجعوا إلى الرب إلهكم لأنه رؤوف رحيم، بطيء الغضب وكثير الرأفة» (يوئيل 2: 13) فيغفر الخطايا فنقول له: «من هو إلهٌ مثلك، غافر الإثم وصافحٌ عن الذنب.. لا يحفظ إلى الأبد غضبه، فإنه يُسرّ بالرأفة» (ميخا 7: 18). لقد كانت رحمة الله مستعدةً أن تعفو عن سدوم وعمورة لو وُجد فيها خمسون باراً (تكوين 18: 26)، وهي التي أشفقت على لوط، الذي لما توانى في الخروج من سدوم أمسك الملاكان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه «لشفقة الرب عليه، وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة» (تكوين 19: 16). وقد عرف عزرا هذه الرحمة فقال لله: «لأنك قد جازيتنا يا إلهنا أقلَّ من آثامنا، وأعطيتنا نجاةً» (عزرا 9: 13) وقال نحميا عن شعبه: «أبوا الاستماع، ولم يذكروا عجائبك التي صنعت معهم، وصلّبوا رقابهم.. وأنت إله غفور وحنان ورحيم، طويل الروح وكثير الرحمة، فلم تتركهم.. لأجل مراحمك الكثيرة لم تُفنِهم ولم تتركهم، لأنك إله حنّان ورحيم» (نحميا 9: 17، 31). إنها الرحمة التي تجعل خلاصنا ممكناً، لأن خلاصنا «لا بأعمال في برٍّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس» (تيطس 3: 5).

وقد تبدَّت هذه الرحمة واضحة كالشمس في مجيء المسيح إلى أرضنا، حيث جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلِّط عليهم إبليس (أعمال 10: 38) يشبع الجياع، ويشفي المرضى ويقيم الموتى، و «إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعيّن لأجل الفجار. فإنه بالجهد يموت أحدٌ لأجل بار. ربما لأجل الصالح يجسر أحدٌ أيضاً أن يموت. ولكن الله بيَّن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رومية 5: 6-8). وعلى صليبه صلى لأجل صالبيه: «اغفر لهم يا أبتاه، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لوقا 23: 34). فما أعظم وأروع محبته ورحمته!

ثالثاً - ضرورة الرحمة

يعلمنا هذا المثل أن غفران الله لنا يوجب علينا أن نغفر للآخرين. لقد سامح الملك وزيره ولم يعاقبه لأنه استرحمه، وكان يجب أن يسامح الوزير رفيقه المديون له كما سامحه الملك، ولكنه لم يفعل! واستاء الحاضرون من تصرف الوزير وحزنوا جداً وأبلغوه للملك، فغضب وسلَّم وزيره إلى المعذِّبين حتى يوفي كل ما كان له عليه! وعلَّق المسيح على المثل بقوله: «فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته».

وقد علَّمنا المسيح في الصلاة الربانية أن نرفع لله ستَّ طلبات، تقول الخامسة منها: «اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا» (متى 6: 12). وكان التعليق الوحيد الذي عقَّب به المسيح على هذه الصلاة هو قوله: «فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم، يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي. وإن لم تغفروا للناس زلاتهم، لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم» (متى 6: 14، 15). فهو يمنحنا رحمة وغفراناً كلما أتينا إليه تائبين معترفين بخطايانا، فإن لم نغفر للمسيئين إلينا يوقع علينا العقاب كما فعل الملك بوزيره.

كلنا بشر خطاؤون، تزلُّ أقدامنا وتعثر في الطريق، فلنسمع النصيحة: «أيها الإخوة، إن انسبق إنسان فأُخذ في زلَّةٍ ما، فأَصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة، ناظراً إلى نفسك لئلا تُجرَّب أنت أيضاً. احملوا بعضكم أثقال بعض وهكذا تمموا ناموس المسيح. لأنه إن ظنَّ أحدٌ أنه شيء وهو ليس شيئاً، فإنه يغش نفسه» (غلاطية 6: 1-3).

إن غفرنا للمسيئين إلينا نكون قد أطعنا المسيح الذي قال: «طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون» (متى 5: 7)، و «هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم» (يوحنا 15: 12)، وعملنا بوصايا الوحي: «لا تدع الرحمة والحق يتركانك. تقلَّدهما على عنقك. اكتبهما على لوح قلبك.. الرجل الرحيم يُحسن إلى نفسه، والقاسي يكدِّر لحمه» (أمثال 3: 3، 11: 17). «قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح، وماذا يطلبه منك الرب، إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة، وتسلك متواضعاً مع إلهك» (ميخا 6: 8).. أما الذين لا يغفرون فإنهم «بلا فهم ولا عهد ولا حنو ولا رضى ولا رحمة» (رومية 1: 31).

وجدير بنا أن نتعلم الغفران من سير رجال الله، فيوسف الصدّيق باعه إخوته عبداً، فغفر لهم وملأ أوعيتهم قمحاً، ودفع ثمنه لخزينة الفرعون، وردَّ لهم فضتهم (تكوين 42: 25) ثم عرَّفهم بنفسه وقال: «أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر. والآن لا تتأسّفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا. لأنه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدّامكم.. ليجعل لكم بقية في الأرض، وليستبقي لكم نجاةً عظيمة. فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا بل الله. وهو قد جعلني أباً لفرعون وسيّداً لكل بيته ومتسلطاً على كل أرض مصر» (تكوين 45: 4، 5، 7، 8). وعندما مات يعقوب أبوه قال إخوته بعضهم لبعض: «لعل يوسف يضطهدنا ويردُّ علينا جميع الشر الذي صنعنا به» فأبلغوه وصية أبيه القائلة: «اصفح عن ذنب إخوتك وخطيتهم، فإنهم صنعوا بك شراً». ثم قالوا له: «فالآن اصفح عن ذنب عبيد إله أبيك». فبكى يوسف وقال: «لا تخافوا، لأنه هل أنا مكان الله؟ أنتم قصدتم لي شراً، أما الله فقصد به (بالشر) خيراً، لكي يفعل كما اليوم، ليحيي شعباً كثيراً. فالآن لا تخافوا. أنا أعولكم وأولادكم». فعزّاهم وطيَّب قلوبهم (تكوين 50: 15-21).

ونرى في داود صاحب المزامير نموذجاً آخر للغفران. فقد سامح شاول الذي كان مصرّاً على قتله، مع أن شاول وقع في يده مرتين: الأولى في برية عين جدي، ولم يمسه داود بأذى، ولما طلب رجال داود منه وقتها أن يقتل شاول وبَّخهم بقوله: «حاشا لي من قِبَل الرب أن أعمل هذا الأمر بسيدي، بمسيح الرب، فأمدّ يدي إليه، لأنه مسيح الرب هو» (1صموئيل 24: 6). وكانت المرة الثانية التي غفر فيها داود لشاول في برية زيف عندما قال داود لرجاله: «حاشا لي من قِبَل الرب أن أمدَّ يدي إلى مسيح الرب» (1صموئيل 26: 11).

وفي حياة الرسول بولس مثال للغفران للإخوة الذين قصَّروا في حقِّه، فقال عنهم: «في احتجاجي الأول لم يحضر أحدٌ معي، بل الجميع تركوني. لا يُحسَب عليهم. ولكن الرب وقف معي وقواني لكي تُتمَّ بي الكرازة ويسمع جميع الأمم، فأُنقذت من فم الأسد» (2تيموثاوس 4: 16، 17).

أيها المؤمن، أنت مثل زيتونة خضراء في بيت الله (مزمور 52: 8) والزيتون إن عصرته يعطيك زيتاً. وأنت صدِّيق كالنخلة الزاهية (مزمور 92: 12) والنخلة إن ضربتها بحجر أعطتك بلحاً. فكن كالزيتونة وكالنخلة «إن جاع عدوك فأَطعمه، وإن عطش فاسقه، لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه. لا يغلبنك الشر، بل اغلب الشر بالخير» (رومية 12: 20، 21).

إن كنت تشعر بمديونيتك لله فاجتهد أن تحيا حياة الغفران. لقد وهبتك محبة الله الكثير، فامنح غيرك كما منحك، لأنك إن لم تغفر فإنك «في ما تدين غيرك تحكم على نفسك»(رومية 2: 1).

سؤالان

Q: 1 - ما هي مناسبة رواية مثَل «العبد الذي لم يرحم»؟
Q: 2 - لماذا يجب أن نغفر لمن يسيء إلينا؟

Q:

1 - ما هي مناسبة رواية مثَل «العبد الذي لم يرحم»؟

Q:

2 - لماذا يجب أن نغفر لمن يسيء إلينا؟

4 - ضرورة الأمانة

(أ) الأمانة للنفس - مثل الغني الغبي (لوقا 12: 13-21)

(ب) الأمانة للرؤساء - مثل الوكيل الظالم (لوقا 16: 1-13)

()ج) الأمانة للمحتاجين - مثل الغني ولعازر (لوقا 16: 19-31

(أ) الأمانة للنفس مثل الغني الغبي

وَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ: «َيَا مُعَلِّمُ، قُلْ لأَخِي أَنْ يُقَاسِمَنِي الْمِيرَاثَ». فَقَالَ لَهُ: «َيَا إِنْسَانُ مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِياً أَوْ مُقَسِّماً؟». وَقَالَ لَهُمُ: «انْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ الطَّمَعِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ».

وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلاً قَائِلاً: «إِنْسَانٌ غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ كُورَتُهُ، فَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قَائِلاً: مَاذَا أَعْمَلُ، لأَنْ لَيْسَ لِي مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي؟ وَقَالَ: أَعْمَلُ هَذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَلاتِي وَخَيْرَاتِي، وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي. فَقَالَ لَهُ اللَّهُ: يَا غَبِيُّ، هَذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ. فَهَذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟ هَكَذَا الَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيّاً لِلَّهِ» (لوقا 12: 13-21).

مناسبة رواية المثَل:

حدَّث المسيح تلاميذه عن عناية الرب بالبشر، الواضحة في أنه يُحصي حتى شعور رؤوسهم (لوقا 12: 7)، ثم أوضح أنهم يجب أن يقبلوا شهادة الروح القدس عن أنه «المسيا» (أي المخلِّص المنتظَر) حتى لا يجدِّفوا على الروح القدس، وهي الخطية التي لا تُغفر (لوقا 12: 10)، ثم طمأنهم بأن الروح القدس سيعلِّمهم ما يجب أن يقولوه لو ألقى الرؤساء القبض عليهم (لوقا 12: 12).

وقاطع أحد السامعين حديث المسيح بشكوى من أخيه الذي قال إنه ظلمه في تقسيم الميراث. والأغلب أن الشاكي كان الأخ الأصغر، وقد جاء يطلب الإنصاف من أخيه الأكبر. وكانت شريعة موسى تعطي الأخ الأكبر ضعف نصيب أخيه الأصغر، كما كلفت الأكبر بتوزيع الميراث (تثنية 21: 17).

ولم يذكر الشاكي أية براهين على ظلم أخيه له، كما لم يوضح مقدار الظلم الواقع عليه. وربما كانت شكواه تذمُّراً على شريعة موسى، فكان يطلب من المسيح تعليماً جديداً ينادي بالمساواة في توزيع الميراث. أو ربما كان يخشى المستقبل ويعتقد أن ميراثه سيكون سنداً له في شيخوخته.. ولا زال الناس يقلقون على احتياجاتهم المادية، مع أنّ حياة الإنسان ليست من أمواله، وقد قال المسيح: «لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون.. انظروا إلى طيور السماء. إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟» (متى 6: 25، 26).

ورفض المسيح أن يجلس مجلس القضاء، لأنه إن فعل هذا فلا بد له أن يسمع الطرفين معاً، وأن يتحقق من صدق كل ما يرويه كلٌّ منهما. ولو أنه تدخَّل ليحل هذه الشكوى قضائياً سيظنّه السامعون مثل موسى الذي حاول أن ينصف بني شعبه (خروج 2: 14)، فيتبعونه باعتباره حاكماً أرضياً، مع أنه ليس قاضياً ولا مقسِّماً، لأن مملكته ليست من هذا العالم (يوحنا 18: 36).

وكطبيب للنفوس ومخلِّص لها من الخطية عالج المسيح مشكلة الشاكي من جذورها، فقد كان إلحاح الماديات قوياً عليه حتى لم يُلقِ بالاً لسماع التعاليم الروحية، ويبدو أن هموم هذا العالم وغرور الغنى وشهوات سائر الأشياء خنقت الكلمة فيه فصارت بلا ثمر (مرقس 4: 19). فحوَّل المسيح السؤال الخاص بالماديات إلى درس روحي، لأن الشاكي تمسَّك بالمهم ونسي الأهم، وقدَّم له الحل الأمثل لمشكلته، فقد كانت العلَّة كامنة في قلبه قبل أن تكون في أخيه، فنبَّهه المسيح إلى ضرورة إصلاح القلب بتخليصه من الطمع، وأوضح له أن حياة الإنسان ليست من أمواله، وشرح له هذا كله في مثَل الغني الغبي.

أولاً - إنسان غني

في هذا المثل لم تكن مشكلة الغني في غناه، وإلا كان المسيح يذكر هذا. والواضح أنه إنسان شريف لم يغتنِ بالظلم ولا السرقة ولا الاستغلال، كما أنه كان حصيفاً ذكياً في أمور دنياه، لديه نظام إداري ناجح، وقد اغتنى بحُسن استغلال أرضه الخصبة في الزراعة فأثمرت غلات وخيرات وفيرة. ودبر وخطط لمستقبله وحياته الأرضية بطموح.

ولا غبار عليه في هذا، فهناك فرق بين الطموح والطمع، فالطموح وبذل الجهد للرقي والرفعة والتقدم واجب، فقد جاء المسيح ليعطينا الحياة الفضلى (يوحنا 10: 10)، وقال الحكيم: «أرأيت رجلاً مجتهداً في عمله؟ أمام الملوك يقف، ولا يقف أمام الرعاع» (أمثال 22: 29)، وقال: «كل ما تجده يدك لتفعله، فافعله بقوَّتك» (جامعة 9: 10).. ولكن الطمع خطية، لأن الطمّاع قد يشتهي ما عند الغير أو يشتهي المزيد من المال والممتلكات. و «من يحب الفضة لا يشبع من الفضة، ومن يحب الثروة لا يشبع من دَخْل» (جامعة 5: 10). ولهذا قال: «لا تتعب لكي تصير غنياً. كُفَّ عن فطنتك. هل تطيّر عينيك نحوه (الغِنى) وليس هو؟ لأنه إنما يصنع لنفسه أجنحةً. كالنسر يطير نحو السماء» (أمثال 23: 4، 5).

وهناك فرق بين المال وحب المال، فالمال خادم صالح لكنه سيد شرير، وحياة الإنسان ليست من أمواله. المال في ذاته صالح، ولكن الصواب أو الخطأ هو في استخدامه، فيمكن أن يكون مصدر بركة للمعطي وللآخِذ، لو أننا خدمنا به الله والناس. وكم في الأغنياء من صالحين حكماء، مثل إبراهيم الخليل الذي قال له الله: «أجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظّم اسمك، وتكون بركة» (تكوين 12: 2).. ومثل إسحاق الذي قيل عنه: «وزرع إسحاق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مئة ضعف، وباركه الرب» (تكوين 26: 12).. ومثل يعقوب أب الأسباط الذي أكرمه الله فقال: «صغيرٌ أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعتَ إلى عبدك، فإني بعصاي عبرتُ هذا الأردن، والآن قد صرتُ جيشين» (تكوين 32: 10).

أما المشكلة فهي في «محبة المال» لأنها «أصلٌ لكل الشرور، الذي إذِ ابتغاه قومٌ ضلّوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاعٍ كثيرة» (1تيموثاوس 6: 10). فمحبة المال تصرف القلب عن محبة الله، إذ يصبح المال إلهاً لمن يحبه، وقد قال المسيح: «لا يقدر أحدٌ أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال» (متى 6: 24). وتقود محبة المال إلى الطمع في المزيد منه.

ثانياً - إنسان غبي

رأى الغني نفسه في هذا المثل ذكياً، لكن المسيح دعاه «غبياً» لأن ذكاءه انحصر في التفكير في حياته الحاضرة فحسب، مع أن كل إنسان مجرد نفخة (مزمور 39: 5)، ولأنه انشغل بقوت الجسد فقط، مع أن المسيح يقول: «اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة الأبدية» (يوحنا 6: 27).

والأغنياء الأغبياء كثيرون، لأنهم يحبون المال ويضعونه قبل المبادئ، فيربحونه بالغش، وينفقونه في الحرام أو بالإسراف، مع أنهم يرون الناس من حولهم جياعاً، أو أنهم يحتفظون به في خزائنهم يتعبَّدون له.. من هؤلاء الأغبياء «بلعام» الذي طمع في الأجر الكبير بالرغم من العصيان، فوُصف بأنه «أحبَّ أجرة الإثم» (عدد 22-24 و2بطرس 2: 15).. ومنهم «عخان» الذي خان وسرق وأخذ من الحرام فجلب الهزيمة على شعبه (يشوع 7: 1).. ومنهم جيحزي الذي طلب ثمناً للخدمة المجانية التي قدَّمها النبي أليشع، وكذب على النبي وعلى نعمان السرياني، فضربه الله بالبرص (2ملوك 5: 25-27).. ومنهم يهوذا الإسخريوطي الذي باع سيده بثلاثين قطعة من الفضة (متى 26: 14، 15).. ومنهم حنانيا وسفيرة اللذين خسرا حياتيهما بسبب طمعهما في الشهرة وفي المال في وقت واحد (أعمال 5: 1-11).

ولا زال الناس يضعون المهم قبل الأهم، فيكبِّرون قيمة الماديات ويستهينون بالروحيات، ويحتاجون إلى طاعة القول: «أوصِ الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا، ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغِنى (أي الغِنى الزائل)، بل على الله الحي، الذي يمنحنا كل شيء بغِنى للتمتُّع، وأن يصنعوا صلاحاً وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة، وأن يكونوا أسخياء في العطاء، كرماء في التوزيع، مدَّخرين لأنفسهم أساساً حسناً للمستقبل، لكي يمسكوا بالحياة الأبدية» (1تيموثاوس 6: 17-19).

فلماذا دعا المسيح هذا الغني «غبياً»؟

  1. لأنه تغافل الله مصدر ثروته: لم يذكر الله ولم يشكره، واعتبر المحاصيل التي منحها الله له «أثماره» هو. كان يبذر البذار الذي يرويه مطر السماء فينمو، بينما ينام هو ثم يصحو ولا يعرف كيف حدث النمو! ولكنه لم يُرجِع الفضل لصاحب الفضل، مع أن كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق، نازلة من عند أبي الأنوار (يعقوب 1: 17) «الذي خلق العالم وكل ما فيه، هذا إذ هو رب السماء والأرض.. هو يعطي الجميع حياةً ونفساً وكل شيء» (أعمال 17: 24، 25).

  2. لأنه أساء تقدير قيمة نفسه الخالدة: في غمرة انشغاله بالحياة الحاضرة نسي الحياة الآخِرة، فوقف فقيراً أمام العرش الإلهي. كان كل تركيزه على الماديات، وفي غمرة انشغاله بأرضه التي أخصبت نسي روحه التي أجدبت. لم يلتفت إلا إلى مسراته من أكل وشرب وراحة، وجعل نفسه مركز الكون، فقال: «أثماري.. مخازني.. أبني.. أجمع.. غلاتي.. خيراتي.. أقول لنفسي.. استريحي، وكُلي، واشربي، وافرحي». لئن كان للفقر ضحايا، فإن للغِنى ضحايا أكثر. لقد أخطأ لأنه لم يهتم بأمور حياته الأبدية الباقية، ونسي أن حياته الأرضية فانية. فكَّر طويلاً في حاجاته الجسدية ونسي احتياجاته الروحية، فكانت مخازنه موضع اهتمامه وقِبلة صلاته وغاية مراده، وظن ثروته مصدر سعادته ورفاهيته، فناجى نفسه وقال: «ماذا أعمل؟.. أهدم مخازني، وأبني أعظم منها».

    ويمكن أن يُوجَّه لهذا الغني الغبي اللوم الذي وجَّهه المسيح لملاك كنيسة لاودكية: «لأنك تقول: إني أنا غني، وقد استغنيتُ، ولا حاجة لي إلى شيء. ولستَ تعلم أنك أنت الشقي والبائس، وفقير وأعمى وعريان» (رؤيا 3: 17). فقد قيَّم نفسه بقوله: «يا نفسُ، لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة. استريحي وكلي واشربي وافرحي»، لكن الله قيَّمه بالقول: «يا غبي، الليلة تُطلب نفسك منك، فهذه التي أعددتها، لمن تكون؟».

    ظن ذلك الغني أن الماديات تغنيه، فلم يفكر في إغناء نفسه الخالدة. وقدَّر قيمته بما كسبه من مال، فباع نفسه للغِنى، بينما قيمة نفسه الحقيقية هي أن يكون غنياً لله، يحيا له هنا، يمارس الفضائل، فينعم بالخلود هناك. فإنه «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان» (تثنية 8: 3). «إن زاد الغِنى فلا تضعوا عليه قلباً» (مزمور 62: 10) «لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟» (متى 16: 26).

  3. لأنه أساء مكان الاحتفاظ بثروته: قال: «أهدم مخازني وأبني أعظم» فكان كنزه في مخازنه الحجرية. عندما مات تساءل الناس: كم ترك؟ ولم يتساءلوا كم أخذ معه، ولكن السماء قالت: لقد ترك كل شيء، لأنه لم يشارك غيره في ما منحه الله له. صدَق أيوب، أعظم كل بني المشرق في زمانه وهو يقول: «عرياناً خرجت من بطن أمي، وعرياناً أعود إلى هناك» (أيوب 1: 21). أما الغني الغبي ففي غمرة انشغاله بمخازنه نسي الدعوة الحكيمة «لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يُفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون، لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً» (متّى 6: 19-21).

    قال القديس أمبروز: «مخازنك الحقيقية هي حضن المحتاجين، وبيوت الأرامل، وأفواه الأيتام والصغار». كان عند الغني أكثر مما يحتاج إليه، فلم يفكر إلا في نفسه. قال الحكيم: «كرهتُ كل تعبي الذي تعبتُ فيه تحت الشمس حيث أتركه للإنسان الذي يكون بعدي. ومن يعلم هل يكون حكيماً أو جاهلاً، ويستولي على تعبي الذي تعبت فيه وأظهرت فيه حكمتي تحت الشمس؟ هذا أيضاً باطل!» (جامعة 2: 18، 19).

    لم يحسب هذا الغني حساب عشوره، فلم يفكر في حقوق الرب عليه، مع أنه قال: «هاتوا جميع العشور إلى الخزنة ليكون في بيتي طعام، وجربوني.. إن كنت لا أفتح لكم كوى السماوات وأفيض عليكم بركة حتى لا توسع، وأنتهر من أجلكم الآكل فلا يفسد لكم ثمر الأرض، ولا يعقر لكم الكرم في الحقل» (ملاخي 3: 10، 11). نسي الفقراء والجائعين ولم يقدم لهم من ماله، مع أن «من كان له معيشة العالم، ونظر أخاه محتاجاً وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه؟» (1يوحنا 3: 17).

  4. لأنه أساء تقدير مقدار سنوات عمره: كان قصير نظرٍ يظن حياته ممتدَّة بلا نهاية، فقال لنفسه: «لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة» ونسي قول الحكيم: «لا تفتخر بالغد، لأنك لا تعلم ماذا يلده اليوم» (أمثال 27: 1). ظن أنه سيعيش سنين كثيرة مع أنه لم يبقَ له إلا يوم واحد! لقد أغواه الشيطان كما أغوى أبوينا الأولين بقوله لهما: «لن تموتا»!

حذرنا الرسول يعقوب بالقول: «هلمَّ الآن أيها القائلون: نذهب اليوم أو غداً إلى هذه المدينة أو تلك، وهناك نصرف سنة ونتَّجر ونربح. أنتم الذين لا تعرفون أمر الغد. لأنه ما هي حياتكم؟ إنها بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل» (يعقوب 4: 13، 14). «إنما كخيال يتمشى الإنسان. يذخر ذخائر ولا يدري من يضمُّها» (مزمور 39: 6).

نحن نكره التفكير في الموت مع أنه نهاية كل حي، لكننا يجب أن نكون مستعدين له، بأن نكون أغنياء لله، أمناء لأنفسنا الغالية التي اشتراها المسيح بدمه.

سؤالان

  1. لماذا تظن رفع الأخ الشاكي شكواه للمسيح بخصوص الميراث؟ اذكر احتمالين.

  2. ما هو الحل الذي قدمه المسيح للأخ الشاكي؟

(ب) الأمانة للرؤساء مثل الوكيل الظالم

وَقَالَ أَيْضاً لِتَلامِيذِهِ: َانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَهُ وَكِيلٌ فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ. فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لا تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ. فَقَالَ الْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ، لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي الْوَكَالَةَ؟ لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ، وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ. قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ الْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ. فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟ فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاجْلِسْ عَاجِلاً وَاكْتُبْ خَمْسِينَ. ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاكْتُبْ ثَمَانِينَ. فَمَدَحَ السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ، لأَنَّ أَبْنَاءَ هَذَا الدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ فِي جِيلِهِمْ. وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي الْمَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ. اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضاً فِي الْكَثِيرِ، وَالظَّالِمُ فِي الْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضاً فِي الْكَثِيرِ. فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ الظُّلْمِ فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى الْحَقِّ؟ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا هُوَ لِلْغَيْرِ فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا هُوَ لَكُمْ؟ لا يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلازِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللَّهَ وَالْمَالَ (لوقا 16: 1-13).

في هذا المثل نجد شخصيتين رئيسيتين:

  1. الرجل الغني: صاحب الممتلكات الواسعة، الذي ترك قريته إلى المدينة، ووكَّل أمر إدارة أمواله إلى وكيل له، كان يثق فيه. وسمع أن وكيله «يبذِّر أمواله» وهو نفس التعبير الذي وُصف به «الابن الضال» أنه «بذَّر ماله» (لوقا 15: 13). فطلب الغني من وكيله أن يقدم له بياناً بالمبالغ التي يداين بها المزارعين، مصدَّقاً عليه من الوكيل.. فأنقص الوكيل ديون المديونين. ولما عرف الغني أن الوكيل خدعه بهذه الطريقة الذكية مدح الوكيل، لا على أخلاقه، فهو قد خانه فدعاه «وكيل الظلم»، لكنه مدح ذكاءه وحكمته. ونحن أحياناً نمدح ذكاء شحاذٍ خدعنا بقصة كاذبة، ولو أننا ندين خداعه، ونتساءل: لماذا لا يستخدم ذكاءه الذي حبك به قصةً كاذبة ليربح مالاً حلالاً؟

  2. الوكيل الظالم: الذي كان يبذِّر المال، فطلب منه الغني أن يسلِّم عهدته. وكان يجب أن يعتذر عن خيانته ويردَّ المسلوب، لكنه لم يفعل لأنه كان يطلب الأفضل لمستقبله المادي مما في العالم من مسكن ومأكل وملبس. وكان واقعياً في تقييم قدراته، فهو يعلم أنه عاجزٌ جسدياً عن أن ينقب، وعاجز اجتماعياً عن أن يستعطي ويتسوَّل. وأعمل فكره في ماذا يعمل بعد أن يُطرد؟ إلى أن وجد الحل الظالم، الذي هداه إليه تفكيره الذكي الشرير، فقرر أن يزوِّر حسابات موكِّله. وكان التزوير سهلاً لأن الأرقام وقتها كانت تُكتب بالحروف الأبجدية، ولم يكن هناك فرق كبير يميِّز الحروف الدالة على العشرات من الحروف الدالة على المئات.. فاستدعى المزارعين وأنقص قيمة ديونهم حتى يكرموه فيما بعد. كان على المديون الأول مئة بث زيت (البث مكيال للسوائل يعادل نحو تسعة جالونات، وهو نتاج 146 شجرة زيتون)، فطلب منه أن يجعلها نصف الكمية. وكان على المديون الثاني مئة كُرّ قمح (الكُر مكيال للسوائل وللحبوب، ويساوي عشرة أبثاث)، فسامحه بخُمس الدين.

  3. ونجد في المثل مجموعة المزارعين المديونين، الذين رحَّبوا بتزوير الوكيل: ولعلهم التمسوا العذر لأنفسهم في ذلك بأن حكموا أن الغني ظالم يتقاضى منهم أكثر مما يجب، فاعتبروا تغيير صكوك ديونهم إقراراً للعدالة يرد لهم بعض حقوقهم. ولعلهم شكروا الوكيل الظالم لأنه أنصفهم.

ويواجهنا هذا المثل بمشكلة هي أن المسيح يمدح المخادع الغشاش، ويدعو المؤمنين ليقتدوا به ويسيروا في خطوات غشِّه. والحقيقة هي أن المسيح لم يمدح كل تصرفات الوكيل الظالم، بل مدح حكمته فقط. فالمثل يقول: «فمدح السيد وكيل الظلم، لأنه بحكمةٍ صنع» لأن هذا الرجل استعد لما يأتي عليه في المستقبل قبل أن يُطرد من وكالته. لم يمدح المسيح غش الوكيل الظالم ولكنه مدح ذكاءه، لأنه استخدم فرصةً في متناول يده لتفيده في المستقبل الذي يجهله.

وتنحلُّ المشكلة لما ندرك أن المثَل عادةً يعلّمنا درساً رئيسياً واحداً، ويعطينا فكرة نحتذيها أو نتَّقيها، كما في مثل القاضي الظالم الذي استجاب لصراخ الأرملة المظلومة حتى لا تقمعه! (لوقا 18: 1-8). وهناك نقطة هامة جداً في تفسير الأمثال، هي أن هناك نقطة تشبيه محددة، لا نخرج عنها إلى التعميم. فمثلاً إن امتدحنا الأسد، لا نمتدح فيه الوحشية والافتراس، إنما القوة والشجاعة. وإذا شبَّهنا إنساناً بالأسد، فلا نقصد أنه حيوان من ذوات الأربع، وإنما نمتدحه على شجاعته وقوته. كذلك في مثل الوكيل الظالم، ينصبّ المديح على نقطة واحدة محددة هي الحكمة في الاستعداد للمستقبل، وليس على كل صفاته الأخرى. فنتعلَّم من مثَل الوكيل الظالم أن ذكاءنا في استخدام ما نملكه اليوم ذو أثرٍ عظيم على حالتنا المستقبلَة، وأن طريقة تصرُّفنا في ما نملكه الآن يعيِّن مصيرنا الأبدي. لهذا يجب أن نستعد ليوم الدينونة الذي سيُقال لنا فيه: «اعطِ حساب وكالتك».

وبعد أن انتهى المسيح من رواية المثل قدَّم أربعة تعليقات نتعلم منها أربعة دروس:

أولاً - أهمية الحكمة

قال المسيح تعليقاً على المثل: «أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم». وأبناء هذا الدهر هم الذين يسايرون العالم الحاضر الشرير الذي يريد الله أن ينقذنا منه (غلاطية 1: 4)، وقد ظهرت نعمته المخلِّصة لجميع الناس لتعلِّمنا أن ننكر الشهوات، ونعيش بالتقوى في هذا العالم الحاضر (تيطس 2: 12). وأبناء هذا الدهر يشبهون ديماس الذي ارتدَّ وترك خدمة الله لأنه أحبَّ العالم الحاضر الذي هو الحياة المناقضة لمبادئ ملكوت الله (2 تيموثاوس 4: 10).

أما أبناء النور فهُم الذين سمعوا قول المسيح: «ما دام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور» (يوحنا 12: 36) فخضعوا لهذا الأمر. وهم الذين يسلكون في النور كما أن الله نور، فيطهِّرهم دم المسيح من كل خطية (1يوحنا 1: 7). وقيل لهم: «كنتم قبلاً ظلمة، وأما الآن فنورٌ في الرب. اسلكوا كأولاد نور.. جميعكم أبناء نور وأبناء نهار. لسنا من ليلٍ ولا ظلمة» (أفسس 5: 8، 1تسالونيكي 5: 5).

ومع أن كل المؤمنين الحقيقيين هم أبناء الحياة الجديدة، إلا أن كثيرين منهم تعوزهم الحكمة في العمل للأمور الباقية، وتنقصهم الرؤية الواضحة ومعرفة الواجبات المطلوبة منهم. والرب بهذا المثل يبكّتنا بالحكمة التي عند أهل العالم، فإن كان أهل العالم (على الرغم من خطاياهم) لهم مثل هذه الحكمة في الماديات، فإن أبناء الله ينبغي أن يكونوا أكثر حكمةً في الروحيات. لذلك بعد أن مدح المسيح الوكيل الظالم على حكمته، قال مباشرة: «لأن أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم».

وواضح أن المسيح لا يمدح غشَّ أبناء هذا الدهر واتجاهاتهم الفكرية والأخلاقية، فهُم مخادعون. بل يمدح ذكاءهم المبدع، وحكمتهم في التعامل مع أهل جيلهم، فإنهم يحتاطون لمستقبلهم كما لحاضرهم باستخدام مال الظلم ليقيهم شرَّ الحاجة عندما يفنى مصدر أموالهم أو صحتهم أو مراكزهم. وأبناء هذا الدهر يقِظون، يتَّخذون قراراتهم بسرعة، وينتهزون الفُرص التي تسنح لهم ليكسبوا، ويُحسِنون استخدام ما عندهم وما حولهم من وسائل وأشخاص، ويعرفون كيف يسوِّقون بضاعتهم مع أنها باطلة، ويقدرون أن يخرجوا بسهولة من المآزق، ولا يحسبون وزناً للمخاطر والعوائق في سبيل تحقيق أهدافهم، ويسخِّرون جهدهم وطاقتهم في الوصول إلى ما يريدون.

ومع أن أبناء النور أمناء، وقد منحهم الرب فُرصاً كثيرة للشهادة وتخليص الخطاة وبناء الكنائس فكثيراً ما تفلت هذه الفرص من أيديهم، لأنهم يتواكلون على الله، ولا يبذلون الفكر والجهد والوقت والمال الكافي، أو ربما يخشون من فقدان مكانة وظيفية أو مادية إن هم تبعوا المسيح وعملوا للطعام الباقي لا البائد، وإن هم قاموا بواجب الكرازة للآخرين.

في هذا المثل يطالبنا المسيح بالنظر إلى حكمة أبناء العالم لنتعلم من حُسن استخدامهم للفرص، فنعمل مادام نهار كما أنه هو يعمل «لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها» (أفسس 2: 10). إنها ساعة الآن لنستيقظ من النوم ونعمل مشيئة الذي دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب، ولا نخشى شيئاً، لأن الذي معنا أقوى من العالم وأسلحته، فنكون «هادمين ظنوناً وكل علو يرتفع ضد معرفة الله، ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح» (2كورنثوس 10: 5).

يصوِّر أهل هذا الدهر الوهم كأنه حقيقة، ويقدِّم أبناء النور الحقائق وكأنها أوهام! يتحدَّث أهل هذا الدهر عن أمور مادية منظورة بينما يتحدث أبناء النور عن حقائق روحية بإيمان قائم على رجاءٍ غير منظور! ويبذل أهل هذا الدهر غاية جهدهم وشعارهم «من طلب العُلى سهر الليالي» بينما يعتبر أبناء النور الأمور الأبدية مضمونة بالضمان الأبدي، وسينالونها حتى لو تكاسلوا «لأن الله غيور على عمله»! ويثق أبناء هذا الدهر في أسلحتهم الشريرة لأنها تفتك بأعدائهم أمام عيونهم، بينما لا يرى أبناء النور أعداءهم وأسلحتهم الروحية بعيون أجسادهم «فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم، على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات» (أفسس 6: 12). يكفي أن تقارن بين مجلة دنيوية ومجلة دينية، أو بين فيلم عالمي وفيلم مسيحي لترى الجهد والإبداع في الإنتاج العالمي الذي يفوق الإنتاج الديني بمراحل!

ولكن هل حقاً أبناء هذا الدهر حكماء؟ نعم، ولا! نعم، فهم حكماء في أمور «هذا الدهر» فقط، ولكنهم أغبياء في الأمور الروحية «لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي. وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء» (رومية 1: 21، 22). أما أبناء النور فيجب أن يكونوا حكماء كالحيات مع احتفاظهم ببساطة الحمام (متى 10: 16)، ويعدنا الوحي أن من تعوزه حكمة فليطلب من الله، الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعيِّر، فسيُعطى له (يعقوب 1: 5).

لنكُن حكماء في أمور ديننا أكثر من حكمة أبناء هذا الدهر في أمور دنياهم.

ثانياً - أهمية المال

في تعليق ثانٍ على هذا المثل قال المسيح: «اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم، حتى إذا فنيتُم يقبلونكم في المظال الأبدية». وهذا يعني أننا جميعاً وكلاء على ما منحه الله لنا، ولسنا مالكين. لقد أوصانا المسيح أن نستخدم المال لخدمة الملكوت، ولخير مستقبلنا، بأن نصنع لنا أصدقاء به حتى إذا فني، أو انتهت الحياة يكون لنا قبول في البيوت الأبدية.

قال بعض المفسرين إن المسيح سمَّى المال «مال الظلم» لأنها التسمية التي كانت تُطلَق على «غِنى العالم المادي» أو على «كنوز الشر (التي) لا تنفع» (أمثال 10: 2). على أن البعض قالوا إن المسيح قصد بالتسمية أن المال كثيراً ما يُجمَع ويُوزَّع بالظلم، وكثيراً ما يُستخدَم في الشر لا الخير، وبه نخطئ إلى الله وإلى أولاد الله. وقد يكون مال ظلم لأنه حُصِّل بطرق لا تحتمل نار الامتحان في اليوم الأخير.. كما أنه يظلم بعض الناس بأن يأسر قلوبهم حتى يعبدوه، فيهلكون. ولو أننا طلبنا من قطعة عملة أن تحكي تاريخ حياتها لسمعنا منها العَجَب! وقال البعض إن المقصود بمال الظلم ليس المال الحرام الذي يقتنيه الإنسان من الظلم أو من أية خطية أخرى، فهذا لا يقبله الله، لأنه يقول: «لا تُدخِل أجرة زانية إلى بيت الرب إلهك» (تثنية 18: 23). فالله لا يقبل عمل الخير، الذي يأتي عن طريق الشر.. بل إن مال الظلم هو العشور التي لا يدفعها صاحبها لعمل الرب، فقد أعطاه مالاً، وأمره أن يدفع عشوره. فإذا لم تدفع العشور تكون قد ظلمت مستحقّيها، وتكون عندك «مال ظلم» إذ يقول الرب: «أيسلب الإنسان الله؟ فإنكم سلبتموني. فقلتم: بِمَ سلبناك؟ في العشور والتقدمة» (ملاخي 3: 8). بل يمكن أن نصف كل مال مكنوز عندنا بلا منفعة، بينما يحتاج إليه الفقراء، أنه «مال ظلم». ولكن عندما ندفع العشور لعمل الرب نعطي ما لله لله، وعندما نسدد ضرائبنا نعطي ما لقيصر لقيصر.

فلنكن أسخياء في العالم الحاضر، عملاً بوصية المسيح: «بيعوا ما لكم وأَعطوا صدقة. اعملوا لكم أكياساً لا تفنى وكنزاً لا ينفد في السماوات، حيث لا يقرب سارق ولا يُبلي سوس» (لوقا 12: 33). ولنستخدم كل ما نملك في خدمة ملكوت الله، فقد ائتمن الله المؤمنين على بعض غِنى العالم المادي، ويريدهم أن ينفقوه بسخاء وبأفضل الطرق، ليصنعوا به لهم «أصدقاء»، فإن الذي يعطي يربح الذي أخذ، فيقف الذي أخذ في صفِّ الذي أعطى، ويصبح من «إخوة المسيح الأصاغر».

فلنبذل مالنا في سبيل الخير، ولا نعِش للعالم وغِناه، لأن كليهما إلى فناء، ولننتبه إلى أن حياتنا الأرضية لا بد ستنتهي يوماً، كما يمكن أن أموالنا قد تضيع لسبب أو لآخَر. لذلك يجب أن نصنع لنا أصدقاء بمال الظلم فيكون لنا أجرٌ سماوي، ونجد القبول في «المظال الأبدية» أي تكون لنا حياة أبدية في دار الخلود، التي مضى المسيح ليُعدَّ لنا مكاناً فيها (يوحنا 14: 2). وعندما نردد قول الملك حزقيا: «مسكني قد انقلع وانتقل عني كخيمة الراعي» (إشعياء 38: 12) نثق أننا سنصل إلى مكان أفضل. «لأننا نعلم أنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السماوات بناءٌ من الله، بيت غير مصنوع بيد، أبدي» (2كورنثوس 1: 5).

هناك عالمٌ بعد هذا العالم هو «العالم الآتي» ننال فيه جزاء ما فعلناه في هذا العالم. وعندما نترك محل إقامتنا المؤقَّت في هذه الأرض، ونترك أصدقاءنا الفانين، تصبح السماء بيتنا الدائم، ولنا فيها أصدقاء باقون من فقراء أنجدناهم، وحزانى عزَّيناهم، وأطفال أسعدناهم، يقبلوننا في المظال الأبدية. هناك «الملك ببهائه تنظر عيناك» (إشعياء 33: 17). ويقول الملك لنا: «تعالوا يا مباركي أبي، رِثوا المُلك المُعدَّ لكم منذ تأسيس العالم، لأني جعتُ فأطعمتموني.. فيجيبه الأبرار حينئذٍ قائلين: يا رب، متى رأيناك جائعاً فأطعمناك؟.. فيجيب الملك: بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتُم» (متى 25: 34-40). «لأن الله ليس بظالمٍ حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمه، إذ قد خدمتُم القديسين، وتخدمونهم» (عبرانيين 6: 10).

ثالثاً - أهمية الأمانة

وأضاف المسيح تعليقاً ثالثاً على المثل، فقال: «الأمين في القليل أمين أيضاً في الكثير، والظالم في القليل ظالم أيضاً في الكثير. فإن لم تكونوا أمناء في مال الظلم، فمن يأتمنكم على الحق؟ وإن لم تكونوا أمناء في ما هو للغير، فمن يعطيكم ما هو لكم؟». وهو درس تناوله المسيح في عدة أمثال، مِنها مَثل العبيد العشرة الذين أعطاهم سيدهم عشرة أَمْناء ليتَّجروا بها ، «فإن كل من له (أمانة) يُعطى، ومن ليس له (أمانة) فالذي عنده يُؤخذ منه» (لوقا 19: 17، 18، 26).

والأمانة الحقيقية لا تفرِّق بين العمل الصغير والعمل الكبير. بل إن الأمانة في الأمور الصغيرة أعظم منها في الكبيرة، والحاجة إليها أكبر، لأن الناس يهتمون عادة بالأمور العظيمة لأنها ظاهرة للعيون أكثر من اهتمامهم بالأمور الصغيرة التي لا يلتفت إليها كثيرون، فيتصرف الإنسان في الأمور الصغيرة على سجيته، وهذا يُظهِر سلوكه الحقيقي.

والأمانة في الأمور الصغيرة تجهِّزنا للقيام بالأمور الكبيرة. لقد ائتمننا الله على الصحة والعائلة والمواهب والوقت والعمل والمال، وهو ينتظر منا أن نستخدم هذه كلها لخدمة المحتاجين، ليحقق مقاصده الإلهية، وفي قمتها أنه يريد الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبِلون (1تيموثاوس 2: 4). وعلى قدر أمانتنا في الأمور الوقتية يأتمننا الله على الأمور الأبدية. وبقدر أمانتنا على الزائل يأتمننا على الباقي.

رابعاً - أهمية القلب الموحَّد

وكان التعليق الرابع للمسيح على هذا المثل قوله: «لا يقدر خادمٌ أن يخدم سيدين، لأنه إمّا أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال». وفي هذا العالم نسمع نداء سيدين: الله السيد الحقيقي الرحيم، والمال الذي وهبه الله لنا ليكون خادمنا. وقد نتحول إلى عبيد له ويصير هو السيد. وليس المال بالضرورة ذهباً، لكنه قد يكون النجاح أو الوقت أو الإمكانيات أو السلطة أو العائلة أو الوظيفة.

ولا بد أن نخضع لسيد واحد، لأننا لا نقدر أن نخدم سيدين، فلا يقدر أحدٌ أن يخدم الله والمال، لأن الله يطالبنا بالتوزيع «أعطوا تعطوا» (لوقا 6: 38) بينما المال يطالبنا باكتنازه. والله يطالبنا بالتفكير في غيرنا، بينما المال يطالبنا بالتفكير في نفوسنا. فيجب أن نختار لأنفسنا اليوم من نخدم، والحكيم هو الذي يصلي: «علِّمني يا رب طريقك، أسلك في حقك. وحِّد قلبي لخوف اسمك» (مزمور 86: 11).

عندما استولت محبة المسيح على قلوب المسيحيين الأوَّلين باعوا كل ما عندهم وتقاسموا ثمنه، فلم يكن أحدٌ بينهم محتاجاً (أعمال 2: 44، 45 و4: 34). ولم تكن تلك المشاركة المالية لمجرد دوافع إنسانية، ولا لتجتذب الفقراء للكنيسة، ولو أنها لا بد فعلت هذا. ولكنها كانت للشركة بين المؤمنين لكي تكون في هذا الوقت فُضالتكم لإعوازهم، كي تصير فُضالتهم لإعوازكم، حتى تحصل المساواة (2كورنثوس 8: 14). فهكذا علَّمتنا نعمة المسيح أنه من أجلكم افتقر وهو غني، لكي تستغنوا أنتم بفقره (2كورنثوس 8: 9).

«فاصنع لك أصدقاء بمال الظلم». أعطه للمحتاجين إليه، وسدّد به أعوازهم، يصبحوا لك أصدقاء، ويصلّوا من أجلك، ويسمع الله دعاءهم، ويباركك، فتعطي أكثر وأكثر.

سؤالان

  1. ما معنى مال الظلم؟

  2. لماذا مدح المسيح الوكيل الظالم؟ وماذا نتعلم من هذا؟

(ج) الأمانة للمحتاجين مثل الغني ولعازر

كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ وَكَانَ يَلْبَسُ الأُرْجُوانَ وَالْبَزَّ، وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهاً. وَكَانَ مِسْكِينٌ اسْمُهُ لِعَازَرُ الَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوباً بِالْقُرُوحِ، وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْفُتَاتِ السَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ الْغَنِيِّ، بَلْ كَانَتِ الْكِلابُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ. فَمَاتَ الْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ الْمَلائِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ الْغَنِيُّ أَيْضاً وَدُفِنَ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الْهَاوِيَةِ وَهُوَ فِي الْعَذَابِ وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ، وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ. فَنَادَى: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ، ارْحَمْنِي وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي، لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هَذَا اللَّهِيبِ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ابْنِي، اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ وَكَذَلِكَ لِعَازَرُ الْبَلايَا. وَالآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ. وَفَوْقَ هَذَا كُلِّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ هَهُنَا إِلَيْكُمْ لا يَقْدِرُونَ، وَلا الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا. فَقَالَ: أَسْأَلُكَ إِذاً يَا أَبَتِ أَنْ تُرْسِلَهُ إِلَى بَيْتِ أَبِي، لأنَّ لِي خَمْسَةَ إِخْوَةٍ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُمْ لِكَيْلا يَأْتُوا هُمْ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِ الْعَذَابِ هَذَا. قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: عِنْدَهُمْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءُ. لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ! فَقَالَ: لا يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ، بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ. فَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانُوا لا يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ، وَلا إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ (لوقا 16: 19-31).

مناسبة رواية المثل:

«بعد أن روى المسيح مثل الوكيل الظالم» استهزأ الفريسيون الذين كانوا يسمعونه بالمسيح، لأنهم كانوا محبين للمال، ولأنهم كانوا يبررون أنفسهم أمام الناس (لوقا 16: 14، 15). فأوضح المسيح لهم أن شريعة الله ثابتة إلى الأبد، وأنها تدينهم، وأن باب الملكوت قد انفتح لكل بعيد وقريب يقصده ويطلبه بكل قلبه، ويغتصب نفسه إليه بأن يشد نفسه من الخطية ومن العالم، ويُقبِل إلى هذا الملكوت المفتوح له بالنعمة (لوقا 16: 16، 17). ثم روى مثل الغني ولعازر «الذي يوضح أن الله رفض الغني الذي برَّر نفسه بأنه ابن إبراهيم» وقبل لعازر المسكين وبرَّره.

لم يكن الغني (في هذا المثل) سارقاً ولا قاتلاً، ولا بذَّر ماله بعيش مسرف. لكن خطأه أنه لم يصنع له أصدقاء «بمال الظلم» وأهمل الفقير الملقى عند بابه. كان يعرف أن يعمل حسناً ولكنه لم يفعل، فصارت هذه خطيته (يعقوب 4: 17). وكان الفقير صابراً «و ها نحن نطوِّب الصابرين» (يعقوب 5: 11). وقد أراد المسيح أن يعلّمنا أن سوء استعمال الإنسان للمال في العالم الحاضر يوقع به الضرر في العالم الآتي، وأن اهتمام الإنسان بمستقبله أهم من اهتمامه بحاضره.

وقد هزَّ هذا المثل قلب اللاهوتي والطبيب الألماني ألبرت شوايتزر (1875-1965)، الحاصل على درجة الدكتوراه في اللاهوت، والفلسفة، والطب، مع دكتوراه فخرية في الموسيقى. كان يملك ما يتمنى كل إنسان أن يملكه. لكنه تأمل حاجة الفقراء، وخاف أن يكون مصيره كمصير الغني، فسافر إلى الجابون في أفريقيا عام 1913 وبنى مستشفى بيديه ليخدم المرضى والمحتاجين وينفق عليهم ويعالجهم ويعظهم.

وقد لا نكون مثل شوايتزر أغنياء في المال أو في العِلم. لكننا قد نكون أغنياء في الصحة، والوقت، والرحمة، والمواهب، التي أنعم الله بها علينا. ففي حياة كل واحدٍ منا غناه الخاص، فيمكن أن نصف أنفسنا بأننا «كفقراء ونحن نغني كثيرين. كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء» (2كورنثوس 6: 10). والغنى الأعظم هو الخلاص بالفداء المجاني، والمحبة الإلهية التي انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا (رومية 5: 5). فيجب أن نشارك غيرنا في الخلاص والمحبة متذكرين أنه «مجاناً أخذتم، مجاناً أعطوا» (متى 10: 8).

يتحدَّث هذا المثل عن أمور حدثت في هذا العالم (آيات 19-22)، وأمور حدثت في العالم الآخر (آيات 23-31). فقد أزاح المسيح في هذا المثل الستار عن العالم الآتي.

أولاً - شخصان في هذا العالم

  1. تنعُّم الغني: لم يذكر المسيح اسمه، فهو نموذج لكثيرين يشبهونه. إنه مشهور عند أهل الأرض، يعيش لنفسه ليُسعد نفسه. لم يلتفت إلى وجود فقير مريض أمام بابه، مع أن الشريعة أوصته: «إن كان فيك فقير، أحدٌ من إخوتك في أحد أبوابك .. فلا تقسِّ قلبك ولا تقبض يدك عن أخيك الفقير، بل افتح يدك له» (تثنية 15: 7، 8). ولم يكرم الرب ولا أخاه، مع أن كتب الأنبياء قالت إن العبادة المقبولة هي «أن تكسر للجائع خبزك، وأن تُدخِل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عرياناً أن تكسوه، وأن لا تتغاضى عن لحمك» (إشعياء 58: 6، 7).

    والأغلب أن هذا الغني كان يظن أنه مادام له كثير فإن حياته من أمواله، ونسي أنه سيأتي يوم يطالبه فيه الله بحساب وكالته التي لم يكن أميناً عليها. مسكينٌ، تمَّ فيه القول: «يصدّون سبيل البائسين» (عاموس 2: 7) فصار نصيبه: «اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المُعدَّة لإبليس وملائكته، لأني جعت فلم تطعموني. عطشت فلم تسقوني.. بما أنكم لم تفعلوا بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا» (متى 25: 41-46).

    عاش هذا الغني متنعِّماً، فكانت ملابسه الخارجية من الأرجوان المستورد من مدينة صور، وملابسه الداخلية من البز، وهو الكتان النقي المستورد من مصر. ولم تكن هذه ملابس المناسبات، بل ملابس كل يوم. وكان مترفِّهاً بأطايب الطعام، يستخدم الخبز لتنظيف يديه من الدهون كعادة أهل زمانه من الأثرياء، ويلقي به لكلابه تحت المائدة.. ولكن خطيته لم تكن رفاهية الملابس والطعام، فإن إبراهيم وداود وسليمان ترفَّهوا، بل كانت أنه كنز لنفسه ولم يرحم أخاه المحتاج، ولم يخطر بباله يوماً أن يعطف على المسكين الممزق الثياب التي تكشف عن قروحه التي تغري الكلاب بلحسها، كأنه جثة ميتة.

  2. حاجة الفقير: ذكر المسيح أن اسم الفقير كان «لعازر»، والاسم يدل على الشخصية، ومعنى اسمه «الرب عوني». كان فقيراً في مكان إقامته مطروحاً عند باب الغني، لعله يراه فيعطف عليه. وكان مريضاً مضروباً بالقروح التي تلحسها الكلاب. أما طعامه فكان أقل من الفتات الساقط الذي كانت الكلاب تنافسه في التهامه.

    ومن نهايته المجيدة في حضن إبراهيم نستنتج أنه لا بد تضرَّع لله أكثر من مرة أن يفارقه المرض، فتجيئه الإجابة: «تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تُكمَل» (2كورنثوس 12: 9). فعاش بالرجاء في الحياة الآتية، أما حياته على الأرض فعرف أنها بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل. كان فقيراً وجائعاً وعرياناً لكنه لم يشكُ من فقره ولا تذمر من جوعه وعريه، وكأنه يقول مع النبي حبقوق: «فمع أنه لا يزهر التين، ولا يكون حَمْلٌ في الكروم، يكذب عمل الزيتونة والحقول لا تصنع طعاماً، ينقطع الغنم من الحظيرة ولا بقر في المذاود، فإني أبتهج بالرب وأفرح باله خلاصي» (حبقوق 3: 17، 18).

  3. موت الفقير: مات الفقير قبل أن يموت الغني، فلكل إنسان ميعاد حدده الله ينتقل فيه من هذا العالم إلى العالم الآتي، كما يقول المسيح: «أنا أمضي لأعدَّ لكم مكاناً. وإن مضيتُ وأعددتُ لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً» (يوحنا 14: 2، 3).

    وحملت الملائكةُ لعازر إلى حضن إبراهيم، فهم أرواحٌ يخدمون العتيدين أن يرثوا الخلاص (عبرانيين 1: 14). «و الحضن» هو مكان الشرف (يوحنا 13: 23) والقديسون يتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب (متى 8: 11)، فانتقل لعازر من بؤس المرض والفاقة إلى احتفال فرح. ولم يذكر المسيح شيئاً عن دفنه، فالأغلب أن جسده ووري التراب في مدافن الصدقة. تُرى هل ردَّد قبل موته صلاة سمعان الشيخ: «الآن تطلق عبدك يا سيد بسلام» (لوقا 2: 29)، أو صلاة استفانوس: «أيها الرب يسوع، اقبل روحي» (أعمال 8: 59)؟ سواء ردَّد أم لم يردد، فقد كانت نفسه متعلِّقةً بإلهه.

  4. موت الغني: مات ودُفن باحترام من البشر، ولكن هاوية العذاب كانت تنتظره بعد أن ضيَّع كل فرصة للتوبة، مستهيناً بغنى لطف الله وإمهاله وطول أناته، غير عالم أنه كان يريد أن يقتاده إلى التوبة. لكن من أجل قساوته وقلبه غير التائب، ذخَّر لنفسه غضباً في يوم الغضب، واستعلان دينونة الله العادلة (رومية 2: 4، 5). لقد تبدَّل حاله تماماً. كان إبليس قد أغواه فظنَّ أن حاضره السعيد سيستمر سعيداً، وأن نجاحه الأرضي سيستمر نجاحاً. وكان الواجب أن ينتبه لأبديته ويبني سعادته ونجاحه على الأساس الحقيقي، إذ لا يستطيع أحد أن يضع أساساً غير الذي وُضع، الذي هو ربنا يسوع المسيح (1كورنثوس 3: 11).

ثانياً - شخصان في العالم الآخِر

1 - آخِرة الغني:

  1. موضع العذاب: استوفى الغني خيراته في حياته الأرضية، وحان وقت المجازاة في هاوية العذاب حيث الدود لا يموت والنار لا تُطفأ، وحيث لا ينفع أصدقاء ولا مال ولا نفوذ «لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟» (متى 16: 26).

  2. رجاء شخصي: هذه هي الطِّلبة الوحيدة المذكورة في الكتاب المقدس التي وُجِّهت إلى قديس في السماء، فقد استرحم الغني في العذاب أباه إبراهيم من أجل نفسه (آيات 23-26). فجأةً تذكر أن إبراهيم أبوه حسب الجسد، فتوجَّه إليه طالباً تدخُّله رحمةً به، ولكنه لم يكن ابن إيمان إبراهيم، لأن الإيمان لا يورَّث، وقد قال يوحنا المعمدان لليهود: لا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم: لنا إبراهيم أباً. لأني أقول لكم: إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم» (متى 3: 9). رأى إبراهيم «من بعيد» كما عاش في الأرض بعيداً روحياً عن إيمان إبراهيم، فقال له إنه معذَّب جسدياً في اللهيب، ونفسياً وهو يرى الأمجاد التي يتمتع بها لعازر ولا يقدر هو أن ينالها.

    ورجاء الغني يعلِّمنا أن السماء والجحيم مكانان، تبقى ذاكرة الإنسان فيهما قوية، كما يكون منطقه فيهما سليماً، فيتذكر الإنسان ما عمله في حياته شراً كان أم خيراً، ويدرك أين هو وما حالته. لقد تعرَّف الغني في عذابه على الفقير في نعيمه مع أن هيئته تغيَّرت من القروح إلى جمال حقيقي نتيجة الوجود في محضر الله.

  3. جواب إبراهيم: جاء استرحام الغني بعد فوات الأوان، فقد كان مثل العذارى الجاهلات اللواتي وصلن بعد أن أُغلق الباب. وكان كرماً من إبراهيم أن يدعوه «ابني» وهي بنوَّة الجسد التي يتمتع بها كما يتمتع بها لعازر الفقير. ولكن ملكوت السماوات يشبه «شبكة مطروحة في البحر، وجامعة من كل نوع. فلما امتلأت.. جمعوا الجياد إلى أوعية، وأما الأردياء فطرحوها خارجاً (متى 13: 47، 48).

    وذكَّر إبراهيمُ الغنيَّ بأنه استوفى خيراته في الحياة الدنيا. لقد منحه الله خيرات ليلتفت إلى المعطي الجواد ولكنه لم يلتفت، ووصلته دعواتٌ متكررة للتوبة ولكنه لم يتُب، وكانت له فرص فعل الخير ولكنه لم يفعل. فلم يكن له الحق أن ينتظر بعد هذا شيئاً من البركات الإلهية، لأن زمن نوالها قد مضى. لقد زرع للجسد، فلم يبقَ له إلا أن يحصد فساداً (غلاطية 6: 8). وقيل له: «ويلٌ لكم أيها الأغنياء، لأنكم قد نلتم عزاءكم» (لوقا 6: 24).

    وقال إبراهيم إن لعازر يتعزى، فالسماء مكان الفرح حيث المؤمنون «لن يجوعوا بعد، ولن يعطشوا بعد.. لأن الحمل الذي في وسط العرش يرعاهم، ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية، ويمسح الله كل دمعة من عيونهم» (رؤيا 7: 16، 17). وهناك هوَّة تفصل الغني عن لعازر. ولا يوجد طريق بين السماء وجهنم، فالسماء مكان سكنى الله مع الملائكة والقديسين، وجهنم معدة لإبليس وجنوده. وفرصة الخلاص قاصرة على الحياة الدنيا، حيث تساوي رحمة الرب بين الغني والفقير، والبار والفاجر، وتقدم لجميعهم فرصة التوبة وعمل الخير.

  4. طلب عائلي: لم يلقَ الغني استجابةً لطلبه الشخصي، وعرف مصيره المظلم، وتغيَّر تقييمه للأمور، فأراد أن تتغيَّر حياة إخوته الخمسة الذين لا يزالون يعيشون على الأرض، حتى لا يلقوا نفس مصيره المرعب، فاستعطف أباه إبراهيم من أجل إخوته بأن يذهب لعازر إليهم ليقدم لهم النصح (آيات 27-31).

  5. جواب إبراهيم: رفض إبراهيم الطلب لأن الإخوة الخمسة عندهم توراة موسى وكتابات الأنبياء، وفيها رسالة الرب الواضحة التي تعلن لهم فكر الرب وطريق خلاصهم وربح الحياة الأبدية. وهناك أمل لكل خاطئ ينتبه للإعلان الإلهي ويطيعه، فهو يحذر من الجحيم، ويبرهن الحب الإلهي، فإنّ «ناموس الرب كامل يرد النفس. شهادات الرب صادقة تصيِّر الجاهل حكيماً. خوف الرب نقي، ثابت إلى الأبد. أحكام الرب حقٌّ عادلةٌ كلها» (مزمور 19: 7، 9). ولكلمة الله صوت عال، ولها قوة وسلطان يقول الرب عنها: «أليست هكذا كلمتي كنارٍ يقول الرب، وكمطرقة تحطم الصخر؟» (إرميا 23: 29). «لأن كلمة الله حية وفعالة، وأمضى من كل سيفً ذي حدَّين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، ومميِّزة أفكار القلب ونياته» (عبرانيين 4: 12). وهي الكلمة التي في متناول يد وأذن كل إنسان، و «من له أذنان للسمع، فليسمع» (متى 13: 9).

  6. الغني يكرر طلبه: اختلف الغني وهو في الهاوية مع أبيه الجسدي، وقال: «لا يا أبي إبراهيم».. قضى هذا الغني حياته في عصيان لإيمان إبراهيم، وهو لازال يعتقد أن فكره أصحُّ من فكر خليل الله إبراهيم، فقال إن قيامة لعازر من الموت وذهابه إلى الإخوة الخمسة واعظاً سيقنعهم بالتوبة.

  7. جواب إبراهيم: شرح إبراهيم لابنه الجسدي أن الوحي أقوى من المعجزة. وهو ما قاله المسيح عن سلطة الوحي وقوته: «فتِّشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي. ولا تريدون أن تأتوا إليّ لتكون لكم حياة.. لا تظنوا أني أشكوكم إلى الآب. يوجد الذي يشكوكم، وهو موسى الذي عليه رجاؤكم. لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني. فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك، فكيف تصدقون كلامي؟» (يوحنا 5: 39، 40، 45-47).

أقام المسيح لعازر من قبره بعد أن مات بأربعة أيام، فلم يؤمن رؤساء الكهنة ولم يتوبوا، بل تشاوروا ليقتلوا لعازر، لأن يهوداً كثيرين كانوا يرونه حياً بعد موته فيؤمنون بالمسيح الذي أقامه، فأرادوا أن يلاشوا برهان المعجزة (يوحنا 12: 10، 11)! وأظهر المسيح نفسه حياً بعد قيامته ببراهين كثيرة، ومع ذلك لم يؤمن به كثيرون (أعمال 1: 3).

إن وسائط النعمة التي منحها الله للناس تكفي لتنويرهم، دون حاجة إلى المعجزات، فالمعجزة تُذهِل ولكنها لا تغيِّر، وهي تحدث انبهاراً، لكنها لا تبكت إنساناً ليتوب. القوة قوية أما المحبة فغلابة، هناك قوة في المعجزة لكن هناك محبة في الصليب.

2- آخِرة الفقير:

بدأ تكريم الفقير من لحظة موته، فقد حملته الملائكة إلى حضن إبراهيم «لأننا نعلم أنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء من الله، بيت غير مصنوع بيد، أبدي.. فنثق ونُسرّ بالأَوْلى أن نتغرَّب عن الجسد ونستوطن عند الرب» (2كورنثوس 5: 1، 8). «هوذا مسكن الله مع الناس. وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعباً، والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم» (رؤيا 21: 3).

وبدأت تعزيته لأنه انتظر الرب وصبر له، فمنحه جسداً جديداً ممجَّداً بلا قروح ولا مرض، فهو «الذي سيغيِّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده، بحسب عمل استطاعته أن يُخضِع لنفسه كل شيء» (فيلبي 3: 21). ويحق للعازر أن يقول مع الرسول بولس: «جاهدتُ الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظتُ الإيمان، وأخيراً قد وُضع لي إكليل البر، الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل، وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً» (2تيموثاوس 4: 7، 8).

فأين ستكون في الآخِرة؟ إن باب التوبة مفتوح لك الآن.

سؤالان

  1. اشرح الأسباب التي جعلت الملائكة يحملون لعازر إلى حضن إبراهيم.

  2. ماذا كانت طلبتا الغني من إبراهيم، ولماذا رفضهما إبراهيم؟


Call of Hope  P.O.Box 10 08 27
70007
Stuttgart
Germany