العودة الى الصفحة السابقة
إبراهيم خليل الله

إبراهيم خليل الله

الدكتور القس . منيس عبد النور


Bibliography

إبراهيم خليل الله. الدكتور القس . منيس عبد النور. Copyright © 2007 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . 1988. SPB 7120 ARA. English title: Abraham, the Friend of God. German title: Abraham, der Freund Gottes. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 D - 70007 Stuttgart Germany http: //www.call-of-hope.com .

الفصل الأول: الله يدعو إبراهيم

كان اسمه أبرام ومعناه أب رفيع. لكن الله غيّر اسمه إلى إبراهيم، ومعناه أب لجمهور من المؤمنين، وهذا معناه أن إبراهيم أب لكل المؤمنين في كل الأجيال. وإبراهيم هو خليل الله، الذي قال الله عنه في نبوة النبي إشعياء 41: 8 في التوراة «إبراهيم خليلي». وقد بارك الله في نسل إبراهيم كل قبائل الأرض، إذ جاء المسيح من نسل إبراهيم. ويقول الله: «ٱنْظُرُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَبِيكُمْ وَإِلَى سَارَةَ ٱلَّتِي وَلَدَتْكُمْ. لأَنِّي دَعَوْتُهُ وَهُوَ وَاحِدٌ وَبَارَكْتُهُ وَأَكْثَرْتُهُ» (إشعياء 51: 2). وهذا يدفعنا أن نتأمل في حياة إبراهيم خليل الله لسببين:

أولاً: لأن حياته عظيمة، فهو من أعظم رجال الله في كل التاريخ.

ثانياً: لأن في دراسة حياته فائدة روحية لنا، فقد اختاره الله وسيلة ليحقِّق به المقاصد الإلهية في الفداء والخلاص.

تبدأ قصة حياة إبراهيم، عندما طلب الله منه أن يهاجر من أرضه ومن عشيرته ومن بيت أبيه، إلى أرضٍ يُريها له، دون أن يحددها له بالإسم. وقال له إنه إذا أطاع الدعوة، فإنه يجعله أمة عظيمة ويباركه ويعظّم اسمه ويكون بركة، ويبارك مباركيه ويلعن لاعنيه، وتتبارك في إبراهيم جميعُ قبائل الأرض.

ترى لماذا يترك إبراهيم بلاد ما بين النهرين، التي كانت تقع بين نهري دجلة والفرات في العراق، وهي بلاد عامرة عريقة في الحضارة، ليذهب إلى بلد لا يعرف عنها شيئاً؟

يقول لنا الإنجيل المقدس: «بِٱلإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى ٱلْمَكَانِ ٱلَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثاً، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي» (عبرانيين 11: 8). لكن إبراهيم عرف أن الله الحقيقي هو الذي يدعوه، فقد كان أهل بلده وكل عشيرته يعبدون الأصنام، وكان إبراهيم يعبد الإله الحي الذي لا إله إلا هو. وكان إبراهيم قد عرف الله بالعقل. وحين فكر عرف أن الأصنام لا يمكن أن تكون آلهة، لأن الناس يصنعونها بأيديهم، وهي لا تصنع الناس.

وعندما أخبر إبراهيم أباه تارح أن الله دعاه ليهاجر من أور الكلدانيين، وافق تارح أن يهاجر هو أيضاً منها.

وكان لتارح ثلاثة أولاد: أبرام (الذي صار اسمه إبراهيم) وناحور، وهاران. أما هاران فكان قد مات في أور الكلدانيين بعد أن ولد ابنه لوطاً. وتزوج أبرام أخته من أبيه ساراي، وصار اسمها سارة. وساراي أو سارة معناها أميرة. وكانت العادة في ذلك الزمان أن يتزوج الرجال أخواتهم، الأمر الذي لا يحدث اليوم، إذ لم يكن في تلك الأيام اختلاط بين الناس إلا بين أفراد القبيلة الواحدة.

مدينة أور:

كان تارح يسكن مع أولاده في مدينة أور الكلدانيين، وهي من أعظم مدن العالم في ذلك الزمان، فقد كان بها المدارس والأبنية العظيمة، كما كانت مدينة تجارية كبيرة، فكانت السفن تحمل منها القمح والبلح إلى البلاد المختلفة. وكانت الأرض حول أور خصيبة يعطي قمحها مئتي ضعف، بل ثلاثمائة ضعف أحياناً. وقال بعض العارفين إن القمح عُرف أول ما عُرف في هذا المكان من الأرض. وكان أهل أور وثنيين يعبدون آلهة كثيرة. كانوا يعبدون آلهة الجمال والحب «فينوس» وقد عملوا لها صنماً كبيراً، وكانت الديانة في أور مختلطة بالفساد، فقد كانوا يعبدون اثني عشر صنماً كبيراً، وعدداً كبيراً من الأصنام الصغيرة. لكن إبراهيم عرف الله من الطبيعة، فإن «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (مزمور 19: 1). وعندما رأى إبراهيم الطبيعة الجميلة أدرك أن لها صانعاً هو الله. وعرف إبراهيم الله من الضمير. فقد كان يشعر بصوت الله يكلّمه. وفوق الكل عرف لله لأن الله أظهر نفسه له، فيقول استفانوس في الإنجيل / «ظَهَرَ إِلٰهُ ٱلْمَجْدِ لأَبِينَا إِبْرَاهِيمَ» (أعمال 7: 2) فإن الله مثل الراعي الصالح الذي يبحث عن الخروف الضال.

لماذا دعا الله إبراهيم؟

نستطيع أن نرى أربعة أسباب دعا الله من أجلها إبراهيم ليخرج من أرضه إلى الأرض التي يُريها له.

  1. كان الله يريد أن يكون إبراهيم شهادة لكل الأرض. وقال الله على فم نبيِّه إشعياء: «أنتم شهودي. وهل يوجد إله غيري؟».

  2. أراد الله أن يضع أقواله في إبراهيم وفي نسله أمانةً، ليوصِّلوها للعالم أجمع. ويقول رسول المسيحية بولس عن فضل إبراهيم وفضل نسله على العالم إنه فضل كبير، «لأَنَّهُمُ ٱسْتُؤْمِنُوا عَلَى أَقْوَالِ ٱللّٰهِ» (رومية 3: 2).

  3. أراد الله أن يجهّز العالم لمجيء المسيح المخلّص المنتظر، الذي سيجيء إلى عالمنا من نسل إبراهيم.

  4. ليكون إبراهيم بركة للعالم كله عندما يجيء المسيح من نسله.

لماذا رافقه أبوه؟

وهنا يواجهنا سؤال: إن كان الله وجّه دعوته لإبراهيم ليترك أور الكلدانيين، فلماذا سافر أبوه تارح معه من أور إلى حاران؟ يقول الكتاب: «أَخَذَ تَارَحُ أَبْرَامَ ٱبْنَهُ، وَلُوطاً بْنَ هَارَانَ ٱبْنَ ٱبْنِهِ، وَسَارَايَ كَنَّتَهُ ٱمْرَأَةَ أَبْرَامَ ٱبْنِهِ، فَخَرَجُوا مَعاً مِنْ أُورِ ٱلْكِلْدَانِيِّينَ لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَأَتُوا إِلَى حَارَانَ وَأَقَامُوا هُنَاكَ» (تكوين 11: 31).

لماذا أطاع تارح إبراهيم وسافر معه؟ هناك ثلاثة أسباب شجعت تارح على ذلك السفر:

  1. كان هاران قد مات في أور، وكانت مدينة أور تُذكّر تارح بموت ابنه، فأراد أن يبتعد عن المكان الذي مات فيه ولده.

  2. كانت حالة تارح المالية سيئة، فأراد أن يذهب إلى بلد آخر ليكسب مالاً أكثر.

  3. 3ربما يكون أن حرباً قامت على أور، وأراد تارح أن يسافر بعيداً عن أرض الحرب والخطر.

نشكر الله لأن الظروف الصعبة كانت سبباً شجَّع تارح على السفر مع ابنه، فكانت التجارب المؤلمة دافعاً دفع العائلة كلها إلى طاعة إعلان الله. ولا زال الله يرسل لنا التجارب والآلام اليوم حتى نسمع صوته ونطيع كلامه. ويقول لنا موسى كليم الله في التوراة إن الله يعمل مع شعبه كما يفعل النسر مع فراخه. «كَمَا يُحَرِّكُ ٱلنَّسْرُ عُشَّهُ وَعَلَى فِرَاخِهِ يَرِفُّ، وَيَبْسُطُ جَنَاحَيْهِ وَيَأْخُذُهَا وَيَحْمِلُهَا عَلَى مَنَاكِبِهِ، هٰكَذَا ٱلرَّبُّ» (تثنية 32: 11). النسر يضع فراخه في عش دافئ، لكنه يضع في جوانب العش بعض الأشواك. وحين تكبر فراخ النسر ويريدها أن تطير، يحرك النسر عشَّه، فتخرج الأشواك من العش وتؤلم الفراخ، ثم يرفُّ النسر على العش حتى تخاف الفراخ الصغيرة وتحاول الخروج من العش. وعندما تسقط تحاول أن تفرد أجنحتها دون أن تكون قادرة على الطيران، فيبسط النسر جناحيه ويحملها ويرجعها مرة أخرى إلى العش. ويكرر النسر هذا العمل إلى أن تتعلم صغاره الطيران.

كانت التجارب التي جاءت على إبراهيم وعلى عائلته مثل الأشواك التي يضعها النسر في عشه، ثم يحركها حتى تؤلم صغاره، لأنه يريد أن يعلّم الصغار أن تطير. حرك الله عشَّ تارح بالألم، فخرج من أور إلى حاران في طريقه إلى أرض كنعان.

عزيزي القارئ، هل جاءت عليك تجربة؟ اعلم أن الله قد أرسلها لك لتترك أرض الكسل والخطية والضعف، وتقوم فتذهب إلى مكان أفضل. إنه يريدك أن تخرج من عبادة الأوثان لتتفرغ لعبادة الله، لتضع الله أولاً في حياتك، ليكون هو سيد حياتك. هذه التجارب مثل الجوع الذي جاء على الكورة التي سكن فيها الابن الضال ليقول: «أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي» (لوقا 15: 18). اترك الخطية والشر، واذهب إلى النعمة والحياة الجديدة، فهذه دعوة الله لك.

إبراهيم يكمل الرحلة:

بدأت رحلة تارح الذي سافر مع إبراهيم ابنه، ولوط ابن هاران ابن ابنه، وساراي كنته، امرأة إبراهيم ابنه. فخرجوا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان، وبلغوا بلداً في الطريق اسمها حاران، قرر تارح أن يقيموا فيها. والمسافة بين حاران وأور تبلغ نحو ألف ومئتي كيلو متر. وحاران معناها «محروق» أو «يابس» أو «ملفوح». وقرر تارح أن يبقى في حاران، ولم يشأ أن يكمل الرحلة إلى كنعان. ولا نعرف لماذا بقي تارح في المكان الجاف المحروق دون أن يكمل الرحلة إلى مكان الراحة والموعد. وبقيت العائلة في حاران إلى أن مات تارح.

وبعد موته جاء صوت الله إلى إبراهيم مرة أخرى يقول: «ٱذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أُرِيكَ. فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ ٱسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً. وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ» (تكوين 12: 1-3). ووقف إبراهيم يسمع صوت الله العجيب مرة أخرى. كان يقدر أن يرفض ولا يطيع ويعتذر، كما فعل شابٌّ غني جاء إلى السيد المسيح يسأل عن طريقة الحصول على الحياة الأبدية، ولم يقبل أن يتبع المسيح، لأنه كان صاحب أموال كثيرة، فترك المسيح ومضى حزيناً، لأن أمواله كانت أكثر أهمية عنده من طاعة المسيح (مرقس 10: 17-22). لكن إبراهيم لم يهتم بالمرة بالأموال التي كانت له، ولا بالأرض التي كان يمتلكها في حاران، فقرر أن يتركها كلها طاعة لأمر الله.

عزيزي القارئ، إن إبراهيم ابن الطاعة، والديانة الحقيقية هي الطاعة الكاملة للرب. إن طاعتنا لله تعني أولاً أننا نضع ثقتنا فيما يقوله لنا. وطاعتنا تعني أننا نُخضع إرادتنا لإرادته، فيكون الفكر كله لله.

ليست الديانة فريضة، وليست طقوساً، وليست صلاة في محل عبادة، لكنها طاعة حقيقية لله تنبع من القلب الذي يحب الله كثيراً، والذي يخضع له كثيراً والذي يريد أن يرضيه بمجامع الحياة. وليس المسيحي الحقيقي هو الذي يصلي كثيراً، ولكنه الذي يطيع الله كثيراً. والبركة دوماً على رأس المطيع.

كانت طاعة إبراهيم عجيبة فعلاً، لأنها كانت على غير أساس منظور. فقد كان إبراهيم خليل الله الذي يحبه، وكان صاحب إيمان عظيم لا يرى شيئاً أرضياً منظوراً، لكنه كان يتبع إلهاً غير منظور، ووضع ثقته في هذا الإله غير المنظور، وعلى إرشاد إلهه سار. لقد سمع بعض المواعيد وآمن بها، ووثق في أمانة الله، فترك أهله وعشيرته وبيت أبيه، فصار قدوة لبرنابا من بعده، إذ ترك أرضه في قبرص وباعها من أجل رسالة المسيح (أعمال 4: 37)، وكما ترك رسول المسيحية بولس ديانته وأهله وهو يعتبر كل شيء نفاية لكي يربح المسيح ويُوجد فيه (فيلبي 3: 8).

مواعيد الله لإبراهيم:

كانت مواعيد الله لإبراهيم غريبة، ولكن إبراهيم وثق فيها:

  1. قال الله لإبراهيم إنه سيجعله أمة عظيمة، مع أن زوجته عاقر، وتصفها التوراة بالقول: «وكانت ساراي عاقراً ليس لها ولد». ولكن الوعد الإلهي هنا يؤكد لإبراهيم أن هذه العاقر ستكون أماً لأمم كثيرة. وصدَّق إبراهيم وعد الله، بالرغم من أن زوجته عاجزة عن الإنجاب.

  2. وكان هناك وعد آخر من مواعيد الله لإبراهيم: «أباركك وأعظّم اسمك». فإذا أطاع إبراهيم وسافر يأخذ البركة، وهي كل ما يحتاج إليه الانسان في هذه الحياة وفي الحياة الأبدية. نعم، وعد الله إبراهيم أن يباركه وأن يجعله عظيماً. ومع أنه سيكون وحيداً بعيداً عن أهله وعشيرته إلا أن الله سيجعل اسمه عظيماً.

  3. وقدَّم الله لإبراهيم وعداً ثالثاً، قال له: «ستكون بركة». نعم ستفيض البركة من إبراهيم على غيره. يكون بركة لكل الذين يتعامل معهم والذين يتعاملون معه. وفي ثقة عرف إبراهيم أن مستقبلاً عظيماً ينتظر البشر عندما يؤمن كل الناس في العالم كله.

  4. ثم قدّم الله لإبراهيم وعداً رابعاً. قال له: «أبارك مباركيك ولاعنك ألعنه». يباركه ويبارك كل من يؤمن إيمانه. والذي أخذ البركة مثل إبراهيم هو الذي سيقبل الإيمان الذي قبله إبراهيم. ومن يؤمن ينال البركة، والذي يرفض تصيبه اللعنة.

صدق إبراهيم مواعيد الله، وبدأ يجهز عائلته ومواشيه وعبيده للسفر الطويل. وسافر من حاران إلى كنعان، وهي مسافة تبلغ نحو خمسمائة كيلو متر. ولا نعلم كم من الوقت صرفه إبراهيم وعائلته في السفر، فقد كان لا بد لهم أن يسافروا على مهل حتى تأكل البهائم من المراعي التي حولهم. وأخيراً وصلوا إلى أرض كنعان: إبراهيم وسارة ولوط وزوجته، ومعهم العبيد والمواشي. مرَّ إبراهيم بدمشق في طريقه من حاران إلى كنعان، وهناك قابل أليعازر الدمشقي، الذي جعله فيما بعد وكيلاً على أمواله. وعبر إبراهيم ومن معه الأراضي والأنهار، ولذلك سمّوهم العبرانيين، ومعناها «الذين يعبرون». وفي كل الأراضي التي مرَّ بها إبراهيم كان كاهن العشيرة كلها، يقودهم ويؤمُّهم في الصلاة ويعلّمهم كلمة الرب.

إبراهيم يُقيم في «بلوطة مورة»:

وعندما وصل إبراهيم إلى كنعان أقام في شكيم، ونصب خيمته عند بلوطة مورة. وشكيم هي مدينة نابلس الحالية، وتبعد أربعين كيلو متراً شمال أورشليم. ومعنى كلمة «مورة» معلِّم، وكانت في ذلك المكان أشجار بلوط كثيرة. وفي الغالب كان يجلس تحت تلك الأشجار معلمون يعلِّمون الشعب وصايا الدِّين، لذلك صار اسم ذلك المكان «بلوطة المعلم» وكانت أشجار البلوط هناك سبباً جعل إبراهيم ينصب خيامه في ظلها. وقد سكن إبراهيم في خيمته، وذلك معناه أنه غريب.

في بلوطة المعلم ظهر الله لإبراهيم وقال له: «لنسلك أعطي هذه الأرض». وهذا تأكيد لوعد الله لإبراهيم. إن الله لا ينسى وعوده. إنه يشجع بوعوده الإلهية. وهناك بنى إبراهيم مذبحاً للرب، ونقل مكان سكنه من بلوطة مورة إلى مكان بيت إيل على سفر يوم من شكيم، وهناك نصب خيمته. وبيت إيل معناها بيت الله، وهناك أخذ إبراهيم يدعو باسم الرب ويعلّم الناس حوله عن الله.

عزيزي القارئ، يطلب الله منك أن تخرج من مدينة الخطية والهلاك، لتسير إلى الحياة الجديدة، فتدخل من الباب الضيق. أرجوك أن لا تسير نصف الطريق وتقف، كما فعل تارح أبو إبراهيم، لكن امش كل الطريق لتتوب توبة كاملة. في طريق خروجك كن شهادة طيبة للناس الذين تتعامل معهم ليشمّوا منك رائحة المسيح الذكية. وفي كل مكان تنصب خيمتك فيه، أقِمْ هناك مذبحاً وادْعُ باسم الرب، حتى تربح الناس للمسيح. ولا تنسَ أنك غريب في العالم، وماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه.

الفصل الثاني: إبراهيم يخطئ

صدَّق إبراهيم الله وأطاعه ووضع ثقته في مواعيده. وسكن في بيت إيل ومعناها بيت الله. ولكنه بدأ يسافر سفراً متوالياً نحو الجنوب متّجهاً إلى مصر. ترك الأرض التي وعده الله بها، لأن جوعاً حدث جوع في الأرض. وكان الجوع شديداً - وهو أمر عادي - لأن تلك البلاد تعتمد على المطر في ري الأرض. واهتزَّ إيمان إبراهيم بسبب نقص المطر، لأنه لم يكن معتاداً على كيفيّة ريّ الأرض بالمطر، فقد كانت الأرض في بلده أور تُروى من مياه الأنهار، ففكر أن يسافر إلى مصر التي يرويها نهر النيل، دون أن يستشير إلهه، ودون أن يأمره الرب بذلك. وسافر إبراهيم إلى مصر، وهناك لم يبنِ مذبحاً للرب كما بنى في بلوطة مورة، أو كما بنى في بيت إيل، فقد ابتعد عن أرض الموعد بجسده، وابتعد عن إله الموعد بقلبه. وفي مصر تدوِّن لنا التوراة أنه ارتكب خطأ.

ما أجمل صدق كلمة الله - فليس إنسان بدون خطأ. واحد فقط لم يخطئ أبداً، هو السيد المسيح. ولكن الله المحب يبقى أميناً لوعوده ولمحبته، لأنه هو محبة. الله لا يحبنا لأننا صالحون، ولكنه يحبنا ليجعلنا صالحين. وإن كنا غير أمناء فهو يبقى أميناً، لن يقدر أن ينكر نفسه (2 تيموثاوس 2: 13).

السفر إلى مصر:

سافر إبراهيم إلى مصر هروباً من الجوع الذي هاجمه في كنعان، ولما اقترب من مصر قال لامرأته: «إِنَّكِ ٱمْرَأَةٌ حَسَنَةُ ٱلْمَنْظَرِ. فَيَكُونُ إِذَا رَآكِ ٱلْمِصْرِيُّونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هٰذِهِ ٱمْرَأَتُهُ. فَيَقْتُلُونَنِي وَيَسْتَبْقُونَكِ» (تكوين 12: 11 و12) أليس هذا غريباً؟ لقد نسي إبراهيم وعد الله الذي قال له: «أُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ» (تكوين 12: 3). ونسي أن الله حفظه في شكيم وفي بيت إيل. ونسي أن من نسله سيأتي الذي فيه تتبارك جميع قبائل الأرض. ونسي أن نسله سيكون أمة عظيمة.

ونحن نندهش من إبراهيم: كيف يضحي بزوجته من أجل سلامته الشخصية؟ قال لها: «قُولِي إِنَّكِ أُخْتِي، لِيَكُونَ لِي خَيْرٌ بِسَبَبِكِ وَتَحْيَا نَفْسِي مِنْ أَجْلِكِ» (تكوين 12: 13). هذا أمر مخجل! ولكن ألا نرى الأنانية داخل نفوس أكبر المؤمنين؟ لكن يجب أن نذكر أن إبراهيم كان يقول نصف الحق، فإن سارة أخته من أبيه. لكن علاقته بها كزوجة تأتي قبل علاقته بها كأخت. إن إبراهيم يكذب لأنه يخفي نصف الحق، ويقول نصف الحق فقط، وفي نيته الكذب، ثم هو يجعل سارة تكذب معه. ولماذا يكذب؟.. لكي ينجي نفسه، وليكون له خير بسبب الكذب. إنه ينتظر الخير من البشر، بعد أن ذاق ألم الجوع في كنعان، وهو يرجو النجاة بمجهود الجسد، ويرمي زوجته وينسى مواعيد الله من أجل سلامة جسده ومن أجل كثرة مكسبه. لا ندري السبب الذي دفع إبراهيم إلى هذا كله، لكننا نعرف في نفوسنا سبب الخطية التي نقع فيها نحن. كم مرة كذبنا الكذب الأبيض وقلنا نصف الحقيقة وأخفينا نصف الحقيقة الآخر، فظهر نصف الحق وهو الكذب، ونسينا وصية الإنجيل: «لاَ تَكْذِبُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِذْ خَلَعْتُمُ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ» (كولوسي 3: 9). وكم مرة دَفَعَنا الجوع والضيق إلى الخطية والكذب والغش والخداع، مع أن الله يستخدم الجوع ليزيد إيماننا، وليرفع نظرنا إليه. ونحن نعلم في نفوسنا كيف نفكر بأنانية أحياناً فننسى الآخرين وراحتهم، ونفتكر في راحتنا وسلامتنا فقط. نذكر كيف أخطأنا حتى نزيد ثروتنا: قبضة من حقل الجار.. ميزان غش.. كيل ناقص غير مضبوط.. كلمة كذب. لا يجب أن نلوم إبراهيم، فإننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا أكثر مما عثر إبراهيم.

فرعون يأخذ سارة:

وقالت سارة إنها أخت إبراهيم، وهذا معناه أنها غير متزوجة منه. فذهب رجال فرعون إليه يمدحون جمال سارة. وسمع فرعون فأرسل وأخذ سارة إلى بيته. ويقول التاريخ العالمي إن إبراهيم سكن في مدينة أون المصرية زماناً طويلاً، وكان يعلّم المصريين علوم الفلك والرياضة، وهي علوم كان يعرفها أهل بابل. وكان إبراهيم يُصلح بين الكهنة المصريين في منازعاتهم الدينية، فأعطوه كثيراً من الهدايا. وتقول التوراة إن فرعون صنع إلى إبراهيم خيراً بسبب سارة، وصار له غنم وبقر وعبيد وحمير وإماء وأتن وجمال. وكانت هاجر هدية من فرعون أيضاً. ونحن لا نعلم ما هي الضربات التي نزلت على فرعون، ولكن فرعون عرف أن هذا كله كان بسبب سارة زوجة إبراهيم. لعل سارة قالت لفرعون إنها زوجة إبراهيم، فاستدعى الفرعون إبراهيم وسأله: «لِمَاذَا قُلْتَ هِيَ أُخْتِي، حَتَّى أَخَذْتُهَا لِي لِتَكُونَ زَوْجَتِي؟» (تكوين 12: 19). واضحٌ من هذا الكلام أن فرعون لم يكن قد تزوج من سارة، فقد كانت عادة الملوك أن يختاروا الفتاة ويتركوها للتجهيز قبل الزواج فترة طويلة. لكن الضربات التي جاءت على فرعون جعلته يبحث عن سبب البلوى التي حلّت به، وعندما عرف أنها بسبب سارة قال لإبراهيم: «ٱلآنَ هُوَذَا ٱمْرَأَتُكَ! خُذْهَا وَٱذْهَبْ» (تكوين 12: 19).

لا شك أن خجلاً كبيراً أصاب إبراهيم بسبب الكذب. وبالرغم من أنهم أعطوه البقر والحمير لكنهم أخذوا منه زوجته! وكان إبراهيم سبباً في مجيء المصائب على الآخرين، فقد وقع عقاب الله على فرعون وعلى بيته، مع أنهم أبرياء. وجاءت المصيبة على إبراهيم نفسه. فقد وبَّخه فرعون على الكذب. وكم هو مؤلم أنَّ أهل العالم يوبِّخون أولاد الله. كان الواجب أن يتعلم فرعون الاستقامة من إبراهيم، لكن العكس حدث.

إبراهيم يتعلم أكثر عن الله:

أخطأ إبراهيم خطأ كبيراً عندما كذب وقال عن سارة زوجته إنها أخته. لكننا نشكر الله الذي لم يترك إبراهيم، فقد حفظه حتى وهو يخطئ. هل يمكن أن مقاصد الله تتغيَّر؟ لقد سقط إبراهيم، لكن قصد الله لا يسقط ووعده لا يتغير. هنا لا يجب أن ننظر إلى إبراهيم الضعيف قدر ما ننظر إلى الإله الطيب المحب الذي يعرف جبلتنا ويذكر أننا تراب نحن. وتقول التوراة إن فرعون أوصى رجاله فشيَّعوا إبراهيم وامرأته وكل ما كان له خارج حدود مصر. فصعد إبراهيم ومعه لوط إلى بيت إيل، وعاد إبراهيم إلى حيث كان، إلى مكان المذبح الذي عمله هناك أولاً، ودعا باسم الرب.

عاد إلى مذبحه القديم بعد أن تعلَّم أكثر عن الله. عرف أولاً أن الله إله الحق والطهارة. كان يعرف أن الله عظيم، لكنه لم يكن يدرك أن الله يحب الطهارة، ويحب الحق ويحب أولاده. لو كان إبراهيم عاد إلى كنعان بدون توبيخ من فرعون، لكان يظن أن تدبيره الجسدي نجح لكن فرعون وبَّخه، فكان فرعون الوثني أول من علّم إبراهيم درساً عن قداسة الله.

وهناك درس آخر تعلَّمه إبراهيم، تعلّم أن الله إله الغفران. لقد سقط وكذب لكن الله غفر له. كان يمكن أن يسحب الله مواعيده منه، ولكن الله طويل الروح وكثير الرحمة، رحم إبراهيم وغفر له خطيته.

وعرف إبراهيم درساً ثالثاً، عرف كيف يتكل على الله. حين دخل مصر كان يظن أنه يقدر أن يتكل على ذكائه وحكمته وتدبيره ليخلص نفسه، ولكنه خرج من مصر وقد تعلَّم درساً في الاتكال على الله القادر وحده أن ينجي، فإن الطريقة التي رسمها إبراهيم للنجاة عن طريق الكذب لم تنجح، لكن الله أنقذه بيد رفيعة وذراع ممدودة.

عزيزي القارئ، وأنت تتعامل مع الله أرجوك أن تحترس من نقطة الضعف التي فيك، كما تحترس من النقطة القوية التي فيك. لقد كان إبراهيم رجل الإيمان، وهاجم الشيطان إيمانه وجعله يشكُّ في مواعيد الله. تمسَّكْ بالله واحترس، فما أجمل قول المسيح: «اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ» (متى 26: 41).

الفصل الثالث: لوط يترك عمَّه إبراهيم

أخطأ إبراهيم عندما نزل إلى مصر، لكن الرب أعاده بقوته إلى مكان الشركة والصداقة كما كان. وتعلم إبراهيم الكثير من نزوله إلى مصر، واختبر الرب اختباراً أفضل، ورجع مع زوجته وكل ما كان له ومعه لوط إلى البلاد التي كان فيها حيث أراد الله له أن يكون. رجع بعد ذلك إلى بيت إيل حيث كانت خيمته في البداية، وهناك عند مكان المذبح الذي بناه من قبل، بدأ يدعو باسم الرب من جديد، وما أحلى الرجوع إلى الله! يقول إمام الحكماء سليمان: «ٱلصِّدِّيقُ يَسْقُطُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَيَقُومُ» (أمثال 24: 16). ويقول النبي ميخا: «لاَ تَشْمَتِي بِي يَا عَدُوَّتِي. إِذَا سَقَطْتُ أَقُومُ. إِذَا جَلَسْتُ فِي ٱلظُّلْمَةِ فَٱلرَّبُّ نُورٌ لِي» (ميخا 7: 8). وقال نبي الله داود: «يَرُدُّ نَفْسِي. يَهْدِينِي إِلَى سُبُلِ ٱلْبِرِّ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ» (مزمور 23: 3). شكراً لله الذي أصعدني من جب الهلاك، من طين الحمأة.

وهذا ما يحدث معك يا عزيزي القارئ، فإن كنت تحب الله ولكنك تقع في خطأ، فإنه يقيمك ويرجعك إليه.

ثروة لوط:

كان لوط ساكناً مع إبراهيم، وكان غنياً مثل إبراهيم - والكلمة «غني» معناها في اللغة العبرية «ثقيل»، فالغِنى حمْلٌ ثقيل، وقد كان حِمْلاً ثقيلاً على لوط. هذه هي المرة الأولى التي ورد فيها ذكر الثروة في التوراة. إن الله لا يريدنا أن نكون فقراء، لكنه يريدنا أن نتصرف في المال بحكمة. ونجد في الكتاب المقدس هذه التعاليم عن المال.

  1. ليس المال والثروة خطية، ما دمنا قد حصلنا عليهما بالأمانة والشرف.

  2. يجب أن يحسب كل إنسان أن ثروته من عند الله، وأنها كلها من الرب.

  3. يجب أن نصرف المال في ما يرضي الله.

  4. يجب أن نعطي الرب عُشْر دخلنا على الأقل، 10٪ مما يعطيه الله لنا.

  5. يجب أن نفتكر في الآخرين ونحن نصرف مالنا فنساعدهم.

الأغلب أن لوطاً ربح الكثير من المال في مصر، وكان له أتباع كثيرون. ولم تحتمل الأرض إبراهيم ولوطاً أن يسكنا معاً. كان الغنم والبقر كثيراً، ويحتاج إلى أرض واسعة للرعي كما كان يحتاج إلى ماء للشرب. وكان الكنعانيون والفرزيون ساكنين في الأرض، وكانت أغنامهم وأبقارهم محتاجة أيضاً للمرعى والشرب. فلم تكن المراعي كافية للجميع.

مخاصمة:

حدثت مخاصمة بين رعاة مواشي لوط ورعاة مواشي إبراهيم. ورأى إبراهيم الخطر القادم على الجميع. رأى خطراً من الكنعانيين الذين يسكنون في الغرب، ومن الفرزيين الذين يسكنون في الشرق- فإن هؤلاء عندما يرون المخاصمة بين لوط وإبراهيم يضربون الإثنين. قال رسول المسيحية بولس: «فَإِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، فَٱنْظُرُوا لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً» (غلاطية 5: 15). ورأى إبراهيم أيضاً أنه لا اتفاق بين الخصام وبين الصلاة أمام المذبح، فذهب إلى لوط وقال له: «لاَ تَكُنْ مُخَاصَمَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ رُعَاتِي وَرُعَاتِكَ، لأَنَّنَا نَحْنُ أَخَوَانِ. أَلَيْسَتْ كُلُّ ٱلأَرْضِ أَمَامَكَ؟ ٱعْتَزِلْ عَنِّي. إِنْ ذَهَبْتَ شِمَالاً فَأَنَا يَمِيناً وَإِنْ يَمِيناً فَأَنَا شِمَالاً» (تكوين 13: 8 و9)، لقد بدأ إبراهيم رسالة السلام. كان يجب أن لوطاً يخضع لأنه ابن أخ إبراهيم، ولا بد أن ثروته جاءته بفضل سفره مع عمه إبراهيم، ولكن لوطاً لم يخضع.

تكلم إبراهيم إلى لوط بحكمة، لم يأت بعنف ولا بقسوة، ولم يفتح الجروح بالعتاب المرّ. لم يقل له: «أنا أكبر منك. أنا أقوى منك. كل ثروتك جاءت من فضلي». لكن إبراهيم تعلَّم من الله كيف يقتل الخصام بالمحبة والسلام. فقال لابن أخيه: «نحن أخوان». قال إبراهيم: لا داعٍ للخصام على السقي فإن الأرض واسعة. اختر الأرض التي تريدها، وأنا أذهب إلى الطرف الأبعد منها. بهذه الطريقة ربح إبراهيم الموقف كله وانتصر، وبنفس هذه الأخلاق الكريمة تكسب أنت درساً في الأخلاق الكريمة والتسامح.

ردّ فعل لوط:

لم يكن لوط كريماً في موقفه مع عمه إبراهيم. الأغلب أن لوطاً اشترك مع الرعاة في الخصام، فإن إبراهيم يقول له: «لا تكن مخاصمة بيني وبينك». وحين عرض إبراهيم على لوط هذه الشروط الكريمة، لم يطلب لوط من عمه إبراهيم أن يختار أولاً، فقد ملأت الأنانية قلب لوط! ووقف على مرتفعات بيت إيل وأمامهم أرض كنعان الفقيرة، وكانت المزروعات تنمو في الجنوب الشرقي، ونهر الأردن يرويها. كان واضحاً أمام لوط أن كل دائرة نهر الأردن خصيبة فاختارها. وترك لإبراهيم عمِّه الأرض الفقيرة الصحراوية. لم يهتمّ لوط بأن سكان الأرض أشرار، ولم يفكر في أن المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة. كان كل فكره في الغنى والنجاح المادي. كان قصير النظر جداً، ولم يرَ غير نفسه ومصلحته وثروته ومستقبله المالي. لم يرَ غير الأرض والسقي والآبار والأنهار. لم يستطع أن يرى الله - لم يرَ عمه - ولا مصلحة عمه - ولا الواجب من نحو عمه، لم يستطع أن يرى شر أهل سدوم وعمورة الذي يقول عنهم الكتاب: «كان أهل سدوم أشراراً وخطاة لدى الرب جداً» لم يستطع أن يرى بناته يدخلن بيوت أهل سدوم وعمورة زوجات لرجال أشرار.. نعم، كان لوط قصير النظر، واختار لنفسه كل دائرة نهر الأردن العامرة بالثراء المادي والفقر الروحي، واعتزل عن إبراهيم، ونقل خيامه إلى سدوم.

الفصل الرابع: إبراهيم ينقذ لوطاً

كانت سدوم وعمورة بلاداً خضراء خصيبة وغنية، لكنهما كانتا مستعبدتين لملك قاس اسمه كدر لعومر، وهو اسم كدر لعومر مكوَّن من كلمتين: «كدر» ومعناها «عبد». و «لعومر» اسم إله بلاد عيلام، فيكون اسم كدر لعومر «عبد الإله لعومر».

في السنة الثالثة عشرة ثارت سدوم وعمورة ضد الاستعمار، واتفق ملوك ثلاث بلاد قريبة مع ملكي سدوم وعمورة أن لا يرسلوا الجزية المفروضة عليهم إلى كدر لعومر. فجاء كدر لعومر ومعه جيوش ثلاث بلاد أخرى، وهاجم الملوك الخمسة. لم تكن الحرب بسيطة، لكنها كانت شديدة قاسية. وانهزم فيها ملك سدوم وملك عمورة وأصحابهما الثلاثة. وهرب ملك سدوم وملك عمورة وسقطا. وأخذ كدر لعومر جميع أملاك سدوم وعمورة من بهائم وغنم وذهب وطعام ورجال ونساء.. وأخذ لوطاً وزوجته وبناته وأملاكه من ضمن السبايا. لقد ضاع لوط مع شعب المدينة الفاسدة. انهزمت سدوم وعمورة بسبب فساد الأخلاق، كما يقول سليمان الحكيم: «عَارُ ٱلشُّعُوبِ ٱلْخَطِيَّةُ» (أمثال 14: 34). والخاطئ يسقط دائماً ويكون سقوطه عظيماً، لأن أجرة الخطية هي موت.

ودفع لوط ثمن خطية سدوم وذهب إلى السبي. وهرب بعض أهل سدوم من الحرب إلى حبرون حيث يسكن إبراهيم، وأخبروه كيف أن الملك كدر لعومر سبى لوطاً وكل ممتلكاته وكل ما كان له. وكان يمكن أن يقول إبراهيم: «لوط خاصمني وتركني. صحيح أنه ابن أخي، لكنه عاصٍ غير مطيع، فليدفع أجرة العصيان وثمن الخصام معي، إن لوطاً يستحق كل ما جاء عليه. إنه ينال عقاب الشخص كل من يترك الكبير ويجري وراء الطمع».

لم يفكر إبراهيم أبداً في هذه الأفكار، وما إن سمع عن لوط المسكين حتى قام فوراً لينجده، فإن لوطاً ابن أخيه. إنه لحمه ودمه، وإبراهيم صاحب القلب الملآن بالمحبة. لم تكن محبة إبراهيم للوط محبة عواطف ترتفع وتنخفض، لكنها كانت محبة من الله، محبة تخدم. كانت محبة إبراهيم مثل المحبة التي وصفها رسول المسيحية يوحنا فقال: «بِهٰذَا قَدْ عَرَفْنَا ٱلْمَحَبَّةَ: أَنَّ ذَاكَ وَضَعَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَضَعَ نُفُوسَنَا لأَجْلِ ٱلإِخْوَةِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ مَعِيشَةُ ٱلْعَالَمِ، وَنَظَرَ أَخَاهُ مُحْتَاجاً، وَأَغْلَقَ أَحْشَاءَهُ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ فِيهِ؟» (1يوحنا 3: 16،17) إن محبة إبراهيم محبة حقيقية.. لا تشمت، ولا تفرح بالإثم. وبهذه المحبة العاملة تحرك قلب إبراهيم، وقرر أن ينقذ ابن أخيه لوطاً.

إبراهيم يحارب:

لم نسمع من قبل أنَّ إبراهيم كان رجل حرب، ولم نقرأ أبداً أنه خرج يقتل ويحارب. بالعكس، نحن نعلم أنه رجل سلام. كان في حبرون ثلاثة رؤساء عظماء، وهم عانر وأشكول وممرا، وقد عقد إبراهيم مع هؤلاء الثلاثة عهد صداقة، لكن إبراهيم قرر أن يخلِّص لوطاً وأن يدافع عن ابن أخيه، فأخذ ثلاثمائة وثمانية عشر رجلاً من رجاله. وعندما سمع أصحابه عانر وأشكول وممرا عن عزمه، ساروا مع صديقهم المحبوب إبراهيم. خلف جيش كدر لعومر وهجموا عليه وغلبوه، واسترجع إبراهيم كل أملاك سدوم من أجل ابن أخيه لوط. وهكذا نجح إبراهيم العامل بالمحبة وانتصر وأنقذ ابن أخيه من يد الغزاة.

ووصلت أخبار انتصار إبراهيم إلى ملك سدوم، ففرح وخرج يقابل إبراهيم ويشكره. قال الملك لإبراهيم: «أَعْطِنِي ٱلنُّفُوسَ، وَأَمَّا ٱلأَمْلاَكَ فَخُذْهَا لِنَفْسِكَ» (تكوين 14: 21). وكانت العادة أن الذي يحارب ويغلب يأخذ كل الأملاك ويترك الناس للملك الذي حارب من أجله. لكن إبراهيم كان قد تعلَّم درساً عظيماً عندما نزل إلى مصر، هو أن الله يبارك ويعطي، أما البشر فلا يستطيعون أن يعطوا. قال إبراهيم لملك سدوم: «رَفَعْتُ يَدِي إِلَى ٱلرَّبِّ ٱلإِلٰهِ ٱلْعَلِيِّ مَالِكِ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لاَ آخُذَنَّ لاَ خَيْطاً وَلاَ شِرَاكَ نَعْلٍ وَلاَ مِنْ كُلِّ مَا هُوَ لَكَ، فَلاَ تَقُولُ: أَنَا أَغْنَيْتُ أَبْرَامَ. لَيْسَ لِي غَيْرَ ٱلَّذِي أَكَلَهُ ٱلْغِلْمَانُ. وَأَمَّا نَصِيبُ ٱلرِّجَالِ ٱلَّذِينَ ذَهَبُوا مَعِي: عَانِرَ وَأَشْكُولَ وَمَمْرَا، فَهُمْ يَأْخُذُونَ نَصِيبَهُمْ» (تكوين 14: 22-24).

لقد كان إبراهيم مكتفياً، ولم تستطع الغنيمة أن تغريه. علم أن الله هو مالك السماوات والأرض، وأن كل عطية صالحة نازلة من عنده. لم يأخذ إبراهيم من الأرض شيئاً، لكن السماء أعطته الكثير. وحين نذكر ما فعله إبراهيم مع ملك سدوم نذكر كيف يمكن أن يكون الإنسان منا مكتفياً ببركة الله له، وأن يكون قلبه عامراً بالشكر لله.

ردّ فعل لوط:

كان موقف لوط من عمِّه الذي أنقذه موقفاً غريباً! ملك سدوم يشكر إبراهيم لكن لوطاً لا يشكر. فإن التوراة لا تقول إن لوطاً شكر عمه إبراهيم الذي أنقذه. عرض ملك سدوم هدايا على إبراهيم، لكن لوطاً لم يفعل شيئاً من هذا. كنا نظن أن لوطاً يأتي إلى إبراهيم في شكر واعتراف، ويعتذر عن الخطأ الذي وقع فيه يوم انفصل عن عمه، ويوم فكر في نفسه فقط ولم يعمل الواجب مع عمه. ولكن لوطاً لم يفعل شيئاً من هذا. كنا نظن أن لوطاً يفكر في ترك سدوم بعد أن قاسى من الحرب والخراب، وكنا نظن أنه يطلب أن يسكن مع إبراهيم الذي أحبه ودافع عنه، لكن لوط لم يفعل شيئاً من هذا. وهذا كله يظهر لنا بطولة إبراهيم المحب. قام إبراهيم بالواجب نحو لوط، دون أن ينتظر شكراً أو تقديراً أو جزاءً، لكنه قام بواجب المحبة من أجل الإله مالك السماء والأرض. إن إبراهيم خليل الله يعطي كل واحد منا درساً في خدمة الآخرين وليس من أجل الجزاء.

درس من قول المسيح:

إن هذا السلوك الرائع من إبراهيم نحو ابن أخيه لوط، يذكرنا بقول السيد المسيح: «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا ٱلشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ ٱلأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ ٱلآخَرَ أَيْضاً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَٱتْرُكْ لَهُ ٱلرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَٱذْهَبْ مَعَهُ ٱثْنَيْنِ. مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ.

«سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلأَشْرَارِ وَٱلصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى ٱلأَبْرَارِ وَٱلظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذٰلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هٰكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِل» (متى 5: 38 - 48).

الفصل الخامس: الله يشجع إبراهيم

رأينا كيف حدثت مخاصمة بين لوط وإبراهيم، ولكن إبراهيم انتصر بالتسامح والمحبة. وحين هجم كدر لعومر على سدوم وأخذ لوطاً مسبياً، لم يترك إبراهيم ابن أخيه، بل سار وراءه حتى أنقذه وأرجعه إلى مكانه، ورفض هدية ملك سدوم في ثقة ورفعة، ثم رجع إلى مكانه بعد أن أنقذ لوطاً. وبدأ إبراهيم يفكر في نفسه وأحواله، وشعر باليأس. نعم كانت هناك ظروف كثيرة تضايقه.

حارب إبراهيم كدر لعومر وهزمه، وأخذ الغنائم منه، ولا بد أن كدر لعومر وأصحابه يرجعون ليحاربوا إبراهيم. وبدأ إبراهيم يشعر بالخوف بعد الانتصار.. من يعلم، قد ينقلب أهل المكان ضده ويحاربونه مع كدر لعومر. إذاً كيف يكون الحال؟ لم يكن إبراهيم مستريحاً بعد الانتصار في الحرب.

ثم إن إبراهيم كان في ضعف روحي. منذ عشر سنوات ترك بلاده وجاء إلى كنعان طاعة لأمر الرب، وقال الله له إنه سيجعل نسله كتراب الأرض، حتى إذا استطاع أحد أن يعُدَّ تراب الأرض يعدّ نسله. لكن الوقت مضى ولم يتحقق هذا الوعد. نعم، إن الله وعَدَه، وكرر له الوعد، لكن الله أطال أناته.

ثم كان إبراهيم يعيش في وحدة. لوط ابن أخيه تركه. حتى بعد أن أنقذه من السبي لم يرجع معه. لم يكن هناك صديق لإبراهيم يحكي له أحواله ويشاركه اختباراته. وبسبب هذه الظروف شعر إبراهيم بالخوف والضيق.

أنا ترس لك:

ولكن لا يمكن أن يترك الله أولاده في يأسهم وخوفهم. فتقول لنا التوراة: «بَعْدَ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ صَارَ كَلاَمُ ٱلرَّبِّ إِلَى أَبْرَامَ فِي ٱلرُّؤْيَا: «لاَ تَخَفْ يَا أَبْرَامُ. أَنَا تُرْسٌ لَكَ. أَجْرُكَ كَثِيرٌ جِدّ» (تكوين 15: 1).

عفي هذه الكلمات نرى تشجيعاً ثلاثياً لإبراهيم.

  1. التشجيع الأول «لا تخف». ولقد تكرر هذ الوعد في الكتاب المقدس نحو ثلاثمائة وخمساً وستين مرة. كأن الله يقول لنا مرة كل يوم «لا تخافوا» - «لاَ تَخَفْ لأَنِّي فَدَيْتُكَ. دَعَوْتُكَ بِٱسْمِكَ. أَنْتَ لِي. إِذَا ٱجْتَزْتَ فِي ٱلْمِيَاهِ فَأَنَا مَعَكَ، وَفِي ٱلأَنْهَارِ فَلاَ تَغْمُرُكَ. إِذَا مَشَيْتَ فِي ٱلنَّارِ فَلاَ تُلْذَعُ، وَٱللَّهِيبُ لاَ يُحْرِقُكَ. لأَنِّي أَنَا ٱلرَّبُّ إِلَهُكَ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ مُخَلِّصُكَ» (إشعياء 43: 1 - 3). وكل مؤمن يأتيه صوت من اللّه يقول: لا تخف من المستقبل المجهول لأن الرب معك. لا تخف من الأعداء لأن الذين معك أكثر من الذين عليك. لا تخف من العوز والاحتياج لأن أباك السماوي يعلم ما تحتاج إليه من قبل أن تسأله. لا تخف من الحيات والعقارب البشرية لأن كل قوة العدو لا تضرك بشيء. ما دمت مع اللّه فإنك في أمان.. لا تخف.

  2. وهناك تشجيع ثانٍ يقدمه اللّه لإبراهيم «أنا ترس لك». هذا هو السبب في عدم الخوف. إن الرب ترس لإِبراهيم يحميه ويحفظه. والترس هو قطعة خشب مغطاة بالجلد، يمسكها الجندي بحزام من الخلف ليتلقّى عليها سهام العدو، فلا تصيبه. وعندما تضايق داود من الأعداء الذين قالوا له: «ليس لك خلاص بإلهك». قال: «أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَتُرْسٌ لِي. مَجْدِي وَرَافِعُ رَأْسِي» (مزمور 3: 1 - 3). وقد حفظ اللّه إبراهيم حتى انكسرت كل سهام العدو على الترس الحافظ.

  3. وكان هناك تشجيع ثالث. قال اللّه لإِبراهيم: «أجرك عظيم جداً». كان إبراهيم قد سامح لوطاً وأعطاه فرصة أفضل. كان قد أنقذ لوطاً من السبي، ورفض هدية ملك سدوم. واللّه ليس ظالماً حتى ينسى تعب المحبة. وقد جاء ميعاد إعطاء إبراهيم أجرته، فإن اللّه لا بد أن يجازي كل واحد حسب عمله.

إيمان إبراهيم يُحسب له براً:

في وقت الضيق قال الله لإبراهيم: «لا تخف يا إبراهيم، أنا ترس لك. أجرك عظيم جداً». فتساءل: «أين أجرتي؟ إن كل ما عندي من مال وبهائم سيأخذه أليعازر الدمشقي الوكيل الذي عندي». وقال إبراهيم للرب: «إِنَّكَ لَمْ تُعْطِنِي نَسْلاً، وَهُوَذَا ٱبْنُ بَيْتِي وَارِثٌ لِي» (تكوين 15: 3). ولكن الرب قال إن أليعازر لا يرثك، بل الذي يخرج من أحشائك هو يرثك. وأخرج اللّه إبراهيم إلى خارج الخيمة وقال له: / «ٱنْظُرْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَعُدَّ ٱلنُّجُومَ إِنِ ٱسْتَطَعْتَ أَنْ تَعُدَّهَا». ثم قال له: «هٰكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ» (تكوين 15: 5).

عزيزي القارئ، الذي ينظر إلى النجوم يرى بينها أشعة نور آتية من نجوم أخرى أبعد، فلا يقدر أحد أن يعرف عدد النجوم بالضبط. وتقول التوراة إن إبراهيم آمن بكلمات الرب له، وصدَّق وعده مع أن سارة وصلت إلى سن اليأس. آمن باللّه فحسب إيمانه براً (تكوين 15: 6)، فليس بار ليس ولا واحد، لكن اللّه يحسب الإنسان باراً، لأنه يحسب لنا برّ المسيح. كان اللّه موضوع إيمان إبراهيم، وكانت كلمة اللّه أساس إيمان إبراهيم. وجاء برُّ إبراهيم نتيجةً لإِيمان إبراهيم، بعد أن حسب له اللّه إيمانه براً.

اللّه يدخل في عهد مع إبراهيم:

في اليوم التالي جرى حديث آخر بين اللّه وإبراهيم. قال اللّه لإِبراهيم: «أَنَا ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أُورِ ٱلْكِلْدَانِيِّينَ لِيُعْطِيَكَ هٰذِهِ ٱلأَرْضَ لِتَرِثَهَا» (تكوين 15: 7). وفي شجاعة الإِيمان سأل إبراهيم: «بماذا أعلم أني أرثها؟» لم يكن هذا السؤال سؤال الشك الذي يحتاج إلى برهان، لكنه كان سؤال الثقة التي تطلب الشرح. فجاوب اللّه إبراهيم جواباً لطيفاً عامراً بالمحبة، باللغة التي يفهمها إبراهيم. لقد دخل اللّه في عهد مع إبراهيم بطريقة ذلك الزمان. قال اللّه لإِبراهيم: «خُذْ لِي عِجْلَةً ثُلاَثِيَّةً وَعَنْزَةً ثُلاَثِيَّةً وَكَبْشاً ثُلاَثِيّاً وَيَمَامَةً وَحَمَامَةً» (تكوين 15: 9). وأخذ إبراهيم هذه كلها وشقَّها من الوسط، وجعل شقَّ كل واحد مقابل صاحبه، أما الطير فلم يشقه... وكان الناس في زمان إبراهيم يقطعون العهود مع بعضهم بطريقة خاصة. هي الطريقة التي طلبها اللّه من إبراهيم، فقد كانوا يقسمون كل ذبيحة إلى نصفين، ثم يمشي كل من يدخل العهد وسط القطع. وكانوا يقصدون أن يقولوا إن الذي يكسر العهد يتقطع كما تقطعت الذبيحة. وقد فعل إبراهيم ما أمره اللّه به: شقَّ الذبائح من وسطها، ووضع كل نصف مقابل النصف الآخر، أما اليمامة والحمامة فلم يقطعهما إلى نصفين، لكنه وضع اليمامة في جانب والحمامة في جانب آخر. وجلس بجوار الذبائح ينتظر. كان لا بد أن يأتي الرب ويسير بين القطع. وكان المفروض أيضاً أن إبراهيم يسير بين القطع ليدخل الله وإبراهيم في عهد معاً.

لكن النهار الطويل مضى دون أن يحدث شيء. تُرى ماذا قال إبراهيم في نفسه؟ هل ظن أنه يسير وراء أوهام؟ هل ظن أن اللّه لا يحقق وعده؟ لا بد أنه طرد تلك الأفكار الشريرة التي جاءت إلى رأسه. وعند المغيب نام نوماً عميقاً ورأى رؤيا، رأى ظلمة شديدة واللّه يتكلم معه ويعلن له المستقبل: إن نسله الكثير سيذهب إلى أرض غريبة، وهناك يكونون عبيداً مدة أربعمائة سنة، لكن اللّه يدين الأمة التي تستعبد الشعب، ويكافئ نسل إبراهيم. واستيقظ إبراهيم من نومه، وعندها تمم اللّه عهده، فقد جاء تنُّور دخان ومصباح نار ليجوز بين قطع الذبائح... إذاً فقد دخل اللّه في العهد مع إبراهيم، فإن النار رمز حضور اللّه.

تلاحظ أيها القارئ الكريم أن إبراهيم لم يمشِ بين القطع، فقد كان العهد بين إبراهيم وبين اللّه من جانب واحد فقط. اللّه هو الذي يدخل في عهد مع الإِنسان - ماذا يستطيع الإِنسان أن يفعل مع اللّه، إلا أن يقبل حب اللّه؟ وهذا ما قاله المرنم داود: «مَاذَا أَرُدُّ لِلرَّبِّ مِنْ أَجْلِ كُلِّ حَسَنَاتِهِ لِي؟ كَأْسَ ٱلْخَلاَصِ أَتَنَاوَلُ، وَبِٱسْمِ ٱلرَّبِّ أَدْعو» (مزمور 116: 12، 13).

عزيزي القارئ، ندعوك أن تقبل الخلاص الذي يقدمه اللّه لك، بقلب شاكر ونفس مؤمنة وسعيدة.

الفصل السادس: هاجر وإسماعيل

صار عمر سارة زوجة إبراهيم خمساً وسبعين سنة، وبلغ إبراهيم الخامسة والثمانين، ولم تلد سارة لإِبراهيم ابناً. وكانت سارة تعلم أن اللّه وعد إبراهيم أن يكون له نسل كثير، لكن اللّه لم يكن قد قال إن هذا النسل الكثير سيكون من سارة. كان الوعد الواضح أن إبراهيم سيكون أباً لجمهور من الأمم. وقد أعطى اللّه هذا الوعد عندما كان في أور الكلدانيين، ولم تكن له زوجة في ذلك الوقت سوى سارة، لأن التوراة تحكي لنا أن الذين خرجوا من أور الكلدانيين إلى كنعان كانوا: تارح أبا إبراهيم، وإبراهيم وزوجته سارة، ولوط.

ولما تأخرت سارة عن الولادة، ووصلت السن الذي لا تستطيع فيه أن تلد، فكرت في تحقيق ذلك الوعد القديم: أن يكون لإِبراهيم نسل ووارث. وكان عند سارة جارية مصرية اسمها هاجر، ربما جاءتها هدية من فرعون عندما أخذها إلى بيته. وقالت سارة لإِبراهيم: «ٱلرَّبُّ قَدْ أَمْسَكَنِي عَنِ ٱلْوِلاَدَةِ. ٱدْخُلْ عَلَى جَارِيَتِي لَعَلِّي أُرْزَقُ مِنْهَا بَنِينَ» (تكوين 16: 2). ولم يكن هذا التصرف غريباً في ذلك الوقت، فقد كانت عادة ذلك الزمان أن الزوجة التي لا تلد تعطي جاريتها لزوجها. وعندما تلد الجارية كانت تلد على ركبتي سيدتها، ويحسبون الطفل المولود طفل السيدة وليس طفل الجارية. ولا شك أن هذا العمل كان صعباً على سارة. كان تضحية من جانبها، لأنها أعطت جاريتها زوجة لزوجها. كما كان في طلب سارة أن يتزوج إبراهيم من هاجر إيمان منها بوعد اللّه لإبراهيم، أنه سيكون أباً لجمهور من الأمم. وقد أرادت سارة أن يكون إبراهيم أباً لجمهور من الأمم، ولو كان ذلك من جاريتها هاجر.

لكن هذا العمل كان خطأ. كان خاطئاً ضد هاجر، فقد كان من الممكن أن تتزوج خادماً مثلها، تعيش معه في سعادة، لأنها تتزوج ممن هو نظيرها، لكنها صارت أماً لابن إبراهيم دون أن تكون زوجة لإِبراهيم. لقد جعل هذا العمل هاجر تقف في موقف شاذ.. ضاعت شخصيتها ولم يكن الذنب ذنبها. لقد وضعوها في هذا المكان الغريب الشاذ.

ثم إن هذا العمل الخاطئ كان ضد سارة نفسها. كانت سيدة البيت الأولى، ولكنها نزلت عن مكانها، وحرمها هذا العمل الخاطئ من حقها العظيم في البيت، وفي نفس الوقت اشتركت مع إبراهيم في العصيان.

ولا يجب أن نلوم سارة، فنحن نقابل مشكلة مشابهة عندما نرى الناس من حولنا يرتكبون عملاً خاطئاً، فنشترك معهم في هذا العمل، بدون تفكير. كان الرجال زمن إبراهيم يتزوجون الجواري، ليكون هناك نسل للزوجات. وبدون تفكير عميق وبدون صلاة، عملت سارة كما يعمل أهل العالم من حولها. فلنحترس لئلا نتصرف التصرف الخاطئ، لأن المحيطين بنا يعملون هذا الخطأ كشيء طبيعي.

وهناك تحذير آخر نراه لنا في هذه القصة: إن نصيحة الصديق ليست دائماً صحيحة. سمع إبراهيم كلام سارة. لو جاءه الكلام من شخص آخر غير سارة لتردَّد. أما وقد جاء الكلام من سارة فقد أطاع. ولهذا السبب يجب أن نحترس من الأصحاب والأحباب. فقد يقدمون لنا نصيحة نقبلها لأنها جاءت من صديق، وتكون النصيحة خاطئة. جاءت وصية اللّه في سفر التثنية تقول: «وَإِذَا أَغْوَاكَ سِرّاً أَخُوكَ ٱبْنُ أُمِّكَ، أَوِ ٱبْنُكَ أَوِ ٱبْنَتُكَ أَوِ ٱمْرَأَةُ حِضْنِكَ، أَوْ صَاحِبُكَ ٱلَّذِي مِثْلُ نَفْسِكَ... فَلاَ تَرْضَ مِنْهُ وَلاَ تَسْمَعْ لَهُ وَلاَ تُشْفِقْ عَيْنُكَ عَلَيْهِ وَلاَ تَرِقَّ لَهُ وَلاَ تَسْتُرْهُ» (تثنية 13: 6 - 8).

على أننا يجب أن نذكر هنا أن إبراهيم يحترم سارة زوجته. لقد سمع كلامها وأطاع نصيحتها. كانت تدعوه سيدها. لكنه كان يعاملها بمحبة كاملة واحترام كامل، فسمع نصيحتها. وفي هذا درس لنا أن لا نسمع كلام أصحابنا مهما احترمناهم، بل نسمع كلمة اللّه مهما بدت صعبة وغريبة، فلا طاعة في معصية، و «يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ ٱللّٰهُ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنَّاسِ» (أعمال 5: 29).

ثمن الخطأ:

تزوج إبراهيم من هاجر جارية سارة. ولما حبلت هاجر، بدأت الأمور تتغيَّر. لقد كانت النتيجة مصيبة على ذلك البيت الصغير. بدأت هاجر تتكبر حتى صغرت مولاتها في عينيها. لقد عرفت هاجر أن طفلها سيكون وارث البيت، وهذا معناه أنها ستصير سيدة البيت الأولى، فتكبَّرت على سارة.

ثم ملأ الحسد قلب سارة. دفع الحب والتضحية سارة لأن تطلب من زوجها أن يتزوج هاجر، ولكن لما حبلت هاجر امتلأت سارة بالغيرة، فقالت لإِبراهيم: «ظُلْمِي عَلَيْكَ! أَنَا دَفَعْتُ جَارِيَتِي إِلَى حِضْنِكَ، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا حَبِلَتْ صَغُرْتُ فِي عَيْنَيْهَا. يَقْضِي ٱلرَّبُّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ» (تكوين 16: 5).

وواجه إبراهيم نفسه مشكلة: سارة طلبت منه أن يتزوج هاجر، والآن تقول له: «ظلمي عليك». كيف يصنع إبراهيم سلاماً بين سارة وبين هاجر؟ سارة زوجته وهاجر ستكون أم ابنه. كان يجب أن يعرف إبراهيم كل هذا قبل حدوثه ويمتنع عن الزواج من هاجر، لكن عندما جرى هذا الذي جرى، أدرك إبراهيم الخطأَ الذي وقع فيه. فقال لسارة: «جَارِيَتُكِ فِي يَدِكِ. ٱفْعَلِي بِهَا مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكِ» (تكوين 16: 6). وهنا بدأت سارة تذل هاجر.

ولا نعرف كيف أذلت سارة هاجر، لكن الإِذلال كان قاسياً حتى هربت هاجر من البيت، وسارت في طريق يقود إلى مصر. لعلها أرادت أن ترجع إلى بلادها. ولما تعبت من السير جلست على عين ماء في الصحراء، وجاء ملاك الرب وسألها: «مِنْ أَيْنَ أَتَيْتِ، وَإِلَى أَيْنَ تَذْهَبِين؟». فَقَالَتْ: «أَنَا هَارِبَةٌ مِنْ وَجْهِ مَوْلاَتِي سَارَايَ». فَقَالَ لَهَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ: «ٱرْجِعِي إِلَى مَوْلاَتِكِ وَٱخْضَعِي تَحْتَ يَدَيْهَا». وَقَالَ لَهَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ: «تَكْثِيراً أُكَثِّرُ نَسْلَكِ فَلاَ يُعَدُّ مِنَ ٱلْكَثْرَةِ». وَقَالَ لَهَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ: «هَا أَنْتِ حُبْلَى، فَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتَدْعِينَ ٱسْمَهُ إِسْمَاعِيلَ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ سَمِعَ لِمَذَلَّتِكِ». وحين طلب الرب من هاجر أن تخضع، أعطاها وعداً بالمكافأة، فقال لها إن ابنها سيكون إسماعيل بمعنى: اللّه يسمع. في كل مرة تنادي هاجر ابنها إسماعيل تذكر الرب الذي سمع لمذلتها. ثم قال الملاك عن إسماعيل: «يَكُونُ إِنْسَاناً وَحْشِيّاً، يَدُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ، وَأَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ» (تكوين 16: 7 - 12). وهذا يعني أن إسماعيل سيحب الحرية، ويعيش متبدِّياً، ينتقل من مكان إلى مكان في حرية كاملة، لا يحدها قيد يمنعها من القتال والخصومة في طلب الماء والعشب لرعي المواشي.

الرب يرى:

عزيزي القارئ، التقى الملاك بهاجر وشجعها، فكان مكان لقائها بالملاك بركة لها، فأطلقت عليه إسم «إيل رُئي» بمعنى الرب يرى. ألا ترى معي كيف أن اللّه يرى ويلاحظ ويعتني؟ دعت هاجر اسم عين الماء بئر «لَحَي رُئي» ومعناها بئر الحي الذي يراني. عند تلك البئر حفظ الرب حياتها بعد أن التقت به، وأعادها إلى البيت الذي خرجت منه. ورجعت هاجر إلى بيت إبراهيم في خضوع، وولدت ابنها إسماعيل عندما كان إبراهيم في السادسة والثمانين من عمره (تكوين 16: 13 - 16).

إسماعيل ابن الصلاة:

يرتبط اسم إسماعيل بالصلاة، فإن معنى اسمه «الله يسمع». ويقول لنا الكتاب المقدس كيف أن الله سمع صلاته عندما كان طفلاً. لم يكن إسماعيل مرغوباً فيه في أسرته، فبعد ولادته حدثت معجزة: ولدت سارة ابناً لإبراهيم وهي في شيخوختها بحسب وعد الله لإبراهيم، وسمَّت طفلها إسحق، بمعنى «ضحك». وأقاموا احتفالاً كبيراً يوم فطامه. وحدثت غيرة في نفس إسماعيل من أخيه غير الشقيق إسحق، فضايقه واستهزأ به. وأثار هذا الاستهزاء غضب سارة، فأصرَّت على أن يطرد إبراهيم هاجر وابنها إسماعيل. ولم يعجب إبراهيم كلام سارة، لكن الله كلَّمه في حلم وقال له: «لاَ يَقْبُحُ فِي عَيْنَيْكَ مِنْ أَجْلِ ٱلْغُلاَمِ وَمِنْ أَجْلِ جَارِيَتِكَ. فِي كُلِّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ ٱسْمَعْ لِقَوْلِهَا، لأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. وَٱبْنُ ٱلْجَارِيَةِ أَيْضاً سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً لأَنَّهُ نَسْلُكَ» (تكوين 21: 12 و13). فأخذ إبراهيم خبزاً وقربة ماء وأعطاهما لهاجر، وصرفها هي وابنها.

وضلت هاجر في صحراء بئر سبع، وانتهى الماء من قربتها. وضعف إسماعيل بسبب العطش، فطرحته هاجر تحت إحدى الأشجار، ومضت وجلست مقابله بعيداً، لأنها قالت: «لا أنظر ولدي يموت». ولا شك أن السؤال يتبادر إلى أذهاننا: ألم يقدم الرب وعداً لإبراهيم قائلاً: ابن الجارية سأجعله أمة، لأنه نسلك؟ فهل يمكن أن يموت إسماعيل عطشاً؟ ألا يجب أن تتحقق مواعيد الله في كلامه لإبراهيم؟ نعم، لا بد أن تتحقق المواعيد الإلهية. لذلك يقول الكتاب المقدس: «فَسَمِعَ ٱللّٰهُ صَوْتَ ٱلْغُلاَمِ. وَنَادَى مَلاَكُ ٱللّٰهِ هَاجَرَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: «مَا لَكِ يَا هَاجَرُ؟ لاَ تَخَافِي، لأَنَّ ٱللّٰهَ قَدْ سَمِعَ لِصَوْتِ ٱلْغُلاَمِ حَيْثُ هُوَ. قُومِي ٱحْمِلِي ٱلْغُلاَمَ وَشُدِّي يَدَكِ بِهِ، لأَنِّي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً». وَفَتَحَ ٱللّٰهُ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلأَتِ ٱلْقِرْبَةَ مَاءً وَسَقَتِ ٱلْغُلاَمَ. وَكَانَ ٱللّٰهُ مَعَ ٱلْغُلاَمِ فَكَبِرَ» (تكوين 21: 17-20) وسكن صحراء فاران، وكان ينمو رامي قوس. ولما كبر، زوَّجتهُ أمه زوجة مصرية من جنسيتها هي. وأنجب إسماعيل أولاداً وبنات صاروا شعباً قوياً. وعندما مات إبراهيم دفنه ابناه إسماعيل وإسحق.

عزيزي القارئ، أود أن أسألك إن كنت مررت باختبار يشبه اختبار إسماعيل؟ هل شعرت أنك شخص غير مرغوب فيك من الذين تتوقع منهم العناية والحب؟ هل رأيت آخرين يتمتعون بامتيازات لا تتمتع بها أنت؟ هل كانت لك آمال كبيرة وانتهت فجأة؟ هل اختبرت معنى الحرمان من محبة الأم ومن طمان البيت؟ ربما أهملتك أمك وكأن أحداً لا يهتم بك.

عندما تركت هاجر إسماعيل تحت الشجرة صلى، فسمع الله صراخه وأنقذه في قلب الصحراء، وأرشد أمه لتجد الماء الذي بعث الحياة في جسده. نعم هناك من يهتم. إن الله يهتم. كان للرب قصد عظيم في حياة إسماعيل. لا شك أن إسماعيل ارتبك وهو يرى التعقيدات في حياته، فذات يوم كانوا يعاملونه باعتبار أنه وارث إبراهيم والابن الوحيد له. وفي يوم آخر عاملوه على أنه ابن الجارية غير المرغوب فيه. كان يرى سارة وأمه تتعاركان باستمرار وتشكوان إلى إبراهيم. في بعض الأحيان كان إبراهيم لطيفاً معه، وفي أحيان أخرى كان يتصرف معه بطريقة خشنة مزعجة مخيفة. ولكن الصدمة الكبرى جاءته عندما طرده إبراهيم مع أمه هاجر من بيته، ولم يعطه سوى قربة ماء وبعض الخبز. إن للرب قصداً في حياة إسماعيل، وتحقق هذا القصد عندما صلى إسماعيل، فكانت صلاته نقطة التحول في حياته. وعندما أطاعت أمه توجيهات ملاك الرب اكتشفت الماء الذي كانت تحتاج إليه هي وابنها. ولم يرجع إسماعيل إلى محل إقامة أبيه، لكنه أقام لنفسه مسكناً مستقلاً. إن هذا يذكرنا بقول نبي الله داود: «ٱتَّكِلْ عَلَى ٱلرَّبِّ وَٱفْعَلِ ٱلْخَيْرَ. ٱسْكُنِ ٱلأَرْضَ وَٱرْعَ ٱلأَمَانَةَ. وَتَلَذَّذْ بِٱلرَّبِّ فَيُعْطِيَكَ سُؤْلَ قَلْبِكَ. سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَٱتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي» (مزمور 37: 3 - 5).

عندما تنغلق في وجهك أبواب الأرض كلها، ستجد دوماً أبواب السماء مفتوحة!

الفصل السابع: تشجيع جديد لإبراهيم

مضت ثلاث عشرة سنة على ولادة إسماعيل دون أن يسمع إبراهيم فيها إعلاناً إلهياً، فالتوراة لا تسجل لنا شيئاً من ذلك. لا شك أنها كانت سنوات جافة لم يسمع فيها إبراهيم صوت الله صديقه المحب. وعندما كان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب له، وكان بينهما حديث صداقة حار. قال الله: «أَنَا ٱللّٰهُ ٱلْقَدِيرُ. سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً، فَأَجْعَلَ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَأُكَثِّرَكَ كَثِيراً جِدّاً» (تكوين 17: 1 و2). وهذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها الله لإبراهيم عن نفسه أنه الله القدير. لقد كان إبراهيم محتاجاً أن يسمع عن «الله القدير» أن يتمم وعده له. ومع أن السنوات تمضي إلا أن الله أمين في تحقيق الوعد، وساهر على كلمته ليجريها. وطول أناة الله لا تعني أن الله لا ينفذ وعوده، أو أنه بطيء في تنفيذ الوعد، فإن الله وإن تأنى يستجيب ما يعِدُ به، ويتمّمه. الله القدير لا يصعب عليه أمر، قادر أن يفعل أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر. لقد أراد الله أن يقول لإبراهيم: «أنا الذي أُحيي الموتى، وأدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة. أنا أستطيع أن أُقيم من الحجارة أولاداً لك. أنا الله القدير الذي لا يعسر عليه شيء».

قال الله لإبراهيم: «سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً» (تكوين 17: 1). وليس المقصود بالكمال هنا أن إبراهيم لا يخطئ، فإنه لا يوجد إنسان لا يخطئ، وليس أحدٌ صالحاً إلا واحد وهو الله. لكن المقصود بالكمال هو كمال الثقة.. فيكون الله القدير وحده موضوع ثقة إبراهيم. ثم أن الله يعني بقوله: «كن كاملاً» كمال العزم والرغبة في إبراهيم على أن يعمل مشيئة الله الصالحة. ثم أن الله يقصد أن يكون إبراهيم كاملاً في إخلاصه لله، لأن عيني الرب تجولان في كل الأرض ليتشدد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه. وكل من يسير مع الله يصبح كاملاً.

سر مع الله لتكون كاملاً.كن مستعداً أن تعمل مشيئته بكل قلبك. كن مخلصاً راغباً أن تفهم مشيئته وإرادته الصالحة.

ثم قال الله لإبراهيم: «أجعل عهدي بيني وبينك». ومن هذا القول نرى كيف أن الله هو الذي يصنع العهد. ليس العهد من إبراهيم، ولا بفضل إبراهيم، لكنه عهد من الله بنعمة الله وفضل الله وإحسانه. لقد كان عهد الله مع إبراهيم تأكيداً للعهود الماضية. كان العهد مع إبراهيم عهداً شخصياً: «أجعل عهدي بيني وبينك». إنه شخص مهم في نظر الله. وكان العهد أيضاً عن النسل: «أَجْعَلُكَ أَباً لِجُمْهُورٍ مِنَ ٱلأُمَمِ. وَأُثْمِرُكَ كَثِيراً جِدّاً... وَمُلُوكٌ مِنْكَ يَخْرُجُونَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ عَهْداً أَبَدِيّاً، لأَكُونَ إِلٰهاً لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ» (تكوين 17: 5-7).

هذه الكلمات تشملنا نحن المؤمنين، فإن كل مؤمن بإله إبراهيم هو ابن إبراهيم في الإيمان. والله يحقق له الوعد. ويقول رسول المسيحية بولس: «ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُؤْمِنِ» (غلاطية 3: 9). ويقول لنا رسول المسيحية بطرس: «لأَنَّ ٱلْمَوْعِدَ هُوَ لَكُمْ وَلأَوْلاَدِكُمْ» (أعمال 2: 39). كما يقول الإنجيل أيضاً: «فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ ٱلْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ» (غلاطية 3: 29). إن هذه العهود جميعاً قد أُعطيت لنسل إبراهيم الروحي، الذين يؤمنون إيمان إبراهيم، ولم تُعْطَ لنسل إبراهيم الجسدي، فما أكثر الذين وُلدوا من إبراهيم جسدياً لكنهم لم يكونوا مؤمنين.

علامتان للعهد:

أعطى الله لإبراهيم عهداً وجعل لهذا علامتين: علامة صغيرة هي تغيير اسم إبراهيم وتغيير اسم سارة. كان اسمه أبرام، ومعناه أب رفيع، فصار اسمه إبراهيم ومعناه أب لجمهور من الأمم. وكان اسم زوجته ساراي فجعل الله لها اسماً جديداً هو سارة بمعنى أميرة.

ثم كانت هناك علامة كبيرة دائمة هي علامة الختان. قال: «تُخْتَنُونَ فِي لَحْمِ غُرْلَتِكُمْ، فَيَكُونُ عَلاَمَةَ عَهْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَيَكُونُ عَهْدِي فِي لَحْمِكُمْ عَهْداً أَبَدِيّاً» (تكوين 17: 11 و13). لقد طلب الله من إبراهيم أن يختن كل ذكر في بيته من العبيد وأبناء البيت. وأطاع إبراهيم، وخُتن إسماعيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وخُتن إبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة، وخُتن كل الرجال والأولاد في بيته.

لم يكن الختان شيئاً جديداً رسمه الله لإبراهيم، فقد كان معروفاً في بلاد كثيرة، لكن الله جعل للختان معنىً جديداً، عندما طلب أن يكون الختان علامة العهد. هذا تماماً يشبه قوس القزح الذي كان موجوداً قبل الطوفان، لكن الله اتخذ منه علامة عهد بينه وبين نوح بعد الطوفان (تكوين 9: 12 - 15).

نرى في الختان بعض المعاني:

  1. كان الختان علامة التخصيص. في الختان أفرز الله شعباً خاصاً، وجعل علامة هذا الفرز والتخصيص في لحم من يرضى أن يدخل في العهد معه. ونحن نعلم أن كل مؤمن مخصَّص لله ومفروز له. فهل تحيا مخصصاً لله الذي يحبك، علامة لذلك العهد.

  2. وهناك معنى آخر للختان، هو أنه علامة الطهارة. قال رسول المسيحية بولس: «خِتَانُ ٱلْقَلْبِ بِٱلرُّوحِ ... ٱلَّذِي مَدْحُهُ... مِنَ ٱللّٰهِ» (رومية 2: 29). قال أيضاً «خَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا ٱلْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ ٱلْمَسِيحِ» (كولوسي 2: 11). ويطلق نبي التوراة إشعياء على الشخص النجس أنه أغلف - أي غير مختون (إشعياء 52: 1). وفي العامية المصرية نقول عن الختان «طهارة». ومن علامة الختان ندرك أن الله يريد أن يطهر المؤمنين من خطاياهم، وأن يغسلهم من شرورهم كما قال السيد المسيح: «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ ٱللّٰهَ» (متى 5: 8).

  3. ثم أن الختان علامة طاعة، فقد ختن إبراهيم كل الذين معه كما كلَّمه الله. قال لنا السيد المسيح: «اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ ٱلَّذِي يُحِبُّنِي» (يوحنا 4: 21). وقال كليم الله موسى: «وَيَخْتِنُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ قَلْبَكَ وَقَلْبَ نَسْلِكَ، لِكَيْ تُحِبَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ لِتَحْيَا» (تثنية 30: 6). إن الختان يعني أن الإنسان يطيع االله ويضع ثقته فيه.

درسان لنا من الختان:

نرى في العهد بالختان أمرين: (1) كان العهد لإبراهيم ولنسله، والله يريد الكبار والصغار له. (2) ثم أننا لا يجب أن ندخل في عهد مع شخص آخر غير الله. وفي نور عهدنا مع الله ندخل في العهود مع الناس. كثيرون يدخلون في عهود مع الناس، ويدخل غيرهم في عهد مع الشيطان. ولكن العهد الذي يجب أن نرتبط به هو العهد مع الله وحده. قال واحد من المؤمنين: «أنا لا أسأل إن كان الله في جانبي، لكني أسأل دوماً إنْ كنت أنا في جانب الله». ويجب أن يسأل كل واحد منا نفسه إن كان في عهد مع الله وحده.

ثم مضى يقول لإبراهيم: «سَارَةُ ٱمْرَأَتُكَ تَلِدُ لَكَ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ إِسْحَاقَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي مَعَهُ عَهْداً أَبَدِيّاً لِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيراً جِدّاً. اِثْنَيْ عَشَرَ رَئِيساً يَلِدُ، وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً. وَلٰكِنْ عَهْدِي أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحَاقَ ٱلَّذِي تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِي هٰذَا ٱلْوَقْتِ فِي ٱلسَّنَةِ ٱلآتِيَةِ» (تكوين 17: 19 - 21).

الفصل الثامن: الصديقان يتكلمان

دخل إبراهيم في العهد مع الله وختن كل أهل بيته، ليكون للعهد علامة في جسدهم جميعاً، وكان إبراهيم خليل الله، وكان بينه وبين الله صداقة عميقة. وهذا يُرينا أن علاقة الإنسان بالرب يمكن أن تكون كعلاقة الابن بأبيه، فإن الله أبونا، وكعلاقة العابد بالرب فإن الرب سيدنا، وكعلاقة الوكيل بصاحب المال فإن الله هو الكريم الحنان ونحن وكلاء على ما أعطاه لنا. ويمكن أن تكون علاقة الصداقة مع الله هي تاج علاقة المؤمنين مع الله، إذ يقول الرسول يوحنا: «وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ ٱلآبِ وَمَعَ ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (1يوحنا 1: 3).

عاش إبراهيم مع الله سنوات طويلة، وصارت صداقته مع الله أقوى وأعمق. وكلما نضج الإيمان زادت صداقة الإنسان بالله والأُنس به. وفي الأصحاح الثامن عشر في سفر التكوين نقرأ قصتين تُظهران عمق صداقة إبراهيم مع الله.

القصة الأولى: مجيء ثلاثة ملائكة يزورون إبراهيم.

والقصة الثانية يكشف فيها الله سراً لإبراهيم، ونسمع حديث إبراهيم مع الله وهو يصلي ست مرات من أجل سدوم.

ومن القصتين نعرف مقدار عمق وعظمة صداقة إبراهيم مع الله، ومقدار محبة إبراهيم للّه.

ثلاثة ملائكة يزورون إبراهيم:

جاء ثلاثة ضيوف من الملائكة يزورون إبراهيم. كان إبراهيم جالساً في باب خيمته تحت شجرة البلوط الكبيرة عند مدينة حبرون، وكان الوقت ظهراً واليوم حاراً. وما إن رأى إبراهيم الملائكة الثلاثة في هيئة رجال، حتى جرى نحوهم ودعاهم إلى خيمته. نسي إبراهيم أنه ابن تسع وتسعين سنة، ونسي عظمة مقامه، وافتكر في إضافة الغرباء، فسجد إلى الأرض علامة الاحترام، ووجَّه حديثه إلى أعظم الرجال الثلاثة. ربما عرفه لأنه كان يسير أمامهم، أو لعل منظره كان يشهد أنه الأعظم، وقال له: «... يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلاَ تَتَجَاوَزْ عَبْدَكَ. لِيُؤْخَذْ قَلِيلُ مَاءٍ وَٱغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ وَٱتَّكِئُوا تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ، فَآخُذَ كِسْرَةَ خُبْزٍ، فَتُسْنِدُونَ قُلُوبَكُمْ ثُمَّ تَجْتَازُونَ، لأَنَّكُمْ قَدْ مَرَرْتُمْ عَلَى عَبْدِكُمْ» (تكوين 18: 1 - 5). وقبل الضيوف الدعوة، وقالوا: «هٰكَذَا تَفْعَلُ كَمَا تَكَلَّمْتَ» .

لم يكن إبراهيم يعرف مَنْ هؤلاء الضيوف، لكنه حسب عادته في الكرم دعا أولئك الغرباء. ويقول كاتب الرسالة للعبرانيين في الإنجيل: «لاَ تَنْسُوا إِضَافَةَ ٱلْغُرَبَاءِ، لأَنْ بِهَا أَضَافَ أُنَاسٌ مَلاَئِكَةً وَهُمْ لاَ يَدْرُونَ» (عبرانيين 13: 2). وكاتب الرسالة إلى العبرانيين يقصد أن إبراهيم أضاف الملائكة وهو لا يعرف من هم. أضافهم لأنه كريم مضياف.

وإبراهيم أب المؤمنين يقدم مثالاً لكل المؤمنين في إضافة الغرباء، شأنه شأن كل رجال الله الأتقياء. قال إمام الصابرين أيوب إنه لم يكن يأكل لقمته وحده لكنه كان يطعم منها اليتيم (أيوب 31: 17). ويوصينا رسول المسيحية بولس أن نكون عاكفين على إضافة الغرباء (رومية 12: 13). وكانت الكنيسة الأولى تطلب من كل أسقف أن يكون كريماً يضيف الغرباء (1 تيموثاوس 3: 2). كما كان مفروضاً على الأسقف أن لا يربي كلاباً في بيته ليكون مفتوحاً دوماً للضيوف والغرباء. ونحن اليوم نحتاج إلى هذه الروح الكريمة لإضافة الغرباء.

وأحضر إبراهيم الماء وغسل أرجل الضيوف. فقد كان المشي في الطريق يملأ الأرجل بالتراب، ويُعطي راحة بعد المشي الطويل. وأسرع إبراهيم إلى الخيمة وقال لسارة: «أَسْرِعِي بِثَلاَثِ كَيْلاَتٍ دَقِيقاً سَمِيذاً. ٱعْجِنِي وَٱصْنَعِي خُبْزَ مَلَّةٍ» (تكوين 18: 6). هذه الكمية من العجين كبيرة، وركض إبراهيم إلى مكان البقر وأخذ عجلاً رَخْصاً أعطاه لواحد من الخدم ليجهّزه، وبسرعة كان الخبز جاهزاً والعجل مشوياً. وأخذ إبراهيم زبداً ولبناً والعجل. ووضع الكل أمام الضيوف، ووقف يخدم ضيوفه بنفسه.

الملاك يقدم وعداً:

بعد أن أكل الضيوف سألوا إبراهيم: «أين سارة امرأتك؟». ولم يكن من العادة أن يسأل الضيوف عن سيدة البيت. لكن لا بد أن إبراهيم شعر أن هؤلاء الضيوف ليسوا من البشر فقد عرفوا سارة باسمها، فقال: «ها هي في الخيمة». فقال الملاك العظيم: «إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن». لا شك أن إبراهيم بدأ يدرك أن ضيفه ضيف إلهي، لأنه يعرف اسم سارة، وهو يعطي إبراهيم الوعد بالابن.

وكانت سارة تسمع كلام الضيف الإلهي، فضحكت من هذا الكلام. لأنها تعلم أن هذا مستحيل، فقد كبرت في السن، كما كبر زوجها إبراهيم، ومن المستحيل على الجسد البشري أن ينجب أولاداً في هذه السن. وعرف الضيف أفكار قلب سارة، فسأل إبراهيم: «لماذا ضحكت سارة، قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟» وخافت سارة من الضيف الغريب الذي يعرف أفكار القلب، وفي خوفها قالت: «لم أضحك». ولكن الضيف الإلهي قال لها: «لا، بل ضحكت».

في ذلك اليوم تعلمت سارة درسين عن الله. الدرس الأول أن الله قوي ولا يستحيل عليه شيء. والدرس الثاني أن الله يعرف كل شيء ولا يخفى عليه أمر. ونحن نرى من ضحك سارة أنها لم تكن تشارك إبراهيم قوة إيمانه. كان إبراهيم قد ضحك عندما وعده الله بإسحق، لكن ضحكه كان ضحك الاستغراب. أما سارة فقد ضحكت ضحك عدم الإيمان. على أننا ينبغي ألا نظلم سارة، لأنها لم تتمتع بالإعلانات السماوية التي تمتع بها إبراهيم، ولم تكن لها الشركة القوية بالرب كما كان لإبراهيم. غير أن الإنجيل يشهد لسارة قائلاً: «بِٱلإِيمَانِ سَارَةُ نَفْسُهَا أَيْضاً أَخَذَتْ قُدْرَةً عَلَى إِنْشَاءِ نَسْلٍ، وَبَعْدَ وَقْتِ ٱلسِّنِّ وَلَدَتْ، إِذْ حَسِبَتِ ٱلَّذِي وَعَدَ صَادِقاً» (عبرانيين 11: 11). من هذا نعلم أن سارة آمنت بالوعد الإلهي بعد أن تكلم معها الضيف الإلهي. ولا شك أن إيمانها هذا حُسب لها براً.

ظهر له الرب:

نعرف اليوم أن واحداً من أولئك الثلاثة كان السيد المسيح. لأن التوراة تقول: «ظَهَرَ لَهُ ٱلرَّبُّ» (تكوين 18: 1). ثم نقرأ بعد ذلك في التوراة: «وَذَهَبَ ٱلرَّبُّ عِنْدَمَا فَرَغَ مِنَ ٱلْكَلاَمِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ» (تكوين 18: 33). إذاً كان هناك ملاكان مع السيد المسيح. لقد وقف إبراهيم يصلي إلى المولى - إلى الرب - بينما ذهب الملاكان وحدهما إلى سدوم لينفِّذا إهلاك تلك المدينة الشريرة. ولا زال الرب يطلب أن يزورنا ويدخل قلوبنا. ويقول السيد المسيح: «هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى ٱلْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ ٱلْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا 3: 20). والمسيح يقرع باب قلبك لأنه يريد أن يمنحك الشبع. ونسمع السيد المسيح وهو يقول لتلاميذه: «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً» (يوحنا 14: 23).

الله يكشف لإبراهيم أسراراً:

بعد أن انتهت زيارة الملائكة لإبراهيم، خرج إبراهيم معهم يودعهم، فقد كانت العادة أن صاحب البيت يمشي مع الضيوف ليودعهم إلى خارج بلده. فقال الرب: «هل أُخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟». صحيح أن إبراهيم صديق الله، والله يعلن لإبراهيم أسراره. ويقول النبي عاموس: «ٱلسَّيِّدَ ٱلرَّبَّ لاَ يَصْنَعُ أَمْراً إِلاَّ وَهُوَ يُعْلِنُ سِرَّهُ لِعَبِيدِهِ ٱلأَنْبِيَاءِ» (عاموس 3: 7). وقال المرنم في مزاميره: «سِرُّ ٱلرَّبِّ لِخَائِفِيهِ» (مزمور 25: 14). وقال السيد المسيح: «قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي» (يوحنا 15: 15). وقد أعلن الله سره لإبراهيم لعدة أسباب:

  1. لأن إبراهيم سيكون بركة للأمم. ويقول له الرب: «إبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية، ويتبارك به جميع أمم الأرض». لا بد أن يعرف إبراهيم أن سدوم ستُخرب، ويعرف سبب ذلك الخراب. إن إبراهيم يعرف أن الطاعة أساس البركة، ويجب أن يعرف أيضاً أن الموت أجرة العصيان.

  2. تأثير إبراهيم على نسله. قال الرب عن إبراهيم: «لأَنِّي عَرَفْتُهُ لِكَيْ يُوصِيَ بَنِيهِ وَبَيْتَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ يَحْفَظُوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، لِيَعْمَلُوا بِرّاً وَعَدْلاً، لِكَيْ يَأْتِيَ ٱلرَّبُّ لإِبْرَاهِيمَ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ» (تكوين 18: 19). والقول: «لأني عرفته» معناه أن الله قد اختار إبراهيم ليكون هو ونسله بركة. وعلى إبراهيم أن يعلّم نسله. وكان يجب أن يعرف إبراهيم سر خراب سدوم حتى يحذّر أولاده من أجرة الخطية. وما أجمل ما قال صاحب المزامير: «لِكَيْ يَعْلَمَ ٱلْجِيلُ ٱلآخِرُ. بَنُونَ يُولَدُونَ فَيَقُومُونَ وَيُخْبِرُونَ أَبْنَاءَهُمْ، فَيَجْعَلُونَ عَلَى ٱللّهِ ٱعْتِمَادَهُم، وَلاَ يَنْسُونَ أَعْمَالَ ٱللّٰهِ، بَلْ يَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ» (مزمور 78: 6، 7).

  3. كان شر سدوم قد كثر فبدأ إبراهيم يسأل الرب: لماذا تهلك سدوم؟ هنا أخبره الرب أن شر سدوم قد كثر، وأن صراخ الخطية قد عظم جداً. عندما قتل قايين أخاه قال الله له: «صوت دم أخيك صارخ إليّ». لا بد أن صراخ المظلومين في سدوم قد صعد أمام الله. حتى الأرض والخليقة كلها كانت تئن بسبب الخطية. إن خطية واحدة تصرخ. فكم يكون صوت خطايا المدينة كلها!

إبراهيم يصلي:

أدرك إبراهيم أن الله يريد أن يهلك سدوم، فصلى من أجل سدوم. وفي صلاته احترام كامل لله. لقد تقدم بثقة للدخول إلى عرش النعمة، لكنه في نفس الوقت كان يعلم أن الله قدوس ومهوب اسمه (مزمور 111: 9). وفي ثقة إيمان، مع احترام وخشوع، تقدم إبراهيم يصلي. وتقول التوراة: «وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ قَائِماً أَمَامَ ٱلرَّبِّ» (تكوين 18: 22). لقد صلى إبراهيم من قبل، وكان دائماً يحيا في محضر الله، لذلك تقول التوراة إنه كان لم يزل قائماً أمام الرب. كان الملاكان قد مضيا وتركا إبراهيم مع الرب - وكل الناس يذهبون عنا حتى الملائكة - ويبقى الله وحده. فتقدم إبراهيم بقلب صادق في يقين الإيمان (عبرانيين 10: 22). وفي صلاته كان يعرف إرادة الرب. والآن تعال بنا نرى كيف صلى إبراهيم إلى الله بعد أن عرف أنه سيخرب سدوم وعمورة.

  1. نرى أولاً أن صلاة إبراهيم كانت لمجد الرب. إنه يصلي من أجل نجاة سدوم لأنه يخاف أن يظن الناس أن الله ظالم إذا هو أهلكها، فقال: «أَديَّان كل الأرض لا يصنع عدلاً؟». كأنه يقول للرب: أنت العادل. لا أريد أن يظن الناس أنك ظالم. الناس يعرفونك، ويعرفون عدالتك، إنك لا تهلك البار مع الأثيم. إن إبراهيم لم يبدأ بذكر شيء عن سدوم، لكنه بدأ صلاته بالكلام عن محبة الله، كأنه يردد مع صاحب المزامير: «لَيْسَ لَنَا يَا رَبُّ لَيْسَ لَنَا، لٰكِنْ لٱسْمِكَ أَعْطِ مَجْداً» (مزمور 115: 1).

  2. كانت صلاة إبراهيم بعيدة عن الأنانية. إن سدوم تهمُّه لأن لوطاً ابن أخيه يسكن فيها، لكنه لم يذكر اسم لوط ولا مرة واحدة في الصلاة. لا شك أن سدوم كلها كانت تهمه، لأنه كان قد خلص الناس الذين فيها من سبي كدر لعومر الملك، فأراد أن ينقذها هذه المرة أيضاً بفضل من اللّه. إنه يصلي من أجل الخطاة الموجودين في سدوم.

  3. ثم كانت صلاة إبراهيم شجاعة. إنه يطلب بدون خوف لأنه واثق. ويطلب بجسارة لأنه يدرك أن اللّه صديقه. يقول للّه: «عسى أن يكون خمسون باراً في المدينة». لكن، هل فكرت يا عزيزي القارئ في ماذا يكون هذا العدد، بالنسبة لعدد سكان سدوم وهم بالآلاف؟ لكن إبراهيم يصلي ويذكر هذا العدد البسيط «خمسين». إن خمسين شخصاً لا يظهرون وسط هذا البلد الكبير، لكن إبراهيم في جسارة الإِيمان يصلي من أجل الخمسين.

  4. وكانت صلاة إبراهيم بلجاجة. صلى إبراهيم ست مرات، وفي كل مرة كان يزداد إيماناً وشجاعة. إنه يطلب من أجل خمسين. ويقول اللّه إنه لا يوجد خمسون باراً في سدوم. فيصلي من أجل خمسة وأربعين، ولا يجد هذا العدد. فيصلي ثالثة، ربما كان هناك أربعون رجلاً باراً في سدوم. لكن لا يوجد فيها أربعون باراً. ويصلي إبراهيم لو أن هناك ثلاثين.. ثم يصلي لو أن هناك عشرين.. ثم يصلي من أجل عشرة. ولا يجد عشرة.

    عزيزي القارئ، إنني أدعوك أن تصلي للّه صلاة فيها إيمان، بعيدة عن الأنانية، عامرة بالشجاعة واللجاجة والتواضع.

  5. صلى إبراهيم للّه صلاة تواضع وهو يقول: «شرعْتُ أكلّم المولى وأنا تراب ورماد». إنه يتقدم إلى اللّه بكل إيمان واثق، وكأنه يقول: «إنني أثق أنك إله محب وصديق رحيم، ولذلك أقدم صلاتي إليك».

ولقد استجاب اللّه صلاة إبراهيم بطريقته الخاصة. في كل مرة أجاب اللّه على إبراهيم قائلاً له: «لو أنني وجدت العدد الذي تقترحه فإني أصفح ولا أهلك». ومع أن اللّه أهلك سدوم وعمورة، لكنه استجاب لطلبة إبراهيم بأن خلص لوطاً. لم يكن إبراهيم قد طلب خلاص لوط، لكن لوطاً كان البار الوحيد في سدوم، وقد استجاب اللّه صلاة إبراهيم بطريقته الإِلهية الحكيمة.

قوة الصلاة:

صلى إبراهيم خليل اللّه إلى اللّه ست مرات، واستجاب اللّه له. ومن صلاة إبراهيم نتعلم:

  1. أن صلاة المؤمنين قوية، وهي مفتاح السماء، فلا يجب أن نهمل هذا المفتاح.

  2. ثم نتعلم أن المؤمنين يحفظون العالم من الفساد. كان الرب راغباً أن يصفح عن سدوم، لو وجد فيها عشرة مؤمنين. كم من عائلة تنجو من الخراب بسبب صلاة أم تقية.

  3. ثم نتعلم من صلاة إبراهيم أن نصلي من أجل غيرنا. ما أكثر ما نصلي من أجل أنفسنا واحتياجاتنا: يا رب صحتي.. دخلي.. زراعتي.. زوجتي. لكن الكتاب المقدس يقول لنا إن اللّه ردَّ سبْيَ أيوب لما صلى من أجل أصحابه (أيوب 42: 10).

  4. ثم نرى نتيجة صلاة إبراهيم أن اللّه أنقذ لوطاً.

ما أعظم قوة الصلاة! فاللّه هو سامع الصلاة الذي إليه يجيء كل بشر. تعال أنت أيضاً إليه في يقين الإِيمان.

الفصل التاسع: وحقق اللّه وعده!

أخيراً جاء الوقت الذي حقق اللّه فيه وعده لابراهيم، وافتقد الرب سارة كما قال، وفعل الرب كما تكلم، فحبلت سارة وولدت إبناً لإِبراهيم في شيخوخته، في الموعد الذي تكلم اللّه عنه. كان الملاك قد قال لإِبراهيم: «فِي ٱلْمِيعَادِ أَرْجِعُ إِلَيْكَ نَحْوَ زَمَانِ ٱلْحَيَاةِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ ٱبْنٌ» (تكوين 18: 14). وتحقق الوعد تماماً كما قال اللّه، فإنه لا يخلف الميعاد ولو ظهر للناس أن وعده مستحيل. صدق المرنم عندما قال: «أَمَّا مُؤَامَرَةُ ٱلرَّبِّ فَإِلَى ٱلأَبَدِ تَثْبُتُ. أَفْكَارُ قَلْبِهِ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ» (مزمور 33: 11). أمين هو الذي وعد، صادق في تنفيذ الوعد. وكان إبراهيم ابن مئة سنة. وكانت سارة ابنة تسعين سنة. لكن اللّه حقق وعده بالرغم من هذا كله.

عزيزي القارئ، كم نشكر اللّه الأمين الذي يحقق مواعيده لنا، ولكننا نحتاج إلى طول الأناة، فإن السيد المسيح يقول: «بِصَبْرِكُمُ ٱقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ» (لوقا 21: 19). وفي صبرنا تتحقق المواعيد، في الميعاد الذي رسمه اللّه في سلطانه. وطوبى لكل من ينتظر الرب ولا يتسرَّع.

ونحن نرى اليوم صِدْقَ مواعيد اللّه معنا في كل يوم. قال يشوع بعد أن اختبر اللّه، وعرف أمانته: «لَمْ تَسْقُطْ كَلِمَةٌ مِنْ جَمِيعِ ٱلْكَلاَمِ ٱلصَّالِحِ ٱلَّذِي كَلَّمَ بِهِ ٱلرَّبُّ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ، بَلِ ٱلْكُلُّ صَارَ» (يشوع 21: 45). وقبل أن يموت يشوع قال: «وَهَا أَنَا ٱلْيَوْمَ ذَاهِبٌ فِي طَرِيقِ ٱلأَرْضِ كُلِّهَا. وَتَعْلَمُونَ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ وَكُلِّ أَنْفُسِكُمْ أَنَّهُ لَمْ تَسْقُطْ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ جَمِيعِ ٱلْكَلاَمِ ٱلصَّالِحِ ٱلَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ ٱلرَّبُّ عَنْكُمُ. ٱلْكُلُّ صَارَ لَكُمْ. لَمْ تَسْقُطْ مِنْهُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ» (يشوع 23: 14). لا شك أن كل واحد منا يقدر أن يختبر هذا في حياته، ولا شك أن عند اللّه موعداً محدداً لتحقيق مواعيده. وفي هذا درس عظيم لنا، وهو أن ننتظر الرب نفسه وليس مواعيد الرب. هناك من يطلب تحقيق المواعيد، ولا يطلب شخص الرب نفسه. هناك من يجري فقط وراء عطايا اللّه، لكنه لا يطلب صداقة اللّه. الموعد قد يتأخر، لكن اللّه لا يتأخر أبداً، والموعد قد يتحقق في المستقبل لكن الرب معنا في كل حين. فاطلُبْ من اللّه أن يعلمك كيف تنتظره هو شخصياً وليست المواعيد التي يقدمها لك. وقد حقق اللّه مواعيده لإِبراهيم الذي انتظر الرب.

دعا إبراهيم اسم ابنه الذي ولدته له سارة «إسحق». كما طلب الملاك. ومعنى إسحق «ضحك». قالت سارة: «قَدْ صَنَعَ إِلَيَّ ٱللّٰهُ ضِحْكاً. كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ يَضْحَكُ لِي» (تكوين 21: 6). لقد ضحك إبراهيم من قبل ضحكة الاستغراب من وعد اللّه، الذي يستحيل تحقيقه، لأن جسد إبراهيم وجسد سارة لا يقدران أن ينجبا أولاداً. كان جسد إبراهيم وسارة ميِّتين بالنسبة لإِنجاب الأولاد. وضحكت سارة من قبل وهي لا تصدق كلام الملاك الذي قال لها إنه بعد سنة سيكون عندها ابن. لكن الضحك بعد ولادة إسحق كان يختلف. إنه ضحك الفرح بتحقيق الوعد. لقد نسي إبراهيم كل آلام الانتظار والصبر المر. لكن مرارة الصبر انتهت بعد ولادة إسحق. وحياتنا مع اللّه هي حياة ضحك وابتهاج مستمرَّيْن لأننا ندرك أمانة اللّه التي لا تتركنا أبداً، ويأمرنا الإِنجيل قائلاً: «اِفْرَحُوا فِي ٱلرَّبِّ كُلَّ حِينٍ وَأَقُولُ أَيْضاً ٱفْرَحُوا» (فيلبي 4: 4). يظن البعض الناس أن المتديِّن هو الحزين، لكن هذا خطأ، فإن التوراة تقول: «بإسحق يُدعى لك نسل» نعم، بالفرح يتحقق لك الوعد. لذلك يقول المرنم في مزاميره: «حِينَئِذٍ ٱمْتَلأَتْ أَفْوَاهُنَا ضِحْكاً وَأَلْسِنَتُنَا تَرَنُّماً» (مزمور 126: 2). ويتحدث النبي زكريا عن المدينة المباركة فيقول: «وَتَمْتَلِئُ أَسْوَاقُ ٱلْمَدِينَةِ مِنَ ٱلصِّبْيَانِ وَٱلْبَنَاتِ لاَعِبِينَ فِي أَسْوَاقِهَا» (زكريا 8: 5). ولهذا السبب قال لنا السيد المسيح: «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات»، فإن الأولاد والصبيان والبنات يفرحون دائماً.

ختان إسحاق:

عندما كان عمر إسحق ثمانية أيام ختنه إبراهيم حسب أمر اللّه. وكان الختان علامة عهد في جسد إسحق، تُظهِر أن إسحق ابنٌ للرب ومِلْكٌ له. وبعد أن كبر فطمته أمه سارة، وصنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم فطامه. وحسب عادة ذلك الوقت كان عمر إسحق من ثلاث إلى خمس سنوات عند فطامه. وجاءت مشكلة على إبراهيم وعلى بيته بسبب زواجه القديم من هاجر، فقد رأت سارة أن إسماعيل ابن هاجر يمزح من إسحق. نحن لا نعلم بالضبط ماذا كان إسماعيل يفعل، ولكن السخرية من الأخ الصغير تصرُّف طبيعي، فقَبْل ولادة إسحق كان إسماعيل صاحب المكان الأول في البيت، ولكن الاهتمام كله تحول منه إلى إسحق. وملأت الغيرة قلب إسماعيل. ثم أن هاجر عرفت أن كل الميراث سيذهب إلى إسحق. ولعلها شجعت إسماعيل حتى يمزح من إسحق. وذهبت سارة في غضب إلى إبراهيم وقالت: «ٱطْرُدْ هٰذِهِ ٱلْجَارِيَةَ وَٱبْنَهَا، لأَنَّ ٱبْنَ هٰذِهِ ٱلْجَارِيَةِ لاَ يَرِثُ مَعَ ٱبْنِي إِسْحَاقَ» (تكوين 21: 10). لا شك أن سارة كانت تذكر الوعد الذي قاله اللّه من قبل: «وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيراً جِدّاً. اِثْنَيْ عَشَرَ رَئِيساً يَلِدُ، وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً. وَلٰكِنْ عَهْدِي أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحَاقَ ٱلَّذِي تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِي هٰذَا ٱلْوَقْتِ فِي ٱلسَّنَةِ ٱلآتِيَةِ» (تكوين 17: 20، 21). وتضايق إبراهيم من كلام سارة. وتقول التوراة إن كلام سارة لم يعجب إبراهيم أبداً. ويرجع ذلك إلى أسباب منها أن إبراهيم كان يحب إسماعيل، فقد كان إسماعيل ابن سبع عشرة سنة عندما مزح مع إسحق. كان هذا الشاب القوي قد ملأ حياة إبراهيم بالنور والأمل، فكيف يطرد هذا الابن الذي ملأ عليه البيت. ثم أن إبراهيم كان يعتقد أن هذا العمل ظلم كبير من سارة على إسماعيل وعلى هاجر. كانت سارة صاحبة الفكر في أن يتزوج إبراهيم من هاجر. ولما حبلت هاجر تضايقت سارة. وها هي تتضايق مرة أخرى وتطلب من إبراهيم أن يطرد هاجر وابنها الذي هو ابن إبراهيم، وإبراهيم مسكين بين عواطفه وبين سارة. على أن إبراهيم كان يذكر الوعد الإِلهي الذي جرى بينه وبين اللّه عن إسماعيل. فعندما صلى: «ليت إسماعيل يعيش أمامك». قال اللّه له: «أما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأُثمره وأُكثره كثيراً جداً». فكيف يتحقق هذا الوعد إذا كان إبراهيم يطرد إسماعيل حسب كلام سارة؟ «فَقَالَ ٱللّٰهُ لإِبْرَاهِيمَ: «لاَ يَقْبُحُ فِي عَيْنَيْكَ مِنْ أَجْلِ ٱلْغُلاَمِ وَمِنْ أَجْلِ جَارِيَتِكَ. فِي كُلِّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ ٱسْمَعْ لِقَوْلِهَا، لأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. وَٱبْنُ ٱلْجَارِيَةِ أَيْضاً سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً لأَنَّهُ نَسْلُكَ» (تكوين 21: 12 - 13).

إبراهيم يطرد إسماعيل:

طرد إبراهيم إسماعيل وهاجر من البيت، وكان في هذا حكمة أرادها اللّه، فقد كان إسماعيل يكبر ويحتاج إلى مكان أوسع لرعي مواشيه، ولو بقي إسماعيل مع إسحق، لكانت المخاصمة بين رعاة مواشي إسحق ورعاة مواشي إسماعيل ستبدأ. ثم أن اللّه قال إن إسماعيل إنسان وحشي يده على كل واحد ويد كل واحد عليه، ومن الصعب أن يعيش مع إسحق في مكان واحد. ثم إن الامتحان قادم على إبراهيم، إذ يقول اللّه له: «خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق واصعده هناك محرقة». فإذا سكن إسماعيل مع إبراهيم يكون الامتحان بسيطاً، لكن إذا كان إسحق وحده يقيم مع إبراهيم فإن الامتحان يكون عظيماً، ويكون نجاح إبراهيم فيه رائعاً.

وفي الصباح أعطى إبراهيم هاجر قربة ماء وبعض الخبز، وصرفها هي وابنها إسماعيل، كما أوصاه اللّه. وتاهت هاجر في الصحراء وانتهى منها الماء، وكاد إسماعيل يموت عطشاً، فأرشد اللّه هاجر إلى بئر ماء ملأت منها القربة وسقت إسماعيل. وشجع الملاك هاجر بأن ابنها سيكون أمة عظيمة. وكان اللّه مع إسماعيل من أجل إبراهيم أبيه، وسكن إسماعيل في البرية وكان يصيد الحيوانات، ثم تزوج إسماعيل زوجة مصرية من بلد أمه.

عزيزي القارئ، إن إبراهيم يعلمنا دروساً عظيمة في الخضوع للمشيئة الإِلهية، وفي الثقة الكاملة باللّه. ولا عجب فهو خليل اللّه، واللّه يريد أن يكون خليلاً لكل واحد منا إن كنّا ندخل معه في عهد الحب والطاعة.

الفصل العاشر: خليل اللّه وجيرانه

ذات يوم كان إبراهيم جالساً عند باب خيمته، وإذا ضيفان عظيمان يحضران لزيارته، أولهما أبيمالك - ملك جرار، المملكة التي كان إبراهيم يسكن فيها. وأما الضيف الثاني فهو فيكول رئيس جيش الملك - أو كما نقول اليوم وزير الحربية. وغالباً كان فيكول رئيس الوزراء ووزير الحربية أيضاً. ومعنى إسم أبيمالك «الملك الأب» - ومعنى فيكول «فم الجميع» ومعناه أنه هو الذي يكلّم الملك عن كل مشكلة تجري في المملكة. وبدأ الضيف العظيم أبيمالك الكلام مع إبراهيم، وكان الكلام غريباً. قال له: «ٱللّٰهُ مَعَكَ فِي كُلِّ مَا أَنْتَ صَانِعٌ» (تكوين 21: 22). ليس هذا الكلام تحية، كما لم يكن صلاة أن يبارك اللّه إبراهيم، لكنه كان وَصْفاً لحالة إبراهيم، فلقد كان اللّه معه في كل ما يصنع. لكن الغريب أن هذا الملك الوثني يرى أن اللّه كان مع إبراهيم، ويدرك أن اللّه هو الذي أعطاه النجاح. هذه أعظم شهادة عن إيمان إبراهيم. كان إبراهيم رائحة ذكية استطاع الملك الوثني الغريب أن يشمَّها. وكان نور إيمان إبراهيم يسطع حتى رآه أبيمالك. نعم كان نور إيمان إبراهيم حقيقياً حتى رآه فيكول أيضاً مع أبيمالك.

ونحن اليوم نخجل عندما نذكر أن قليلين من الناس يصدق عليهم أن اللّه معهم في كل ما يصنعون. ونرجو أن تكون رائحتك أنت مثل رائحة إبراهيم الذكية، ونرجو أن يكون نورك مثل نور إبراهيم الساطع.

ثم طلب الملك الوثني من إبراهيم طلباً غريباً. قال له: «ٱحْلِفْ لِي بِٱللّٰهِ هٰهُنَا أَنَّكَ لاَ تَغْدُرُ بِي وَلاَ بِنَسْلِي وَذُرِّيَّتِي. كَٱلْمَعْرُوفِ ٱلَّذِي صَنَعْتُ إِلَيْكَ تَصْنَعُ إِلَيَّ وَإِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي تَغَرَّبْتَ فِيهَا» (تكوين 21: 23). وكان أبيمالك قد عمل معروفاً مع إبراهيم، لأنه أعطى إبراهيم بهائم كثيرة، وطلب منه أن يختار الأرض التي تعجبه ليسكن فيها في مملكة جرار، وأعطاه ألفاً من الفضة. وصلى إبراهيم إلى اللّه وطلب الغفران لأبيمالك. وها هو أبيمالك يطلب من إبراهيم أن يصنع معه معروفاً مثل المعروف الذي سبق أن صنعه أبيمالك مع إبراهيم.

كان أبيمالك يتحدث مع إبراهيم عن الهدايا والمال والأرض التي أعطاها له. لا شك أن أبيمالك لاحظ أن إبراهيم يزيد نجاحاً، وخاف أن يصبح أكثر قوة منه فيحاربه ويأخذ المملكة منه. ولا شك أن أبيمالك لاحظ أن صداقته مع إبراهيم ضعفت، فأراد أن ترجع قوية كما كانت. وكان سبب ضعف الصداقة أن إبراهيم كان متضايقاً لأن عبيد أبيمالك أخذوا منه بئراً بالقوة بعد أن حفرها، وكان حفر الآبار صعباً لأن الأرض حجرية صخرية، ولأن الماء فيها على عمق كبير. وكان إبراهيم لطيفاً مع أبيمالك فقد قال له: «أنا أحلف». ولكن إبراهيم أراد قبل أن يحلف أن يصفِّي ما كان في قلبه من نحو أبيمالك، لأن إبراهيم مُخْلص وصريح. قال إبراهيم: «لي عتاب معك». ثم حكى كيف أن عبيد أبيمالك أخذوا منه بئراً بالقوة. لقد كان الماء هاماً جداً عند إبراهيم لأنه يروي بهائمه وأرضه، فقال أبيمالك لإِبراهيم: «لَمْ أَعْلَمْ مَنْ فَعَلَ هٰذَا ٱلأَمْرَ». وعاتب أبيمالك إبراهيم وقال: «أَنْتَ لَمْ تُخْبِرْنِي، وَلاَ أَنَا سَمِعْتُ سِوَى ٱلْيَوْمِ» (تكوين 21: 26). وفي هذا الكلام روح طيبة، كان الواجب أن إبراهيم يخبر أبيمالك حالاً بأن العبيد أخذوا البئر بالقوة، ولا يبقى وحده في بيته، يملأ الغضب قلبه من نحو أبيمالك.

ألا نفعل نحن الشيء نفسه؟ كثيراً ما نلوم الناس وننتقدهم مع أنهم لا يعلمون شيئاً عن سبب الانتقاد والغضب واللوم الذي نوجِّهه إليهم. لقد عمل إبراهيم الصواب عندما عاتب أبيمالك. لكن كان يجب أن يعاتب أبيمالك قبل ذلك ولا يخزن الغضب في قلبه. ففهم إبراهيم أن أبيمالك لم يخطئ، فأخذ غنماً وبقراً وأعطى أبيمالك، وقطع كلاهما ميثاقاً. وصنع إبراهيم سلاماً مع أبيمالك ومع رئيس جيشه. وكل أولاد اللّه يصنعون السلام دون أن ينتظروا فائدة من الناس. وكان إبراهيم مهتماً بعمل السلام. «وَأَقَامَ إِبْرَاهِيمُ سَبْعَ نِعَاجٍ مِنَ ٱلْغَنَمِ وَحْدَهَا» (تكوين 21: 28). فسأله أبيمالك: «مَا هِيَ هٰذِهِ ٱلسَّبْعُ ٱلنِّعَاجِ ٱلَّتِي أَقَمْتَهَا وَحْدَهَا؟» فأجاب إبراهيم «هي سَبْعَ نِعَاجٍ تَأْخُذُ مِنْ يَدِي، لِكَيْ تَكُونَ لِي شَهَادَةً بِأَنِّي حَفَرْتُ هٰذِهِ ٱلْبِئْرَ» (تكوين 21: 29). وأطلقوا على المكان اسم «بئر سبع» لأنهما هناك حلفا كلاهما. وفي اللغة العبرية هناك شَبَه بين كلمة «سبعة» وكلمة «حلف». فيكون أن إبراهيم أقام سبع نعاج وحدها حتى يذكر أبيمالك أنه حلف لإِبراهيم وأنهما دخلا في عهد سلام معاً.

ولما لم تكن الكتابة منتشرة في ذلك الوقت، يكون أن أبيمالك يذكر السبع نعاج، ويذكر العهد مع إبراهيم كلما رأى البئر. جميل أن نحيا في سلام. ابدأ أنت بعمل السلام، فقد قال المسيح: «طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء اللّه يدعون».

الرب الإله السرمدي:

بعد انصراف أبيمالك وفيكول زرع إبراهيم شجر أثل في بئر سبع. والأثل شجر طويل أخضر الأوراق طول السنة، وعلى هذا فإنه يرمز إلى السلام، وكأن إبراهيم يريد أن يذكر السلام بينه وبين أبيمالك، كما يريد أن أبيمالك يذكر هذا السلام. وتحت الأثل الدائم الخضرة دعا إبراهيم باسم الرب «الإِله السرمدي». وهذه هي المرة الأولى في التوراة التي نجد فيها لقب اللّه أنه سرمدي - هذا الاسم معناه «اللّه الذي لا يتغير».

كان هذا اختباراً جديداً لإِبراهيم. علاقة إبراهيم بأبيمالك تزيد وتنقص. محبة أبيمالك لإِبراهيم ترتفع وتنخفض - لكن اللّه لا يتغير أبداً. اللّه لا يتغير مهما تغير البشر. لقد تغير مكان سكن إبراهيم: كان في أور ثم في مصر، ثم في حاران، ثم في جرار. وقد يتغير أبيمالك فيصالح إبراهيم ثم يخاصمه، ثم يصالحه. وقد تتغير سارة فتحب هاجر وتكرهها. وقد يتغير البشر جميعاً في معاملاتهم بعضهم مع بعض. لكن اللّه لا يتغير أبداً، فإن اللّه السرمدي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران.

من هذا نرى أن اختبارات إبراهيم مع اللّه كانت تنمو وتزيد. كان ينمو في معرفة اللّه كل يوم. تقول لنا التوراة أولاً إنه عرف الإِله العلي. ثم بعد ذلك الإِله القدير، وها هو يعرف الإِله السرمدي الذي لا تغيير فيه. ومعرفة المؤمن بالرب تزيد يوماً بعد يوم. في كل يوم يختبر المؤمن اختباراً جديداً. ترى يا عزيزي القارئ، هل تزيد معرفتك بالرب.

ولا نستطيع أن نختم حديثنا هذا عن حياة إبراهيم دون أن نتكلم عن علاقة المؤمن بأهل العالم. إبراهيم أب المؤمنين صنع عهداً مع الملك الوثني ليعيش في سلام. ونحن يجب أن نحيا في سلام مع أهل العالم. قدم لنا رسول المسيحية بولس وصايا عن أهل العالم، وأطلق عليهم لقب «الذين هم من خارج». قال: «اُسْلُكُوا بِحِكْمَةٍ مِنْ جِهَةِ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ، مُفْتَدِينَ ٱلْوَقْتَ. لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحاً بِمِلْحٍ، لِتَعْلَمُوا كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تُجَاوِبُوا كُلَّ وَاحِدٍ» (كولوسي 4: 5، 6). وقال أيضاً: «لِكَيْ تَسْلُكُوا بِلِيَاقَةٍ عِنْدَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ» (1 تسالونيكي 4: 12). وقال أيضاً: «وَيَجِبُ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ شَهَادَةٌ حَسَنَةٌ مِنَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ» (1 تيموثاوس 3: 7). وقال أيضاً: «مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ قُدَّامَ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ» (رومية 12: 17).

من هذا كله يجب أن نعلم أن حياتنا شهادة أمام الآخرين. إنهم يرون الديانة فينا، ويبصرون اللّه بواسطتنا سواء شعرنا أو لم نشعر.

الفصل الحادي عشر: اللّه يمتحن إبراهيم

في ما درسناه من حياة إبراهيم حتى الآن، رأينا اللّه قد ظهر لإِبراهيم ست مرات..

في المرة الأولى دعاه أن يخرج من بلاده ويذهب إلى أرض لا يعرفها، وكانت تلك دعوة ليترك أرض الشر. وسمع إبراهيم دعوة اللّه، وخرج من البلاد التي تعبد الوثن ليذهب إلى بلد يعبد اللّه فيها.

المرة الثانية التي ظهر اللّه فيها لإِبراهيم، وعده أن يعطيه الأرض الجديدة التي ذهب إليها. في ذلك المكان بنى إبراهيم مذبحاً للرب. وأطلق اللّه عليه لقب «خليل اللّه» الذي يعبد اللّه ويفكر فيه.

في المرة الثالثة ظهر اللّه لإِبراهيم ووعده أن يعطيه ابناً. لقد صبر إبراهيم صبر الإِيمان وهو ينتظر تحقيق ذلك الوعد.

وفي المرة الرابعة وقعت على إبراهيم ظلمة شديدة، وأعلن اللّه له أن نسله سيذهب إلى أرض غريبة، يستعبدونهم فيها ويسومونهم سوء العذاب. في هذه المرة الرابعة أدرك إبراهيم أن له الرجاء العظيم في الرب، فإن نسله سيخرج من أرض العذاب، واللّه لا بد أن يطلق أولاده من متاعبهم.

أما المرة الخامسة فقد ظهر اللّه لإِبراهيم على أنه «اللّه القدير». لقد أدرك إبراهيم في المرة الخامسة قوة اللّه الخفية التي ستعطيه النسل، بالرغم من أن عمره بلغ مئة سنة. فلا يصعب على اللّه القدير شيء. كل شيء مستطاع عنده.

وفي المرة السادسة ظهر اللّه لإِبراهيم ليقول له إنه ديان كل الأرض الذي يصنع العدل. وتعلم إبراهيم عن عدالة اللّه.

ولنتأمل الآن الظهور السابع الذي ظهره الرب لإِبراهيم خليله، والسبعة علامة الكمال. لم يكن هناك وعد بالبركة. ولم تكن هناك رؤية مشجعة، ولم يدخل اللّه مع إبراهيم في عهد جديد، ولم يجلس ليتحدث معه، ولم يعط اللّه لإِبراهيم نوراً يضيء المستقبل أمامه. كان كل ما أعطاه في الظهور السابع أمراً غريباً للغاية لا يكاد يُصدق. فقد قال له: «خُذِ ٱبْنَكَ وَحِيدَكَ ٱلَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ وَٱذْهَبْ إِلَى أَرْضِ ٱلْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ ٱلْجِبَالِ ٱلَّذِي أَقُولُ لَكَ» (تكوين 22: 2). يا للغرابة!! أمر بدون تشجيع ولا وعد ولا عهد، امتحن اللّه إبراهيم، وما أصعب الامتحان!

كان كل شيء حول إبراهيم يُظهِر السلام والنجاح. كان قد عاش خمساً وعشرين سنة في أرض الموعد، يحيا في سلام مع جيرانه. كان ناجحاً وغنياً. كان إسحق ينمو ويكبر في صحة، وكان إبراهيم يختبر اللّه السرمدي الذي لا يتغير، وقد استراح من جهة ولادة ابن الموعد: إسحق. لكن ها هو الابن الوحيد المحبوب الذي سيرث الأرض، يضيع! لكن هل قلت يا عزيزي القارئ إن إسحق يضيع؟ لا! إن مواعيد اللّه لا يمكن أن تضيع. إن اللّه لا يريد أن يموت إسحق، لكنه يريد أن يمتحن إخلاص إبراهيم الذي وصل إلى أعلى درجات الصداقة مع اللّه، وكان مؤهَّلاً أن يدخل امتحاناً يظهر فيه مدى حبه وطاعته وثقته في اللّه. ونحن نعلم أن التلميذ يدخل المدرسة، ويتعلم طول السنة، لكن الامتحان لا يكون إلا آخر السنة، بعد أن يكون قد قرأ ودرس وجاهد، وبعد أن يكون معلمه قد تعب معه. وامتحان اللّه يختلف عن أي امتحان آخر، فالعالم والشيطان يمتحناننا ليجعلانا نسقط في الشر، والناس يمتحنوننا ليظهروا العيوب والضعفات التي فينا، لكن اللّه يمتحن المؤمن ليظهر الخير الذي فيه. وليعطيه المزيد من النجاح، ويعلمه دروساً عنه.

إمتحان صعب:

سمع إبراهيم سؤال اللّه في الامتحان. كانت كل كلمة من السؤال مثل السيف القاسي القاتل: «خُذِ ٱبْنَكَ وَحِيدَكَ ٱلَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً» . الابن الوحيد يقتله بيده.. كيف هذا؟!! الرجل العجوز الذي أشرف على الموت يقتل الشاب القوي الصاعد إلى الحياة! هل يقتل الذي قَبِل فيه المواعيد؟ وماذا تقول سارة عن ابنها؟ وماذا يفعل إبراهيم لو قاوم إسحق أباه العجوز؟ وماذا يقول إسحق عن أبيه؟ وماذا يقول عن إله أبيه الذي يطلب القتل؟ ثم كيف تكون حياة إبراهيم بعد موت إسحق؟ ليت إسحق يموت ميتة عادية في حضن أمه، لكنه سيموت مذبوحاً، واليد التي تذبحه هي يد أبيه.

لا شك أن إبراهيم ارتعد أمام هذه الأفكار. لا بد أنه فكر فيها جميعاً، وكان يقدر أن يتعلّل بأسباب يتهرّبَ بها من ذبح ابنه. كان يمكن أن يقول لسارة إنه سيذبح ولدهما، فتمنعه من ذلك، لكنه في النهاية صمم على أن يطيع. كان متأكداً أن الصوت الذي سمعه هو صوت اللّه الذي سمعه وعرفه من قبل. كان يعلم أن اللّه أمين، ولا بد أنّه سيحقق المواعيد السابقة. وحتى لو مات إسحق فإن اللّه لا بد أن يقيمه من بين الأموات. وفي هذا يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «بِٱلإِيمَانِ قَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُجَرَّبٌ - قَدَّمَ ٱلَّذِي قَبِلَ ٱلْمَوَاعِيدَ، وَحِيدَهُ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُ: «إِنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ». إِذْ حَسِبَ أَنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ عَلَى ٱلإِقَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (عبرانيين 11: 17 - 19). كان إبراهيم قد سمع المواعيد من اللّه عن هذا الابن، وعرف أنها لم تتم، وكان يعلم أنها لا بد أن تتم، فوثق في قوة اللّه، ووافق على أمر اللّه، وفعل ما قاله نبي اللّه داود: «أَسْرَعْتُ وَلَمْ أَتَوَانَ لِحِفْظِ وَصَايَاكَ» (مزمور 119: 60).

اللّه يفتدي إسحق:

في الصباح قام إبراهيم بدون تأخير، وجهز كل شيء للذبيحة: جهز الركائب، وأخذ اثنين من الخدم معه وإسحق ابنه، وعمل حسابه على الحطب والنار والسكين، فقد خاف أن لا يجد ناراً ولا سكيناً ولا حطباً في الجبل. وسار إبراهيم باكراً في الصباح. وفي اليوم الثالث وصل إلى أرض المريا. ومعنى إسم المريا «الرب يجهز»، فقد كان الرب يجهز مفاجأة عظيمة لإِبراهيم. لا شك أن الشيطان جرب إبراهيم في هذه الأيام الثلاثة أعظم التجارب. في كل دقيقة كان يحاول أن يرجعه أو يغيّر فكره أو يعطل عزمه، لكن إبراهيم انتصر. وعندما اقترب من الجبل طلب إبراهيم من الخادمين أن ينتظراه، وقال لهما: «ٱجْلِسَا أَنْتُمَا هٰهُنَا... وَأَمَّا أَنَا وَٱلْغُلاَمُ فَنَذْهَبُ إِلَى هُنَاكَ وَنَسْجُدُ، ثُمَّ نَرْجِعُ إِلَيْكُمَا» (تكوين 22: 5). لقد كان إبراهيم يعلم أنه سيرجع مع ابنه بسلام. كان واثقاً أن الموعد لا بد أن يتحقق. وحمل إسحق الشاب القوي الحطب، وحمل إبراهيم في يده حجرَيْ صوان ليشعل النار، وحمل السكين، وسار مع إسحق ابنه. وسأل إسحق وهو يحمل الحطب: «يَا أَبِي... هُوَذَا ٱلنَّارُ وَٱلْحَطَبُ، وَلٰكِنْ أَيْنَ ٱلْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟» (آية 7). وفي إيمان وثقة قال إبراهيم: «ٱللّٰهُ يَرَى لَهُ ٱلْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ٱبْنِي» ( آية 8). في هذا نرى ثقة إبراهيم في الرب الذي يدبر كل شيء، ومع التجربة يعطي منفذاً. بنى إبراهيم المذبح ورتب الحطب، وربط إسحق ووضعه على المذبح. كان يمكن أن يصرخ إسحق ويقاوم لأنه شاب قوي، لكنه سلم بخضوع كامل وبدون مقاومة. ورفع إبراهيم السكين ليذبح ابنه. وحالاً جاء صوت من السماء يعلن أن إبراهيم قد نجح. قال اللّه: «لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى ٱلْغُلاَمِ وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئاً، لأَنِّي ٱلآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ خَائِفٌ ٱللّٰهَ، فَلَمْ تُمْسِكِ ٱبْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي» (تكوين 22: 12). ولما رفع إبراهيم عينيه رأى تدبير اللّه. رأى كبشاً أمسكت غصون الأشجار بقرنيه في الغابة. إذاً حقق اللّه انتظار إبراهيم. لقد قال لإِسحق: «ٱللّٰهُ يَرَى لَهُ ٱلْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ٱبْنِي» (آية 8). رأى اللّه ودبر. وأصعد إبراهيم الكبش محرقة بدل ابنه، ودعا اسم ذلك المكان «يهوه يرأه» بمعنى الرب يرى أو الرب يدبر. الرب دبر في الوقت المناسب.

عزيزي القارئ، لقد افتُدي إسحق بذبح عظيم. وتتكلم المسيحية عن الفداء - فداء المسيح، الذبح العظيم - الذي بذل نفسه عن كل العالم. كما يقول الإِنجيل: «لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ، مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي ٱلّزَمَانِ ٱلْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رومية 3: 22 - 26).

عزيزي القارئ، في المسيح الذي قدم نفسه كفارة من أجلنا ظهر لنا طريق اللّه للخلاص. اقبله أو ارفضه، لأنك حرٌّ في ما تختار، لكن اعلم أن مصيرك الأبدي يتوقَّف على اختيارك. فاختر الحياة لتحيا!

الفصل الثاني عشر: إبراهيم يحزن

في تأملاتنا في حياة إبراهيم نجيء إلى موقف حزين في حياته، عندما ماتت زوجته. وهل يمكن أن تكون حياة الإِنسان منا سلسلة من أفراح دون أن يعتريها حزن؟ مستحيل! بكى إبراهيم عندما ماتت سارة زوجته. لم نسمع أن إبراهيم بكى عندما ترك أهله وأصحابه وبيت أبيه وأرضه. ولم نسمع أنه بكى عندما سمع أن الأعداء أخذوا لوطاً أسيراً. ولم نسمع أنه بكى عندما أخذ ابنه المحبوب إسحق، وسار به إلى الجبل ليقدمه ذبيحة كما أمره الرب. ولكننا نراه يبكي عندما ماتت سارة زوجته. لا شك أنه كان بكاءً حقيقياً من قلب مجروح. كان من الطبيعي أن يبكي على سارة وعمرها مئة وسبعاً وعشرين سنة، وهي المرأة الوحيدة التي سجلت التوراة عمرها. ومهما عاش الإِنسان فلا بد أن يموت، فأي إنسان يحيا ولا يرى الموت؟ وُضع للناس أن يموتوا، فإن الموت هو طريق الأرض كلها. وبعد انتهاء أيام حياة سارة ماتت. على أن هناك نقاطاً مضيئة في موت سارة.

نقاط مضيئة:

  1. أولها أن موت سارة كان موت سيدة مؤمنة. حين نقرأ سيرة حياتها نرى أن إيمانها لم يكن قوياً مثل إيمان إبراهيم، لكنها عاشت حياة الإِيمان بمواعيد اللّه. تركت أهلها وسارت مع زوجها في طاعة الإِله الذي عبده زوجها. يقول عنها كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «بِٱلإِيمَانِ سَارَةُ نَفْسُهَا أَيْضاً أَخَذَتْ قُدْرَةً عَلَى إِنْشَاءِ نَسْلٍ، وَبَعْدَ وَقْتِ ٱلسِّنِّ وَلَدَتْ، إِذْ حَسِبَتِ ٱلَّذِي وَعَدَ صَادِقاً» (عبرانيين 11: 11). ويقول عنها الرسول بطرس: «كَانَتْ سَارَةُ تُطِيعُ إِبْرَاهِيمَ دَاعِيَةً إِيَّاهُ «سَيِّدَهَا». ثم يقول للنسوة المؤمنات: «ٱلَّتِي صِرْتُنَّ أَوْلاَدَهَا، صَانِعَاتٍ خَيْراً» (1بطرس 3: 6).

  2. وهناك نقطة أخرى مضيئة في موت سارة، فقد كان موتها موت شريكة حياة محبوبة، عاشت مع إبراهيم ستين سنة في كنعان. لم نقرأ عن حادثة خصام بينها وبين إبراهيم، غير خصامها في مسألة هاجر. لقد عاشت حياة زوجية سعيدة طويلة، كانت فيها الشريكة المحبة لزوجها، شاركته أحزانه وأفراحه، وانتصاراته وقربه من اللّه، ووقفت إلى جواره تسنده بكل قلبها وطاقتها. نعم، كان موت سارة موت شريكة حياة محبوبة.

  3. وهناك نقطة ثالثة مضيئة في موت سارة، أن موتها كان موت أم فاضلة. صحيح أن موتها كان خسارة كبيرة على إسحق. ومع أن عمره عند موتها كان سبعاً وثلاثين سنة، إلا أنه كان يحيا معها في البيت يتمتع بأمومتها الفاضلة، ويشعر بمحبتها وتدبيرها وحكمتها. يصدق في سارة ما قاله إمام الحكماء سليمان: «اِمْرَأَةٌ فَاضِلَةٌ مَنْ يَجِدُهَا؟ لأَنَّ ثَمَنَهَا يَفُوقُ ٱللآلِئَ» (أمثال 31: 10).

كان موت سارة خسارة على أسرتها، فقد نقص فرد عظيم في تلك الأسرة. نقصت سارة الشخصية الرئيسية في الأسرة. عندما جاء الضيوف إلى إبراهيم أسرع إلى سارة لتجهيز الطعام لهم. وخسرت الأسرة سارة المدبرة الفاضلة، وأتى إبراهيم ليندب سارة ويبكي عليها. يظهر من رواية التوراة أن إبراهيم كان في بلد أخرى عندما ماتت سارة، وسمع عن موتها، فأسرع إلى «قرية أربع» التي ماتت فيها ليندبها ويبكي عليها. هناك فرق بين إتمام إرادة اللّه عندما يأخذ إبراهيم ولده وحيده ويذبحه، وبين احتمال الآلام عندما تنفذ إرادة اللّه، فتموت سارة.

عندما نتمم إرادة اللّه نتحمل بصبر، لكن عندما ينتهي كل شيء تسيل منا الدموع. ليس عجيباً أن يبكي إبراهيم. لقد كانت سارة شريكة حياته أكثر من مئة سنة. كانت الوحيدة التي تستطيع أن تعزيه عندما يذكر أهله في أور الكلدانيين، لأنها الوحيدة الباقية معه منذ ترك أهله وأرضه. كانت المرأة الشجاعة التي سافرت معه، واحتملت التعب، وتركت الجميع لتكون إلى جواره. فكيف لا يبكي عليها. وعندما جلس إبراهيم عند جسدها ذكر كل تاريخه معها، وجهادها معه، وسالت الدموع من عينيه.

إبراهيم يشتري قبراً:

وقام إبراهيم من أمام جسد زوجته يريد شراء مدفن لها. واتجه إلى بني حِث - حيث يسكن - يطلب منهم مكاناً ليدفن فيه زوجته. وقال لهم: «أَنَا غَرِيبٌ وَنَزِيلٌ عِنْدَكُمْ. أَعْطُونِي مُلْكَ قَبْرٍ مَعَكُمْ لأَدْفِنَ مَيِّتِي مِنْ أَمَامِي». فَأَجَابَ بَنُو حِثَّ إِبْرَاهِيمَ: «اِسْمَعْنَا يَا سَيِّدِي، أَنْتَ رَئِيسٌ مِنَ ٱللّٰهِ بَيْنَنَا. فِي أَفْضَلِ قُبُورِنَا ٱدْفِنْ مَيِّتَكَ. لاَ يَمْنَعُ أَحَدٌ مِنَّا قَبْرَهُ عَنْكَ حَتَّى لاَ تَدْفِنَ مَيِّتَكَ». فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ وَسَجَدَ لِشَعْبِ ٱلأَرْضِ لِبَنِي حِثَّ، وَقَالَ: «إِنْ كَانَ فِي نُفُوسِكُمْ أَنْ أَدْفِنَ مَيِّتِي مِنْ أَمَامِي فَٱسْمَعُونِي، وَٱلْتَمِسُوا لِي مِنْ عِفْرُونَ بْنِ صُوحَرَ أَنْ يُعْطِيَنِي مَغَارَةَ ٱلْمَكْفِيلَةِ ٱلَّتِي لَهُ، ٱلَّتِي فِي طَرَفِ حَقْلِهِ. بِثَمَنٍ كَامِلٍ يُعْطِينِي إِيَّاهَا فِي وَسَطِكُمْ مُلْكَ قَبْرٍ» (تكوين 23: 1 - 9).

وفي حديث إبراهيم مع بني حث، وفي حديثهم معه، نجد الحقائق التالية:

  1. كان إبراهيم يشعر أنه غريب ونزيل. صحيحٌ أن هذه الأرض الجديدة هي أرضه وأرض أولاده من بعده حسب وعد الله فه، لكنه يعتبر نفسه غريباً، فذهب يقول لبني حث إنه غريب ونزيل. والغريب لا يدفن ميته في أرض غربته، لكنه يدفنه في المكان الذي جاء منه، حيث بلده الأصلية. لكن إبراهيم لم يرجع ليدفن سارة في أرض ما بين النهرين، بل طلب أن يدفنها عند بني حث، لأنه واثق أنه ونسله سيكونون في أرض كنعان. ما دام قد دفن زوجته في هذا المكان، فإن هذا معناه أن هذا المكان مكانه. وقد أخذ إبراهيم هذا الشعور من مواعيد اللّه، الذي قال له إنه سيعطيه الأرض له ولنسله.

  2. كان إبراهيم لطيفاً للغاية مع بني حث. قام وسجد لشعب الأرض تحيةً. وكان هذا علامة الاحترام والتحية والشكر، وفي نفس الوقت نسمع بني حث يقولون له: «اسمعنا يا سيدي، أنت رئيس من اللّه بيننا. في أفضل قبورنا ادفن ميتك. لا يمنع أحد منا قبره عنك حتى لا تدفن ميتك». ومن هذا نتعلم اللطف في معاملاتنا. قد يكون بعض الناس خشني الطباع، لكن إبراهيم يعطينا درساً في اللطف والمعاملة الرقيقة.

  3. ثم نلاحظ في كلام إبراهيم أنه كان أميناً. إنه يعلم أن الأرض كلها له، لأن اللّه أعطاها له، لكنه يطلب أن يدفع ثمن القبر الذي اشتراه. ودفع إبراهيم أربعمائة شاقل فضة. وعندما طلب صاحب الأرض أن يعطيه الأرض مجاناً رفض إبراهيم. قال صاحب الأرض له: «الحقل وهبتك إياه، والمغارة التي فيه لك وهبتها». لكن إبراهيم طلب أن يدفع الثمن. لم يغتصب إبراهيم أرض أحد، ولم يأخذها بحجة أن اللّه وعده بها. إن اللّه يَعِد، لكن علينا أن نفكر تفكيراً سليماً في مسئولياتنا من نحو احتياجات الآخرين. وما أبعد الفرق بين ما عمل إبراهيم وما يعمله اليوم نسل إبراهيم الجسدي!

وهكذا اشترى إبراهيم مغارة المكفيلة. ومعنى اسمها «المغارة المزدوجة». فقد كانت مغارتين إحداهما في داخل الأخرى، واشترى إبراهيم الحقل الذي أمام المغارتين. ودُفن إبراهيم بعد ذلك في مغارة المكفيلة، كما دُفن فيها إسحق ابنه ويعقوب وليئة. ولا زال القبر موجوداً إلى اليوم في قرية الخليل التي هي حبرون القديمة.

من قصة موت سارة نرى أننا يجب أن نكون مستعدين للموت في كل لحظة. أنت غريب في الأرض، ومسافر إلى النهاية. هل نهايتك سعيدة؟ إن صلتك بالمسيح هنا تحدد نهايتك، فقد قال السيد المسيح: «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأَبَدِ» (يوحنا 11: 25 و26). فإذا وضعت ثقتك فيه وسلمته حياتك، وفتحت له قلبك، يضمن لك الحياة الأبدية، التي تبدأ هنا والآن، ولا تنتهي أبداً، لأنك تصبح شريكاً لحياة اللّه التي يمنحها المسيح لك، فلم يرسل اللّه المسيح إلى العالم ليدين العالم بل ليُخْلُص به العالم، واللّه لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يُقبِل الجميع إلى التوبة، وكل من يُقبِل إليه لا يخرجه خارجاً. أدعوك أن تجيء إلى المسيح معترفاً بخطاياك، وأن تسلم له حياتك وقلبك، لتجد فيه الحياة الأبدية التي لا تنتهي أبداً.

الفصل الثالث عشر: زواج إسحق

كان الأب في زمن إبراهيم يهتم كل الاهتمام بتربية ابنه، وكان الواجب الأخير على الأب أن يزوِّج ابنه. وقد أراد إبراهيم أن يقوم بالواجب الأخير من نحو ابنه إسحق، فدعا وكيل بيته وطلب منه أن يبحث عن زوجة لإسحق الذي كان قد بلغ الأربعين من العمر، وقد تأخر زواجه لأنه لم تكن هناك زوجة تناسبه في بنات حث، حيث كان يسكن. نعم كانت هناك بنات جميلات، لكن الجمال الذي يطلبه إسحق وأبوه إبراهيم لم يكن جمال الجسد، بل جمال النفس في عبادة اللّه. قال إمام الحكماء سليمان «اَلْحُسْنُ غِشٌّ وَٱلْجَمَالُ بَاطِلٌ، أَمَّا ٱلْمَرْأَةُ ٱلْمُتَّقِيَةُ ٱلرَّبَّ فَهِيَ تُمْدَحُ» (أمثال 31: 30).

كان إبراهيم قد تزوج من هاجر وتعب، ولم يكن يريد أن يتعب ابنه إسحق إن تزوج بامرأة غريبة عليه. ونقرأ قصة اختيار زوجة إسحق في الأصحاح الرابع والعشرين من سفر التكوين فنعرف كيف فكر إبراهيم في زواج ابنه. كان إبراهيم يقضي أيامه الأخيرة في شركة مع اللّه يتمتع ببركاته، فتقول التوراة عنه: «شاخ إبراهيم وتقدم في الأيام. وبارك الرب إبراهيم في كل شيء». ما أجمل هذا التعبير «باركه الرب في كل شيء». فإن «بَرَكَةَ ٱلرَّبِّ هِيَ تُغْنِي، وَلاَ يَزِيدُ ٱلرَّبُّ مَعَهَا تَعَباً» (أمثال 10: 22).

وكان إبراهيم يقضي أيامه الأخيرة في طاعة إرادة اللّه، ولذلك طلب من وكيله طلبَيْن: طلب أن لا تكون زوجة إسحق من بنات كنعان، حيث كان يسكن، لأنه كان يريد أن يحفظ إيمان ابنه الذي قبله من اللّه. وهو يخشى أن يعبد إسحق الأصنام لو تزوج واحدة من بنات كنعان. ثم طلب منه أن لا يرجع أبداً بإسحق إلى الأرض التي خرج إبراهيم منها، لأنه يريده أن يبقى في أرض الموعد. قال إبراهيم لوكيله: «ٱحْتَرِزْ مِنْ أَنْ تَرْجِعَ بِٱبْنِي إِلَى هُنَاكَ. اَلرَّبُّ إِلٰهُ ٱلسَّمَاءِ ٱلَّذِي أَخَذَنِي مِنْ بَيْتِ أَبِي وَمِنْ أَرْضِ مِيلاَدِي، وَٱلَّذِي كَلَّمَنِي وَٱلَّذِي أَقْسَمَ لِي قَائِلاً: لِنَسْلِكَ أُعْطِي هٰذِهِ ٱلأَرْضَ، هُوَ يُرْسِلُ مَلاَكَهُ أَمَامَكَ، فَتَأْخُذُ زَوْجَةً لٱبْنِي مِنْ هُنَاكَ. وَإِنْ لَمْ تَشَإِ ٱلْمَرْأَةُ أَنْ تَتْبَعَكَ، تَبَرَّأْتَ مِنْ حَلْفِي هٰذَا. أَمَّا ٱبْنِي فَلاَ تَرْجِعْ بِهِ إِلَى هُنَاكَ» (تكوين 24: 6 - 8).

كان إبراهيم يقضي أيامه الأخيرة في ثقة بمعروف اللّه من نحوه. إنه يعرف أن اللّه الذي كان معه في الماضي وباركه، سيكون معه في المستقبل أيضاً، وسيكون مع ابنه إسحق. إن اللّه هو الإِله الدائم الوجود مع أولاده، لا يتركهم أبداً.

سمع وكيل إبراهيم طلباته وسأل: «رُبَّمَا لاَ تَشَاءُ ٱلْمَرْأَةُ أَنْ تَتْبَعَنِي إِلَى هٰذِهِ ٱلأَرْضِ. هَلْ أَرْجِعُ بِٱبْنِكَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي خَرَجْتَ مِنْهَا؟» (تكوين 24: 5). إنه يريد أن يكون تصرفه سليماً، وهو يعلم أنه من الصعب أن تترك الفتاة بلادها وتحضر إلى بلاد بعيدة غريبة عليها. لكن إبراهيم كان واثقاً تمام الثقة في إلهه، فقال إن اللّه سيرسل ملاكه ليدبر. لقد اختبر إبراهيم اللّه الذي يدبر ويرى، وكانت حياة إبراهيم سلسلة متصلة من تدبير اللّه ومحبته وصلاحه. وهذا الإِله الصالح هو الإِله السرمدي الذي لا يتغير أبداً، والذي يستمر بأمانته مع إبراهيم. على أن إبراهيم في لطف قال لوكيله إنه إذا لم تشأ المرأة أن تتبعه، فإنه يكون بريئاً من العهد الذي تعهد به لإِبراهيم.

الوكيل المؤمن يتصرف:

كان وكيل إبراهيم مؤمناً كإبراهيم، فأدرك أن اللّه سيرسل ملاكه ليدبر زوجة لإسحق. فسار إلى أرام النهرين إلى مدينة أهل إبراهيم، وأخذ معه هدايا كثيرة. وعندما وصل إلى هناك رفع صلاة إلى اللّه، طالباً منه أن ييسِّر له عمله، وأن يصنع لطفاً إلى إبراهيم. ثم وضع أمام اللّه علامة، وقال: «فَلْيَكُنْ أَنَّ ٱلْفَتَاةَ ٱلَّتِي أَقُولُ لَهَا: أَمِيلِي جَرَّتَكِ لأَشْرَبَ، فَتَقُولَ: ٱشْرَبْ وَأَنَا أَسْقِي جِمَالَكَ أَيْضاً، هِيَ ٱلَّتِي عَيَّنْتَهَا لِعَبْدِكَ إِسْحَاقَ. وَبِهَا أَعْلَمُ أَنَّكَ صَنَعْتَ لُطْفاً إِلَى سَيِّدِي» (تكوين 24: 14). لاحظ أن وكيل إبراهيم لم يضع أي علامة بدون تفكير، لم يقل مثلاً: الفتاة التي تحضر وهي ترتدي رداء أحمر!! ولكنه وضع علامة تُظهر له صفات الفتاة وتبيّن شخصيتها. يقول: «التي أقول لها أميلي جرتك لأشرب، فتقول اشرب وأنا أسقي جمالك أيضاً، هي التي عينتها لعبدك إسحق». لو سقته وسقت جماله فإن هذا يعني أنها خدومة، مضحية، لطيفة، مضيافة، وتصلح زوجة لإسحق. وحال الانتهاء من الصلاة جاءت فتاة حسنة المظهر، وعندما طلب منها أن يشرب، سقته وطلبت أن تسقي جماله أيضاً. وشرب الرجال وشربت الجمال. وتقول التوراة إنه وقف يتفرس فيها صامتاً ليعلم هل أنجح الرب طريقه؟ وأخذ الرجل خزامة من ذهب وسوارين وأعطاها للفتاة، وسألها من هي؟ وكم شكر اللّه عندما سمع أنها ابنة عم إسحق. وسجد سجود شكر للّه. لقد سمع اللّه صلاته، وصنع لطفاً لإِبراهيم، ودبر تدبيراً صالحاً لإسحق.

نلاحظ هنا صلاة طلب، ثم صلاة شكر. نحتاج فنطلب من إلهنا أن يدبر ويعيّن لنا الصالح والنافع، ولكننا يجب أن نشكر حالما يدبر لنا ما طلبناه.

وبعد أن رفع وكيل إبراهيم صلاة شكر، دعته الفتاة أن يذهب معها إلى بيتها. وأسرعت تحكي لهم في البيت عن الضيف الغريب. وسمع أخوها لابان القصة، فأسرع خارجاً يطلب من الضيف أن يأتي معه إلى بيته. وفي البيت رفض الرجل أن يأكل حتى يحكي عن الموضوع الذي جاء من أجله. حكى كل حكايته عن طلب سيده إبراهيم، وعن صلاته عند البئر، وعن رفقة التي سقته وسقت الجمال أيضاً. وفي حديثه تكلم عن نفسه بتواضع، ثم تكلم عن إبراهيم بمحبة وفخر. وفي نهاية حديثه قدم لأهل رفقة فرصة الاختيار، وهو يقول: «وَٱلآنَ إِنْ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ مَعْرُوفاً وَأَمَانَةً إِلَى سَيِّدِي فَأَخْبِرُونِي، وَإِلاَّ فَأَخْبِرُونِي لأَنْصَرِفَ يَمِيناً أَوْ شِمَالاً». فَأَجَابَ لاَبَانُ وَبَتُوئِيلُ: «مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ خَرَجَ ٱلأَمْرُ. لاَ نَقْدِرُ أَنْ نُكَلِّمَكَ بِشَرٍّ أَوْ خَيْرٍ. هُوَذَا رِفْقَةُ قُدَّامَكَ. خُذْهَا وَٱذْهَبْ. فَلْتَكُنْ زَوْجَةً لٱبْنِ سَيِّدِكَ كَمَا تَكَلَّمَ ٱلرَّبُّ» (تكوين 24: 49-51). ومرة ثالثة صلى وكيل إبراهيم صلاة شكر للّه. ثم أعطى هدايا لأهل رفقة. ووافقت رفقة على السفر فوراً إلى إسحق.

لماذا وافقت رفقة على السفر؟

يمكن أن نرى الأسباب التي دفعت رفقة على أن تقبل السفر إلى بلاد بعيدة لتتزوج ابن عمها الذي لم تره من قبل. لقد رأت يد الرب التي رتبت الموضوع كله، وعلمت أنه من عند الرب خرج الأمر. وما دام اللّه قد رتب كل شيء فإنها تقبل الترتيب الإِلهي. ثم كانت الهدايا التي قدمها وكيل إبراهيم سبباً جذبها إلى إسحق. إنها تتزوج من رجل قادر أن يدبر احتياجاتها كلها. وكانت أخبار عمها إبراهيم وابن عمها إسحق، من زمان، قصة جميلة سمعتها بشوق، وها قد جاء الوقت الذي تذهب فيه لترى إبراهيم وإسحق بنفسها.

وسارت القافلة حتى وصلت إلى أرض كنعان، وهناك كان إسحق يتأمل في الحقل... كان يصلي ويتأمل. لعله كان يفكر في أن يدبر اللّه له الزوجة الصالحة. وما إن رأته رفقة حتى نزلت من على الجمل، ووضعت البرقع على وجهها علامة الاحترام، وأخذها إسحق إلى خباء سارة أمه وأحبها وتعزى بها بعد موت أمه.

من هذه القصة الجميلة نتعلم شروط الزواج السعيد:

قال أحد الحكماء: إذا أردت أن تسافر برّاً فكِّر مرة، وإذا أردت أن تسافر بحراً فكِّر مرتين. وإذا أردت أن تسافر جواً فكِّر ثلاث مرات. أما إن أردت أن تتزوج ففكر سبع مرات.

ويوجد مثل إيراني يقول: «إذا ذهبت لسفر فادْعُ اللّه مرة، وإن ذهبت لحرب فادْعُ اللّه مرتين، أما إذا أردت الزوجة، فادع اللّه ثلاث مرات».

ويحسن بالخطيب الذي يختار خطيبته، أو الخطيبة التي تختار خطيبها، أن يضعا الأمور الآتية قبل اختيارهما، لتجعلهما أن يفكرا في خطورة الأمر:

  1. إن الشريك الآخر سيكون زميلنا طول العمر: إن بصحة جيدة أو مرض، بأخلاق فاضلة أو بأخلاق رديئة، إن بعلم أو بجهل.

  2. إن الشريك الآخر سيكون أماً أو أباً لأولادنا، وهم أعز من لنا في هذه الحياة، سيكونون المدرسة الأولى لتربيتهم، فإما أن يُخرجوا منها أفضل ما يكون من الأولاد - إذا كان اختيارنا هو الأفضل، أو شيئاً رديئاً مماثلاً لاختيارنا الرديء.

  3. إن الظواهر قد لا تكون مثل البواطن، فعلينا أن نحذر الاندفاع العاطفي، أو مجرد اقتراح أحد الناس، ولو كان أعز الناس عندنا، بدون فحص أو تمحيص في أمر هو أخطر شأن من شؤون الحياة.

  4. إن هذا الاختيار سيقرر مصيرنا في المجتمع إلى أبعد الحدود، وهو إما أن يكون دافعاً إلى السعادة والنجاح أو إلى الشقاء والفشل.

  5. سيكون لهذا الاختيار مساهمة في تقرير مصيرنا الأبدي، بما سيطبعه فينا من أخلاق، بتفاعلنا مع الشريك الآخر، فلنعلم يقيناً أن اختيارنا للشريك الآخر هو أعظم اختيار بعد اختيار تسليم حياتنا للّه.

سئل أحد خدام اللّه: هل كل زواج من اللّه؟ فأجاب: كلا، بل يوجد زواج من الشيطان، يتمم به مآربه، كزواج أخآب بإيزابل. ويوجد زواج من البشر بتدخُّل الجسد والتسرُّع كزواج إبراهيم بهاجر، مما سبَّب له ولسارة نفسها متاعب. وزواج من اللّه رأساً، كزواج إسحق برفقة. لذلك يجب أن نحترس لئلا نسقط في نوع الزواج الأول أو الثاني.. بل يكون زواجنا كالنوع الثالث بترتيب اللّه وبإرشاده.

يجب أن يكون الزوج والزوجة مؤمنَيْن، لأن الإِنجيل يقول: «لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ» (2 كورنثوس 6: 14). لا نقول إن الزوجة المؤمنة دائماً تربح الشخص البعيد عن اللّه، فالأغلب أن غير المؤمن يؤثر على المؤمن ويعطل إيمانه. ثم يجب أن تكون الزوجة نظير الزوج - معيناً نظيره - متناسبة معه. ثم يجب أن يكون الزواج ثمرة الصلاة.. اللّه يدبر، كما قال سليمان الحكيم: «اَلْبَيْتُ وَٱلثَّرْوَةُ مِيرَاثٌ مِنَ ٱلآبَاءِ، أَمَّا ٱلزَّوْجَةُ ٱلْمُتَعَقِّلَةُ فَمِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ» (أمثال 19: 14).

قد نسأل: كيف تزوج إسحق رفقة دون أن يراها؟ وهل نسمح لأولادنا أن يتزوجوا دون أن يروا شريك الحياة؟ والجواب هو: إن الزمان تغير منذ أيام إسحق. ينبغي أن يعرف الشاب خطيبته قبل أن يتزوج بها.

الفصل الرابع عشر: إبراهيم في الإِنجيل

بعد هذه الحياة الرائعة، انتقل إبراهيم إلى الرفيق الأعلى، فأي إنسان لا يرى الموت؟ عاش إبراهيم مئة وخمساً وسبعين سنة، غنية بالاختبارات العميقة مع الرب. وبعد أن جاهد، أسلم روحه بين يدي الإِله الذي عرفه وأحبه وعبده، وكأنه يقول للّه: «في يديك أستودع روحي». أسلم روحه للرب، وهو يحيا كل يوم في طاعة له، ومات بشيبة صالحة. فقد كان صالحاً في حياته، ومات شيخاً وشبعان أياماً، و «انضم إلى قومه» كما تقول التوراة. لم يكن جسده قد انضم إلى قومه، إذ أن إسحق وإسماعيل دفناه في مغارة المكفيلة، ولم يكن بها غير سارة زوجته، لكن المقصود أنه انضم إلى قومه بالروح، أي إلى جماعة الأبرار الساكنين في السماء منذ تكوين العالم. وبارك الرب إسحق كما وعد إبراهيم.

يحتل إبراهيم في الإِنجيل مكانة كبيرة، أرجو أن نتأمل بعض ما جاء عنه.

إبراهيم رأى المسيح:

قال السيد المسيح عن إبراهيم لشيوخ اليهود: «أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ» (يوحنا 8: 56 - 59). لم يرَ إبراهيم المسيح بالرجاء فقط، ولم يرَ المسيح بالإِيمان فقط، لكنه رآه في الجسد، عندما قطع معه العهد، ورآه عندما جاء إلى بيته ضيفاً ومعه اثنين من الملائكة، ورآه رمزاً في ذبيحة إسحق، في الكبش الذي افتداه، ورآه في نور المواعيد. نعم، لقد رأى إبراهيم المسيح، وفرح وتهلل، لأنه رأى فيه خلاص العالم وخلاص نفسه، وفرح بالخلاص وتهلل بالفداء الذي بالتضحية والكفارة. اغتاظ اليهود من المسيح عندما قال إنه موجود من قبل وجود إبراهيم، وإنه بذلك يقول إنه أزلي. فرفعوا حجارة ليرجموه.. مساكين، يقولون إنهم أولاد إبراهيم لكنهم لا يؤمنون كما آمن إبراهيم، آمن إبراهيم وخلص، وكل الذين قبلوا المسيح أعطاهم اللّه سلطاناً أن يصيروا أولاد اللّه، أي المؤمنون باسمه (يوحنا 1: 12).

إبراهيم تبرر بالإِيمان:

يتحدث رسول المسيحية بولس في الأصحاح الرابع من رسالته إلى كنيسة روما عن إبراهيم، فيقول إنه قد تبرر أمام اللّه بإيمانه (رومية 4: 1 - 3). والتبرير هو البراءة من الخطية ومن أجرة الخطية. تبرر إبراهيم من الخطية ومن أجرتها بالإِيمان. وجد التبرير بالإِيمان بالقلب وليس بالعمل - عمل الجسد. لأنه إنْ كان إبراهيم قد تبرر بالأعمال فله الفخر، وكل من يتبرر بالأعمال يقدر أن يفتخر لأنه نال الخلاص بقوته وصلاحه وتقواه، مع أن الرب يقول: «لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (رومية 3: 12). لكن إبراهيم نال البراءة بالإِيمان فقط. آمن إبراهيم باللّه فحُسب له إيمانه براً. حسب اللّه إبراهيم باراً، واعتبره باراً، وعامله معاملة الأبرار، كل هذا لأنه وضع ثقته في اللّه وآمن. والخلاص ليس من أعمال كي لا يفتخر أحد (أفسس 2: 9).

آمن أيها القارئ العزيز بعمل المسيح لأجلك. إن عملك لا يخلّصك، لكن إيمانك بالفداء هو الذي يخلصك. آمن تخلص كما آمن إبراهيم فخلص وتبرر أمام اللّه. ويمضي رسول المسيحية بولس فيقول إن إبراهيم كان ابن مئة سنة عندما ولد إسحق. كانت كل الظروف تظهر أن ولادة إسحق مستحيلة. كانت سارة عجوزاً في التسعين، وكان هوفي المئة. كان رحم سارة عاجزاً عن حمل الحياة، حتى قالت هي: «أَبَعْد فنائي يكون لي بنين؟». لكن إبراهيم على خلاف الرجاء البشري آمن على رجاء الوعد الإِلهي أن يصير أباً لأمم كثيرة. وصدَّق كلمة اللّه، وتيقَّن أن ما وعد اللّه به هو قادر على أن يفعله أيضاً (رومية 4: 21). لهذا أقام اللّه حياة من ميت. ومن رحم سارة وُلد إسحق.

ونحن نؤمن أن اللّه أقام يسوع المسيح من الأموات، الذي أُسلم من أجل خطايانا وقام من الأموات لأجل تبريرنا (رومية 4: 25). وكل من يؤمن بقيامة المسيح يحسب له اللّه إيمانه براً، كما حسب إيمان إبراهيم له براً.

عزيزي القارئ، هل تؤمن بقيامة المسيح؟ هل قمت أنت مع المسيح من موت الخطية؟ آمن به وضع ثقتك فيه ليقيمك اللّه مع المسيح من موت خطيتك.

الإِنجيل يقول إن المؤمنين أولاد إبراهيم:

يتحدث رسول المسيحية بولس في الإِنجيل، وهو يكتب رسالة إلى أهل غلاطية (3: 6 - 14) عن أن المؤمنين أولاد إبراهيم. المؤمنون هم نسل إبراهيم الروحي، وهم ينالون البركة التي نالها إبراهيم حسب القول الإِلهي لإِبراهيم: «تتبارك فيك جميع قبائل الأرض، وأيضاً إبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية، ويتبارك به جميع أمم الأرض. إذاً الذين هم من الإِيمان يتباركون مع إبراهيم المؤمن». لقد قال السيد المسيح: «إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَات» (متى 8: 11). وكل من يقبل المسيح المخلص يصبح ابناً لإِبراهيم المؤمن، وينال التبرير الذي ناله إبراهيم، لأن البار بالإِيمان يحيا.

الإِنجيل يلخص حياة إبراهيم:

في رسالة العبرانيين نقرأ ملخصاً لحياة إبراهيم أنه عاش بالإِيمان. يقول: «بِٱلإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى ٱلْمَكَانِ ٱلَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثاً، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي» (عبرانيين 11: 8 - 11). خرج حسب أمر اللّه له. عاش غريباً لأنه كان ينتظر المدينة المؤسسة التي صنعها اللّه، التي هي سماء المجد. كان إبراهيم يقدر أن يعود إلى البلد التي خرج منها. كان يقدر أن يستريح من الأتعاب والسفر والغربة والسكن في الخيام، لكنه اختار التعب لأنه آمن بكلام اللّه. كان إبراهيم ينتظر الوطن الأفضل السماوي، فاحتمل التعب. بالإِيمان قدم إسحق على الجبل وهو مجرَّب. قدم إسحق الذي قبل فيه المواعيد. قدم وحيده. قدمه مع أن اللّه سبق أن قال له: «بإسحق يُدعى لك نسل». لكنه كان يعلم أن اللّه يقدر أن يقيم إسحق من الأموات ولو مات. نعم، آمن إبراهيم، والإِيمان هو الطاعة، والمؤمن هو المطيع. إن إيمانك يظهر في أعمالك، والإِيمان الذي بدون أعمال ميت، لأنه إيمان خارجي بدون ثمر. هل أنت مؤمن؟ هل أنت مطيع؟ «إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ ٱلتَّعْلِيمَ» (يوحنا 7: 17).

إبراهيم تبرر بالأعمال أيضاً:

قال رسول المسيحية يعقوب إن إبراهيم الذي تبرر بالإِيمان، تبرر أيضاً بالأعمال (يعقوب 2: 21 - 24). قد يبدو هناك تناقض بين كلام الرسول بولس وبين كلام الرسول يعقوب، لأن بولس يقول إن إبراهيم تبرر بإيمانه، بينما يقول الرسول يعقوب إن إبراهيم تبرر بأعماله. غير أننا عندما ندرس ما كتبه الرسول بولس عن تبرير إبراهيم بالإِيمان، نرى أنه كان يشير إلى ما جاء في الإصحاح الخامس عشر من سفر التكوين، بينما كلام الرسول يعقوب عن تبرير إبراهيم بالأعمال يشير إلى ما ورد في الأصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين، عندما قدم ابنه ذبيحة كما طلب الرب. إذاً الرسول بولس والرسول يعقوب يتكلمان عن حادثتين مختلفتين: تبرر إبراهيم أمام اللّه بالإِيمان، لأن اللّه يرى قلب المؤمن ويبرر كل من يؤمن. وتبرر إبراهيم أمام الناس بأعماله، لأن الناس لا يرون إلا العمل الظاهر. وقد ظهر إيمان إبراهيم لما رفع السكين ليذبح ابنه. الإِيمان هو الذي جعل إبراهيم يقبل أن يذبح ابنه، وهو الذي دفع إبراهيم للطاعة. الإِيمان المطلوب إذاً هو الإِيمان العامل بالمحبة.

يقول الرسول يعقوب إن الإِيمان يشبه الروح والأعمال تشبه الجسد. لا يستطيع أحد أن يرى الروح، لكن نستطيع أن نرى الروح داخل الجسد. هل إيمانك عامل؟ أو هل هو مثل إيمان الشياطين الذين يؤمنون ويقشعرون لكنهم لا يتغيرون؟

كن ابن إبراهيم المؤمن - الذي وضع ثقته الكاملة في اللّه، والذي أطاع اللّه، فكان إيمانه الإِيمان العامل.

أسئلة المسابقة

إن جاوبت على عشرين سؤالا من هذه الأسئلة الخمسة والعشرين، نرسل لك كتاباً جائزة. اكتب اسمك وعنوانك كاملين وبوضوح داخل الرسالة وليس على المظروف فقط.

  1. ما معنى اسم «أبرام» و «إبراهيم»؟

  2. كيف عرف إبراهيم الله في «أور»؟

  3. لماذا صاحب تارح ولده إبراهيم في رحلته من أور الى حاران؟

  4. ماذا نتعلم من النسر الذي يحرك عشه؟

  5. لماذا كذب إبراهيم في مصر؟

  6. ماذا تعلم إبراهيم من خطئه؟

  7. كيف عالج إبراهيم خصامه مع لوط؟

  8. كيف كافأ الله إبراهيم على صنع السلام؟

  9. كيف ظهرت محبة إبراهيم للوط بعد انفصالهما عن بعضهما؟

  10. ماذا كان شعور لوط نحو عمه إبراهيم بعدما أنقذه؟

  11. لماذا كانت فكرة زواج إبراهيم من هاجر غير سليمة؟

  12. ما هي بعض المشاكل التي تسببت عن زواج إبراهيم من هاجر؟

  13. لماذا قال الله لإبراهيم إنه الإله القدير؟

  14. ما هو معنى الختان؟

  15. من هم أولاد إبراهيم الحقيقيون؟

  16. لماذا رحَّب إبراهيم بالغرباء؟

  17. ماذا تعلمت سارة عن الله بواسطة زيارة الملائكة؟

  18. كيف استجاب الله صلاة إبراهيم من أجل سدوم وعمورة؟

  19. لماذا يجب أن نصلي من أجل الآخرين؟ اذكر وظائف بعض من تصلي لأجلهم؟

  20. ما هو الدرس الجديد عن الله، الذي تعلمه إبراهيم بعد ولادة إسحاق؟

  21. ما معنى اسم إسحاق؟

  22. ما هي شهادة أبيمالك عن إيمان إبراهيم؟

  23. إلى أي شيء يشير فداء إسحاق بكبش؟

  24. ما هما الشرطان اللذان وضعهما إبراهيم لزواج إسحاق؟

  25. ما هو سر عظمة إبراهيم؟

عنواننا:


Call of Hope 
P.O.Box 10 08 27 
D-70007
Stuttgart
Germany