العودة الى الصفحة السابقة
مجلة لقاء الشبيبة

مجلة لقاء الشبيبة

وجدتها


...سيدي الطبيب

إنّ ما تراه عليّ من حزن وهمّ وغم وشرود ليس مآله اضطراب في الأعصاب، أو من مشكل عائلية كما اعتقدت حضرتك، لا. ولم يكن بسبب فقد عزيز غاب أو قضى... أو من عدو يتربص الفرص، فأنا أتمتع بسمعة حسنة، ورفقة طيبة، الأهل والأقارب أفضال يجلّونني، ومكانتي رفيعة لدى بيئتي ومجتمعي.

..توفرت لي أسباب الحياة على يسر ووجاهة ولم أحرم نفسي من متعها بما حباني به الأهل والخلان بحفلاتهم الراقصة، ورحلاتهم الأنيسة والرياضة والموسيقى والخيل وغير ذلك مما يغني عن الوصف والاستقصاء... صدقني، سيدي ليس ما بي من الحزن والتعاسة مردّه إلى ما ذكرت أو اعتقدت.

فقال الطبيب: «ولكن يا بني أليس من المنطق والحكمة أن تقطع كل هذه المسافة المديدة المضنية بين بلدكم وبين بلدنا، ثم ترجع كما أتيت دون أن تحرز شيئاً فلا نحن عالجناك، ولا أنت برئت من سقامك وسويداءك، وكيف نعالجك أو نساعدك بدون معرفة أسباب علتك... ألا تعلم أن نصف العلاج متوقف عليك فيما تفصح عنه في ثقة واطمئنان. فقل لي أيها الأمير المحبوب ما هو الشيء الذي تفكير فيه كثيراً، ويشغلك عما حولك ليمتص نضارتك وعصارة حياتك قبل الأوان؟».

هنا تململ الشاب في مقعده، ثم أطرق ملياً وقال: «سيدي الطبيب، تسألني عن الشي الذي أفكر فيه؟... وليتك قلت ما هو الفكر الوحيد الذي دائماً شاغلك؟ فأتحدث إليك على كره مني لما أقول: لقد كان أبي كافراً بالدين... وعنه ورثت ذلك. شككت في الدين ورفضت الإيمان والوحي... واعتقدت ببطلان كل ما يتعلق بالسماء باعتباره لا يتفق والعقل السليم... ولكن هذه الأفكار تؤرقني وتزعجني وتقض مضجعي ليل نهار. ولقد باءت كل محاولاتي بالفشل في طرد هذه الهواجس والأفكار... واسقط في يدي وعُيل صبري».

فقال الطبيب: «هل لك أن توضح لي الأمر... أقصد أين المشكلة؟».

فأجاب: «منذ سنين وكلمة الأبدية ترن في سمعي وكأنها أجراس «نوتردام» الضخمة أينما سرت ومنظر غشب الديان وقت الدينونة يؤرقني جداً، عبثاً حاولت الاختفاء أن إسكات الصوت أو طمس معالم المنظر ومما يزيد في تعذيبي أنني أسمع صوتاً كهدير الموج وقصف الرعود وهو يردد في سمعي: «...لم أ عرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم هناك يوم البكاء وصرير الأسنان».

فسأله الطبيب: «ولكن ما الذي جعلك ترتعب من منظر كهذا؟».

قال: «... لأني حيث كنت بلا لوم أمام الناس، رأيت أعظم أعمالي وأنقاها تظهر سوداء قبيحة أمام قداسة الله... وقد تمثلت استحقاقي في الدينونة، فأحاول الهرب إلى أي مكان لا يراني الله فيه».

هنا وقف الطبيب ثم اتجه إلى الأمير ووضع يديه على كتفيه وقال في تأني والتأثر باد عليه: «أخشى يا عزيزي أنك قد أخطأت في اختيار طبيبك المنقذ».

فقال الشاب وهو في حالة يئس وإعياء: «إذاً لا رجاء لي. سأعيش ما بقي لي من العمر في قهر من أفكاري ورؤاي. ولمن ألتجىء... أرشدني أرجوك؟؟؟».

قال له الطبيب: «سأرشدك غلى من تجد فيه ضالتك...».

«اسمع أيها الأمير منذ سنين قليلة، كنت في مثل سنك وحالتك، ولكني أملك كتاباً قديماً.. أعتقد أنه يحوي العلاج لكل أسقامك». ثم مضى إلى درج مكتبه وعاد يحمل الكتاب، ولما فتحه أذ يقرأ: «مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلِمَنِ ٱسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ ٱلرَّبِّ؟ نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ، لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ» (إشعياء 53: 1 و2).

فقال الأمير للطبيب: «عمن تحدثنا هذه الأعداد الجميلة الرقيقة؟».

فأجابه الطبيب: «عن الطبيب الأوحد الذي يملك العلاج... وليس بأحد غيره الخلاص. وأعتقد أنه قادر أن يفعل أثر جداً مما تظن أو تفتكر. ثم واصل الطبيب القراءة: مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ ٱلنَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحُزْنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ». فصاح الشاب منفعلاً متأثراً: «يا للتضحية يا للعظمة». واستمر الطبيب في قراءته: «لٰكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ ٱللّٰهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا... وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا... وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا» (إشعياء 53: 3-7)

فقال الشاب: «سيدي لم أعد أفهم هذا الكلام ا لغريب العجيب المثير».

فأجابه الطبيب «صدقت يا بني إنه كلام غريب عن حدث مثير عجيب... ومع ذلك فهو صادق وواقعي وحقيقي... فقد أخذ الرب يسوع المسيح مكان الخائ الأثيم، واحتمل راضياً قضاء عدل الله المحتوم على كل الخطاة لأنه كما يقول الكتاب: «لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ. وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!» (رومية 6: 23 عبرانيين 9: 22لذا قدم نفسه بالنيابة عنا. بسبب عجزنا عن إرضاء الله كما فعل السيد المسيح. فكان بعد هذا العمل العظيم لسان حال الله يقول: ) «فَأَرَى الدَّمَ وَأَعْبُرُ عَنْكُمْ» (خروج 12: 13)

فقال الشاب: «يا للجمال يا للروعة... البار يموت من أجل الخطاة الفجار؟ إنني لا أستطيع تصديق هذا الكلام يا سيدي الطبيب. كيف ترك مجده ونزل إلى أرضنا ليتألم ويموت بالنيابة عنا حتى يخلصنا».

فأجابه: «نعم يا بني إنني اليوم أؤمن بهذا الكلام وأصدقه، وإيماني به أعتقني وحلني من قيود الإلحاد والظلام الفكري والروح الذي كنت أعيشه... وأنا الآن أحيا في نور اليقين، وحق الله المعلن في كتابه المقدس».

وابتدأ يوضح للأمير الخلاص الإلهي الذي تمّ في المسيح لكل الذين يقبلوه ويُقبلون إليه، حتى آمن الشاب وقبل الخلاص وتهلل وجهه بالفرح وزالت همومه وعذاباته وترنم يقول: «مجروح لأجل معاصيّ، مسحوق لأجل آثامي، تأديب سلامي عليه... وبدمه شفيت».

بعد عودته إلى بلده كتب لطبيبه هذه الكلمات: لم تعد - الأبدية - مشكلة لي فقد وجدتها... ومكاني فيها واضح نيّر. لأن الرب يقول: «لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَب... آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يوحنا 14: 27 و3).