العودة الى الصفحة السابقة
مجلة لقاء الشبيبة

مجلة لقاء الشبيبة

المسيحية إيمان فاعل


اجترح المسيح، في سنوات حياته العملية جلائل الأعمال، وما كان في غمرة الأحداث العظمى، يتوقف لحظة عن فعل المحبة في حنان هو تجسيد حي لرسالته العملية في تحرير الجنس البشري من آلام الجسد البراح و من عبودية الخطية المهلكة. والإنجيل سجل حافل دقيق، لسيرة المسيح، في بهائها الأسنى، وفي عطائها الأمثل، وتحدثنا عن حب كبير يعانق كلية الحياة، فتفجرت لهفة الإنسان، لتنشر أشرعة الشوق فتبحر نحو من صرخ مع الأرياح: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متى 11: 28).

وما لبث المسيح أن تألق في ذروة العطاء، حين تعلق على خشبة الصليب، فتسمرت به الأبصار، من كل رجء تستصرخه كي ينقذها من هول فاجعة الأبدية.. وإذ لفظ لهاث حياته أشرعت الحياة في وجه الإنسان وانفتحت منطقة الرصد الإلهي التي كانت محظورة على الخاطئ، لأن الإنسان إذ يتطهر بدم المسيح، يصبح ابناً لله. ومن حقه بفضل النعمة المثول أمام الحضرة الإلهية.

كانت هذه هي رسالة المسيح... رسالة عملية.

وكان فيها القدوة، فطالب بالاقتداء.

وكان فيها المحبة، فنادى بالمحبة.

وكان فيها عملاً نباضاً بالخير، فناشد الناس أن يصنعوا خيراً.

فالمسيحية حياة فاعلة في الوجود.

والموجود هو المحسوس هو ما يراه الناس بعيون تعجز عن النفاذ إلى ما وراء الواقع... العالم الغيبي حكاية في سر الأبد. والعقل في ألق حدته مقصور على حدود الواقع المتأطر بالحواس الخمس، أما القوة المتحدية، المخترقة، المتخطية حاجز القصور البشري فهي ثورة الإيمان.

لكن الإيمان فعل حيوي في قلب المؤمن يصدى إليه، ويتوق أن يعرفه ابن المادة ولا يستطيع، ذلك أن النفس المتصفدة بالمادة هي ابنه الموت. ووليد الموت تلفظه الحياة. الموت لا يلد سوى موت. ولو لم تمتد دفقة الحياة، في ظفرها الأغلب لتسري في شريان الموت، وتحيي في الإنسان فعل حياة، في قيامة المسيح لظل وليد الموت أبدي الموت.

من هنا كانت المسيحية في مسيل حيوي.

والمؤمن المتفاعل، بعمق مع تيار الحيوية شهادة ناطقة على فعل يعرب عن إيمان: هو الثورة التي اقتلعت كل الحواجز المصطنعة فأصبحت الصلة حميمة ما بين الخالق والمخلوق... والصلة هي المسيح والمسيح كان عملاً متواصلاً.

وهكذا يجب أن يكون المؤمن.

ففي الصرخة التي انطلقت من صدر نبي يلتهب شوقاً إلى إحساس بالوحدة الذاتية: «لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ، صَخْرَتِي وَوَلِيِّي» (مزمور 19: 14).

يكمن السر في التناغم:

ما بين القول والفعل

ما بين النظري والعملي

ما بين الإيمان والواقع

وأي إيمان لا يثمر هو إيمان مشبوه. ولعل في مثل التينة المعنى الأشمل للإيمان المثمر.

والإثمار بحد ذاته، فعل حياة كالحركة في الإنسان.

لأن الحياة ثمر.

والحياة النقية هي نتاج الإيمان النقي.

والحياة النقية تثمر العمل المكتمل.

والعمل المكتمل مفعم بأشواق مقدسة، في ديمومة ترفض النضوب.

لأن العمل عطاء في شرايين الحياة، في تراكم تاريخي متصاعد، ويتأصل في عمق العصور، جذوراً تتصلب في عنفوان قاهر للزمان.

فالشهداء أعطوا من حياتهم ثمرات الفداء.

والمبشرون سلخوا وجودهم من أرضهم في هجرة اغتراب مستمرة. والمرسلون تغلغلوا في أدغال المجهول حيث الرجوع ولادة.

والمعذبون غدوا حكاية اقتداء.

فتواصلت جسور الماضي بالحاضر لتظل مسيرة تاريخ الإيمان تواكب الحياة، في تطور حتمي محمل بأشواق المؤمنين المتطلعة أبداً نحو تحقيق «حياة المسيح» في حياة الأفراد، في حركة عمل دائبة، ونتاج يومي هو أعظم شاهد على فعل «الخلق» الجديد، والانتقال الفعلي المتفاعل من قفر الموت المترامي إلى جلجثة صليب استحالت حياة في فيض جامح أقوى من الموت.