العودة الى الصفحة السابقة
مجلة لقاء الشبيبة

مجلة لقاء الشبيبة

المسيح راحة وسكينة


سُئل أحد العلماء عن الدليل على وجود الله، فقال: إنّ رائحة ورقة التوت وطعمها ولونها شيء واحد. تأكلها دودة القز فيخرج منها الحرير، ويأكلها النحل فيخرج منها العسل، وتأكلها الظباء فينعقد في نوافحها المسك. فالوسائل مختلفة والغاية واحدة، فغاية الغايات هو الله مصدر كل خير وبركة. لذلك كتب النبي داود وهو يرفع هامته وقلبه إلى الله: «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (مزمور 19: 1).

فالإنسان لم يخلق عبثاً لمجرد أن يأكل ويشرب ويلهو ويلعب ثم يموت بعد ذلك موتاً وإنما خلق لغاية أسمى ولهدف عظيم. خلق ليحقق إرادة الله في الأرض، وليعطي لحياته ما هي أهل له من الجانب الروحي الذي يملأها شفافية وصفاء. قال أحد الفلاسفة «قلب بلا إيمان كمحكمة بدون قاض». ويقول يسوع المسيح له المجد: « لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ ٱلْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ ٱلطَّعَامِ، وَٱلْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ ٱللِّبَاسِ؟ اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ ٱلسَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ ٱلسَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِٱلْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟» (متى 6: 25 و26).

إنّ الإيمان بالله وتفويض الأمر إليه حقيقة واضحة جلية لا يشك فيها عاقل، ولا يرتاب في شأنها لبيب بدليل الفطرة والعقل والعلم وواقع الحياة.

فأما الدليل الفرطي الوجداني، فإن النفس الإنسانية مطبوعة على معرفة خالقها، مفطورة على إدراك موجدها. ولذلك كان التدين نزعة دائمة وصفة لازمة لجميع البشر لم تخل منها أمة من الأمم ولا شعب من الشعوب، بل أنّ الوحي المقدس رمى بالغباء كل من أنكر الله ووسمه بالجهل لأن الجهل ظلمات تطمس معالم الحق، وتخفي أكبر النعم وهي الإيمان جاء في المزمور 14: 1 : «قَالَ ٱلْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: «لَيْسَ إِلٰهٌ».

والجملة هنا نافية والنفي في هذه الحالة دال على انغلاق القلب وانسداده فلا يسمع ولا يعي ما يريده الله من بني البشر.

وأما الدليل العقلي فهناك أمور كثيرة مجاورة للإنسان لم يستطع العقل سبر غورها كالروح وسر الحياة والكهرباء. مما يدل على أن وراء الكون والطبيعة وكل غوامض الحياة قوة مهيمنة كبرى خالقة عاملة بكل صغيرة وكبيرة. ولذلك ينبغي أن يعمل المؤمن ما يرضي الله ولا يتحرك إلا بما ترشده الكلمة الإلهية التي لا تريد للإنسان إلا الخير والعافية في جميع أحواله وفي جميع تصرفاته. يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية 14: 6-9: «ٱلَّذِي يَأْكُلُ فَلِلرَّبِّ يَأْكُلُ لأَنَّهُ يَشْكُرُ ٱللّٰهَ، وَٱلَّذِي لاَ يَأْكُلُ فَلِلرَّبِّ لاَ يَأْكُلُ وَيَشْكُرُ ٱللّٰهَ. لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ وَلاَ أَحَدٌ يَمُوتُ لِذَاتِهِ. لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ. لأَنَّهُ لِهٰذَا مَاتَ ٱلْمَسِيحُ وَقَامَ وَعَاشَ، لِكَيْ يَسُودَ عَلَى ٱلأَحْيَاءِ وَٱلأَمْوَاتِ»

وهكذا فإن في موت المسيح نوراً نهتدي به في سلوكنا مع أنفسنا ومع الله لأنّ المسيح هو المثال الحي الذي لا يتغير ولا يتبدّل. فموته على الصليب شفاء للقلوب ورحمة للمؤمنين لأنه هو الوسيط الوحيد بين الله والناس مصداقاً لقوله: «أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاَّ بِي».

وأما الدليل العلمي فإن العلم يؤيد الإيمان ويثبته في القلوب بملاحظة ما في هذا الكون من توازن واتقان وانسجام ودقة ونظام وقوى مبدعة في الأرض كما في السماء. غير أن العلم لا ينبغي أن يقف عند حدود الماديات المحضة ولو فعل لكان طريقاً عمياء يظهر بريقها ليبهر العيون ويصرفها عن سبيل الحق وطريق الهداية ذلك أن الإيمان هو الثقة بما يرجى والاعتقاد في كثير من الأشياء غير المنظورة. وأصدق مثال على ذلك في تاريخ البشرية ما جاء من نبوءات عديدة عن المسيح سبقته بمئات السنين وعرضت كثيراً من المعارف والمعلومات حول شخصه وطبيعته وما سوف يحدث له أو يقوم به وكلها من القضايا التي عجزت العلوم البشرية عن تفسيرها لسبب بسيط هو أن العلم الذي لا يجعل الله في المقام الأول هو علم ناقص مبتور. وقد أيدت الأيام وأثبت التاريخ صدق هذه النبوات جميعاً فقامت بذلك دليلاً على عظمة رسالته وخلودها واستمرارها مدى الأجيال والأحقاب. فالخلاص الذي يأتي منه ليس مرتبطاً بزمن معيّن ولا خاضعاً لنواميس طبيعية خاصة، وإنما يكفي الإيمان به وقبوله كهبة إلهية للبشر ترفع الخطايا وترحض الذنوب.

وأما الدليل الواقعي من الحياة، فإن في الحياة أصنافاً كثيرة من الناس وفئات مختلفة من البشر متفاوتة الطبائع، مشتتة الأهواء متعددة السلوك والتصرفات. وهذا كله ينجم عنه صلاح وفساد، خير وشر، بخل وعطاء، عدل وظلم، إحسان وإساءة، تقوى وفجور وغير ذلك ما لا يستطيع قانون أرضي مهما أوتي من قوة ومرونة أن يضبط علاقات البشر، ويقوّم سلوك الطبقات المختلفة لأن كل ما سطره الإنسان ناقص وقتي، إن صلح في زمان فإنه لا يصلح في زمن آخر، وإن تقبله قوم فإنه يرفضه قوم آخرون بسبب عوامل البيئة والمجتمع وغيرهما من المؤثرات التي تسيّر تصرف الإنسان. فلا استقرار ولا استمرار إلا لكلمة الله ومسيحه الذي قال: «اَلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلٰكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ» (إنجيل متى 24: 35).

وكل من ذاق حلاوة الإيمان بالمسيح واختبر قوة دمه الطاهر حلت في نفسه الطمأنينة ونزلت على قلبه السكينة، فهانت في عينيه أعباء الدنيا، وضؤلت أمامه همومها ووجد الراحة كل الراحة ولو عاش وسط الزوابع أو تقاذفته الأعاصير. فالمسيح يمنح سكينة وهدوء النفس مصداقاً لقوله له المجد: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ ٱلْقَلْبِ» (إنجيل متى 11: 28 و29).