العودة الى الصفحة السابقة
مجلة لقاء الشبيبة

مجلة لقاء الشبيبة

محاربات تأتيك من الخارج


بقلم البابا شنودة الثالث

نشرته جريدة «وطني» بتاريخ 31-3-1985

حروب من الشيطان

هذه الحروب إما أن تكون من الشيطان مباشرة هو وجنوده الملائكية، وإما أن تكون بواسطة أعوانه من البشر. وحروب الشيطان إما أن تكون بطيئة طويلة المدى، وإما تكون فجائية وعنيفة.

الحروب البطيئة قد لا تشعر بما يجذب بها الشيطان ضحاياه بتدريج طويل، لا يكادون يشعرون فيه بما يحدث لهم.

يخدرهم قليلاً قليلاً، وينقص من حرارتهم شيئاً فشيئاً على مدى واسع حتى تتغيّر حياتهم وهم لا يدركون ذلك إلا بعد فوات الفرصة، حين يضربهم بعد ذلك ضربته الشديدة وهم غير مستعدين لها.

ولعله بهذه الطريقة حارب سليمان الحكيم، بالترف والمتعة وكثرة النساء ومجاملتهن إلى أن سقط ﴿أمثال 11: 1-8﴾. وكان سقوطه في زمان شيخوخته.

أما الحروب العنيفة الفجائية، فقد تشبه الظهورات المفزعة، أو الرؤى الكاذبة وأمثال هذه من الضلالات الشيطانية.

ولعل من أمثلة الحروب العنيفة الشيطانية التي حدثت فجأة، التجربة التي أصابت أيوب الصديق ﴿أيوب 1، 2﴾. ونلاحظ أنها كانت بسماح من الله، في حدود معينة، وفي طاقة احتمال أيوب، وانتهت بخير وبركة ﴿أيوب 42﴾. على أن حروب الشيطان ليست كلها فزعاً ومناظر وليست كلها أمراضاً وخراباً. فهناك حروب أخرى من الشيطان بأفكار يلقيها في الذهن، أو شهوات يلقيها في القلب.

وهذه الحروب تكون ضعيفة في أولها، لأنها ليست نابعة من داخل الإنسان، بل هي غريبة عليه وتظل هكذا ضعيفة إلى أن يفتح لها الإنسان باباً لتدخل منه إلى قلبه وإلى مشاعره وهنا يكون قد أخطأ.

وتعتبر خيانة روحية أن تفتح أبوابك لعدو الخير الذي يريد تحطيم ملكوت الله داخلك.

إنها خيانة للرب الذي رضي أن يدخل بيتك ويبيت فيه، وأنت بإرادتك تدخل عدوه إليه في داخل قلبك، ليحل فيه بدلاً من الله.

إنها خيانة للرب الذي اشتراك لنفسه وأحبك حتى المنتهى، وأستأمنك على عمله، وجعل قلبك هيكلاً لروحه القدوس: «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلَّذِي فِيكُمُ، ٱلَّذِي لَكُمْ مِنَ ٱللّٰهِ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟ لأَنَّكُمْ قَدِ ٱشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا ٱللّٰهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ ٱلَّتِي هِيَ لِلّٰهِ» ﴿1 كورنثوس 6: 19 و20﴾. وهوذا أنت تستجيب للشيطان وتفتح له قلبك وتقبل أفكاره المضادة. وفي خيانتك، إذ ترفض عمل النعمة فيك، يقوي عليك الشيطان.

لا تحتج بأن الحروب الخارجية قوية. إنك تجعلها قوية حينما تستسلم. أما إذا قاومت فسيضعف الشيطان أمامك كقول الرسول: «قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ» ﴿يعقوب 4: 7﴾.

أن القلب القوي الثابت في الله، الأمين في محبته، يستطيع أن يطفئ جميع سهام الشرير الملتهبة ﴿أفسس 7: 16﴾. عندما تقوّى قلب داود بالإيمان، تضاءلت أمامه كل قوة جليات الجبار ﴿1 صموئيل 17: 26﴾. وعندما قوى قلب موسى النبي، تضاءلت أمامه كل قوى فرعون ولم تخفه أمواج البحر الأحمر. وأنت كلما كان قلبك من الداخل قوياً، لا تضعف مطلقاً أمام حروب الشيطان بل تعزيك كلمة الروح القدس الناطق في الأنبياء: «مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلْجَبَلُ ٱلْعَظِيمُ؟ أَمَامَ زَرُبَّابِلَ تَصِيرُ سَهْلاً» ﴿زكريا 4: 7﴾.

إننا إن ضعفنا نحن، نجعل للشيطان كرامة ليست له، ونجعله يتجرأ علينا بينما يكون هو خائفاً منا في بادئ الأمر! يخيّل إليّ أن رئيس الشياطين، حينما يرسل شيطاناً من أعوانه لمحاربة أحد المؤمنين، يرتعب هذا الشيطان فيقول: كيف أحارب هذا الإنسان الذي هو صورة الله وهيكل لروحه القدوس؟ كيف أحارب هذا الجبار الذي تحيط به ملائكة الله لتنجّيه! كيف أتقرب من ابن للّه يحمل ترس الإيمان وخوذة الخلاص ﴿أفسس 6: 16، 17﴾. إين أهرب إن رفع يديه يصلي؟ وكيف أخزى إن طردني قائلاً: اذهب يا شيطان؟

ولعجب هذا الشيطان الضعيف، يرى الإنسان خائفاً منه هارباً أمامه، فيتجرأ عليه ويحتقره...!

فيقص له شعره، كما صنع بشمشون، ويفقأ عينيه، ويجعله يجرّ الطاحون، وهو هزأة للأطفال ﴿قضاة 16: 19-20﴾.

لذلك لا تخافوا من الشياطين، لئلا تقوى عليكم. وأنت أيها الإنسان، يا صورة الله، احترم نفسك... مع الشياطين. من أمثلة حروب الشياطين المعروفة حروب الشك في الله، تتبعها حرب أخرى هي اليأس. فلا تخف، هذه الأفكار ليست منك، إنها حرب خارجية لا دخل لك فيها.

الشيطان يلقي إلى ذهنك أفكاراً تشك في وجود الله، وفي محبته وعنايته، وأفكاراً ضد فاعلية الصلاة. ثم بعد ذلك يقول لك: كيف تخلص وفي داخلك هذه الأفكار؟ بينما تكون أنت رافضاً أفكار الشك مقاوماً لها، غير راض عنها، بل تصلي أن يرفعها الرب عنك. كل هذا يدل على أن هذه الأفكار ليست منك.

إنها حرب بالفكر، وليست سقوطاً بالفكر. حتى إن سقطت إلى لحظات يكون ذلك عن ضعف وليس خيانة للرب والرب يغفر لك.

ونصيحتي لك: امتنع عن القراءات التي تجلب لك الأفكار، وكذلك المعاشرات الرديئة التي توصل إليك هذه الأفكار وأمثالها، فغالباً ما تكون هذه الأفكار وهذه السماعات، هي أسلحة من الشيطان استخدمها لمقاتلتك كن حكيماً إذن.

وهذا الأمر يقودنا إلى النقطة التالية:

الصداقات الضارة

هذه الصداقات التي تضرك في روحياتك، أو في عقيدتك، أو في فكرك، والتي تتلف قلبك ومشاعرك.. أول سقطة لأمنا حواء، كانت من معاشرة رديئة بجلوسها مع الحية.

وسقطة أخآب الملك كانت بسبب زوجته إيزابل الشريرة. وكذك كانت سقطة سليمان الحكيم بسبب زوجاته الأجنبيات.

لذلك أنصحكم باختيار أصدقائكم الذين ما أسهل أن يؤثروا عليكم بأفكارهم.

وأنصحكم بحسن اختيار شركائكم في الحياة الزوجية لأن لهم تأثيراً بلا شك على حياتكم الروحية بالعلو أو الهبوط والأزواج في تأثيرهم أكثر خطراً وعمقاً من الأصدقاء أو المعارف والزملاء.

فالصديق قد يلتقي بك في أوقات محددة. أما الزوج فهو شريك الحياة باستمرار. فيجب انتقاؤه صالحاً من كل جهة، ليس من الناحية الاجتماعية فحسب، بل أيضاً من النواحي الروحية والعقائدية، وبعمق. ولا يصح الاكتفاء بالشكليات.

ولنتذكر في كل ذلك قول الكتاب: «ٱلْمُعَاشَرَاتِ ٱلرَّدِيَّةَ تُفْسِدُ ٱلآخْلاقَ ٱلْجَيِّدَةَ» ﴿1 كورنثوس 15: 33﴾. وقوله أيضاً: «وَأَعْدَاءُ ٱلآنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ» ﴿متى 10: 36﴾.

مثال ذلك الآباء والأمهات، حينما يمنعون أولادهم عن الكنيسة والاجتماعات. بل يدعونهم إلى الزينة وإلى الترفيهات المتنوعة. ولا يقدمون لهم قدوة صالحة ببيت متديّن.

ومثال ذلك الزوج غير المتديّن الذي يجر زوجته معه إلى نفس الضياع الذي هو فيه، ويسخر من تدينها. لذلك قال الرب في الإنجيل: «مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلا يَسْتَحِقُّنِي» ﴿متى 10: 37﴾.

والإنسان ربما لا يستطيع أن ينفصل عن أقاربه وأهل بيته. ولكن ينبغي أن يحب الله أكثر منهم، ويطيع الله أكثر منهم، ولا يضحي بروحياته أو بدينه من أجل أقربائه.

وليذكر باستمرار قول الرسول: «يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ ٱللّٰهُ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنَّاسِ» ﴿أعمال 5: 29﴾.

لا يوجد أعز من الله، ولا أحب من الله. ولا يوجد أهم من مصيرك الأبدي.

ومع ذلك فهناك أشخاص يجب الابتعاد عنهم من الأقارب إن لم يكن ابتعاداً بالجسد، فعلى الأقل يكون الابتعاد عن طريق عدم الاشتراك معهم لا في التصرف، ولا في الحديث، ولا في أي شيء خاطئ.

على أن البعض قد يمنعهم الخجل من البعد عن الخاطئين أقارباً كانوا أم أصدقاء. وبهذا يشتركون في الخطأ بسب الخجل.

فينبغي للإنسان الروحي أن يعرف أن هناك حدوداً للخجل وأن هناك مواقف تحتاج إلى حزم وإلى قوة شخصية، وإلى تصرف جاد يبعد به عن العثرة ومسبباتها.

لقد صدق المثل القائل: «اسأل عن الرفيق قبل الطريق». فربما يؤثر عليك أحد أقربائك تأثيراً يتلف نفسك أو يدخل إلى قلبك وإلى ذهنك مبادئ وأفكاراً تقود حياتك في اتجاه خاطئ.

اعلم أن قريبك الحقيقي هو الذي يقربك إلى الله، وصديقك الحقيقي هو الذي يكون صديقاً في روحياته وصادقاً في حفظه لسمعتك وفي اهتمامه بخلاص نفسك.

ننتقل إلى حرب خارجية أخرى هي:

العثرات

العثرة هي كل ما يسقطك من الخارج أو كل ما يجلب لك فكراً خاطئاً، أو شعوراً خاطئاً، أو شهوة خاطئة. وقد تأتي العثرات من السمع او النظر أو القراءة أو من باقي الحواس.

فعليك أن تبتعد بقدر إمكانك عن العثرات، كما يجب أنك أنت لا تكون عثرة لغيرك.

والعثرات ربما تفرض نفسها علينا وربما نسعى نحن برغبتنا إليها.

التي تفرض نفسها تكون حرباً خارجية، والتي نسعى إليها تكون حرباً داخلية تطلب إشباعاً لها من الخارج. وفيها تجتمع الحربان الداخلية والخارجية. وهذه دينونتها أشد، والنجاة منها أصعب.

والسيد الرب كان حازماً جداً في أمره الإلهي بالبعد عن العثرات، وذلك بقوله: «فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ... وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ» ﴿متى 5: 29 و30﴾.

والكثير من الآباء الروحيين يفسرون عثرة العين اليمنى، بالعثرة التي تأتيك من أعز إنسان إليك. أما اليد اليمنى فتشير إلى أكثر الناس مساعدة لك.

وبهذا على الإنسان أن يقطع نفسه عن هؤلاء الأحباء والأعزاء، إن كانت صلته بهم ستفقده أبديته وتجلب له حروباً خارجية لا يضمن هل يصمد أمامها أم لا.

المهم أن تبتعد عن الحرب الخارجية مهما كان الثمن، ولا نفع فيها بإرادتك لأنك تصلي كل يوم قائلاً: «وَلا تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ» ﴿متى 6: 13﴾.

إن هناك عثرات تستهوي الإنسان فيحوم حولها مثلما تحوم الفراشة حول النار، وتظل تحوم حولها حتى تحترق. ومع أنها ترى فراشات كثيرات قبلها قد احترقت بالنار، إلا أنها لا تهدأ حتى تحترق مثلها...

وقد يوجد من يعثرك ويسقطك. ثم يفلت هو، وتضيع أنت. وقد يمكنه هو أن يتوب، وتجد أنت صعوبة في التوبة. لذلك أحرص بكل قوتك وبكل عمل النعمة فيك، أن تبعد عن العثرة، وتهرب بذلك من كل حرب خارجية على قدر طاقتك.

ومن مصارد العثرة والحروب الخارجية، أولاً ألوان معيّنة من القراءات.

القراءات تؤثر في أفكار الإنسان، وتؤثر في مشاعره. وربما تشكل مبادئه، وتقود مساره في الحياة.

وهناك قراءات لا يصح للإنسان ان يقرأها إلا بالاستشارة. وقراءات أخرى واضحة الخطأ يجب عليه الابتعاد عنها تماماً، ولا تحتاج هذه إلى مشورة أو سؤال. وهناك قراءات تجلب شكوكاً أو بلبلة، وأخرى تثير مشاعر وشهوات.

ولا يكفي للإنسان الروحي أن يبتعد عن القراءات الضارة، إنما ينبغي من الناحية الإيجابية أن يقرأ ما يعمّق محبته لله، وهذا يكون كعلاج وقائي له في الحروب الخارجية.

وإذا كان الإنسان محارباً بحسب المعرفة، وهو يعلم تماماً أن ليس كل معرفة نافعة، بل قد توجد معارف تفقده بساطته، أو تفقده نقاوته، وتجعل نظرته إلى الأمور تتغير إلى أسوأ. لذلك يجب على كل شخص روحي أن يدقق كثيراً في نوعية قراءاته، حتى لا يجلب على نفسه حروباً.

لأنه من مشاكل القراءة أيضاً أنها تلصق بالعقل أفكاراً ليس من السهل عليه أن يمحوها وينساها. وقد تحتاج إلى وقت طويل جداً حتى تفارق ذاكرته.

من أسباب الحروب الخارجية أيضاً:

البيئة

ونعني بها الجو العام المحيط به: أفكار البيئة التي يعيش فيها، واتجاهاتها، ونوعية الحياة، والمبادئ السائدة في المجتمع، وأسلوب التعامل، والمفاهيم التي يعتنقها الكل أو الغالبية.

وبالأكثر صعوبة أن يحيا شاذاً عن هذه البيئة بمبادئ روحية لا يفهمونها.

وهكذا يجد البار أنه يعذب نفسه يوماً بعد يوم ﴿2 بطرس 2: 8﴾، أو على الأقل يبذل جهداً ضخماً ليحتفظ بأسلوبه الروحي في الحياة أو يجد أنّ منهجه الروحي يعرضه لعديد من الحروب. فماذا يفعل؟

إن كان بإمكانه أن يغيّر البيئة، فهذا أفضل جداً. وإن لم يستطيع فليصمد.. وليجاهد ويغلب والله لن ينسى تعب محبته.

حياتنا هي أن نشهد للحق، إن لم يكن بلساننا، فعلى الأقل بأسلوبنا العملي في الحياة. وقد نصحنا الرسول بولس قائلاً: «وَلا تُشَاكِلُوا هٰذَا ٱلدَّهْرَ» ﴿رومية 12: 2﴾.

والحياة الروحية يلزمها الجهاد والصبر والثبات.

وليثق هذا الإنسان أنه في كل جهاده لا يحارب وحده، بل نعمة الرب تعمل معه. «ٱلَّذِي يَصْبِرُ إِلَى ٱلْمُنْتَهَى فَهٰذَا يَخْلُصُ» ﴿متى 10: 22﴾.

إن المحاربات الروحية كثيرة وعلينا نحن أن نجاهد ونغلب، وما أكثر النعم التي وهبها الرب للغالبين ﴿رؤيا 2 و3﴾.

فجاهد أن تكون من الغالبين، حتى لا تفقد «إِكْلِيلُ ٱلْبِرِّ، ٱلَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱلرَّبُّ ٱلدَّيَّانُ ٱلْعَادِلُ» ﴿2 تيموثاوس 4: 8﴾. الذي «كُلَّ وَاحِدٍ سَيَأْخُذُ أُجْرَتَهُ بِحَسَبِ تَعَبِهِ» ﴿1 كورنثوس 3: 8﴾.