العودة الى الصفحة السابقة
راعوث الموأبية

راعوث الموأبية

جون نور


راعوث فتاة موآبية يظهر أنها كانت على حظ وفير من الجمال الذي يتيح لها فرصاً متعددة للزواج، وهي فتاة على حظ وافر من الأخلاق، شهد أهل بيت لحم جميعاً لحلاوة سيرتها ونقاوتها، كما أنها شجاعة نادرة المثال في شجاعتها، ألم تترك وطنها لتسير إلى أرض غريبة!؟ وهناك تخلع عنها ثوب الراحة، فتناضل وتكافح لتجد لقمتها ولقمة حماتها، وهي أيضاً وديعة تنحني بكل تواضع أمام رقة بوعز وحنانه، كما ينبغي ألا ننسى أنها فتاة مخلصة ودودة ومحبة، سنذكرها أبداً بتلك الصورة الخالدة.

إنه فصل رائع من فصول الإيمان، فصل مجيد ذلك الذي كافح الظلام واليأس والفقر والتعاسة وانتصر.. لو كان طريق راعوث مفروشاً بالورود لما دون الكتاب شيئاً عن إيمانها.

هي فتاة وثنية أخذ الله زوجها، وأخذه في ميعة الصبا وريعان الشباب، وتركها أرملة لم تهنأ بالحياة، فهل يستطيع الإيمان الصحيح أن يثبت!؟

إنها تترك أباها وأمها ووطنها، وتترك الصحاب الذين ألفتهم، تترك أرض موآب الغنية. وهل تظنون هذا سهلاً ميسوراً!؟ إن ترك الوطن من أدق ما تضطرب له النفوس، وهل تنسون ذلك المرض الذي يدعى مرض الحنين إلى الوطن والذي يصاب به من يتركون بلادهم.

ماذا ستلاقي راعوث في الأرض الجديدة، وهل ستجد لقمتها ميسورة!؟ قد يهون علينا أن نترك الوطن والأهل والأصحاب، متى أمكننا الاعتقاد أن نجد في أرض الغربة العيش الهنيء والسعة المريحة.. لكن راعوث تعلم أنها ستواجه هناك الفقر والمغبة والجوع، فحماتها لا تملك من حطام الدنيا شيئاً مذكوراً، وعليها هي أن تناضل من أجل الحياة نضالاً يشق على الرجل ويصعب.. في الواقع ليس هناك ما يزعزع الإيمان ويبعث الاضطراب في النفس ويعثر الشركة مع الله كما يفعل الجوع، وما أصدق أجور بن متقية وأعظمه دراية بالنفس البشرية حين صاح: «لاَ تُعْطِنِي فَقْرًا وَلاَ غِنًى. أَطْعِمْنِي خُبْزَ فَرِيضَتِي، ئَلاَّ أَشْبَعَ وَأَكْفُرَ وَأَقُولَ: «مَنْ هُوَ الرَّبُّ؟» أَوْ لِئَلاَّ أَفْتَقِرَ وَأَسْرِقَ وَأَتَّخِذَ اسْمَ إِلهِي بَاطِلاً» (أمثال 30: 8 و9).. إن قصة البؤساء لفيكتور هوجو تدور حول أثر الفقر في إذلال النفس وإسقاطها والجنوح بها تجاه الفساد والجريمة والشر.. لكن راعوث رغم شبح الجوع المخيف خطت بشجاعة إلى أرض إسرائيل.

أظن أن هذه الفتاة وهي تسير في أرض الظلال والألم والظلام تكافح ما لا يستطيعه إلا العتاة والجبابرة والأبطال صاحت من أعماق قلبها: أيها الإله الذي جئت أحتمي تحت جناحيه: إن المستقبل مظلم قاس حالك أشد قتاماً من فحمة الليل، لا نجمة فيه أو نور أو رجاء.. وأنت ملكي وإلهي وسيدي فلا تتركني!! أحفظني فأنا خائفة تعسة مشردة.. لا أعرف في الدنيا سوى امرأة محطمة.. وإله إسرائيل العظيم الممجد.

كانت الطريق في خطواتها الأولى أمام راعوث قفراً، ولكن ما أن بلغت بعضها حتى أحست كل شيء يتغير ويتبدل، وما أن انتهى بها المطاف إلى آخر الشوط حتى وقفت مشدوهة مذهولة.. إن راعوث اليوم في السماء تعرف عظم مكافأتها ومجدها..

تزوجت راعوث من بوعز، وبوعز فيما نعلم شخصية عظيمة جليلة، فهو رجل من أسياد قومه ينعته الكتاب بأجل النعوت وأبدعها.. فهو جبار بأس، ذو ثراء عريض، تقي، كريم، وديع النفس، واسع الحيلة.. هذا الرجل ارتضى أن يقترن بالموآبية ليقيم نسلاً لقريبه الميت، ولا شك أن حياتها معه كانت نعيماً مريحاً باذخاً عريضاً.. ويكفي أن زواجهما أخذ منه الوعاظ مادة خصبة لاقتران المسيح بالكنيسة.

ولدت راعوث عوبيد، وكان عوبيد جد الملك داود، ولسلسلة الملوك التي جاءت عنه، ولكن مكافأة راعوث لم تقف عند هذا الشأن فحسب بل تعدته إلى مدى سرمدي بعيد؛ إذ جاء من نسلها المسيح مخلص العالم.

هذه هي الفتاة التي أدارت ظهرها لموآب، وسارت وراء إله إسرائيل، فكتب اسمها في سجل الخالدين، وهي الأممية الوحيدة التي أخذ سفرها مكاناً بين صفحات الكتاب.. إنها تعلمنا أن أقل ما نقدم يصبح ثروة طائلة متى تسلمته يد الله، قال بطرس: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ» (متّى 19: 27 - 29).