العودة الى الصفحة السابقة
التدين الشكلي

التدين الشكلي

القس. جون نور


كلنا كبشر عرضة للاهتمام بالمظهر الخارجي في الدين والتدين. فالبعض يطلبون الصيت بأنهم أتقياء لكي يكون التدين ستاراً يغطي أغراضهم الشريرة. فهم ينسجون بعناية رداءً يضفونه على حياتهم من الصدقات والصلوات والأصوام ليخفوا وراءه حياتهم الكريهة. ومثل هؤلاء لا يطيقون بحال ما عدم إبراز أعمالهم أمام الملأ لينالوا استحسان الناس. فهم يشيدون لأنفسهم صرحاً عالياً من الشهرة لأعمال البر التي عملوها، يبلعون الجمل ويأكلون بيوت الأرامل. وهناك فريق آخر لهم نوايا خالصة في خدمة الله، لكن بمرور الزمن يكتشفون أنهم معتبرون قديسين، ونسبة للهيبة التي يضفيها عليهم الآخرون يستولى عليهم نوع من الغرور. فيتعظمون أمام الآخرين كأنهم أتقياء فعلاً كما يتعظم غيرهم في مناصبهم العالية، وعندئذ يتشبثون بهذه الشهرة مهما كلفهم الأمر. لكن الطريق السليم هو أن تكف عن التفكير في ذاتك، وتحيا للرب وحده، وتقترب إلى عرش النعمة دائماً لكي تحفظك النعمة من أي غرور أو زهو، لقد علم موسى الشعب أن يتربى الإنسان من الطفولة على أعمال الرحمة والإحسان فكان يحضهم على مساعدة الغريب واليتيم والأرملة. وكانت معاملة الفقير ومد يد المساعدة إليه تعتبر جزءاً مهماً من الواجبات الدينية نحو الله. ولم ينس الأنبياء أن يحثوا الشعب دائماً على أن يقدم الإنسان خبزه للجوعان، وأن يأتي بالمطرود إلى البيت، ويكسو العريان. لكن الناس في أيام المسيح كانوا يعطون مالهم للقيام بواجبهم نحو الله وفي الوقت نفسه لينالوا مديح الناس. فكانوا يمنحون الشحاذين عطاياهم عند مداخل الهيكل بل وفي الشوارع جهاراً نهاراً أمام المارة لكي يروا أعمالهم للناس. روت إحدى السيدات أن أول مؤمن من بورما قال لها: «كنت أقرأ العظة على الجبل منذ أيام قلائل، وقد تأثرت للغاية حتى أخذت بمجامع قلبي وجعلتني أرتعب رهبة. لأن الله يأمرنا أن يكون كل شيء من أعمالنا الحسنة في الخفاء بحيث لا يراه الناس. ولكن ما أبعد الفرق بين هذا وبين ديننا في بورما، إذ أننا عندما نقدم تبرعاتنا في معابدنا نضرب الأبواق وندق على الآلات الموسيقية لكي يرى الآخرون ما نحن نفعل. إلا أن المسيحية تجعل العقل والفكر والوجدان في هيبة لله وحده».

وقد ينطبق عمل أهل بورما واليهود علينا نحن. وربما يتغير مقدار تبرعنا إذا قُدِّم لنا الطبَقَ المكشوف أو الكيس المخفي لأننا نريد أن ترى العيون المبلغ الذي نقدمه.

هذا النوع من التدين الظاهري هو خطر داهم على حياتا جميعاً. فما هو العلاج لهذا؟

إن لعلاج للتظاهر الخارجي في الدين هو التحلي بروح المحبة. لقد عاش سيدنا يسوع حياة المحبة الكاملة وقد بيَّن لنا ماهيتها. لاحظ كيف أن تفكيره كان يتجه وجهة واحدة إلى الآب السماوي. ذلك هو أبوك – إذ أن صلته بكل منا هي صلة شخصية: «وأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية». فليس ثمة داع لتكرار الكلام باطلاً، لأنه يعلم احتياجنا. وكل صلاة ينبغي أن توَّجه إليه. وهو غافر الخطايا. وهو الذي يطعم ويكسو الغربان والزهور وأولاده.

ولم يكتف السيد برسم بركات حياة المحبة والبنوية هذه، بل جاء ليهبها لنا جميعاً. وهذه هي الدعوة إلينا لنعرف سرها وهو قادر أن يغرسها فينا: (يوحنا13:1) «أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولا الله أي المؤمنون باسمه»، «وإذ أننا أبناء الله أرسل روح ابنه إلى قلوبنا». إذاً فالأب يِجدُ الابن، والابن يجد الآب، وهذه الشركة والقرابة تجعل ابتسامة الرضا من الآب هي كل ما نبغيه في هذه الحياة. فلا نكف عن التشوق والتطلع إلى أن يكون الله الكل في الكل في حياتنا الداخلية.

يجب أن لا نفكر مطلقاً أن يكون برنا مظهراً خارجياً أمام الناس. نصنع الصلاح، لا إرضاءً لتوجيهات ضمائرنا، أو بدافع وجداني من محبة للفضيلة ، ولا حتى بدافع المنفعة التي تعود على الغير وحسب – بل لأننا نتوق، فوق كل شيء، أن يرضى عنا الآب الذي يرى في الخفاء. آنذاك يصبح الدين سراً مقدساً خفياً في سويداء القلب، فتكون لنا الجسارة أن ندخل لي قدس الأقداس بدم يسوع وهناك نسكن في ستر العلى. حتى إذا لم نجد هيكلاً أرضياً يفتح أبوابه لندخل فيه، فإننا ندخل هيكل قلوبنا حيث نجد الله في انتظارنا في تلك الأعماق الخفية التي لا تراها عين البشر، وهناك نسجد له بالروح والحق.

إن الحياة المستترة مع المسيح في الله تشع منها السعادة، لأنها تطرح كل أحمالها ومتاعبها على الآب في الخفاء وتتركها هناك ولا تضيف هماً على هموم الناس.

ما هو الجزاء في المستقبل لمثل هذه الحياة الداخلية؟ وما هو أجرها في الحاضر؟ هذا ما لا قبل لي بوصفه أو الخوض في البحث عنه. إن جزاء المرائي هو الاستغراب من كل الناظرين، بل الاستهزاء، والاحتقار. أما جزاء النفس العائشة في الخفاء مع الله، ليس عرشاً ذهبياً أو تاجاً لؤلؤياً، إنما إحساس بالاقتراب والشركة والتفاهم المتبادل، ثم التشكل على صورة الكمال ولمعان المجد حتى إن كنا لا نعلم ذلك.