العودة الى الصفحة السابقة
المسيح

المسيح

القس. جون نور


بما تقاس عظمة الإنسان؟ هل تقاس عظمته بقدر ما يملك من مال أو جاه أو قوة جسمانية؟

أم تقاس بمدى ذكاءه ودهاءه؟ أم بقدراته الفائقة عسكرياً أو علمياً؟ أم تقاس بما اكتشفه في دنيا العلوم أو بما اخترعه؟ وما هي المعايير التي يضعها العالم كشرط أمام من يريد أن يتربع على قمة العظمة؟ أهي معايير عسكرية؟ أم فنية؟ أم أدبية؟ أم علمية؟ أم فكرية؟ أم إيمانية تقوية؟ وعلى أي أساس نضع شخصيات معينة في قائمة الخالدين وعلى أي أساس يتم ترتيبهم بحسب الأفضلية أو الأولوية.

إن كان سر العظمة يكمن في الكيان العسكري فلا بد أن يوضع على قمة القائمة الإسكندر الأكبر وهرقل وهانيبال ونابليون وروميل ومونتجمرى.

أما إذا كانت العظمة تكمن في عالم الفن فسنضع مايكل انجلو ودافنش وبيكاسو على القمة كما هو معروف. ولكن إن رغبنا في قياس العظمة على أساس الحيلة والدهاء السياسي فهناك بسمارك ودالاس وهنرى كيسنجر ومعظم المتفاوضين على مائدة المفاوضات الدولية وداخل أروقة الأمم المتحدة – أما إن وضعنا العظمة على أسس فكرية بحتة فهناك الفلاسفة القدماء والمعاصرين.

أما إن كانت تكمن العظمة في من تفوق في عالم العلوم فهناك نيوتن وأديسون وكلود وباستير والكسندر فليمنج واينشتاين.

لكن إن كانت العظمة تقام على أسس إيمانية تقوية فهناك إبراهيم أب المؤمنين وبقية رجال الله في العهد القديم وكذا أبطال الإيمان في العهد الجديد وكليهما في الكتاب المقدس بعهديه.

هذه هي المقاييس الأكثر احتمالاً في هذا الوجود. والتي يقاس بها البشر.

ولكن عندما نتكلم عن عظمة شخص المسيح المبارك فنحن نتكلم عن شخص فريد من نوعه وفريد في شخصه - عظمته تكمن في انفراده بصفات يعجز عن أن يتسم بها أي إنسان حتى ولو كان قد بلغ من العظمة البشرية ذروتها.

فيسوع لم يكن عظيماً بالمعنى الذي يفهمه أهل العالم. فهذا الذي سار في ذلك السبيل المدهش لم يكن فيلسوفاً ولا بيانياً بل كان بسيطاً كل البساطة وفي الحق لو كان ممن تهذبوا بعلوم العالم لأضعف هذا من شأن عمله العظيم. لأن أعظم أهل العالم وقفوا من بعيد أمام ما كان يسوع يعلنه.

ولهذا كانت حياته كما قال بعضهم إعلاناً وليست سعياً، لان العظماء من أهل العالم إنما يصلون بعد جهاد عنيف وكثيراً ما تحبط أعمالهم. وان أحرزوا نجاحاً فيكون ذلك بعد سعي طويل. أما يسوع فليس من دليل على أنه جاهد أو سعى أو فشل أو انخذل أو أنه كان يقاوم الشر ولكنه فعل ذلك كمن هو طاهر لا يعرفه الخطأ وإنما أرسل ليجدد العالم ويباركه وكانت حياته من البدء نصراً مبيناً.

إن يسوع من مبدأ أمره ظهر كاملاً. إن كل الذين بلغوا الكمال الإنساني لم يصلوا اليه إلا رويداً وكثرة التجارب تزيدهم حكمة ودراية. أما هو فقد ظهر للعالم في سن الشباب كاملاً كل الكمال وحياته كلها كانت على نَسقٍ واحد.

وصفه أحد كتاب مجلة المختار قائلاً:

كان ميلاده مخالفاً لقوانين الحياة. كما كان موته على عكس نواميس الموت. لم تكن له حقول غلال ولا عنده صيادي أسماك ولكنه جهز مائدة لخمسة آلاف فأكلوا وفاض عنهم. لم يسر على سجاد جميل أو مفارش من القطيفة ولكنه مشى فوق مياه بحر الجليل وتجمدت تحت قدميه المياه فعبر عليها. ولما مات حزن عليه قليلون ولكن غشى الشمس ظلام كثيف. ومع أن الناس لم يرتعدوا من خطاياهم لكن الأرض الجامدة تزلزلت من أثقال معاصيهم. أطاعته الطبيعة وعارضه الخطاة. لم يتجاسر الفساد أن يتسرب إلى جسده ولا قبلت الأرض التي تخضبت بدماه القانية أن تحلله إلى تراب.

نادى برسالة الإنجيل لمدة ثلاثة سنواتٍ. لم يكتب كتاباً ولم يبنى كنيسة وكان تاريخه انقضى ولكن بعد 1900 سنة وهو يبقى ركيزة التاريخ البشري ومن حوله تدور حوادث الأجيال إذ هو مالك ومجدد للبشرية.

هل كان إذا مجرد ابن العذراء برز على سطح العالم منذ ولادته كما يقولون عنه؟ هل كان دمه المسفوك في الجلجثة دماً بشرياً ذات الذي يطهر الخطاة والأثمة؟

لقد أدخل المسيح إصلاحات وتغييرات لمعالمنا فاقت جميع الإصلاحات التي قام بها مصلحوا العالم قاطبة على مدى الأجيال. ويكفى إن كافة البشر يبدأون تاريخهم من سنة ولادته.

والواقع أن تأثيره على الأفراد والجماعات غريب عجيب إذ أننا نجد الكثيرين مستعدين لأن يموتوا من أجله وأن يستشهدوا في سبيل إنجيله. وها هو العالم المتمدين يتخذ مقاييسه من المبادئ التي وضعتها هذه الشخصية الفريدة لهم. وأينما سرنا أو توجهنا نجد علم المسيح يرتفع عالياً ويرف خافقاً.

لقد قضى المسيح حياته الأرضية يتجول في دنيانا شافياً المرضى، مطعماً الجياع، جابراً القلوب الكسيرة، عاملاً على محاربة الإثم والخطية، وباذراً بذور الصلاح والفضيلة. إنه جاء ليخدم لا ليخدم ولكي يبذل حياته من أجل كثيرين. إنه أرانا الله كآب سماوي، ووضح لنا طريق الحياة الأمثل.

ويبرز صليبه مركزاً للإعجاب، ومناراً للإجلال، إذ أنه ليس في وسع أحد أن يتغاضى عن تلك الشخصية التي علقت على خشبة الصليب من أجل خلاص البشر.

وليس في وسع أتباعه أن ينسوا قيامته من الأموات ورفقته لهم في سفر الحياة ووجوده معهم في كل آن وأوان. فالمسيح هو رجاء عالمنا وصخرة خلاصنا وشمس برنا.

وهو هو الأمس واليوم وإلى الأبد.