العودة الى الصفحة السابقة
سر المسيح والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا (يو 14:1)

سر المسيح والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا (يو 14:1)

القس. جون نور


إن يسوع لسرّ عظيم. إنه سرّ مُعلن وليس إعلاناً للسرّ. فهو أسمى من عقولنا ولكنه يحتلّ قلوبنا فلا يدعنا نشرد بعيداً.

إن حياة يسوع هي رواية العالم بأسره. إنها مُختصرة ومملوءة بالجمال ومُثقلة بالمحبة ومُرشدة بالإيمان وقد عملت في تليين قلوب البشر أكثر من أي عامل آخر في التاريخ.

فما أعظمها رواية لا يستطيع أن يرويها سوى ملاك عظيم. فلقد وُلِدَ في قرية حقيرة مجهولة وتربّى في قرية نكرة وكان أحد رعايا أمة مغلوبة على أمرها في زمن تحكمّت فيه الدكتاتورية.

حتى عندما كان طفلاً حاول الملك هيرودس أن يقتله ليتخلّص منه. ثم اشتغل في حانوت نجار حتى بلغ الثلاثين ولمدّة ثلاث سنوات فقط انصرف إلى التعليم وصار مُبشرّاً متجوّلاً. وشعر الناس بنعمة روحه وسحرها وتعجبّوا من كلمات النعمة التي كانت تخرج من فمه. فكان بسيطاً في حكمته لذلك صار حكيماً في بساطته.

لم يكتب المسيح أي كتاب ولم يكن له مكتب ولم يملك بيتاً ولا نقوداً ولم يتخرّج في جامعة أو في كلية ولم يبتعد في سفراته أكثر من مئتي ميل من مكان مولده أو سُكناه. ولم يكن ينعم بشيء من أسباب العظمة كما يحسب الناس العظمة.

ولم يكن مؤهلاً بالشهادات العلمية ليُصبح مُعلّماً في كلية أو جامعة. ولم يكن له أي غرض في العالم سوى إظهار القُدرة الإلهية لهذا العالم – قدرة ذاك الذي يحيا بحسب ناموس المحبة. وقد علم أنه لو اتخذت نفس واحدة أسمى أشكال المحبة لألغت البُغض من قلوب الملايين، لقد ظهر الرب يسوع المسيح أولاً كأنه لم يتخذّ خطة معيّنة ولا اختار أسلوباً خاصاً لأداء رسالته. فلقد قيل عنه بأنه جال يصنع خيراً – جال يصنع الخير فقط بصورة مُستمرّة ولكل إنسان وفي كل مكان كانت الحاجة ماسة. لقد شفى المرضى وأعاد ضعفاء العقول إلى صوابهم الطبيعي وأنعش أولئك المحتاجين إلى تنشيط وأزال عنهم كابوس الخوف والهمّ. وفوق كل شيء أحب الأولاد الصغار ووضع يديه عليهم وباركهم.

لم يعلم الرب يسوع بطريقة الحفظ والتكرار، بل كان شاعراً وروائياً وفناناً فعلم بصور وأمثال فجاءت تعاليمه كاملة شاملة وسمعه جميع أصناف الناس بفرح لأنه كان يلّون الحقائق بألوان الحياة العادية. وعنده أن كل الطبيعة وكل مناحي الحياة كانت مادة صالحة لتعاليمه وأمثاله فاتخذّ منها شعاعاً يظهر محبة الله وقدرته وعنايته كما جعل تلك المحبة محوراً لكل عظة ألقاها ولكل مثل قدّمه ولكل قصة تحدّث عنها.

فيسوع جعل الناس يبتهجون ويتهللون للرب، فأمثاله وأقواله معاً هي التي كونت اللاهوت المُشرق الذي عرفه الجنس البشري. وعظته على الجبل بسموّها وخلودها تصمد كقمّة جبل أفرست في سلسلة جبال هملايا الشاهقة. وما علمه في تلك الدروس عاشه في حياته مُقدّماً للناس رؤى جديدة للحياة الجديدة ونوعاً جديداً للصلاح.

وبعد خدمة ثلاث سنوات وفي الوقت الذي لم تكن شعرة واحدة في رأسه قد مالت نحو المشيب قبض عليه أعداؤه ليتخلصوا منه. فواحد من تلاميذه لما رأى ما حلّ به خانه وآخر أنكره والباقون تركوه ومضوا مُتمّمين النبوءة القديمة القائلة: أضرب الراعي فتتبدّد الخراف. وكانت مُحاكمته نوعاً من المظالم النادرة ومأساة من مآسي الإنسانية. فلقد احتال حاكمه وانسحب بأسلوب دبلوماسي للمحافظة على وظيفته فغسل يديه علامة تبرئته من دم ذلك البار إذ لم يجد فيه علّة واحدة. ولكنه أمر بتسليمهم إيّاه. فأخذوه وجلدوه وسخروا به وأهانوه وعذّبوه وبصقوا في وجهه وعيّروه ثم سمرّوه إلى خشبة بشكل صليب بين لصيّن مُجرمين... وبينما كان يقترب من الموت كان الجنود تحت صليبه يقترعون على ردائه وهو كل ما كان يملكه من حطام هذه الدنيا. وحين موته دفن في قبر مستعار كان قد أعدّه يوسف الرامي لنفسه وكان أحد أصدقائه الأوفياء.

ومع ذلك فلم يكن للموت سلطان عليه. فبعد مضي ثلاثة أيام أظهر نفسه لأصدقائه حياً مُبطّلاً بذلك الموت ومُنتصراً على الهاوية والجحيم. لقد عرفوا نبرات صوته وإشارته. فهو نفسه الذي كان يكلمهم ويتحدّث إليهم. وقد تحدّثوا معه نهاراً كما سار معهم عند الغسق ورافق بعضهم في الطريق إلى عمواس.

وأخيراً فهموا بأن الموت لم يعد عدواً مُخيفاً كما فكروا به من قبل. ولم يكن نهاية ولكنه بداية. لم يكن جداراً من حجارة ضخمة ولكنه بوابّة مُغطّاة بكرمة العنب. وتحوّلت كل الحياة إلى بعث جديد أعمق جداً وأوفر غنى وتعجبّاً. ولم يبقَ عندهم أي سبب للخوف وحيثما تنتهي المخاوف تبدأ للحياة.

واليوم وبعد مضي كل هذه الأجيال وبالرغم من كل هذا الجيشان والاضطرابات والانقلابات وتغير الأجيال بحسب قاعدة تحوّل التراب إلى تراب والغبار إلى غبار يبقى يسوع حيّاً أكثر ممّا كان بالجسد. فأقواله تسير في قلوبنا صعوداً ونزولاً – فهو محور التاريخ البشري وموضوع تحدّيه وموضوع رجائه.

إن جميع الجيوش التي جُندّت والأساطيل البحرية التي خاضت الخضمات وجميع مجالس الأمم ومؤتمراتها وجميع الفلاسفة الذين قدّموا أفكارهم وأنواع فلسفاتهم مجموعة معاً لم تؤثّر في قلب الإنسان على وجه البسيطة كما أثرت فيه تلك المثالية المنفردة التي ظهرت وكأنها انتهت بفشل ذريع وبانخذال تام.

إنه سرّ فوق ما نستطيع أن نُدرك. فذاك الذي لبس شكلنا البشري لعدّة أعوام مرّت سراعاً. فلقد كان شجاعاً ولطيفاً ومُسامحاً ورحوماً – كما كان أكثر ألوهية من جميع الآلهة التي فكّر بها البشر وعبدوها أو حلموا بها وبوجودها.

فما هو نوع هذا العالم الذي يُمكن أن يظهر فيه مثل هذا المخلوق العجيب. إن الأملاح والحوامض وذرّات الجوهر لا يُمكنها أن تُفسرّه. فمن أعماقه البعيدة جاء ذاك هادياً إيّانا ورافعنا إلى الأعالي. لم يسألنا بأن نقدّم له العبادة ولكنه طلب منّا بأن نتبعه. فيسوع هو الحقيقة الوحيدة التي يُمكننا أن نُسلّم إليها نفوسنا.