العودة الى الصفحة السابقة
ميلاد معجزي

ميلاد معجزي

القس. جون نور


جاء يسوع إلى أرضنا..لان بني البشر قد ضلوا وتاهو فليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد وعز على الله أن تنحدر البشرية إلى خراب ودمار..لكن كيف السبيل إلى الإنقاذ؟. إن ملاكاً لا يستطيع أن يخلص، فهو روح بدون جسد. كما إن إنساناً لا يستطيع أن يشفع.

إذاً كان لا بد أن يدبر الله علاجاً من جانبه لحل هذه المشكلة. كان لا بد أن يأتي إلينا كإنسان. لكن ليس كما خلق آدم من تراب الأرض، وليس كما وجدت حواء من أب بدون أم، وليس بميلاد طبيعي زرع بشر، وإلا كان في هذه كلها يحتاج إلى كفارة، وحاشاه، إذ هو الذي يغفر الخطايا. إذاً فلا بد من ولادة من نوع آخر يختلف عن البشر أجمعين، فلقد ظهر بين البشر رجال كانوا على درجة كبرى من البر والتقوى، لكن لم يخل تاريخهم من نقط الضعف. إبراهيم أخطأ مرة ومرتين، وموسى الحليم أخطأ وحرم من دخول أرض كنعان، وداود أخطأ حتى اعترف «أعوم سريري بدموعي»، وإيليا فشل ويئس حتى طلب الموت لنفسه.. هؤلاء هم البشر.. وكيف لخاطئ أن يشفع في خاطئ؟ كيف لمديون للعدل الإلهي غير المحدود أن يسدد ديناً على أخيه الإنسان؟.

هنا برزت الحقيقة الواضحة: إننا كبشر في حاجة إلى شخص برئ، طاهر، قدوس. ليس ذلك فقط، لكن له الإمكانية أن يهب من بره للخطاة، ومن قداسته للدنسين، ومن طهارته للنجسين.

هذه الصفات ليست من صنع الإنسان، لكنها من طبيعة الله، ولن يستطيع أن يهبها للإنسان إلا الإله القدوس البار.

إذاً لا بد لكي يطهر الإنسان من خطاياه، ولكي يعرف البر والصلاح، أن يتنازل الله لكي يعرف الإنسان هذا الطريق الصالح ويهدي نفسه إلى سبيل البر والقداسة.

لكن كيف يصير الإله إنسانا!. هنا سر الدهور، ولغز الأجيال..

تنازل الله جل جلاله وقبل التضحية. «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد».

وهكذا جاء الحب إنساناً، إذ أخلى نفسه ووجد في الهيئة كإنسان.. يسوع.. الله الظاهر في الجسد، بهاء مجد الله ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته.

لكن هل يظهر هذا الإله المتأنس دفعة واحدة للبشرية، غير خبير بها أو مجرب معها؟. لا بد أن يجهله الناس ولا يعترفون به.

إذاً لا بد أن يجيء طفلاً، يدخل تاريخ البشر كما يدخله باقي البشر، لكن بلا خطية.

إذاً لا بد أن يولد كباقي الأطفال، لكن بلا خطية.

وما دام هناك ميلاد طفل، فلا بد من حبل به، ولا بد من أم تلده. وها قد وُجدت الأم، عذراء قديسة، ازدانت بالطهر والنقاء، وملأها الإيمان والرجاء, لكن كيف تحبل هذه العذراء بدون زرع بشر وبلا خطية؟!. هنا سر لا يخطر على فكر بشر، ولا يستطيع أن يخترعه ذهن بشر، لكن الله يدبره وينفذه، فهوذا الروح القدس يحل عليها وقوة العلي تظللها، لذلك القدوس المولود منها يدعى ابن الله.

هذا الميلاد المعجزي هو الخطوة الأولى في طريق إعلان الله لطرق الخلاص فالإله العظيم قد تنازل وصار إنساناً، «الكلمة صار جسداً وحل بيننا» ولا شك أن من حق العظيم أن يتواضع، ولكن ليس من حق الوضيع أن يتعظم ويأخذ مكاناً ليس له.

على أن حقيقة الميلاد المعجزي ليست بنت وقتها، أو وليدة حدوثها، بل هي في فكر الله الذي دبرها، إذ أنه قبل تنفيذها بأكثر من ستة قرون أشار إليها بالنبوة أشعياء النبي الإنجيلي بالقول: «هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً». وواضح جداً أن هذا الأمر ليس عادياً، بل إنه آية، إذ يقول قبل هذا: «يعطيكم السيد الرب آية». أي معجزة أو أعجوبة. وقد تبدو هذه المعجزة غريبة على الذهن البشري الذي تعود الحسيات. وقديماً وقف سمعان الشيخ مبهوتاً أمام هذه الحقيقة وهو يترجم التوراة إلى اليونانية، وأراد أن يغير كلمة العذراء بكلمة الفتاة أو السيدة حتى تستقيم مع المنطق البشري، وكلما حاول التغيير لم يستطع إلى ذلك سبيلاً، حتى أعلن له الله أنه لن يرى الموت حتى يرى تحقيق هذه النبوة، حتى يرى مسيح الرب مولوداًَ من عذراء. إذ رأى الله في واسع حكمته أن هذا هو السبيل الوحيد لإظهار نفسه للبشر، لذلك لا بد أن يتطهر الإناء بالحلول الإلهي، ولا بد أن يغمر بالقداسة النورانية، حتى يمكن أن يحل في ذلك المولود الإلهي كل ملء اللاهوت جسدياً.

ولقد قبلت الكنيسة الأولى منذ البداية هذه الحقيقية بكل إيمان وثقة، فهذا الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس، هذا الذي لم يفعل خطية ولا وجد في فمه غش، هذا الذي استطاع أن يواجه الجموع بالقول: «من منكم يبكتني على خطية فلم يجبه أحد»، هذا الذي أنار عقولهم بالتعاليم الجميلة وغمر قلوبهم بالمبادئ السامية، هذا الذي أشبع الجياع وشفى المرضى وطهر البرص وأقام الموتى، هذا الذي كسر شوكة الموت ودك حصونه، هذا الذي قام منتصراً ودخل عليهم والأبواب مغلقة، بل هذا الذي ارتفع عنهم وهم ينظرون إلى مجده الأبدي بعد أن وعدهم بالمجيء الثاني، هذا الشخص العجيب الفريد الذي كان معجزة بين الناس لا يعقل أن يولد كباقي البشر، بل لا بد أن يكون ميلاده معجزياً.

نعم، لقد كان ميلاده معجزياً، ومن الغريب أن لا يكون كذلك. وهو ما زال إلى اليوم يجري المعجزات، ليولد جديداً في كل قلب لم يختبره بعد. وهل هناك من معجزة أعظم من تغيير القلب المفسود والطبيعة الدنسة؟!.

فإلى كل مستعبد لإبليس، ميت بالذنوب والخطايا، إن ميلادك الجسدي سجل اسمك في دفاتر المواليد وكفى، لكن ميلادك الروحي يكتب اسمك في سفر الحياة.

فهل تفتح قلبك لتتمتع بهذا الميلاد الثاني؟!