العودة الى الصفحة السابقة
في عيد ميلاد يسوع

في عيد ميلاد يسوع

القس. جون نور


دخل يسوع أرضنا من أبوابها السفلى، فقلب الدنيا رأساً على عَقبْ إذ وضع تاجاً على رؤوس رعاة الأغنام، وزحزح التاج عن مفرق هيرودس الجبّار الجبان. فسكتت الأرض وهتف جُند السماء «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة».

عند ميلاده لم يوجد سقف طاهر في الأرض ليظلّله، فولد في مذود في العراء، وظللته قبة السماء. كانت خمرة اللهو والمجون قد لعبت بعقول البشر فانعقدت أجفانهم وناموا، فسهرت على ميلاده النجوم والنجوم هي عيونُ السماء.

وُلد المسيح في مذود ليقدّس الفقر، وليرسم هالة من الشرف على جبين المساكين، فلم يعد الفقر فيما بعد جريمة الفقراء، بل جريمة الأغنياء على الفقراء، وجريمة الأغنياء على أنفسهم.

وُلِد طفلاً فقدّس الطفولة. وولد من عذراء فرفع مقام المرأة وقدّس الأمومة.

فلا عجب إذا كانت المرأة آخر من وقف عند صليبه، وأول من رحب به بعد قيامته.

إن يوم الميلاد قد جاء في أنسب الأوقات فلو لم يولد فيه المسيح، لوجب أن يولد في مثله لأن القواتِ الثلاثْ التي كانت مُهيمنة على العالم وقتئذ، كانت مُمهدة السبيل لقدومه.

فالرومان بسطوتهم السياسية، كانوا قد ربطوا ممالك الأرض بخيط حريري واحد – أو كما يصح القول بقيد حديدي واحد – فمهدوا الطريق لذاك الذي جاء برسالة السلام لأمم الأرض قاطبة.

واليونان بثقافتهم وفلسفتهم، كانوا قد غمروا المسكونة بسحر لغتهم البديعة، فقدموا بلغتهم أجمل قالب أفرغت فيه رسالة الإنجيل.

واليهود بحرصهم على تقاليدهم ونبواتهم مهدوا القلوب وأعدّوا الأذهان لانتظار مسيح يكسر جناحي النسر الروماني الذي كان مُحلقاً فوق رؤوسهم.

وفوق ذلك، فقد وقع يومُ ميلاده في أحوج الأوقات إليه.

فالرومان في سطوتهم، لم يعرفوا شيئاً غير سحر القوة، فكان من المُحتم أن يأتي المسيح ليرى العالم وإياهم أن الرحمة قوة مُقنعة، وأن القوة ضعف مُقنع، وأن سلطان الحنان يفوق سطوة السيف والصولجان.

واليونان في ثقافتهم عبدوا الجمال ولم يعرفوا شيئاً عداه، فذبحوا الفضيلة في هياكلهم فكان من الضروري أن يجيء المسيح ليرى العالم وإيّاهم، إن الجمال المجرد عن الفضيلة، إنما هو جمال قبيح!

وكان اليهود ينتظرون مسيحاً أرضياً يكسر عنهم نير قيصر بيد من حديد، فكان ينبغي أن يأتي الناصري الوديع ليبيّن للعالم أن لا عبودية أمر من عبودية الخطية، ولا حرية أثمن من حرية الحق والبر، ولا سلطان أعز من سلطان المحبة، ولا قوة أفعل من قوة التضحية والبذل لأجل الآخرين.

في يوم الميلاد تحققت آمال قديمة، وصحت أحلام لذيذة.

قديماً، حلم بوذا بفردوس أرضي. لكنه عجز عن أن يهتدي إلى البذور الصالحة لفردوسه، فنادى بانعدام الشخصية ليكون الإنسان روحياً. فجاء المسيح مُحققاً حلم بوذا ومحتفظاً لكل إنسان بشخصيته المعنوية، فهتفت ملائكة السماء يوم ميلاده «المجد لله في الأعالي... وبالناس المسرّة».

وتخيّل كونفوشيوس فردوساً أرضياً آخر، لكنه عزّ عليه أن يصل إلى أصوله، فجاء المسيح مُحققاً حلم كونفوشيوس وأسس ملكوته على الحق، والرحمة والحنان.

ورأى الرواقيون فردوساً آخر، فنادوا بوجوب التمسك بالفضيلة، لتكون الدنيا سماء على الأرض. فجاء المسيح مُحققاً رؤى الفلاسفة الرواقيين، منادياً أن لا قيمة للفضيلة ما لم يرها الناس مُتمثلةً في ذات حي، فقال «أنا هو الطريق، والحق والحياة».

فالشرق المتعبد بطبيعته، يفتح عينيه ويمدّ يديه سائلاً: «أين الطريق»؟

والغرب المُفكر بذهنه، يهيم في فيافي عقليته، باحثاً مُستفهماً «أين الحق»؟

والشرق والغرب يسيران جنباً إلى جنب، وهما يتناجيان قائلين «ما هي الحياة»؟

فجاء المسيح وقال لأولهما: «أنا هو الطريق»، ولثانيهما: «أنا هو الحق» ولكليهما: «أنا هو الحياة».

في يوم الميلاد سمع رعاة الأغنام أنشودة السماء: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة».

هذه رسالة الميلاد التي ينبغي أن تسمعها الأرض من جديد، كلما أقبل عليها هذا العيد السعيد المجيد.

هذه رسالة السلام التي يجب أن يسمعها الجالسون حول مائدة السلام، وهم يتحدثون عن الصلح بلغة الحرب، والتسليح، والانتقام.

هذه رسالة السرور والبهجة للأغنياء الذين يشربون في العيد آخر قطرة من كأس الحبور، ناسين أو متناسين فقراء العيد.

هذه رسالة الفرج للعالم في قلب هذه الأزمة الجائحة التي أكلت الأخضر والهشيم.

هذه رسالة المسيح للذين رغبوا في أمجاد المسيحية، ولم يرغبوا في آلامها، فلو جاء المسيح اليوم لما قدموا له مكان أرفع من الذي قدم له قديماً في بيت لحم.

هذه رسالة للجميع تحمل بين ثناياها تهنئة بانفراط عام، وإقبال عام.