العودة الى الصفحة السابقة
الهم، أسبابه، والتغلب عليه

الهم، أسبابه، والتغلب عليه

جون نور


كثيراً ما يكون الهم وليد الخيال. وبقدر ما يكون خيال الإنسان بقدر ما يكون همه. ومن لا خيال له لا يهتم كثيراً. ولكن التمادي في الهم لا يساعد الإنسان على التقدم، بل يعرقل نشاطه، ولذلك حذر المسيح من الإفراط في الهم في موعظته الخالدة على الجبل عندما قال للجموع لا تهتموا للغد يكفي اليوم شره.

الهم والقلق توأمان. وهما مشكلة الإنسان في كل زمان ومكان. فالمحب يقلق على من يحب. والأم تقلق على طفلها. والموظف يقلق على وظيفته. والوالدون يقلقون على أولادهم. إنهم يريدون أن يكون أولادهم أصحاء الأجسام والعقول ناجحين. ويقلقهم مرضهم وفشلهم ويقض مضاجعهم.

ولسنا في حاجة إلى إقامة الأدلة على أن الهم يضعف قوى الإنسان الجسدية والعقلية. فنحن نرى كل يوم الذين إستبد الهم بأجسادهم وعقولهم. فعاق تقدمهم وأخرهم عن بلوغ الأهداف التي وضعوها نصب أعينهم.

ولذا يحاول العقلاء من الناس التغلب على الهم، وبالتالي على القلق بشتى الوسائل، وتطوير شخصياتهم، وكسب الأصدقاء، والتأثير على الناس ليكونوا ناجحين في مضمار الحياة.

إن بعض الناس يلجأون إلى المجون والعبث إذا ما فازوا بقسط من المال. ويلجأ آخرون إلى الإنهماك في العمل هرباً من التأمل في أنفسهم. ويلجأ غيرهم ومعظم هؤلاء من الشبان، إلى المخدرات التي أصبحت من آفات عصرنا.

ويبدو أن ما أحرزه الإنسان من التقدم العلمي أورثه الهم والقلق والقدرة على تدمير نفسه، وأبعده عن خالقه، فصارت تهمه الأشياء أكثر مما يهمه الناس. قال أحد مشاهير الأطباء النفسانيين المعاصرين: «إن نزعة الإنسان أو ميله إلى حب الأشياء وإستغلال الناس، أقوى من نزعته إلى حب الناس وإستغلال الأشياء. وهذه هي مأساة عصرنا، بل هذا هو للأسف، واقع حياتنا».

يخطىء إنسان اليوم، إذا ٱعتقد أن حبه للأشياء أكثر من حبه للناس يهيء له جواً من السعادة. فالرجل الذي يهتم بسيارته أكثر مما يهتم بزوجته، والأم التي تهتم بزياراتها أكثر من إهتمامها بتربية أولادها وإيجاد الوقت اللازم لهم، يهملان عنصرين حيويين. وعليهما أن يتحملا مغبة هذا الإهمال إن عاجلاً أو آجلاً.

إن الذين يغالون في الإهتمام بالشؤون المادية، يجعلون منها أصناماً لأنفسهم تحتل مكان الله في حياتهم. وسرعان ما تنهار أصنامهم هذه وتتحطم إذا ما إستفاقوا على الهموم الحقيقية التي تتقاذفهم بأمواجها العاتية. وبدلاً من أن يلجأوا إلى الله في ظروف كهذه يلجأون في حيرتهم إلى أصنام أخرى إلى وسائل جديدة من وسائل الهروب لاذ بها الناس منذ قديم الزمان: «فلنأكل ولنشرب، لأننا غداً مائتون!» فيحرقون بذلك شمعة حياتهم من طرفيها. وكثيراً ما تكون العاقبة فشلاً ويأساً وإنهياراً عصبياً.

يعلمنا الله أن نؤمن بعنايته. وهذا الإيمان يمدنا بالقوة للتغلب على الهم واليأس. والذين تجابههم الهموم يدركون أكثر من سواهم أن الهموم لا تزول بإلقاء المحاضرات وكثرة الكلام عن عدم جدواها، ولا بتجاهلها وعدم المبالاة بها، بل بإيجاد سبل للتخلص منها.

هناك سبل أربعة يمكننا بها كبح جماح الهم والقلق.

السبيل الأول هو الوثوق بعناية الله والإيمان بمحبته التي تحصرنا: كما قال الرسول «فإني لواثق بأنه لا موت ولا حياة، لا ملائكة ولا رئاسات، لا حاضر ولا مستقبل ولا قوات، لا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، ولا شيء بوسعه أن يفصلنا عن محبة الله لنا في المسيح يسوع ربنا». فإذا كان الموت مصدر قلقنا، فقد قهر يسوع الموت. وإذا كانت الحياة مبعث همنا، فلقد جاء يسوع ليعطينا الحياة الأفضل. وإذا كانت القوة الغشوم وإنتزاع الأرض علة إضطرابنا، فقد أرتنا محبته أن المحبة أقوى من القوة. القوة تزول عندما تدق ساعة زوالها. وأما المحبة فباقية ما بقي الوجود.

والسبيل الثاني هو الصلاة: «لا تكونوا في هم أبداً، بل إرفعوا حاجاتكم إلى الله كلما صليتم وإبتهلتم وحمدتم» ولا يعرف ما للصلاة من قوة وقيمة إلا من خبرها بنفسه.

للإستسلام للهم خطر كخطر الدخول في أرض حرام. إنه يلتف حولنا كالأغلال ويأخذ بخناقنا ويؤدي بنا إلى اليأس. ولكن «لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس». والصلاة أقوى سلاح بين أيدينا، إذا إستخدمناه لا يطرحنا الهم أرضاً.

والسبيل الثالث هو الاهتمام بالحاضر الذي نعيش فيه.. وقد قيل: «ما فات مات، والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها». إن الغلو بالاهتمام بالمستقبل ينسينا الحاضر. ونحن قوم يحبون أن يعيشوا في الماضي وعلى ذكريات الماضي. أو في المستقبل وعلى أوهام المستقبل. ولكننا لا نحسن العيش في الحاضر والاستفادة منه. وقد يكون هذا سبباً من أسباب سلبيتنا وعدم موضوعيتنا، وتعثرنا، وفشلنا. وبالتالي تأخرنا. وحين أعترف بهذه الحقيقة، لا أقصد أولئك الذين يعيشون ببطونهم لا بعقولهم. فهؤلاء لا هم لهم، لأنهم لا يفكرون كثيراً.

أما السبيل الرابع فهو تقديرنا للإيمان المعطى لنا فبالإيمان يتهيىء لنا المناخ الروحي المناسب الذي يساعدنا على الارتفاع فوق الهم، ويشدنا بعضنا إلى بعض للالتفاف حول الرب الواحد. ويجندنا للتعاطف، والمشاركة، والخدمة العامة. ويروض إرادتنا ويوجهها شطر الحق والخير والجمال. ويربي إحساسنا لنتحكم بالإنفعالات والنزوات والفورات العصبية.