العودة الى الصفحة السابقة
قوة الصليب

قوة الصليب

جون نور


عندما ارتفع الصليب فوق صخرة الجلجثة ذلك المكان الذي كان يصلب فيه القتلة والمجرمين، تزلزلت الأرض... تشققت الصخور... هاجت العواصف... غابت الشمس... لقد هزّ ذلك الصليب الجبّار العظيم، العالم هزاً عنيفاً وما زال يهزه إلى اليوم!!...

هناك فوق الجلجثة حدثت المواجهة بين أعظم قوى الخير وأعتى قوى الشر. هناك تم أقسى وأرهب اصطدام بين ملك الملوك ورئيس مملكة الظلمة... في موقعة الصليب الفريدة حدثت أمور عجيبة لا يمكن أن ندرك كنهها لكن تلك الأحداث ولدت قوى فريدة وأدخلتها إلى عالمنا. لهذا كان الصليب هو الهدف الرئيسي في حياة يسوع، وبدونه لكانت رحلته إلى عالمنا خالية من القوة اللازمة لتتميم أغراضها. وبهذا أيضاً أضحت رسالة يسوع متميزة عن رسالة كل الأنبياء والمصلحين. فما من إنسان سواه استطاع أن يرقى الصليب، فكل له وزره، ولصار في الصليب هلاكه. أما يسوع فهو رب المجد الذي استطاع وحده أن يحمل الصليب ويجعل منه قوة غافرة وفادية ومخلصة...

لم يكن الصليب إذاً إلا القمة التي ارتكزت على شخصية يسوع العجيبة ولقد تألقت هذه القمة فوق صخرة الجلجثة لتبدد الظلام وتشرق علينا بفجر جديد؟

بالرغم من أن الصليب استطاع أن يظهر لنا الشيء الكثير عن شخصية المسيح الرائعة المجيدة، لكن السيد لم يسع إليه، إلا لأنه كان الوسيلة الوحيدة لقهر الخصوم. لم يكن الصليب إذاً مجرد علم أو رمز أو قمة من قمم الحب والوفاء، لكنه كان يجسّم ذروة الصراع المحتدم بين الخير والشر.

فمنذ السقوط غطت الدنيا ظلمة رهيبة، وفرض الشيطان سلطانه على العالم بأسره. ولقد بدا كأنه لا خلاص من هذه الحالة البائسة المريرة، فمن يستطيع أن يواجه الشيطان ويعتق الإنسان من أسره ويخلصه من سلطانه.

لهذا جاء المسيح كي يصارع الشيطان ويصرعه. ولقد كانت المواجهة بينهما عنيفة وقاسية، أخذت أطواراً وصوراً مختلفة. من المذود، إلى البرية، إلى الجليل، إلى أورشليم

في موقعة الجلجثة أراد الشيطان أن يفتك بيسوع فتكاً ويتخلص منه نهائياً. ولا أخال أنه كان يريد من كل ما فعل أن يمزّق الجسد فقط، فجسد السيد الواهن الهزيل ما كان يحتاج لكل ما أعدّه الشيطان كيما يقضي عليه. لكن الشيطان أراد ولا شك، عندما علّق يسوع فوق الصليب، أن يصل إلى أعماق نفسه. لقد كان يعتقد أنه بواسطة الأشواك والمسامير والحراب سيتمكن من أن يدخل شيئاً من السموم والشكوك والكراهية إلى أعماق قلب ابن الإنسان، وبهذا يقتل الحب... يقتل جوهر ابن الله!!...

كان يسوع فوق الصليب ممزقاً... الأشواك غائرة في جبينه تكاد تصل إلى أعماق رأسه... المسامير مغروسة في يديه تمزّق أعصابه مُسببة لسهام نارية من الآلام الرهيبة القاسية... الخشبة الخشنة تحتك بظهره الذي مزّقته السياط فتزيده تمزقاً وتهرءاً... وسط هذه الآلام المريرة المرعبة، إذا بالصوت يناديه قائلاً: «إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب»(متى 30:27).

وكأنى بهذا الصوت يستطرد ويقول "لماذا؟... لماذا تبقى في هذه الحالة المشينة التي لا تتناسب مع كرامتك ومركزك؟... هل نسيت أنك ابن الله الوحيد؟... كيف تركت نفسك للأعداء وكيف تتحمّل كل هذا العناء؟... قد يكون من الجائز أن تتألم في البرية وأنت بعيد عن الأعين، لكنك الآن تتعرض للمهانة والعار أمام كل الجماهير. وها هم ينادونك أن تنزل. حقاً أنك إذا لم تلبِ النداء تكون بذلك غير صادق مع نفسك وتتنكر لحقيقة شخصيتك... ألست أنت بالحقيقة ابن الله؟ ملك الملوك ورب الأرباب؟... إذاً لماذا لا تنزل من فوق الصليب مظهراً سلطانك وقدرتك وجلالك؟...

كانت أمواج الشكوك جارفة قاسية تابعتها أمواج أعنف وأقسى من الإغراء والغواية.

فلقد كان يسوع معلقاً في الوسط بين لصين، وكان أحد المذنبين لا يكفّ عن الصراخ والإستغاثة قائلاً: «إن كنت أنت المسيح فخلّص نفسك وإيانا»(لوقا 39:23) بل كان رؤساء الكهنة أنفسهم يستصرخونه قائلين: «لينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن»(مرقس 32:15).

لماذا إذاً لا يوفر على نفسه أهوال الآلام وعلى خاصته مشقة الضلال؟ وإن كانوا لم يؤمنوا به كمسيح المعجزات، هل يمكنهم أن يؤمنوا به كمسيح الصليب؟ حقاً إن لم ينزل من هناك فلسوف تبقى عثرة الصليب حائلة بينه وبين خاصته على مدى الأيام...

كان يسوع داخل بوتقة الجلجثة يجتاز في أتون من الآلام الجسدية والنفسية الرهيبة، كما تلاطمت من حوله أمواج من الشكوك والتفت به دوامات الغواية. وفوق كل هذا أيضاً أخذ الشيطان يقذفه بسهام نارية من الحقد والكراهية.

وكأني به على طول الطريق إلى الجلجثة، وفي كل مرحلة من مراحل الصلب القاسية كان الشيطان يهمس في أذنيه قائلاً: هذه هي النتيجة... هذه هي ثمرة جهادك، وصدى حبك لعالم من الجاحدين... أين هم الذين شفيتهم وأطعمتهم... بل أين تلاميذك الذين أحببتهم وأغدقت عليهم من عطفك... لا تتعب نفسك مع البشر، لقد فاقوا الشياطين في شرّهم.....

هذا هو الإنسان على حقيقته... لقد كنت تحب العشارين والخطاة لأنك لم تختبرهم... كانوا في غاية اللطف معك لأنهم كانوا في حاجة إليك... لكنهم الآن يردّون لك الصنيع ويقلبون ظهر المجن... لقد أشبعت بطونهم وشفيت مرضاهم لكنهم نسوا سريعاً كل شيء... وها هي السياط... والأشواك... والمسامير... والمطارق... والحراب... كل هذه تحدثك أبلغ حديث عن حقيقة الإنسان. فهل ما زلت مُصرّاً على حبك لهم؟... هل من أجل أولئك تبذل النفس؟... وهل يقدر صليبك أن يغيرهم... هل يمكنك أن تحقق بالموت ما لم تستطعه بالحياة؟!!...

دعك من الإنسان واتركه لي... لا صليبك ولا أي شيء آخر في الوجود يمكن أن يُجدي نفعاً معه...