العودة الى الصفحة السابقة
رجع أولاً إلى نفسه..

رجع أولاً إلى نفسه..

جون نور


لا اعتقد أنه يوجد شاب يعيش للعالم إلا ويعتبر الصداقة مع الشباب من أمثاله ضرباً من ضروب الحكمة والعقل. كل أهل العالم يكونون صداقات كثيرة، ويحيطون أنفسهم بأصدقائهم، ولكن أي نوع من الصداقات يا ترى؟ ولشدة تأثير الأصدقاء لا يقدر الشاب أن يسلك سلوكاً مختلفاً عن سلوك أصدقائه، مهما حاول ذلك، لأنهم يربطون تصرفاته ويتحكمون في سلوكه! وقد تصرف هؤلاء الأصدقاء تصرفات أكثر ضرراً من تصرفات الأعداء! وإذا نظرت نظرة دقيقة الى قصة الإبن الضال مع أصدقائه، لوجدت أنهم لم يعملوا له شيئاً، وكل ما قدروا أن يعملوه هو أنهم بكل بساطة ساعدوه على التخلص من أمواله وتبديد ثروته. وفي كل وليمة أو حفلة كان عليه أن يملأ جيبه ويديه حتى يحصل على مزيد من الأصدقاء، دون أن يكسب من وراء ذلك شيئاً. أعطاهم الكثير.

لقد كان ذلك الشاب يخدع نفسه في غبائه عندما كان يقول لنفسه. لقد أحطت نفسي بمجموعة طيبة من الأصدقاء، وذاع صيتي في كل المنطقة، وحيث أوجد الآن تجد عيون الأصدقاء ترافقني وأصوات الصداقة ترد ابتسامتي. أنا أسعد شخص، لأنني إستطعت أن أكون هذه الصداقات.

ولكن هذه الأفكار تغيرت يوماً من الأيام، عندما اجتاز اللحظات المؤلمة الخطيرة من حياته، عندما فقد ثروته ولأول مرة في حياته وجد نفسه وحيداً. فأين ذهب هؤلاء الأصدقاء، وماذا حدث لهم حتى تغيروا بهذا الشكل؟! كيف تبددت ابتساماتهم وصاروا ينظرون إليه ببرود، ويحيونه بفتور من بعيد، ثم بعد ذلك لم يعودوا يحيونه على الإطلاق؟!

إن هذا الشاب

عندما خانته كل مسراته، وتحولت وروده إلى أشواك، ابتدأ يتعقل ويبحث عن عمل، فوجد أنه من الصعب عليه أن يحصل على وظيفة مناسبة، ولكنه يجب أن يجد عملاً على أي حال.

هكذا يعمل أهل العالم، الذين ينفقون شبابهم في السير وراء الأباطيل، في فراغ وتسكع، وعندما يأتي وقت الرجولة بمسئولياته الخطيرة يفكرون في العمل، لأنه لا مجال للفراغ والمسرات الكاذبة. وحتى القدرة على التمتع بالمسرات تبتدئ تفارقهم، فلا سبيل إلا أن يغرقوا أنفسهم في أعمالهم، ويصيرون عبيداً للروتين اليومي، وتنشغل العقول بالآلاف من الأعمال لكي يشبعوا جوعاً من نوع آخر

هذا الشاب رجع أولاً إلى نفسه..

رجع إلى نفسه أيضاً بالنسبة للحاضر عندما وجد نفسه وجهاً لوجه أمام الهلاك والموت. إن القبر القاسي كان يقترب منه قليلاً قليلاً. القوس جاهز، والسهم مثبت فيه، وفي لحظة يطير السهم القاتل وينهى وجوده ويقضى عليه بالدمار.

المسافة إلى بلده بعيدة، والرحلة إلى بيت الآب طويلة، فإن كان هناك ما يمكن عمله فلا يجب أن تفقد لحظة واحدة.

وهذا قاده إلى أن يرجع لنفسه.

وفي لحظة أخرى خرجت الكلمات، كلمات العزم من بين شفتيه: «أقوم وأذهب إلى أبي».

هكذا الحال معك أيها الخاطئ المنتبه من غفلة خطاياك. لقد أيقظك الله بالنسبة للماضي. ألم تستيقظ وتتنبه وتدرك الماضي؟ لقد تعودت أن تنظر إلى ماضيك بارتياح، ولكنك الآن تنظر إليه في رعب. تعودت أن تمدح ذاتك فيما عملت، ولكنك الآن تدنيها بقسوة. كان هناك وقت تتملق فيه ذاتك وتقول لها إنك على كل حال لست أردأ من الناس الآخرين، ولكنك تبدو الآن فزعاً مشمئزاً من حياتك الماضية. فكيف كان ذلك؟! لأنك بدأت ترجع لنفسك. ولقد رجعت إلى نفسك بالنسبة للحاضر، حيث تجد ذاتك وجهاً لوجه أمام الموت الروحي الذي يمسك بتلابيبك وقبضته الفولاذية تطبق عليك. هذا الشبح المفزع ابتدأ يقترب منك ويواجهك، وقد تأكدت في اختبارك المتعب قوة العبارة «موتاً تموت»!

إعمل ما شئت أن تعمل، ولكنك لن تقدر أن تفلت من تلك القبضة، حتى ولو صرخت قائلاً: «ويحي أنا الإنسان الشقي! من ينقذني من جسد هذا الموت؟!».

إياك أن تظن أن الله الآب لا يتجاوب مع أحاسيسك، وصدق ما علم به شخص المسيح نفسه عن محبة الآب إذ قال: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل إبنه الوحيد».

وبخطوات مرتجفة سار الإبن الضال إلى بيته، وشكراً لإلهنا لأننا نقدر أن نطرح مخاوفنا جانباً، ولا حاجة بنا أن ونخاف عندما نحس بمحبة الآب وصفاته.

قبل أن يرى الضال أباه، رآه أبوه؟. لا بد أنه كان يراقبه من مكان ما، ربما كان يطل عليه من نافذة في المنزل. بل ربما كان يحملق في اتجاه الكورة البعيدة وهو يفكر: «ترى هل سيعود إلى إبني الذي ضل؟ وهل ستكون لي فرصة رؤيته مرة ثانية؟».

نعم، لقد كان ينتظره كل الوقت في اشتياق دائم. أخيراً رأى شبحاً قادماً من على بعد. إنه لا يشبه ذلك الطفل السعيد الجميل الذي ترك المنزل منذ سنوات خلت، ولكنه يبدو من مشيته كأنه هو! واتجه قلب الأب نحو ذلك الشبح القادم، وفي لحظة كانت أقدام الأب تسابق الريح ليقابله. لم يكن الأب في حاجة لأن يرجع لنفسه كما فعل الإبن، لأنه كان كما هو كل الوقت. قلبه لم يتغير، ومحبته لم تخبو ولم تنطفئ، ولم تفارقه عواطف الشفقة والحنان. إنه يطير الآن على أجنحة الحب ليقابل البائس الفقير العائد.ملابسه البالية القذرة لم تصده عنه، وقذارته لم تجعله يرجع إلى الخلف، بل ألقى ذراعيه حول عنقه، وضمه إلى صدر محبته، وانسكب دموعه على وجنتيه.

أيها الخاطئ، ألم تتعب من حياة الجوع؟ ألم تتعب وأنت تنفق كيانك وصحتك؟ ألم تتعب وأنت تعيش مثل هذه الحياة؟ ألم تتعب من الخطأ ضد نفسك؟ ألم تتعب ومن حولك أصدقاء خونة؟ ألم تتعب وأنت تنتقل من عمل تافه إلى آخر؟ ألم تتعب وأنت تبحث حتى تشبع جوع نفسك بالخرنوب الذي لا يصلح إلا للخنازير؟

أيها الرب ربنا، هل يرجع إليك الضالون الآن إذ يبدوان رحلة العودة من على حافة الموت؟! هل يرون أنفسهم على حقيقتها؟ وهل يولون ظهورهم لأرض العار والمذلة ويحولون وجوههم إلى بيت أبيهم؟ يا أبا الأرواح، أحضر الضالين إليك الآن. نادهم بمحبتك، ولوح لهم برحمتك. تعال بهم بقوتك، ودع الموسيقى العذبة تنشد نشيد حنانك: «ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد!».