العودة الى الصفحة السابقة
زرع وحصاد

زرع وحصاد

القس. جون نور


نحت تور فلدمن النحات الدانمركي الشهير في روما تمثالاً أتى تحفة من تحف الفن. وأرسله في صندوق إلى بلدته كوبنهاغن. وطرح القش الذي لف فيه التمثال في الحديقة. وفي الربيع نمت في تلك الحديقة أزهار إيطالية رائعة في حسنها وجمالها .لم تكن معروفة للدنمركيين من قبل لأن بذورها طرحت مع القش دون أن ينتبه إليها أحد. كلمة الله هي كهذه البذور تنمو في العالم دون ضجة كالشهب الصامتة أو كالندى الذي يتساقط بسكون وينعش الأرض، وتغير قلب الإنسان. وكم من قلوب معاندة قاومتها، ثم ارتدت فقبلتها. قاومها هنري لافيدان الكاتب الفرنسي الذي ولد في أواسط القرن التاسع عشر. وقضى الشطر الأكبر من حياته بعيداً عن الله. وزرع في أشعاره بذور الكفر والزندقة. وسمم قلوب كثيرين. ولكنه أرتد إلى الله فيما بعد. واعترف بأنه كان على خطأ، على الرغم من ذكائه وحدة فهمه. وقال لقد تداركتني عناية الله، فصحوت من غفوتي، ورجعت إلى إيمان أبائي بعد ضلال طويل وظلام دامس تخبطت فيه سنين عديدة. وكثيرون من أمثال لافيدان وجدوا الله، بعد أن زرعوا في قلوب كثيرين شوكاً وقتاداً. واعترفوا على رؤوس الأشهاد، بأنهم زاغوا عن الصواب. ومنهم من طافوا البلاد منادين بكلمة الله وداعين إليها العباد.

كل عاقل يتأمل بين الحين والآخر في حياته ويسلط عليها نوراً ويسأل نفسه عما آلت إليه عبر السنين. ويذكر الأوقات التي كان يخطط فيها لحياته ومستقبله والهدف الذي جعله نصب عينيه وهو في مقتبل عمره. وقد يعلو ثغره الابتسام حيناً، وقد يعلوه الخجل حيناً آخر، لأنه كان مثالياً أو خيالياً.ويقيناً، إن حياتنا ليست من صنعنا وحدنا. فهنالك عوامل تفرض علينا في صنع حياتنا. فنحن لم نصنع حياتنا وحدنا وإنما استقبلناها، ونستقبلها باستمرار. لم يسألنا أحد قبل أن أبصرنا نور العالم، إذا كنا نريد أن نأتي إلى العالم. ولم يكن لنا خيار في البيئة التي وجدنا فيها. بيئتنا أكسبتنا طابعاً خاصاً، وتظل تؤثر على تفكيرنا وتصورنا. وما كنا، كما نحن عليه، لو لم يسبقنا إلى الحياة أناس لهم الفضل في وجودنا، ويهمهم ما سنكون عليه في المستقبل. فليس المسنون متحجرين وخرفين، كما ينعتهم الأحداث، باستثناء بعضهم. إنهم السلف ونحن الخلف. نحن حلقات متصلة في سلسلة طويلة.

إننا نستطيع أن نتصور لأنفسنا ما الذي سنجنيه لو زرعنا بذاراً صالحة في نفوس أولادنا أن مثل هذه البذار إذا ألقيت في نفوس غضة لينة! بعض الناس يشتعلون غضباً، إذا رأوا الأحداث يتسكعون هنا وهناك، لأنهم لا يعرفون كيف يمضي هؤلاء أوقات فراغهم، لأن أحداً لا يجد وقتاً للتحدث إليهم. لأن أمهاتهم منشغلات في عمل البيت والطهو، أو لأنهن موظفات، ولأن آباءهم مرهقون ويحتاجون إلى استراحة، يرغون ويزبدون إذا ما رفع الأولاد أصواتهم، ويحسبون الهزة الخفيفة زلزلة عنيفة، ويجعلون من الحبة قبة؟!!

فهل تنمو فينا البذار الإلهية نمواً صالحاً؟ وهل نكتفي بحصاد ما نحتاج إليه في حياتنا اليومية، أم نقضي العمر في السعي وراء السراب، وراء ما لا يمكن تحقيقه وما ليس ضرورياً لحياة عادية كريمة؟نلاحظ في أيامنا، ويلاحظ الشبان بنوع خاص، أن الإنسان أصبح «ماكنة شغل » كما يقولون، أو رقماً من الأرقام، يمكن احتكاره أو إبداله، أو الإستغناء عنه كل لحظة. ويدرك الشبان والشابات هذه الحقيقة، ولكنهم على الرغم من ذلك يعملون كالماكنات ، إما بسبب الفاقة، أو لأنهم يريدون أن يظهروا براعتهم وتفوقهم ويثبتوا هويتهم. بيد أنهم لا يريدون على الإطلاق أن يصبحوا آلات وأن يعملوا كآلات من الصباح إلى المساء دون أن يرفعوا رؤوسهم. الإنسان عندما يكون في ميدان العمل فتياً قوياً نشيطاً مسؤولاً. ولكن عندما يعتزل العمل يتحولون عنه ويصبح نسياً منسياً.

وفي نهاية رحلته على الأرض يودعونه بهذه الكلمات المجللة بالسواد: «مات فلان بعد حياة حافلة بجليل الأعمال فخدم وطنه وبلاده» أو «مات فلان متمماً واجباته الدينية» إلى غير ذلك من العبارات المألوفة الجوفاء. قليل ذلك على الإنسان، وإن كان لا يعرف الإنسان إلا بعد موته، وبعد فوات الوقت.

وليست الكمية هي التي تميز أعمالنا، بل النوعية. لأن الحياة لا تقاس بطولها، بل بعمقها. الحياة لا تقاس بعدد الأنفاس، بل بمقدار حبنا لله وخدمتنا للناس. وبغير هذين العنصرين: حبنا لله وخدمتنا للناس، نكون أموات، وإن كنا أحياء.

لقد زرع يسوع في تربة هذا العالم بذار المحبة والخدمة. ودعانا لنتعلم ذلك في مدرسته ونحذو حذوه. إذا فعلنا ذلك نكون كالبذار التي سقطت في الأرض الجيدة.

ومن يعمل على إيصال كلمة الله إلى الآخرين وزرعها في قلوبهم بإخلاص لرسالته، يشبه هذا النحل. وبعض الناس يشبهون العناكب. فهذه تنسج خيوطها منها بحكمة فائقة وتصطاد بها الذباب المغفل وتمتص دمه. وبعض الناس يشبهون النمل الذي يجد في طلب قوته ويجمع البذور لحين الحاجة. إلا أن عيب هؤلاء، أنهم يجمعون كل شيء في مخزن عقلهم، لو ضربتهم بعضا موسى ما جادوا بقطرة.

عرفت كل أمة زراعاً زرعوا على الأرض. فنبت ما زرعوه ونما. وعرف التاريخ أفراداً زرعوا بذاراً صالحة. ولكنها ذهبت بذهابهم. وكان بينهم أشخاص ترك ما زرعوه أثاراً باقية في تاريخ بلادهم. بيد أن البذار الصالحة التي زرعها يسوع على أديم هذه الأرض لم يزرعها أحد في التاريخ غيره. وتعاليم أنجيله لا يضاهيها تعليم في سموها وسناها.

ويسوع يزرع بواسطة خدام كلمته الصالحين الأمناء. ويزرع بواسطة كنيسته المجاهدة، وبدم شهدائه، كيف لا ودم الشهداء هو بذار الكنيسة. وحيثما تقع بذار كلمته في أرض جيدة تتلاشى الأنانية والإنتهازية التي تجمع الثمار في سلالها وتحتفظ بها، وتسود الخدمة والمحبة، وتحدث معجزة الحياة الجديدة. من له أذنان للسمع فليسمع!