العودة الى الصفحة السابقة
الله محبة

الله محبة

القس. جون نور


هذه الكلمة الصغيرة المكونة في لغتنا من حرفين: «حب»، كم تناولتها قصائد الشعراء، وابتذلتها أغاني السفهاء، فحولتها من بذل وعطاء، إلى استحواذ واقتناء، فانحطت بمدلولها من أفكار السماء، إلى معاني سخيفة وحمقاء. ففي معظم الأغاني والقصائد الشعرية يوصف الحب بأنه أشواق وآهات، شهوة نهمة، ومشاعر مهمومة، وعاطفة مشبوبة، لم تنل كفايتها ولم تشبع قط من المحبوب. فالحب في نظرهم عمل غير إرادي فيتكلمون عن «الوقوع في الحب» «عدم مقاومة الحب» بل «وجنون الحب».

للأسف إن هذا النوع من الحب أفقد الكلمة مفهومها الحقيقي، وما هو في الواقع إلا انعكاس بين حالة الإنسان التعسة والبائسة وعواطفه وأفكاره المشوشة التي لوثتها الخطية. إن المتأمل المدقق في نوعية هذا الحب يدرك أنه «الأنانية مجسدة»، فهو يبحث عن وسيلة لإشباع النفس والتمركز حول الذات.

وحينما يكلمنا الكتاب عن المحبة، فهو لا يصفها بأنها «عاطفة لا نستطيع التملص منها»، ولكنه عمل إرادي من العطاء المتدفق المستمر؛ فهي تكريس إرادي للمحبوب (يو 19:17). فالحب الحقيقي منبعه الإرادة وليست العاطفة، فإذا راجعنا وصف الرسول بولس عن المحبة (1 كو 4:13 – 7)، فسندرك للتو أنه يتكلم عن نوعية من الحب مركزها الإدراك الواعي الذي يتعامل مع العقل والإرادة. فالقاعدة الرئيسية التي تستقر دعائم الحب عليها «أنه لا نطلب ما لنفسه»، فهو لا يتمركز حول إشباع الإنسان لعواطفه ورغباته، ولكن أن أبذل وأعطي كل ما في طاقة يدي لمن كان غرض وهدف هذا الحب. إنه هذا الحب الذي تكلم عنه الرب معلماً به تلاميذه «ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه من أجل أحبائه» (يو 13:15). وأيضاً «مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ» (أع 35:20). هذا هو الحب الحقيقي الذي يبذل ويضحي من أجل المحبوب.

والرسول يوحنا، بصفته رسول المحبة والمشهور بأنه «التلميذ الذي كان يسوع يحبه»، كتب في رسالته الأولى هذه الكلمات القليلة «الله محبة» والتي كررها مرتين في رسالته، دخل يوحنا بنا إلى أعماق قلب الله، وكلمنا عن طبيعته، وكينونته، وسرمديته. وسوف نتأمل في أفكار عن محبة الله:

طبيعة المحبة

إن الله له صفات كثيرة ومتعددة، فنحن نتكلم عن «قدرة الله»، «أناة الله»، «لطف الله»، «قداسة الله وحكمته». ولكن يوحنا الحبيب حينما أراد أن يتكلم عن المحبة، أراد أن يطلعنا عمن هو الله في ذاته، أراد أن يخبرنا عن طبيعته. فحينما نقول إن «ألله نور» فهذا أيضاً إعلان عن طبيعة الله. وطبيعة الله كانت مشغولية يوحنا في جميع كتاباته، فهو نتيجة الاقتراب الشخصي لابن الله: سمع ورأى وشاهد، بل ولمس (1 يو 1:1)، ليست صفات ولكن طبيعة حياة جديدة كانت مستترة من قبل عند الله، وظهرت في ملء الزمان للعالم. وهذه هي الحياة الأبدية التي هي موضوع كتابته في إنجيله وفي رسالته.

أزلية المحبة

حينما تأمل «أوغسطينوس» في هذا المقطع الصغير من الآية «الله محبة»، وجد فيها إثباتاً واضحاً لعقيدة الثالوث. فالله غير متغير، وبالتالي فالمحبة كجزء من طبيعته كانت موجودة في الأزل السحيق قبل خلق الكون، وكان يجب أن تجد مجالاً للتعبير عن نفسها. ومن ثم أستنتج أن هذه المحبة كانت موجهة إلى أقانيم اللاهوت الثلاثة، ولذلك يقال عن المسيح «ابن محبته» ويقال عنه «كنت كل يوم لذته، فرحة دائماً قدامه» (أم 30:8). ودعى هذا الاستنتاج أحد المفكرين الأممين إلى القول: «إذا قلنا أن الله واحد (وحدانية مطلقة) فقد جردنا الله من صفاته، ولكن إن قلنا إنه ثالوث (في وحدانية جامعة)، فنحن نظهر صفاته». وهذا ما يعلم به الكتاب المقدس.

تضحية المحبة

إن المحبة الحقيقية لا تنظر إلى ما تستطيع أخذه من المحب، ولكن ما تستطيع أن تعطيه وتبذله، فالمحبة معطاءة باذلة وليست مستحوذة ناهمة. والله حينما أحب، بذل أغلى ما عنده «ابنه الوحيد». والمسيح، كمن هو المعبر عن الله، ضرب أعظم الأمثلة في البذل والعطاء، فقيل عنه «أخلى نفسه» (في 7:2)، «أسلم نفسه» (أف 2:5 ، 25)، «سكب للموت نفسه» (إش 12:53). وقد عبر أحدهم قائلاً: «في المسيحية، الله بذل ابنه من أجل البشر، وفي الديانات الوثنية، البشر يبذلون أنفسهم في سبيل معبودهم» (2 مل 27:3).

ظل المسيح طوال حياته يعمل ليرفع معاناة البشرية، إلى أن أنجز كل العمل على عود الصليب، معلناً بملء الصوت «قد أكمل» وهنا فقط نستطيع أن نقول: «إن الرجل لم يهدأ حتى تمم الأمر»، و «الرب إلهك في وسطك جبار يخلص، يبتهج بك فرحاً، يسكت (أو يستريح) في محبته»(صف 17:3).

فتلك الأيادي التي صنعت وأتقنت وأبدعت في (تكوين 1)، لم تكن تستطيع أن تهدأ وتستريح إلا بعد فداء الخليقة وعتقها من يد المغتصب في يوحنا 19. فهناك في الجلجثة «نكس الرأس» فأراح الرأس المتعبة، «وأسلم الروح» وقد استراحت على تتميم العمل وكماله.

فخلاصة القول: إن محبة الله هي سترنا وهي قاعدة رجائنا وهي مركز أفراحنا (1 بط ومصدر إيماننا وأساس نعمته الغنية المتجهة نحونا. وحبنا هو صدى وانعكاس لحبه لنا (1 يو 19:4)، ويقيننا أنه لا شيء يقدر أن يفصلنا عن هذه المحبة التي في قلبه من نحونا (رو 39:8)، فهي ترسل بأشعتها الدافئة فتحصر كل جوانب حياتنا (2 كو 15:5)، وكل الذي علينا أن نحفظ أنفسنا في نطاقها فنستمتع بدفئها ونتلذذ بفيضها.