العودة الى الصفحة السابقة
بركات الألم

بركات الألم

القس. جون نور


ينقسم البشر في موقفهم تجاه الألم إلى ثلاث فرق:

الفرقة الأولى: فرقة المجدفين الذين يستفزهم الألم ويثير أعصابهم فيجدفون على إله السماء، ونضع على رأس قائمة هؤلاء، زوجة أيوب التي قالت له بحسب الترجمة الحرفية للكتاب المقدس «العن الله ومُت».

والفرقة الثانية: فرقة المتذمرين، هؤلاء يثيرهم الألم ويمسكهم الضمير، فيتأرجحون بين القوتين، فلا يخضعون لمشيئة الله ولا يجدفون عليه، وإنما يتذمرون على تصرفات الله معهم. على رأس قائمة هؤلاء الشعب اليهودي الذي قضى رحلته في البرية في سلسلة تذمرات فكان السؤال الدائم الذي رددوه : لماذا أخرجنا الرب ليميتنا وأولادنا بالجوع والعطش في البرية؟

والفرقة الثالثة: فرقة الخاضعين لمشيئة الله، المسلمين لإرادته – وأقول المسلمين لا المستسلمين – فهناك فرق بين التسليم والاستسلام هؤلاء الذين يستفيدون من الألم ويجنون منه أفضل الثمار. ما أشبههم بالقوقعة التي تدخل حبة رمل إلى داخل صدفتها فتؤلم جسدها الرقيق، لكنها بدلاً من أن تبكي متذمرة من شدة الألم، تفرز مادة من جسدها في موضع الألم، وتتبلور هذه المادة قليلاً قليلاً إلى أن تصير لؤلؤة ثمينة ..

وهكذا نرى أن الألم هو الدافع الرئيسي الذي يدفع شعب الله إلى الالتجاء إليه، وما زال هو الدافع الرئيسي الذي يدفع الكثيرين إلى الله في هذه الأيام.

هلم بنا الآن ندخل إلى مقادس كلمة الله، لنرى فيها صوراً حية للبشر الذين عاشوا على أرضنا ودفعهم الألم إلى الرجوع والالتجاء إلى الله.

قصة يونان تمثل هذه الحقيقة أروع تمثيل فقد حاول يونان أن يهرب من تأدية الرسالة التي سلمها له الرب. فركب سفينة ذاهبة إلى ترشيش، فأرسل الرب ريحاً شديدة إلى البحر حتى كادت السفينة تنكسر، وانتهى الأمر بإلقاء يونان في البحر، وعندئذ ابتلعه الحوت العظيم، وهناك في بطن الحوت في عمق الألم والظلام يعود يونان إلى الله ويكفيني أن أذكر كلماته التي نطق بها ففيها من القوى والتأثير الشيء الكثير، فصلى يونان إلى الرب إلهه من جوف الحوت وقال «دعوت من ضيقي الرب فاستجابني صرخت من جوف الهاوية فسمعت صوتي. لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار، فأحاط بي نهر. جازت فوقي جميع تياراتك ولججك … قد اكتنفتني مياه إلى النفس أحاط بي غمر. التف عشب البحر برأسي .. حين أعيت في نفسي ذكرت الرب فجاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك» (يونان 2:2 – 7)، وهكذا أعاد الألم العبد الهارب إلى إلهه.

هذه الصور جميعاً ترينا وضوح بركة الألم كطريق للرجوع والالتجاء إلى الله.

فيا من تعيش في آلامك معذباً بسهام الشكوك، وتحيا في وحدتك يائساً بائساً … ارجع إلى الله ليشفي جراحات نفسك.

إن الحياة لأبناء الله هي مدرسة للتنقية والتدريب الإعداد، وفي مرات يستخدم الآب السماوي عصا الألم الغليظة ليدرب بها أولاده ويعدهم لمراكزهم العليا في مشيئته الصالحة، فيدخلهم في أتون الألم ثم يخرجهم إلى رحب الحياة الناجحة «لأنك جربتنا يا الله، محصتنا كمحص الفضة أدخلتنا إلى الشبكة. جعلت ضغطاً على متوننا، ركبت أناساً على رؤوسنا، دخلنا في النار والماء ثم أخرجتنا إلى الخصب»(مزمور 10:66 – 12).

في الكتاب صورتان توضحان لنا بركة الألم كوسيلة للتنقية والتدريب والإعداد. الصورة الأولى هي صورة يوسف الشاب الطاهر البار، تأمله وهو في بيت والده يعقوب. كان ممتلئاً بروح الطفولة يعيش بين أحضان أبيه وهو يتيه في قميصه الملون، يعيش في عالم الأحلام، ومع هذا فنحن نراه ولداً طيباً أحبه أبوه فميزه عن باقي إخوته واختصه بمعاملة فريدة ممتازة، ونقف أمام ذلك الغلام الطيب فنهمس لأنفسنا قائلين لا بد أن العناية تحفظه من الألم، وتحيطه بسياج من الرعاية لكي لا تؤلمه أشواك الحياة. لكننا نجد أن يوسف قد اجتاز أكثر من جميع إخوته في نار الألم والظلم وذاق قسوة المجتمع الذي عاش فيه! فما السر؟!

يصور لنا كاتب المزمور آلام يوسف في هذه العبارات:« بيع يوسف عبداً آذوا بالقيد رجليه. في الحديد دخلت نفسه»(مز 17:105، 18). وفي هذه الكلمات نرى آلام يوسف، فقد باعه إخوته عبداً لجماعة التجار الإسماعيليين وباعه جماعة التجار إلى فوطيفار، وفي بيت فوطيفار تلظى بنار التجربة المحرقة، ثم اتهمته زوجة فوطيفار المستهترة بتهمة كان بريئاً منها براءة الذئب من دمه، ثم اقتادوه إلى السجن حيث «آذوا بالقيد رجليه وفي الحديد دخلت نفسه» فلماذا كل هذه الآلام؟ لقد كان الله يدرب يوسف بلا جدال، وكان يعده ليكون متسلطاً على كل أرض مصر، ولذا فقد أدخله إلى السجن ليتعلم فيه قسوة الحياة فيعطف على الفقراء الجياع، بل أدخله إلى السجن ليعرف ويدرس طبائع البشر فلا يحكم في المستقبل بحسب الظاهر بل يحكم حكماً عادلاً، بل أدخله ليتعلم درس مشاركة الآخرين في آلامهم، ويختبر آلام نكران الجميل ونسيان المعروف، نعم في مدرسة الألم عرف يوسف الحياة على حقيقتها، فقد كان في بساطة الطفولة يعتقد أن كل الناس أتقياء مثله، ولكنه بعد أن دخل مدرسة الألم، رأى الغدر والكذب والنميمة في إخوته، ورأى الإجرام في بيت السجن، ورأى النجاسة والشر في زوجة فوطيفار، فعرف أن البيوت الكبيرة قد تحمل في داخلها نفوساً دنيئة «وتعلم قبل أن يرتقي إلى مصاف العظماء أن يحفظ بيته من الاتصال بهذه القبور المبيضة التي يسكنها عظماء الأرض. وبعد هذا الإعداد الطويل ارتقى إلى مركز السلطان كما يقول صاحب المزمور بتعبيره الجميل «أرسل الملك فحله، أرسل سلطان الشعب فأطلقه، أقامه سيداً على بيته ومسلطاً على كل ملكه ليأسر رؤساءه حسب إرادته ويعلم مشايخه حكمة» (مزمور 20:105 – 22). نعم لقد رفعت التجارب والآلام ذلك الشاب من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة المختبرة، فأصبح بعد تدربيه وإعداده يعلم مشايخ مصر حكمة هي حكمة مدرسة الألم لذلك لا غرابة أن نسمع يعقوب في آخر لحظاته يتكلم إليه بهذا النشيد الخالد «يوسف غصن شجرة مثمرة غصن شجرة مثمرة على عين. أغصان قد ارتفعت فوق حائط فمررته ورمته واضطهدته أرباب السهام، ولكن ثبتت بمتانة قوسه وتشددت سواعد يديه من يدي عزيز يعقوب من هناك من الراعي صخر إسرائيل» (تك 22:49 – 24).