العودة الى الصفحة السابقة
السعادة عن طريق الوداعة

السعادة عن طريق الوداعة

القس. جون نور


ما كان الله ليرسل ابنه إلى العالم لو كان الإنسان قادراً أن يواجه أمور الحياة الأبدية لوحده. ومجيء المسيح لعالمنا برهان على أن الآب السماوي لم يكن راضياً عن شقاء البشر وتعاستهم. فلقد أرسل الله ابنه للعالم ليس فقط لكي تكون لنا الحياة الأبدية بل لكي تكون لنا الآن حياة، حياة دافقة سامية، لكي تكون لنا الحياة الفضلى.

قال المسيح: «كونوا ودعاء فترثوا الأرض». فالمسيح عرف أكثر من غيره أن الوداعة هي هبة من الله، وأنها تتأتى نتيجة للولادة الجديدة. ليس من طبيعة البشر أن يكونوا ودعاء، بل على النقيض فإن طبيعتهم تحملهم على التكبر والتفاخر. من أجل هذا كانت الولادة الثانية أي الحياة الجديدة ضرورية لكل واحد منا. ومن هنا منشأ الوداعة. إنها تبدأ من حيث يبدأ التغيير في حياتنا.

لم يقل المسيح: عليكم أن تكونوا حكماء لأن هذا هو طريق الحياة. بل قال: إن رغبتم أن تهتدوا إلى سر السعادة أو إذا أردتم أن تتلذذوا في الحياة – فالوداعة مفتاح أساسي لها.

وللنظر إلى الهدايا التي نقدمها لأولادنا. فمعظم هدايانا لهم تأخذ شكل مدافع ودبابات وطائرات. كما أن وسائل الترفيه التي وجدت لتسليتنا أخذت تتسم بألوان التقتيل والتدمير والحيل والحروب. وزادت مجلاتنا الرخيصة الطين بلّة والوقود اشتعالاً بتصويرها حوادث الإجرام، والشهوة الجامحة، والطبيعة البشرية الحيوانية. كذلك فإن كتب التسلية والفكاهة التي نضعها بين أيدي أولادنا كثيراً ما تعمل على إشاعة الفوضى الأخلاقية في دنيا الأحداث!

المسيح أخرج الدين من نطاقه النظري، واضعاً إياه على الصعيد العملي. فهو لم يستعمل عبارات منمقة للدلالة على طريقة الحياة التي ينادي بها. فالمسيح يوجه أتباعه إلى اتخاذ الوداعة منهجا لحياتهم ، فيعدهم بميراث الأرض.

نحن نقول: طوبى للأذكياء لأنهم يرثون إعجاب الأصدقاء ...

طوبى للأقوياء المعتدين بأنفسهم لأنهم يحققون نصراً ونجاحاً ...

طوبى لأصحاب المواهب لأنهم يرثون مهنة ومهارة ...

أبناء هذا العصر خفضوا من قيمة الفضيلة. فلقد أنقصنا مكانة اللطف والأدبيات من حياتنا، بحيث أخذنا نعود إلى شريعة الغاب. وما أكثر ما نغالي بالفلسفة القائلة: «الحق للقوة والبقاء للإصلح»! وهكذا يبدو أننا أغنياء بالمعرفة ولكن فقراء بالحكمة. نحن حادقون بمعرفة فنون الحرب ولكننا مفتقرون إلى الوداعة واللطف والإيمان. وكأفراد نحن ما زلنا عبيداً للغضب والمرارة، وبالتالي للإخفاق والفشل.

لكل إنسان طبعه ومزاجه، وللناس امزجة وطباع مختلفة. ولا يطلب الله من الإنسان أن يستغني عن طبعه ومزاجه بل يقول: من يروم أن يكون سعيداً فعليه أن يضبط قواه وينظمها لتغدو نافعة! وكذلك فلكل إنسان شخصية واعية، ولا يطلب من الإنسان أن يعبد نفسه أو أن يفكر دائماً بذاته. وما أشقى ما تكون الحياة إذا ما انكمش الإنسان على ذاته وسار في طريق روتيني وميكانيكي رتيب. ويهتم الله بمنح السعادة للإنسان، لذلك فهو يقول لكل فرد: أنكر أيها الإنسان ذاتك واتبعني!

كثيرون هم نزلاء مستشفيات الأمراض العقلية ذلك لأنهم فكروا بأنفسهم، وجعلوا الله أن يكون خارجاً عن دائرة حياتهم.

للإنسان صوت ولسان، وفي وسعه أن يستعملهما للخير أو للشر. في وسعه أن يستعمل لسانه للقتال وللشتم، كما أنه يقدر في الوقت ذاته أن يجعله مفيداً ونافعاً وأداة لحمد الله وتسبيحه. ويقول الرسول يعقوب: «هوذا الخيل نضع اللجم في أفواهها لكي تطاوعنا فندير جسمها كله».

ما أكثر شيوع الانتقاد بين أبناء هذا العصر. وما أسهل ما توجه سهام الانتقادات للآخرين بقصد عرقلة مساعيهم. لكن المرء ما يعتم حتى يكتشف بأنه قد أساء إلى نفسه أكثر مما أساء إلى غيره. وما أكثر الأشخاص الذين باتوا وحيدين لأنهم أبعدوا عنهم الأصدقاء ونفروهم مع أنهم في حاجة إليهم.

ولا يمكن المرء الحصول على الوادعة من تلقاء ذاته، لأن الوداعة ليست مما يحصل عليه في الكليات أو في المختبرات العلمية، ولا هي شيء نناله بالوراثة. قال يسوع:«تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم».

قال يسوع: احملوا نيري. النير نيره، ولنا أن نثق ملء الثقة بأنه سيحمل أكثر الحمل. إن يسوع، قبل أن يترك عالمنا صرح لنا بأنه سيرسل لنا المعزي ليساندنا في صعوباتنا وتجارب حياتنا. وليس هذا المعزي سوى الروح القدس الذي هو الأقنوم الثالث .. وفي اللحظة التي نولد فيها من جديد، يأتي هذا الروح ويسكن في قلوبنا. وربما لا نشعر به عاطفياً إنما علينا أن نقبل ذلك الروح عن طريق الإيمان.

الروح القدس يسكن في قلبك – وهو الذي يستطيع أن يساعدك لتكون وديعاً. وهذا الروح المعزي هو الذي ينشر محبة الله في القلوب القريبة والبعيدة، وهو ينتج ثمار الروح التي «هي محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح وإيمان وداعة وتعفف...» إننا لا نستطيع توليد هذه الثمار في معاملنا بل إن الله يصنع ذلك بطريقة عجيبة في قلوبنا بواسطة الروح القدس الذي يسكن فينا.

فليسلم كل نفسه له، وليعط القيادة لله ليتسلم هو دفة حياته. ومن يفعل ذلك يجد، بواسطة الوداعة التي ينالها من الروح القدس، السعادة التي عناها المسيح عندما قال:«طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض».