العودة الى الصفحة السابقة
بشارة المخلص المجيد

بشارة المخلص المجيد

القس. جون نور


«هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 16:3). لم تحدثنا هذه البشارة عن ثروة العالم وكنوزه، فالبشرية لم تسعد بثروتها وكنوزها. ولم تحدثنا عن العلم وأسراره، فلم يستطع العلم أن يغير طبيعة الإنسان الفاسدة. لكن هذه البشارة حدثتنا عن حاجة البشرية وندائها. عن المخلص العظيم والفادي المجيد، الذي أعلن محبة الله وسر الفداء.

قديماً تغنى الشعب بأبطاله ومنقذيه.. فهذا موسى الذي قاد شعب الرب من أرض العبودية، وذاك شمشون الذي كسر شوكة أعدائه، وهوذا داود الذي أذل جليات الجبار الذي كان يعير صفوف الله الحي... وكثيرون غير هؤلاء ممن يحفل بهم التاريخ المقدس. لكنهم جميعاً ظلال باهتة، خلاصهم مؤقت وجهودهم عابرة، فباطل هو خلاص الإنسان (مز 11:6). لكن هنا اليوم مخلصهم جميعاً، الذي حرر النفوس قبل الأجساد، وخلص الأرواح من سلطان الشر وأبدية الجحيم – إذ هو المسيح الرب، بهاء مجد الله ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، الذي صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا (عب 3:1).

وهكذا كان لهذه البشارة رنينها العذب في وسط عالم مملوء بالشر والفساد. وأشرقت هذه البشارة على نفوس كانت تتلفت متطلعة إلى بزوغ ذلك النور المجيد، واستعلان ذلك الشخص الفريد، الذي تحدثت عنه النبوات والتقاليد، وطالما انتظره الفلاسفة والمعلمون. وأخيراً جاء ذلك اليوم الأغر في تاريخ البشرية قاطبة، مبشراً بميلاد ذلك الطفل العجيب الذي دعي اسمه {يسوع} لأنه يخلص شعبه من خطاياهم (مت 21:1).

لقد كان اليهود ينتظرونه محرراً من نير الرومان، لكنه جاء مخلصاً البشرية من سلطان الشيطان. لذلك ترنمت الجنود العلوية حينما أعلنت هذا النبأ السار، وابتهجت السماء بمجيء القدوس البار آخذاً جسم بشريتنا، وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب (في 8:2). فما كانت دماء التيوس والعجول لتستطيع أن تخلص الإنسان من سلطان الخطية، وهكذا إذ أعلق على الجميع تحت العصيان والدينونة أعلن الله محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا (رو 8:5)، مجروحاً لأجل معاصينا مسحوقاً لأجل آثامنا (أش 5:53)، عاملاً الصلح بدم صليبه (كو 20:1)، إذ لنا فيه الفداء بدمه غفران الخطايا (كو 14:1).

لقد كان الجند السماوي مترفقين بهؤلاء الرعاة المتبدين، كما كانت السماء مهتمة بهذا الحدث العظيم، لذلك أوضحت لنا تفاصيل ميلاد ذلك المخلص العجيب وذكرت لنا علامة ذلك المولود الفريد.

«وهذه لكم العلامة: تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود»(لو 12:2).

يا له من تنازل فاق كل إدراك، أن ذلك المخلص الذي ينعقد عليه الرجاء وتنحصر فيه الآمال يولد في مذود حقير رقيق الحال!

ذاك الذي به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان، لم يكن له في ذلك المنزل الحقير مكان!

بل ذاك الذي سيغير مجرى التاريخ، ويحرر أسرى الخطية، يولد وديعاً متواضعاً وفقيراً معدماً!

كل هذا لأجلي يا سيدي. لكن، وإن كانت الأرض لم تأبه بمجيئك، لكن الملائكة رنمت مبتهجة يوم ميلادك.

وطالما تطلعت بنات الأشراف والرؤساء لهذا الشرف والافتخار، أن يولد منهن المسيا المنتظر، ليدثرنه بأفخر الثياب، ويفرشن له أثمن الأغطية، ويحطنه بكل عز ورفاهية. لكنه ترك القصور الشامخة المليئة بالشر والفجور، المتسربلة في حلل الكبرياء وحب الظهور، ليعطي هذا الشرف الرفيع لتلك العذراء الطاهرة البتول القديسة مريم التي تطوبها جميع الأجيال.

ولقد كان المنتظر أن يعلن الملائكة هذه البشارة الخالدة إلى رؤساء الكهنة وأحبار اليهود، إذ هم الأمناء على الشريعة والحراس على التراث الخالد، لكن الملائكة أعلنت البشارة لجماعة متواضعة من فقراء القوم ورعاة الغنم، إذ أن الله يقاوم المستكبرين أما المتواضعين فيعطيهم نعمة (يع 6:4).

بل لقد كان المنتظر أن تردد ردهات أبهاء الهيكل وتابوت العهد أصداء هذه البشارة الخالدة، لكن الهيكل قد أصبح بيتهم ولم يعد بعد هيكل الرب، حتى قال لهم السيد قولته المشهورة: «هوذا بيتكم يترك لكم خراباًَ» (مت 38:23). لذلك ترك الملائكة أورشليم بهيكلها وذهبوا إلى بيت لحم الحقيرة المتواضعة.

بل لقد كان اليهود عموماً يتوقعون مجيء المسيا ممسكاً بالتاج والصولجان، لكنه جاءهم في مذود البقر مكان المذلة والهوان. لذلك رنمت الملائكة لأن خلاص الله قد أصبح في متناول كل إنسان، لا فرق بين غني وفقير، أو بين عظيم وحقير، إذ أن الجميع متبررون مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح (رو 24:3). ذلك ليس منكم، هو عطية الله، ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد (أف 8:2).

على أن مسلك هؤلاء الرعاة يدعو إلى الشكر والإعجاب، لقد صدقوا هذا الخبر وجاءوا مسرعين إلى بيت لحم، وهناك تحققوا الأمر ورجعوا يمجدون الله ويسبحونه.

وأنت لست في حاجة لأن تذهب إلى بيت لحم لتسمع نشيد الملائكة، كما أنك لست محتاجاً إلى الاشتراك مع الرعاة في رحلتهم في تلك الليلة المظلمة، لكنك بكل تأكيد تستطيع الآن أن تتمتع بميلاد المسيح في قلبك، محرراً من سلطان الخطية، ومفدياً من أثقال الدينونة، وسائراً في موكب النصرة، فتبتهج بأفراح تلك البشارة الخالدة.