العودة الى الصفحة السابقة
حكمة الله في الألم

حكمة الله في الألم

القس. جون نور


ما هي حكمة الله في آلام البشر؟! إن كثيراً من آلامنا يمكن تفسيرها وتعليلها ومعرفة ينابيعها، فمشكلة الفقر مثلاً ليست المسئولية فيها على الله، بل أن كثيراً من الفقر المتفشي في معظم بلدان الدنيا يعود إلى نقص في النظم الاجتماعية والاقتصادية، أو إلى جشع الأغنياء وأنانيتهم، وخلو قلوبهم من الرحمة على بني الإنسان إخوتهم، فهم يملكون الذهب ويكنزونه ويتركون إخوتهم يتضورون جوعاً وعرياً. أذكر بهذه المناسبة قصة غلام سلم حياته للمسيح وكان غلاماً مسكيناً يرتدي ثياباً رثة فقابله صديق غير مؤمن وتهكم عليه قائلاً «اسمع يا ولد لماذا لا تطلب من المسيح رداءً جديداً يليق بكرامتك؟» وهنا أجابه الغلام في جرأة «إن المسيح ليس مسئولاً عن هذا لأنه أوصى إخوتي الأغنياء أن يستروا عريي وهم قد نسوني، فالمسئولية ليست على المسيح مخلص بل على إخوتي».

وعلى هذا القياس يمكننا القول أن كثيراً من الآلام تقع مسئوليتها على البشر، فالنظم الاقتصادية هي المتسببة في آلام الفقر، والآباء النجسون هم السبب المباشر في أمراض أولادهم الوراثية التي تتسبب عن النجاسة، واللصوص، والخداعون، والمراؤون هم علة آلام كثيرة في هذه الأرض.

يعلن لنا الكتاب أيضاً أن الله قد يسمح في حكمته بآلامنا ليذكرنا بخطايانا السالفة: وسأكتفي بأن أذكر في هذا المقام بضعة آيات من الكتاب، ففي سفر التكوين نرى إخوة يوسف وهم واقفون أمامه في موقف الاتهام، والرجل يحاول أن يعصرهم ليعلن أفكار قلوبهم وإذا بهم يلتفتون بعضهم إلى بعض قائلين «حقاً إننا مذنبون إلى أخينا الذي رأينا ضيقة نفسه لما استرحمنا ولم نسمع لذلك جاءت علينا هذه الضيقة»(تك 42: 21).

وفي سفر الملوك الأول نجد تلك الأرملة التي نزل عليها إيليا ضيفاً وقد مرض ابنها واشتد مرضه حتى لم تبق فيه نسمة، وهنا أيقظ الألم ضمير تلك الأرملة، وأعاد إليها صوراً من آثامها الماضية فصرخت إلى إيليا بالدموع قائلة «مالي ولك يا رجل الله. هل جئت إليّ لتذكير إثمي وإماتة ابني؟!»(1 ملوك 18:17).

والكتاب المقدس يعلن لنا سراً ثالثاً في حكمة الألم، هو أن الألم قد يعطي لنا ليعلمنا أن لا ندبر لأنفسنا أي تدبير في برنامج هذه الحياة دون رضى الله: فلوط قد اختار لنفسه كل دائرة الأردن لأنه رأى أن جميعها سقى كجنة الرب كأرض مصر، ولم يستشر الله في اختيار مكان الحياة، فكان أن جاء الألم فخرج من سدوم يحمل بين جنبيه قلباً محطماً مدمي على بناته اللواتي أحرقتهن نيران غضب الله، وعلى زوجته التي انقلبت إلى عمود ملح أصم، وعلى أمواله التي قضى العمر في جمعها. وكأن الله يعطيه هذا الدرس القاسي ليتعلم أن لا يدبر لنفسه طريقاً في برنامج الحياة دون استشارة الله.

ونرى في الكتاب سراً رابعاً وهو أن الله يسمح في حكمته بآلامنا لنكون أرض معركة بينه وبين الشيطان يسجل بنا انتصاره الأبدي في القديسين: وسفر أيوب هو قصة الألم في حياة رجل جعله الله أرض معركة بينه وبين الشيطان، فأثبت في احتماله وصبره قوته ونصرته الأبدية في القديسين.

ونقدر أن نقول أيضاً إن الله في سامي حكمته وضع الألم في الحياة ليكون رادعاً للبشر، وعقاباً للشرير.

ولو خلا عالمنا من الألم، ما قدرت أمة أن تنتظم، ولا استطاعت حكومة أن تحكم، لأن الناس إذ يخشون القانون، يخشون في حقيقة الأمر الألم. فشكراً لله على نعمة وجود الألم في الحياة.

ويمكننا أن نقول كذلك أن الله قد أراد في حكمته أن يشوه جمال أرضنا بالآلام ليرفع أنظارنا إلى السماء الجميلة الخالية من الأتعاب: فهناك يبطل الحزن والصراخ والوجع والدموع، فلو تمتعنا في الأرض بكل ما نتمنى من الراحة وإلهنا، ولو بقي معنا هنا كل حبيب عزيز إلى القلب، ما فكرنا إطلاقاً في ما وراء ستار الحياة.

وكما أجاب السيد على الذين أتوا إليه يخبرونه أن لعازر الذي يحبه مريض، يجيب على كثير من أفكارنا «هذا المرض ليس للموت بل لأجل مجد الله ليتمجد ابن الله به» ففي كثير من آلام البشر يتمجد الله بكيفية لا ندريها نحن.

أما الآلام التي يستعصي علينا أن ندرك مغزاها، فيجيب عنها سيدنا بالقول«لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع ولكنك ستفهم فيما بعد»(يو 7:13).

بقي أن نقول إن الألم لم يكن مشكلة محيرة عند جماعة الرسل في الكنيسة الأولى، فنقرأ في سفر الأعمال أن الفريسيين جلدوا الرسل وأوصوهم أن لا يتكلموا باسم يسوع، والجلد عملية مؤلمة للنفس والجسد معاً، لكننا نقرأ بعدئذ هذه العبارة «وأما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه»(أع 41:5). فمن أجل إرضاء الرب تحول الألم إلى امتياز مجيد.

حينما يكون للألم هدف أعلى، يتحول إلى ميزة كبرى، فالشهيد يختار الألم طريقاً إلى المجد، وينظر الوطني الملتهب بالنار إلى ساحة القتال ميداناً للشرف والكرامة، لذلك ينبغي ألا ننظر إلى الألم كما هو مجرداً عن البواعث التي تسوق إليه، بل من الضروري أن نتجاهله، وينظر كل منا إلى جوهر مهمته في الحياة نظرة شاملة جامعة.

وما أولانا أن نذكر أن وراء شرور العالم ومآثمه، توجد عناية إلهية متسلطة تفوق الحكمة البشرية وتعمل في غير انقطاع.

إن واجهك الألم في الحياة فأعلم أن الرب يهيئك لمجد أسمى مدرباً إياك لتكون قادراً على احتمال المشقات.

إن الله إن سمح بوجود التجارب في دنيانا هو قال أيضاً بأنه سيجعل مع التجربة منفذ ولن يجعلنا نجتاز فيما ليس لنا قدرة على احتماله.

الألم هو وسام استحقاق يضعه الرب على صدورنا معلناً فوزنا في اختبارات الحياة لكي ما نكون مستعدين للمجد حيث سيمسح هنالك كل دمعة من عيوننا.