العودة الى الصفحة السابقة
قد سدد الدين

قد سدد الدين

القس. جون نور


«ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟...»

عندما هتف يسوع على الصليب قائلاً «قد أُكمل» كان بذلك يقدم للبشرية البائسة أعظم شيء تحتاجه، ألا وهو الفداء.

فمنذ أن طرد آدم من جنة عدن وذلك المنظر الرهيب لا يفارق مُخيّلته، منظر «الكروبيم ولهيب سيف متقلّب لحراسة طريق شجرة الحياة». وهكذا أغلق في وجه الإنسان الطريق إلى الجنة وسُدّت أمامه سُبل الحياة. ومن ذلك الوقت أخذت الأسئلة المُحيّرة والصرخات المكتومة تتردّد كل يوم قائلة: «من يعطيني أن أجده فآتي إلى كُرسيه؟...» (أيوب 3:23). «فكيف يتبرّر الإنسان عند الله وكيف يزكو مولود المرأة؟...» (أيوب 4:25).

بعد السقوط مباشرة رأى الإنسان ماذا عملت الخطية فيه، كيف دمرت شخصيته وأفسدت حياته. لقد أغرق الله العالم لكثرة شره وفساده، وكان على الإنسان أن يُدرك أن ذلك الطوفان كان بمثابة تحذير من طوفان آخر أشد وأقسى فمنذ القديم كان صوت الله ينادي محذراً «لأن غضب الله مُعلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم».

من أجل هذا كان الإنسان دائم البحث عما يمكن أن يُنقذه من حكم الدينونة. لكن دون جدوى. لم يكن هناك عمل ما ليعمله، كما لم يجد في العالم شيئاً ما يقدر أن يُنقذ به نفسه. ولقد أكدّ السيد نفسه هذا المعنى عندما قال: «ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟...» حقاً ماذا؟... حتى إذا أمكنه أن يربح العالم كله فلن يقدر بكل ما يملك أن يفدي نفسه!!

في وسط تلك الحالة المريرة من الإفلاس واليأس الشديدين، إذا بالإنسان يسمع ذلك النداء الغريب قد أكمل كانت هذه هي الكلمة التي أطلقها يسوع في نهاية الصلب وكانت تعني قد محوت الصك.. قد وفيت الدين...

أن المسيح عندما نادى من فوق الصليب قائلاً: «قد أكمل» كان قد سدد فعلاً كل ديون البشر نحو الله.

لكن كيف؟... كيف أمكن السيد أن يوفي كل هذه الديون؟... فإننا عندما نتأمل فيه وهو مُعلّق فوق الصليب نراه عارياً، ويداه فارغتان. بأي حق أطلق المسيح ذلك النداء؟.

لقد كان يسوع «حمل الله» الذي استطاع أن يحمل خطايانا في جسده على الخشبة.

وهكذا صار بيسوع الفداء لأن فيه كان الفداء. لم يكن الفداء خارجاً عنه لكنه كان فيه، في كيانه، في دمه، في حياته ونفسه. لهذا كان الفداء موجوداً ومعروفاً منذ الأزل، ذلك لأن دم يسوع المسيح كان معروفاً قبل تأسيس العالم. ومع ذلك فإن الفداء لم يُعلن إلا في ملء الزمان عندما «أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس» . وقد أكدّ السيد المسيح هذا المعنى عندما قال:«لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليخدم بل لِيخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين» .

لا عجب إذا كان الصليب هو الهدف الذي جاء من أجله المسيح«لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل، وهو آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد، أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام» (عبرانيين 10:2).

ما أعظم الثمن الذي دفعه المسيح كيما يفدينا؟ يفديك ويفديني لقد كلّفه ذلك الصليب... الصليب!!...

وإني لأخشى أن تكون كلمة الصليب قد فقدت معناها من كثرة ما استعملناها بدون وعي أو تفكير، ومن كثرة الصلبان الجميلة التي نراها مصنوعة من ذهب ومُحلاة بالجواهر والأحجار الكريمة. لقد أصبح الصليب أداة للزينة ومُظهراً من مظاهر البذخ والترف. من أجل هذا يجب أن نرجع إلى الصليب القديم، الصليب الخشن المصبوغ بالدم لعلنا ندرك الثمن. لننظر إلى الذبائح ونرى كيف كانت تتلوّى، ولنتأمل المحرقات وهي تحترق بالنيران.

إن آلام الصليب تفوق كل آلام الذبائح والمحرقات في كل التاريخ. بل تفوق كل آلام البشر بكل أصنافها وأنواعها على مدى العصور.

كان الهدف من الفداء ليس مجرّد أن ننجو من الدينونة لكن أن ينقلنا من الموت إلى الحياة. ولقد أكدّ السيد هذا المعنى عندما قال:«الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يوحنا 24:5).

كان السيد يعلم أن دمه وموته وفداءه الذي أكمله فوق الصليب، لن يُنقلنا من الموت إلى مجرد الحياة، بل سوف يولد فينا الطاقة التي تدفعنا إلى عمق الشركة. عمق النصرة... عمق المحبة... عمق الحياة...

من فوق الصليب، كان يسوع يرى كل هذا، فإذا به في بهجة وسعادة يهتف «قد أكمل...» .في نهاية الصلب استجمع السيد كل قوته وأخذ ينادي الإنسان في حب وابتسام قائلاً: «ارجع إليّ لأني فديتك» (إشعياء 22:44) «أيها العطاش هلمّوا إلى المياه، والذي ليس له فضة، تعالوا واشتروا وكلوا... لماذا تزنون فضة لغير خبز، وتعبكم لغير شبع» (إشعياء 1:55 و2).

«لا تخف لأني فديتك... دعوتك بإسمك. أنت لي... إذا اجتزت في المياه فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك... إذا مشيت في النار فلا تلدع، واللهيب لا يُحرقك...».

. (إشعياء 1:43 و2) «لا تخف لأني معك... لا تتلفت لأني إلهك... قد أيدتك وأعنتك وعضدتك بيمين بري» (إشعياء 10:41).

من فوق الصليب شرب السيد كأس الدينونة عن آخره، ليقدم للإنسان كأس الفداء... كأس الخلاص... كأس الشركة... كأس المحبة... وهو ما زال في حبه يقدم هذه الكأس. لكل إنسان قائلاً:

«قد أُكمِل... قد أُكمل...» .