العودة الى الصفحة السابقة
من هو يسوع (1)

من هو يسوع (1)

القس. جون نور


يسوع المسيح، شخص جاء إلى عالمنا وعاش على أرضنا قبل حوالي ألفي سنة. كان فقيراً بسيطاً، لم يكن فيلسوفاً، ولكن شوامخ الفلسفة والفكر تتضاءل أمام سمو تعاليمه. لم يكن زعيماً سياسياً، ولا مُصلحاً اجتماعياً، ولا صاحب مذهب اقتصادي، ولكن أشهر رجال السياسة والاجتماع والاقتصاد يتصاغرون جميعاً أمام روعة تعاليمه. لم يكتب كلمة ولم يكد يفعل في الظاهر شيئاً، ومع ذلك فما من قول عظيم في الدنيا إلا وفيه صدى لصوته، وما من عمل صالح إلا ومنه يستمد صلاحه. لم يُشهر سيفاً، ولم يسيّر جيشاً، ولا قاد غزوة، ولا افتتح بلاداً، ومع ذلك فهو أعظم من الملوك والقوّاد والفاتحين. عنده يقف التاريخ كله، وبه تؤرخ أحداث العالم، منذ كان العالم وإلى أن يزول. كاد يكون نكرة في زمانه، ولكنه منذ فجر الخليقة هو محورها، إليه متّجه اليهودية، وعليه تقوم المسيحية، وإلى أشرف مكان يرفعه الإسلام، وبذكر اسمه تتشرف التوراة والإنجيل والقرآن جميعاً. ما من أحد على الأرض، سواء أكان من غير أتباعه، أو من أشدّ خصومه، إلاّ وينحني أمام عظمة تعليمه وخُلقه وسيرته. ذاك هو المسيح.

ليس من شخص، على الإطلاق، كُتب فيه ما كُتب في المسيح، إذ هناك الملايين من الكتب والمجلدات والموسوعات التي تتحدّث عن حياته وتعاليمه وأعماله.

عندما نتأمل في شخصية المسيح، نتساءل مَن هو يا ترى؟ إنسان من لحم ودم، إنسان من فلسطين، شرقي الملامح، سامي القسمات، قويّ البُنية، جميل الطلعة، بل هو «أبرع جمالاً من بني البشر. انسكبت النعمة على (شفتيه)، لذلك (باركه) الله إلى الأبد» (مزمور 2:45). في بلادنا وُلد في مدينة بيت لحم، وعلى أرض بلادنا نشأ وترعرع. ظلّ في الناصرة فقيراً وضيعاً حوالي ثلاثين عاماً، بعرق جبينه يأكل خبزه، ومن قدومه ومنشاره يعيش، لقمته من قمح وزيتون ولبن بلاده، ومرقده حصير بسيط وفراش متواضع يفترشه في منامه. ثم انطلق ينادي بالبشرى ثلاث سنوات، يجوب أرض فلسطين من سفوح جبل الشيخ شمالاً حتى حدود الصحراء جنوباً، ومن سواحل البحر المتوسط غرباً إلى ما وراء نهر الأردن شرقاً. من هذه البقعة استمد أمثاله الرائعة يقرب بها تعاليمه السامية إلى الأذهان: الزارع ينثر حبّه السخي في الأثلام الطويلة التي خطّها محراث ربما كان يسوع قد قام بصنعه، الصيّاد يُصلح شباكه على الشاطئ أو في السفينة، المرأة تضع الخميرة في العجين، العامل يقف في الساحة ينتظر من يستأجره، الراعي يتفقّد قطيعه، ويدعو خرافه بأسمائها، ثم يسير أمامها فتتبعه لأنها تعرف صوته، فيما هي تنفر من الغريب لأنها لا تعرف صوت الغرباء. زهور الحقل وزنابق البرّ وطيور السماء، كلها من أرضنا ومن بلادنا اتخذها يسوع، أمثلة من واقع الحياة.

لقد كان يسوع رهيف الحس، رقيق الذوق، يرتاح إلى الصداقة المخلصة، ويبقى على الوفاء حتى لصديق خائن. يعطف على المرضى والبؤساء، ويناصر مستضعفي الأرض المستغلين المغلوبين على أمرهم. كان يسوع يشارك أبناء الشعب أفراحهم وولائمهم وأعراسهم على غير تزمّت، ويشاطرهم أحزانهم، فيذرف الدمع على قبر صديق، ويمسحه من عين والد مفجوع، أو أم حزينة، أو امرأة ملهوفة، ويبكي على مدينة كان شعارها التصلّب والتكبّر والعمى الروحي رفضت الأنبياء والمرسلين. يحنو على الصغير، ولا يترفّع عن ملاطفة الأولاد. لا يهادن الخطية في شيء، ولكنه يعطف بحنو لا يوصف على الخاطئ الضعيف، المتلمّس طريق التوبة لتقويم السيرة. يدافع عن المرأة الساقطة المسكينة في وجه الظالمين المُرائين، لأنه وحده العارف ما في قلوب هؤلاء وتلك. يُضطهد ظلماً وتقسو عليه يد الجلاّدين ويُقدّم إلى الصلب، ورغم ذلك، كان يصلي لمن صلبوه وعذّبوه طالباً الغفران لهم.

كان يسوع يمثّل أسمى أبعاد الإنسانية، لا يُدانيه في ذلك أحد، حتى أنه وحده من جميع الذين مرّوا على أرضنا سُمي «ابن الله». هكذا سمّاه الأنبياء من قبل، وهكذا هو سمّى نفسه. إنه الإنسان في أسمى تجليات تحقيقه، ولكنه أيضاً الإنسان في أقصى وضاعته ومهانته. لقد كان واحداً من إخوته البشر، مثلهم في كل شيء ما عدا الخطية (عبرانيين 15:4)، فخبر في نفسه الجوع والعطش، والتعب والتشرّد، والحرمان والعذاب، وعرف حسد الحسّاد، وكيد الأعداء، وخيانة الصديق، والتنكر للحب، وتخلّي الأصحاب في المحنة، وذاق طعم السخرية، وشرب كأس الإهانة والظلم والتعسف حتى الثمالة.

إنه في إنسانيته ذلك «العبد» الذي أنبأ الله عنه بلسان النبي أشعياء قبل مئات السنين في التوراة «هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سُرّت به نفسي، قد جعلت روحي عليه فهو يخرج الحق للأمم... هوذا عبدي يتشوّه منظره أكثر من الإنسان وصورته أكثر من بني البشر... مزدرى ومخذول... أخذ عاهاتنا وحمل أوجاعنا...» (إشعياء 1:42 – 14، 13:52 – 15). إنه الإنسان، كل الإنسان، في أعلى رفعته وانطلاقه، وأدنى وضاعته ومحدوديته، إنه وحده الإنسان المُطلق، وحده «ابن الإنسان».

يسوع يبيّن لنا أنه هو سيّد الحياة والموت، وأنه هو القيامة والحياة. إنه هو الألف والياء، البداية والنهاية، وإن ما يصنع الآن ما هو إلاّ رمز مسبق لقيامته هو، ولقيامة البشر يوم القيامة، أي يوم الدين في اليوم الآخر.