العودة الى الصفحة السابقة
ما هي الديانة الحقيقية

ما هي الديانة الحقيقية

جون نور


(تعالوا يا مباركي أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم لأني جعت فأطعمتموني , عطشت فسقيتموني .كنت غريبا فأويتموني. عرياناً فكسوتموني. مريضا فزرتموني. محبوساً فأتيتم إليّ… الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم) متى 34:25-40.

جاءت هذه الكلمات في خاتمة الخطاب العظيم الذي نطق به المسيح حين اقتربت خدمته على الأرض من نهايتها، والذي وجّه به أفكار سامعيه إلى الدينونة.

وكان يحيط به آنذاك جمع من الفقراء، والمرضى والبؤساء، الذين كانوا يجلسون على مفارق الطرق أو يتسكعون في الأزقة، يسألون المارة {حسنة لوجه الله!}.

فاستمد المسيح من بؤسهم ألواناً لتصوّره عن الدينونة. ووضع بهذه الصورة أساساً للعناية بالمعوزين والأيتام والمرضى.

نرى من هذا أنّ أعمال المحبة المسيحية، والأعمال الخيرية، هي جزء، مكمّل للرسالة التي تنادي بها المسيحية. وسيطالب بها المسيح في يوم الدين.

غير أنّ المسيحية لا تنحصر في أعمال المحبة، في محبة القريب، بل تتعداها إلى أكثر من ذلك. المسيحية زمالة وشركة، أو علاقة وطيدة بالله. ومحبة القريب فرع من فروعها.

في وسع الوثني، البوذي، والكنفوشي والبرهمي وغيرهم أن يمارسوا أعمال الرحمة بطريقة مدهشة. ولكنّ علاقة المسيحي بالله تختلف عن علاقة الآخرين به لأن المسيحية هي قبل كل شيء، الإيمان بالمسيح المنقذ.

الإيمان بالمسيح هو النبع النقي الفيّاض. أما محبة القريب، فهي مجرى هذا النبع. الإيمان بالمسيح هو الشجرة، أما محبة القريب، فهي ثمار هذه الشجرة.

ومما يسترعي الانتباه أنّ المسيح لم يتكلم في هذا الفصل عن عقائد الدين. ولا عن قوانين الإيمان، ولا عن أنظمة الكنيسة، ولا عن الإعتراف، ولا عن القداديس، ولا عن خدمات العبادة، ولا عن الشركة المقدسة، ولا عن المعمودية، بل عن أعمال المحبة:

{لأني جعت فأطعمتموني. عطشت فسقيتموني. كنت غريباً فآويتموني. عرياناً فكسوتموني. مريضاً فزرتموني. محبوساً فأتيتم إليّ}.

العالم بحاجة إلى المسيح الإنساني، المسيح الفقير، المسيح المتألم، المسيح المصلوب، أكثر من حاجته إلى المسيح الطقسي، المسيح التقليدي، المسيح الرمزي.

فليست العبرة في صلوات نتمتمها. ولا في ألفاظ دينية نرددها. ولا في مظاهر تقوية تبدو على وجوهنا. ولا في انتمائنا إلى هذه الكنيسة أو تلك. بل العبرة كل العبرة، في قلوبنا التي تنبض محبة وعطفاً على من يحتاجون إلى مساعدتنا.

إنّ محبة الله، دون محبة الإنسان، هي محبة مشكوك فيها. محبتنا لله الذي لا نراه، بدون محبتنا لأخينا الإنسان الذي نراه، هي محبة خيالية مبتورة لا قيمة لها عند الله. وفي هذا يقول الكتاب المقدس: {لأنّ من لا يحب أخاه الذي أبصره، كيف يستطيع أن يحب الله الذي لم يبصره؟} (1 يوحنا 20:4). ولنا هذه الوصية منه: {إنّ من يحب الله، يحب أخاه أيضاً} (1 يوحنا 21:4).

ينفق العالم كل عام آلاف الملايين من الدولارات على التسلح. بينما يكفي 5% فقط من هذا المبلغ الهائل، لتأمين الخبز لجميع سكان العالم لعام كامل.وثمن صاروخ بسيط يكفي لبناء عشرة مدارس أو مئة منزل. يتضور جوعاً كل عام أكثر من 40 مليون من البشر و 600 مليون طفل معرضون لسوء التغذية، يفتقرون إلى عناية طبية، وإلى تعليم. بينما تُنفق المبالغ الطائلة على ما لا طائل له. إنّ الله سيسأل المسيحيين عن هؤلاء في الدينونة. إنه لا يسألهم عن القضايا اللاهوتية والقواعد الدينية، بل يسألهم عن الغذاء والكساء الذي يقدمونه لهم. إنه يسأل عن العناية التي تبذل في سبيلهم.

إن خدمة القريب التي علّمنا إياها المسيح هي الحل الوحيد للمشاكل العالمية. إنّها الخدمة التي تشفي العالم من الأنانية، والبغضاء والظلم. الخدمة التي تجمع ما تفرّق، وتبني ما تهدّم، وترفع من عثر وسقط. الخدمة التي تعيد الأمل والرجاء إلى الملهوفين، وإلى الذين طعنتهم الأيام بحرابها ومزقتهم بنصالها.

ولا تنحصر الخدمة التي علّمنا إياها المسيح في إنسان دون آخر، بل هي خدمة عامة شاملة تضم تحت لوائها جميع الأجناس وجميع الأديان وجميع المذاهب. إنّها كالشمس المشرقة ترسل أشعتها على البيض والسود وجميع السادة والعبيد، على الكبار والصغار، على الأغنياء والفقراء، على المرضى والأصحاء.

إنّ ابن الإنسان يقابلنا في كل محتاج. ولذلك فإن خدمة القريب هي خدمة لله. ولذلك علمنا المسيح أن نمارس أعمال الرحمة لجميع المتضايقين والمتألمين الذين نلتقي بهم على دروب هذه الحياة.

ويجدر بنا إزاء هذا كله أن نذكر أنّ هنالك شفقة جارحة، شفقة تجرح الشعور وتقتل النفس. وشفقة تطبّل وتزمّر، وأخرى تئنّ وتتذمر. إلاّ أنّ المسيح يمقت هذه الشفقة. ذلك، لأن من يحب الآخرين حباً بالمسيح لا يشعر بالتضحيات التي يقوم بها، ولا تدري يسراه ما تصنع يمناه.

يحتاج الضعفاء إلى مزيد من عطفنا وحدبنا وحبنا، وإحترامنا لهم. وليس ثمة خطية يقترفها المسيحيون أبشع من خطية التقلب والطعن ونقل الأراجيف، وتطلعهم بأنفة وكبرياء إلى الذين ضلوا السبيل في متاهات الحياة، بدل أن يبذلوا ما في وسعهم لإرجاعهم إلى النهج القويم الذي يرضي الله. أولاً يقول الكتاب المقدس: {من أنت أيها الإنسان، لتدين غيرك؟} ألا تعلم أنك ستقف أمام الديان الأعظم، لتقدم حساباً عن كل ما فعلت؟!

أولاً يقول المسيح نفسه: {لا تدينوا، لكي لا تدانوا‎!؟} (متى 1:7).

{كونوا رحماء، كما أنّ أباكم أيضاً رحيم؟!} (لوقا 36:6). {بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم؟} {الحق أقول لكم، بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم؟}.