العودة الى الصفحة السابقة
المسيحية والعنف

المسيحية والعنف

القس. جون نور


لا شك أن ظاهرة العنف التي تجتاح العالم في هذه الأيام، وخاصة بلاد الشرق الأوسط، ظاهرة تدعو إلى التأمل. فلقد أصبح الإنسان يقتل أخيه الإنسان بشكل لم يحدث من قبل، في أقدم العصور تخلفاً. فالقتل اليوم ليس لأجل قضية ولا يوجه ضد أعداء، بل القتل يتم لشهوة القتل، ويوجه ضد أناس لا علاقة لهم بقضايا، كراكبي طائرة أو سفينة أو مشاة في شارع أو مرتادين في مقهى. وقد يوجه ضد إنسان ينتمي إلى فكر معين أو جنس معين أو وطن معين، دون أن تكون له مواقف تستدعي القتل. فهو يقتل لمجرد الانتماء، وهو ما يسمى بالقتل على الهوية.

وموقف المسيحية من العنف أخذ عليها لا لها. فلقد ظن الكثيرون أن الضعف الذي تبديه المسيحية في تعاليمها، لا يصلح في مقاومة العنف الذي يكتوى العالم بناره اليوم، وإن كان البعض يطلقون على هذا الضعف تسامياً - تأدباً منهم - بقولهم إن سمو تعاليم المسيحية لا تصلح في مجتمعات اليوم.

لكن المتأمل جيداً في كلمات المسيح التي فيها يتعرض لظاهرة العنف، لا يجد فيها أي مسحة من الضعف، بل يكتشف فيها قوة غير عادية لنزع بذور الانتقام من داخل الإنسان، وعلاج العنف بصورة مثلى. ودعونا نقرأ ما قاله المسيح: سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضاً. ومن سخرك ميلاً واحداً فأذهب معه اثنين. من سألك فأعطه. ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده. سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. أما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم.

المسيح هنا يقول إن التجاء شخص ما إلى العنف لتوفير احتياجاته أو فرض آرائه ليس من الإنسانية في شيء، ولا يلجأ إنسان إلى العنف ألا تحت ضغوط اجتماعية ونفسية واقتصادية رهيبة. فبدلاً من أن تدين الضارب وتضربه أي تعاقبه، وبهذا تنتهي المشكلة ظاهرياً، سواء بردعه أو بمنعه عن الضرب غصباً فمن الأصوب، أن تعالج ظاهرة العنف ذاتها، وذلك بأن تمتص الضربة الأولى. فالذي يلجأ للضرب أو الاغتصاب أو تسخير الآخرين، يحتاج إلى عطف لأنه يتصرف بدون عقل كحيوان، ويحتاج إلى من يمتص غضبه ثم يعالجه بعد ذلك. إن امتصاص الضربة الأولى ينزع بذور الانتقام من دواخلنا، ويدعونا للتفكير في احتياجات من يلجأ إلى العنف، سواء احتياجه للثقافة أو للعمل أو للمال. ولذلك يقول المسيح: (من سألك فأعطه). ولم يوضح ماذا سأل وما الذي تعطيه له. إن المسيح يقول (أعطه) ما ترى أنه في حاجة إليه، ربما احتياجه لا إلى ثوب بل إلى إحساس بالأمان... وربما إحتياجه لا إلى ضرب أو تسخير، بل إلى حب وانفتاح وعطاء ذات.

إن مقابلة العنف بالعنف لن يحل المشكلة، بل يزيدها تعقيداً. والمسيح يقول بدلاً من أن ترد بالضرب وتعفي نفسك من المسئولية، فكر في احتياجات من يلجأ للعنف، إن الذي يريد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، أترك له الرداء أيضاً، لأن دفاعك عن الثوب هو دفاع عن فكر خاطئ أو موقف خاطئ للمجتمع ولك تجاه هذا الشخص. وهذا الموقف الخاطئ هو الذي دفع هذا الإنسان لأن يعتدي عليك ويأخذ ثوبك. لذلك عليك أن تعطيه الثوب والرداء ليهدأ، ويكون هذا اعترافاً منك بخطأ موقفك كشخص وشريك لخطأ مجتمع. ثم عليك أن تهدأ وتقيم حواراً مع نفسك للإجابة على عدة أسئلة هامة جداً: لماذا خاصمني؟! لماذا أراد ثوبي؟ لماذا لجأ للعنف لتحقيق هذا؟!

والسؤال الملح الآن، هو كيف يصل الإنسان إلى هذا المستوى من النضج؟! والمسيح لم يترك هذا السؤال معلقاً بلا إجابة، بل قدم إجابته بحسم وموضوعية، فقال لكي يصل الإنسان إلى هذا المستوى الرفيع من الفكر والروحانية عليه:

أن يثق الإنسان المؤمن بذاته وبسلطانه

(سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك... لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين).

إن عدم مقاومة الشر وامتصاص نوبة العنف، لا يقدم عليها إلا إنسان واثق بذاته واثق بسلطانه، فهو ابن لأب يشرق على الجميع مهما كان موقفهم منه، ويمطر ‘على الكل دون تمييز. والثقة بالذات والسلطان ترفع المؤمن فوق القانون الطبيعي. والسمو فوق القانون يأتي نتيجة الثقة والإحساس بالسلطان.

فلكي نحقق الهدف من هذه الوصايا علينا أن نضيق الفارق بين ما نفكر فيه وما نمارسه. إن الفكر هو (لا تقاوموا الشر)، والممارسة هي كيف نحقق هذا رغم الاحتكاك البدني والعنف المادي والنفسي. وما ذكره يسوع من إدارة الخد وترك الرداء مجرد أمثلة، وعلينا نحن في عصرنا الحديث، الذي لا يوجد فيه رداء أو تسخير، أن نترجم (لا تقاوموا الشر) الترجمة المناسبة، في مواجهة الشرور العصرية، كالضغط النفسي وضغط الإعلام والحرمان من وظيفة أو ترقية...

وليس الغرض فقط أن نرتفع نحن كبشر ونسمو بعدم مقاومة الشر، بل أن نقضي على الشر بصورة إيجابية واضحة، ويتم ذلك بعدم المقاومة. فالهدف هو محاربة الشر والقضاء عليه بصورة يومية ومتكررة.

إن الطريق العادي الذي يسلكه الإنسان عندما يعتدي عليه هو الانتقام. فاللطم يقابله تلقائياً لطمة مضادة. وهكذا. لكن المسيح هنا يقول لا تسير في الطريق العادي الذي يسير فيه كل البشر. فإن كنت تريد أن تطهر ذاتك من الانتقام خذ الطريق المضاد؛ لا تقاوم.. حول الآخر.. اذهب معه اثنين... أعط ولا ترد أحداً.. إنه الطريق المضاد للانتقام الشخصي... إنه تدريب روحي ونفسي لتغيير شخصياتنا والسمو بها. إن المسيح يدرب أتباعه هنا لتكون لهم نظرة جديدة للحياة، والأشخاص لكي تتطور شخصياتهم، ويقتلعوا جذور الانتقام من قلوبهم، الذي هو في الأصل اتجاه غريزي حيواني.

هل لنا طموح للوصول للكمال؟ إذاً لنتدرب على كيف نحب أعدائنا، وكيف نحقق الهدف من وجودنا في وسط المجتمع الذي نعيش فيه، وكيف نصلح أنفسنا والآخرين دون اهتزاز للثقة بالنفس، دون إحساس بالضعف. فنحن نقوم بهذا من موقع قوة وسلطان، وفهم وإدراك، ومشاعر وأحاسيس.