العودة الى الصفحة السابقة
يقين الصليب

يقين الصليب

جون نور


{ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً، لليهود عثرة ولليونانيين جهالة} (1 كو 23:1).

إن ميتة الصليب قد اعتبرت، دونا عن كل الميتات، ميتة خزي وعار. ولقد استخدمت القوانين الوضيعة مثل النار، والسيف، والفأس، والرجم بالحجارة، والشنق، وكأس السم، وسائل لإنهاء حياة المحكوم عليهم بالموت. ولكن هذه الوسائل ما كانت تنتقص من مقام المحكوم عليهم. وفي أحيان كثيرة كانت ترتبط بالكرامة، وما كان يحسب إنهاء الحياة بواسطتها تحقيراً أو مهانة. ولكن ليست هكذا ميتة الصليب، فضحيتها كان يشهر به، إذ كان يسمر عارياً على الخشب، ليقاسي تلك الميتة البطيئة القاسية، وسط هزء الجماهير وسخريتهم، بدلاً من إشفاقهم ومواساتهم. وهكذا اعتبر الصلب نوعاً من العار، خصص للصوص والطبقات المنحطة. وبالنسبة لليهود في زمن المسيح، كما بالنسبة للأمم على السواء، كانت ميتة الصليب ترتبط بالعار واللعنة، وليس بالكرامة والبركة. وفي نظر الناس كانت ترتبط بالضعف والجريمة. ولقد سمح الله بأن يكون هذا مفهوم الصليب لدى كافة الشعوب والأجناس، بأن يكون عاراً،. وحينما يأتي البديل العظيم في ملء الزمان أي المسيح، ليأخذ مكان الخاطئ، ليموت بدلاً عن كل الجنس البشري.

ولكننا نرى بولس، بعد مرور أربعة آلاف عام على بدء الخليقة، يتخذ من أداة العار هذه، من أداة اللعنة والتحقير، وسيلة للمجد، والقوة، والفخار. وإذا به يهتف أمام الجميع، الأممي مع اليهودي، اليوناني، والبربري، والسكيثي مع الروماني، قائلاً: {حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح ومنذ تلك الساعة أصبح للصليب القوة العظمى على الأرض، القوة الهادئة التي لا تقاوم .. التي تنتشر بلا ضجيج في الوجود، كما ينتشر النور في جحافل الظلام .. القوة التي تنتصر ، وتهدم كافة الأصنام والجهالات، ولا تقف في وجهها الفلسفات، إنها قوة فوق الطبيعية،وصدق من قال فيها قولته الصادقة المدوية: {لأني لست أستحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص}.

هذه القوة تبقى مستمرة – في سرها تبقى .. في صمتها تبقى .. في تأثيرها أيضاً تبقى. إن الصليب لم يصبح بعد حكاية قديمة، والكرازة بالصليب لم تفقد بعد فاعليتها. هناك البعض، في أيامنا، يحاولون أن يثبتوا لأبناء هذا العصر أن الصليب قد مضي زمانه وفات، وأن القبر المفتوح ليس سوى مدفنة يهودية، وأن مسيح المستقبل لا بد وأن يكون على طرف نقيض مع مسيح الماضي، والكتاب يختلف عنه كل الاختلاف، وليس هنالك من ائتلاف. لكن هذا لن يزعزع عقيدتنا. إنه يقودنا لنتمسك بالصليب أكثر، ونتعمق في معرفته إلى أعماق أكبر، كالمركز الرئيسي للإنجيل، الذي هو حكمة الله، بعيداً عن كل قال وقيل ..

دعونا نتأمل الصليب كالإعلان الإلهي، وتفسير كل أمور الله. دعنا نفحصه لنرى فيه المفتاح لشخصية الله، ولكلمته، ولطرقه، ولأهدافه. بل المفتاح الذي يفسر ألغاز الوجود، وتاريخ الكنيسة.

عن طريق الصليب أظهر الله لنا من هو الإنسان لقد عبر الإنسان عن نفسه في الصليب .. لقد أظهر ذاته، واعترف بطريق لا شعوري بمشاعره بالنسبة لله – عن سلطانه، وكيانه، وصفاته، وناموسه، ومحبته.

ومع أنه علم الله المسبق، ومشورته السرمدية، كانت تعمل في الصليب (أع 23:2)، ألا أن الإنسان هو الذي رفع الصليب مسمراً عليه ابن الله. وهكذا في سماح الله للإنسان بأن يظهر مشاعر قلبه، ويعبر عن كل ما في باطنه، وفي تهيئة الظروف له لذلك، عبر الإنسان عن بغضه القاتل لله ولابن الله المتجسد. وإذ رأى أن هذه أشنع ميتة يمكن أن يقدمها، رأى أنها أليق ميتة تليق بالابن الكريم! وهكذا تحدثت عداوة الإنسان الطبيعية، بغير كلمات، وعبرت عن نفسها بهذا العمل القاتل الذي أظهر به عداوته. بل إن الإنسان تفاخر بعاره وغباوته صارخاً: {اصلبه .. اصلبه}، {هذا هو الوارث، هلموا نقتله}،{ ليس هذا بل بارأباس}.

وهكذا فسر الصليب الإنسان. لقد نزع القناع عن تدينه الزائف المصطنع، وأظهر نفسية تفيض بكل ويلات الجحيم، ونيرانها، وبغضائها.

لكن ماذا يعني الصليب؟ المحبة، أم الكراهية، أم عدم الاهتمام؟. هل المحبة تطلب موت الحبيب؟ أم الكراهية والبغضاء؟ انظر إلى يديك. أنهما ملطختان بالدم. ودم من هذا؟ إنه دم ابن الله الوحيد. كلا. إن المحبة لم تقتل المسيح، وعدم الاهتمام لم يصلبه. ولكن البغضة … الكراهية .. العداوة بينك وبين الله .. عداوة العقل الجسدي الطبيعي ..

وقد تقول بأنني لا حق لي أن أدينك. وأنا لا أدينك يا أخي. الصليب هو الذي يدينك. وإني أطلب منك أن تفيق لنفسك، وتحاسب نفسك. إن الصليب يفسر أفكارك ويترجم نوازعك .. ويكشف خبيئات أعماقك.

أكرر القول بأن الصليب هو مترجم طبيعة الإنسان .. مفسر عداوة الإنسان من نحو الله .. المعلن لرفض ابنه .هذا الصليب الصارخ، بدون كلمات، عن حاجة الإنسان إلى مخلص كريم.

وزيادة على ذلك فإن في رفض ابن الله، تقييم الإنسان للابن: وماذا ترى في حياة المسيح؟ وفي موقف الناس منه؟ لقد عاش السيد ثلاثين عاماً محتقراً ومنبوذاً من الناس. وحينما بيع للعدو قدر ثمنه بثمن عبد حقير، ثلاثين من الفضة. وفي محاكمته فضلوا لصاً قاتلاً عليه. وفي الصليب تجلى تقدير الناس إلى أحط الحدود – لقد رفعوه بين لصين، فحسب في عداد المجرمين … لقد حقره البشر في حياته .. في شخصه .. في دمه .. في تعاليمه .. في إرساليته التي من أجلها جاء من عند الآب ..

أيها الأخ، ما هو حكمك على الصليب؟. هل هو جهالة، أم حكمة؟ هل ترى في طريق الخلاص الذي يقدمه، قمة الحكمة الإلهية، وسموا المحبة الغنية؟ هل كشف الصليب، كما يفسره الروح القدس لك، أعماق قلبك الذي يسوده دخان الهاوية؟ وهل قبلت كشفه لطبيعتك، وطريقته للمصالحة الأكيدة بينك وبين الله؟.