العودة الى الصفحة السابقة
الصليب هو مفسر الله

الصليب هو مفسر الله

جون نور


الكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده , مجدا كما لوحيد من الآب، مملوءا نعمة وحقا، حقيقة مباركة، فهذا ما تؤكده لنا نعمة الله.يسوع تجسد وحل بيننا . ولكن التجسد ليس كل الكتاب، بل ليس هو نصف الكتاب. وإننا لن نصل إلى تفسير كامل لطبيعة الله وتجسد الابن حتى نقف على تله الجلجثة ذلك المكان الذي صلب فيه المسيح .قبلها قيل {لأنه يولد لنا ولد}، فكان هذا فجر الإعلان الإلهي. ولكن عندما صرح المسيح وهو على الصليب قائلا {قد أكمل} كانت هذا التصريح هو الشمس في ملء قوتها. لان الصليب يكمل ما بدأه المذود.

الصليب يعلن الله كإله كل نعمة. إنه المحبة المجسمة تشع في ملء بهائها. في هذا محبة الله، إنه بذل نفسه من أجلنا (1 يو 16:3). هنا يعلن لنا الرب الإله الرحيم الفائض بالنعمة، ولا يمكن أن يكون هناك إعلان يعلن لنا محبة الله قدر هذا الإعلان. إنه إعلان المحبة التي تنتصر على العار، والتي تقهر الألم، والموت. حقاً إن الله محبة، والإنسان في تعامله مع ابن الله كان يضع محبة الله تحت الامتحان. وفي الصليب كان يضع تلك المحبة تحت أقسى صور الامتحان. ومع ذلك فقد نجحت محبة الله، واستطاعت أن تصمد. وكلما كانت الامتحانات أقسى ازداد بهاء تلك المحبة إشراقاً، وكانت لها الفرص الأكثر اتساعاً لتظهر غناها الذي لا يستقصي.

نحن نعلم عن طبيعة الله البارة بأكثر من وسيلة. نحن نتعلمها من معاملاته البارة مع خليقته التي لم تسقط، مثل الملائكة. بل إننا نتعلمها بصورة أكثر وضوحاً من معاملاته مع الخطية، كما في طبيعتنا الساقطة. بل إننا نتعلمها بصورة أكثر جلاء في تعاملها مع إنسان جمع في نفسه البر الإلهي، مع أقسى صور الخطية الإنسانية، كما كان المسيح على الصليب. ذلك لأننا على الصليب نرى بر ابن الله حاملاً لعدم بر الإنسان .. لدنس الإنسان.

وكيف يمكن أن الله يعاقب ويكافئ في نفس الوقت، في الشخص الواحد؟ كيف يمكن أن يجازي القدوس البار، ويعاقب بديل الأشرار الفجار؟ هل تعتقد بأن البر الإلهي سوف يتعامل بصورة مخففة مع الخطية، لأنها وضعت على كاهل القدوس بهذا الحد من البر، أحبه الآب بسبب بره؟. هل سيخفف العقوبة، وينقذ الابن المحبوب؟ هل سيكون هذا تصرف الله؟ كلا .. وألف كلا ..

إنه لن يسمح من حيث المبدأ بأن الخطية تصبح اقل خطأ، والشر يصبح أقل شراً، تحت ظرف من الظروف. وحتى لو وضعت على عاتق القدوس البار، حبيب الله، الابن الوحيد، على أسمى شخصية في الوجود، ينبغي أن تعامل كخطية، وليس أقل، وتعاقب كما يقع عليها القصاص في حالة الإنسان العادي. ينبغي إلا يخفف العقاب، أو تستثني حالة من القصاص.

ما أرهب بر الله، كما يفسره صليب المسيح! كم إلهنا قدوس إلى ما لا نهاية .. مجيد إلى ما لا حدود، بار بصورة لا تستقصى!. هذا هو الآب الذي بذل الابن. إن محبته لا تنبع من طيبة رخوة، أو طبيعة ضعيفة، أو تهاون مع الخطأ. إنها محبة بارة قدوسة، كما يعلنها الصليب. إن كل الكمالات الإلهية تبدو هنا في انسجام كامل: الرحمة والحق، النعمة والعدالة، كمال القداسة متحدة مع كمال المحبة. هنا نرى القاضي البار، والمسامح البار، البر الغافر، المخلص، المبرر، الممجد. الذي يمسك بعصا الناموس في الحكم على الخطية وإدانتها، ويتبنى جانب المحبة في إنقاذ الخاطئ وخلاصه.

يا صليب المسيح، حدثنا أكثر فأكثر عن نعمة الله. حدثنا عن مصالحة الأعداء، ومسامحة المذنبين، وتأكيد محبة الله القدوسة، المجانية، الفائضة، للنفوس المظلمة السوداء. تحدث إلى قلوبنا، تحدث إلى ضمائرنا، اسكب النور فينا، حطم القيود عنا، أشف كل جراحنا .. وذلك بتفسيرك لطبيعة الله، وإعلانك لمحبة الله القدوسة ..

الصليب يخبرنا أن الله قدوس، وعادل، وصالح، وإنه لا يمكن أن تسقط كلمة واحدة أو حرف واحد من كلامه حتى يكون الكل. وتكميل متطلبات العدل الإلهي هو الرسالة التي تنادي بها الجلجثة، ربما بصورة أرهب من سيناء. وما كان الصليب إلا البوق الذي ينادي بسلطة عدل الله، ونقمته على الخطية، هذه هي إعلانات الصليب.

ولم يوجد قط إعلان رهيب عن عدالة الله وتفسير واضح لها، كما كان في صليب المسيح. في صليب اللصين كان هناك إعلان لعدالة الله، ولكنه لم يكن في نصف وضوح ما أعلنه صليب ابن الله البار. فذاك الذي أكرم ارادة الله بحذافيرها في كافة بنود حياته، قد حكم عليه بأن يقاسي أكثر الكل. وكل ما أمضاه في حياته إكراماً للناموس والشرعة ، بدا وكأنه قد ذهب أدراج الرياح، ما دام قد وضع نفسه في مكان الإنسان الخاطئ، وقبل المساءلة في موضعه. لا سبيل للتهاون في حق الشريعة التي وضعها الله .

إنها بلا شفقة، ولا مهادنة، تقتضي منه الدين مضاعفا. فكما اقتضى منه السير في كافة بنودها والتمسك بكافة مطاليبها في الحياة، هكذا استلزم منه تحمل كافة عقوباتها، إذ أخذ موضع الخطاة، وكأنما لم يتمم واحداً من بنودها طيلة العمر، بل كسرها كافة.

ولكن الله، في صليب المسيح، يقول: {إنني لا أرى ما ترون، وليست أفكاري كما تعتقدون. انظروا الصليب وابني عليه متحملاً عقوبة الناموس! هل كان يمكن أن أراه على هذه الحال، أو أسلمه إلى هذه الحال، لولا صرامة الناموس؟ ألا تشاهدون كم يقاسي؟}. وهكذا نجد الله في الصليب، يقيم الناموس ويثبته، كما يفسره ويظهره، وذلك لينفي الفكرة بأن الإنجيل هو الناموس مرتخياً، والشريعة رحبة مطاطة، لكي توائم حالتنا الساقطة، ولكي يعلن لنا الإنجيل مبنياً على ناموس إلهي لا يتغير ولا يتطور.

ولكن الله أعلن لنا في الصليب قساوة الخطية، وظلمة الخطية. في الصليب أدان الله الخطية، وحكم عليها، وأظهر مدى تقييمه لها، الذي يخالف تقييم الإنسان، وتقدير الإنسان. وليس هناك ما يدين الخاطئ، ويرهب الخاطئ، ويرعب مشاعر الخاطئ، قدر رؤية الصليب. {سينظرون إلى الذي طعنوه} وينوحون عليه نوح نائح على وحيده. إن منظر الصليب هو الذي يجعل الإنسان يقول: {أرفض واندم في التراب والرماد} .. هو الذي ينشئ في القلب التوبة الحقيقية، الحزن الإلهي المقدس، الذي لا يستطيع الناموس أن يوجده. أنظر الآن إلى حمل الله المعلق على الخشبة، وليذب قلبك في أعماقك برؤيته، {إذ ضرب من أجل ذنب شعبي}، {وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا}، يقاسي تحت الناموس كل لعنة الناموس، حتى يفتدينا من تلك اللعنة الرهيبة.