العودة الى الصفحة السابقة
حياة يسوع المسيح تحقق المخطط الإلهي المرسوم

حياة يسوع المسيح تحقق المخطط الإلهي المرسوم

جون نور


عندما ندرس تعاليم المسيح في الإنجيل المقدس، ندرك تواً أن السيد المسيح جاء إلى عالم البشر لإتمام رسالة خاصة، وأنه عاش حياته وحقق عمله الخلاصي تبعاً لمخطط إلهي رُسم مسبقاً. وكان ذلك المخطط واضحاً وجلياً أمام عينيه، كما يظهر لنا منذ بدء حياته العلنية. وبالرغم من أهمية كل لحظة في حياته فإنه لم تبْدُ عليه ملامح استعجال الأمور، إذ أنه كان يملك الوقت الكافي للقيام بجميع تفاصيل مهمته الخلاصية، كذلك لم يكن مرة واحدة فريسة للظروف، بل كان دائماً سيدها وموجّهها. لم تبعده معارضة البشر عن هدفه المنشود، إذ أنه سار نحو تحقيق الرسالة التي أسندها الله إليه.

لقد كانت حياة المسيح بأكملها تسير على ضرورة إنجاز ذلك المخطط الإلهي. من هنا كان قوله في مستهل سيرته العلنية: {ينبغي لي أن أبشّر المدن الأخر أيضاً بملكوت الله، لأني لهذا قد أُرسلت} (لوقا 43:4)، ثمّ {ابتدأ يعلّمهم أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألّم كثيراً ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل. وبعد ثلاثة أيام يقوم} (مرقس 31:8) وقد أخبر ملاك الرب بعض التلاميذ بقيامة سيدهم من الموت صبيحة ذلك الحدث قائلاً لهم وللمريمات: {ليس هو ههنا لكنه قام. اذكرنَ كيف كلّمكنّ وهو بعد في الجليل قائلاً إنه ينبغي أن يُسلّم ابن الإنسان في أيدي أناس خطاة ويُصلب وفي اليوم الثالث يقوم} (لوقا 6:24-7).

في بحثنا لموضوع وجوده الأزلي السابق لتجسُّده أشرنا إلى التعبيرات التي يستعملها الإنجيل للإشارة إلى ذلك، مثل {جاء) أو {أرسل} لينجز مهمة معينة. أما بشأن إنهاء مهمته وتركه للعالم فإن ذلك كان ضرورة إلهية. والخطة الإلهية للمسيح تضمَّنت أحداثاً مثل رحلة المسيح الأخيرة إلى القدس، ورفض زعماء الكهنة وشيوخ اليهود له، ثم خيانة يهوذا، فالقبض عليه، ومنْ ثمَّ تألمه وموته على الصليب وقيامته في اليوم الثالث.

إن قيام شخص يتمتّع بمثل هذا المكانة الإلهية بمهمة كهذه، يتضمّن اتّضاعاً في كل خطوة من خطوات تلك الرسالة. لم يتعرض المسيح للإهانة من الفقر والإرهاق والجوع فحسب، بل أنه اختبر مقاومة مريرة من معارضيه والسلطات الدينية المعاصرة له. واختبر المسيح ذروة الاتضاع في آلامه النهائية وموته ودفنه. وكما ذكرنا في حلقات سابقة، كان المسيح قد أظهر اتّضاعه بأخذه طبيعة بشرية، مولوداً كطفل ضعيف، ومعرَّضاً لكافة محدوديات وضعفات الطبيعة البشرية لثلاث وثلاثين سنة. ومع ذلك فإن رسالته تُوصف في الإنجيل على أساس كون كل عنصر فيها تمّ على أكمل وجه وبصورة عفوية لا يعتريها تكلُّف. فكل فكرة وردت للسيد المسيح للتهرُّب من تتميم رسالته، باستخدام قوّته الفائقة الطبيعة وربح مجد البشر، نظر إليها كتجربة ابتدعها الشيطان. لقد جاء إلى عالمنا لإتمام رسالة واحدة وصريحة، وهي أن يكون كفارة عن الخطية بواسطة آلامه وموته. وكانت كل الأمور التي قادت إلى هذا العمل الأساسي قد رسمها الله بالذات، ولم يقدر أي بشري أن يغيّر من مجراها.

يظهر لنا بكل جلاء أن آلام وموت المسيح كان منجزات وانتصارات لا كوارث وفواجع. لقد حدد هو بنفسه، وليس أعداؤه، تاريخ وساعة الصلب. ومع أن عملية الصلب بدت غريبة ومذهلة لتلاميذه، إلا أنها لم تكن سوى تكمله لمهمة جاء للقيام بها، لفتح باب جديد وثابت لملكوت من العزّة والحياة.

ويعكس سفر أعمال الرسل جمال السلطان والتوجيه الإلهيين في حياة يسوع المسيح. فعملية الصلب مع كونها أبشع شرّ في تاريخ البشرية، أشار إليها سفر الإعمال على أنها من ترتيب إلهي مسبق. نقرأ مثلاً: {لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدّوس يسوع الذي مسحته، هيرودس وبيلاطس البنطي مع أمم وشعوب إسرائيل، ليفعلوا كل ما سبقتْ يدُك ومشورتك أن يكون} (أعمال الرسل 27:4، 28). وقد وعظ بطرس الرسول أهل القدس قائلاً: {هذا (أي يسوع) أخذتموه مسلّما بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق، وبأيدي آثمة صلبتموه وقتلتموه} (أعمال الرسل 23:2).

ثم لا يجب أن يفوتنا أن نلاحظ مدى السلطان العجيب الذي عبّر عنه يسوع المسيح في معرض أحاديثه. لقد لجأ العديد من الأنبياء الذين سبقوا مجيئه لبدء نبوّته بالقول: {هكذا يقول الرب}. لكن المسيح لم يلجأ إلى نفس الأسلوب، ولم يشر إلى سلطة خارجية عنه، بل كان يضع نفسه في علاقة الله بشعبه، ولذلك تكلّم باسمه وبسلطته الشخصية النهائية. ففي الإنجيل حسب متى حيث وردت موعظة المسيح على الجبل، تكلّم بمكانة المشرّع المتسلّط. وقد ذكر المسيح أوامره مراراً وتكراراً على أساس أنها جزء من شريعة الله، وقال: {سمعتم أنه قيل… وأما فأقول…}.

اعتبر المسيح المضطهدين لأجله معادلين للأنبياء الذي اضطُهدوا في سبيل الله (متى 11:5، 12)، وكذلك أعطى نفسه حق المشرّع الأعلى الذي يسمح للبشر بالدخول في ملكوت السماوات وقال: {ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات. بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا الشياطين، وباسمك صنعنا قوّات كثيرة؟ …فحينئذ أصرّح لهم: إني لم أعرفكم قط. أذهبوا عني يا فاعلي الإثم} (متى 21:7-23).

وكشف البشير متى عن تفوُّق المسيح على سائر معاصريه من علماء إسرائيل قائلاً: {فلما أكمل يسوع هذه الأقوال بُهتت الجموع من تعليمه، لأنه كان يعلّمهم كمَنْ له سلطان وليس كالكتبة}. وقد نسب المسيح لنفسه سلطة تفوق سائر الفرائض والشرائع المقدسة التي أوحى بها الله لشعبه. فدعى نفسه {… أعظم من الهيكل … ابن الإنسان هو رب السبت}(متى 8:12) و {السماء والأرض تزولان ولكنّ كلامي لا يزول} (متى 35:24).

لا بد إذن أن المسيح عرف عن نفسه، لا كمن هو في حاجة إلى خلاص، بل كمخلص… وليس كعضو في جماعة الإيمان (أي الكنيسة) بل كرأسها… ليس كمؤمن مثالي، بل كمن هو موضوع إيمان جميع المؤمنين. وهو لم يصلّ فقط. بل هو من تُرفَع إليه الصلاة. ثم أخيراً قدّم نفسه ليس معلّماً للبشر فحسب، بل ربّا وسيّداً لهم.