العودة الى الصفحة السابقة
الحياة المسيحية معناها أن تحيا حياة الصليب

الحياة المسيحية معناها أن تحيا حياة الصليب

القس. جون نور


إنّ على من أراد أن يحيا الحياة المسيحية فذلك يعنى أن عليه أن يحيا حياة الصليب.

دعا يسوع الجمع من تلاميذه وقال لهم من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يخلصها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه. أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه. لان من استحى بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ فإن ابن الإنسان يستحي به متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القديسين (مرقس 31:9 – 38).

ومن المدهش أن يسوع لما بدأ يعلن لتلاميذه هذا الحق الذي لا مفر منه، ترك لهم منتهى الحرية في أن يقبلوه أو يرفضوه. فنجده يقول (إنّ أراد أحد أن يأتي ورائي). فهو لا يمكن أن يلزم أحد، ولا أن يرغم أحد أن يأتي إليه، حتى ولو كان من تلاميذه. بل، على عكس ذلك، يقول المسيح (إن أراد أحد) وكأنه يقول: هل يوجد أحد مستعد أن يرفض كل العروض الأخرى التي تأتي في طريقه في سبيل أن يتبعني؟ ومرة أخرى يترك كل شيء للفرد حتى يقرر بنفسه. لقد وصل التلاميذ إلى منتصف طريق الاتباع، وها هم يصلون إلى مفترق طرق، ويتركون مرة أخرى أحراراً يختارون لأنفسهم ما يشاءون. لا ينتظر منهم شيء معين، ولا يفرض عليهم شيء معين. وكان مطلب الساعة مطلباً ملحاً حاسماً، اقتدى أن يترك التلاميذ أحراراً، ليختاروا بمحض إرادتهم قبل أن يوضع أمامهم قانون الاتباع.

ويحمل صليبه. إن الصليب موجود من قبل وينتظر المسيحي قبل أن يبدأ أول خطوة في حياته المسيحية. ولا حاجة به أن يخرج ويفتش عن صليب لنفسه. لا حاجة به أن يركض عمداً وراء الألم. يسوع يقول إنّ لكل مسيحي صليباً ينتظره، صليباً مقدراً ومعيناً من الله. وكل واحد عليه أن يحمل نصيبه المعين من الألم والرفض. لكن لكل واحد نصيباً يختلف عن نصيب الآخر. فالبعض يعتبرهم الله أهلاً لأصعب صورة من صور الألم، فيمنحهم نعمة الاستشهاد، بينما غيرهم لا يسمح لهم أن يجربوا فوق ما يستطيعون. لكنه صليب واحد بعينه في كل حالة، سواء قاد للاستشهاد أم لم يقد.

إن الصليب يوضع على كل مسيحي. إنه يبدأ بالدعوة لترك الاتصالات بالعالم. إنه موت الإنسان العتيق، نتيجة للاتصال بالمسيح. فعندما نباشر اتباع المسيح، نسلم للمسيح أنفسنا في اتحاد بموته، أي أننا نسلم أنفسنا للموت. وحيث أن هذا يحدث في بدء الحياة المسيحية، فالصليب لا يمكن أن يكون مجرد نهاية أليمة لحياة دينية سعيدة. إذ عندما يدعو المسيح إنساناً، يدعوه أن يأتي إليه ويموت. الموت في يسوع المسيح، معناه الموت عن الإنسان العتيق عند قبول دعوة يسوع المسيح. لهذا السبب رفض الشاب الغني المذكور في الكتاب المقدس أن يتبع المسيح، لأن اتباعه كان يكلفه موت إرادته. إذ لا يقدر أن يتبع المسيح إلا ذلك الرجل الذي قد مات عن إرادته الشخصية. وفي حقيقة الأمر، كل وصية من يسوع هي دعوة للموت عن كل رغباتنا وشهواتنا. لكننا لا نريد أن نموت. لهذا فإن يسوع المسيح ودعوته، هما حتماً موتنا وحياتنا.

إذن الألم هو شعار المسيحي الحقيقي. فليس التلميذ أفضل من معلمه. إنّ اتباع المسيح معناه تحمل الألم. وحملنا لصليبنا، وعكس الاتباع هو أن نستحي بالمسيح وصليبه، وبكل العثرة التي يسببها حمل الصليب.

الاتباع معناه الولاء لآلام المسيح، إذن فليس غريباً إطلاقاً أن يدعى المسيحي للألم. بل في الحقيقة أن الألم فرح وامتياز للمسيحي، وعلامة النعمة الموهوبة له. إن أعمال الشهداء المسيحيين الأوائل مليئة بالأدلة القاطعة التي تبين أن المسيح يظهر مجده في من هم له، في ساعة آلامهم الطاحنة، وذلك بمنحه إياهم يقيناً أكيداً بحضوره معهم. وفي أقسى ساعات الألم والتعذيب المرير لأجله يمنحهم شركة الفرح الكامل والغبطة الكلية معه.

إن الألم في اعمق معانيه هو أن يكون الإنسان مفصولاً عن الله. فالذين يعيشون في شركة معه لا يمكن أن يتألموا حقاً. لقد عاد المسيح فأكد هذا التعليم الذي عبر عنه العهد القديم. ولهذا إذ يأخذ المسيح على عاتقه آلام كل العالم. لقد احتمل كل ثقل انفصال الإنسان عن الله، وفي شربه كأس الألم هذا عبرت الكأس عنه. لقد صمم أن ينتصر على ألم العالم، لذلك كان عليه أن يشرب الكأس حتى الثمالة. إذن، وإن كان حقاً أن الألم معناه الانفصال عن الله، إلا أن يسوع المسيح، بمشاركته آلام العالم وذلك بحملها في نفسه. قد انتصر على الألم عن طريق الألم وجعل الألم سبيل الشركة مع الله.

لذلك نرى المسيح يتألم ككفارة نيابية عن العالم. وآلامه هي الآلام الوحيدة التي لها قيمة كفارية فدائية. لكن الكنيسة تعلم أن العالم لا يزال يبحث عمن يحمل آلامه، وهي إذ تتبع المسيح، يصبح الألم من نصيبها أيضاً. فهي إذ تتبع المسيح تحت الصليب تقف أمام الله كممثلة للعالم.

لقد حمل ابن المسيح ابن الله جسدنا، وحمل الصليب، وحمل خطايانا، وبذلك كفر عنا. واتباعه مدعوون أن يحملوا كما حمل هو. وهذا معنى المسيحي بالضبط. وكما أن المسيح حفظ شركته مع الآب باحتماله، هكذا يستطيع اتباعه أن يحفظوا شركتهم مع المسيح باحتمالهم. في مقدورنا بالطبع أن نطرح عنا الحمل الذي نحمله، لكننا بذلك نجد أن علينا أن نحمل حملاً أثقل وأقسى، وهو ثقل نختاره نحن.. ثقل نصنعه بأيدينا. لكن يسوع يدعو كل المتعبين والثقيلي الأحمال أن يطرحوا نيرهم ويحملوا نيره عليهم، لأن نيره هين وحمله خفيف. ونير المسيح وحمله هما الصليب.

وكأن المسيح يقول أن السير مع الله ليس قاصراً على ما تفهمه، فإنه يفوق فهم الإنسان وإدراكه. أغطس في المياه العميقة التي تفوق فهمك، دعني أساعدك حتى تفهمه كما أفهمه أنا. لقد ترك إبراهيم أباه وخرج من أرضه، وهو لا يعلم إلى أين يمضي. لقد وثق في معرفتي، ولم يبال بمعرفته هو، وبذلك سلك الطريق الصواب، ووصل إلى نهاية سفرته. هذه هي طريق الصليب. ولا تستطيع أن تجدها بنفسك، لذلك دعني أقودك فيها، كما لو كنت أعمى. لذلك أرشدك أنا، ولا أتركك لذاتك، ولا لأي إنسان، ولا لأي مخلوق، بل أرشدك أنا بنفسي، بكلمتي وبروحي، وأعلمك الطريق التي تسلكها.. إني أدعوك لهذا الطريق، وفي هذا الطريق يجب أن تكون تلميذي. إن فعلت ذلك، تجد أن الوقت وقت مقبول، وتجد سيدك وقد أتى إليك.