العودة الى الصفحة السابقة
مولد المسيح نور أضاء في الظلمة

مولد المسيح نور أضاء في الظلمة

جون نور


مرة في كل عام يحتفل الناس حول العالم بعيد الميلاد ، وتفعل بنا قصة الميلاد، وأناشيد الميلاد وأفراحه، فعلها الساحر. وللحظات يتوقف العالم المكدود المنهوك عن متابعة منازعاته ومشاكله، ويرفع قلبه إلى العلاء ليستمع إلى قصة نشيد الملائكة، وهرولة الرعاة إلى مغارة بيت لحم ، ورحلة ملوك المشرق المجوس لمشاهدة المخلص المنتظر...

مرة في كل عام تستقر أبصارنا الزائغة الكليلة على مشهد الأم العذراء الطهور، والطفل المقدس في مذود وسط الماشية، في حظيرة من حظائر هذا الشرق القديم...

مرة في كل عام ترن في آذاننا الأناشيد المحببة التي رتلها قبلنا أجيال متعاقبة من البشر، وتذوقوا معنا عذوبتها، فأيقظت النفوس الخائرة، وأنعشت القلوب المسترخية، وأحيت أيمان البشرية في محبة إله، آب صالح في السماء، وفي سلام على الأرض، وفي بهجة بين الناس...

هبة من السماء تطلع فجأة من ربوع المشرق ، ومن مذود في قرية حقيرة، فتستعيد البشرية القلب الطاهر الساذج، أمام مشهد بيت وضيع في كماله البدائي، وأمام محبة الله التي تبدت في وجه طفل صغير مقدس...ذلك لأن الله قد غدا مع الإنسان، والإنسان مع الله! ولد المسيح، لذا ترنمت الملائكة المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة...

إن مولد المسيح «نور أضاء في الظلمة والظلمة لم تدركه». وفي هذا المعنى وصف لتاريخ الإنساني الأدبي، وتاريخ جنسنا البشري، وتاريخ العالم كله. فهناك نور وهناك ظلمة. وبين الاثنين صراع هائل دائم، فالنور يحاول تبديد الظلام، والظلام يسعى للغلبة على النور. وفي العالم الطبيعي نور وظلمة. فمنذ اليوم الأول للخليقة، كان صباح وكان مساء. وفي العالم الطبيعي يتعاقب النور والظلام في دورات منتظمة. فإذا أقبل النور ولى الظلام. وإذا أدركته الظلمة اختفى النور. يسير أحدهما في أثر الآخر، ولا يمكن أن يتلاقيا في وقت واحد. ولكن في عالمنا الأدبي الروحي يعيش النور والظلام جنباً إلى جنب وفي وقت واحد. وكلاهما يتشاحنان ويصطرعان، لعل أحدهما يظفر بالغلبة على الآخر.

هذا هو التاريخ الأدبي الروحي لكل فرد من أبناء الإنسان: «النور يضيء في الظلمة». وفي كل بشر قبس من نور. والحق أن أناساً يتمتعون بكمية من النور أكثر من غيرهم، فنحن الذين أشرق علينا هذا النور، نملك كمية من النور أكبر مما يملكه غيرنا، ولكن لا نقدر أن ننكر على أي إنسان بشري بعض هذا النور مهما تضاءل، حتى الشعوب البدائية التي تعيش في قلب إفريقية.

وحياة الإنسان العادي أشبه بمنارة دوارة في عرض البحر، تومض أضواؤها في فترات متقطعة، تتخللها ظلمات حالكة. ففي فترات تخرج من فمه كلمات طيبة مشجعة، أو يأتي أعمالاً إنسانية باهرة، ثم تدركه الظلمة إلى حين. وحياة الإنسان صراع مستمر بين عنصري الخير والشر الكامنين فيه. «النور يضيء، ولكن الظلمة تدركه». بل أن هذا هو التاريخ الأدبي الروحي لجنسنا البشري وللعالم كله. ففي العالم خير، وفي العالم شر. وتاريخ عالمنا هذا إنما هو تاريخ الصراع بين الإثنين. وهذا هو ما فكر به «زرادشت» نبي الفرس وحكيمهم. وهو الذي وصف العالم ميداناً للصراع بين «أهورا مزدا» قوة النور والحق، وبين «أهريمان» قوة الظلام والشر.

وحقاً «النور يضيء». فأحياناً يسمو جنسنا البشري إلى ذرى من الخير والصلاح والبر، والإحسان والعطف والتعاون. ولكن هذه الأنوار كلها «تضيء في الظلمة»، لأن كل محاولة من هذا القبيل تعترضها قوات الشر الهائلة، وأنك لترقص طرباً حين تسمع خطب زعماء العالم في المؤتمرات الدولية، أو خطب قادة الشعوب في الشؤون القومية، ولكن لا يلبث أن يكفهر الجو أمام ناظريك حينما يجيء دور العمل والتنفيذ، وتتبخر الآمال العراض، وتذهب الأقوال الجوفاء هراء في الهواء. «النور يضيء والظلمة تدركه»!

الحياة نور الناس

كل ما تقدم حق صراح لا يماري فيه إنسان، إذا أردنا تطبيق عبارة الإنجيل الأخاذة «النور أضاء في الظلمة، والظلمة لم تدركه» على حياة الفرد، أو على حياة الجنس البشري. على أن البشير حين سجل العبارة لم يكن يفكر في شيء من هذا. لم يكن يفكر في الصراع بين الخير والشر في نفس الإنسان، ولا في حياة الجنس البشري، إنما كان يفكر في يسوع واللقاء الذي إستقبله به العالم. وفي آية سابقة يقول «فيه اي في كلمة الله المتجسد كانت الحياة وكانت الحياة نور الناس». فالصراع بين النور والظلمة، بين الخير والشر، بلغ ذروته في الصراع بين يسوع والعالم في عصره. فمنذ البداية كان عليه أن يقف في وجه عالم معاد. حاول هيرودس الطاغية أن يقتله وهو طفل في المهد. وأخيراً أفلح الكهنة وأشياخ الدين في الحكم عليه بالموت. «النور يضيء في الظلمة».

ولكن البشير يعقب على ذلك بقوله «والظلمة لم تدركه»، أي لم تقدر أن تمسكه، ولا أن تغلبه أو تخسفه. ويوم علق المسيح على الصليب فوق تله الجلجثة، خيل للناس أن قوات الظلمة قد «أدركته» وقهرته، وأن النور قد بهت وتضاءل ثم اختفى. ولكن في صباح اليوم الثالث وجد القبر فارغاً، والمسيح حياً. وأسقط في أيدي الساخرين الشامتين، وحاكوا المؤامرات لإطفاء الشعلة التي أتقدت من جديد، فرجموا استفانوس، وأعدموا يعقوب، وطاردوا الصحابة والأنصار، ولكن ذهبت كل محاولاتهم أدراج الرياح «وكثيرون من الذين سمعوا الكلمة آمنوا. والذين تشتتوا جالوا مبشرين بالكلمة».

وقصة هذا الصراع تتكرر مدى الأجيال إلى يومنا هذا. هي قصة التاريخ البشري.

ولا يصدق هذا على الكنيسة فقط، بل يصدق أيضاً على كل قضية عادلة - على كل إصلاح اجتماعي، وعلى السلام العالمي، وعلى الجهود المشتركة التي يبذلها العالم لخير الإنسانية جمعاء. وهذه كلها تبدو لنا كأنها تتعثر في سيرها، ولكن نحن لا نصدق أن الظلمة ستغمر النور في آخر الأمر، ولا نصدق أن العقبي للبطل والشر، وأن النصرة أخيراً ستكون للمبطلين الأشرار. إنما النور هو الغالب دائماً، والظلمة لا تقدر أن تسيطر عليه. «النور يضيء والظلمة لا تدركه»!

وهذا من علامات الأرض الجديدة التي يخلقها الله. «لا يكون ليل هناك» وتتبدد البقية الباقية من الظلام.