العودة الى الصفحة السابقة
احترس من الزائف

احترس من الزائف

جون نور


إن العالم يموج بالزائف. فكثيراً ما ندهن الورق لكي يظهر كأنه رخام، ونرى حولنا جواهر مزيفة، وهناك أُمور كثيرة تخدع الناس حتى الخبراء منهم. لذلك نرى خطراً فادحاً من تسرب هذا الروح إلى الكنيسة. والسيد الرب كاشف أعماق القلب ونياته حذر تلاميذه من الزائف للدين الحقيقي.

فالتشدق بالدين هو زائف إذا لم يشتمل على إنكار الذات. وإنكار الذات ينبغي أن تتملكه روح الصليب، والدخول من الباب الضيق. والسير بلا تملص في الطريق المؤدي إلى الحياة الأبدية. أخبرني أحد الهندوس وهو عالم بأسرار الديانة التي ينتمي إليها، وهو غير مسيحي بالطبع، أن هناك ثماني درجات على المتدين الحقيقي عندهم أن يتبعها في سبيل إنكار الذات، تبتدئ بأمور متعددة وتنتهي بعدم محبة المال. والإغريق يفتخرون بقصة بطلهم (هرقل)، إنه في شبابه عندما تفتحت زهرة ربيع حياته جاءت إليه "فينوس" و "منيرفا"، الأولى عرضت عليه التمتع بكل أنواع الملاذ والسعادة عن طريق قصير مختصر، أما الثانية فوقفت أمامه بلباس الحشمة وقالت له: إني أسير بك في طريق الواجب ولو أنه مقترن بإنكار الذات. وهذا ما وقع عليه اختيار ذلك البطل الإغريقي. وفي التقاليد العبرية، ليس هناك ما هو أروع وأبدع من الصورة التي رُسمت في كتب (الأبو كريفا) عندهم عن تلك المدينة المليئة بالخيرات القابعة في وسط سهل منبسط الأرجاء، لكن لها طريق واحد ضيق لا يسير فيه إلا شخص واحد لضيقه. وعلى أحد جانبيه نار متأججة وعلى الجانب الآخر مياه تكتسحها العواصف. فنرى أن كل الديانات تحرض تابعيها على الدخول من الباب الضيق. إنما نرى هذه الصورة المجيدة في كلام السيد المسيح . فكل جيل من الأجيال المتعاقبة يقف في سهل فسيح ممتد الأرجاء يلوح فيه الرجاء والتطلع، وكل جماعة ترنو ببصرها إلى اختيار أقصر السبل وأسهلها نحو تحقيق الآمال التي تراودها دون التمكن من الرجوع إلى نقطة البداية. وهناك طريقان لا ثالث لهما في هذا الوادي الذي نعبره إلى أهدافنا. والمسيح يضع أمامنا هذه الصورة عن بابين يمكن الدخول منهما وعدد العابرين الذين يدخلون منهما.

وأشهر هذين البابين هو ذلك الباب الرخامي المنيف الذي يجتذب الأنظار ببريقه البديع وهو واسع جداً بحث تستطيع الدخول منه جماعات من الشباب من الجنسين في عنفوان القوة يملئون الدنيا بأناشيدهم ووقع أقدامهم على الأرض كأنها صوت رقص أو موسيقى. وقد نُقشت على قائمتيه أوراق اللبلاب والعنب ومصراعاه وكأنهما الذهب المصهور. وينفتح على أحواض من الزهور اليانعة ويتفرع إلى مسالك مريحة، وكلما تقدم المرء يجد طرقات فسيحة تؤدي إلى غابات واسعة. وبعد أن يقطع الإنسان مسافة طويلة يجد أن الأزهار تضاءلت والخضرة الجميلة ذبلت، ومعالم الطريق اختفت، والجماعات الكثيفة تفرقت، حتى صارت أفراداً قليلين، إلى أن يجد المرء نفسه أخيراً أمام حفر واسعة والهلاك يتهدده في كل خطوة يخطوها حيث يمتد أمامه ظلام وقتام. فيصرح طالباً النجدة وليس من مجيب أو مغيث. ويمد يده طالبا المعونة وليس من يد تمتد إليه. يا للعجب! كم هو "واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك وكثيرون هم الذين يدخلون منه"! لكن في ذلك الوادي هناك فتحة – باب ضيق – حتى يكاد المرء يخطئه إن لم يبحث عنه، إنه ضيق جداً بحيث لا يتسع إلا لمرور واحد وراء الآخر. والطريق حيث يوجد هذا الباب شديد الانحدار، ملئ بالعقبات والأحجار، تبعثرت فيه حجارة الصوان الحاد التي تُدمي الأقدام. وهو يرقى في منعطف ضيق على الجانب رؤوس الجبل الوعرة، وعلى الجانب الآخر الوادي العميق وهناك ممن ضيق، بالكاد يستطيع المرء أن يخطو فيه، لا ترى إلا الناس فرادى يسيرون فيه.وفي كتاب "سياحة المسيحي" الجزء الثاني منه تستطيع أن ترى لمحة من هذا الطريق لما خرجت المسيحية هي وأولادها. لكن النهاية ما أمجدها! لأنه يؤدي إلى الأعالي "حيث الله نفسه شمس".

  1. إن دخولنا إلى حياة التلمذة يتطلب مجهوداً: "ما أضيق الباب!" ليس في طائلة يدنا أن نصنع غفران خطايانا لأنه نعمة مجانية من الله. كذلك لا نصنع الخلاص إذ هو منه كما إننا لا نعمل لنخلص بل نخلص لنعمل. وإن كان هناك مجهود فينا فهو مجهود لنصمت وننتظر يد إلهنا القوية لترفعنا من حافة اليأس، وأن نطرح كل ثقل، وأن نرفض كل ميل إلى المجهود الذاتي، وأن نعطي القفا بتصميم لا يلين على كل خطية محببة إلينا، ونثبت وجوهنا نحو أورشليم الجديدة، مفضلين طريق الانفصال والخدمة – الجديرة بكل مجهود فينا، وهي التي يشبهها السيد بالباب الضيق. الباب الذي لا تستطيع أن تدخل منه في عربة فخمة. ولا تكون محملا بحقائب ذهبك وأمتعتك الكثيرة.

  2. الاستمرار في طريق التلمذة هو مجهود مستمر: "ما أكرب الطريق!". إن ديانة العالم سهلة! شعارها "إفعل ما تريد" بل ناموسها "لا تكن باراً كثيراً ولا تكن حكيماً بزيادة"(جا16:7). ربما تكون مواظباً على الكنيسة، وتضلع بفرع من أعمال الخير الدينية – وتكرس أصواماً وأعياداً، وكل هذا من وحي ميولك وإرضاءً نفسك. أما طريق التلميذ الحقيقي فهو بعيد جداً عنك لأنه طريق السلوك القويم والانخراط تحت علم السيد القدوس. وهو لا يعمل إرادته هو بل إرادة الذي أرسله. يدهن رأسه ويغسل وجهه ولا يظهر للناس صائماً وجميع وقته يصرفه في إتمام ناموس المسيح وحده الذي هو ناموس المحبة.

    وطريق السماء هو طريق منفرد وقليلون هم الذين يجدونه. في العصور التي انتشرت فيها المسيحية كان التلاميذ الحقيقيون عدداً قليلاً. لأنهم دائماً أبداً "القطيع الصغير" ودائماً أبداً "ليس كثيرون مدعوين" قديسين. وهكذا الله دعا إبراهيم وهو واحد.

  3. لكن النهاية مجيدة فوق الوصف أُولئك الذين يسيرون في هذا الطريق قائلين "لا" للذات، لأنهم دائماً يقولون "نعم" للمسيح يتركون وراءهم الوديان حيث المستنقعات الآسنة، ويتسلقون قمم الحياة السامية. وليس لزاماً عليهم أن ينتظروا نهاية مطافهم في هذه الحياة ليتحققوا هبة الله للحياة الكاملة، لكنهم هنا وفي هذا الوقت الراهن، في كل خطوة وفي كل لحظة، لنهم أُمناء حتى الموت، يهبهم الله إكليل الحياة، حتى إن كانوا يسلمون للموت لأجل الرب يسوع، فإن حياته له المجد تظهر أكثر فأكثر في جسدهم المائت. وكل خطوة إلى الأمام تقود إلى جو أطهر ورؤيا أبعد "لأنه يؤدي إلى الحياة".

إن التدين الذي لا يأتي بثمار جيدة هو تدين زائف. والسيد يطبق هذا المبدأ، أول كل شيء، على القادة المضلين. وكان من الطبيعي أن يواصل السيد كلامه بعد "الباب" و "الطريق"، إلى تعريفنا بصفات القادة الذين يدعون بأنهم قادرون على هداية أقدام العابرين في الطريق القويم إلى العجالة الحقيقية. ولذا يقول لا تغتروا بالمظهر لأن المظهر خادع. فالذئب الذي يأتي ليهلك قد يأتي في صوف الحمل. والشك قد يطرح أثماراً سوداء من يراها في بواكير الربيع يظنها من نوع العنب الأسود، والحسك له زهرة تشبه إلى حد ما زهرة التين، لكن "من ثمارهم تعرفونهم".

ومبدئياً هذا لا يعني أن التعليم هو الشجرة، بل الإنسان الذي يعلم، إذ يمكنك أن تكتشف طبيعته على حقيقتها، لا بأقواله أو أفعاله عندما يكون في حسبانه أن الناس يلاحظونه، لكن بثمر طباعه وسلوكه وأخلاقه في البيت أو في محل عمله حينما لا تراه عين إلا الله. والشجرة الجيدة تصنع ثمراً جيداً والشجرة الرديئة تصنع ثمراً رديئاً. ورب قائل يقول: أليس بيننا كثيرون لا يسيرون حسب تعاليم العهد الجديد لكن حياتهم وأخلاقهم تخجل كثيرون من المؤمنين؟ أو ليس وجود مثل هؤلاء الأشخاص في وسطنا يناقض تعاليم السيد ويبرهن على أن الحياة ليست محكاً حقيقياً للتعليم ؟ كلا! لأن نفس الجو الذي نعيش فيه مشبع بالتأثيرات المسيحية. ونحن مدينون لأمهاتنا دون أن نُحس. والخير الذي يأتي من الأشخاص الذين نحن بصددهم برهان على أنهم أتوا من أصل جيد أو ردئ حسب حالتهم كأن يكون حاكماً تقياً أو ممرضة متفانية أو أن يكون قد تأثر بمدرس مؤمن. أو أنهم سمعوا الحق "كما هو... في يسوع" في طفولتهم من معلمين قد رقدوا في الرب وليسوا على قيد الحياة الآن. أو إذا استعرنا تشبيهات أُخرى: فإن قوة الدفع في القطار تستمر في تسيير العربات حتى بعد أن يقفل السواق البخار، وموجة المد تستمر مدة بعدما تتركها قوة جذب القمر، ولمعان الغروب يوشي الأفق بألوانه الجميلة حتى بعد غروب الشمس.

وعلى العموم فإن قيمة الإنجيل وحقائقه جاءت بثمارها المجيدة في حياة الملايين في كل الأجيال السابقة واللاحقة، أُولئك الذين هم ملح جيد يصلحون فساد العالم ونور يقشعون ظلمته. والسؤال المهم الذي يجب أن يوجهه كل واحد لنفسه هو: "ما هي ثماري، أهي جيدة أم رديئة؟ وما هو التأثير الذي يجري على من هم حولي بسبب تصرفي؟ وهل أنا غصن مثمر في الكرمة؟ وإذا لم يكن ذلك كذلك، فمهما تكن عقيدتي، فهل أنا مهدد بخطر قطعي وطرحي في النار؟". ولكي ننجو من هذا المصير، لا يكفي أن نعلم الآخرين شروط الإثمار ولا يكفي أن نمتنع عن الإثمار الردئ، ولا يكفي أن نكون محايدين أو سلبيين – لكن فشلنا في أن نأتي بثمر جيد هو الذي يحكم علينا بالفأس القاطعة وحريق النار. وكثيرون ممن ينظرون إلى غيرهم أن عقيدتهم غير سليمة وأنهم هم فقط المتمسكون بالأحوال المستقيمة من حيث التعاليم الكتابية، لكنهم في نظرتهم إلى الآخرين نظرة الانتقاد والاستخفاف، يحكمون على أنفسهم بأنهم خلو من المحبة. كما أنهم في حياتهم العائلية لا تظهر عليهم أي علامات الاقتدار بالمسيح. هؤلاء سيجدون يوماً ما، أن غيرتهم على العقائد الصحيحة لا تنفع مثقال ذرة، ولا تعفيهم من مصيرهم المحتوم إذ برهنت حياتهم على أنها عقيمة وبلا ثمر.

وبعد ذلك يطبق السيد المبدأ عينه على المدعين الكاذبين. فيرينا إلى أي مسافة يسير الإنسان في طريقه، وأخيراً يفقد ويضيع. فقد تكون له صورة التقوى لكنها مجردة من كل قوة. ولكن أمام كرسي المسيح، أمام الذي عيناه كلهيب نار تكشف أعماق القلوب وطوايا النفوس نرى ثلاث عينات. العينة الأولى: الأنبياء الذين كانوا يخبرون برسالة الخلاص وهم لا يعرفون قوته. والعينة الثانية: الذين أخرجوا الشياطين من الآخرين ولم يخرجوها من قلوبهم. أما العينة الثالثة فهم الذين صنعوا عجائب. أجل، إنهم هؤلاء جميعاً يبعدهم عنه ويصرح لهم انه لم يعرفهم قط، وأن جميع أعمالهم كانت صادرة عن الإثم والخطية. لأن كل عمل يصدر بروح المجد الباطل وللحصول على مغنم ذاتي يُحسب عند السيد كلا شيء – بل أشر من لا شيء – يحسب تحدياً له. وصانع مثل هذا العمل يتصرف كأن السيد لم يقدم دمه كفارة عنه وأنه لم يتمم عمل الفداء.

هذا هو الشخص الوحيد الفريد الذي معه أمرنا جميعاً. وإني أُصلي لأجلك، إن كنت تسير في طريق خطأ، هيا اكتشف عيوبك وأصلحها قبل فوات الأوان. قد تتكلم بألسنة الناس والملائكة، وتهب كل أملاكك لتطعم الفقراء والمساكين، وتقدم جسدك حتى يحترق استشهاداً وذوداً عن الحق، لكن إن لم يكن الدافع في كل ذلك هو المحبة لله والناس فكأنك لم تفعل شيئاً. وحينما يُقفل الباب فإنك تقرع عبثاً قائلاً: "افتح لي" ولكنه لن يفتح. والظلام الدامس المخيم عليك لن تشق أستاره شعاعه واحدة من الداخل. هل تخشى أن يكون مصيرك هكذا؟ إني أُحذرك الآن. فإن من يرهب ذلك هو أسلم الناس مستقبلاً. أما من يتكل على بره الذاتي فهو أخطرهم مصيراً. "ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات"، ليس من سبب يجعلك تموت قبل أن تحسم أمر حياتك أو موتك. إذ يمكنك هنا وفي هذه اللحظة أن تدخل الملكوت بل تصبح مواطناً لهذا الملكوت ومن أبناء عاصمته – "أورشليم الجديدة النازلة من عند الله لها مجد الله ولمعانها شبه أكرم حجر بلوري".

كذلك كل تدين لا تكون له صلة وثيقة مع المسيح بالإيمان والطاعة هو تدين زائف. في ذلك الجو الشرقي، بل في ذلك الوادي بين بيروت ودمشق (وربما بعض القراء زاروا ذلك المكان) ترى الصورة التي رسمها السيد في ختام عظته. ففي الصيف تجد التربة شديدة الصلابة بفعل الحرارة الشديدة وكل بقعة تصلح أن تكون جيدة لإقامة بيت عليها. ولا يعرف إلا البناءون أي مكان أصلح من الآخر ليشيد عليه بيته.

ولكن الأمر يختلف تماماً في الشتاء. فالهواء البارد يطرد السحب الممطرة من البحر الأبيض المتوسط وتنسكب أمطار غزيرة على البلاد وإذا بالمجاري تفيض بالمياه. قبلاً كان الإنسان يحسبها تلالاً من الصخر إذا بالمياه تعلو لتملأ تلك المجاري إلى حافتها وتنسكب في الأودية مكتسحة كل شيء أمامها.

ويا بئس من انخدع وبنى بيته على الرمل ظناً منه أنه مكان صخري! لأن أساسه يتعرى بفعل السيول الجارفة، لدرجة أن الرمال ذاتها تكتسح من مكانها إلى أماكن أُخرى. لكن الذي حفر حتى وصل إلى الصخر وعمَّق الأساس فإنه يظل آمناً في وجه كل الزوابع والأمطار، لأنها لا تدنو منه إنما بعينيه ينظر ويرى خراب المهملين.

هذا هو الفرق بين من يسمع الكلمة ولا يعمل بها وبين من يسمع ويعمل. ولهذا يقول الرسول: "لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله بل الذين يعملون بالناموس هم يبررون" (رو13:2). يا لها من كلمات تتغلغل في النفس وتفحص أعماق القلوب! كلنا سمعنا، فيا ترى هل عملنا؟ هل نحن سامعون ناسون، أم عاملون بالكلمة؟ وهل نحن ثابتون في ناموس الحرية؟ وهل اتصلنا اتصالاً وثيقاً بذلك "الحجر المختار الكريم" الذي وضعه الله أساساً أبدياً قبل إنشاء العالمين؟ كونك تؤمن بما قيل عن الرب يسوع ليس كافياً بل يجب أن تؤمن به هو. ولهذا يجب أن نأتي إليه كحجر حيّ فنصير به حجارة حية (1بط2: 4 – 8). وعندئذ وبقوة الروح القدس نبني حياة التقوى ليس بخشب أو قش أو عشب، بل بذهب وفضة وحجارة كريمة ننمو هيكلاً مقدساً للرب (1كو3: 10-15). ولا عجب إن كان الناس قد اندهشوا من كلام السيد لأنه كان يكلمهم بسلطان وليس كالكتبة. وكل الأجيال المتلاحقة شعرت بهذا الإحساس، دينونة على من يرفضون، وقوة يهبها الروح القدس لكل من يقبل بوداعة الكلمة المغروسة القادرة أن تخلص النفس.