العودة الى الصفحة السابقة

المسيحية في جوهرها هي المسيح

جون نور


أعزائي المستمعين الكرام موضوع حلقتنا اليوم من برنامجنا حكم وأمثال من الكتاب المقدس هو أن المسيحية في جوهرها هي المسيح.

إن المسيحية في جوهرها هي المسيح. فشخصه وعمله، هما الصخر المتين الذي يرتكز عليه صرح الديانة المسيحية. فإن لم يكن المسيح هو هو كما قال عن نفسه، وإن لم يتمم الهدف الذي ادعى أنه جاء من أجله، لانهار بناء المسيحية الشامخ، وأصبح في خبر كان، لأنه لو أخرجنا المسيح من المسيحية، فماذا يبقى؟ يسوع هو محور المسيحية وجوهرها. ويهمنا بالدرجة الأولى، ليس أن نبحث فلسفياً في طبيعة المسيح، ولا في قيمة نظامه، ونوعية المستوى الأدبي الذي وضعه، ولكن في ما يتعلق بطبيعة شخصه وكمال سجاياه. لأن المسيحية هي الديانة الوحيدة في العالم، التي ترتكز على شخص مؤسسها ولو ضاعت عقيدة الثالوث من المسيحية لزالت المسيحية كما يزول الحلم.

إن أهم ظاهرة في تعليم يسوع، هي أنه كان يتكلم عن نفسه مراراً. فمع أنه تكلم كثيراً عن أبوة الله، لكنه كان ينبر على أنه هو «الابن» واعتبر نفسه، صاحب المكان الفريد في الملكوت الذي أسسه بمجيئه، ووسعه بأعماله وقدرته، والذي لا سبيل إلى الدخول إليه إلا بطاعة الناس له (أي يسوع). ومن البركات التي منحها لتلاميذه، بركات: «أن يرثوا الحياة الأبدية» و«أن يخلصوا» و«أن يدخلوا ملكوت الله». فليس من الغريب، إذاً، أن نقرا أحياناً أن ملكوت الله، هو «ملكوت المسيح» ولا شك أن أعجب إعلان قدمه يسوع، هو إعلانه عن نفسه، لأن هذا يميزه عن سائر المعلمين الدينيين في العالم، ممن يسعون لإخفاء وستر شخصياتهم، أما هو فقد أبرز شخصيته. هم يشيرون بعيداً عن أنفسهم ويقولون: «ذاك هو الحق الذي نعرفه»، أما هو فيقول: «أنا هو الحق. اتبعوني». ولم يتجاسر غيره أن يقول مثل هذا القول. ومما يلفت النظر، كثرة استخدامه لضمير المتكلم «أنا» فمثلاً قال: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَدًا» (يوحنا 35:6). «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ» (يوحنا 25:11، 26) «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي» (يوحنا 14: 6) «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ» (يوحنا 12:8).

وقد أكد دعواه بقوله أن إبراهيم رأى يومه وفرح (يوحنا 56:8)، وأن موسى كتب عنه (يوحنا 46:5)، وأن الكتب تشهد له (يوحنا 39:5)، وأن الأقسام الثلاثة العظمى في العهد القديم - أي الناموس والأنبياء والمزامير – كتبت عنه (لوقا 24:27 و44). ونرى لوقا يصف بإسهاب الزيارة التي قام بها يسوع إلى الناصرة وطنه، حيث كان قد تربى، ولما دخل المجمع، دفع إليه الدرج «وَلَمَّا فَتَحَ السِّفْرَ وَجَدَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ مَكْتُوبًا فِيهِ: رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ» (لوقا 16:4 – 19، إشعياء 1:61 – 2) ثم طوى السفر وسلمه إلى الخادم وجلس، وكانت عيون جميع الذين في المجمع شاخصة إليه، وصمت الجميع كأن على رؤوسهم الطير « فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ» (لوقا 4: 21) أو بعبارة أخرى كأنه يقول: «أن إشعياء كان يتكلم عني».

ليس بالغريب على من له مثل هذه الثقة في نفسه، أن يدعو الناس إليه. وحقيقة الأمر، لم تكن مجرد دعوة، بل أمراً أصدره في قوله: «تَعَالَوْا إِلَيَّ» و«اتبعني». وقد وعد الذين يأتون إليه، بالراحة «وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» وذلك برفع أثقالهم وأتعابهم عنهم (متّى 28:11 – 30)، وبإشباع الجياع (يوحنا 35:6)، وبإرواء الظمأ (يوحنا 35:6، 37:7)، وقد بلغ الأمر بيسوع، من حيث ثقته واقتناعه من مكانه الرئيسي في قصد الله، حداً جعله يأخذ على عاتقه أن يرسل شخصية تحل محله بعد صعوده إلى السماء، ألا وهو الروح القدس. وقد دعاه «المعزي» (باركليت Paraclete) وهي تسمية مشروعة، ومعناها المحامي، أو مستشار الدفاع، وبذلك يكون عمل الروح القدس، الدفاع عن قضية يسوع أمام العالم، وقال يسوع عنه: «هُوَ يَشْهَدُ لِي» (يوحنا 26:15)، ثم «ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ» (يوحنا 14:16). وتختص شهادة الروح القدس بيسوع المسيح، كما أن إعلان الروح القدس للكنيسة يختص أيضاً بيسوع المسيح، هذا الذي تنبأ قائلاً: «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ» (يوحنا 32:12). فقد عرف أن للصليب تأثيراً مغناطيسياً أدبياً على البشر، نساء ورجالاً، ولم يقصد أن يجذبهم إلى الكنيسة أو إلى الحق أو إلى البر بل إلى نفسه أولاً، وبه يأتون إلى الكنيسة وإلى الله.

ولعل الحقيقة الأبرز في هذا التعليم الذي يدور حول شخص الناطق به، هي أنه صدر عن «الواحد» الذي أوصى الآخرين مشدداً على التواضع. وقد وبخ تلاميذه لأنهم يطلبون نفوسهم ويحبون ذواتهم، واضطرب إذ رآهم يتشاجرون في من يكون عظيماً. أفلا يمارس عملياً ما يكرز به؟ أخذ ولداً وأقامه في وسطهم مثالاً لهم. فهل كان له مقياس خاص به يختلف عن غيره؟