العودة الى الصفحة السابقة
تعالوا إليّ

تعالوا إليّ

جون نور


أعزائي المستمعين الكرام موضوع حلقتنا اليوم من برنامجنا حكم وأمثال من الكتاب المقدس تعالوا إليّ.

إن كانت الدموع تغسل القلوب، لكن قطعاً ليس كل الدموع. فالدموع هي نتيجة التأثر الشديد الذي قد يكون مصحوباً بروح المرارة واليأس والقنوط. ولا شك أن هذا الشعور شعور مدمر مميت.

وعندما يمس يسوع قلب الإنسان لا بد وان تدمع العين. وما أكثر الدموع التي سالت عند أقدام يسوع. كم من نفوس أتت وتأتي لتسكب الدموع عند أقدام السيد. لقد أتت المرأة الخاطئة من ورائه، وسكبت دموعها عند قدميه. لم تقدر أن تواجه يسوع. فالإنسان الخاطئ عندما يشعر بآثامه لا يقدر أن ينظر إلى السيد، بل لا بد وأن ينحني ويرتمي عند قدميه.

ولعل تلك المرأة لم تر يسوع من قبل، لكنها سمعت عنه فأتت لتبكي. ولعل أحداً من الناس لم يكن يفطن لخطيتها. يغلب أنها كانت ذات مكانة أو مركز مرموق في المجتمع. وإذا بها تفضح نفسها بنفسها. أتت من ذاتها وارتمت عند أقدام يسوع لتبكي ولتعترف بوزرها وآثامها أمام الجميع. تاركة للجماهير لذة التشدق بالحديث عن خطاياها وأوزارها.

لكنها مع ذلك لم تهتم بما يقوله الناس عنها، وأن ينعتوها بأقذر الألفاظ وأبشعها. ولا شك أن الجماهير تساءلت باشمئزاز، كيف ترك يسوع تلك المخلوقة القذرة تلمس قدميه. كيف لا يزجرها وهو جالس في وليمة مع الأشراف. كيف لا يستحي المسيح من هذه المرأة الخاطئة. رائحتها عفنة. منظرها يوحي بالاستهجان أوزارها تتقدمها بل وتدفعها لتنتحب علناً. لم يكن القوم في حاجة إلى حجة ليدمغوها بالخطية، فها هي شرورها أكثر من أن تُحتمل فدفعتها للبكاء وللنحيب. وهيهات أن يفيد البكاء أو ينفع النحيب بعد أن دنس الإنسان نفسه وبعد أن فقد نقاءه. كيف يستعيد الإنسان براءته وطهره. لكن هيهات أن تعود، فهذه الصفات عندما تذهب تولي إلى الأبد.

لكن عند أقدام يسوع هناك رجاء. هناك خير مكان للبكاء. وما زالت هذه الأقدام تجذب الجماهير لتبكي هناك. إن يسوع هو الشخص الذي يهيج النفس ويؤلمها، ويولد فيها كل معاني المرارة والحزن، ومع ذلك فإن النفوس تهرع إليه. إن يسوع يُولد في الإنسان المعاني المتناقضة. فهو يُولد الصحوة الأليمة، الشعور بالمرارة والذنب العظيم. كل هذه قد تدفع الإنسان للهروب منه. لكن صدق يسوع وحبه العظيم للإنسان يدفعان بالنفس إليه. إذ يشعر الإنسان بأن هذه صحوة صادقة لا بد منها. ولعل الإنسان في صحوته هذه يفكر في الهروب لكنه بجوار خطاياه يجد شخصاً حبيباً، يرى يسوع. عند ذاك تشعر النفس بالراحة بالرغم من الألم، ويملأها الأمل بالرغم من الظلام.

ولقد صحا بطرس فجأة لنفسه فلم يقدر إلا أن يصرخ قائلاً «أخرج يا رب من سفينتي». لكنه في أعماق قلبه كان يقول كلا يا سيد لا تتركني لئلا أهلك. بعد أن أيقظتني وبعد أن أظهرت لي حقيقة نفسي، بعد أن أفهمتني كم أنا هالك وحقير وأثيم. لا تخرج يا سيد من سفينة حياتي لئلا أغرق.

يسوع يولد الشعور بالمرارة والشعور بالسلام أيضاً. النفس تدرك في لحظتها أن الذي ابتدأ عملاً صالحاً لا بد وأن يكمل. إن يده التي تجرح هي هي التي تعصب. إن الذي قدر أن يصل إلى أعماق القلب ويكتشف الداء لا بد وأنه يقدر أن يصف الدواء. إنه مخلص إلى التمام. تنتاب النفس عواطف وخوالج مختلفة ومتباينة، لكنها كلها تطرح النفس عند أقدام يسوع للبكاء، للنحيب، للتسليم.

ما أعجب يسوع! بعد أن يدخل إلى أعماق القلب لكنه لا يفرض نفسه للبقاء. هو يدخل بمبضعه وينفذ إلى الداء. يكشف للإنسان عن أعماقه ولكنه يترك له حرية الاختيار. هو يريد أن يبقى هناك ليكمل العمل لكنه لا يفرض نفسه على الإنسان. فإن أولى خطوات الشفاء تعتمد على الإرادة، إرادة الإنسان أن يبرأ. لذا فإن يسوع يعد أن يكشف للإنسان حقيقة حاله يناديه تعالى إليّ.

ويسمع الإنسان الصوت ولا يسعه إلا أن يلبي النداء. يأتي إلى يسوع مكتشف الداء ومعطي الدواء. وإذا بالسيد يكمل جراحاته ويتمم علاجه بالإذابة. بنار محبته يذيب كل رذيلة وعفن وكل خبث وكبرياء. نفس الإنسان تذوب بين يدي يسوع. القلب الصخري يلين أمام محبة يسوع. يرجع الإنسان طفلاً من جديد. يصيغة السيد كما يريد. الجبلة يكيفها السيد في قالب جديد. والسيد لا يفرق بل دعوته للعالم أجمع ولكل الناس. السيد يطهر أقذر وأبشع إناء. هو يحطم كل صخر. يذيب كل الأدران. السيد يدعو الجميع ليأتوا تائبين وهو بعد ذلك لا يطلب منهم شيئاً بل هو كفيل بالعلاج وإذ ذاك يرفع الإنسان من عند قدميه ليجلس معه في الأمجاد.

ولا شك أن المرأة الخاطئة كانت قد سمعت النداء. سمعته من بعيد كما لم يسمعه الأقربون. سمعته فهرعت وكل همها أن تصل ليسوع. لم تمنعها كبرياؤها. لم يمنعها الأقران والخلان. أرادت أن تخلص نفسها، لهذا أتته وسط الجموع. ندبت حالها، سقطت عند قدميه. غسلتهما بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها. طأطأت هامتها إلى الأرض تحت قدميه.

لكن رحلة يسوع في داخل أعماق الإنسان هي رحلة العمر. فيسوع يغوص باستمرار في أعماق النفس وإذا به يكتشف باستمرار أركاناً مظلمة. نفس الإنسان أعمق من البحار «تلافيف عقل» الإنسان لا حصر لها. هناك كثير من الأركان والخبايا. الإنسان نفسه يجهل ما بداخله. وإذا بالإنسان يقشعر ويفاجأ بما يكشفه له يسوع. ويسوع يستمر في بحثه واكتشافاته. على أنه لا يقف عند ذلك الحد فقط، لكنه يبكت ويطهر، يذيب ويجدد. حتى يحل المسيح الكامل بالإيمان في قلب الإنسان.