العودة الى الصفحة السابقة
العطاء في مفهوم الله

العطاء في مفهوم الله

جون نور


أعزائي المستمعين الكرام موضوع حلقتنا اليوم من برنامجنا حكم وأمثال من الكتاب المقدس هو العطاء في مفهوم الله.

قال أحدهم أن المسيحي المعطى واحد من ثلاثة، فهو إما ينبوع لا يملك إلا أن يفيض دون أن تطلب منه، أو اسفنجة لا يمكن أن تأخذ منها إلا إذا عصرتهاً عصراً، أو حقيبة مغلقة، مهما فعلت لا تستطيع أن تصل إلى ما فيها، إلا بالمفتاح البعيد عن متناول يدك، ومع أن هذا كله حق تماماً، إلا أننا يمكن أن نضيف إلى الثلاثة، نوعاً آخر رابعاً من المعطين، ربما هو أفضلهم وسيدهم جميعاً وهو الذبيحة الحية، التي قد تقطع من اللحم الحي كما يقول التعبير الشائع، أو هي في تعبير أدق وأصح، اللحم الحي الذي يقدم قرباناً على المذبح، ويكون في منظره العظيم، أشبه بالصورة القديمة، لإسحاق يقدمه أبوه فوق حطب المحرقة، والسكين في يده.

ولعل قصة الأرملة ذات الفلسين، التي رآها المسيح ذات يوم في هيكل الله، وهي تقدم فلسيها، كانت هذا النوع من المعطين، وكانت النموذج العظيم الرائع، الذي لفت به المسيح نظر الأجيال كلها، وحيث يرى الله التقدمة في أروع صورها أمام عينيه، وإن لم تكن هكذا بالضرورة أمام إدراك الإنسان أو فهمه أو استحسانه كانت قصة هذه الأرملة الفقيرة أشبه بالمصباح الهادي أو المشعل المضيء، لمن يريد أن يتعلم كيف يعطي أو يقدم أو يبذل بين الناس... ومن ثم يمكن أن نراها بعد ذلك فيما يلي:

لسنا نعلم في القليل أو الكثير عن هذه الأرملة سوى بضعة سطور جاءت في إنجيلي مرقس ولوقا، والمسيح يتحدث عنها، عندما وقف تجاه الخزانة، يراقب من يعطون في صندوق الله، من عطايا قلت أو كثرت على حد سواء.. ما إسمها! لا ندري!! ومتى مات زوجها! لا نعلم!! وهل كان لها ولد أو بنت أم كانت وحيدة؟ في مسكنها أو كوخها، إن صح أنها كانت تملك مسكناً أو كوخاً!! وهل كان لها أخ أو أخت أو قريب!!؟ كل هذه أسئلة قد لا يجدالإنسان جوابا لها... غير أنه مما لا شبهة فيه، إنها كانت فقيرة غاية الفقر، وربما لم يكن يوجد في مدينة أورشليم كلها من هو أفقر وأكثر عوزاً وحاجة منها على وجه الإطلاق، وقد كشف الوحي عما كانت تملك من رصيد وهما الفلسان، وقد شهد المسيح أن هذا كل ما عندها كل معيشتها... ولم تكن المرأة في غاية الفقر فحسب، بل أكثر من ذلك كانت منكوبة، إذ مات زوجها، وعرفت طعم الترمل ومرارته وقسوته، على أن المرأة الفقيرة الأرملة، كانت مؤمنة بالله، تعرف طريقها إلى الصلاة في بيت الله، والتقدمة والعطاء لإلهها رغم ما هي عليه من شدة حاجة، أو قسوة عوز، أو ضيق ذات اليد، على صورة نادرة بين الناس، ولا أتصور قط أنها وهي تقترب من صندوق العطاء، وهي تدرك أن «الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللهُ» ((2كورنثوس 9: 7)، كانت تحمل وجهاً عابساً، أو بائساً، أو متذمراً، بل لعلها على العكس كانت تتقدم بالوجه المضيء الطلق الممتلئ بالإيمان بالله، والرضى بأعماله، والتشبع بالشركة الدائمة معه، مهما كانت الظروف والأحوال المتنوعة والمختلفة المحيطة بها!!

«جَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاسًا فِي الْخِزَانَةِ..» (مرقس 12: 41).

ليس من العجيب أن يضع المسيح هذين الفلسين في كفة، وجميع التقدمات والعطايا التي تقدم بها الآخرون وهي كما يشهد الكتاب كانت كثيرة، في كفة أخرى، ومع ذلك رجحت كفة الفلسين على عطايا الآخرين!! كيف يكون هذا! وما هو السر في ذلك! وعلينا أن ندرك بادئ ذي بدء أن الحساب عند الله يختلف تماماً الاختلاف عن الحساب عند الإنسان، فليس المهم عند الله الكم بل الكيف، أو المادة بل الروح.. وقد تميزت عطية الأرملة الفقيرة على الآخرين بالكثير الذي نذكر بعضه...

أن هذه الأرملة عندما ألقت كل معيشتها، كل ما عندها كشفت عن جلال وعمق وعظمة اعتمادها الكبير والكامل على الله، فهي وإن كانت لا تملك بعد ذلك شيئاً فإنها إذ تملك الثقة الكاملة الموطدة بعناية الله تملك كل شيء فقد «أَلْقَتْ رَجَاءَهَا عَلَى اللهِ، وَهِيَ تُواظِبُ الطِّلِبَاتِ وَالصَّلَوَاتِ لَيْلاً وَنَهَارًا» (1تيموثاوس 5: 5).. أليس هذا عين ما يذكره السيد، وهو يطلب من المؤمنين، وهم بصدد القلق أو التفكير أو الانشغال أو الاهتمام بالمأكل والمشرب واللباس: «اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟» (متّى 6: 26) عندما كان يقرأ واحد من الرجال قائمة المتبرعين لمشروع ديني كبير في كنيستهم وكان كلما ذكر رقماً كبيراً عظيماً لإنسان كبير يدوي تصفيق المستمعين الحاضرين، حتى جاء إلى رقم متواضع صغير تقدم به متبرع فقير معوز، ولم يهتم أحد للأسف بالتحية والتصفيق، والراعي يعلم عن يقين أن المتبرع ألقى بفلسين في العطاء دون أن يعلم أحد!! سكت قليلاً ثم صاح: اسمعوا!! اسمعوا!! إني اسمع تصفيقاً.. إنه تصفيق اليدين المثقوبتين!! وسعيد حقاً ذلك الإنسان الذي تصفق له يدا المسيح، علم الناس بذلك أم لم يعلموا على حد سواء!