العودة الى الصفحة السابقة
لماذا صُلب المسيح؟

لماذا صُلب المسيح؟

جون نور


أعزائي المستمعين الكرام موضوع حلقتنا اليوم من برنامجنا حكم وأمثال من الكتاب المقدس هو لماذا صُلب المسيح؟

يؤمن المسيحيون أن الصليب هو تجسيد لعدالة الله المطلقة، ولحكمته ومحبته، ولكمال صفاته الإلهية .ولكن من المؤسف حقاً أن بعض المغرضين يرون في صليب المسيح ما يتنافى مع العدالة الإلهية، زاعمين أن في الصليب تذنيباً للبريء وتبريئا للمذنب. والحقيقة أنه في الصليب تتجلى حكمة الله وقوة الله. فالرسول بولس يقول: «فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ» (1كورنثوس 1: 18).

وللتأكيد نقول إنه مكتوب في الوحي المقدس في سفر الأمثال هذه الآية «مُبَرِّئُ الْمُذْنِبَ وَمُذَنِّبُ الْبَرِيءَ كِلاَهُمَا مَكْرَهَةُ الرَّبِّ» (أمثال 17: 15). ونحن إذ نتناول موضوع الصليب بالتأمل يجب علينا أولاً أن نخلع أحذيتنا من أرجلنا ونتسربل بالتواضع لأن الموضع الذي نحن واقفون عليه أرض مقدسة.. ولنطلب من المسيح الذي فيه «جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ» (كولوسي 2: 3) أن يكشف عن أعيننا «لِمَعْرِفَةِ سِرِّ اللهِ الآبِ وَالْمَسِيحِ» (كولوسي 2: 2).

أولاً: نقول إن المسيح البار لو كان قد أُجبر على حمل دينونة الناس الأشرار ومات ضد إرادته لكان ذلك فعلاً منافياً للعدالة، أما وأن الرب يسوع قد اختار برغبته وبدافع محبته أن يحمل عار البشر وخطيتهم فإننا نرى في صلبه عدالة الله الكاملة، لأنه إذ سبق وأعلن أن أجرة الخطية هي موت، ولم يخفف هذه الأجرة على ابنه الوحيد الحبيب حين «الرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إشعياء 53: 6). لكي يصير «لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُطِيعُونَهُ، سَبَبَ خَلاَصٍ أَبَدِيٍّ» (عبرانيين 5: 9).

يخطئ الناس إذ يظنون أن الرب يسوع قد صُلب كشهيد لأن تعاليمه تعارضت مع تقاليد المجتمع، وينسون أنه مات كفادٍ لأنه «كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى» (يوحنا 13: 1). فالمسيح لم يمت شهيداً كأنه عن ضعف، لكنه مات حباً لخاصته ليقدم الفداء للكنيسة ولكل من يؤمن به وقد شهد المسيح نفسه مؤكداً ذلك بالقول «لِهذَا يُحِبُّنِي الآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضًا لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا» (يوحنا 10: 17 و18). وهنا نرى أن المسيح بسلطانه اختار أن يضع نفسه ولم يأخذها أحد منه.. وإذ حاول بطرس مساعدة المسيح بسيفه قال له يسوع: «رُدَّ سيفك إلى مكانهِ... أَتَظُنُّ أَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الآنَ أَنْ أَطْلُبَ إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جَيْشًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ فَكَيْفَ تُكَمَّلُ الْكُتُبُ: أَنَّهُ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ؟» (متّى 26: 52 و54).

ثانياً: يظن البعض أن موت المسيح جاء حدثاً فجائياً غير متوقَّع بالنسبة له وينسون أن دم المسيح مكتوب عنه: «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ... بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ» (1بطرس 1: 18 - 20). والعهد القديم يؤكد لنا ذلك أيضاً إذ تنبأ عن تجسد المسيح وعن صلبه قبل أن يتم بآلاف السنين، فالذبائح كلها ترمز إلى ذبيحة المسيح وعيد الفصح الذي يُرش فيه دم شاة صحيحة «عَلَى الْقَائِمَتَيْنِ وَالْعَتَبَةِ الْعُلْيَا» (خروج 12: 7)إنما يرمز إلى دم المسيح الذي يحمي من الهلاك.

وفي المزامير وفي الأنبياء لا سيما إشعياء نجد نبوات واضحة وصريحة عن صليب المسيح قبل أن يحدث بمئات السنين. وفي رسالة بولس الرسول الى اهل فيلبي نقرأ هذه الآية الجميلة عن المسيح «الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ» (فيلبي 2: 6 - 9).

ثالثاً: الصليب يعلن لنا عدالة الله أيضاً لأنه كان الطريقة التي هزم بها الله الشيطان، وفتح بها الطريق للإنسان ليعود إلى محضر الله ويعود للشركة مع الله، بل لينال «شركة الطبيعة الإلهية» بعد أن أغواه وأسقطه الشيطان في الخطية التي فصلته عن الله كما هو مكتوب في سفر إشعياء: «آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ» (إشعياء 59: 2). الصليب كان الطريقة التي استخدمها الله ليبيد الشيطان ويجرده من سلطانه... مكتوب في رسالة العبرانيين «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ» (عبرانيين 2: 14). ذلك لأن المسيح اذ ارتفع عن الارض قد رفع خطية الإنسان وأعاد الشركة بين الإنسان وبين الله ورد الإنسان إلى ملكوت الله.

لذلك فنحن نرى أن في هذا الارتفاع على الصليب دينونة للعالم وطرح لرئيس هذا العالم خارجاً مهزوماً، ففكر الله من وراء الصليب ليس مجرد استبدال موضع البري بالمذنب والمذنب بالبريء بل هو عمل أعظم بكثير من إدراك عقولنا عمله المسيح بدافع محبته ليدين ويطرح رئيس هذا العالم خارجاً وليفدي الكنيسة ويجذبها إليه.

لكل ذلك كان لا بدّ أن يموت المسيح وموتهُ لم يكن متنافياً مع عدالة الله بل جاء مؤكداً لها لذلك يقول الكتاب: «إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (1يوحنا 1: 9). فالله يغفر خطايا التائبين المعترفين بخطيتهم والواثقين في كفاية ذبيحة المسيح على أساس أمانته وعدالته. فتعال إليه بكل خطاياك وأثقالك وضع ثقتك في عمله الكفاري الكامل لأجلك على الصليب.