العودة الى الصفحة السابقة
سلاماً أترك لكم

سلاماً أترك لكم

جون نور


«سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ» (يوحنا 27:14).

أعزائي المستمعين الكرام موضوع حلقتنا اليوم من برنامجنا حكم وأمثال من الكتاب المقدس هو سلاماً أترك لكم. سلامي أعطيكم.

ما أعظم الكلمات التي نطق بها الرب يسوع المسيح قبيل صلبه، وما أعظم ما تنطوى عليه من حقائق إلهية مباركة. وبالتأمل في الأصحاحات الأخيرة من إنجيل يوحنا نلاحظ أمرين هامين: الأول هو أن يسوع كان يعلم بكل ما هو مزمع أن يتألم به. والثاني هو أنه رغم علمه هذا كان يتمتع بسلام كامل في تلك الساعة الحاسمة!

وينبغي علينا نحن من دُعي اسمه علينا أن نفهم جيداً معنى السلام وحقيقته.

فالسلام ليس هو السلبية وعدم التأثر بالظروف والمؤثرات التي تدور حولنا، أو كما يظن البعض خطأ أنه عدم المبالاة وعدم الشعور. لكن السلام عمل إيجابي. إنه إطمئنان القلب في الداخل من جهة كل الأمور التي تدور في الخارج.

السلام في العقل والقلب لا يمنع الإهتمام بكل شيء، الإهتمام بالآخرين، وبعمل الله. وفي الوقت الذي فيه يجري سلامنا كنهر تكون دموعنا منهمرة حزناً على الخطاة الهالكين..

وليس السلام هو الركود، مثل البحيرة التي تبدو صافية عندما لا تكون هناك زوابع أو عواصف.

وليس السلام هو عدم المبالاة وإغفال الحقائق الأبدية كما يفعل الكثيرون من الخطاة لتهدئة ضمائرهم.

من الأفضل لنا أن تمتلئ حياتنا بزوابع الخوف من أن يكون لنا مثل هذا السلام المزيف.

السلام يتعلق بإيماننا بالحقائق الإلهية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ منا، والتي لو إضطررنا أن نموت في سبيلها لما ترددنا، لأننا لا نشك مطلقاً في صحتها. إن سلامنا يستند على «الأمور المتيقنة عندنا»، وعلى «الملكوت الذي لا يتزعزع».

وفي الوقت ذاته فهو لا يستند مطلقاً على ما نشعر به، أو على ما يدور في إحساساتنا وحين يمتلكنا التأكيد والضمان من جهة الطريق الذي نسير فيه فإننا نتمتع بالسلام. لما سأل أليشع المرأة الشونمية عن إبنها أجابته «سلام»، مع أنه كان ميتاً حينذاك، وحزنها عليه لا يعبر عنه. فهي لم تبنى سلامها على الظروف، أو على مشاعرها، بل على صلاح معاملات الله، وعلى إيمانها بأن الله قادر على الإقامة من الأموات.

هناك أمور هامة تقلق بال كل إنسان ويتوق إلى معرفتها والتأكد منها وهي: الله - الأبدية - المستقبل - الحاضر.

لاحظ معرفته بالأبدية في قوله: «فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ... أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا» (يوحنا 14: 2). كان يعلم أنه من عند الآب خرج، وكان يعلم لماذا أتى، ويعلم أنه سوف يمضي إلى الآب. ويكرر خمس مرات القول: «أنا ماض... لأبي»، دليل التأكد الكامل من صحة هذه الحقيقة.

أما من جهة المستقبل فتظهر معرفته به من الشواهد التالية:

- «وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ» (يوحنا 3:14).

- «بَعْدَ قَلِيل لاَ تُبْصِرُونَنِي، ثُمَّ بَعْدَ قَلِيل أَيْضًا تَرَوْنَنِي، لأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ» (يوحنا 16:16).

- «سَيُخْرِجُونَكُمْ مِنَ الْمَجَامِعِ... حَتَّى إِذَا جَاءَتِ السَّاعَةُ تَذْكُرُونَ أَنِّي أَنَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (يوحنا 2:16 - 4).

أما من جهة الحاضر فقد كان متأكداً أن كل شيء يسير سيراً حسناً وعلى ما يرام. هل سيسلم لأيدي الأشرار؟ إنه يعلم «أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ» (يوحنا 3:13). هل سيحتقره الأشرار؟ إنه يعلم المعنى الحقيقي للصليب والعار: «اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هذَا الْعَالَمِ خَارِجًا» (يوحنا 31:12). هل سيترك تلاميذه؟ الآب سيعطيهم معزياً آخر (يوحنا 16:14). هل كان سيتركه كل تلاميذه؟ إسمعه يقول: «وَأَنَا لَسْتُ وَحْدِي لأَنَّ الآبَ مَعِي» (يوحنا 32:16). هل سيُصلب؟ إنه يعرف أن الصليب هو طريق الإنتصار: «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ» (يوحنا 32:12).

هذا هو سر سلام المخلص في ساعة آلامه. كان هدوؤه وإطمئانه مؤسسان على معرفته وتأكده من الله، والأبدية، والمستقبل، والحاضر. وهذه هي نفس الطريق التي بها نستطيع أن نحصل على السلام الذي لا يمكن للعالم أن يعطينا إياه أو يأخذه منا.

حقاً ما أحوجنا لمثل هذا السلام. كثيرون يتمنون الحصول عليه، ويرغبون من كل قلوبهم أن يتمتعوا به، لكنهم لا يستطيعون، ولا يدركون ما يتمنون.

ونحن لا نستطيع أن نعرف هذه الأمور ونتأكد منها إلا عن طريق الرب يسوع المسيح نفسه، فهو الذي أظهر لنا محبة الآب وسلطانه وعلاقته الوثيقة بنا. لما سأله فيلبس: «أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا»، أجابه بالقول: «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ» (يوحنا 14: 8 و9).

ومن جهة الأبدية أخبرنا بكل تأكيد عن المنازل الكثيرة التي في بيت الآب، وأنه ذاهب ليعدها لنا، وبعد ذلك سوف يأتي ويأخذنا إليه ثانية.

ومن جهة الحاضر فقد أرسل الروح القدس لنا لكي يعزينا طوال مدة غربتنا، وعرفنا أنه سيمكث فينا، ويعلمنا، ويرشدنا.

ألا ينبغي أن تدعونا هذه الحقائق المؤكدة الثابتة الراسخة إلى أن نطمئن ونكون في سلام تام؟

فالمسيح لم يأت لكي يعلمنا عن السلام، بل ليسكن فينا بسلامه الشخصي. هذا هو السلام الإلهي «سَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل» (فيلبي 4: 7). حين كان الرب على الأرض بالجسد كان «مع» التلاميذ، وأما الآن فهو «في» المؤمن بالروح القدس. لذلك قال لهم: «خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي» (يوحنا 16: 7)، «هو سيمكث فيكم» «في ذلك اليوم - أي عند مجئ الروح القدس - تعرفون إني أنا فيكم»..

وكيف يصبح حلول المسيح فينا بالروح القدس حقيقة ملموسة؟ بالشركة المستمرة بين المسيح والمؤمن لحظة بعد لحظة «اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ» (يوحنا 15: 4).