العودة الى الصفحة السابقة
الله محبة

الله محبة

جون نور


أعزائي المستمعين الكرام موضوع حلقتنا اليوم من برنامجنا حكم وأمثال من الكتاب المقدس هو الله محبة.

هذه الكلمة الصغيرة المكونة في لغتنا من حرفين: «حب»، كم تناولتها قصائد الشعراء، وابتذلتها أغاني السفهاء، فحولتها من بذل وعطاء، إلى استحواذ واقتناء، فانحطت بمدلولها من أفكار السماء، إلى معاني سخيفة وحمقاء. ففي معظم الأغاني والقصائد الشعرية يوصف الحب بأنه أشواق وآهات، شهوة نهمة، ومشاعر مهمومة، وعاطفة مشبوبة، لم تنل كفايتها ولم تشبع قط من المحبوب. فالحب في نظرهم عمل غير إرادي فيتكلمون عن «الوقوع في الحب» «عدم مقاومة الحب» بل «وجنون الحب».

والرسول يوحنا، بصفته رسول المحبة والمشهور بأنه «التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ» (يوحنا 21: 7)، كتب في رسالته الأولى هذه الكلمات القليلة «الله محبة» والتي كررها مرتين في رسالته، دخل يوحنا بنا إلى أعماق قلب الله، وكلمنا عن طبيعته، وكينونته، وسرمديته. وسوف نتأمل في سباعية أفكار عن محبة الله:

أولاً: طبيعة المحبة

إن الله له صفات كثيرة ومتعددة، فنحن نتكلم عن «قدرة الله»، «أناة الله»، «لطف الله»، «قداسة الله وحكمته». ولكن يوحنا الحبيب حينما أراد أن يتكلم عن المحبة، أراد أن يطلعنا عمن هو الله في ذاته، أراد أن يخبرنا عن طبيعته. فحينما نقول إن «الله نور» فهذا أيضاً إعلان عن طبيعة الله. وطبيعة الله كانت مشغولية يوحنا في جميع كتابته، فهو نتيجة الاقتراب الشخصي لابن الله: سمع ورأى وشاهد، بل ولمس (1يوحنا 1:1)، ليست صفات ولكن طبيعة حياة جديدة كانت مستترة من قبل عند الله، وظهرت في ملء الزمان للعالم. وهذه هي الحياة الأبدية التي هي موضوع كتابته في إنجيله وفي رسالته.

حينما تأمل «أوغسطينوس» في هذا المقطع الصغير من الآية «الله محبة»، وجد فيها إثباتاً واضحاً لعقيدة الثالوث. فالله غير متغير، وبالتالي فالمحبة كجزء من طبيعته كانت موجودة في الأزل السحيق قبل خلق الكون، وكان يجب أن تجد مجالاً للتعبير عن نفسها. ومن ثم أستنتج أن هذه المحبة كانت موجهة إلى أقانيم اللاهوت الثلاثة، ولذلك يُقال عن المسيح ابن محبته ويُقال عنه «كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعًا، وَكُنْتُ كُلَّ يَوْمٍ لَذَّتَهُ، فَرِحَةً دَائِمًا قُدَّامَهُ» (أمثال 30:8). ودعي هذا الاستنتاج أحد المفكرين الأممين إلى القول: إذا قلنا أن الله واحد وحدانية مطلقة فقد جردنا الله من صفاته، ولكن إن قلنا إنه ثالوث (في وحدانية جامعة)، فنحن نظهر صفاته. وهذا ما يعلم به الكتاب المقدس.

فالمحبة في العالم من حولنا تتجه إلى أناس لهم من الصفات والسجايا الحسنة ما يبرر دوافعها. ولكن حينما أحب الله، أحب الخطاة، الأموات بالخطايا والذنوب، الأعداء في الفكر والقول والأعمال الشريرة، العصاة المتمردين، إلى غير ذلك من الصفات التي تستدعي غضب الله وليس محبته. ولكن بعد سرد الروح القدس لهذه الصفات سواء في رومية 5 أو في أفسس 2، نجد الإشارة إلى محبة الله. ففي رومية 8:5 «اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا». ونفس هذا الاستطراد الرائع نجده في رسالة أفسس 4:2 «اللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ».

فيا لروعة محبة مثل هذه تأخذ بأيدي مثل هؤلاء وتصل بهم إلى هذا المستوى الراقي. إن سفر أستير يسرد لنا قصة فتاة لها من المقومات الطبيعية أي جمال المظهر وحسن الصورة – (أستير 7:2) ما أهلها، حينما واتتها الفرصة لرؤية الملك، أن تستحوذ على رضا الملك وقبوله، فارتبط بها، ولكن «أساتير» عهد النعمة (أي المؤمنين)، ارتبطوا بملك الملوك وهم في أدنى حال من القبح وسوء الخصال.

إن المحبة الحقيقية لا تنظر إلى ما تستطيع أخذه من المحب، ولكن ما تستطيع أن تعطيه وتبذله، فالمحبة معطاءة باذلة وليست مستحوذة نهمة. والله حينما أحب، بذل أغلى ما عنده «ابنه الوحيد». والمسيح، كمن هو المعبر عن محبة الله، ضرب أعظم الأمثلة في البذل والعطاء، فقيل عنه «أَخْلَى نَفْسَهُ» (فيلبي 7:2)، «أَسْلَمَ نَفْسَهُ» (أفسس 2:5، 25)، «سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ» (إشعياء 12:53). وقد عبّر أحدهم قائلاً:

«في المسيحية، الله بذل ابنه من أجل البشر، وفي الديانات الوثنية، البشر يبذلون أنفسهم في سبيل معبودهم» (2ملوك 27:3).

قد تبدو كلمة «الغيرة» غير محببة للنفس البشرية، لأن الغيرة حينما ترتبط بالإنسان ففيها ظهور للأنانية والاستحواذ التي ليست من حق المخلوق، فالمخلوق تابع وليس مركز.

فخلاصة القول: إن محبة الله هي سترنا في البرية (رومية 32:8)، وهي قاعدة رجائنا (يوحنا 3:14؛ رومية 25:8)، وهي مركز أفراحنا (نشيد الأنشاد 4:1)؛ (1بطرس 8:1)؛ ومصدر إيماننا (رومية 8:5)؛ وأساس نعمته الغنية المتجهة نحونا (أفسس 4:1 – 6)، وحبنا هو صدى وانعكاس لحبه لنا (1يوحنا 19:4)، ويقيننا أنه لا شيء يقدر أن يفصلنا عن هذه المحبة التي في قلبه من نحونا (رومية 39:8)، فهي ترسل بأشعتها الدافئة فتحصر كل جوانب حياتنا (2كورنثوس 15:5)، وكل الذي علينا أن نحفظ أنفسنا في نطاقها (يهوذا 21) فنستمتع بدفئها ونتلذذ بفيضها.