العودة الى الصفحة السابقة
سر الإنجيل

سر الإنجيل

جون نور


أعزائي المستمعين الكرام موضوع حلقتنا اليوم من برنامجنا حكم وأمثال من الكتاب المقدس هو سر الإنجيل.

جاء يسوع الى عالمنا ليكشف لنا عن قلب الآب المحب ويكشف قلبه هو أيضاً لنا. فيسوع هو سر الدهور هو سر الإنجيل وسر الأمم. وسر يسوع في قلبه المطعون من أجلنا. لكن إن كان يسوع يكشف لنا بعضاً من أسرار الآب ومن أسراره، لكنه لا يلبث أن يغرقنا في الأسرار. فمنذ أن التحم اللاهوت بالناسوت إذا بالإنسان يواجه الكثير من الأسرار التي تقف أمامه، لا يقدر أن يفهمها، بل تزيده حيرة واندهاشاً.

«وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ» (يوحنا 1: 14). لكن كيف تجسد الكلمة؟ والسؤال «من أين لي هذا؟» هو مقدمة لأسئلة لا تنتهي.

وتعقد الدهشة لسان الإنسان أمام المذود عندما يعلم أن هذا الطفل هو المخلص، هو ملك الملوك، الله الذي ظهر في الجسد... وتأخذنا الحيرة عندما نرى الله يحمل... الله يتعذب... الله يهرب من وجه هيرودس، الله يجوع ويعطش.

وتأخذنا الحيرة أكثر عندما نجد يسوع يُعمد كالخطاة... يوحنا يقول أنا محتاج لأن اعتمد منك، ويجيبه يسوع برفق: «ينبغي أن يكمل كل بر».

وتزداد حيرتنا أكثر عندما نراه يتألم... يسوع يبكي...

ويصيب العقل الذهول عندما نراه مقيداً. يسوع يبدو عاجزاً وسط الغوغاء. يسوع يسلم للهزء والعار. يسوع يحاكم من الإنسان. يسوع يسحق سحقاً ويموت موت أبشع الأشرار. إن كل خطوة من خطواته من جثسيماني إلى الجلجثة هي قدس أقداس ينبغي أن نزحف عليها بركبنا ونبللها بدموعنا. إن السماء تدهش والأرض تتحير كيف رضي الله أن يحل عليه كل هذا العار والهوان.

فلقد كان يسوع فوق الجلجثة ذبيحة إثم، قربان سلامة. بل كان المحرقة التي سريعاً ما دبت فيها النيران. هناك سحق يسوع من أجل ذنب شعبه. لكنه كان أيضاً العود الرطب. العليقة التي ظهرت ضعيفة حقيرة، كانت أقوى من النيران.

وهناك أيضاً كان قلب يسوع يتأجج بنيران المحبة التي طغت فوق كل لهيب. فحولت الجلجثة الرهيبة إلى بوتقة تنصهر فيها قلوب البشر بنار حبه. هناك يتحول الإنسان إلى مخلوق جديد عجيب.

فلا عجب إذا رأينا تلك النار ما زالت مستعرة. نيران الجلجثة نيران متفاقمة لا تخمد أبد الدهر. بل من العجيب أن العليقة ما زالت تنمو وتترعرع بالرغم من النيران. القضيب الذي خرج من جزع يسى أصوله تمتد إلى ما قبل الزمان، ولا يمكن أن تأكلها النيران.

بل الأعجب من كل هذا أن العليقة تغذيها النيران. عليقة سيناء لم تحترق أما عليقة الجلجثة فإنها تنمو وتترعرع إلى وقتنا هذا، والنيران تدب فيها وفي أغصانها. فلقد صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وظهرت ألسنة منقسمة كأنها من نار. أنصبت نار يسوع على بني البشر. دبت نيرانه خارجهم وداخلهم. وألهبت نيرانه قلوبهم قبل ألسنتهم. لقد بدلت نيرانه وغيرت كل حياتهم.

حقاً عظيم هو سرى التقوى. إن عليقة الجلجثة بالرغم من النيران بل وبالنيران تصبح شجرة عظيمة، تتآوى فيها كل طيور السماء، ويستظل بها كل بني البشر.

نعم... نعم... إنها أرض مقدسة، حيث دبت النار في العليقة، وكل من يقف هناك ليس عليه أن يخلع نعليه فقط بل أن يضع رأسه في التراب. حيث التهبت العليقة ظهر الحب العجيب وتلامست السماء والأرض.

لكن شتان ما بين الصورة والحقيقة، بين جبل سيناء والجلجثة، بين عليقة موسى ويسوع. لقد حل الخوف والارتعاب بموسى عندما اقترب من الأرض المقدسة. أما في الجلجثة فنحن ندخل قدس الأقداس. كل من خطا هناك لا بد وأن يخشع ولا بد أن يسجد وأن يذرف الدموع.

هنا نجد العليقة تدب فيها لظى نيران شديدة. العليقة ضعيفة مهانة مترنحة، علقوها على خشبة غليظة زادت من لهيبها. العليقة يدب فيها من داخلها وخارجها حريق. نار من الأرض، من الأعداء من الإنسان. نار الخبث والشر. نار وليدة دناءة وخسة الإنسان. بل نار وليدة سهام إبليس الملتهبة. نار نتيجة صدام عنيف بين قوى الشر وجحافل الشياطين. ونار أيضاً من السماء. نار نتيجة الغضب والقصاص وعدل الآب. نار نتيجة القداسة التي لا تطيق الإثم، الذي حمله الابن عوضاً عن الإنسان. نيران مرعبة حلت على تلك العليقة الضعيفة. لكن تلك العليقة لم تحترق، كانت العليقة مليئة بالحياة. العود الرطب لا يمكن أن يحترق. بل لقد احترق العود من الخارج فقط لكن من الداخل لا يمكن أن تصل إليه النيران.

والإنسان يتأمل في العليقة التي تدب فيها النيران وإذا بعقله يتوه، يزداد حيرة عندما يعمل أن كل هذا من أجله. وينكمش عندما يعرف أن كل هذا كان حباً له.

هناك في الجلجثة يكشف يسوع قلبه للإنسان. فلقد رضي أن يطعن وأن يفتح جنبه حتى لا يكون هناك حاجز بين قلبه وبين الإنسان. وحتى تكون كل أسرار قلبه وأعماقه واضحة مكشوفة. ويعتقد الإنسان أنه يستطيع أن يكتشف قلب يسوع، وإذا به يتوه هناك. إن يسوع في شدة بساطته وحبه يجذب الإنسان إليه. ويظن الإنسان أنه يستطيع أن يعرفه كل المعرفة وإذا بالإنسان يكتشف أنه إله عجيب. والإنسان يبقى دائماً أبداً يتساءل في خشوع «أي إنسان هذا؟».