العودة الى الصفحة السابقة
المصلوب المنتصر

المصلوب المنتصر

جون نور


أعزائي المستمعين الكرام موضوع حلقتنا اليوم من برنامجنا حكم وأمثال من الكتاب المقدس هو المصلوب المنتصر.

أعزائي المستمعين لا بد أن جميعنا يعلم إن الفداء الذي تممه يسوع على الصليب هو امتداد وتكمله لعملية التجسد. وان هذا الفداء قد بلغ قمته بالصليب. فبالتجسد أصبح الله حاضراً في الإنسان ليجدده ويشفيه ويشركه في حياته الإلهية. ولكن بقي أن يُزال الحاجز الذي أقامته الخطية في صميم الإنسان بينه وبين خالقه. هذا الحاجز هو كما رأينا انغلاق الإنسان، انطواؤه على نفسه دون الله، هو عبادة الأنا التي حكمت على الإنسان بعزلة مميتة. كان ينبغي إذاً تحطيم هذا الحاجز لتتدفق في الإنسان حياة الله، لأن الإنسان الممتلئ من ذاته لم يعد لله مكاناً فيه. لذلك عندما اتخذ ابن الله طبيعة الإنسان، داوا أنانيتها بالانفتاح الكامل والعطاء الكامل اللذين حققهما في إنسانيته.

فإنه طيلة حياته على الأرض، لم يرد أن يتمتع بالمجد الإلهي الذي كان كامناً فيه. فإنه «أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ» (فيلبي 7:2). أخلى ذاته من التمتع بالمجد الإلهي وقبل طوعاً بوضع «العبد». ومع أن كل شيء كان في متناول يده، أراد أن يبذل لا أن يأخذ، «أن يَخدم لا أن يُخدم» (متّى 28:20) حياته كلها كانت قرباناً لله الآب، وللبشر الذين صار أخا لهم. فقد ولِد فقيراً في مذود البهائم وتشرد عند اضطهاد هيرودس له. وعاش معظم حياته عاملاً مجهولاً: «أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ؟» (مرقس 3:6) وطاف يبشر وهو «لَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (متّى 20:8). ورفض أن يصنع آية في السماء ليبهر بها البشر (متّى 1:16، 4) ولكنه كان يصنع العجائب رأفة بالمعذبين و«وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي الشَّعْب» (متّى 23:4). وقد احتمل عدم إيمان الكثيرين، حتى أقاربه الذين كانوا ينعتونه بالجنون وتلاميذه الذين لم يفهموا رسالته حق الفهم والذين تركوه كلهم وفروا حين تسليمه، وباعه أحدهم وأنكره آخر. وصبر على إهانات وشتائم واضطهادات أعدائه الذين كانوا ينعتونه «بأن به شيطانا» (يوحنا 48:8) ولم يرد أن ينتقم منهم بل انتهر يعقوب ويوحنا عندما طلبا إنزال نار من السماء لإحراق قرية رفضت أن تستقبله (ولوقا 51:9 – 56) وزجر بطرس عندما أراد أن يدافع عنه بالسيف وصلى من أجل قاتليه. وأراد، وهو المعلم والسيد، أن يكون وسط تلاميذه كالخادم (لوقا 27:22) وأن يغسل أرجلهم (يوحنا 4:13، 5).

هذا العطاء الذي به أراد المسيح أن يستأصل أنانيتنا، بلغ ذروته في الصليب. كان في وسع المسيح أن لا يموت بالنظر للاهوت الكامن فيه، ولكنه ذهب في تخليه عن «الأنا» إلى أقصى الحدود، باذلاً ذاته للموت. وهكذا قدم حياته على الصليب قربان محبة للآب، تعبيراً عن تخليه التام عن مشيئته الذاتية، كما قال بنفسه في بستان جثيماني: «لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ» (متّى 26: 39) وكما ورد عن لسانه في الرسالة إلى العبرانيين مخاطباً الآب: «ذَبِيحَةً وَقُرْبَانًا لَمْ تُرِدْ، وَلكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَدًا. بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ. ثُمَّ قُلْتُ: هنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ» (عبرانيين 5:10 – 7).

هكذا تمرد آدم، فأطاع المسيح. تكبر آدم، فتواضع المسيح. اكتفى آدم بذاته، فتخلى المسيح عن ذاته «وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ» (فيلبي 8:2). وهكذا بإنسانيته المبذولة، المعطاءة، أعطى البشرية الدواء الشافي لداء الأنانية الذي فصلها عن الله.

فإنه، وهو البريء من كل خطية، أخذ على نفسه كل الشقاء الذي جرته الخطية على الجنس البشري: فقد احتمل عارها وذلها ولعنتها والظلمة والعزلة والألم والموت التي نتجت عنها. أراد أن يكون على الصليب محتقرا، ذليلا، مهانا «لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ» (إشعياء 3:53) «مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا» (إشعياء 5:53) «مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ» (3:53) وكأنه متروك من الله نفسه «إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (متّى 27: 46).

وهكذا فإن يسوع المسيح على الصليب ظهر لله الآب مجسماً في جسده الجريح، الممزق، المختنق، وفي نفسه المنسحقة، بشاعة كل خطية البشر التي أخذها على نفسه فصار شفيعاً للخطاة أجمعين عندما وحد ذاته معهم: «سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ» (إشعياء 12:53).

مملكة الموت لم يكن بوسعها أن تضبط سيد الحياة والقدوس البريء من الخطأ. لذا كان دخول يسوع فيها مقدمة لتحطيمها وتحرير الإنسان منها. هكذا لما شاركنا الرب في الآلام والموت أعتقنا من الموت والآلام، ولما أسلم ذاته لذلك العالم الرهيب الذي أوجدته الخطية ضرب قوى الخطية الكامنة فينا ضربة قاضية. عندما طرح نفسه في ظلمتنا، أضاءها بنوره، وعندما شاركنا في موتنا أعطانا حياته. هكذا تحققت نبوة إشعياء التي رددها الإنجيل مطبقا إياها على يسوع: «اَلشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا» (إشعياء 2:9، متّى 16:4) «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ» (عبرانيين 14:2).

«فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ» (1كورنثوس 18:1).