العودة الى الصفحة السابقة
القبر الفارغ

القبر الفارغ

جون نور


أعزائي المستمعين الكرام موضوع حلقتنا اليوم من برنامجنا حكم وأمثال من الكتاب المقدس هو القبر الفارغ.

يسوع هو أعظم معلم عرفته الإنسانية. إصطفى إثنى عشر من صحابته أسماهم «تلاميذ» وأخذ يعلمهم ويدربهم. وكانت دعوته دائماً تعلموا مني. وقد قبل على نفسه أن يدعوه الناس «يا معلم». وخاطبه أحكم مشايخ اليهود وأغزرهم ثقافة بقوله: «نحن نعلم أنك معلم مرسل من الله». وكانت رسالته الوداعية لأتباعه وأنصاره «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ... عَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ» (مرقس 16: 15، متّى 28: 20).

وكانت تعاليمه فريدة في ذاتها، لا مثيل لها بين أصحاب الدعاوي الدينية الأخرى، لأنه قرن تعاليمه بنفسه «بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا» (يوحنا 15: 5). وأنه لمروق عن جادة الصواب وخروج عن الدين الحق، إذا نحن أخذنا مبادئ المسيح وتعاليمه، وتجاهلنا ذاته وحياته.

ذلك لأن تعاليمه لم تكن مقتصرة على الأقوال التي نطق بها، فحياته وموته وقيامته كانت تعاليم رائعة. وقد تضمنت تعاليمه صفاته المعصومة عن الخطأ، وأعمال الرحمة والشفاء التي أتاها، وتضحيته الفدائية التي بذلها، وقيامته المجيدة التي إنتصر فيها. لقد علّم على مقتضى ما عاش به عملاً، وما إنفرجت عنه شفتاه قولاً...

والحق، إن الرسل والأتباع لم يفتنوا المسكونة بإذاعة الموعظة على الجبل، بل أذاعوا أولاً نبأ قيامته، وما عدا ذلك كان ثانوياً...

وذلك المعلم الأعظم يسوع لم يسطر مخطوطاً، ولم يكتب نصوصاً، ولم يصنف كتاباً، ولم يبعث برسالة، ولم ينقش على الحجر عبارة... بل قد غرس بذور أقواله في قلوب وعقول وضمائر قلة من أتباعه الموالين له. ومع ذلك أعلن في يقين راسخ: «اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ» (متّى 24: 35).

كانت تعاليمه من الحياة للحياة. لذلك علّم عند البئر في ساعة الظهيرة، ليعين إمرأة خاطئة كانت في نزاع مع زوجها الخامس! وعلّم فوق الجبل، وعلى سطوح المنازل في الليل، وتحت ظلال أشجار الزيتون في البستان، وفي الطرقات الضيقة بين حقول الحنطة، ومن فوق سفينة صياد، ووسط زنابق الحقل التي رصعت مروج الجليل وسهوله...

علّم عن الخلود عند قبر مفتوح، يوم أعاد أخاً ميتاً عزيزاً على أختيه المفجوعتين.وعلّم عن شفقة الله ورعايته يوم شهد عصفوراً صغيراً يسقط على تراب الأرض في طريق عام.

وعلّم عن الإيمان والإتكال على الله من مؤخرة سفينة وسط عاصفة عاتية. وعلّم عن العطف والحنان بدموعه الساخنة التي سكبها يوم ألقى نظرة الوادع على أبراج وقباب المدينة التي رام خلاصها.

وكانت له طريقته الخاصة في التعليم فلم يجد مساساً بكرامته في أن يهبط إلى أقل مستوى في البساطة والسذاجة. ولم يخشى أبداً أن يمثل الحق بالأشياء العادية والأوضاع المألوفة في حياة الناس. فلقد تكلم في منتهى البساطة، وفي ذروة من السمو عن رغيف الخبز، وكأس الماء البارد، وقطعة النقود المفقودة، وحبة الخردل الصغيرة، والخميرة في عجين المرأة، والخروف الضال، والكرمة وأغصانها، والإبن الضال، والطريق الضيق، وثعالب الأرض وطيور السماء، وأزهار الحقل، والمصابيح... بل قد إستخدم أشياء أخرى أبسط من هذه في تعاليمه مثل ثقب الإبرة، والشوك، والحجارة، واللصوص، والتبن، والريح.

لكن أين تعاليمه منا اليوم؟ تعنى كل حكومات العالم بحفظ وثائقها وأوراقها في أقبية من الصلب لا تمتد إليها يد التخريب والتدمير... ويعنى كل المعلمين والساسة بحفظ أقوالهم للأجيال القادمة بشتى الوسائل...

أما ذلك المعلم الأعظم فقد وثق، إنه لا الزمن ولا السوس ولا الصدأ، ولا يد الإنسان المخربة، تقدر أن تمتد بسوء إلى أقواله. ولم يشيد أقبية من الصلب لصيانتها، لأنه علم أن السيارات والكواكب سوف تذوب، وتزول من فضاء الكون، وتبقى أقواله خالدة على الزمن، لأن فيها الحق والحياة.

لقد ألقى أقواله في الفضاء، فلم تدونها آلات التسجيل، ولكن حفظتها قلوب فئة مستضعفة من الناس، وهي اليوم أقدس ما تعيه ذاكرات البشر من كل الأجناس والألوان والطبقات، في أرجاء العالم بكل لغات الأرض.

من الخواص البارزة التي إمتازت بها تعاليمه عن سواه من أصحاب الأديان الأخرى، أنه جسمها في ذاته وعبّر عنها مجلوة صافية في حياته فحين قال «أحبوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا»، أردف هذه العبارة بقوله «كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا» (يوحنا 13: 34). وحين تكلم عن التواضع، مثله عملياً في تنازله وغسل أرجل تلاميذه. وحين تحدث عن الصبر، قيل عنه أنه «إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا» (1بطرس 2: 23). وحين قال: صلوا من أجل أعدائكم والذين يسيئون إليكم، سمعناه يقول وهو معلق على الصليب: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا 23: 34) ويوم قال: «آمَنُوا بِاللهِ» (تيطس 3: 8). أضاف «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ» (يوحنا 14: 9).

كلمة أخيرة: إن الذي يعلّمنا إياه، ويأمرنا به، يقترن دائماً بالقوة على أدائه، والحكمة لفهمه والنعمة لإتمامه. لأن هذا المعلم «حي» في السماء حتى اليوم، بل حي فينا، وروحه تسند جهودنا الوضيعة على الأرض، وتشفع بنا في السماء...

«هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (متّى 28: 20).هكذا قال معلمنا الأكبر، ساعة الوداع!

يطيب لي ان اقول لكل واحد منكم في هذا العيد عيد القيامة المجيدة كل عام وانتم بخير والوطن بألف خير.