العودة الى الصفحة السابقة
الاختلاء مع الرب

الاختلاء مع الرب

جون نور


أعزائي المستمعين الكرام موضوع حلقتنا اليوم من برنامجنا حكم وأمثال من الكتاب المقدس هو الاختلاء مع الرب.

«تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ» (مرقس 31:6).

كلنا يعلم إننا نسير في العالم، وتعلق بنا أقذاره، وتهاجمنا تجاربه، ويثور علينا غباره، ويصوب إلينا العدو سهامه. وما أحوج النفس إلى الاعتزال مع الله في ساعة الاختلاء! وإذ تمثل في حضرة الله يكشف لها بنوره عن ضعفاتها وعثراتها وملوثات الخطية التي تعلق بها، إن السيد يدعونا قائلاً: «تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ» (مرقش 31:6)، وما أعظمها من حكمة إلهية!

ولقد كان هذا هو الأمر الإلهي للتلاميذ الأولين، فقبيل انطلاق السيد إلى المجد أوصى تلاميذه قائلاً: «أَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي» (لوقا 24: 49). وكانت فرصة الاختلاء مع الله، هي التي مهدت لحلول أمجاد يوم الخمسين، هي الأيام العشرة التي قضوها في الصوم والصلاة والفحص أمام الله. وهكذا تأيد لهم أخيراً صدق الوعد الإلهي: «لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ» (أعمال 1: 8). لاحظ الشرط: أقيموا.. انتظروا... افحصوا نفوسكم.. اطلبوا، وحينئذ يأتي إتمام الوعد: ينالون قوة.. قوة الروح.

ولقد احتاج رجال الله في كل العصور إلى مثل هذا الاختلاء قبل القيام بأعمال عظيمة. فلقد كان من الضروري لموسى رجل الله أن يقضى أربعين يوماً على قمة جبل سيناء في الصلاة والصوم والاعتراف بخطاياه وخطايا الشعب، حتى تعلن له أخيراً مقاصد الله، ويتشبع بوصاياه، ويمتلئ قلبه بالحكمة اللازمة لقيادة جيش من العبيد في برية جرداء طيلة أربعين سنة كاملة.

بل إن الرب يسوع نفسه استطاع على قمة جبل التجلي أن يمتلئ بالقوة اللازمة للخطوة الجوهرية في رسالته، خطوة الصليب. إن الذين تركوا لنا تقريراً عن ذلك الحادث المعجزي لم يقدموا منه إلا لمحات خاطفة، لكننا نستطيع أن نستخلص منها أنه في الوحدة والاختلاء مع الآب استطاع – له المجد – أن يمتلئ بالقوة اللازمة لمواجهة الصليب والعار.

وهل ننسى بولس الرسول قبيل خروجه للخدمة، وكيف مكث في الصحراء العربية ثلاث سنين، متمثلاً بالسيد الذي أقتيد في بداية خدمته إلى البرية؟ فمع أن هذا الرجل تعلم أصول الناموس عند قدمي غمالائيل كبير الربانيين، ومع أن الرب يسوع ظهر له في وضح النهار، إلا أنه في الخلوة امتلأ بنفس «الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي 2: 5).

هناك، في البرية القاسية، تعلم كيف يقهر نفسه ويستعبدها، وتدرب كيف يشبع وكيف يجوع، كيف يستفضل وكيف ينقص. وهكذا امتلأ أخيراً بالقوة اللازمة ليقف في وجه الوحوش الآدمية وضد مكايد إبليس، بل ويربح ممالك للمسيح.

ثق عزيزي المستمع أن بركات النعمة تنتظرك عندما تطيع صوت الله وتدخل إلى مدرسة الفحص الذاتي. هل أنت إنسان مجدد القلب؟ ثق بأن التجديد ليس سوى خطوة أولى في طريق طويل. إنك خلصت، وبدأت الحياة المباركة، لكن الطريق لا يزال طويلاً أمامك. إنك إذا تركت نفسك بغير فحص تصبح كمرآة يعلوها الغبار، أو كمصباح تتراكم عليه الأتربة. إن لم تظهر بين الحين والحين في حضرة الله فإن عزمك يتراخى ويضعف، «فمُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ» (إشعياء 40: 31)، وفي الانتظار والسكون أمام الرب تكون قوتنا.

هل أنت مؤمن عصفت به الرياح، فكاد يفشل؟ لا تيأس أيها العزيز، إن بركات النعمة تنتظرك. قد تقول إنه لم يعد لك رجاء، والرب يسر بان يطلق أسرى الرجاء. وقد تقول إنه لم تعد فيك قوة لمواجهة التجارب، والرب يقول لك: «قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ» (2كورنثوس 12: 9). إن كان قلبك قد انكسر وانسحق في أعماقك فإن القلب المنكسر والمنسحق لا يحتقره الله. تعال يا أخي،ادخل في خلوة مع الرب «ادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ» (متّى 6: 6).

من أنت أيها الإنسان الضعيف بدون الله؟ هل أنت نفس تصارع بشدة ضد قوات الشر غير المنظورة؟ تعال والبس سلاح الله الكامل لكي تقدر أن تجاهد ضد قوات الشر وتثبت في مصارعتك مع العدو، «لأِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ» (أفسس 6: 12).

وأخيراً، من أنت أيها الإنسان الذي تسمع هذه الكلمات عبر الراديو؟ هل أنت نفس لطختها المعاصي والآثام، هل أصبح قلبك أقسى من الصخر وإرادتك أكثر سواداً من ظلمة الجحيم؟ إنك تحتاج ليس إلى اقل من ملء نعمة الله. في الاختلاء مع القدير يتقدم الله لنفسك بهذه النعم نعمة النور الإلهي، ليكشف لك عن حالتك وعظم شرورك وتعاسة الأبدية التي تنتظرك.. ويقدم لك نعمة القلب الجديد.

صلى للرب وقل له ربي، إني أتقدم إليك بنفس ليست فيها صحة، فمن هامة الرأس إلى باطن القدم تشوهني جروح الخطية وضرباتها. هلا تتحنن عليّ أيها الطبيب الإلهي وتعيد إلى نفسي نعمة الصحة الروحية؟

أيها الينبوع المطهر، إني أتقدم إليك بذاكرتي المليئة بالشر. أمح منها كل فكر لا يرضيك، واملأها بالفكر الذي في المسيح يسوع.

إني أتقدم إليك يا سيدي بفكري القاصر، ألا تنيره بنورك الإلهي؟ إني أتقدم إليك بقلبي القاسي. «قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي» (مزمور 51: 10).

بل إني أتقدم إليك يا سيدي بكل كياني وبكل حواسي، بكل مواهبي وإمكانياتي، فاستخدمها كما تشاء وأنفخ فيها بقوة روحك، واستخدمها لتقديس نفسي، وخلاص الآخرين، وتمجد اسمك القدوس... آمين.