العودة الى الصفحة السابقة
مَن تُرى هذا؟

مَن تُرى هذا؟

جون نور


أعزائي المستمعين الكرام موضوع حلقتنا اليوم من برنامجنا حكم وأمثال من الكتاب المقدس هو مَن تُرى هذا؟

عندما نتأمل في شخصية المسيح، نتساءل مَن هو يا ترى؟ انه إنسان من لحم ودم، إنسان من فلسطين، شرقي الملامح، سامي القسمات، قويّ البُنية، جميل الطلعة، بل هو «أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى (شفتيه)، لِذلِكَ (باركه) اللهُ إِلَى الأَبَدِ» (مزمور 2:45). في بلادنا وُلد في مدينة بيت لحم، وعلى أرض بلادنا نشأ وترعرع. ظلّ في الناصرة فقيراً وضيعاً حوالي ثلاثين عاماً، بعرق جبينه يأكل خبزه، ومن قدومه ومنشاره يعيش، لقمته من قمح وزيتون ولبن بلاده، مرقده حصير بسيط وفراش متواضع يفترشه في منامه. ثم انطلق ينادي بالبشرى ثلاث سنوات، يجوب أرض فلسطين من سفوح جبل الشيخ شمالاً حتى حدود الصحراء جنوباً، ومن سواحل البحر المتوسط غرباً إلى ما وراء نهر الأردن شرقاً. من هذه البقعة أي أرض فلسطين استمد أمثاله الرائعة يقرب بها تعاليمه السامية إلى الأذهان: الزارع ينثر حبّه السخي في الأثلام الطويلة التي خطّها محراث ربما كان يسوع قد قام بصنعه، الصيّاد يُصلح شباكه على الشاطئ أو في السفينة، المرأة تضع الخميرة في العجين، العامل يقف في الساحة ينتظر من يستأجره، الراعي يتفقّد قطيعه، ويدعو خرافه بأسمائها، ثم يسير أمامها فتتبعه لأنها تعرف صوته، فيما هي تنفر من الغريب لأنها لا تعرف صوت الغرباء. زهور الحقل وزنابق البرّ وطيور السماء، كلها من أرضنا ومن بلادنا اتخذها يسوع، أمثلة من واقع الحياة.

عزيزي المستمع كان يسوع رهيف الحس، رقيق الذوق، يرتاح إلى الصداقة المخلصة، ويبقى على الوفاء حتى لصديق خائن. يعطف على المرضى والبؤساء، ويناصر مستضعفي الأرض المستغلين المغلوبين على أمرهم. كان يسوع يشارك أبناء الشعب أفراحهم وولائمهم وأعراسهم على غير تزمّت، ويشاطرهم أحزانهم، فيذرف الدمع على قبر صديق، ويمسحه من عين والد مفجوع، أو أم حزينة، أو امرأة ملهوفة، ويبكي على مدينة كان شعارها التصلّب والتكبّر والعمى الروحي رفضت الأنبياء والمرسلين. يحنو على الصغير، ولا يترفّع عن ملاطفة الأولاد. لا يهادن الخطية في شيء، ولكنه يعطف بحنو لا يوصف على الخاطئ الضعيف، المتلمّس طريق التوبة لتقويم السيرة. يدافع عن المرأة الساقطة المسكينة في وجه الظالمين المُرائين، لأنه وحده العارف ما في قلوب هؤلاء وتلك. يُضطهد ظلماً وتقسو عليه يد الجلاّدين ويُقدّم إلى الصلب، ورغم ذلك، كان يصلي لمن صلبوه وعذّبوه طالباً الغفران لهم.

كان يسوع يمثّل أسمى أبعاد الإنسانية، لا يُدانيه في ذلك أحد، حتى أنه وحده من جميع الذين مرّوا على أرضنا سُمي «ابن الله». هكذا سمّاه الأنبياء من قبل، وهكذا هو سمّى نفسه. إنه الإنسان في أسمى تجليات تحقيقه، ولكنه أيضاً الإنسان في أقصى وضاعته ومهانته. لقد كان واحداً من إخوته البشر، مثلهم في كل شيء ما عدا الخطية (عبرانيين 15:4)، فخبر في نفسه الجوع والعطش، والتعب والتشرّد، والحرمان والعذاب، وعرف حسد الحسّاد، وكيد الأعداء، وخيانة الصديق، والتنكر للحب، وتخلّي الأصحاب في المحنة، وذاق طعم السخرية، وشرب كأس الإهانة والظلم والتعسف حتى الثمالة.

متواضع حتى أقصى حدود التواضع، لا يسكره نجاح، ولا يسعى وراء شهرة، بل يطلب التخفّي وكتم المعجزات، لم يشأ شهرة نفسه، بل الشعب أراد أن ينصبّه ملكاً، فيتوارى في عزلة الجبل. ولكنه مع تواضعه الجمّ يدّعي ادعاءات مذهلة لا تصحّ إلا في الله وحده. يقول إنه فوق الخلائق جميعاً، إنه فوق البشر فيقول: «أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ» (يوحنا 8: 23).

مَن ترى المسيح؟ ذاك هو السؤال الكبير الذي يملأ التاريخ كله، والذي لا يستطيع أحد جهله أو تجاهله دون أن يحدّد منه موقفاً. اختلفوا وسيختلفون دوماً في أمر المسيح لأنه تتضارب أقوال الناس في ابن الإنسان، أما قول الله فيه فلا لبس به ولا إبهام، إنه المسيح ابن الله الحي.

ليس في تاريخ البشرية إنسان عاقل جرؤ على ادّعاء الألوهية إلا المسيح نفسه، فهو عندما يتكلم عن الله يدعوه أباه وهو ابنه. ونذكر الحادثة التي حصلت عندما كان المسيح في الثانية عشرة من عمره، يوم تخلّفه في الهيكل، يقول لمريم ويوسف، «ألا تعلمان أنه يجب عليّ أن أكون في ما هو لأبي؟» (لوقا 2: 49). وليست هذه البنوّة تعبيراً مجازياً أو بنوّة بالتبني، بل هي بنوة كيانية حقيقية «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» (يوحنا 30:10)، «الآب فيّ وأنا في الآب» (يوحنا 36:10 – 38)، «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ» (يوحنا 9:14) «إني من الآب خرجت وجئت إلى العالم» (يوحنا 28:16). إنه من طبيعة الله وجوهره، ومن ذات كيانه. «الله لم يره أحد قط. وحده الابن يستطيع أن يخبر عنه» (يوحنا 18:1)، ولا أحد يستطيع أن يعرف عمق حقيقة الله، إلا الله. «لا أحد يعرف مَن هو الابن إلاّ الآب، كما لا يعرف مَن هو الآب إلاّ الابن» (متّى 27:11، لوقا 22:10).

إنه الكلمة، الكلمة الله، كلمة الله وروحه تُلقى إلى مريم. فالكلمة هو الله من قبل أن يُلقى إلى مريم. فليس الأمر اتخاذ مخلوق وتبنّيه وتأليهه، بل هو انحدار إله وتنازله إلى البشر.

«لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ» (1يوحنا 8:4). لقد صار ابن الله ابن الإنسان، لكي يصير بنو الإنسان أبناء الله.