العودة الى الصفحة السابقة
الذبح العظيم

الذبح العظيم

جون نور


أعزائي المستمعين الكرام موضوع حلقتنا اليوم من برنامجنا حكم وأمثال من الكتاب المقدس هو الذبح العظيم.

لم يكن صليب المسيح إلا مذبحاً فريداً قدمت عليه تلك الذبيحة العظيمة، التي أتت في ملء زمان الحاجة لتنقذ البشرية من يأسها وضياعها.

فمنذ فجر التاريخ كان الإنسان في حيرة يفتش عن الذبيحة التى تكفر عن خطاياه بلا جدوى، وعندما تحدث اسحق مع أبيه ابراهيم كان يعبر عن حيرة البشرية وعجزها عندما قال: «هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ، وَلكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي» (تكوين 7:22 و8).

وبصرخة مدوية في عمق التاريخ، وفي حيرة بالغة كان النبي ميخا يشير إلى تلك القضية الهامة عندما قال: «بِمَ أَتَقَدَّمُ إِلَى الرَّبِّ وَأَنْحَنِي لِلإِلهِ الْعَلِيِّ؟ هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ، بِعُجُول أَبْنَاءِ سَنَةٍ؟ هَلْ يُسَرُّ الرَّبُّ بِأُلُوفِ الْكِبَاشِ، بِرِبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ؟ هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي، ثَمَرَةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي؟» (ميخا 6:6 و7).

عزيزي المستمع لقد كان الإنسان يعرف الإجابة مسبقاً، لذا كان يردد في ذلة واتضاع «لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى» (مزمور 16:51).

وهكذا فإن الله لم تشبعه ذبائح البشرية وتقدماتها المختلفة في كل العصور. وما كان هناك شيء يفوق ما فعله إبراهيم عندما عزم أن يقدم اسحق ابنه الوحيد على المذبح لإلهه. إذ الجميع زاغوا وفسدوا. لكن الله أمسك بالنسل الذي حسب الموعد الذي قيل فيه: «وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ» (تكوين 18:22).

التفت إبراهيم وراءه وإذا بكبش ممسك في الغابة بقرنيه «فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضًا عَنِ ابْنِهِ. فَدَعَا إِبْرَاهِيمُ اسْمَ ذلِكَ الْمَوْضِعِ «يَهْوَهْ يِرْأَهْ» (تكوين 13:22 و14).

غير أن ذلك الكبش لم يكن إلا رمزاً ل «حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!» (يوحنا 1: 29). فلم يكن في كل خليقة الله من هو أهل ليقوم بفداء الإنسان. فالخلاص الثمين هو من صنعه وكان لا بد وأن يُتممه على حساب نفسه، حتى يتزكى الله في قضائه ويكون كاملاً في كل شيء.

إن خلاص البشرية الساقطة من الدينونة الرهيبة لم يكن معلقاً على خيوط واهية أو مرهوناً بأمور غير مؤكدة. لقد كان خلاصنا معتمداً على محبة الله وقداسته، ولن يستند الله في تتميم هذا الهدف العظيم على شيء أو أحد سواه.

إن ذلك الكبش الممسك في الغابة لم يكن وليد الصدفة.

هكذا كان خلاص الإنسان مضموناً حتى قبل الخليقة وقبل السقوط بفضل تلك الذبيحة الإلهية الأزلية.

«عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ» (1بطرس 1: 18 - 20).

وهكذا جاء يسوع المسيح، ليكون هو الذبح العظيم، الذي قدمه الآب ليفدي به العالمين. ولقد كان السيد حقاً ذبحاً عظيماً في أزليته وألوهيته وفي محبته أيضاً. لقد صوّره الوحي بكبش مُمسك في الغابة بقرنيه. ولقد كانت الذبائح تمسك وتقيّد لقرون المذبح حتى لا تفر هاربة. أما يسوع فقد أمسك منذ الأزل في غابة البشرية طوعاً. كانت قيود عجيبة من المحبة هي التي أمسكته وطوقته مع البشرية الساقطة.

إن يسوع قدم نفسه حباً... لذلك عندما أزفّت الساعة أمسك بالنار وحمل الحطب على ظهره وتقدم بثبات إلى مذبح الجلجثة. ألا يحق ليسوع أن يقول لتلاميذه مؤكداً: «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ» (يوحنا 13:15).

فيسوع هو «بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (عبرانيين 3:1) الذي قال: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ» (متّى 18:28) وهو الذي «إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ» (فيلبي 6:2) لكنه مع كل ذلك أخلى نفسه من مجده وقوته وعظمته كي يتمم أهدافه من أجلنا.. وها قد رأيناه فوق خشبة العار والهوان متخلياً عن كل شيء... لكنه في نفس الوقت كان يملأ الكل وبه أيضاً الكل!

من يستطيع أن يعي معنى «موت الصليب»؟ من يقدر أن يفهم آلامه وحقيقة عذابه ونيرانه؟ لم يكن الصليب إلا أتوناً خاصاً بيسوع. كان حقاً أتوناً من العذاب الإنساني... أتوناً من نيران الأبالسة والشياطين... لكنه فوق كل شيء كان أتوناً من غضب السماء. هناك انصبّت على ذلك الحمل الوديع نيران الدينونة الرهيبة...

أن ذبيحة المسيح هي ذبيحة فائقة لأنها ذبيحة حية دائماً. إن يسوع لم يقدم جسده فقط بل «قَدَّمَ نَفْسَهُ ِللهِ بِلاَ عَيْبٍ بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ» (عبرانيين 14:9) لهذا فإن هذه الذبيحة وإن شبّت فيها النيران لكنها لم تحترق. لقد لحست النيران الجسد والخشب والتراب لكنها لم تقوَ على ذلك الروح الأزلي. لذا فإن ذبيحة المسيح هي ذبيحة حية دائمة، كانت أمام الله منذ الأزل وسوف تبقى إلى أبد الدهور: «فَمِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضًا إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ» (عبرانيين 25:7).

وبعد... ألا يستحق ذلك الخروف المذبوح أن نخر أمامه خاشعين مرنمين مع ربوات القديسين قائلين: «مُسْتَحِقٌّ هُوَ الْخَروُفُ الْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ الْقُدْرَةَ وَالْغِنَى وَالْحِكْمَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَالْمَجْدَ وَالْبَرَكَةَ!..».

«لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لإِلهِنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً...». (رؤيا 5: 12، 9، 10).