العودة الى الصفحة السابقة

Table of Contents

القداسة

القداسة

«اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ» (عبرانيين 12: 14)

في هذه الآية المجيدة دعوة لنا للقداسة. وهي تتمشى مع وصية الرب القائلة «كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ» (1بطرس 1: 16). وقد دعى اليها بطرس رسول المسيح اذ قال: «نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ» (1بطرس 1: 15). وهذه الايات الكريمة تطرح هذا السؤال: هل ترغب ان تكون مقدسا للرب؟ الجواب متروك لكل واحد منا لكي يهمسه في أذني السيد الرب. كلنا نشعر بأننا متعبون، ونطلب الراحة. وكلنا نشعر بأننا مضطربون ونسعى وراء الهدوء. وكلنا نشعر بأننا حزانى ونجري وراء التعزية. وفي وسط هذه الحرب المجنونة البشعة كلنا نشعر بالخوف، ونتوسل الامن والسلام.

ولكن قبل هذه كلها، هل نحس بعدم طهارتنا فنطلب القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب؟ لنكن مخلصين مع أنفسنا، ولنناقش هذا الامر بضمير صالح. نحن نأتي الى الكنيسة لاننا نشعر بحاجة قلوبنا الى الفرح في الرب، والى الراحة في الرب. ولسعادتنا فان الرب يريد ان نفرح ويريد أن نستريح. ولنا منه هذه الوصية: «لاَ تَحْزَنُوا، لأَنَّ فَرَحَ الرَّبِّ هُوَ قُوَّتُكُمْ» (نحميا 8: 10). «اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، وَأَقُولُ أَيْضًا: افْرَحُوا» (فيلبي 4: 4)، قال بولس في رسالته الى أهل فيلبي.

وتخبرنا الكتب المقدسة ان الآب قد أعد لنا المزيد من البركات التي في ربنا يسوع. ولكن قبل كل شيء وفوق كل شيء يريد أن نكون قديسين. فهل نتجاوب معه في ارادته؟ ان المناسبة تدعونا اليوم للتأمل في ما تقوله الكلمة الالهية بدعوتنا الى القداسة. ففي 1تسالونيكي 4: 3 نقرأ: «لأَنَّ هذِهِ هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: قَدَاسَتُكُمْ». ان يعرف كل واحد منكم ان يقتني إناء قداسة وكرامة. وفي 2تسالونيكي 2: 13 نقرأ: ان الله اختارنا منذ البدء للخلاص بتقديس الروح القدس وتصديق الحق. وفي أفسس 1: 4 نقرأ: «اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّة» .

هل تأملت في هذا الامتياز العظيم، ان الله في محبته اختارك لتكون قديسا وبلا لوم؟ وهذا يعني انك ان كنت في المسيح فأنت معين لتكون قديسا. ان الأمر المؤسف يا أحباء، هو انه مع وضوح حق القداسة في الكتب المقدسة كوضوح تعليم الخلاص تماما، ومع ان القداسة قنية ثمينة تجعل المؤمن شريكا في الطبيعة الالهية، التي تتيح له الهرب من الفساد الذي في العالم بالشهوة. الا ان كثير من المسيحيين لا يطلبونها، لان اتباع القداسة يطلب منهم تسليم الحياة كاملا للرب. بينما هم يريدون الاحتفاظ ببعض الممارسات التي لا تليق بقديسين.

الجدريون طردوا يسوع من تخومهم فحرموا من بركات الله المدخرة فيه، وكان السبب في طرده تعلقهم الشديد بقطيع خنازير حقير. هكذا يتصرف بعض من يدعون أنفسهم مسيحيين، يحجمون عن اتباع القداسة بسبب تعلقهم بالشهوات العالمية.

«اتبعوا القداسة» قال الرسول. ولعل أحدنا يتساءل: ما المعنى الانجيلي للقداسة؟! الكتاب العزيز يذكر معنيين للقداسة: الأول الفرز والتخصيص للرب، بمعنى ان القديس هو المفرز والمخصص كليا للرب. فان كان أحد مؤمنا حقا فهو يخص الرب وبالتالي قديس. أو ليس هذا ما تشتاق اليه نفوسنا؟ ان نكون خاصة الرب، الذين دعوا أهل بيت الله ورعية مع القديسين؟

أما المعنى الثاني للقداسة، فهو التشبه بالرب يسوع المسيح. هكذا نقرأ في رومية 8: 29 «لأَنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ٱبْنِهِ، لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِين». في الحق ان المطلب الرئيسي لقداسة الحياة، هو ان يكون للمؤمن مستوىً روحيا قريبا من الله، تمشيا مع قول المسيح: «كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متّى 5: 48).

ولسعادتنا فان يسوع قدم لنا الوسيلة لبلوغ هذا المستوى الروحي. لانه أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه وجعلنا ملوكا وكهنة لله أبيه. ولكي يقدسنا أكثر يريد ان يحل بالايمان في قلوبنا لكي يوصلنا ويؤسسنا في المحبة. فندرك مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو لمحبة المسيح الفائقة المعرفة. لكي نمتلئ الى كل ملء الله.

في صلاته الشفاعية من أجلنا قال المسيح مخاطباً الآب: «أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ» (يوحنا 17: 23). فالحياة المقدسة كلها مركزة في هذه الكلمة «أنا فيهم». ومعنى الكلمة ان المسيحيين الحقيقيين مسكن يشغله المسيح يسوع ربنا. فان كان المسيح يسكن فينا، فالمسيح القدوس هو قداستنا. هكذا نقرأ في 1كورنثوس 1: 30 «وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ ٱللهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً». وان كان المسيح فينا فالمسيح حياتنا، هكذا قال الرسول: «لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ» (فيلبي 1: 21) «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية 2: 20). والحق ان المسيحي المولود من الله بالماء والروح ليس مجرد إنسان تغيرت حياته وانتهى الأمر. كما انه ليس انسان تقدست حياته وانتهى الامر.

المسيحي المولود من الله هو من كانت حياة المسيح فيه باستمرار. وهذا المسيحي المولود من الله يظهر المسيح في سلوكه كابن نور. فهل تحققت في حياتك طلبة المسيح «أنا فيهم» حتى يتعامل الناس معك يرون المسيح في حياتك وفقا لقوله: فليضئ نوركم هكذا قدام الناس فيروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا اباكم الذي في السموات. أجل يا أحباء هذه هي ثمرة القداسة ان يظهر المسيح فينا رجاء المجد.

نقرأ في رومية عن ثلاثة أشياء فعلتها الخطية. دخلت الى العالم، كثرت في العالم، ملكت في الموت على الجميع. ونتيجة لذلك استخدمت الناس استخداما معيبا. أما الآن فقد خلص المسيح المؤمنين به من سلطتها، فصاروا في المسيح والمسيح فيهم. وكمخلصين بالمسيح، هل يصح ان يعودوا اليها؟ وكمغسلين بدم المسيح هل يليق بهم ان يتسخوا بأوحالها مرة أخرى؟ وكمحررين بنعمة المسيح هل تستطيع الخطية استعادة سلطتها عليهم؟ حاشا وكلا! فالكلمة الرسولية تقول لمفديي الرب المقدسين «فَإِنَّ الْخَطِيَّةَ لَنْ تَسُودَكُمْ، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ النِّعْمَةِ. لٰكِنِ ٱغْتَسَلْتُمْ، بَلْ تَقَدَّسْتُمْ، بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلهِنَا» (رومية 6: 14، 1كورنثوس 6: 11). صحيح ان الخطية خاطئة جدا وهي تعارض تسليم حياتنا للرب. ولكن الرب جهز الأمر بحيث لا تستطيع الخطية ان تتملكنا في ما بعد، لاننا قد متنا عن الخطية وحياتنا مستترة مع المسيح في الله. متنا عنها تماما، لأن انساننا العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور قد صلب مع المسيح ليبطل جسد الخطية كي لا نعود نستعبد أيضا للخطية.

أيها الأحباء

ان اختيارنا المسيح سيداً يستلزمنا أن نتقدس. أن نمتنع عن تقديم أعضاءنا آلات إثم للخطية، متذكرين ان دعوتنا المقدسة تهيب بنا أن نقدم ذواتنا لله، كأحياء من الأموات وأعضاءنا آلات بر لله. قدم ذاتك كليا لله! قدمي ذاتك كليا لله! لكي لا يكون هناك ثغرة واحدة ينسرب ابليس منها لإفساد الحياة. قدم العين لترى مجد الله. قدم الاذن لتسمع صوت الله. قدم اليدين لتعملا مرضاة الله. قدم الرجلين لتسعيا في طريق لله. قدم الشفتين لتسبحا بحمد الله. قدم كل عضو فيك لله. لأن عدم تقديم عضو واحد يمكن ان يكون سبب هزيمة الحياة كلها. وليحذر كل مغسل بدم المسيح، انه بعدما هرب من نجاسات العالم بمعرفة الرب والمخلص يسوع المسيح، لا يصح ان يرتبك فيها ايضا. لأن في هذا ارتداد عن الوصية المقدسة المسلمة له. وقد وصف الرسول بطرس حال المرتدين عن القداسة بقوله: «قَدْ أَصَابَهُمْ مَا فِي الْمَثَلِ الصَّادِقِ: كَلْبٌ قَدْ عَادَ إِلَى قَيْئِهِ ، وَخِنْزِيرَةٌ مُغْتَسِلَةٌ إِلَى مَرَاغَةِ الْحَمْأَةِ» (2بطرس 2: 22).

اذكر يا أخي ان المسيح الرب هو العطية الأولى لك من الله. وهو يريد أن يحل بالايمان في قلبك، لكي تحيا فيه وهو فيك وان أعضاء جسدك هي أعضاء المسيح، ولا يجوز أن تجعل عضواً منها نجساً. واذكر ان الروح القدس هو العطية الثانية لك، وان الروح الإلهي يسكن فيك فمجد الله في جسدك الذي هو لله. وان الروح القدوس يعمل فيك لهدف واحد هو تعظيم المسيح فيك.

فلا تحزن روح الله القدوس الذي به ختمت ليوم الفداء. انه روح الحق الذي يتولى إرشادنا الى جميع الحق وينير أذهاننا لكي ندرك امتيازاتنا في المسيح. ولكي نعرف ما لنا في المسيح وما للمسيح فينا. الروح القدس هو رسول المسيح الى كل واحد منا لكي يعطينا اعلانا كاملاً عن المسيح وعن ميراثنا في المسيح. انه روح القداسة الذي يكرسنا ويفرزنا عن العالم الذي وضع كله في الشرير. ويبين لنا أن لا شركة للنور مع الظلمة. ويظهر لنا ان صداقة العالم الغرار يعتبرها الله زناً روحياً. لأنها امتهان للروابط المقدسة مع المسيح. والروح القدس هو روح الحياة الذي أعتقنا من ناموس الخطية والموت. وهو الذي يعطينا القدرة على التمثل بالله كأولاد أحباء، وبالسلوك في المحبة التي هو رباط الكمال. والروح القدس هو روح المجد الذي يحررنا من قيود الأرضيات لكي نطلب ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. وهو القوة التي تحولنا الى شبه المسيح المتزايد اليوم، وغداً وما بعده لأن كل يوم يمر علينا وهو فينا يضيف الى حياتنا لمسة من مجد الرب الفادي، الى أن نصير الى الشبه الكامل، صورة ابن الله الحي.

أو الصورة التي عبر عنها الرسول بإنسان الله الكامل المتأهب لكل عمل صالح. اسمه روح القداسة وهو يحقق فينا قداسة الحياة. وإذ نصبح في صورة المسيح نأتي بثمر ويدوم ثمرنا. وهذا الثمر تحدث عنه رسول الأمم بولس في رسالته الى الغلاطيين اذ قال: «وَأَمَّا ثَمَرُ ٱلرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ» (غلاطية 5: 22 و23). هذه الفضائل التسع هي كمال صفات الرب يسوع الأدبية وهي لنا بفعل الروح القدس الحي لتظهر حياة المسيح فينا. فليت الرب يعيننا لكي نتجاوب مع دعوته لنا هذا اليوم حتى لا نبقى على شاطئ الحياة الروحية، بل نذهب الى العمق لنأخذ من ملء المسيح ونعمة فوق نعمة.