العودة الى الصفحة السابقة

«مِنْ أَيْنَ ٱلْحُرُوبُ وَٱلْخُصُومَاتُ» (يعقوب 4: 1)

خلال الأحداث التي اجتاحت لبنان، لا بد أن كثيرين تساءلوا: لماذا سمح الله بوقوع هذه الحرب التي عصفت بهذا البلد الصغير الوادع. ولكني كنت أود من الذين ينسبون هذا الويل لارادة الله أن يذكروا ان ارادة الله صالحة مرضية كاملة وان عينيه لا تستطيعان ان تريا الشر، وانما صانع الشر هو الانسان. في الواقع، أليس في نفوسنا جميعا نوازع الاعتداء والكبرياء والطمع والقسوة؟ يقول الكتاب ان الله خلقنا على أحسن تقويم على صورته خلقنا، وزودنا بالعقل والإرادة الحرة بحيث يمكننا أن نميز بين الأمور، فنرفض أو نقبل الأشياء بمحض اختيارنا. إذن نحن لسنا دمى تحركها أصابع الله لتعمل ما لا تشاء.

فالحرب التي لفحت بهذا الجنون، ليست في الواقع إلا حصادا لشرور وآثام فردية، تجمعت فغدت جمرات نار مضطربة وقودها الخصام والتقاتل. في يوم ميلاد المسيح هلل الكون وأنشد ملائك لحن السلام قائلين: «ٱلْمَجْدُ لِلّٰهِ فِي ٱلأَعَالِي، وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ» (لوقا 2: 14). ولكن السلام لا يمكن ان يحل إلا في قلوب الذين قبلوا رئيس السلام. أما حيث يرفض فلا سلام، لان لا سلام قال ربي للاشرار.

يخبرنا التاريخ انه منذ العام 1500 الى زمننا هذا خاضت بريطانيا 78 حربا، وفرنسا 72 حربا، وألمانيا 23 حربا، واسبانيا 64 حربا وروسيا 62 حربا، والصين 13حربا واليابان 11 حربا.

ولماذا كل هذه؟ أليس لأن العالم رفض رئيس السلام؟ ولست أدري لماذا تثور مشاعر الناس عندما تنشب الحرب ويفكرون في ويلاتها وآلامها ونتائجها الفاجعة ولا تثور لأجل الآلام الاخرى الحادثة بيننا؟ فالآلام الناشئة أوجع في آثارها من الحرب، وأكبر في آلامها من الحرب. لأنه بسبب الفقر، يوجد في العالم مئات الملايين المهددين بالموت جوعا ومرضا. وتقول الإحصائيات ان في الهند وحدها ما يقرب العشرة ملايين طفلا، لا ينالون قسطهم كاملا من الغذاء والكساء والعناية الطبية. ولكن هذه الآلام الناشئة من الفقر لكونها بليدة وسلبية لا تثير مكامن الحس عند الناس. ولا تحملهم على التفكير والتساؤل كما يفعلون في ازاء الحرب.

في اعتقادي ان المشكلة المشكو منها ترجع الى أصل واحد هو وجود الشر في العالم. ومشكلة الشر هذه حارت العقول في تأويلها منذ ان كان التاريخ، ولم يستطع الفكر البشري أن يجد حلا لها. وقد يفنى الزمان قبل ان تحل هذه المشكلة. حتى نحن المسيحيين نقف حيارى امام هذه المعضلة السوداء ولا نجد حلا لها الا بطريقة واحدة ان نعيش بالايمان والرجاء والمحبة، واثقين ان الله سيد الحياة ورب الكل سيجعل كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله.

والحق انه ليبدو لكل باحث ان مشكلة الحرب أقل مشاكل الشر حدة. انها أيسر في تأويلها وتعليلها من الزلازل والفيضانات والجفاف وغيرها من جائحات الطبيعة. لان الحرب ما هي الا قسوة الانسان على أخيه الانسان فكل حرب في التاريخ دبرها البشر وأشعلوا نارها.

وهكذا قال الرسول يعقوب: «مِنْ أَيْنَ ٱلْحُرُوبُ وَٱلْخُصُومَاتُ بَيْنَكُمْ؟ أَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا: مِنْ لَذَّاتِكُمُ ٱلْمُحَارِبَةِ فِي أَعْضَائِكُمْ؟ تَشْتَهُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ» (يعقوب 4: 1 و2). والواقع ان بعض الناس يشتهون شيئا ليس عندهم، ويريدون ان يمتلكوه، وبعض آخر يشتهون ليزيدوا ما عندهم من ممتلكات والفريقان يستعملون الطرق الملتوية في الحصول على ما يشتهون. تحسدون وتقتلون، قال الرسول. هكذا فعل قايين حين قتل أخاه هابيل حسداً، لأن الرب الإله رفض قربانه وقبل قربان أخيه. وهكذا فعلت الملكة ايزابيل، لما حسدت نابوت اليزرعيلي على حقله، فقتلته واستولت على الحقل. ولكن لننتبه فان بعض يحسبو قتلة بسبب الغضب الحاقد، هكذا قال المسيح: قيل قديما لا تقتل وأما أنا فأقول لكم ان كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم. وان بعض الناس يحسبون قتلة بسبب البغض الحاقد هكذا قال الرسول يوحنا: «مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ» (1يوحنا 3: 15).

وتقول الوصية الرسولية، ليكن كل انسان مبطئا في الغضب لأن الغضب لا يصنع بر الله. تحسدون ولستم تقدرون ان تنالوا فتقتلون، قال الرسول. والواقع انه في اكثر الحالات يتحاور المتخاصمون ويبحثون عن حلول لمشاكلهم المعقدة، كما هو حادث بين الفئات المتخاصمة في لبنان، ولكنهم يصرفون الوقت في المجادلات الغبية، والمجادلات الغبية، قال بولس «تولد خصومات» والخصومات لا تلبس ان تأخذ طابع البغضاء والبغضاء تصيرها حربا. والسبب في هذه كلها يعزوه الرسول الى كون الناس لا يطلبون الحق. كان في امكانهم أن يطلبوا الله ويقدموا له رغباتهم وفقا لقول المسيح: اسألوا تعطوا اطلبوا تجدوا.

يقول كثيرون ان الذين حسدوا وخاصموا وحاربوا وقتلوت نالوا أما نحن فقد طلبنا من الله ولكننا لم نأخذ شيئا. فالى هؤلاء يقول الرسول: تطلبون ولستم تأخذون لانكم تطلبون رديا لكي تنفقوا في لذاتكم. صلواتكم لم تكن حسب ارادة الله وكانت الانانية ابرز ما في طلباتهم. كانت صلواتهم من نوع صلوات اليهود في البرية لكي يعطيهم الله طعاما. فلما أعطوا المن من السماء قالوا انه رديا سخيفا.كانو يريدون ان تملأ قدورهم باللحوم والمآكل الشهية كما في مصر. لكأن الله آلة يستعملونها لتحقيق مشتهياتهم الجسدية. لذلك لم يكن غريباً أن يرفض الله مطلبهم.

أيها الأحباء

يرى الناس الحروب بأهوالها القاسية ويتساءلون لماذا لا يتدخل لإبطالها؟ لماذا لم يجنب لبنان حربه الطائفية؟ لماذا لا يضع حدا للتقاتل في أريتريا؟ لماذا لا يضع حداً للتذابح في إرلندا؟ لماذا لا ينهي هذه الحرب المزمنة بين العرب واليهود؟ كأن السائلون ينتظرون ان يرسل الله ملاكا من السماء ليفصل بين المتقاتلين في تل الزعتر والدكوانة. أم ينتظرون ان يسد أفواه المدافع والرشاشات والبنادق ام ينتظرون ان يشل الايادي التي تنسف البيوت والمصانع بمادة ت.ن.ت. وكيف يريدون أن يتدخل الله لكبح جماح اي شرير بيننا؟ أيريد أحدهم أن يضربه بالعمى حين ينظر الى أخيه نظرة استكبار واحتقار؟ أو يقطع يده لانه يحتكر المواد الغذائية فيسيء الى أخيه الفقير؟ أو ان ينزل ناراً من السماء ليحرقه لأنه بخس العامل أجرته؟

حين أساء السامريون استقبال يسوع، سأله تلميذاه يعقوب ويوحنا أن ينزل نار من السماء ليفنيهم. فانتهرهما بشدة قائلاً لستما تعلمان من أي معدن أنتما! لستما تعلمان أي ميل شرير تنطوي عليه غيرتكما النارية! لستما تعلمان ما في طلبتكما لمعلمكما من استكبار وثورة غضب وشهوة انتقام! لو ان الرب اتى شيئا من هذا القبيل أكنا نستطيع ان نرفع له تسابيح الحمد والشكر لأجل بره ورحمته؟ في اعتقادي ان في تساؤل الناس وحيرتهم ازاء موقف الله فكرة خاطئة عن صلاحه. ولعل كثيرين يتصورون ان الله نوع من السوبرمان يجلس فوق عرش السماء ويتلقى الثناء من خلائق الارض، دون أن يبالي بما يجري على المسكونة من محن ومآسي. وانه فيما يتصارع الناس ويتشاحنون ينظر من فوق متأهبا لانزال الدينونة العادلة!

هذه أفكار خاطئة والى هذه الافكار الخاطئة ترجع ردة الكثيرين عن الله. والى هذه الافكار الخاطئة ترجع الاضطرابات الفكرية وما يتبعها من مآسي. في الحق يا اخوتي انه ليس بين الله والانسان هوة عميقة ولسنا نعيش على أرضنا منفيين عن الله يلفنا ضباب الشك. ولسنا نعيش في مستنقع موحل، يتعذر علينا اجتيازه الى الله. لاننا كما قال الرسول فيه نحيا ونتحرك ونوجد. تأكدوا ان الفاصل بين الله والانسان ليس فراغا مكانيا بل هو فاصل روحي أدبي ممثل في خطايا الانسان. كما هو مكتوب: «آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ لأَنَّ أَيْدِيَكُمْ قَدْ تَنَجَّسَتْ بِالدَّمِ، وَأَصَابِعَكُمْ بِالإِثْمِ. شِفَاهُكُمْ تَكَلَّمَتْ بِالْكَذِبِ، وَلِسَانُكُمْ يَلْهَجُ بِالشَّر» (إشعياء 59: 2 و3). ومع ذلك فالرب الإله يطلب الناس الاشرار ويقول: «تُوبُوا وَارْجِعُوا لِتُمْحَى خَطَايَاكُمْ، لِكَيْ تَأْتِيَ أَوْقَاتُ الْفَرَجِ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ» (أعمال 3: 19).

فلنثق بالرب الله، لأن الرب الله مع المؤمنين في تجاربهم، وهو معهم في صراعهم مع الحياة، وحين يتألمون يتألم معهم. وانه في كل مرة تتمرد نفس بشرية، وتؤثر الظلمة على النور والزيفان على الحق، يزداد ألم الله وحزنه على البشرية الضالة ولهذا لقب ربنا يسوع برجل الاوجاع ومختبر الحزن. ونعلم من الانجيل انه ذبح كحمل الله للتكفير عن خطايا العالم. وندرك بالايمان ان صليبه ما زال قائما في قلب الله. لقد صلب قديما على تلة الجلجثة، ويصلب على زمننا في لبنان وأريتريا وفي كل مكان تحت الشمس. ومما تجب الاشارة اليه هو ان يسوع الذي يصلب في الحروب بطريقة بشعة يصلب أيضا بطريقة بشعة ومفجعة في المجاعات كالتي تجتاح بنغلادش والهند وقسما من افريقيا. وكما صلبه خاصته الذين جاء اليهم في القديم، يصلبه خاصته اليوم في كل قلب فاسد مفعم الشر. ويصلبه كل انسان ميسور يغلق أحشاءه عن حاجة أخيه المحتاج والجائع والمريض والمطرود.

أيها الإخوة

قد يقف كثيرون موقف اللاأدريين إزاء مشكلة الألم، ويعلنون انهم لا يعرفون علته ولا منشأه. ولكن أولاد الرب لا يجهلون فوائده في علاج البشرية. فالألم بحسب مشيئة الله هو الترياق للشفاء من الشر، وانما مفعول هذا الترياق ليس مباشرا ولا سريعا. وفوق هذا، ما لم يكن الألم طوعيا وعن رضى فإنه لا ينتج أثراً.

قال رجل الله فرنسيس الاسيزي في إحدى صلواته: يا رب امنحني قبل موتي ان أشعر ولو بجزء من الألم، الذي عاناه المسيح لأجلنا. وهبني أن أحس في قلبي ولو بنسمة من تلك المحبة التي اضطرمت في قلب الفادي وهو يبذل نفسه لأجل خلاصنا. وفي العهد الذي قطعته مدام كيون مع الرب قالت: اني منذ الآن اتخذ المسيح لنفسي عريساً، وأسأله العون لأكون في فكر واحد معه، وديعة طاهرة.وفي اتحادي مع ارادته اقبل كنصيبي من آلامه التجارب والأحزان والصلبان والازدراء.

وقال توما الكمبيسي أيها الرب يسوع، بما أنك عشت عيشة ضيقة واحتملت احتقار العالم، هب لي الاقتداء بك في آلامك، لأن ليس العبد أعظم من سيده ولا التلميذ أفضل من معلمه. أعطني أن ارتاض وأتدرب في سيرتك، لأن فيها خلاصي والقداسة الحقيقية. لقد أعلن الله بأنبيائه ان اليوم الذي فيه تبطل الحروب آت لا ريب فيه. ولكن الهنا لن يتدخل لتحقيق ذلك بطريقة معجزية بل سيفعل ذلك تدريجياعن طريق الالام الفدائية، اني بقوة الصليب الممثل بآلام الكثيرين من المساكين بالروح. والحق ان أهوال الحروب وفظائعها ومآسيها لا يسيغها العقل، ولا يحتملها الضمير ان كنا لا نرى فيها معناً من المعاني. أما اذا عرفنا ان هذه الظلمات الكثيفة التي يجتازها العالم ستعجل مجيء المسيح لإقامة ملكوت الله على الارض. كانت لنا هذه الرؤى، فلا بد ان تتبدل وجهة نظرنا للألم تبدلاً كلياً.

في خلال الحرب العالمية الثانية أذاع أحد رجال الدين الانكليز نداء قال فيه: ان استطعنا أن نتلقى الضربات وأفدح الخسائر بروح الايمان، واذا استطعنا الاحتفاظ بالمحبة نقية سمحاء، دون مرارة وحقد. واذا استطعنا ان نغلب التجربة التي قد تساورنا لردع الشر بالشر ومقابلة الأذى بالأذى واذا أبقينا على روح المودة والغفران. واذا وجد بيننا عدد كاف ممن يشاركون المسيح في آلامه ويتألمون بروحه. اذا استطعنا كل هذه، ينبت وسط انسانيتنا الفقيرة المحطمة انسانية جديدة تكبت روح الحرب وتصنع حقاً وبراً وسلاماً.

أيها الأحباء

صحيح ان الأحداث الفاجعة ملأت قلوبنا حزنا وألماً. ولكن لنذكر انه قد وهب لنا من أجل المسيح، لا أن نؤمن به فقط بل أن نتألم لأجله. وكمؤمنين لنعتبر ان الله هش علينا بعصا التأديب، معبراً لنا عن حبه لنا في كل شيء، كما هو مكتوب: «لأَنَّ ٱلَّذِي يُحِبُّهُ ٱلرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ٱبْنٍ يَقْبَلُه» (عبرانيين 12: 6). اننا نجوز في البلوى المحرقة، التي أشار اليها الرسول بطرس وأوصانا بأن لا نستغربها، لان فيها امتحان لايماننا. وهي تمثل اشتراكنا في آلام المسيح كمقدمة لاشتراكنا في مجده.

ولكن الكلمة النبوية تقول لنا: «لاَ تَحْزَنُوا لأَنَّ فَرَحَ ٱلرَّبِّ هُوَ قُوَّتُكُمْ» (نحميا 8: 10). وهذه القوة تحفزنا لمتابعة الطريق لكي نقوم الأيادي المرتخية والركب المخلعة. قد يرتسم أمام أعيننا خوف من أن تؤول الأحداث الى سيطرة قوة مجمع الشيطان على بلدنا العزيز. فتتصدى لمسيرتنا وتحد من نشاطنا الانجيلي. ولكن لا نخف لأن الذي قال: «لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُك» (يشوع 1: 5) عيني عليك. ولنا وعده المطئن: «هَئَنَذَا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكَ بَاباً مَفْتُوحاً وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُغْلِقَهُ، لأَنَّ لَكَ قُوَّةً يَسِيرَةً، وَقَدْ حَفِظْتَ كَلِمَتِي وَلَمْ تُنْكِرِ ٱسْمِي» (رؤيا 3: 8).