العودة الى الصفحة السابقة

«يَا ٱمْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟» (يوحنا 20: 15)

كان يوم السبت الذي تلى نزول المسيح الى القبر يوماً رهيباً للتلاميذ، فقد تصدعت قلوبهم، وانطفأت فيها جذوة الأمل. وكيف لا تتصدع قلوبهم، وقد مات المعلم الذي تركوا كل شيء وتبعوه. وكيف لا تثقل قلوبهم بالحزن والخيبة وهم يسمعون تلك الصرخة الداوية تنطلق من شفتيه: الهي الهي لماذا تركتني؟ وفي اعتقادي انهم حين سمعوا تلك الصرخة غزى الشك قلوبهم، وراحوا يتساءلون لماذا لم ينصره الله أمام العالم؟ لأن منطق الأحداث، دل على أن كل شيء قد انتهى بالنسبة لمسيا رجاء العالم، لكأن الشيطان قد انتصر! والواقع ان حلفاء الشيطان، اذ ظنوا انهم قد انتصروا ختموا القبر وأقاموا عليه حراسة ظنا انهم يستطيعون منع المسيح من اتمام وعده بالقيامةفي اليوم الثالث.

ولكن الشيطان وأعوانه فشلوا في محاولته واوقعوا أنفسهم في مأزق حرج، فقد قام رب المجد منتصرا على الموت ليثبت للعالم انه المسيا رب الحياة. قام وصار باكورة الراقدين، فتم قوله: انقضوا هذا الهيكل وأنا أقيمه في اليوم الثالث.

في العهد القديم كانت باكورة السنابل التي تنضج أولا تجمع في حزمة. وفيما أبناء الشعب يمارسون الفصح في أورشليم كانت هذه الحزمة تردد في الهيكل كتقدمة شكر للرب. وقبل تقديمها ما كان يسمح لأحد أن يبدأ بالحصاد، فهذه الباكورة ترمز الى المسيح الذي هو باكورة الحصاد الروحي الذي سيجمع الى ملكوت الله. وقد حدث فعلاً انه في اليوم الذي قدمت فيه باكورة الحصاد في الهكيل قام المسيح. المسيح قام وصار باكورة الراقدين المسيح باكورة ثم الذين للمسيح في مجيئه.

أي ان قيامة المسيح هي عربون قيامة الأبرار لهذا قال الرسول: «إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذلِكَ الرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ، سَيُحْضِرُهُمُ اللهُ أَيْضًا مَعَهُ» (1تسالونيكي 4: 14). يخبرنا الكتاب المقدس ان يسوع لما قام سبى سبيا، اذ أقام معه كثيرين من القديسين الراقدين. هؤلاء دخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين وشهدوا لقيامته قائلين: لقد قام المسيح وأقامنا معه. وبقيامتهم تأيدت حقيقة القيامة منذ الساعة الاولى لحدوثها. فتم ما قيل باشعياء النبي: «تَحْيَا أَمْوَاتُكَ، تَقُومُ الْجُثَثُ. اسْتَيْقِظُوا، تَرَنَّمُوا يَا سُكَّانَ التُّرَابِ. لأَنَّ طَلَّكَ طَلُّ أَعْشَابٍ، وَالأَرْضُ تُسْقِطُ الأَخْيِلَةَ» (إشعياء 26: 19).

لقد سبق ليسوع ان قال: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا» (يوحنا 11: 25، 10: 18). «لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِه» (يوحنا 5: 26) . «إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِير» (يوحنا 12: 24). نقرأ في الانجيل انه حين رفع يسوع على الصليب، كانت هناك نساء كثيرات ينظرن من بعيد كن قد تبعن يسوع من الجليل لخدمته، بينهم مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي وسالومة ويونا، وأم يوحنا بن زبدي. وحين انزل نيقوديمس ويوسف من الرامة جسد يسوع عن الصليب ليدفن. ذهبن وراء نعشه ليعلمن أين سيدفن. وفي اعتقادي ان أولئك السيدات المحبات قضين الليل كله في سهر ودموع، لأن نجوم الأمل قد أفلت من ليلهن الكئيب. ولكن إن كان الصليب قد أمات آمالهن فان محبتهن لم تمت. لأن المحبة قال سليمان أقوى من الموت وأعمق من الهاوية. فما أن انقضت ساعات السبت وبزغ فجر الأحد حتى انطلقن الى القبر حاملات الحنوط والأطياب ليدهن بها جسد الفادي. سرن وقد ملأ الحزن وجوههن وكان حديثهن همسا. وقالت إحداهن: من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟ فرددت الأُخريات: نعم، من يدحرج لنا هذا الحجر الغشيم الضخم؟

أما المجدلية فكانت صامتة، لا تتحدث لأن العبرات خنقتها وعطلت عندها النطق! وأخيرا وصلن الى القبر، فذهلن لأن الحجر كان قد أزيل والقبر فارغا. وفيما هن مضطربات ومنكسات وجوههن الى الأرض وقف بهن ملاك الله وخاطبهم بلهجة المندهش: لماذا تطلبن الحي بين الأموات. ليس هو ههنا لكنه قام. اذكرن كيف كلمكن في الجليل قائلا: «إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ، وَيُصْلَبَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ» (لوقا 24: 7). سمعت المجدلية الخبر السار فركضت الى المدينة وأخبرت بطرس ويوحنا فأسرع التلميذان الى القبر فوجداه فارغا فعلا. وبعد أن تأملا في مخلفات السيد من أكفان وأربطة ومنديل عادا الى المدينة. أما مريم المجدلية فبقيت في البستان تبكي، وفيما هي تبكي سمعت صوتا يسألها: «يَا ٱمْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟ فَظَنَّتْ تِلْكَ أَنَّهُ ٱلْبُسْتَانِيُّ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُهُ» (يوحنا 20: 15).

كان المتكلم هو يسوع المقام، واذ لم يشأ ان يتركها في يأسها ناداها بلهجته الجليلية المألوفة لديها «يا مريم» فاهتز كيانها ولم تلبث ان جثت وهمت باحتضان رجليه قائلة «ربوني». ولكن يسوع أوقفها باشارة من يده قائلا: «لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلٰكِنِ ٱذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلٰهِي وَإِلٰهِكُمْ» (يوحنا 20: 17). فانطلقت مريم بسرعة الى حيث التلاميذ مجتمعين حاملة لهم الخبر السعيد: سيدي قام، سيدي قام. المسيح قام هللويا! رحمة عظمى! سعادة كبرى! لقد صدق يوحنا البشرى السارة لانه منذ أن رأى القبر الفارغ آمن بقيامة رب المجد. وكذلك بطرس مال الى التصديق. أما بقية التلاميذ فشكوا.وفيما كان الجميع يناقشون النبأ الذي حملته مريم المجدلية اليهم. كان الرب المقام يظهر لاثنتين من حاملات الطيب وقال لهما: سلام لكما. «اِذْهَبَا قُولاَ لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْجَلِيلِ، وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي» (متّى 28: 10). فجاءتا الى حيث اجتمع التلاميذ في العلية وأبلغناهم رسالة يسوع المطمئنة. ثم ظهر الرب المقام لتلميذين من عمواس في الطريق وتحدث اليهما. فعادا سريعا الى أورشليم وفيما يخبران رفاقهما والأبواب مغلقة وقف يسوع في الوسط وقال لهم: سلام لكم.

المسيح قام، هذه أمنية السماء! المسيح قام هذا رجاء الأرض! يا لسعادتنا! فان ولينا حي قام وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات ليظهر في الدهور الآتية غنى الفائق علينا باللطف.المسيح قام وكل المؤمنين به شركاء في قيامته وسيبلغون قيامة الأبرار. المسيح قام فقام الحق المطلق وما كان للقبر من قوة لاحتجاز الحق المطلق. انه اله حق من اله حق، جاء لبرهة في الجسد لكي يحررنا من الباطل ولما أكمل عمله عاد الى مجده وفقا لقوله: «خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ الآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَيْضًا أَتْرُكُ الْعَالَمَ وَأَذْهَبُ إِلَى الآبِ» (يوحنا 16: 28).

في الواقع هل كان ممكنا ان يحتجز القبر ذلك الرب الذي في يده مفاتيح الهاوية والموت؟ كلا! بل كيف كان ممكنا ان تكمل الكتب بدون قيامته؟ صدقوا أيها الاحباء آمنوا أيقنوا ان المسيح قد قام حقا. قام وشهد لقيامته رجال رأته عيونهم ولمسته أيديهم بعد قيامته. فبطرس كتب لنا شهادته بمداد اليقين اذ قال: «اَلَّذِي أَقَامَهُ اللهُ نَاقِضًا أَوْجَاعَ الْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ» (أعمل 2: 24). وبولس كتب لنا شهادته بمداد الايمان بعد أن رآه على طريق دمشق، اذ قال: «وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ . وَلكِنِ الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِين» (1كورنثوس 15: 17 و20). ويوحنا كتب لنا شهادته بمداد الحس اذ قال: «اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ . وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا» (1يوحنا 1: 1 و2).

أيها الأحباء

لبرهة خلت كان تلاميذ الرب يعيشون في جو قلق كئيب لا رجاء فيه ولا أمل، لان الصليب بدد رجاءهم والقبر حطم أمالهم. ولكن في لحظة في طرفة عين حين نظروا وجه ربهم المقام تبدلت حالهم، فالخوف ولى والشجاعة أقبلت والحزن انصرف والفرح جاء. والضعف تلاشى والقوة أتت، والهزيمة صارت الى نصرة، والموت ابتلع الى غلبة. ورن نشيد الظفر: أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية؟.

كانوا في حال تخاذل ولكن ما أن اكتحلت عيونهم بنور الرب المقام. حتى سرت منه اليهم قوة عجيبة وامتلأوا بفرح الله الذي يفوق كل عقل. وامتدت القوة وامتد الفرح عبر الاجيال الى كل الذين آمنوا بقيامته. وانطلقت ترنيمة الرجاء الحي: «مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ» (1بطرس 1: 3 و4). وحينما يكرز بانجيل قيامته تقوم نفوس من سبات نوم الموت.

يا إخوتي الأحباء

ان رسالة القيامة لنا اليوم كما كانت لأسلافنا رسالة بعث وخلق جديد. تجديد في العواطف تجديد في الأفكار تجديد في الأهداف. على وفق قول رسول الأمم بولس: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا (2كورنثوس 5: 17).. تطلع حولك في الطبيعة في هذا الوقت ترى الاشجار قد خلعت أوراقها القديمة ولبست أوراقا جديدة خضراء. فهلا خلعت حياتك العتيقة وأعمالها وتصرفاتها وثمارها الردية. ولبست الجديدة!

الوصية الرسولية تقول: «اخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ ٱلتَّصَرُّفِ ٱلسَّابِقِ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ ٱلْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ ٱلْغُرُورِ، وَتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ، وَتَلْبَسُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ ٱلْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ ٱللّٰهِ فِي ٱلْبِرِّ وَقَدَاسَةِ ٱلْحَق»ّ (أفسس 4: 22-24). وهي رسالة تبرير لان المسيح على ما في الكتب مات عن خطايانا وأقيم لاجل تبريرنا. وهي رسالة فصح للمصالحة مع الله، لان المسيح، قال الرسول: فصحنا قد ذبح لاجلنا. وكمصالحين مع الله بربنا يسوع المسيح، يجب أن نعيد لا بخميرة عتيقة ولا بخميرة الخبث بل بفطير الاخلاص والحق. هلا تصالحت مع الله وصرت بقيامة يسوع المسيح من أهل الحياة! ان لسان حال القيامة يردد اليوم في سمع كل انسان: «لقد قَدْ تَنَاهَى اللَّيْلُ وَتَقَارَبَ النَّهَارُ، فَلْنَخْلَعْ أَعْمَالَ الظُّلْمَةِ وَنَلْبَسْ أَسْلِحَةَ النُّورِ. فَإِنَّ خَلاَصَنَا الآنَ أَقْرَبُ مِمَّا كَانَ حِينَ آمَنَّا» (رومية 13: 12 و11).