العودة الى الصفحة السابقة

List of Tables

1.

«وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَم» (لوقا 2: 14)

في مثل هذا اليوم ومنذ ما يقرب الألفي سنة أطل الله على الدنيا في شخص عمانوئيل، فكانت إطلالته أبهج هدية للأرض منذ تكوينها. ولعل أجمل ما في الهدية ان السماء فاجأت بها الأرض فيما الأرض غافلة ساهية. فكانت أجمل تعبير عن اهتمام السماء بالأرض.

كانت الأرض ساعتئذ قد خلعت عنها حلة النهار الموشحة بالنور وارتدت سربال الليل المنسوج من خيوط العتمة، ونامت على فراشها تراودها الأحلام. وما أن جن الليل وساد السكون، حتى اقتربت السماء من الأرض ووضعت بين يديها الطفل الإلهي يسوع. وقبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، جاءت فرقة من ملائك الله لتوقظ سكان الارض بعذب نشيدها، قائلة: «ٱلْمَجْدُ لِلهِ فِي ٱلأَعَالِي، وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ» (لوقا 2: 14). وتسمع الارض نشيد المجد، فتهب من رقادها لتستلم هدية فريدة. هيهات أن يأتي الزمان بمثلها ان الزمان بمثلها لضنين مفاجأة سعيدة طربت لها قلوب الرعاة القريبين، وانتعشت بها نفوس ملوك الشرق البعيدين. فقال الرعاة:

هلم بنا معشر المؤمنين الى بيت لحم نسر منشدين

وقال ملوك المشرق: لقد ولد رئيس ملوك الارض «رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَه» (متّى 2: 2).

مفاجأة سارة ابتهجت لها قلوب الشيوخ المتنظرين فسبح زكريا الكاهن الشيخ قائلا «مبارك الرب الهنا لانه افتقد وصنع فداء لشعبه». وسبح سمعان الشيخ قائلا «ٱلآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ، ٱلَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ ٱلشُّعُوب» (لوقا 2: 29-31).

أيها الأحباء

في البدء عصى آدم ربه فغوى وهوى الى حضيض البؤس. فتبدل بأسه يأسا، وصارت ابتسامته عبوسا، وتحول ترنيمه الى أنين ملتهب صاعد نحو السماء. فتحنن رب السماء على الانسان الذي سقط من كماله. ومن حنان رب السماء صار وعد بمخلص يأتي من نسل المرأة، ليبرر الانسان ويعيد له اعتباره كمخلوق على صورة الله. ولما كمل ملء الزمان ودقت الساعة لمجيئه كانت الارض سكرى بكأس الترنح كأس عصارة خطاياها التي صارت فاصلة بينها وبين الله. ولم يكن في الارض سوى نفر من أتقياء اليهود وحكماء الامم، يتوقعون مجيء الاتي باسم الرب. كانت هذه الجماعة القليلة عائشة فوق جبل التأمل فلمحت من بعيد أشعة ضئيلة من النور تنعكس فوق أطباق الغيوم فتوقعت أن يأتي الموعود مشتهى كل الأمم على صورة ما. ولكن الصورة التي جاء فيها لم تخطر على بال أحد، فقد توقع الجميع من أتقياء اليهود وحكماء الأمم أن يأتي محاطا بالمجد والقوة. وإذا به يأتي طفلاً وديعاً يحتاج الى العطف والرعاية. كانت أورشليم آنئذ للعالم بمثابة الروح للجسد، باعتبار كونها مركز السجود الحقيقي لله. فتوقع رجال أورشليم ان تضع السماء هديتها في حضن مدينتهم المقدسة.

وكانت رومية للعالم بمثابة القلب للجسد لأنها كانت عاصمة القوة. فظن قادتها ان السماء ستتوج هامة مدينتهم بالهدية العظمى.وكانت أثينا بمثابة العقل للجسد لأنها كانت مهد الفكر، فظن فلاسفتها ان السماء ستكافئ مدينتهم بالهدية المنتظرة. ولكن السماء تخطت أورشليم المقدسة، ورومية القوية وأثينا المتفلسفة، فانتبذت بهديتها مكاناً قصياً. فهناك في بيت لحم أفراتة المدينة الصغرى بين ألوف بهوذا وضعت الهدية التي لا يعبر عنها. وضعتها وليس في قصر منيف، بل في أحقر منزل يستعمل مربطا للماشية. وفي أحقر مظهر، في طفل وديع. وفي أحقر مهد، في المذود. هكذا صارت المسرة في عيني الرب لكي توجه الأنظار الى الهدية نفسها وليس الى ما يحيط بالهدية من جلال ومجد. هذا هو عمانوئيل الذي أهدته السماء العليا الى الأرض الدنيا، فسمعت الأرض يوم تجسده خبرا عجيبا غريبا ان أمه الطهور حبلت به دون ان يمسها بشر. فتحيرت العقول في أمره، والعقل متى تحير بحث، ومتى بحث العقل تدبر، ومتى تدبر العقل سلم بأن فكر الله في التجسد كان فوق البشر. وعندئذ يقول الإنسان مع المرنم: «مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا، وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا» (مزمور 118: 23).

والواقع ان يسوع كان عجيباً في ميلاده، عجيباً في حياته، عجيبا في تعليمه ومبادئه عجيبا في أعماله. في أيام جسده كانت آلامة التي ولد فيها مستعبدة للرومان، فتوقع قادة الأمة ان يحرض الشعب ويعبئ قواه لقص جناحي النسر الروماني. واذا به يفاجئهم بتعليم خيب كل انتظاراتهم اذ قال: «لاَ تُقَاوِمُوا ٱلشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ ٱلأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ ٱلآخَرَ أَيْضاً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَٱتْرُكْ لَهُ ٱلرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَٱذْهَبْ مَعَهُ ٱثْنَيْنِ» (متّى 5: 39-41). وحين أراد ان يختار صحبه لم يأخذهم من أغنياء الأمة ولا من أقويائها ولا من فقهائها، بل اختارهم من فقراء وعامة الشعب. وبهذا انتزع القوة من الاقوياء ووضعها في الضعفاء. وانتزع الحكمة من قلوب الفهماء وسكبها في قلوب الاطفال.

والمسيح عجيب في تسلطه على التاريخ البشري. فهو لم يكن مجرد شخصية أسطورية قدمتها الأرض للسماء. بل هو حقيقة تاريخية، شهدت بها كتب السماء وكتب الأرض. وليس أدل على هذه الحقيقة من سلطانه العجيب الذي بسطه على التاريخ. فمع انه حُقّر وصُلب وتركه خلصاؤه، وظن أعداؤه انه سيصبح نسيا منسيا، فبعد قليل من الزمن تحكم بالتاريخ وأمسك بقرون الزمن. وصار يوم مولده ختما لكل وثيقة تكتب في العالم. لم يؤلف كتابا في حياته، ولكن ملايين الكتب تفيض بذكراه الفريدة. لم ينظم قصيدة في حياته، ولكن نوابغ الشعراء قدموا روائعهم سكيبا عند قدميه. ولعل أجملهم قولا ما نظمه أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:

Table 1. 

ولد الرفق يوم مولد عيسىوالمروءات والهدى والحياء    
وازدهى الكون بالوليد وضاءتبسناه من الثرى الارجاء    
وسرت آية المسيح كما تسريمن الفجر في الوجود الضياء    
تملأ الارض والعوالم نورافالثرى مائج به وضاء    
لا وعيد لا صولة ولا انتقاملا حسام لا غزوة ولا دماء    
ملك جاور التراب فلماملّ نابت عن التراب السماء    

لم يرسم لوحة في حياته لكن جبابرة الفن تسابقوا في تخصيص روائعهم لشخصه المبارك. لم يؤلف لحنا موسقيا في حياته، لكن عباقرة الموسيقى وضعوا أروع ألحانهم لتمجيد اسمه العظيم.

أيها الأحباء

الآن وقد أقبلت ذكرى الميلاد، فكيف نستقبل المناسبة؟ جميل ان نتحلى بثياب العيد، ولكن الأجمل أن نتحلى بروح العيد. ان روح العيد هو روح التعبد، روح الشكر لله، لأجل عطيته التي لا يعبر عنها. لنشكره لأجل محبته الفائقة التي تجسدت في بيت لحم. ان روح العيد، هو روح الفرح البريء فرح الأطفال. فلنشارك الأطفال في فرحهم البريء، ولنذكر قول المسيح: «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ» (متّى 18: 3). ان روح العيد هو روح السلام، لان النشيد الملائكي قال: وعلى الارض السلام. ولكن من الامور التي ينفطر لها القلب حزنا وألما ان قيثارة السلام محطمة أوتارها في زمننا.

وان السلام يُذبح في أرض السلام، وان مهد السلام يُخيم عليه شبح الحرب المخيف. ولكن لا نفشل لأن روح العيد هو أيضا روح الرجاء الذي لا يخزي. ولعله من المفيد ان نذكر ان عيد الميلاد يقع في الفترة التي يظفر فيها النهار بالليل. اذ يتناقص الليل ويتزايد النهار، كرمز لانتصار النور على الظلام وتغلب الرجاء على اليأس وظفر الحياة بالموت.

فلا غرابة إذن إن أحيا المعيدون الذكرى حول شجرة مضاءة بالشموع المتقدة. لأن الشجرة ترمز الى الحياة المنتصرة، والشموع ترمز الى الحياة المستنيرة. ولهذا يجب أن يختنق اليأس في جو هذا العيد وأن يتبدد ظلام الخطية وينقشع ضباب الهم أمام أنوار الوليد الالهي. وأن تذوب الانانية أمام ذاك الذي هو الاله القدير، وضع نفسه، وصار في عمانوئيل «الله معنا».